هوان النعيم- رواية

ه

 

 

 

 

 

هوان النعيم- رواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رواية

جميل السلحوت

هوان النعيم

 

 

الطبعة الأولى

تشرين أول –أكتوبر-2011

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

 

 

منشورات دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس

http://www.aljundi.biz

email:[email protected]

 

 

 

تصميم الغلاف والمونتاج

شركة 2i للبرمجيات- رام الله

هاتف:2424003

www.2isoftware.com

 

 

ملاحظة:أسماء الشخصيات والعائلات غير حقيقية، واذا ورد تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية، فذلك بمحض الصدفة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انطلقت المظاهرات صاخبة في كل المدن احتجاجا على ما جرى يوم أمس في قرية السموع قضاء الخليل، ففي ساعات الصباح الأولى من يوم 13-11-1966 وبينما المصلون من أهالي القرية يتوضأون لآداء صلاة الفجر، ويسبحون بحمد الله في هذا اليوم النديّ، الذي ينساب فيه نسيم الصباح إلى البيوت الوادعة، أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على بعض بيوت القرية، بينما الدبابات والمدرعات تقصف بشكل عشوائي وتتقدم في شوارع القرية، ولا ملاجئ يحتمي بها الأهالي العزل، الجنود القريبون من القرية حاولوا التصدي للغزاة بالرغم من  الفارق الكبير في العدد والعتاد، فسقطوا بين شهيد وجريح، وطائرتا هوكر هنتر جابتا الأجواء لاستطلاع الموقف، فسقطت إحداهما قرب البحر الميت، وحلقت روح قائدها خَلَف ضيف الله الحمود في سماء المجد والخلود، تواترت الأنباء عن نسف أكثر من مائتي بيت في القرية، وسقط العشرات من الأهالي العزل، فقبل أقلّ من عام تعرضت القرية لغزو مماثل، ودماء من سقطوا لم تجف بعد.

المتظاهرون يطالبون بالثأر، ويهتفون بحياة الزعيم جمال عبد الناصر، وبعروبة فلسطين…طلبة المدارس يجوبون الشوارع…يطالبون بالسلاح وإعداد الشعب لحرب التحرير….صوت العرب يهدر بعظمة الشعب الثائر، والإعلام العربي يوحي للمستمعين أن تحرير فلسطين وإعادة اللاجئين إلى بيوتهم، لا يحتاج إلى أكثر من فتح الحدود أمام المتظاهرين الشباب، فالعدوّ لا حول له ولا قوة، ومجرد سماع هدير الأصوات الغاضبة سبب كاف لهرب المهاجرين اليهود ليعودوا خائبين إلى بلدانهم.

 الأستاذ خليل كما يسميه أقاربه، أو خليل الأكتع كما يسميه بعض أبناء قريته طالب في الصف الثالث الثانوي، يتقدم الصفوف في المظاهرات، ويهتف رافعا يده اليمنى وهو يردد أمام جموع الطلبة:

 بالروح بالدم نفديك يا ناصر

   بالروح بالدم نفديك يا فلسطين

 أمسك به أحد رجال الشرطة في شارع صلاح الدين، ولما رأى يده الإصطناعية قال له:”دم يفزر عينيك وعينين اللي خلفوك يا أكتع النحس…ما يحرر فلسطين إلا واحد مسخوط مثلك….انصرف لبيتك بلاش أكسر يدك الثانية” لم يتكلم الأستاذ خليل…امتعض من حديث الشرطي، سار باتجاه شارع الرشيد، والتف عائدا إلى شارع صلاح الدين من  مدخله أمام البريد المركزي….وجد المظاهرة قد تفرقت…فعاد إلى باب العمود، مشى في أسواق خان الزيت …سوق العطارين…سوق الباشورة…باب السلسلة…باب المغاربة…سلوان….وإلى بيته في جبل المكبر….بكى يده المقطوعة من جديد، وتمنى لو أنها لم تقطع حتى يستطيع تسديد عدة لكمات لذلك الشرطي المتعجرف….لكنه قدّر ذلك الشرطي لأنه أطلق سراحة في حين تمّ اعتقال طلاب آخرين…لم يعتقلوا طالبات…فتساءل خليل عن أسباب ذلك الشرطي بإطلاق سراحه، فهل يعود ذلك لتعاطف الشرطي مع المتظاهرين أو مطالبهم، أم أنه اعتبره ضعيفا مثل الطالبات؟ فإن كانت الأولى فله كل الإحترام، وإن كانت الثانية فيا له من نذل جبان.

الحكومة تحاول امتصاص غضب الشعب، فتصدر قرارا بفتح باب الإلتحاق بالجيش لمن يرغب من المواطنين، وتعطي الأوامر بتدريب الطلبة الثانويين على السلاح، استعدادا للمعركة القادمة لاسترداد الأرض المغتصبة، واستعادة الحقوق المشروعة، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم….دوائر التربية والتعليم وبالتنسيق مع الجهات الأمنية،  تخصص حصتين أسبوعيا لكل صف للتدريب العسكري تنفيذا لقرار الحكومة، وتم تخصيص مدرب برتبة شاويش لكل مدرسة ثانوية، يأتي إلى المدرسة في ساعات الصباح الأولى، تماما مثل المعلمين، يُخرج الصفّ المحدد حسب البرنامج الذي وضعته إدارة المدرسة إلى الملعب، يَصُفّهم طابورا، ويلقي عليهم محاضرة عن الأخلاق العسكرية، والتي تتمثل بالإنضباط والنظام واحترام أوامر المسؤولين، وهذه قوانين غير خاضعة للنقاش، فإذا لم ينضبط الجنود، فإن الوطن سيضيع، وسيطمع الأعداء بنا، ولن يدخروا جهدا في نصب المكائد لنا، والجندي يحتاج إلى لياقة بدنية، وإعداد نفسي وتعبئة معنوية، وتدريب قوي حتى يستطيع خوض معارك الوطن بكفاءة عالية، وإذا ما توفرت هذه الشروط فإن النصر يصبح أمرا حتميا.

   تحسس (الأستاذ)خليل يده المقطوعة عندما تكلم المدرب عن اللياقة البدنية، امتقع وجهه واحمرت أذناه، وشعر بعجزه وعدم قدرته على أن يكون جنديا محاربا، وتمنى لو أن المدرب يسمح له  بالمشاركة في التدريب ليعيش حياة الجندية، مع قناعته التامة بأنه لن يكون جنديا في أيّ يوم من الأيام، لكن مشاعره الوطنية ليست أقل من مشاعر أيّ من زملائه الطلبة.

  لم يخيب المدرب أمنيات خليل وطموحاته، ولم يعترض على وجوده في حصص التدريب، وقد تصبب خليل عَرَقا عندما اصطف في طابور التدريب على المشية العسكرية”مارش”، وشعر بإحراج كبير والمدرب يردد مع السائرين في الطابور:(يمين..يسار..يمين يسار) فلم يكن باستطاعته رَفْعَ يده اليسرى لتشكل زاوية قائمة مع جسمه النحيل، والمدرب استوعب عجز خليل، ولم يحاول التدخل بحركة يده الإصطناعية، في حين كان يرفع بقوة يد أيّ طالب لا يتقن حركة يديه مستعملا لغة آمرة، لكن مشكلة خليل كانت كبيرة عندما وصلوا إلى مرحلة الزحف على البطن متكئين على كوع اليدين، فخليل لا يستطيع الإتكاء على كوعه الإصطناعي،  فاستعمل أقصى قوته على كوعه الأيمن، وقد حاول في بيته عدة مرات ليجد الطريقة الأفضل لوضع يده الإصطناعية، وتوصل إلى أن يتركها ممدودة إلى الخلف تجر خلفه عند الزحف على البطن، أو أن يخلعها بالكامل ويزحف بدونها، فاختار أن يتركها تنجرّ خلفه، فهذا أفضل من أن يبدو بيد واحدة، وقد أتقن خليل عملية الزحف على البطن بطريقة لافتة، وتميز على الكثيرين من زملائه، مما دفع المدرب أن يثني عليه قائلا:

أنت ممتاز يا خليل.

وعندما جاء دور التدريب على السلاح، أحضر المدرب البندقية الإنجليزية التقليدية، تلك البندقية التي خاضت بها بريطانيا وحلفاؤها الحرب الكونية الأولى، ويتسع مخزنها لخمس رصاصات، يحرك مستعملها أقسامها عند إطلاق كل رصاصة…شرح المدرب للطلاب ميزة هذه البندقية، وكيفية تفكيك أقسامها وإعادة تركيبها، وكيفية التصويب والضغط على الزناد…وكيفية تنظيف البندقية ومسحها وإعدادها لتكون جاهزة للإستعمال عند الحاجة، وبعد حصتين من التدريب سأل المدرب الطلاب:

من منكم يستطيع تفكيك أقسام البندقية وإعادة تركيبها؟

رفع الطلاب جميعهم أيديهم باستثناء خليل، فسأل المدرب:

خليل ألا تستطيع القيام بهذه المهمة؟

نعم أستطيع ….أجاب خليل.

تعال… إجلس بجانبي كي يراك الجميع وفكك الأقسام وأعد تركيبها.

مدّ خليل البندقية أمامه، وضع كعبها ملتصقا ببطنه، وثبت مقدمتها بين ساقيه، وشرع بتفكيكها وإعادة تركيبها بسرعة فائقة، فصفق له المدرب مشجعا، وطلب من زملائه أن يصفقوا له أيضا وهو يردد: ممتاز أنت يا خليل.

بعض العاطلين عن العمل وجدوها فرصة مناسبة كي يلتحقوا بالجيش، فهذا سيضمن لهم راتبا في آخر كل شهر، وبعض الآباء حثوا أبناءهم الذين يأنفون العمل في الأرض كي يلتحقوا بالجيش، فالمختار أبو محمد حرضهم على ذلك وقال: في الجيش حياة انضباط، ولا مكان للكسالى، ومن لا يلتزم بما يطلب منه سيتعرض للعقاب البدني وللسجن أيضا، ليلتحقوا بالجيش بدل الجلوس على المقاهي ولعب الورق، والذي لا يجلب قرشا لا يساويه. وآباء الكسالى لم يفصحوا عن نواياهم الحقيقية بدفعهم لأبنائهم للإلتحاق بالجيش، فقد قالوا أن تحرير الأرض المغتصبة وإعادة اللاجئين إلى ديارهم هي سبب ذلك….فالوطن أغلى من الولد….حتى زعبول بن أبي زعبول الذي لا يعرف يمينه من يساره التحق بالجيش، وفاخر أمام الجميع بأنه سيكون جنديا في سبيل تحرير فلسطين وإعادة اللاجئين.

 وبعد ثلاثة شهور كان الطلبة الثانويون في معسكر الخان الأحمر للرماية الحيّة، كلّ طالب سيطلق خمس رصاصات من البندقية الإنجليزية الصنع، ومن خندق آمن تحت الأهداف يرفع جندي إشارة يبين فيها أين أصابت الرصاصة، والأهداف العشرة المنتصبة بجانب بعضها البعض، مربعة الشكل ضلع كل واحد منها متران، ينبطح الطالب بطوله على الأرض، يقف خلفه جندي يوجهه…يطلب منه أن يثبت البندقية على يديه بقوة، وأن تلتصق بكتفه بشكل جيد، ومحذرا من أنها ستخضه عند إطلاق كل رصاصة، انتبه الضابط المسؤول إلى يد خليل الإصطناعية..حاول الحديث عنه مع المدرب، لكنه توقف عن الحديث بغمزة عين من المدرب، الذي انتحى به جانبا وأخبره أن خليل فتى شديد البأس رغم إعاقته، وسواء أصاب الهدف أم لم يصبه، فمن حقه أن يعامل كبقية الطلبة.

 وقف الضابط والمدرب خلف خليل عندما انبطح أرضا خلف البندقية، أمسك بها، مدّ يده اليسرى الإصطناعية، كانت زاوية منفرجة، ثبت مقدمة البندقية عليها، وضم كتفه على كعبها، سحب أقسام البندقية…دخلت الرصاصة في بيت النار…ضغط على الزناد…ارتفعت إشارة من تحت الهدف تشير الى أن الرصاصة في مركز الهدف، واصل إطلاق الرصاصات الخمسة…وكانت جميعها في قلب الهدف، نهض فأمسك به الضابط والمدرب وقبّلاه على وجنتيه.

                                   ***********

قال المختار أبو سعيد بأن راديو اسرائيل أعلن بأن عبوة ناسفة انفجرت في أحد الشوارع شمال مدينة طبريا، وأن أثار المتسللين تشير إلى أنهم قدموا من الأراضي السورية وعادوا إليها…..وتساءل عن مدى صحة هذا الخبر ومن يقف وراء التفجير إذا حصل فعلا؟.

 فرد عليه الحاج عبد الودود قائلا بأنه سمع من إذاعة صوت العرب بأن بيانا صدر من الكويت يحمل توقيع حركة التحرير الوطني الفلسطيني(فتح) تبنى العملية، وهدّد بمواصلة الكفاح المسلح حتى تحرير فلسطين، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وأن الحكومة السورية أعلنت رفضها للتهديدات الإسرائيلية، وأنها ليست مسؤولة عن حماية حدود إسرائيل، وأن من حق اللاجئين الفلسطينيين أن يعملوا ما باستطاعتهم لطرد المحتلين، وللعودة إلى بيوتهم التي طُردوا منها.

 وتساءل منصور عن ماهية حركة فتح هذه؟ ومن يقف خلفها؟

فأجاب المختار أبو سعيد: إذا كنت منظمة فدائية فحتما سيكون الرئيس عبد الناصر من أسسها.

في هذه اللحظات دخل الأستاذ داود إلى ديوان المختار…فسأله أبو كامل:

هل سمعت الأخبار يا أستاذ؟

–  نعم سمعتها.

–         وهل تعلم شيئا عن حركة فتح؟

–         لا أعلم…لكن ربما تكون منظمة فدائية شكلها أبناء اللاجئين المقيمين في سوريا.

–         وهل تعلم الحكومة السورية ذلك؟

–         لا أعتقد…وربما الرئيس جمال عبد الناصر يعلم ذلك…لكنه لم يعلن.

–         وهل يخاف عبد الناصر من إسرائيل حتى لا يُعلن؟

–         عبد الناصر لا يخاف …لكن للدول سياسات …ولا تقدم لأعدائها معلومات مجانية حتى تربكهم.

المختار: عبد الناصر رجل شجاع …وهو مخلص في مخططاته لتحرير فلسطين.

الحاج عبد الودود: وهل ستسكت إسرائيل على ذلك؟

المختار: إسرائيل ترتعب خوفا عندما تسمع إسم جمال عبد الناصر…فقد لقنها درسا قاسيا في العدوان الثلاثي عام 1956.

أبو كامل: يبدو أن إسرائيل لن تسكت وقد أعلنت أن حكومتها برئاسة ليفي اشكول قد اجتمعت لبحث موضوع المتسللين المسلحين من الأراضي السورية، وصدر بيان في ختام اجتماعها يؤكد على أن الحكومة الإسرائيلية تحمل سوريا مسؤولية أعمال المتسللين، ولن تسمح بالعبث بأمن البلاد وشعبها، وأنها سترد الصاع صاعين في المكان والزمان المناسبين.

المختار: من أين سمعت هذا الكلام؟

–         من صوت العرب.

–         وماذا قال صوت العرب أيضا؟

–         في تعليق صوت العرب بعد نشرة الأخبار قال المعلق بأن مصر لن تسمح لإسرائيل بالعدوان على سوريا….وإذا ما ارتكبت حكومة إشكول حماقة مثل هذه، فسيندم قادة إسرائيل على اليوم الذي أعلنوا فيه دولتهم.

 

 المختار: إذا هاجمت إسرائيل سوريا فجميع الدول العربية ستخوض الحرب ضدها…وستقضي عليها.

 الأستاذ داود: الصراع ليس كما ترونه…فإسرائيل دولة عضو في الأمم المتحدة…ولن يسمح العالم بتدميرها.

–         واللاجئون ما ذنبهم؟ وهل تعترف الأمم المتحدة بحقوقهم؟

–         طبعا تعترف…. وصدرت قرارات من الأمم المتحدة تؤكد على عودة اللاجئين.

–         ولماذا لم تطبق القرارات حتى الآن؟

–         لأن العرب ضعفاء…لكن يبدو أن الأوضاع على حافة الإنفجار.

وصل الأستاذ فؤاد إلى مضافة المختار أبي سعيد بصحبة والده…..طرحا التحية وجلسا…فقال فؤاد:

 

سمعت قبل قليل بيانا للناطق العسكري السوري جاء فيه: أن المدفعية الإسرائيلية قصفت جرارات زراعية في مرتفعات الجولان، وأن القوات السورية المرابطة على الجبهة ردّت على النيران بالمثل….كما قام المندوب السوري في الأمم المتحدة بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي يطالب فيه بإدانة العدوان الاسرائيلي على المزارعين السوريين الذين يحرثون أرضهم….بينما تقدمت إسرائيل بشكوى مضادة تحمل فيها سوريا مسؤولية التفجيرات التي تحصل في الجانب الإسرائيلي.

المختار: وماذا يعني هذا؟

الأستاذ داود: هذا يعني أن الأوضاع متوترة…

 

**************

توافد عدد من الرجال إلى بيت المختار أبي السعيد، أبو عليّ حضر وبصحبته المذياع الذي ابتاعه إبنه عليّ من السعودية حيث يعمل معلم مدرسة، مذياع أبي عليّ الذي يعمل على بطاريات صغيرة الحجم مفتوح على إذاعة صوت العرب…أبو عليّ يتخذ له مجلسا بين الحضور…فيقول له المختار:

هداك الله يا أبا عليّ، أنت تفتح المذياع على صوت العرب، وتمشي به في الطريق، قد يوقعك ويوقعنا هذا في مشاكل نحن في غنى عنها، فالإستماع لصوت العرب ممنوع.

 وبعد أن انتهى أبو عليّ من حشو غليونه بالدخان”الهيشي” عضّ عليه بأسنانه وأشعله…. تنحنح وقال:

الممنوع ما عاد ممنوعا يا مختار….يبدو أنكم لا تتابعون الأخبار، فالملك اليوم سافر إلى القاهرة، واجتمع بجمال عبد الناصر، واتفقا على أن يدخلا الحرب بالإشتراك مع سوريا.

المختار: من أين أتيت بهذا الخبر يا رجل؟

يتكئ أبو عليّ على جانبه الأيمن، ويشير إلى المذياع قائلا: من هذا.

المختار: إذن دعنا نستمع إلى الأخبار.

أبو عليّ يرفع صوت المذياع قليلا…فيأتي الصوت ملعلعا:

صوت العرب من القاهرة، أيها الأخوة المستمعون العرب في كل مكان، إليكم نشرة الأخبار…الموجز:

* سيادة الرئيس جمال عبد الناصر يستقبل في مطار الماظة العسكري جلالة العاهل الأردني الحسين بن طلال الذي وصل القاهرة فجأة.

* الزعيمان الأردنيّ والمصريّ يجتمعان في صالة كبار الضيوف في المطار.

* العاهل الأردني يؤكد التزام الأردن باتفاقية الدفاع العربي المشترك، وأنّ الأردن لن يتخلى عن دوره القومي مهما كانت الظروف.

* جلالته يعود إلى عمان وبرفقته الفريق عبد المنعم رياض الذي تم اختياره للإشراف على القوات المسلحة الأردنية.

الأستاذ فؤاد: أحمد الشقيري رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وصل القدس قادما من القاهرة، لحضور اجتماع للجنة وللإعداد للمعركة.

ما رأيكم بتحويل مؤشر المذياع إلى راديو عمّان لنستمع للأخبار منه قال المختار أبو السعيد.

أبو فلاح: اذا أردتم معرفة الصحيح دعونا نستمع لأخبار هيئة الإذاعة البريطانية.

الحاج عبد الودود: لا…لا الإنجليز يكذبون وهم المسؤولون عن نكبة شعبنا، وإلى متى سنستمر بقبول خداعهم لنا؟

الأستاذ محمد: من المفروض أن نستمع للإذاعة الإسرائيلية، لنقف على موقفهم.

المختار: هل هذا ما أتيتنا به من الجامعة؟ هل تريدنا أن نستمع لما يقوله عدونا وطبول الحرب تدق؟

الأستاذ محمد: دعونا نستمع لأكثر من إذاعة، بما في ذلك الإذاعة الإسرائيلية، وبعدها سنُقّيِّم الموقف.

أبو عليّ يعتدل في جلسته…يعض على غليونه…ينفث دخانه في فضاء المجلس…يتنحنح ويقول: أريد أن أسألكم سؤالا.

–         تفضل…

–         المذياع لمن؟

–         لك.

–         هل يوجد لأحد منكم شراكة به؟

–         لا…لا يوجد.

–         إذن أنا من يحدد لأيّ إذاعة سنستمع، وأنا لا أستمع إلا لصوت العرب…ومن يريد منكم الإستماع معي حيّاه الله، والذي لا يريد فليغلق أذنيه، وإذا كنتم منزعجين من وجودي فسأعود إلى بيتي.

المختار أبو السعيد: حيّاك الله يا أبا عليّ…إفتح على صوت العرب.

إبتسم الأستاذ محمد عندما سمع كلام أبي عليّ، مما أثار حفيظة الأخير فقال:

لماذا تضحك يا ولد؟…يبدو أنّ كلامي لم يعجبك.

–         لا يا عمّي…كلامك جواهر.

فتح أبو عليّ المذياع فجاء الصوت هادرا:

“وها هي الجيوش العربية تطبق على إسرائيل من ثلاث جبهات، وعندما ستحين ساعة الصفر فإن سمك البحر المتوسط، سيحظى بطعام من لحوم اليهود سيكفيه العمر كله.”

الأستاذ محمد: هذا كلام خطير، ويضر بقضيتنا وبشعوبنا، ويجب أن لا يُقال لا في إذاعات ولا في مجالس خاصة، لأنه ليس صحيحا، وهذا ليس من ديننا ولا من أخلاقنا، ونحن لا نريد قتل أحد، وإنما نريد حقوقنا.

أبو كامل: يبدو أنّ الحرب واقعة لا محالة، لذا علينا أن نتزود بطعام يكفينا لمدة شهر على الأقل.

المختار أبو السعيد: والله هذا كلام معقول…ليشتري كل واحد منا ما يكفي أسرته من الطحين والأرز والسكر والشاي والملح…ولا تنسوا حليب الأطفال لمن عنده أطفال.

الأستاذ محمد: الحرب ستقع لا محالة، فمنذ أن أعلن الرئيس عبد الناصر إغلاق مضائق تيران، وطلب من قوات الطوارئ الدولية المرابطة في سيناء المغادرة، أعلنت اسرائيل حالة الطوارئ، وأجرى ليفي إشكول تعديلا على وزارته، حيث سلم وزارة الدفاع للجنرال موشيه ديان الذي قاد حروب إسرائيل السابقة، وهذا يعني أن الحرب واقعة لا محالة.

 

                              *************

– الفلاحون يسارعون إلى حصاد حقولهم، وتجميعها على البيادر، ودرسها قبل نشوب الحرب التي ستحرق الأخضر واليابس، عدد من الرجال لم يصدقوا أنّ الحرب ستقع، ويؤكدون أنّ الإنجليز أقاموا إسرائيل ولن يسمحوا بالقضاء عليها، وأبو سالم يقول بأن إسرائيل ليست دولة، إنها مجموعة من المهاجرين اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين من مختلف دول العالم، ولا يوجد لهؤلاء المهاجرين شيء في هذه البلاد، وقبل أن تبدأ الحرب سيهربون عائدين إلى البلدان التي أتوا منها، ويؤكد أنّ اليهود لم ينتصروا في حرب العام 1948، ولم يحاربوا أيضا، الإنجليز هم من حاربونا… أعلنوا انسحابهم ولم ينسحبوا، كل ما عملوه أنّ جيوشهم استبدلت ملابسها العسكرية بملابس مدنية، وقاتلوا على اعتبار أنهم يهود.

أمّا الحاج عبد الباري فقد قال: اليهود أناس مسالمون، أنا أعرفهم جيدا، كنت أبيع حليب أغنامي ليعقوب اليهودي الذي كان يملك بقالة تحت بيته في حارة اليهود، إنه رجل طيب صادق أمين، لا يمكن لمن لا يعرفه مسبقا أن يعرف بأنه يهودي، يتكلم العربية مثلنا، وعاداته مثل عاداتنا، وزوجته وبناته يرتدين ملابس طويلة ساترة، ويغطين رؤوسهن،  كنت أبيعه الحليب يوميا في فصل الربيع…أشتري منه بعض الأغراض للبيت…يسجل ما لي وما عليّ في دفتره، ونتحاسب في آخر الموسم، لم يأكل عليّ قرشا واحدا، وغيره كانوا مثله أو أحسن منه، والمشكلة ليست في يهود بلادنا…إنها في اليهود الذين جاءنا بهم الإنجليز من أوروبا وأمريكا، وهؤلاء والعياذ بالله”عيونهم زُرق، وخدودهم بُرق، وأسنانهم فُرق” لا دين لهم ولا ملّة، لا يعرفون شيئا من العادات والتقاليد، ولا يحبوننا، ولا يحبون يهود بلادنا أيضا، ويهود بلادنا لا يحبونهم، هؤلاء اليهود وجوههم حمراء من كثرة الخمور التي يشربونها، يبدون في تصرفاتهم عقلاء، لا يتدخلون في شيء، لكنهم مثل”حيّة التبن” لا نجاة لمن تلدغه، هؤلاء هم من حاربونا واستولوا على بلادنا، وقتلوا ودمروا وشردوا اللاجئين.

الأستاذ داود: أمريكا لن تجرؤ على مساعدة إسرائيل، فالإتحاد السوفييتي يقف لها بالمرصاد، والإتحاد السوفييتي حليف موثوق للنظامين المصري والسوري، ولن يتخلى عنهما،   ولن تتدخل أمريكا في حرب أخرى فخسائرها في فيتنام كبيرة جدا، وشعبها لن يتحمل خسائر أخرى، ولن يقبل أن تتدخل حكومته في حروب أخرى، وأمريكا وحلفاؤها الأوروبيون ستتوقف الحياة في بلدانهم إذا ما تدخلوا في الحرب، فالدول العربية ستقطع البترول عنهم، ولن يستطيعوا احتمال ذلك، ولن يضيعوا اقتصادهم من أجل دولة وليدة إسمها إسرائيل.

المختار أبو محمد يتكلم بلغة الواثق العارف بخبايا الأمور فيقول: لولا أن الرئيس جمال عبد الناصر واثق من قدرة جيشه، ومن حتمية النصر المؤكد لما لجأ الى طرد قوات الطوارئ الدولية من سيناء، ولما أغلق مضائق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، فالرجل قام بثورته ثأرا لما جرى في فلسطين، فقد شارك في حرب 1948 وحوصر في الفالوجة، كان برتبة”يوز باشي” وبنى جيشا قويا تهابه دول العالم جميعها، ولا تنسوا أنه حارب بريطانيا العظمى وفرنسا وإسرائيل عام 1956 وانتصر عليها بمفرده، وأمّم قناة السويس رغما عن الدول الإستعمارية التي حاربته فهزمها.

الأستاذ داود: ما شاء الله عليك يا مختار، وعلى ذاكرتك الخصبة، فإسرائيل خافت من التهديد السوفييتي وانسحبت من سيناء آنذاك، ولم تستطع أمريكا عمل أيّ شيء أمام السوفييت، خصوصا بعدما ضرب خروتشوف طاولة منصة مجلس الأمن الدولي بحذائه، فارتعبت أمريكا وعلمت بأن تدخلها في منطقتنا ليس لعبة، وأن السوفييت عازمون على كنس الإحتلال وكافة مخلفاته.

أبو سالم: يا جماعة  أنا سمعت بأذني من النائب غازي كمال بأن أمريكا هي من أرغمت إسرائيل على الإنسحاب من سيناء، لأن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل خططت للحرب دون استشارة أمريكا، فعاقبتهم أمريكا على ذلك، لأنها هي الأخرى لها مصالحها في المنطقة.

الأستاذ داود يرد غاضبا: أمريكا دولة إمبريالية، تريد القضاء على النفوذين البريطاني والفرنسي لتحل محلهما، لكن الرئيس عبد الناصر يقف لهم جميعهم بالمرصاد، والإتحاد السوفييتي حليف الشعوب المقهورة يسانده، لذا فإنه قام بتسليح مصر وسوريا بأحدث الأسلحة، لهزيمة إسرائيل، ولمنع أيّ نفوذ إستعماري في الشرق الأوسط.

 (الأستاذ)خليل:  ما يهمني الآن هو إنهاء التوجيهي كي ألتحق بالجامعة، وأتمنى أن لا تندلع الحرب حتى الإنتهاء من الإمتحانات، وبعدها فليكن ما يكون، ولتكن حرب التحرير الموعودة، فأوضاع اللاجئين ما عادت تُحتمل، فكيف لمن ترك بيتا فاخرا وبيارة وأرضا زراعية شاسعة يستطيع العيش في بيت من صفيح، وفي مخيم مكتظ بالسكان، ويفتقر لكل البنى التحتية، وبدون أيّ مصدر رزق؟

الأستاذ فؤاد: قالت وكالات الأنباء بأن الأسطول الأمريكي السادس المتمركز في البحر المتوسط يتجه إلى شرق البحر، في المياه الدولية قبالة السواحل الإسرائيلية والمصرية والسورية، والمراقبون السياسيون يؤكدون بأن أمريكا تراقب الوضع المتفجر في الشرق الأوسط، وأن أقمارها الصناعية ترصد تحركات الجيوش العربية وحشوداتها، وتنقل معلوماتها إلى إسرائيل ساعة ساعة، والأخبار القادمة من ليبيا تقول بأن قاعدة “هليوبولس”الجوية الأمريكية في ليبيا، تشهد حركة طيران عسكريّ نشيطة، ويرون أنه في حالة اندلاع الحرب، فان الطائرات الأمريكية ستشارك من تلك القاعدة بقصف العمق المصري لتخفيف الضغط العسكري المصري على إسرائيل.

فؤاد: ماذا تستطيع أمريكا أن تفعل أمام الرأي العام العالمي؟ فدول عدم الإنحياز، خصوصا الهند ويوغسلافيا وإندونيسيا، أعلنت تأييدها للحقوق العربية في فلسطين، وللسياسة الحكيمة للرئيس عبد الناصر أحد مؤسسي مجموعة دول عدم الإنحياز، ومجموعة الدول الإفريقية تؤكد مساندتها للشقيقة مصر في كافة المجالات، وتؤيدها في صراعها ضد الإمبريالية العالمية، وفي سبيل استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

 المختار أبو سعيد: يا إخوان…يدي على قلبي من تطورات الأمور…وانتبهوا إلى ما قاله  الملك حسين.

أبو سالم: ماذا قال الملك؟

–         الملك حذر من خطر اندلاع الحرب على المنطقة وشعوبها.

داود: الملك لن يدخل الحرب.

فؤاد: لا أتفق معك… فالملك أكد التزامه بالموقف القومي العربي، وباتفاقية الدفاع العربي المشترك، والمراقبون السياسيون يرون في تصريحاته مخاوف من نتائج هذه الحرب، خصوصا وأنّ الملك من خلال موقعه في قمة الهرم السياسي الأردني، ومتابعاته السياسية منذ نعومة أظفاره، مطلع على أمور وخفايا لا يعرفها آخرون، ويرى مراقبون من أن الملك سيدخل الحرب-دون رغبة منه- في حالة اندلاعها تلبية لرغبات شعبه الذي أصبحت الحرب خبزه اليومي.

                                 ***************

–         النساء يخفن من الحرب، يخفن على أبنائهن الذين التحقوا بالجيش، ويستعدن مآسي نكبة العام 1948، ولا يؤيدن الحروب بغض النظر عن المنتصر والمهزوم فيها، حتى أن الحاجة فاطمة الحسين قالت للنساء:

الحرب ليست لعبة…وأسأل الله أن لا تقع…كما أنني في كل صلاة أرفع يديّ وأبكي إلى الله تعالى كي يُبعد عنا الحروب، وأن  يحفظ أبنائي وجميع الشباب من أيّ سوء….وأصلي إليه أن لا يفجع أمّا-صديقة أو عدوة- بابنها.

الحاجة صبحة: والله إنك امرأة عاقلة…وهذا ما يجب أن نفعله جميعنا…فالحروب مخيفة وتحصد أرواحا كثيرة.

زينب: أسأل الله أن تنشب الحرب، وأن لا تبقي أحدا من العرب ومن اليهود.

فاطمة: إخرسي…وليقطع الله لسانك.

 أمّا اللاجئات فإن حياة الذلّ التي يعشنها في أرض اللجوء، تذكرهن بأيام العزِّ في فردوسهن المفقود، وبالتالي فإن الحرب قد تكون هي طريق النجاة الوحيد الذي سيعيدهن وأسرهن إلى بيوت ولدن وعشن فيها، وإلى أراضٍ خصبة يملكنها وعملن فيها، وبعض اللاجئات تمنين لو أنهن يستطعن الحصول على السلاح، والتدرب عليه ليخضن الحرب بجانب الرجال.

فأمّ مازن اللاجئة من المسمية قرب يافا، والتي تحمل على رأسها قِطَعا من القماش النسوي، وتبيعها في القرى لإعالة نفسها، بعد أن فقدت زوجها وابنيها في نكبة العام 1948، تتحدث – ودموعها تغسل وجهها- عن زوجها الذي استشهد في يافا وهو يقاتل مع المدافعين عن المدينة، أمّا إبناها مازن إبن السابعة عشرة، وعيسى إبن الخامسة عشرة، فقد قتلا مع آخرين بدم بارد في جامع الرملة الذي احتمى به المئات، فخرجت تحمل أحزانها وثلاث طفلات كبرن وتزوجن…أمّ مازن تتحدث عن بيتها الجميل الذي شُرِّدت منه، وعن حديقة الورود التي كانت في حديقة المنزل، وتعدد أسماء أنواع من الورود لا تعرفها المصغيات لحديثها، واللواتي كنّ يشاركنها البكاء تعاطفا معها، وتتحدث عن البيارة التي لها أول، ولا آخر لها، وكانت ملكا لزوجها ولإخوانه، وهي لا تقل مساحة عن بيارة والديها…أمّ مازن تتحدث للنساء بلوعة عن الرائحة العطرة التي تنبعث من بيارات الحمضيات، فتنعش القلوب وتفتح الذاكرة، وتتحدث عن الخضروات الطازجة التي كانت تزرع في البيارات، وعن”الخبّيزة” التي كانت تنمو في أطراف البيارات، وطعمها أشهى من اللحوم، ورائحة الخيار والبندورة الشهية، كانت تحرض الشبعان على التهامها، أمّ مازن بحديثها البسيط والصادق كانت ترسم لوحة زاهية الألوان للجنة المفقودة، وتزداد دموعها تدفقا على وجنتيها، وهي تتحدث عن الأحباب الذين سقطوا في النكبة، وتتلوع وهي تتحدث عن الإصطفاف أمام مكاتب وكالة الغوث لاستلام مخصصات غذائية لا تغني ولا تسمن جوع.

أمّا النساء من غير اللاجئات اللواتي يتعرضن للإضطهاد والضرب من أزواجهن، فإنهن يبدين سخطهن على حالتهن البائسة، ولأن المجتمع كان لا ينصفهن، فلم يكن لهن سلاح سوى البكاء والصراخ والعويل، فيصلن لمقولة شمشون الجبار”عليّ وعلى أعدائي يا رب” مع أنهن لا يعرفن اسم هذا الشمشون، ولا يعرفن شيئا من تاريخه، إلا أن مُرَّ الحياة أوصلهن إلى الصراخ احتجاجا فيقلن:

” يقطع هالبلاد، ويقطع أهلها…الله يجعل اليهود ياخذوها لـ “لشريعة”

فترد إحدى الصديقات على من تتفوه بهذا الدعاء قائلة:”الله يقطع لسانك…بدّك إيانا نصير لاجئين…وللا ما سمعت شو أمّ مازن تحكي عن اللي حصل مع اللاجئين يا حسرتي عليهم”.

إلتقى”الأساتذة” في بيت الأستاذ داود للتداول في تطورات الأحداث، فقال الأستاذ فؤاد:

الأوضاع تتطور بشكل متسارع ، والوضع يدعو إلى التعقل…فالمراقبون السياسيون في مختلف دول العالم يرون أن الحرب واقعة لا محالة، وأنها ستكون في الأسبوع الأول من حزيران، ويشككون بمدى جاهزية الجيوش العربية لخوض هكذا حرب، خصوصا وأن القوة الضاربة للجيش المصري موجودة في اليمن، لدعم إنقلاب الفريق عبدالله السلال على النظام الملكي.

داود: الجيوش العربية قوية، وقادرة على خوض حرب التحرير…والشعوب تقف خلف جيوشها بقوة…والأحزاب والنقابات في الدول العربية تدعو الدول العربية المنتجة للبترول لوقف صادراتها البترولية، لأيّ دولة تساند إسرائيل في حرب التحرير الموعودة.

فؤاد: يدي على قلبي من العواقب…فأمريكا والدول الأوروبية تطلب من رعاياها مغادرة الشرق الأوسط على وجه السرعة حفاظا على حياتهم….وهذا يعني أن احتمالات نشوب الحرب كبيرة جدا….وأخشى أن الدول العربية غير مستعدة للحرب…وبالتالي ستتكرر النكبة مرة أخرى.

الأستاذ محمد: أعجب من طريقة فهمك للأمور…فكيف ستكون الدول العربية غير مستعدة للحرب، وهي تعد العدة لها منذ تسعة عشر عاما؟

الأستاذ سالم: يا إخوان إذا اندلعت الحرب، أو لم تندلع، فلن يستشيرنا أحد بذلك…و”المكتوب عَ الجبين..لازم تشوفه العين” فلا توجعوا رؤوسكم بدواوين ليست من شأنكم…ودعوا السياسة لأهلها.

داود ساخرا: بماذا سنوجع رؤوسنا إذن يا فصيح؟

سالم: لدينا أمور كثيرة تهمنا مباشرة، فالطالبات والطلاب سيتوجهون في 28 أيار-مايو- لقاعات امتحانات الثانوية العامة، في كافة محافظات المملكة الأردنية الهاشمية، بما فيها محافظات الضفة الغربية رغم أجواء الحرب التي تطغى على ما سواها….فلا تصرفوا الطلاب عن دراستهم بكثرة الحديث عن الحرب.

داود: لكن الإذاعات والصحف جميعها تتحدث عن تطورات الأوضاع، وإمكانية نشوب حرب طاحنة.  

                          ***********************

–         “الأستاذ” خليل قاعته في مدرسة الفرير المحاذية لسور القدس القديمة من الجهة الغربية، ما بين الباب الجديد وباب الخليل المغلقين منذ نكبة العام 1948، الطلاب والمعلمون يسترقون النظر من “طلاقات” السور باتجاه القدس الغربية، والجنود الذين يرابطون على السور يطردونهم لخطورة المكان….خليل ينجح في رؤية بعض السيارات الإسرائيلية تعبر شارع يافا، ويقول بأنه رأى سيارات جنود تمر مسرعة.

اليوم الإثنين الخامس من حزيران 1967، الطالبات والطلاب يصلون قاعات إمتحانات الثانوية العامة- التوجيهي- فاليوم هو إمتحان مادة”العلوم العامة” بقي إمتحانان، إمتحان التاريخ العام غدا، وإمتحان الفلسفة وعلم الإجتماع بعد غد.

قال خليل لوالدته: بعد غدٍ سننتهي من الإمتحانات وهمومها، وسنتفرغ لمتابعة أخبار الحرب التي تدق طبولها.

وصل “الأستاذ”خليل إلى ساحة مدرسة الفرير في السادسة والنصف صباحا، قلمه في جيبه، ولا شيء آخر، صعد إلى سور القدس بعد أن ألقى تحية الصباح على جندي يضع خوذة عسكرية على رأسه…يركز بندقيته بجانبه…يحمل في يديه منظارا، ويراقب الجهة الغربية حيث الإسرائيليين…طلب من الجندي أن يعطيه المنظار ليلقي هو الآخر نظرة على القدس الغربية…أشفق عليه الجندي وأعطاه المنظار…رأى بيوتا هادئة ليس أكثر…لم يشاهد حركة لا للجنود الإسرائيليين ولا للمدنيين…

ربما يتخندق الجنود خلف الأبنية قال للجندي العربي الأردني…فأنا لم أشاهد أحدا.

وأنا أيضا لم أشاهد أحدا قال الجندي….إنزل إلى مدرستك فالطلاب حضروا ولا نريدهم أن يتسلقوا السور أمر الجنديُّ خليلا.

انصاع خليل لأمر الجندي ونزل إلى ساحة المدرسة، وقال لبقية الطلبة:

إنهم يكذبون…الحرب لن تندلع، فقد نظرت إلى الجانب الإسرائيلي بمنظار ذلك الجندي، ولو كانت هناك حرب لشاهدنا تحركات لجنودهم ولدباباتهم.

لكننا نرى جنودنا… إنهم منتشرون في حارات وشوارع المدينة المختلفة قال طالب آخر…والجنود الإسرائيليون إما مختبئون في الخنادق وخلف الأبنية، أو أنهم هربوا وعائلاتهم إلى البلدان التي هاجروا منها، فماذا يوجد لهم في هذه البلاد حتى يقاتلوا ويموتوا فيها؟

هذه البلاد لنا نحن وتستحق أن نقاتل ونموت من أجلها.

قُرع الجرس ودخل الطلاب إلى قاعات الإمتحان، وزَّع المعلمون أوراق الأسئلة، وشرع الطلاب بالإجابة…بعض المعلمين يخرج من الغرفة التي يراقب فيها ويهمس في أذن زميله في غرفة أخرى، صوت سيارات الإسعاف يملأ الشوارع، مآذن المساجد تطلب من الأطباء والممرضين ورجال الدفاع المدني أن يلتحقوا بمراكزهم فورا….مدير القاعة يأمر الطلاب بضرورة الإسراع في الإجابة وتسليم أوراقهم بالسرعة الممكنة.

هل حدث شيء سأله خليل؟

لا لم يحدث شيء أجاب المدير….لكن أكملوا إجاباتكم بالسرعة الممكنة، لأنه جاءت الأوامر باختصار مدة الإمتحان إلى ساعة واحدة بدل ثلاث.

إذن اندلعت الحرب قال خليل.

أغلق فمك وأكمل إجاباتك قال له المدير.

أنهى خليل إجاباته في 25 دقيقة وخرج…..رأى رهطا من الناس يتجمعون في مقهى ويستعمون لبيان من الناطق العسكري المصري جاء فيه:” أن طائرات معادية أغارت على بعض القواعد الجوية المصرية، وتم اسقاط 23 طائرة منها، وتقوم طائراتنا بملاحقة طائرات العدو وإسقاطها، كما تقوم قاذفات سلاحنا الجوي بدكّ حصون العدو الأرضية أمام قواتنا البرية التي تدكّ هي الأخرى بنيرانها القوات المعادية”.

 مشى خليل باتجاه موقف الباصات ليعود إلى بيته، المحلات التجارية في أسواق القدس مغلقة، وعند باب العامود أخبره شرطي بأن حركة السير تعطلت، وأمره-بعد أن سأله عن مكان سكنه- بالعودة إلى بيته عن طريق باب المغاربة مشيا على الأقدام، وأن يبتعد عن المنطقة الحدودية والمناطق المرتفعة، لأن الحرب على جبهتنا ستندلع في أيّ لحظة، فعاد خليل باتجاه باب المغاربة عن طريق الواد…الشوارع خالية من المارة باستثناء طالبات وطلاب الثانوية العامة الذين يركضون في الشوارع عائدين إلى بيوتهم.

أثناء مروره من قرية سلوان إلتقى عددا من الطالبات والطلاب من أبناء قريته، الطلاب يمشون أولا تتبعهم الطالبات، مرّوا بمقبرة البلدة…إحدى الطالبات فتحت كفيها أمام وجهها تقرأ الفاتحة عن أرواح ساكني المقبرة…تفرقوا كلّ إلى بيته…

وتحولق كلّ واحد منهم مع ذويه حول المذياع يستمعون للأخبار، ولما يقوله الناطقون العسكريون في كل من مصر والأردن وسوريا، والبيانات تؤكد أن النصر أمر حتمي، وأن عودة اللاجئين إلى ديارهم ستتم خلال أيام قليلة.

                          **************

في العاشرة والنصف اندلعت نيران الحرب على الجبهة الأردنية،وتحديدا في القدس وجنين، أزيز الرصاص وهدير المدافع يسمع في مدينة القدس وقراها….والشباب في جبل المكبر  كما بقية المناطق هرعوا إلى معسكر الجيش للمشاركة في الحرب…وقف أمامهم ضابط شاب وقال لهم:

 الحرب ليست لعبة والوضع خطير جدا، وحفاظا على حياتكم أطلب منكم الإنصراف فورا إلى بيوتكم.

حاولوا مناقشته لكنه حسم الموقف بقوله:

 نحن في حالة حرب ليست سهلة، وليس لديّ وقت، وأطلب منكم الإنصراف بشكل فوري وإلا….

غالبية الشباب سمعوا كلام الضابط وانصرفوا بهدوء، بقي حفنة من الشباب الأقوياء، فحمّلهم الضابط صناديق ذخيرة ليرافقوا الجنود.

 الجنود في جبل المكبر تقدموا عبر الخنادق إلى بوابة المقر الرئيس للأمم المتحدة…خاطبهم جندي الحراسة الأجنبي باللغة الانجليزية قائلا:

 هناك إتفاق بأن يكون هذا المكان ملاذا آمنا لأعضاء السلك الدبلوماسي وعائلاتهم.

فأشهر جندي سلاحه في وجهه بعد أن ترجموا له ما قاله….فهم جندي قوات الطوارئ الرسالة قبل الترجمة…فتح البوابة…صعد إلى سيارته، وقفل عائدا وهو يقول: باي.

دخل الجنود حمى المقر الدولي المحاط بسياج إرتفاعه ثلاثة أمتار، وتقدموا من الجهة الشرقية حيث غابة أشجار السرو الكثيفة عالية الإرتفاع، وواصلوا تقدمهم إلى الغرب حيث تنتظرهم بوابة أخرى، تقدموا منها باتجاه الغرب… على يمينهم المنطقة منزوعة السلاح منذ العام 1948 ولا يسمح لأحد بدخولها، وعلى يسارهم بيارات التفاح والدراق والبرقوق، التي تحيط بالكلية العربية المغلقة هي الأخرى منذ نكبة العام 1948، وهناك إنهالت عليهم قذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة، والطائرات المروحية، في حين كانت أسراب طائرات الميراج والسوبر مستير الفرنسية الصنع تمر في الأجواء تبحث عن أهدافها، قصفت معسكر الخان الأحمر، وهو المعسكر الأكبر مساحة وعدة وعتادا في محافظة القدس…الوجيه أبو محمد يطلق من مسدسه خمس رصاصات باتجاه سرب من طائرات الميراج، وشقيقته الحاجة فاطمة تقسم أغلظ الأيمان بأنها رأت الرصاصات قريبا من  جناح الطائرة،  وعندما سقطت في اليوم التالي إحدى الطائرات المغيرة بمضادات الجيش في الخان الأحمر، أقسمت أنها سقطت بفعل رصاصات مسدس شقيقها أبي محمد، التي أطلقها في اليوم السابق، وبقيت تخترق الطائرة إلى أن وصلت خزان الوقود هذا اليوم، فشاهد الجميع إحتراق الطائرة وسقوطها، وشاهدوا طائرات الهليو كبتر وهي تلتقط الطيار الذي قفز بالمظلة…الدبابات الإسرائيلية إحتلت قرية صورباهر المجاورة، وقامت بعملية إلتفافية على جبل المكبر.

الناطق العسكري الأردني يعلن أن الجيش حرر قمة جبل المكبر ويواصل تقدمه غربا.

قوات المشاة تضطر إلى التراجع لعدم قدرتها على مواجهة الدبابات، والطائرات العمودية الإسرائيلية، سياج المقر الدائم للأمم المتحدة يعيق إنسحاب الجنود إلى خنادقهم، فكانوا هدفا سهلا للقوات المعادية، عشرات الجنود سقطوا في الأراضي المكشوفة، وجزء منهم سقط بنيران صديقة من راس العمود ودير السنّة في أبو ديس، وطائرة هليوكبتر تدمر سيارة للجيش تحمل مدفع مورتر في الشارع العام الذي يمر من الجهة الغربية للقرية، وتقصف الخنادق التي يتمترس فيها الجنود على الجبهة.

القذائف تتساقط في كل مكان، ودخان الحرائق ينبعث من أماكن كثيرة، والأهالي يهربون إلى الوديان في طريقهم إلى البراري للإبتعاد عن ساحة الحرب، آلاف الأشخاص من القدس القديمة ومن سلوان يملأون الطرقات في طريقهم إلى الشرق، والطيران الإسرائيلي يحلق في الجوّ على إرتفاعات منخفضة، يصطاد كل من يرتدي لباسا عسكريا، ويدمر الآلات العسكرية.

في ساعات صباح اليوم التالي-الثلاثاء- الناطق العسكري الأردني يعلن أنّ الأوامر صدرت لقوات الجيش بالإنسحاب والتمركز في خط الدفاع الثاني، سأل الحاج عبد الودود:

أين خط الدفاع الثاني يا ناس؟

أبو عليّ:  خط الدفاع الثاني عن القدس هو قريتا أبو ديس والطور.

أبو كامل: المنطقة مرتفعة وفيها خنادق للجيش، سيتمترس فيها وسيصطاد منها القوات المهاجمة.

وعندما مرّ عدد من الجنود وقد تركوا أسلحتهم واستبدلوا ملابسهم العسكرية بملابس مدنية، سألهم المختار أبو السعيد: إلى أين يا شباب؟

ردّ واحد منهم:

الضابط المسؤول في جبل المكبر أخبرنا  بأوامر للإنسحاب إلى خط الدفاع الثاني.

–         وأين خط الدفاع الثاني؟

–         خط الدفاع الثاني هو نهر الأردن.

 ضرب المختار كفّا على كفّ وقال متحسرا: وا والداه…ضاعت البلاد وهلك العباد…..وسأل مرة أخرى: أين الضابط:

–         قرأ علينا أمر الإنسحاب وقال  بأنه شخصيا لن ينسحب، وسيدافع عن القدس حتى الرمق الأخير، بقى معه عدد من الجنود….أمّا نحن فإننا ننسحب لأن المعركة غير متكافئة، فالعدو يقصفنا من الجوّ، ويلحق بنا خسائر فادحة، وبعد ذلك تتقدم الدروع، ولا قدرة لنا على المواجهة.

             مشى الجنود في طريقهم إلى الضفة الشرقية عبر الجبال والوديان بعيدا عن الشارع الرئيس…

            خيّم الحزن على الجميع، تحلقوا حول مذياع أبي عليّ يستمعون للأخبار وسط وجوم تام…وفي الصباح وصل أبو خليل راكبا حماره….التفت إليه المختار أبو السعيد وسأله: من أين أتيت يا أبا خليل؟

–         من داري.

–         خَبِّرْ …كيف الوضع؟

–         الجنود انسحبوا يوم أمس…بقي ضابط شاب وعدد من الجنود …اختبأوا  بين البيوت وفي الكهوف وتحت الشجر حتى ساعات الليل، وهاجموا بالقنابل اليدوية الدبابات والدروع الإسرائيلية المتمركزة في رأس الجبل…دمروا دبابة وعددا من الدروع، واستشهدوا جميعهم.

–    لا حول ولا قوة إلا بالله….إذن لم يعد لنا خيار سوى الهروب إلى الضفة الشرقية….وإذا براديو اسرائيل يعلن أن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي قد وصلت نهر الأردن، وأنها تقوم بتسهيل عملية مرور المدنيين الهاربين عبر جسري اللنبي ودامية اللذين تم نسفهما.

وقف أبو كامل وقال:

استمعتم بآذانكم أن الجيش الإسرائيلي قد وصل النهر وسيطر عليه، وهذا يعني أننا مطوقون من جميع الجهات، وأقترح أن نبقى في أماكننا إلى أن يفرجها الله.

       سيارات الجيش الاسرائيلي تجوب المناطق المأهولة تنادي بمكبرات الصوت بأن على من يريد النجاة بنفسه أن يرفع راية بيضاء على بيته، وعلى من يملك سلاحا أن يلقيه على رصيف الشارع العام.

“الأستاذ” خليل لم يجد قماشا أبيض يرفعه على بيتهم سوى سروال والده، فرفعه على عصا طويلة ثبتها على برندة البيت….كبار السن يتسللون ليلا إلى بيوتهم يحملون ما يستطيعون من مواد غذائية، ويعودون إلى أسرهم…الناس يتقاسمون رغيف الخبز، ومربو الأغنام يقدمون حليبها إلى الأطفال مجانا، وكهوف وادي الدكاكين ملأى بالهاربين من جحيم الحرب.

وفي منطقة أمّ عراق وصل الطفل ياسر يتيم الأمّ يتسلل ليلا مذعورا بعد أن شاهد الجنود وهم يطلقون الرصاص على والده العجوز فقتلوه… صاح مرتجفا:

لقد قتلوا أبي.

 احتضنه الحاج عليّ… أجلسه بجانبه….طيّب خاطره وهو يردد: لا تخف يا بنيّ…أبوك قضى نحبه شهيدا….بعدها قال ياسر باكيا:

خرج الوالد من الكهف الواقع أمام البيت، رأى دبابات في الشارع، إعتقد أنهم من الجيش العراقي…تقدم منهم محييا إياهم، وأشار لهم إلى الجبهة كونهم لا يعرفون المنطقة، أطلقوا الرصاص على رأسه فتطاير شظايا، رأيت ما جرى من باب الكهف فهربت  إلى داخله، وتسللت إلى جحر كبير في الكهف، سمعت الجنود الذين لحقوا بي يتكلمون لغة لم أفهم منها شيئا، إنهم ليسوا عراقيين… تجمد الدم في عروقي، وبقيت مختبئا حتى حلّ الظلام، وتسللت عبر الوادي باتجاه الشرق أبحث عمّن ينجدني.

بكى الحاج عليّ على ياسر وأبي ياسر، وقال:

 الله يرحمك يا محمد عبد معلم الرياضة الذي لم يكمل عامه العشرين، أصيب بشظية قذيفة مدفع وهو يحمل صندوق عتاد مع الجنود في الدقائق الأولى من انلاع الحرب….أصيب في الجانب الخلفي من فخذه الأيمن، حمله بعض الجنود إلى القرية، إتكأ على يديه اللتين ثبتهما على الأرض خلف ظهره…وبقي يراقب سيل الدماء النازفة منه بصمت قاتل…لم يجد من يعرف شيئا في الإسعافات الأولية حتى يسعفه…حضر والده …خلع كوفيته ولفها على فخذ إبنه النازفة، حمل إبنه الذي بدأ يذبل ووضعه أمامه على بغل، واتجه الى مستشفى بيت لحم عبر طرق بعيدة عن ساحة القتال على أمل إنقاذ حياته…توفي محمد الإبن البكر لوالديه بين يدي والده قبل أن يصلا المستشفى، فعاد به باكيا ليواريه التراب.

المصيبة كبيرة وعلينا الآن أن نتسلل عبر الوادي لإحضار جثمان أبي ياسر ودفنه، فإكرام الميت دفنه، هذا ما أضافه الحاج عليّ….تطوع معه أربعة شباب…وتسللوا وأحضروا الجثمان وواروه التراب.

 

وقال أبو خليل:

الحاج عليان محمد كان يصارع سكرات الموت عندما اندلعت الحرب، اختبأ أبناؤه في الكهف أمام البيت، ومددوا والدهم أمامهم، توفي في اليوم الثاني…حملوه إلى المقبرة…رآهم جنود الإحتلال من قمة الجبل ولم يحركوا ساكنا.

    وقال أبو خالد أن نعمة المحمد الصبية الطالبة  في الثانوية العامة حملت إبن شقيقها الرضيع، وخرجت من بيتهم في مدخل الشيخ سعد، ليهربوا إلى مكان آمن، رصاصة طائشة أصابتها في الجانب الأيسر من صدرها، إنحنت…وضعت الطفل بهدوء على الأرض، وتمددت بجانبه لافظة أنفاسها الأخيرة…ذعر أبواها وأفراد أسرتها من خلفها عندما رأوا دماءها النازفة….سحبوها إلى الداخل….وفي المساء واروها التراب قرب مقام الشيخ سعد.

     أثار عدم التحاق جميل حمدان بزوجته وأبنائه مخاوف ذويه، فتسلل ثلاثة منهم إلى بيته الملاصق للمنطقة المنزوعة السلاح في قمة الجبل الجنوبية، لكنه لا يطل عليها…خنادق الجنود على بعد عشرات الأمتار من بيته…في اليوم الثاني وجدوه ممدا في غرفة وفوق رأسه كوب ماء….ودماء نزفت منه في اليوم السابق وجفت…يبدو أن الجنود هم من مددوه باتجاه القبلة عندما أصيب قريبا منهم…طلب شُربة الماء…ومات قبل أن يتجرعها، قضى نحبه وهو في بداية الثلاثينات من عمره تاركا زوجة شابة وخمسة أطفال.

           الإشاعات تنتشر وتثير الرعب في قلوب الناس، أحد الفارين من القدس القديمة يبرر فراره قائلا: الجيش المحتل يقتل الشباب، ويغتصب النساء، ويأسر الشيوخ رجالا ونساء ليكونوا في خدمته، وعندما سأله خليل عن كيفية هروبه وزوجته وأطفاله ما دام الوضع هكذا؟

أجاب: مررنا بجنود عند باب المغاربة، نظروا إلينا…وأشفقوا عليّ عندما رأوني أحمل طفلتي الرضيعة، ورأوا زوجتي الحامل تقود طفلين…دعوت الله كثيرا…وقرأت المعوذتين، فاستجاب الله دعائي وأعماهم عنا… نظروا إلينا ولم يتكلموا.

أبو العبد : يا ناس عودوا إلى بيوتكم….فقد بقي عرب في بيوتهم عام النكبة ولم يقتلهم أحد….وها هي الطائرات تحلق فوق رؤوسنا ولو أنهم يريدون قتلنا لما بقي منا أحد.

الناس بالآلاف يملأون الكهوف والأودية، صراخ الأطفال يتردد صداه في جنبات الوادي، الطائرات العسكرية تجوب الأجواء محدثة ضجيجا عاليا، الناس يعانون من نقص في المواد الغذائية، ومن شُحٍ في مياه الشرب، والكل يتحدث عن الطريق التي سيسلكها في طريقه إلى الضفة الشرقية، جنود استبدلوا ملابسهم العسكرية وتخلوا عن أسلحتهم، اندسوا وسط المواطنين للمغادرة إلى الضفة الشرقية….قافلة من عشرات السيارات العسكرية، يتقدمها جيب عسكري، وفي مؤخرتها جيب عسكري أيضا، تتجه شرقا عبر الطريق الترابي في البراري… منصور يعترض الجيب الذي في مؤخرة القافلة ويسأل:

إلى أين يا شباب؟

سنعود قريبا…ولن نترك القدس، ردّ ضابط شاب بلهجة بدوية والدموع تنحدر من عينيه…طائرات معادية تحلق على ارتفاع منخفض…قفز الجنود من السيارات وانبطحوا أرضا…أطلقوا نيران بنادقهم باتجاه الطائرات التي قصفت بالنابالم مقدمة القافلة العسكرية ومؤخرتها…أُغلق الشارع…الجنود تركوا السيارات وانسحبوا شرقا.

الناس يتشاورون حول الطريق المناسب للهرب إلى الضفة الشرقية، ويستمعون إلى نشرات الأخبار من خلال أجهزة الراديو التي يمتلكونها.

أبو علي يفتح الراديو للإستماع لنشرة الأخبار من صوت العرب…يخيم الصمت …ينطلق صوت المذيع:

أعلن الناطق العسكري المصري أن الأوامر صدرت من القيادة العليا للقوات  المسلحة للإنسحاب من قطاع غزة وسيناء إلى غرب قناة السويس، واتخاذ مواقع لها هناك.

داود: هذا يعني أن النكبة أصبحت نكبات…ولم يكمل حديثه لأنه اختنق بدموعه.

أبو إسماعيل: قبل قليل سمعت من راديو لندن أن الجيش الإسرائيلي أقام  نقطتي حراسة على كل من جسري اللنبي ودامية، وصدرت الأوامر للجنود بتسهيل مرور المدنيين المغادرين طواعية إلى الضفة الشرقية، كما أن الجنود يقدمون الماء للعطشى والحليب للأطفال، وتقوم شركة باصات”إيجد”الإسرائيلية بنقل من يرغب من المدنيين بالمغادرة إلى الضفة الشرقية مجانا من مراكز المدن والقرى.

وأضاف أن راديو لندن أذاع أيضا بأن قوات الجيش الإسرائيلي قد وصلت إلى مشارف دمشق، وتبني تحصيناتها هناك.

منصور: اتقوا الله يا جماعة….راديو لندن يكذب لتحطيم معنوياتنا ومعنويات جيوشنا كي تخفف ضغطها على اسرائيل.

فؤاد: الحقيقة واضحة لقد هُزمنا هزيمة نكراء ولن تقوم لنا بعدها قائمة.

ذهل الناس من الأخبار التي استمعوا إليها…كثيرون من الرجال والنساء بكوا بمرارة، واحتاروا فيما سيفعلونه، وبعضهم قال بقاؤنا هنا كارثة، فلا مواد غذائية ولا وجود لمأوى آمن، والطريق إلى الضفة الشرقية لم يعد آمنا بعد إحتلال الجسور، والسيطرة على النهر، ونحن هالكون في كل الأحوال، فما علينا إلا العودة إلى بيوتنا لنموت فيها بشرف، وهذا أفضل من أن نموت جوعا في هذه البراري، أو لعل الله يحمينا وييسر لنا طريقا للنجاة….لكن أبا العبد حسم الأمر بقوله:

يا جماعة أنا عملت في التهريب بعد نكبة العام 1948، وكنت أتعامل مع عرب بقوا في ديارهم، ولم يقتلوهم، وأنا أنصحكم بالعودة إلى بيوتكم، وأنا الآن سأعود بصحبة زوجتي وأبنائي إلى بيتنا، والأعمار بيد الله….واستعدت مئات الأُسَر للعودة إلى بيوتها بشكل جماعي، ولتكن النتائج كيفما يشاء الله، ولن يصينا إلا ما كتب الله علينا.

كل مجموعة ترفع راية بيضاء على عصا، وعادوا غربا إلى بيوتهم.

أبو سالم اختلى بعدد من أفراد عائلته وقال:

المثل يقول”خوض الميّة بغيرك” سننتظر حتى يوم غد، بحجة أن لنا بيادر حبوب نريد دَرْسَها، وسنرى ماذا سيحدث للآخرين؟ فإن لم يتعرضوا لأيّ أذى، سنلحق بهم، وإن تعرضوا فإنني أعرف الطرق البعيدة عن الجسور منذ زمن التهريب في عهد الإحتلال البريطاني، والتي يمكن عبور النهر منها، سنتسلل منها ليلا، فالجيش الإسرائيلي لن يستطيع إحكام قبضته على النهر لا خلال أيام ولا خلال أسابيع.

                               **************

   الأستاذ داود لا يريد أن يصدق الأخبار التي يسمعها، فلا يعقل أن تتكرر مأساة نكبة العام 1948، وكيف تتجرأ إسرائيل على إحتلال أراض جديدة؟ ومن كان يتوقع ذلك؟ جلس وسط الجموع الباكية …لم يتكلم شيئا…إلا أن أبا سالم قطع حبل الصمت بسؤال إلى الأستاذ داود تنضح منه لغة الشماتة:

هذا صاحبكم قدّم استقالته في خطاب حزين، وتحمل مسؤولية الهزيمة.

داود: من هو صاحبنا؟

أبو سالم:جمال عبد الناصر…ألم تهتفوا بحياته طوال الوقت؟ ألم تعتبروه بطل التحرير المنتظر؟

داود: من قال لك إنه استقال؟

أبو سالم: قبل دقائق استمعت لخطابه الذي أعلن فيه استقالته.

فتح أبو علي الراديو على صوت العرب….استمعوا للمذيع يقول باكيا: مئات الآلاف ينزلون إلى شوارع القاهرة، يهتفون بحياة الرئيس جمال عبد الناصر، ويناشدونه العدول عن استقالته، والرئيس يعتصم في بيته ويرفض استقبال أيّ من رجالات الدولة.

داود: إذا استقال جمال عبد الناصر فهذا ما تريده الإمبريالية، وهذا يعني أن هزيمتنا مضاعفة.

“الأستاذ”خليل صعد إلى قمة جبل المنطار…نظر إلى مدينة القدس…بكى نشيجا حتى كاد يختنق بدموعه، جلس وحيدا…تارة ينظر إلى الضفة الشرقية من النهر…وتارة ينظر إلى مدينة القدس…وأخرى ينظر فيها إلى جموع المواطنين الذين يتضورون جوعا وعطشا….فقد القدرة على التفكير…تمنى لو أنه مات قبل هذه الحرب…جمع عددا من العقارب التي تختبئ تحت الحجارة، وضعها في دائرة صغيرة، أخذت كل واحدة منها تلدغ الأخرى…يتشنج بعضها ويموت…خليل لا يسمح لأيّ منها بالهرب…يدفعها بعود في يده إلى وسط”المعركة”…عقرب سوداء اللون هي من انتصرت وبقيت على قيد الحياة…رفعت ذيلها بشكل دائري…أدارته إلى مؤخرة رأسها..لدغت نفسها وماتت….احتار خليل بفعلتها…فلماذا قاتلت إذا لم يكن لديها رغبة في الحياة؟ وهل تنتحر الحيوانات والزواحف؟ …وماذا يعني هذا؟ هل عاقبت نفسها لأنها قتلت أخواتها، أم اختارت الموت بيديها لعلمها أن من أجبرها على قتال أخواتها سيقتلها هي الأخرى؟ وهل الملكة زنوبيا تعلمت من عالم العقارب عندما أنهت حياتها بيديها قائلة:”بيدي لا بيد عمرو”؟.

فكر خليل بما جرى للعقارب، وبانتحار العقرب السوداء، وفكر بهزيمة العرب في حرب غير متكافئة…بكى حتى احمرت عيناه وجفتا من الدموع، عاد إلى بيت الشَّعَر حيث تعيش أسرته الهاربة من جحيم الحرب.

لم يطرح السلام على أحد، جلس قريبا من الدائرة التي يتجمع فيها عدد من الرجال حول مذياع أبي عليّ، بعضهم يدخن “الهيشي” ولا يتكلم شيئا، وكأنه لم يعد يفهم شيئا، أو كأنه نسي لغته، بينما أبو علي لا يبارح غليونه -المعبأ بـ”الهيشي”- فمه، أداروا المذياع على دار الإذاعة الإسرائيلية  واستمعوا إلى نشرة الأخبار:

في مؤتمر صحفي أعلن وزير الدفاع الجنرال موشيه ديان أن جيش الدفاع الإسرائيلي يسيطر الآن على قطاع غزة وصحراء سيناء في الجبهة الجنوبية، وأن قواتنا ترابط الآن على الضفة الشرقية لقناة الويس.

أمّا على الجبهة الشرقية فقد تمّ “تحرير” القدس والإستيلاء على باقي “أرض إسرائيل” الشرقية، وترابط قواتنا الآن على طول نهر الأردن.

وفي الجبهة الشمالية سيطرت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي على كافة مرتفعات الجولان وجبل الشيخ، وهي تقف الآن على مشارف دمشق، وابتعدت قليلا عن الطريق الدولي بين دمشق وبيروت، كي لا تتأثر حركة النقل بين العاصمتين السورية واللبنانية.

أغلق أبو علي الراديو وأبدى إعجابه بشجاعة الجنرال ديان، وبإشادته بالجيوش العربية، وهذا دلالة على وعي الرجل وعدم انكاره للحقيقة.

فقال الأستاذ داود: ديّان يمدح جيشه ولا يمدح الجيوش العربية.

الحاج عبد الودود: كيف يمدح جيشه ونحن سمعناه يمدح الجيوش العربية ولم يتكلم شيئا عن جيشه؟

داود: اذا كانت الجيوش العربية كثيرة العدد ومدربة جيدا وتملك أحدث الأسلحة، فماذا يكون الجيش الذي انتصر عليها؟

أبو كامل: ماذا يكون؟

داود: ديّان يريد أن يوصل للعالم أن جيشه جيش أسطوري لا يهزم.

أبو سالم: لا أعرف كيف تفهمون الأمور يا أستاذ داود؟ فعلى أيّ أساس تفسر الأمور، أم أنك تريد من الرجل أن يشتم الجيوش العربية؟

داود: أستغفر الله العظيم…لا يختلف اثنان على شجاعة الجندي العربي، لكن جيوشنا العربية غير مدربة، وغير مسلحة بأسلحة حديثة، وأمريكا وفرنسا سلحتا إسرائيل بأحدث الأسلحة، وأكثرها تطورا، وسلاح الجو الاسرائيلي هو الذي حسم المعركة لصالح اسرائيل، وطائرات الميراج والسوبر مستير الفرنسية الصنع هي العمود الفقري لسلاح الجوّ الاسرائيلي.

أبو سالم: أراك تعترف الآن بأن أصدقاء اسرائيل دعموها بكل ما تريده، أمّا صديقكم الإتحاد السوفييتي فقد زود مصر وسوريا بطائرات تمّ تدميرها على أرض المطارات.

داود: دولنا العربية لا تعرف كيف تحارب، ولا تعرف كيف تصادق، وطائرات الميج 21 والسوخوي روسية الصنع، أسقطت طائرات الفانتوم والسكاي هوك الأمريكية في فيتنام، بينما تم تدميرها في المطارات العربية نتيجة لإهمال وخيانات بعض القيادات العسكرية، أو لجهلها في العلوم العسكرية الحديثة.

أبو سالم يتساءل غاضبا: أين هم أصدقاؤكم السوفييت؟ والله لو انتصرت الجيوش العربية في هذه الحرب لضربتها أمريكا بالسلاح النووي، لأنها لا ولن تسمح بهزيمة حلفائها.

داود: ليس مطلوبا من السوفييت أن يحاربوا نيابة عنا، فلا ينقصنا الرجال، لكن تنقصنا القيادات الحكيمة، والقادرة على بناء جيوش كفؤة ومتعلمة، والذي يحارب الآن هو العلم والتكنولوجيا، وما على الجندي إلا أن يكون متعلما وقادرا على التعامل معها.

أبو سالم: السوفييت لم يعطوا العرب أسلحة متقدمة مثل الأسلحة التي يستعملها الإسرائيليون.

داود: لن يسمح السوفييت بهزيمة أسلحتهم وهزيمة حلفائهم، وسترون قريبا كيف سيعيدون تسليح الجيشين المصري والسوري.

أبو علي:”مت يا حمار حتى يأتيك العليق”.

داود: “اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يفقهون”

الحاج عبد الودود: هل تشتمنا يا ولد؟

داود: أستغفر الله العظيم…كيف فهمت أنني أشتمكم؟

المختار أبو محمد: وحدّوا الله يا جماعة، جيوشنا هُزمت، وتشرد شعبنا، ووطنا وقع الإحتلال، وما بقي علينا سوى أن نتذابح مع بعضنا البعض….اتركوا السياسة لأهلها، وعودوا إلى بيوتكم، وإن شاء الله ستنفرج الأمور.

                   *******************

 عبد الناصر تراجع عن استقالته، ووجه خطابا للشعب وللأمة، شكرهم فيه على الثقة التي يولونها له، وأعلن عن تغييرات هامة في قيادات الجيش، لإعادة بناء القوات المسلحة تمهيدا لحرب التحرير القادمة، وشدد في خطابه على أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.

الأهالي يعودون إلى بيوتهم والخوف يملأ قلوبهم، يراقبون الطرقات بحذر شديد، بعضهم يتظاهر بالشجاعة، وبعضهم يصدق مع نفسه ومع الآخرين فيعلن عن مخاوفه، ولا يدعي بطولات لا يستطيع القيام بها.

“الأستاذ”خليل لم تعد له شهية للطعام، يحب الإبتعاد عن الآخرين…وكأن الوحدة أصبحت رفيقه الذي يستأنس به، لم يعد يطيق أحدا بمن فيهم والدته التي تميزه على بقية بناتها وأبنائها، ينهض مبكرا، يجوب في الوديان والبطاح والجبال كمن يبحث عن لا شيء، وفي ظهيرة خامس أيام الحرب مرّ براعي الأغنام ابراهيم السالم يسقي أغنامه من بئر “أمّ شِعبين” قريبا من الشارع الترابي الذي يمر بالبراري ويربطها بالخان الأحمر شمالا، وبالعبيدية جنوبا.

قال ابراهيم السالم وهو يطرد ذبابة حطت على أنفه: هل تعلم يا أستاذ خليل أن الواحد منا أصبح يرى الذبابة طائرة من كثرة الطائرات العسكرية التي تحلق ليل نهار؟ فابتسم خليل ولم يتفوه كلمة واحدة.

أخرج ابراهيم السالم من الخُرج الذي على ظهر حماره، رغيف خبز وقطعة جبن…دعا خليل كي يشاركه الطعام…رفض خليل الطعام، وطلب من ابراهيم السالم أن يلف له سيجارة”هيشي”…أشعل سيجارته وهو يتكيء على”حُمّرَةِ” البئر، وإذا بإبراهيم يقول بصوت متهدج: لقد وصلوا إلينا…لا تتحرك يا خليل.

التفت خليل إلى الشارع الترابي حيث ينظر ابراهيم…فتفاجأ بأربع سيارات عسكرية مكشوفة يرفرف العلم الإسرائيلي على مقدمة كل واحدة منها، وبجانب سائق السيارة الأولى إمرأة حسناء بلباس البحر، قفز الجنود بأسلحتهم باتجاههم، أحدهم يحيط المرأة الحسناء بذراعه، فقال أحدهم بلغة عربية سليمة: مرحبا.

ردّ ابراهيم قائلا: أهلا…بينما كان خليل يسعل وهو يسحب نفسا من سيجارته.

ماذا تعملون هنا؟ قال جندي.

نسقي أغنامنا أجاب ابراهيم.

لماذا لم تكمل طعامك؟ سأل الجندي.

ابراهيم:الحمد لله شبعت.

الجندي ينظر إلى خليل ويقول: مظهرك لا يدلّ بأنك راعي غنم، ماذا تعمل أيها الشاب؟

خليل: أنا طالب مدرسة.

ولماذا أنت هنا؟ عُد الى بيتك ولا تخف شيئا…يبدو أنك غير معتاد على تدخين”الهيشي”.

وجه الجندي حديثه بالعبرية إلى أحد زملائه، فذهب إلى إحدى السيارات العسكرية، وعاد بعلبتي سردين، وقالب شوكولاته، وعلبة سجائر من نوع”Ascot ” وضعها أمام خليل، في حين كانت المرأة تزيح شعرها الأشقر المتطاير من على وجهها، وتقبل الجندي الذي يحيط خاصرتها بيده ويضمها إليه.

عادت المرأة إلى إحدى السيارات، تناولت قنينة ماء، شربت منها قليلا…وضعتها أمام خليل وقالت له كلاما لم يفهم منه شيئا، ثم سألته:

هل تتكلم الإنجليزية؟

خليل: نعم.

–         هذا الماء المعقم لك، وعلبتا السردين والشوكولاتة لك ولزميلك، إشربا وكُلا كيفما تشاءان، لا يوجد معنا سجائر كثيرة حتى أعطيكم، ومع ذلك سأحضر لكما علبتين أخرتين، وبإمكانك أن تعود إلى بيتك وإلى مدرستك، فالحرب انتهت ولا داعي للخوف…إلى اللقاء.

انصرفت الدورية العسكرية فانحدرت الدموع على وجنتي خليل الذي قال: هؤلاء يوزعون الشوكلاتة والمعلبات والسجائر في الطرقات، وجيوشنا لا تجد ما تأكله، ونتساءل لماذا انتصروا؟.

لكن الغريب هو اصطحابهم للنساء معهم في دورياتهم، فمن تكون هذه المرأة؟ ولماذا هي بلباس البحر، ولماذا لا تستر جسمها الفاتن؟ أم هي للترفيه عن الجنود؟

على كلٍ من يدرينا ما بداخل هذه المعلبات، وهذه الشوكولاته والسجائر هل هي مسمومة؟ وهل أعطوها لنا ليتخلصوا منا؟ لن نأكلها ولن ندخن سجائرهم. أحضر حجرا ودكّ علبتي السردين حتى أفرغهما من محتوياتهما وألقى بهما أرضا، فلحق بهما كلب الغنم وأكل ما خرج منهما ولحس المعدن بلسانه، وانتظر خليل الكلب حتى يموت مسموما، لكنه لم يمت، عندها أكل ابراهيم الشوكولاتة غير آخذ بتحذيرات خليل، كما أخذ قنينة الماء ووضعها في الخرج على ظهر حماره.

                          **************

رأى خليل أباه يمتطي بغلا في طريقه إلى الدار التي تركوها في جبل المكبر، فقفز من مكانه ولحق به مناديا أن ينتظره، عاد إليه الوالد وسأله:

ماذا تريد يا ولد؟

–         هل أنت عائد إلى دارنا؟

نعم…كي أحضر طحينا وأرزا وبعض ما تيسر من الطعام.

–         إذن خذني معك.

ولماذا آخذك معي؟ فأنا ساعود فورا…نريد أن ندرس بيادرنا، وأن نجمع حبوبنا، وعندها ستكون الأوضاع هادئة تماما، وبعدها سنعود إلى الدار.

–         أنا لا أصلح لهكذا أعمال، وأريد العودة إلى الدار.

وماذا ستعمل في الدار وحدك؟

–         سأتدبر أمري….فأنا لا أستطيع العيش هنا.

وهل أنت مجنون يا ولد حتى تعيش وحدك؟

–         لا لست مجنونا…وسأحرس الدار خوفا من اللصوص الذين يستغلون الحروب للنهب والسلب.

اللصوص لا يجرأون على دخول المناطق المأهولة خوفا من جيش الإحتلال الذي يسيطر على المنطقة الآن.

–         جيش الإحتلال لا يهتم باللصوص….ما يهمه هو أن يسيطر على المنطقة دون أن يزعجه أحد….ألم تشاهد أشخاصا ينهبون معسكر الخان الأحمر، لقد نهبوا كل شيء باستثناء السلاح…بعضهم نهب ملابس وأدوات منزلية، والبعض نهب كراسي و”كنبات”، وإبن عائشة الفنساء حمل ثلاجة على ظهره أكثر من ثلاثة كيلو مترات، لا يحملها بغل ظنا منه بأنها”خزينة الجيش”عندما حركها وسمع شيئا يتحرك بها ولم يستطع فتحها، لأنه كان يسحب بابها باتجاهه، ولم ينتبه بأن يدير يد بابها إلى اليمين، فهذه هي المرة الأولى في حياته التي يرى فيها ثلاجة عن قرب، وعندما التقيته في منطقة المخبيّة، وهو يسبح بعَرَقِهِ وسألته عمّا يريد من هذه الثلاجة، لم يخبرني…لكنه أنزلها ليستريح قليلا…ففتحتُها ولم يكن فيها سوى زجاجتي مشروب غازي، فغضب وتلفظ بشتائم تُدخله جهنم، ودحرجها من قمة الجبل إلى وادي الدكاكين.

إسمع يا ولد…لا ينقصني وجع رأس…عُد إلى والدتك وابق مع إخوتك وأخواتك…فنحن لا نريد مشاكل.

 –      أكثرية الناس عادوا إلى بيوتهم، ولم يبق في البراري والوديان والكهوف سوى 

       الجبناء، أو من يريدون جمع محصولاتهم من الحبوب، وأنا لست أفضل من   

الأساتذة داود ومحمد وسعيد وفؤاد الذين عادوا يوم أمس.

ولمّا يئس أبو كمال من إقناع”الأستاذ” خليل أردفه خلفه على البغل، وسارا باتجاه الدار في جبل المكبر، وصلاها عند الغروب…جمع أبو كمال ما يريد حمله من المواد الغذائية، كي يحملها معه، ولم يستطع إقناع خليل الذي تمدد على فراشه في إحدى الغرف بالعودة معه….ولم تسمح له عاطفته بتركه وحيدا….فخرج ووقف أمام البيت…نظر إلى كل الإتجاهات ولم يشاهد أحدا من جنود الإحتلال أو من سياراتهم العسكرية، رأى نورا خافتا يتسلل من بعض البيوت في الجهة المقابلة، إنه نور”لامبات” الكاز التي يستعملها الأهالي، فقرر المبيت في البيت على أمل أن يُقنع خليل بالعودة معه في صباح اليوم التالي.

 مع بزوغ الفجر خرج خليل إلى الأرض أمام البيت، وملأ صندوقا من البندورة الناضجة، ومثله من  البامية والفقوس المزروع أمام المنزل، أكل منها حتى شبع، وقدم الباقي لوالده كي يأكل، وكي يحمل المتبقي معه إلى الأسرة.

نظر أبو كمال إلى قمة الجبل فرأى باصات بيت لحم والخليل تسير في الشارع العام باتجاه القدس…واحتار فيمن يستعملها؟ هل هم المواطنون، أم جيش الإحتلال؟ وهل عادت الحياة إلى طبيعتها؟

ورأى بعض الرجال والنساء يخرجون من منازلهم….وهذا يعني أنهم عادوا إليها، أمّا هو فلا يستطيع العودة وأسرته قبل أن ينتهي من جمع محاصيله من الحبوب المكدسة على البيادر، وهذا الولد-خليل- مصر على البقاء هنا في الدار…فما العمل؟ وفي النهاية قرر بأن يترك خليل في البيت وأن يعود هو إلى البرية.

                   *****************

    بقي خليل في البيت وحيدا…وقف أمام البيت مهموما…ليس بسبب الوحدة، لكن بسبب الهزيمة والذل والهوان، والمستقبل الذي لم يعد للأحلام والآمال فيه موطئ قدم…جال بنظره على بيوت القرية التي يراها من شرفة بيته…رأى صديقه محمد العبد يقف أمام البيت ممسكا جذع شجرة التوت بيده اليمنى، رفع يده إليه محييا، لكنه لم يلتفت إليه، أو لم يشاهده…فالكل مشغول بتعاسته….والهزيمة طغت على تفكير الجميع.

 ذهب خليل إلى بيت عمّته صبرية قرب مدرسة الذكور، فوجدهم قد عادوا جميعهم، احتضنته باكية…سألته عن والديه وأخواته وإخوانه، فطمأنها أنهم بخير، ويعيشون الآن في المخبيّة، وسيبقون فيها حتى يجمعوا المحصول وينتهوا من البيادر….أما هي  فقد قالت بأنهم لم يغادروا البيت إلا إلى المغارة التي أمامه ولمدة ليلة واحدة، فقد رفض زوجها أبو مصباح الهرب، وبقي يردد أن الموت في البيت أشرف من الرحيل واللجوء، ومن هربوا سيقطعون أصابعهم ندما في مرحلة لاحقة، فالرب معبود والعمر محدود…كان ينام أمام المغارة ويحشرنا بداخلها…وكأنه يرى بجسده النحيل درعا سيحمينا من أيّ خطر محتمل…هكذا قالت العمّة صبرية، أو أنه يريد أن يموت قبلنا إذا ما هوجمنا، فهو لا يقوى على تحمل حسرة الأبناء إذا ما قُتلوا أمامه…كنا نستمع لصوت رصاص وقذائف في اليوم الأول….وبعدها لم نسمع شيئا سوى الصوت المنطلق من سيارات جيش الإحتلال يطالب الأهالي برفع الأعلام البيضاء.

   بكت العمّة بمرارة، ولم تنتبه إلا متأخرا بأن خليل هو الآخر يبكي بصمت، فسألته:

لماذ تبكي يا بني؟

–         أنا لا أبكي.

هل يؤلمك شيء؟

–         كل شيء يؤلمني.

هذا يعني أنك مريض…سأعِدُّ لك كأس مريمية.

   –   ليتني كنت مريضا…بل ليتني مت قبل أن أرى هذه الهزيمة.

       ليحفظك الله يا بني…إنها مجرد غمامة لا تلبث أن تنقشع….هل تناولت فطورك؟

–    لم أتناول شيئا ولا شهية لي للطعام.

  أحضرت له زيتا وزعترا وخبزا، ووضعتها أمامه….لم يمد يده إلى الطعام، لكنه احتسى كأس شاي وانصرف فسألته العمّة صبرية:

إلى أين يا بني:

–         إلى جهنم الحمراء.

ليبعد الله الشرّ عنك يا بني…ودعك من الغضب فإنه يدمر الصحة، إذا أردت الذهاب لقضاء وقت مع أصدقائك فليحفظكم الله، لكن إياك أن تنام وحدك في البيت، فلا أحد يعلم ما يخبئ القدر، وعُد إلينا كي تنام عندنا….إسمع يا بني خذ رغيفين من الخبز معك…وكلما احتجت طعاما فصدر البيت لك….لا تستح يا بنيّ فأنت واحد منا.

فكر خليل قليلا وتناول رغيفي الخبز من عمّته صبرية وخرج باكيا حزينا بائسا، حسبته العمّة صبرية يبكي من وحدته، ولم تعلم أن كل واحد  يبكي على ليلاه.

 تمدد خليل تحت شجرة تين قرب البيت، توسّد حجرا…طوى يده اليمنى على عينيه وغفا…كوابيس كثيرة تلبسته…وصحا على صوت صديقه محمد العبد الذي جاء إليه…تعانقا باكيين وتحدثا عمّا جرى من هزيمة لم يتوقعها أحد، وعن مستقبل غدا في مهبّ الريح، واتفقا أن يذهبا يوم غد إلى القدس.

                                     **************

 

عاد محمد العبد ليخبر والديه بأنه سينام مع خليل، ولن يعود إلى البيت…طلبت منه والدته أن يحضر خليل معه إلى البيت، وأن لا يبقيا وحدهما، فالموت مع الجماعة فرج، ولما وجدته مصرا طلبت منه أن ينتظر حتى تعد لهما طعاما…أمسكت ديكين بلديين من قنّ الدجاج، وطلبت من محمد أن يذبحهما…وسرعان ما أعدتهما وجبة شهية….لفّت ما يعادل ربع ديك في رغيفي خبز”شراك” حصة لخليل، ووضعت الباقي أمام زوجها وأبنائها، فأكلوا حتى شبعوا واستأذن محمد بالإنصراف فسأله والده: إلى أين أنت ذاهب يا ولد؟

–         إلى بيت خالي أبي كامل لأنام مع إبنه خليل.

ومن في البيت غير خليل؟ ومتى عادوا من البيادر؟

–         لا أحد غير خليل.

هذا ولد مشاكس…إذهب إليه وعد به معك… وناما هنا…..فلا أحد يعلم ماذا يخبئ القدر.

–         لن يحضر يا أبي…وسأنام عنده ….فلا يوجد ما نخاف منه.

سكت أبو مصباح على مضض بينما مشى إبنه محمد باتجاه بيت أبي كامل، وهناك وجد “خليل” مستلقيا على ظهره…وضعا فرشتين متقابلتين، وشرعا يستعيدان أحلاما مضت، وطوتها حرب لم يتوقع نتائجها أحد، بينما كان خليل يأكل الطعام الذي أحضره له محمد….استعادا أيام الدراسة وكيف كانا يخططان للدراسة في الجامعة، فخليل كان يحلم بدراسة الإقتصاد في إحدى جامعات لندن على حساب صديقته ستيفاني، وهذا ما لا يعرفه أحد من أبناء عائلته أو قريته، في حين كان محمد يخطط لدراسة الطب في جامعة القاهرة، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.

 سأل محمد فجأة:

ما رأيك ياخليل لو أخذ كل واحد منا  من والده مئة دينار، وسافرنا إلى عمّان، ومن هناك التحقنا بجامعة القاهرة، فالنقود ستكفينا لمدة عام، وهي فترة كافية لزوال الإحتلال؟

–         وإذا لم تنسحب اسرائيل فكيف سنكمل تعليمنا؟ وأين سنعيش بقية حياتنا؟ هل سنعيش لاجئين مشتتين مشردين؟

لا…لا…أنا لم أقل ذلك، ولكنني لا أريد أن نخسر عاما دراسيا، والإحتلال لن يستمر حتى نهاية هذا العام.

–         هذه أمور لا يعلمها إلا الله، ففي عام النكبة هرب ناس من بيوتهم على أمل العودة إليها في بضعة أيام، وقد مرّ عليهم تسعة عشر عاما-حتى الآن- وهم يضعون مفاتيح بيوتهم في جيوبهم، ولم يتحقق حلمهم بالعودة.

خليل: إسمع يا محمد…الهروب من الوطن في هكذا زمن هو هروب من معركة، وهو هروب يصل إلى درجة الخيانة، فبلادنا ليست كبقية البلدان، ولا تنس أننا نعيش في القدس التي لا يعمر فيها ظالم، ولمن نترك المسجد الأقصى إذا هربت أنت وأنا وهو وهي؟ هذا قدرنا وقدر شعبنا، وسننتظر لنرى  كيف ستتطور الأمور، ولن نتخلى عن دَوْرِنا…

محمد: إذن ما العمل؟

خليل: تعليمنا لا يساوي شيئا أمام القدس وأقصاها وقيامتها.

محمد: وهل ستطير القدس من مكانها يا بني آدم إذا غادرناها؟

خليل: القدس مكانها وستبقى مكانها، لكن العار سيلاحق من يفرط بها.

محمد: ومن قال لك بأننا سنفرط بالقدس؟ نريد أن نتعلم فقط، وسنعود للقدس.

خليل: ومن سيضمن لنا العودة؟ ألم تسمع أنهم ينقلون المواطنين مجانا بباصاتهم، ويلقون بهم على الجسور ليغادروا إلى الضفة الشرقية، وإياك أن تحسبها إنسانية منهم، إنهم يريدون أرضا بلا شعب ليستوطنوها وليوسعوا حدود دولتهم، فهل سنساعدهم في ذلك؟

محمد: يا رجل أقول لك أننا سنتعلم وسنعود.

خليل: إذا غادرنا البلاد فلن يسمحوا لنا بالعودة، ولا خير في تعليم لا يستفيد منه الوطن والشعب…إسمع يا محمد: هذه أمور فوق طاقتنا…سننظر وسنراقب وسنرى إلى أين تتطور الأمور، وبناء على التطورات سنبني موقفنا…غدا سنذهب إلى القدس، وسنرى ماذا حلّ بها.

محمد: وكيف سنذهب إلى القدس؟

خليل: سنذهب بالباصات…ألم تشاهد الباصات تسير في الشارع العام؟

محمد: وما يدريك أن الباصات لا  يستعملها جنود الإحتلال؟

خليل: لو كانت اسرائيل تعتمد في نقل جنودها على سيارات الأراضي المحتلة لما انتصرت في الحرب….وجنودها يتنقلون بسيارات عسكرية يراها الأعمى والبصير.

محمد: وماذا سنعمل في القدس؟

خليل: أليست مدينتنا؟ نريد أن نرى ما حلّ بها في هذه الحرب الظالمة.

محمد: من يسمعك تقول مدينتنا يحسب أنها ملكك.

خليل: نعم إنها ملكي، وإذا لم يعجبك كلامي” بَلِّط البحر” وغدا سأذهب الى القدس، سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك…وتصبح على خير، فالساعة الآن الثانية صباحا …أريد أن أنام.

                      **********

 

  

 

استيقظ خليل مع شروق الشمس….خرج إلى المقثاة القريبة من البيت، جمع قليلا من الفقوس والبندورة والفجل، أكل أكثر من خمس فقوسات….عاد إلى البيت…أيقظ محمد غير أنه لم ينهض من فراشه….ردّ عليه بتثاقل…فالنعس بادٍ عليه….قال له خليل:

سأعد شايا…وإذا لم تنهض سأتركك وسأذهب إلى القدس وحدي.

نظر محمد إلى ساعته وقال: الساعة السادسة صباحا….هل أنت مجنون؟ القدس لا تفتح أبوابها في مثل هذه الساعة في الأوقات العادية، فما بالك في أيام الحرب؟ أم تريدنا أن نذهب ليقتلنا المحتلون دون أن يعلم بنا أحد؟

خليل: المحتلون يحلمون بك قال خليل ساخرا.

محمد: المحتلون سيخافون عندما يروني بصحبتك…

خليل: دعك من كثرة الكلام وانهض.

محمد: لا حول ولا قوة إلا بالله.

خليل: ليسخطك الله لكثرة حبّك للنوم.

محمد: يا بني آدم نمنا أقل من ثلاث ساعات.

خليل: والله مَنْ في رأسه عقل لا يستطيع النوم مطلقا بعدما  جرى لنا.

محمد: ما جرى لنا جرى على غيرنا، فالهزيمة لحقت بشعبنا وبأمتنا.

خليل: لكن أكثر المتضررين هم أبناء جيلنا من أبناء شعبنا.

محمد: سنذهب إلى القدس مع ما في ذلك من خطر.

خليل: حَسَنٌ أنك اقتنعت.

              استقلا أحد باصات بيت جالا-القدس، لم يكن في الباص أكثر من عشرة أشخاص مسنين، السائق سمعان حنّا يتكلم بصوت مرتفع شارحا أن الحرب لم تعد تعتمد على شجاعة الأفراد فقط، بل هي حرب تعتمد على التكنولوجيا وحكمة القيادة، فبكبسة زر من جندي ينطلق صاروخ يُدمر هدفا معاديا على بعد عشرات بل مئات الكيلومترات، لا يرى الجندي عدوّه ولا عدوّه يراه، والقيادات السياسية والعسكرية هي القادرة على اتخاذ قرار إشعال الحرب أو إيقافها، ومن المفترض أن تبني قراراتها على معلومات صحيحة بناء على قدرات جيوشها وجيوش أعدائها أيضا.

    أصغى خليل ومحمد لما قاله سائق الباص بانتباه شديد، واستمعا لتعقيب الرجل الوقور الذي يجلس خلفه، والذي بدوره أكد أن الحرب الآن حرب عقول، وأن زمن العنتريات قد ولّى، وعندما وصل الباص منطقة راس العامود المطل على القدس القديمة من جهتها الشرقية الجنوبية قال السائق:

أنظروا إلى حارة المغاربة لقد بدأوا بهدمها بشكل تام منذ اليوم الثاني للحرب، بدءا من الحائط الغربي للمسجد الأقصى-حائط البراق- فعشرات الجرافات تهدم وعشرات الشاحنات تحمل الطمم، بعد أن شردوا آلاف المواطنين القاطنين في البيوت التاريخية.  

     اشرأبت الأعناق باتجاه القدس القديمة، والدموع تدحرجت على الوجوه الشاخصة إلى المدينة، وعند موقف الباصات لفت الإنتباه وجود مدرعات يتمترس فوقها جنود أمام مغارة سليمان قرب باب العمود، في حين كانت الجرافات تهدم الجدار الحدودي الفاصل الذي يمتد من باب العمود باتجاه المصرارة، هذا الجدار الذي بُني بعد نكبة العام 1948 وحجز الباب الجديد المقابل لبناية النوتردام الشهيرة، إنهم يهدمون الحدود القائمة، الشوارع شبه خالية من المارة، عدد قليل من البشر يمرون في الشوارع، ودوريات الجنود الراجلة تتحرك في الشوارع شاهرة أسلحتها وتراقب المكان، عدد من محلات البقالة ومحلات بيع المواد الغذائية هي التي تفتح أبوابها على استحياء وخوف، والمارة غالبيتهم من كبار السّن جاؤوا ليتزودوا بمواد غذائية، الوجوم يخيم على الوجوه الملفعة بالحزن المكبوت، والمدينة بائسة وكأنها تفتقد أبناءها الذين كانوا يملأون طرقاتها وأسواقها وأزقتها ودور عبادتها.

   عند باب العامود يقف بائع كعك شاب محدودب الظهر…..ينفث دخان سيجارته ويركز نظره باتجاه ثلاثة جنود يقفون قبالته عند مدخل المدينة القديمة، اشترى محمد وخليل كعكتين مسمسمتين وحبتي فلافل، شرعا يأكلان في السوق وعند مفترق الطرق قررا السير باتجاه الواد في طريقهما إلى المسجد الأقصى، ليريا ما حلّ به، وعند مستشفى الهوسبيس مرّا بخمسة جنود يتمازحون ضاحكين على درجات المستشفى، يتضاحكون كأنهم في نزهة، لم يلتفت إليهم الجنود ولم يُمعنوا هم أيضا أنظارهم بالجنود….لكن الألم يعصر قلبيهما الصغيرين، وعند باب المجلس الإسلامي الأعلى اصطفت مدرعتان أمام مقر الجالية الإفريقية، وعلى مدخل الأقصى يقف ثلاثة جنود على كل جانب…لم يتكلموا هم أيضا.

دخل محمد وخليل باحات المسجد الأقصى فشعرا برهبة المكان، وفي الزاوية الشمالية كان جندي يبول…مرت من هناك عجوزان عربيتان….رفعت إحداهما صوتها تلعن القادة العرب، الذين فرطوا بالمسجد الأقصى…سمعهما الجندي فاستدار إليهما وهو يبول وسأل بلسان عربي مبين:

 أبو من تلعنّ أيتها العجائز؟

 فردت عليه إحداهما: نلعن أباك وآباء القادة العرب.

 طلب منهما أن تتوقفا، ولم تستجيبا له، فحاول اللحاق بهن إلا أن أحد زملائه الذي كان يحتسي الجعة أمسك به، وتكلم معه بلغة لم يفهمن منها شيئا، وكانت لهجته آمرة….تقوقع الجندي على نفسه، وعاد ليقف ضاحكا مع زملائه الجنود.

   توضأ خليل ومحمد في متوضأ المسجد العظيم، المكان هاديء إلا من هدير الجرافات والشاحنات عند الحائط الغربي…توقفا عند الباب الرئيس للمسجد، فوق الأقصى القديم مباشرة، الباب التاريخي محطم بلا رحمة…عدد من رجال الدين ورجال أنيقون يقفون داخل المسجد قرب الباب، وأحد الشيوخ يتكئ على عكازه ويقول: عدد من الدبابات والمدرعات دخلت المسجد في اليوم الثاني للحرب، وإحدى الدبابات لاحقت عددا من المواطنين هربوا إلى المسجد ليحتموا به، وأغلقوا الباب خلفهم…تقدمت الدبابة وحطمت الباب بماسورة مدفعها، ودخلت المسجد فدنسته، لكنها توقفت عندما رأى الجنود أن المكان مسجد، ولا يوجد في داخله سوى مئات من مدنيين، وبعد أن تصدى لهم عدد من النسوة صائحات ويرفعن قبضات أيديهن، تراجعت الدبابة بعد أن فرمت سجاد المسجد بجنازيرها، لقد مزقت السجاد الفارسي الفاخر الذي توقفت عليه…نظر خليل إلى الباب وبكى، فلم يبق من الباب سوى أعلى إطاره….دخلا إلى المسجد…صليّا ركعتين تحية المسجد وخرجا حزينين، صعدا الدرج الموصل إلى مسجد الصخرة المشرفة، نظرا إلى حارة المغاربة…لم تكن الرؤية واضحة من كثرة الغبار الذي يملأ الجوّ نتيجة لعمليات الهدم ونقل الطمم، لم يحتملا رؤية المنظر، فقررا العودة إلى بيوتهما مشيا على الأقدام…لم يسمح لهما الجنود بالخروج من باب المسجد الموصل إلى باب المغاربة، فعادا باتجاه باب الأسباط، ورأيا قبة مئذنة المسجد محطمة، وهناك شاهدا أربع دبابات تقف داخل المسجد الأقصى، خرجا من المسجد، وخرجا من باب الأسباط، حيث تقف هناك مدرعتان نصف جنزير، واحدة على يمين الباب والأخرى على يساره، تماما تحت الأسدين المنحوتين على طرف الباب العلوي….منظر يفتح جروحا دامية على ماضي أمّة كانت ماجدة، فأصبحت أسودها مجرد منحوتات تقف على مدخل المدينة المقدسة تنظر غزاتها…. استدارا على يمينهما ودخلا الطريق التي تشق مقبرة باب الرحمة…رأيا قبورا ترابها أخضر وتقف على شواهدها أغصان نخيل تكبو…واصلا المسير إلى عين سلوان التحتا….وهناك قررا الإستحمام بمياه العين، إلا أن عددا من النساء كن يغسلن الملابس في مدخل العين حال دون تحقيق مرادهما فانصرفا خائبين، وعند حيّ البستان تسلقا تينة وأكلا من حبات”الدافور” الشهية…العجوز التي تجلس ساندة ظهرها إلى ساق الشجرة رحبت بهما قائلة:

أهلا وسهلا بكما يا أبنائي….كلوا صحتين وعافية…

وعندما قدم لها خليل بعض حبّات من التين قالت: الله يرضى عليك يا إبني، لا أريدها فنفسي عافت التين وغيره بعد فراق الأحباب الذين ما عدت أعرف شيئا عن مصيرهم، أو عن المكان الذي استقروا فيه، جلس خليل بجانبها وما عادت له شهية للتين…وعندما نزل محمد عن الشجرة سألها:

  هل تبيعيننا ضُمّة سلق يا خالة؟

فأجابت: خذ ما شئت يا بني بدون مقابل، خذا قدر ما تستطيعان حمله، فلم يعد من يأكله أو يبيعه أو يشتريه…يا حسرتي على التي زرعته ولم تذق له طعما…لا حول ولا قوة إلا بالله يا بني.

قصّ خليل ملء شوال كانت تجلس عليه العجوز وأعطته له، فقال له خليل: يا إلهي كم أنت طماع!

فرد محمد: نأخذ حاجتنا ونوزع الباقي على الجيران.

فقالت العجوز: الله يرضى عليك خذ ما شئت يا بنيّ…صحتين وعافية.

       شكرا المرأة العجوز واستأذنا منها للإنصراف، ومشيا عائدين إلى بيتيهما، وعند مقبرة البلدة كانت الحاجة نوارة أرملة المرحوم عليان محمد تبكي زوجها، فقد دفنه أبناؤهما ثاني أيام الحرب دون أن تتمكن من وداعه، أو المشاركة في تشييعه، ولا حتى معرفة قبره، وصباح هذا اليوم وبعد مرور أسبوعين على نشوب الحرب، طلبت من إبنها محمد أن يرافقها إلى المقبرة لتتعرف على قبر زوجها، ولتقرأ الفاتحة عن روحه، وعندما مازحها إبنها قائلا:

يبدو أنك مشتاقة للمرحوم يا أمّي.

 أجابت: الله يرحمه….كان رجلا قاسيا لا يرحم نفسه ولا يرحم غيره…لكنها (عِشْرَةُ عُمْرٍ) يا ولدي، لقد عشت معه أربعين عاما بحلوها ومرّها، و”لا ينكر العِشرَةّ إلا إبن الحرام”.

      عندما دخلت وابنها حمى المقبرة مدّ يديه وقال:

“السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، نسأل الله لكم الرحمة، وأن يوسع لكم في قبوركم، وأن يبدلكم أهلا خيرا من أهلكم، وأن ينقيكم من ذنوبكم كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس”

 ومشى مع والدته حتى قبر أبيه، أراها القبر واستأذنها ليواصل طريقه مشيا على قدميه إلى القدس، كي يشتري تموينا للبيت.

           التفت محمد وخليل إلى الحاجة نوارة….طرحا عليها السلام….فاستوقفتهما وسألت”محمد”:

ماذا تحمل في هذا الشوال يا محمد؟

محمد:سِلق.

– من أين أتيت به؟

–  من سلوان…أعطتني إياه إمرأة بعمرك.

–  إنه كثير يا بني…هل تعطيني”طبخة” منه؟

–   تفضلي يا حاجّة…خذي ما تريدين.

    مدت يديها ووضعت في حجرها أكثر من ثلاثة كيلوجرام وهي تقول:

الله يرضى عليكم، فمن بعد موسم الخبيزة في الربيع لم أذق طعم الخَضَار، مع أنه أشهى المأمولات عندي.

        التفت محمد إلى خليل وقال: أرأيت؟  كنت لا تريدني أن أحضر هذه الكمية…لم يجبه خليل، وواصلا المسير إلى بيت أبي مصباح والد محمد، وزوج صبرية عمّة خليل.

     فرحت أمّ مصباح بالسلق الذي أحضره محمد وخليل، وشرعت في إعداد وجبة طعام منه…بينما جلس محمد وخليل تحت شجرة التوت أمام البيت، وقبل الإنتهاء من إعداد وجبة الطعام رأى خليل والده يصل إلى بيتهم، فاستأذن كي يعود إلى البيت، لأن والده سيفتقده، وسيقلق عليه عندما لا يجده..إلا أن محمدا استنجد بوالدته كي تمنع “خليل” من الإنصراف قبل أن يتناول طعامه، فحسمت الوالدة الأمر عندما قالت لإبنها محمد:

اسمع يا محمد…إذهب سريعا لبيت خالك أبي كامل، وقل له: خليل موجود عندنا ووالدتي تريدك لأمر هام.

   وعندما وصل محمد بيت خاله وأخبره رسالة والدته، إرتعش أبو كامل وسأل:

هل حصل مكروه لخليل يا ولد؟

–         لا ..يا عمّي خليل في بيتنا وبألف خير.

–         ولماذا لم يحضر معك؟

–         لأن والدتي تطبخ السّلق الذي أحضرناه من سلوان وتريده أن يأكل وإياك منه.

–         هل أنت متأكد يا ولد؟

–         نعم يا خال…أنظر أمام البيت تحت شجرة التوت…الشخص الجالس هناك هو خليل.

امتطى أبو كامل البغل…أردف “محمد” خلفه وسار باتجاه بيت أبي مصباح، وعندما وصل ورأى خليل تحت شجرة التوت، بدأ يوبخه بألفاظ نابية، لم ينقذه منها سوى خروج عمّته صبرية وزوجها من داخل المنزل، فاستقبلا أبا كامل بالقُبل.

هذا ولد يعمل ما في رأسه دائما ولا يستمع للآخرين، قالها أبو كامل وهو يشير إلى خليل، فردت عليه أمّ مصباح قائلة:

أي والله الأستاذ خليل من خيرة الشباب يا أبا كامل، نسأل الله أن يرزقنا عشرة أبناء مثله، وأضافت:

   أهلا وسهلا يا أبا كامل…إشتقنا لكم…كيف نساؤك وأبناؤك؟

–         الحمد بألف خير.

–         متى ستعودون من البريّة؟

–         بعد حوالي أسبوع…سننتهي من البيادر وسنعود، إنتهينا من بيدري القمح والعدس، وبقي بيدر الشعير.

أبو مصباح: وهل المحصول جيد؟

أبو كامل: الحمد لله …جمعنا ستين شوال قمح وخمسة عشر شوال عدس، وملأنا المغارة تبنا للدواب والغنم، عدا ما أكلته الأغنام.

أمّ مصباح: خير الله كثير لو أنّه نجّانا من هذا السخط.

محمد: أيّ سخط يا أمّي.

أمّ مصباح: سخط الإحتلال يا ولد.

خليل : السخط من ربنا يا عمّتي…والهزيمة من صنع البشر.

أبو كامل: كلّه من ربنا يا ولد.

 خليل: الله بريء مما يفعله القادة العرب.

أمّ مصباح: “الطبخة” نضجت يا جماعة….والطعام جاهز.

 أبو مصباح: أحضريه هنا تحت شجرة التوت…إلتفت إلى محمد وقال:

إذهب وساعد أمّك يا ولد.

عندما رأى أبو كامل السلق سأل: مِن أين لكم هذا السلق …إنها وجبة لذيذة؟

أمّ مصباح: أحضره محمد وخليل من سلوان.

أبو كامل: متى ذهبا إلى سلوان؟ ولماذا ذهبا هناك في ظروف الحرب هذه؟

أمّ مصباح: عادا قبل أن تصل أنت بدقائق معدودة، لقد ذهبا إلى القدس أيضا، وعادا منها.

أبو كامل: هل تمزحين؟

أم مصباح: لا أمزح…ولا أقول إلا الصدق.

إلتفت أبو كامل إلى إبنه خليل وسأل: هل صحيح ما تقوله عمّتك يا ولد؟

خليل: نعم صحيح.

أبو كامل: هل أنت مجنون يا ولد؟ وماذا يوجد لك في القدس؟ ولماذا ذهبت إليها؟

خليل: القدس كلها لي وذهبت لأطمئن عليها.

أبو كامل يضرب كفا بكف ويسأل: وماذا رأيتما في القدس؟

خليل: رأينا المدينة عابسة يخيم عليها الحزن، ورأينا عجائز عرب تائهين…ورأينا جنودا في الشوارع والأسواق، ورأينا جنديا يبول في باحة الأقصى، وآخر يشرب الخمور فيه، ورأينا باب الأقصى الرئيس محطما، ورأينا جرافات تهدم حارة المغاربة.

أبو مصباح: وماذا قال لكما الجنود؟

خليل: لم يقولوا شيئا، ولم يسألونا عن شيء.

أبو مصباح: وماذا رأيتم أيضا؟

عدنا مشيا على الأقدام، ومررنا بسلوان…أكلنا تينا وأعطتنا امرأة عجوز السّلق الذي تأكلونه الآن.

محمد: وعند المقبرة رأينا الحاجة نوارة تبكي على قبر زوجها، وعندما رأتنا طلبت منّا “طبخة”سلق وأعطيناها.

أبو كامل: إسمعوا يا أولاد…المثل يقول:”عند مخالفة الدول خبّي راسك” ولا أريد المشاكل لكم، فإسرائيل وراءها أمريكا والدول الكبرى، وقد رأيتم كيف هزمت الجيوش العربية بدون حرب، ولا أريدكم أن تكونوا كثيري الحركة حتى تستتب الأمور، وتهدأ الأوضاع، ويفرجها ربنا علينا.

خليل: وكيف سيفرجها ربنا علينا؟

أبو كامل: سبحان علام الغيوب.

خليل: لكننا أصبحنا تحت إحتلال…ولم نعد قادرين على الإلتحاق بالجامعات العربية للدراسة، ولا ندري متى سينتهي هذا الإحتلال.

أبو مصباح: الإحتلال سيزول قبل نهاية هذا العام.

خليل: كيف سيزول؟

أبو مصباح: ألم تسمعوا ما يردده جمال عبد الناصر بأن ما أُخِذَ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة؟

خليل: سمعنا….لكنني لم أعد أثق بأي زعيم عربي.

أبو كامل: جهز نفسك يا خليل كي تذهب معي إلى بيادر البرية.

خليل: ماذا سأفعل في البرية يا أبي؟ فأنا لا أقوى على هكذا عمل…أتركني كي أحرس الدار…

أبو كامل: ومن سيضمن لي بأنك ستبقى في الدار؟ وإذا ما خرجت إلى مكان آخر وقتلوك أو اعتقلوك ماذا أستطيع أن أفعل عندها؟ لا توقعنا في مشاكل -نحن في غنى عنها- يا ولد، وقم حتى نعود إلى البيادر.

خليل: هداك الله يا أبي…الله هو الضامن….توكل على الله…وأنا لست أفضل من بقية الناس الموجودين في بيوتهم.

صبرية: أترك خليل يا أبا كامل في الدار وأنا سأرعاه في غيابكم.

أبو كامل: لا حول ولا قوة إلا بالله….إسمحوا لي ….سآخذ بعض الأغراض من البيت وسأعود قبل الغروب إلى البيادر.

                      **************

عاد خليل إلى دارهم، وتمدد على فراشه ….في المساء جاءه محمد…أخذا يتكلمان في أمور عدة…تكلما في الدراسة، وتساءلا عن مصير البلاد والعباد في هذه المرحلة الحرجة، وهل ستحدث حروب أخرى أم ماذا؟ ولماذا لم تحارب الجيوش العربية؟ وكيف استطاعت إسرائيل إحتلال كل هذه المناطق بهذه السرعة الفائقة؟

 وفي الصباح وجد محمد ورقة عليها حجر صغير على عتبة الباب الخارجية….رفعها وقرأ ….إنها بيان من الأحزاب السياسية تعلن عن تشكيل جبهة وطنية من كافة الأحزاب والقوى السياسية لمقاومة الإحتلال حتى إجباره على الإنسحاب، وجاء في البيان الموقع من حزب البعث العربي الإشتراكي، وحركة القوميين العرب، والحزب الشيوعي الأردني أن إسرائيل المدعومة من أمريكا والدول الإمبريالية قد فشلت في عدوانها، ولم تنتصر في هذه الحرب لأنها لم تستطع إسقاط النظامين التقدميين في مصر وسوريا، ولم تستطع هدم الكيان الأردني…وأن ما جرى في هذه الحرب هو نكسة لن تقبل بها الشعوب العربية، وسننتصر حتما بدعم حليف الشعوب المناضلة الإتحاد السوفييتي العظيم الذي سيعيد تسليح الجيوش العربية، لتخوض حرب التحرير القادمة لا محالة.

ودعا البيان الجماهير إلى الصمود في بيوتهم وأرضهم لتفويت الفرصة على الغزاة الذين يريدون تفريغ الأرض من سكانها ليستوطنوها.

  حمل محمد وخليل البيان وذهبا به إلى الأستاذ داود، كان صوت خليل حييّا متهدجا وهو يقدم البيان إلى الأستاذ داود ويسأل:

هل رأيت هذا يا أستاذ؟

أمسك الأستاذ داود البيان….ألقى عليه نظرة خاطفة وطلب منهما الدخول إلى صالون البيت…وهناك سألهما:

ماذا تقولان بما جاء في هذا البيان؟

محمد: ممتاز.

خليل: لم أفهم حقيقة ما جاء فيه، فكيف انتصرنا في هذه الحرب وبلادنا وقعت تحت الإحتلال؟

الأستاذ داود: نعم…. إنتصرنا لأن اسرائيل لم تحقق أهدافها من هذه الحرب؟

وفي هذه الأثناء دخل الأستاذ فؤاد….استقبله الأستاذ داود بالأحضان…بينما هو احتضن خليل ومحمد….جلس ولم يتكلم….فاستأنف الأستاذ داود الحديث مخاطبا فؤاد: الشباب يا فؤاد أحضرا هذا البيان ونحن نتناقش فيما ورد فيه، ويبدو أن خليل غير مقتنع بأننا انتصرنا في الحرب…فقطع فؤاد حديثه وقال:

وأنا أيضا غير مقتنع بأننا انتصرنا….وغير مقتنع بتبرير الهزيمة، وإذا ما أردنا الخروج من الهزيمة فيجب علينا البحث في الأسباب التي أدّت إليها.

الأستاذ داود: يا جماعة…الحرب معركة سياسية عنيفة….الحروب لا تندلع من أجل القتل والتدمير….بل من أجل تحقيق هدف سياسي، وإسرائيل لم تحقق أهدافها السياسية.

فؤاد: وكيف لم تحقق أهدافها التوسعية بعد إحتلالها لما تبقى من فلسطين إضافة إلى مرتفعات الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية؟

داود: إسرائيل لا تسعى إلى التوسع، وقد سيطرت في حرب العام 1948على أجزاء كبيرة من الأراضي التي خصصها قرار التقسيم لإقامة الدولة الفلسطينية، وقامت على مساحة تزيد عن 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وهي تريد الضغط من أجل الإعتراف بها كدولة، وتريد إنهاء المقاطعة العربية لها، وهدفها الأول من الحرب هو إسقاط الأنظمة التقدمية في مصر وسوريا، وهدم الكيان الأردني.

فؤاد: وهل بقاء نظام عبد الناصر في مصر ونظام الأتاسي في سوريا نصر، وضياع الوطن وتشريد الشعب نصر؟

داود: الأرض مكانها يا أخوان…وإسرائيل لن تستقر فيها، وخلال أيام سيصدر قرار من مجلس الأمن الدولي سيجبرها على الإنسحاب، وأعتقد أنكم تابعتم الأخبار، وسمعتم كيف أن الدول الإشتراكية والإفريقية ودول عدم الإنحياز قد قطعت علاقاتها مع إسرائيل، وأعلنت تضامنها مع الدول العربية.

فؤاد: ولكن الدول العربية غير متضامنة مع نفسها.

داود: هذا كلام غير صحيح…فالجزائر أرسلت طائراتها وطياريها إلى المطارات المصرية، وهي على استعداد لإرسال جيشها إلى جبهات القتال، والعراق أرسل قواته الضاربة إلى الجبهة الأردنية، وعشرات آلاف الجنود العراقيين يرابطون في الأردن الآن، والدول العربية الأخرى أعلنت أنها تضع كافة قدراتها العسكرية والإقتصادية تحت تصرف القيادة العربية المشتركة، وعبد الناصر سحب قواته من اليمن ووضعها على الجبهة، والإتحاد السوفييتي أعلن بأنه سيعوض الدول العربية عن جميع الأسلحة التي خسرتها في الحرب.

فؤاد: الإعلان شيء والعمل شيء آخر….وعلينا الإعتراف بأن أمّتنا هزمت في هذه الحرب…وعلى دولنا أن تبحث عن أسباب الهزيمة وعن كيفية الخروج منها.

داود: إنها نكسة كما قال زعيم الأمة جمال عبد الناصر، وليست هزيمة، والمقتنع بأنها هزيمة إنسان مهزوم من داخله، وهذه أبشع أنواع الهزائم.

فؤاد: وعدم الإعتراف بالهزيمة حالة مرضية يصعب شفاؤها، وبالتالي سنبقى مهزومين إلى ما شاء الله.

 خليل: ما المقصود بالكيان الأردني كما جاء في البيان؟

داود: المقصود الأردن كدولة.

محمد: لكن الأردن دولة بحرب وبدون حرب، وهي عضو في الأمم المتحدة، وفي الجامعة العربية، وفي مجموعة دول عدم الانحياز، ولن تستطيع إسرائيل أو غيرها تجاهل ذلك.

فؤاد: سلخ الضفة الغربية عن الدولة الأردنية يعني هدم الدولة، وأطماع اسرائيل التوسعية تصل الضفة الشرقية لنهر الأردن وتتعداها، فهم يؤمنون بأن حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل.

خليل: أرى أن ما يقوله الأستاذ فؤاد أقرب إلى الصحيح مما جاء في بيان الأحزاب…

داود: بعد القرار الذي اتخذه الكنيست الإسرائيلي بضم القدس المحتلة إلى إسرائيل، هناك دعوة إلى الإضراب، وستخرج بعد صلاة الجمعة مظاهرة من المسجد الأقصى.

خليل: ماذا يعني قرار الضم؟

فؤاد: قرار الضم يعني أن اسرائيل تعتبر القدس المحتلة جزءا منها، وستطبق القوانين الإسرائيلية عليها، وهذا يعني أنها لا تعتبرها أراضي محتلة.

 محمد: إذا لم تعد تعتبرها أراضي محتلة، فماذا ستعتبرها؟

خليل: تعتبرها أراضي محررة.

محمد: من كان يحتلها؟

خليل: إسرائيل كانت تعتبر القدس محتلة من قبل العرب، وقد حررتها منهم في هذه الحرب.

محمد: وماذا فعلت الدول العربية؟

داود: لجأوا الى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار دولي يدين قرار الكنيست الإسرائيلي، ويعتبره قرارا باطلا.

خليل: وماذا سيفيد القرار الدولي في حال صدوره؟

فؤاد: عندما يتفق مجلس الأمن الدولي على قرار يطالب إسرائيل بالإنسحاب من الأراضي التي احتلتها في هذه الحرب، بعدها سيطالب إسرائيل بإلغاء قرارها بخصوص القدس.

داود: سوف يصدر قرار من مجلس الأمن، وستُجبر إسرائيل على الإنسحاب كما أجبرت على الإنسحاب من قطاع غزة وسيناء في آذار 1957، بعد العدوان الثلاثي على مصر، وبعد أن ضرب الزعيم السوفييتي منصة الأمم المتحدة بحذائه، أتذكر يا فؤاد ذلك اليوم؟ فقبل الإنسحاب بيوم أعلن دافيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل ضم قطاع غزة وسيناء إلى إسرائيل، وفي اليوم التالي أعلن الإنسحاب من على نفس المنصة وهو يبكي.

فؤاد: ألم تسمع ما قاله عبد الناصر بأن”ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة؟

خليل: شاهدنا قوة عبد الناصر وقوة غيره…ولم نشاهد أيّ فعل لصواريخ القاهر والظافر.

داود: البترول يشكل أكسيد الحياة بالنسبة للعالم، خصوصا الدول الصناعية، وإذا لم تُجبر اسرائيل على الإنسحاب خلال أشهر معدودة، فإن الدول العربية النفطية ستوقف إنتاج البترول، وستوقع أمريكا وأروبا في أزمة وقود خانقة.

فؤاد: ومن قال لك بأن البترول العربيَّ عربيٌّ؟

داود: يبدو الجدل معك سفسطائيا لا جدوى منه، إذا أصبحت لا ترى البترول العربيَّ عربيا.

فؤاد: البترول العربي تتحكم فيه الشركات الأجنبية، وفي مقدمتها الشركات الأمريكية والبريطانية، والدول العربية لا تتحكم في شيء منه، ولا تستفيد منه إلا نزرا يسيرا فقط، والطائرات والدبابات والدروع الإسرائيلية التي احتلتنا تسير بالوقود العربي.

داود: هذا كلام هراء….ويبدو أنك لم تستوعب المرحلة الجديدة.

فؤاد: الأيام بيننا وسنرى ما الصحيح.

                     *****************

 استيقظ الناس مبكرين على صوت مكبرات تنطلق من سيارات عسكرية تدعو المواطنين إلى التزام بيوتهم، فالمنطقة تخضع لمنع التجول بقرار عسكري، وكل من يخالف سيتعرض للعقوبات، ذعر عدد من المواطنين فهربوا من بيوتهم إلى البراري مرة أخرى، خليل ومحمد ابن عمته صبرية ينامان في بيت أبي كامل، سمعا نداء منع التجول….رأوا عددا من الأسر تحمل أطفالها وتهرب مذعورة، سمعا أبا سالم يقول: سترك يا ربّ…ما هذا الصباح؟ يا أمّ سالم إلحقوني بسرعة فائقة…إمتطى البغل واضعا أحد أحفاده أمامه وآخر خلفه…وسار هاربا باتجاه الشرق…وأم سالم تصيح خلفه طالبة منه أن يحمل الطحين والأرز معه، إلا أنه لم يلتفت إليها فلحقت به هي وأبناؤها وكنتها.

تشاور خليل ومحمد في الأمر فقال خليل:

سنلتزم بيوتنا ولن نخرج منها….فأين المفر؟

محمد: دعنا نذهب إلى بيتنا، فالموت مع الجماعة فرج، وإذا ما انفردوا بنا في هذا البيت سيقتلوننا دون أن يعلم بنا أحد.

خليل: يقتلوننا…لماذا؟

محمد: لا نعرف كيف يفكرون.

خليل: عرفنا أم لم نعرف ماذا يفيد ذلك؟ وإذا أرادوا قتلنا سيقتلوننا في بيوتنا أو خارجها في البراري أو غيرها…فمن سيمنعهم؟

محمد: ما العمل؟

خليل: سنبقى في البيت وسنرى ما سبب منع التجول؟

محمد: أخشى ما أخشاه أن يكونوا قد تعرضوا لهجوم من أحد….وسينتقمون من أهالي البلدة.

خليل:  لن أخرج من البيت مهما كانت الأسباب، وإذا أردت العودة إلى بيتكم فالطريق أمامك مفتوح.

محمد: وأنت …ألا تريد الذهاب معي؟

خليل: لا لن أذهب معك.

محمد: لماذا هذا العناد؟

خليل: ليس عنادا ….فهل بيتكم محصن، أو محمي بطاقية الخفاء.

محمد: دعك من هذا الكلام الفارغ، فإذا لم تذهب معي إلى بيتنا فسأبقى معك، ونسأل الله أن يفرج الكرب.

وبينما هم يتناقشون، سمعوا هدير محرك سيارة تقف خلف البيت…نظر خليل من نافذة الغرفة، فرأى عشرات الشباب والصبايا ينزلون من باص، ويتوزعون على البيوت،…ملامحهم عربية، ويتحدثون العربية، اقتربت صبية من باب البيت وقالت: يا ساتر.

فتح خليل الباب أمامها وقال: نعم…من أنتِ وماذا تريدين؟

–         أنا عربية مثلكم، ونحن مكلفون بإجراء إحصاء لسكان هذه القرية الذين يتواجدون في بيوتهم.

 خليل: إحصاء لصالح من؟

–         لصالح وزارة الداخلية الإسرائيلية.

   خليل: ولماذا يريدون هذا الإحصاء؟ وماذا يفيد؟

–         قانون الدولة يلزم كل شخص أن يحمل بطاقة هوية للتعريف بنفسه، أمام رجال الأمن، وفي الدوائر الرسمية.

    خليل: والذي لا يريد أن يحمل بطاقة هوية ماذا سيحصل له؟

–         سيعتبرونه متسللا وسيسجنونه وسيبعدونه خلف الحدود.

    خليل: اللعنة على هذه الورطة….تفضلي.

–         أين بقية أفراد أسرتك؟ أين أمّك وأبوك وإخوتك وأخواتك؟

خليل: عند البيادر في البرية.

   –    إذن أعطني أسماءهم بدءا بأبيك وأمّك…ثمّ الأبناء والبنات حسب العمر وتاريخ   

        ميلاد كل واحد منهم….التعليمات لدينا أن لا أسجل سوى الموجودين الذين أراهم بعينيّ…لكنني  سأساعدكم وأرجوك أن تصدقني القول، فلا تعطيني أسماء من رحلوا إلى الضفة الشرقية.

شرع خليل يسرد لها أسماء العائلة بدءا بالوالدين، وبزوجة الأب أيضا….والصبية تكتب، وعندما انتهت أعطته ورقة بالعبرية وعليها بعض الكلمات العربية وقالت: على أبيك وأمّك وزوجة أبيك، وإخوتك وأخواتك الذين تزيد أعمارهم عن ستة عشر عاما، أن يتوجهوا بهذه الورقة إلى فرع وزارة الداخلية الذي افتتح في شارع إبن بطوطة، مصطحبين هذه الورقة- التي عليك أن تحافظ عليها جيدا- وصورتين لكل واحد منهم حتى يحصلوا على بطاقات هوية، خلال شهر من تاريخه.

خليل: ومن هم دون السادسة عشرة ماذا بالنسبة لهم؟

–         سيسجلون في بطاقة هوية الوالدين، وكل من يصل السادسة عشرة سيحصل على بطاقة هوية ذكرا كان أم أنثى، هكذا هي القوانين…وتذكر جيدا أيها الفتى، وإياك أن تكون نسيت أحدا من أفراد أسرتك.

أشار خليل إلى محمد وقال: هذا ابن عمتّي ماذا بالنسبة له؟

–         أين والداه وإخواته وإخوانه؟

خليل: في بيتهم…ذلك البيت ألا ترينه؟

–         نعم أراه…لكن هل أنت متأكد أنهم لم يرحلوا إلى عمان؟

خليل: نعم أنا متأكد…فبالأمس مساء كنا عندهم.

–         إذا سأحصيه منفردا….فمن يعلم؟ فربما الموظف الذي سيذهب إلى بيتهم لن يسجل أيّ شخص لا يراه بعينيه حسب التعليمات.

  خليل: أريد أن أسأل عن السبب الذي دعا دوريات الجيش إلى فرض منع التجول إن كنت تعلمين؟

–         السبب هو الإحصاء…إنهم يخافون أن يدخل القرية آخرون من خارجها.

خليل: وماذا بالنسبة لمن هربوا من بيوتهم؟ لقد شاهدت عشرات الأُسَرِ تترك بيوتها وتهرب عندما سمعوا بمنع التجول.

–         ولماذا هربوا؟

خليل: إنهم خائفون من ويلات الحرب، وخائفون مما يخبئه القدر لهم.

    ارتسمت علامات حزن وأسى على وجه الصبية وقالت: يا حرام.

خليل: حرام على ماذا؟

–         أخشى ما أخشاه أن يعتبروهم غائبين، وسيعانون من ذلك كثيرا…إذا لم

يطردوهم خارج الحدود مثلما فعلوا بنا عام النكبة.

خليل: لا حول ولا قوة إلا بالله.

     –  اسمحوا لي سأذهب لإحصاء بيت آخر.

        بعد أن انصرفت الفتاة نظر خليل إلى محمد وقال:

       يبدو أنها بنت حلال.

    محمد:  هؤلاء بقوا في ديارهم وذاقوا الأمرّين ويعرفون قوانين إسرائيل.

   خليل: المشكلة فيمن هربوا من بيوتهم هذا اليوم…ماذا سيحلّ بهم؟

   محمد: لم يعد يعرف الشخص رأسه من رجليه….لكنهم حسب ما قالته فتاة الإحصاء سيواجهون مشاكل.

 خليل: أقترح أن نلحق بهم ….ونخبرهم بحقيقة الأمر، ونحثهم على العودة إلى بيوتهم ليتم إحصاؤهم.

محمد: لكن الجيش يُطوق المنطقة، ولا يسمح بدخولها لأي شخص.

خليل: دعنا نذهب إلى بيتكم لنتشاور مع والديك.

محمد: فكرة جيّدة…هيّا بنا.

 شرح خليل لعمته صبرية وزوجها عن الإحصاء، وأن منع التجول من أجل الإحصاء فقط، وأن من لم يسجل من قبل عاملي الإحصاء هذا اليوم سيعتبر متسللا…وربما سيبعدونه خلف الحدود…كما سمعا من فتاة الإحصاء الطيبة التي أحصتهم …وكيف قبلت بتسجيل والديه وإخوانه خلافا للتعليمات الصادرة إليها.

فسأل أبو مصباح: وما العمل؟

خليل: أقترح أن أذهب بالسرعة الممكنة أنا ومحمد إلى الشيخ سعد وأمّ عراق ونخبر من غادروا بضرورة العودة السريعة للإحصاء.

أمّ مصباح: لا…أنا سأذهب فالجنود لن يعترضوا إمرأة في مثل عمري.

أبو مصباح: دعيك من هذا الكلام…فابن أخيك غلبته كثيرة، ويتدخل في أمور لا تعنيه.

كظم خليل غيظه وسكت….وما لبث بأن استأذن للعودة إلى بيته….لحق به محمد…اتفقا أن يذهبا في اليوم التالي إلى القدس الغربية….سيدخلان من مدخل”قصر المندوب السامي” الذي يستعمل الآن مقرا رئيسا للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، فإن كانت الطريق مفتوحة فإنهما سيواصلان الطريق في محاولة منهم لاكتشاف الأماكن التي تقع خلف الحدود.

في الصباح استيقظا مبكرين….هذا الصباح استيقظ محمد مع شروق الشمس…لم يتحرك من فراشه خوفا من أن يُزعج”خليل”، إلا أن الصحيح هو العكس فقد استيقظ خليل قبله…وعندما غادر خليل فراشه بهدوء سأله خليل:

إلى أين؟

محمد: حسبتك نائما فأردت أن أتمشى بجانب البيت.

إبتسم خليل وقال مازحا: يبدوا أنه لا تزال فيك بقايا خير.

                       **********************

 في الثامنة صباحا مشى محمد وخليل باتجاه قمة الجبل في طريقهما إلى مدخل قصر المندوب السامي، وفي نيتهما التوجه غربا…وإذا بسيارة –ترفع علم الصليب الأحمر- تقف بجانبهما، وسأل شخص من داخلها يرتدي مريولا أبيض:

 أين الخنادق الأمامية التي حارب فيها الجيش الأردني وسقط منه شهداء؟

إنتفض محمد وسأل: من أنتم؟ فالتفت إليه خليل نظرة عتاب وأجاب:

مرحبا يا دكاترة…أهلا بكم…يا محمد: هذا الدكتور صبحي والآخر الدكتور أمين، أما الآخرون فلا أعرفهم.

 إبتسم الدكتور صبحي وقال: أهلا بك أيها الفتى…لقد جئنا لنجمع رفات شهداء الجيش لندفنهم في قبر جماعي وبطريقة تليق بهم، فهم الأكرم منا جميعنا.

خليل: إتبعوني…لقد حاول عدد من رجالات القرية دفن الشهداء عندما توقف إطلاق النيران، لكن جيش الإحتلال منعهم من ذلك بقوة السلاح…كنت معهم…وشاهدت عددا من جنود الإحتلال يهدمون الخنادق على جثث الشهداء، واقتاد الجنود أربعة رجال إلى داخل سياج قصر المندوب السامي، حيث كانت جثامين أربعة شهداء ممدة في منطقة صخرية، لم يسمحوا لهم بأخذ الجثامين ودفنها، بل طلبوا منهم أن يحضروا ترابا ويلقوه فوق الجثامين…هذا ما سمعته من أحدهم، وفي اليوم الثاني خرجوا مع خمسة شباب لإحضار الجثامين من خلال عمل فتحة في السياج فلحقت بهم… لقد رأيت مكانهم من مسافة تقل عن عشرة أمتار، إلا أن دورية عسكرية اكتشفت أمرنا، وطاردونا…فعدنا إلى بيوتنا نبكي شهداءنا وعجزنا وخيبات أمتنا.

د.صبحي: لا تحزن أيها الفتى…لقد استصدر لنا الصليب الأحمر تصريحا لتجميع جثامين الشهداء ودفنها.

خليل: هذا أمر عظيم….سنساعدكم…وإذا احتجتم إلى مساعدات أخرى سأعود الى القرية، وسأدعو عددا من الرجال المتواجدين.

د.صبحي: بوركت أيها الفتى…معنا متطوعون.

خليل: دعونا نبدأ بالجثامين الموجودة داخل السياج…هيا بنا.

ساروا خلفه…وتحت شجر السرو في الجهة الشرقية من قمة الجبل كانت أربعة جثامين…عليها قليل من التراب…. وقف الوفد في منطقة وسط بين الجثامين وقال الدكتور صبحي بصوت مسموع:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أشرف الرجال…يا نبلاء الأمة…أنتم السابقون ونحن اللاحقون ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم…نسأل الله أن يتقبلكم شهداء، ولا نزكي عند الله أحدا، ودعا لهم بصمت، وكان الآخرون يبكون بحرقة وبانكسار…فقال الدكتور:

الأحياء عند ربهم يرزقون لا يحبون البكاء…والبكاء ليس على مثل هؤلاء الأبرار…البكاء على الأحياء…والوقت الآن ليس وقت بكاء ونواح…دعونا نكمل عملنا.

     تقدم  الأطباء….رشّوا مادة بيضاء على الأجزاء الظاهرة من الجثث التي كانت شبه متحللة…الفريق جميعه يبكي شبابا ارتقوا إلى قمة المجد في معركة خاسرة…كل جثمان يوضع في كيس بلاستيكي أسود بلباسه العسكري بعد تفتيش جيوبه بحثا عمّا يثبت هويته…الدكتور صبحي يسجل اسم الشهيد ورقمه العسكري على ورقة…يلفها بالبلاستيك ويضعها مع الجثمان، ويسجل تفاصيله في أوراق أخرى خاصة، ويضع ما يوجد في جيوبه من أوراق وقروش قليلة، وساعة يده -إن وُجدت- في كيس خاص، من أجل إعادتها إلى ذويه في الوقت الممكن….الدكتور صبحي يتظاهر بالشدة وقوة البأس، لكن ملامح وجهه خانته، فقد بدا متجهم الوجه كعجوز ثمانيني هدته السنون، مع أنه في أواخر الثلاثينات من عمره…

انتقلوا إلى الخنادق الممتدة من الزاوية الشرقية لقمة الجبل باتجاه وادي صورباهر…فجمعوا جثامين 35 شهيدا…أعمارهم بين التاسعة عشرة والثامنة والعشرين…بينهم ضابط برتبة ملازم في السابعة والعشرين من عمره….وتسعة عشر منهم من أصول أردنية…هذا ما أثبتته بطاقاتهم الشخصية المكتوب فيها أسماءهم وتواريخ ميلاد كل واحد منهم، وعنوان إقامته…عرض عليهم خليل أن يُدفنوا في مقبرة القرية، إلا أن الدكتور أمين أوضح بأنهم سيدفنون في مقبرة باب الرحمة عند باب الأسباط قريبا من المسجد الأقصى، بعد الصلاة عليهم في المسجد العظيم….مع أن صلاة الجنازة تقام غيابيا على أرواح الشهداء بعد صلاة ظهر كل يوم في مساجد فلسطين كلها منذ اندلاع الحرب.

    أصر خليل ومحمد على مرافقة الجثامين…حيث تمت الصلاة عليها بعد صلاة العصر في المسجد الأقصى…بكاهم المصلون جميعهم…حتى الشيخ ياسين-إمام المسجد- كبّر تكبيرة الإحرام بصوت متهدج الصوت ومخنوق بالدموع….وجرت لهم جنازة مهيبة يصاحبها التكبير والتهليل …حملهم الشباب على الأكتاف…إلى المقبرة الجماعية في الطرف الشمالي للمقبرة، ليبقى ضريحهم منارة لكل عربي داخل إلى القدس أو مصلٍ في المسجد الأقصى.

  ترحم الجميع على الشهداء، وغسلوا خيبات وهزائم أمتهم بدموعهم…وعادوا إلى بيوتهم….وعاد محمد وخليل إلى قريتهما وبيتيهما والحسرة تمزق قلبيهما الصغيرين.

                     *******************

هذه هي المرّة الأولى التي يصل فيها محمد وخليل الجهة الغربية من قصر المندوب السامي، شارع ضيق يوصل المقر بحيّ البقعة، إنه الشارع نفسه الذي كان أبناء القرية يمشونه في طريقهم إلى القدس قبل النكبة، لكنها المرة الأولى التي تطأ فيها أقدام خليل ومحمد -المولودان بعد النكبة- هذا الشارع…سحرهما منظر القدس القديمة من قمة جبل المكبر، فالقدس حسناء تجيد الغواية…من يدخلها مرّة لا تغيب له عن ذاكرة…سبق لهما أن تجولا في شوارع القدس القديمة وأسواقها وأزقتها وحاراتها، وصليا في الأقصى الشريف، وزارا كنيسة القيامة وغيرها من الكنائس، وشاهدا المدينة من قمة جبل الزيتون، كما شاهداها من حيّ “سالم الراس” المحاذي لمقبرة بلدتهما في السفوح الشرقية للجبل، إلا أن رؤية المدينة من قمّة المكبر لها رونق خاص، وأبعاد جمالية وروحانية لا يستوعبها إلا من يقف على قمة هذا الجبل، وهذه الجماليات ليست اكتشافا حديثا، ولا هي من خيال إبن للمدينة بار بها…فقد سبق إلى ذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما جاء المدينة فاتحا، ولما اكتحلت عيناه برؤيتها من قمّة هذا الجبل هللّ وكبّر وخرّ ساجدا لله، ومن يومها أطلق العرب والمسلمون على الجبل اسم”جبل المكبر”…شرعا ينظران إلى المدينة ويركزان عيونهما عليها…خصوصا على المسجد الأقصى بقبته الرمادية، بينما تنعكس شمس الضحى على القبة الذهبية للصخرة المشرفة…حبات الندى تتزحلق من القبة بحياء كما الحسناء التي ينزاح نقابها بهبة نسيم عابرة…رأيا كيف تتسلق بيوت قرية سلوان الجبل إلى راس العمود حيث تفصلها مقبرة اليهود عن جبل الزيتون…ورأيا كيف ينفرج وادياها اللذان يحتضنان المدينة ليلتقيا في حيّ البستان عند بير أيوب…وأصابتهما غصة وهما يريان غبار الهدم المتطاير من حارة المغاربة….جلسا في ظلال شجرة سَرْوٍ من الغابة الصغيرة المحيطة بقصر المندوب السامي…التفت خليل إلى محمد وسأل:

هل يمكنك معرفة المكان الذي أطلّ منه الخليفة عمر بن الخطاب على القدس؟

 محمد: قمة الجبل جميعها تُطل على المدينة.

خليل: أعتقد أنه أطلّ عليها من هذا المكان….فطريق المشاة التي تأتي من صورباهر تمرّ عبر الوادي الذي خلفنا…وهي ظاهرة للعيان حتى أيامنا هذه مع أن أحدا لم يستعملها منذ نكبة العام 1948.

محمد: وكيف عرفت بأنه مرّ من هذا الوادي؟

خليل: جغرافية المكان توحي بذلك.

محمد ساخرا: يبدو أن الخليفة عرف الطريق من خلالك.

خليل غاضبا: دعك من هذه الثرثرة وتمعن جيدا في الموقع…وستقتنع بما قلته لك.

محمد: وأنت دعك من هذه الخيالات وقم لنواصل طريقنا، كي نشاهد الجزء الغربي من المدينة الذي استولى عليه الإسرائيليون في العام 1948.

 سارا غربا، على يمينهما المنطقة الحرام في وادي الربابات، وعلى يسارهما مبنى قديم لم يعرفا إلا لاحقا أنه بناية الكلية العربية، وبعده عشرات الدونمات المزروعة بالتفاح والدّرّاق، وصلا شارع القدس- بيت لحم-الخليل، والذي لم يعد يوصل بين هذه المدن والقدس بعد حرب العام 1948…واستبدل بطريق راس العامود- جبل المكبر- صورباهر- أم طوبا- بيت لحم.

على جنبات الشارع بنايات عربية فاخرة ومهندسة بطريقة لافتة… تركها أصحابها في النكبة…ويسكنها الآن يهود…بعضها لا تزال كتابات عربية منحوتة على حجارة فوق الباب الرئيس للبناية، روعة الأبنية وهندستها تشير إلى أن امتداد القدس القديمة العمراني كان باتجاه بيت لحم قبل العام 1948، وبعدها اتجه إلى الشمال باتجاه رام الله مرورا بشعفاط وبيت حنينا….باصات شركة إيجد الإسرائيلية والسيارات العمومية والخاصة تمر من الشوارع….وللباصات محطات وقوف…فيها ينزل ركاب ويصعد آخرون…في الشارع بعض المارة من مختلف الأعمار…محمد وخليل يسيران خائفين إلى غير هدف…لكنهما يتظاهران بالشجاعة، وقرب محطة القطار سارا يسارا، قطار يبعث زاموره ضجيجا ينذر بوصوله…نظرا إلى القطار الذي نزل منه مئات الجنود المدججين بالسلاح…وهذه هي المرّة الأولى في حياتهما التي يريان فيها قطارا…تفرق الجنود كل باتجاه…ويبدو أنهم عائدون إلى بيوتهم…مشيا قليلا فأطلا على حديقة عامة على يسارهما…إنها حديقة الجرس…هكذا هو اسمها…المكتوب على لافتة بالعبرية والإنجليزية والعربية…اتجها إلى الحديقة…حيث “المراجيح” التي يتأرجح عليها أطفال بصحبة أمهاتهم…لم يجلسا على واحد من المقاعد الخشبية الموجودة…جلسا تحت شجرة …الفراغات مزروعة بأعشاب”النجيل”…الحديقة ملأى بالورود المزروعة بطريقة منتظمة…وفتية من الجنسين يلعبون الكرة في إحدى الفراغات..

الحديقة جميلة….والنساء اللواتي يصطحبن أطفالهن فيها جميلات أيضا….سيقانهن لامعة…أيديهن وصدورهن عارية تنضح أنوثة…وخليل ومحمد يكبتان شهواتهما…تقترب منهما عجوز ….تقول لهما بعربية توحي لهجتها أنها من أصول عراقية:

هل الإخوان من القدس القديمة؟

–         نعم.

العجوز:أريد أن أسألكم: هل لو انتصر العرب في الحرب كنتم ستسمحون لنا  نحن اليهود بدخول أراضيكم؟

طأطأ محمد وخليل رأسيهما ولم يجيبا.

العجوز: الحمد لربّ إسرائيل الذي نصرنا عليكم…أنتم مساكين…قالتها بلغة شامتة وانصرفت….فشتم محمد وخليل في سرّهما عورتها وعورة أمّها.

همّا بالإنصراف وإذا بشابتين حسناوتين تتقدمان منهما باسمتين وبيد إحداهما كيس فيه عدد من زجاجات البيرة…سألت إحداهما:

هل تتكلمان الإنجليزية؟

خليل: نعم.

مدت يدها تصافحهما وهي تقول: إسمي راحيل…وأشارت إلى صديقتها قائلة: وإسم صديقتي سارة….تقدمت سارة وصافحتهما أيضا.

فقال خليل: إسمي خليل وإسم زميلي محمد.

 

راحيل: أنا أحتفل بعيد ميلاد إبني ساسون …فقد بلغ الخامسة اليوم …زوجانا على الجبهة المصرية…ما رأيكما أن تشربا البيرة معنا…وبعدها سنذهب إلى بيتنا إنه قريب من هنا…ستتناولان  طعامكما معنا…وسنسعد بصحبتكما….نحن لا نحب الحرب…

خليل: شكرا لكما…نحن لا نشرب الكحول.

–         لدينا عصير لذيذ إذا أردتما…لا تشربا بيرة إذا كنتما لا ترغبان بذلك.

خليل: شكرا لا وقت لدينا.

سارة: أنا محاسبة في شركة….وزميلتي راحيل صيدلانية….ماذا تعملان أنتما؟

محمد: نحن طالبا مدرسة….أنهينا الثانوية العامة هذا العام، ونرغب في الإلتحاق بالجامعة.

راحيل: هذا أمر جيد بإمكانكما الدراسة في الجامعة العبرية في القدس…إنها ليست بعيدة من هنا.

خليل: ولكننا لا نجيد العبرية، فبأيّ لغة سندرس؟

راحيل: اللغة العبرية سهلة جدا، وقريبة للغة العربية، ستتعلمانها بشكل سريع…ستة شهور تكفي لتتعلماها ولتدرسا بها.

محمد: لكن إسرائيل ستنسحب قبل افتتاح العام الدراسي القادم.

سارة: نأمل ذلك…فنحن لا نحب الحروب…ونأمل أن يعمّ السلام المنطقة لنعيش وإياكم كجيران….لكنني أقول لكم إذا انسحبت اسرائيل من الأراضي التي احتلتها في هذه الحرب بعد عشر سنوات، فهذا نصر للعرب.

راحيل: وأنا أقول بأنها لن تنسحب بعد مائة سنة….فالأحزاب الإسرائيلية الكبرى ترى أنها لا تحتل أرضا للآخرين، وإنما هي حررت أرض اسرائيل من المحتلين العرب.

راحيل: أعطونا أرقام هواتفكم، وسنتصل بكم.

لا هواتف في بيوتنا.

خليل: ما رأيكما أن تسجلا أرقام هاتفينا…وعندما يكون لديكما وقت إتصلا وانتظراني هنا، سآتيكما…..وإذا كنتم ترغبون بالسياحة في البلاد لدى كل واحدة منا سيارة…سنتجول سوية…سنأخذكم إلى البحر ….سنسبح سوية…وسنأكل وسنشرب سوية….وسنلعب وسنفرح سوية…لا تخافا فنوايانا حسنة…لا نريد منكما سوى علاقات إنسانية…فلا فرق بين عربي ويهودي.

خليل: شكرا فلا وقت لدينا.

راحي: يبدو أنك لا ترانا جميلات أيها الشاب.

خليل: بالعكس أنتما جميلتان إلى درجة الإغواء…لكن لا وقت لدينا اليوم.

راحيل:إذن خذ رقم الهاتف.

خليل يتناول ورقة عليها رقم هاتف راحيل، …يضعها في جيبه…ويقول: باي.

بينما ناولت سارة رقم هاتفها لمحمد….فتناولها وقال هو الآخر باي…ولحق بخليل راكضا…عادا طريقهما حزينين.

  قال محمد باستحياء: نساؤهم جميلات جدا…لكنهن كاسيات عاريات…يُظهرن مفاتنهن أمام المارّة ولا يكترثن، وهم لا يكترثون بهن أيضا.

خليل: نساؤهم كنساء الإنجليز…عندما كنت في لندن شاهدت الأمور نفسها.

محمد: ألا يغارون على نسائهم؟

خليل: بالطبع يغارون على زوجاتهم.

محمد: إذًا لماذا يتركونهن يُظهرن مفاتنهن في الطرقات.

خليل: هذه عاداتهم وتقاليدهم.

محمد: أستغرب كيف انتصروا علينا ونساؤهم هكذا.

خليل: ولماذا لم ننتصر عليهم ما دامت نساؤنا غير نسائهم؟

محمد: أرأيت تلك العجوز الشمطاء كيف وصفتنا بالمساكين؟ وكيف كان الحقد مرسوما على وجهها القبيح؟

خليل: يحق لها أن تحمد ربّها على انتصار جيش دولتها.

محمد: لكنها حمدت ربّ إسرائيل.

خليل: الربّ واحد وإن اختلفت معتقدات من يعبدوه.

محمد: لكنها اعتبرتنا مساكين.

خليل: يبدو أنها أشفقت علينا، عندما رأت ذلّ الهزيمة على وجوهنا.

محمد: وماذا بالنسبة لراحيل وسارة؟

خليل: فتاتان حسناوتان.

محمد: أخشى أنهما تريدان استدراجنا لقتلنا….أو أنهما مومستان.

خليل: لا أعتقد ذلك…إنهما شابتان تستطيعان فعل ما يحلو لهما.

محمد: ألم تسمع عندما قالتا بأنهما متزوجتان، وأن زوجيهما جنديان على الجبهة المصرية؟

خليل: سمعت….لكنهم كما يبدو يعرفون كيف يحاربون؟ وكيف يعيشون؟

محمد: أرى أنك تدافع عنهم.

خليل ساخرا: فصيح أنت يا محمد..

محمد:  ماذا تقصد؟

خليل: لهم عاداتهم وثقافتهم المختلفة عن عاداتنا وتقاليدنا.

محمد: هل سنتصل بهما بناء على ما قلت؟

خليل: أنا لن أتصل بأيّ منهما…لكنني سأحتفظ برقم الهاتف…فمن يُدريك؟

عادا إلى نفس المكان الذي جلسا فيه على قمة الجبل، في محيط قصر المندوب السامي…جلسا…أسند خليل ظهره إلى ساق شجرة سَرْوٍ معمرة…وصمت…فسأله محمد: بماذا تفكر؟

خليل: أفكر بالقليل الذي رأيته.

محمد: وما هو ذلك القليل.

 

خليل: الشوارع النظيفة….الحدائق العامة…الأشجار المزروعة على أرصفة الشوارع….حدائق البيوت العامرة بالورود…..و…وووو….

محمد: ما لها؟

خليل: مبكر الحديث عنها الآن.

محمد: ومتى الوقت المناسب؟

خليل: عندما نتجول أكثر…ونرى أكثر.

                *****************

توجه الأهالي بعد الإحصاء إلى مكتب وزارة الداخلية الإسرائيلية في شارع إبن بطوطة في القدس الشرقية، حاملين بأيديهم صورتين شخصيتين لكل من وصل السادسة عشرة من عمره أو يزيد، للحصول على بطاقات هوية، فدوريات الشرطة وحرس الحدود والجيش، بدأوا يقيمون حواجز للتفتيش على الطرقات، ويسألون المارّة عمّا يثبت هويتهم، حتى الأسواق والشوارع الفرعية لم تسلم منهم، الناس يتزاحمون بالآلاف أمام المكتب….وبعضهم اصطف لأكثر من أسبوع ولم يتمكن من الدخول.

أبو سالم تمكن من الوصول إلى مدخل بناية المكتب بعد انتظار ومزاحمة استمرت خمسة أيام، وعند المدخل طلب منه الحارس ورقة الإحصاء، ولمّا قال له بأنه هرب وأفراد أسرته من البيت يوم الإحصاء لم يسمح له بالدخول، وأخبره بأنه لن يستطيع الحصول على بطاقة من هذا المكتب، وأرشده بالذهاب إلى بيت لحم للحصول على بطاقة أخرى، بعد أن يثبت بأنه ليس متسللا.

دبت المخاوف في قلب أبي سالم عندما سمع كلمة متسسلل، فهذا يعني أنه متهم، وربما سيسجنونه أو يبعدونه إلى الضفة الشرقية…دفعه الحراس فخرج خائبا…طلب من زوجته أمّ سالم أن تعود للبيت، ومشى هو في طريقه إلى الأقصى….عند بوابة باب العامود، طلب منه شرطي من حرس الحدود بطاقة هويته….تلعثم أبو سالم قليلا وقال:

أنا يا سيدي هربت يوم الإحصاء…والآن كنت في مكتب الهويات ولم يعطوني هوية، والحارس قال لي بأن أذهب إلى بيت لحم.

الشرطي: اذن أنت متسلل.

أبو سالم: يا رجل أنا من السواحرة…وكل أهل البلد يعرفونني.

الشرطي: هذا يعني أنك لست من القدس…أين تقع السواحرة؟

أبو سالم: نعم أنا لست من القدس…والسواحرة بعيدة من هنا يا سيدي.

الشرطي: يكلم رجلا بملابس مدنية، ويتدلى مسدس على خاصرته، لم يفهم أبو سالم شيئا سوى إشارات الشرطي إليه…تقدم الرجل من أبي سالم وقال:

تعال معي يا حاج…أنا رجل مخابرات…لا تخف…يبدو أنك رجل طيب.

 أبو سالم: والله يا سيدي إني طيب كما قلت، وإسمي أبو سالم.

اصطحبه إلى سيارة بيضاء اللون متوقفة بجانب عمارة هندية، مقابل باب العامود…فيها رجلان…أدخلَ أبا سالم في المقعد الخلفي وجلس بجانبه، تحدث مع زملائه بالعبرية فانطلقت السيارة باتجاه الغرب.

حوقل أبو سالم والتفت إلى رجل المخابرات وسأل:

إلى أين تأخذونني يا سيدي؟

–         قلت لك لا تخف….سنأخذك إلى مركز الشرطة في المسكوبية معززا مكرما، سنشرب قهوة وإياك، وسأعيدك بسيارتي إلى قريتك فأنت رجل طيب على ما يبدو.

  أبو سالم: المسكوبية التي كانت زمن الإنجليز… أعرفها…إنها ليست بعيدة من هنا…لكن لماذا تأخذونني إلى هناك؟

–         ألم تقل بأنك تريد الحصول على بطاقة هوية؟

أبو سالم: نعم

–         إذن لا تخف.

وصلا المسكوبية التي عرفها أبو سالم زمن الإنتداب…لم يتغير فيها شيء…فتح شرطي الحاجز العسكري ودخلت السيارة….عبرت واستدارت  يمينا خلف البناية المقابلة ثم استدارت يسارا وتوقفت بين “براكيتين”، نزلوا ونزل أبو سالم معهم، أدخلوه مكتبا…دقات قلب أبي سالم تتسارع…فهو خائف من المجهول الذي لا يعرفه…تمنى لو أنه بقي يعمل في أرضه، ولم يدخل القدس بعد احتلالها…عندها لن يسأله أحد عن هوية أو غيرها….رحب به رجل المخابرات قائلا: أهلا وسهلا…أنا الكابتن نمرود…ما إسمك؟

أبو سالم: أنا أبو سالم…من السواحرة.

–         أين السواحرة هذه؟

أبو سالم: هل تعرف جبل المكبر؟….دار المندوب السامي؟

–         نعم عرفت…..لكن…لماذا لا يوجد معك نموذج إحصاء سكاني؟

أبو سالم: عندما نادى الجنود بمكبرات الصوت فارضين منع التجول….قلت: بدأت الحرب من جديد، أو ربما سيقتلوننا في بيوتنا…. فهربت من بيتي وطلبت من أفراد أسرتي أن يلحقوا بي….ولو كنت أعرف السبب الحقيقي ما هربت، ولما تركت أفراد أسرتي يهربون.

 رجل المخابرات نمرود يقلب أوراقا في ملف أمامه..يراقب قسمات وجه أبي سالم، وأبو سالم يرتجف خوفا…جفّ ريقه…وتيبست شفتاه… ونمرود يراقب ذلك سعيدا…إلتفت إلى أبي سالم وسأل: ماذا تريد أن تشرب يا أبا سالم؟

أبو سالم: أريد ماءا لو سمحت.

–         سيأتيك الماء حالا…ماذا تريد أن تشرب غير الماء فأنت ضيفنا؟…هل تريد قهوة أم شايا أم عصيرا، أم كوكاكولا؟

أبو سالم: أريدا شايا فالجوّ حار.

       ضغط الكابتن نمرود على جرس…أطلّ عليه رجل آخر فقال له بالعربية: أحضر لضيفنا كأس ماء وزجاجة عصير وفنجان قهوة….ولي كأس ماء وفنجان

      قهوة….وعاد يسأل: ماذا تعمل يا أبا سالم؟

      أبو سالم: أنا شيخ المنطقة….لا أعمل شيئا.

–         هل أنت مختار؟

  أبو سالم: لا…أنا لست مختارا…بل أنا شيخ المنطقة.

–         لم أفهم ماذا تعني؟

أبو سالم: أنا وجيه…الكل يعرفونني وأنا أعرف أبناء البلدة كلهم…وأنا أتدخل بمشاكلهم وأحلها لهم….وجميعهم يدعون لي بطول العمر.

–         لو كانوا يدعون لك بطول العمر لانتخبوك مختارا لهم.

حضرت القهوة…وضع المراسل الصينية على الطاولة بين أبي سالم ورجل المخابرات…قدم رجل المخابرات كأس الماء لأبي سالم وهو يقول:

تفضل…أهلا وسهلا.

     أبو سالم: شكرا لك….لكن قل لي: هل أنت عربي، فأنت تتكلم العربية بطلاقة؟

–         أنا يهودي فلسطيني من أرض إسرائيل…ولدت هنا في القدس…وأبي وأجدادي ولدوا هنا أيضا….وكنا نعيش والعرب سوية.

أبو سالم: لماذا سمّاك أبوك “نمرود”؟

–         لا أعرف….لكنه قال لي بعد أن أصبحتُ شابا، لقد أسميتك نمرودا لأنني أريدك أن تتنمرد على كل من يحاول أن يرفع رأسه أمامك….

أبو سالم: يظهر عليك أنك ابن حلال.

–         شكرا لك…لكن إسمعني جيدا يا أبا سالم.

أبو سالم:  تفضل.

–         أنت حسب القانون حاضر غائب.

أبو سالم: لم أفهم ما تقوله.

–         أعرف بأنك لم تفهم…لا تقاطعني….وسأشرح لك…اسمك غير موجود في الإحصاء…وهذا يعني أنك غائب…يعني أنك غائب خلف الحدود، وأنت حاضر لأنك موجود أمامي، وأمامك حلان هما: إمّا أن أرميك شرقي النهر أنت وزوجتك وأبناؤك، أو أن أضعكم في السجن بتهمة التسلل.

أبو سالم: يا سيدي أنا لم أغادر قريتي…وأبناء القرية جميعهم يشهدون بذلك.

–         لا تعنيني شهادة أبناء قريتك، فهم يكذبون …وما يعنيني هو أمن دولتي وشعبي.

أبو سالم: يا رجل أنا أحترم الأمن دائما، ولا أتدخل بالسياسة، حتى راديو لا يوجد في بيتي.

–         هذه أمور لا تهمني…أنا لا تهمني الأقوال، ما يهمني هو الأفعال.

أبو سالم: ممتاز إذن جربني.

–         كيف أجربك؟

أبو سالم:  مثلما تريد…أنا جاهز.

–         أنت رجل طيب يا أبا سالم…صدّقني منذ رأيتك في باب العامود رأيت الخير والطيبة على وجهك، ولهذا أحضرتك إلى هنا لأساعدك، لكنك تعرف أن المصالح متبادلة، و”من ينظر لك بعين…انظر له بعينين”

أبو سالم: “ابعث حريصا ولا توصيه”.

–         أعطني الآن صورتين لك وصورتين لزوجتك، وصورتين لكل واحد من أفراد أسرتك في سن السادسة عشرة وما فوق، وسأسلمك بطاقات هوياتكم بيديك.

أبو سالم: لا يوجد معي الآن إلا صورتان لي…وغدا سأحضر صور الجميع.

–         ممتاز أحضر الصور غدا…وسأنتظرك عند مكتب الداخلية، ستدخل بدون دور….وستحصل على الهويات قبل الجميع…وهذا ما يليق بشيخ عرب مثلك.

أبو سالم: بارك الله بك.

    –   غدا بعد أن تستلم الهويات سأجلس وإياك جلسة تعارف مطولة.

         أبو سالم: حيّاك الله….أنا جاهز لكل شيء.

   –      الآن خذ… هذه مائتا ليرة إسرائيلية….وقم حتى أوصلك لقريتك.

          أبو سالم: لماذا أعطيتني المائتي ليرة.

–         لتتدبر أمور أسرتك بها…فبالتأكيد أنك لم تعمل شيئا ولم تربح شيئا منذ الحرب،  ونحن نساعد الناس الطيبين.

أبو سالم: الله ينصركم….وينصر دينكم.

–         ماذا قلت؟

أبو سالم: قلت:الله ينصركم….وينصر دينكم.

–         هل تدعو لنا ولديننا بالنصر حقيقة؟…وعلى من؟

أبو سالم: لينصركم الله على من يعاديكم؟

–         هل أنت عربي ومسلم؟

أبو سالم: نعم أنا عربي ومسلم…والبشر جميعهم أبناء الله، والدين لله، والله- سبحانه وتعالى- ينصر عباده الصالحين.

–         أنت رجل عظيم وعربي جيد يا أبا سالم….سيكون لك شأن عندنا.

           *********************

        في شارع صلاح الدين، وبابي الساهرة وباب العامود، وفي الأسواق آلاف العرب من مختلف الأعمار يوقفون المارة…يسألون عن المسجد الأقصى، صاح رجل عجوز عند بوابة باب العامود بامرأة في الثلاثينات من عمرها، تلبس ثوبا فلاحيا مطرزا، وتغطي رأسها بخرقة بيضاء تتدلى على ظهرها، وخلفها بضع نساء من جيلها قائلا:

 في مثل هذا العمر ولا تعرفين طريق المسجد الأقصى؟

ردت عليه حزينة:

نحن من كفر كنّا يا عمّاه.

–         أين كفر كنّا هذه؟

قضاء الناصرة.

–         وهل بقي في الداخل عرب بعد النكبة؟

نعم بقي مائة وخمسون ألفا وهم الآن حوالي 350.000 فلسطينيا.

–         لم يبق في الداخل سوى من تعاونوا مع الهجاناه، ولا يستحقون الصلاة في المسجد الأقصى.

ومن قال لك هذا؟

–         أنا لست جاهلا وأعرف كل شيء.

لا حول ولا قوة إلا بالله….يبدو أنك وصلت أرذل العمر، وأنت لا تعرف شيئا.

سمعها محمد وخليل وأشارا لمجموعة النساء إلى الطريق الموصلة للمسجد الأقصى….شكرنهما وواصلن طريقهن…في حين هما واصلا طريقهما باتجاه القدس الغربية….مرّا بالباب الجديد ووجداه لا يزال مغلقا بالطوب، فما بين باب العامود والباب الجديد كانت المنطقة الحرام منذ نكبة العام 1948، والجدار الذي أُقيم من باب العامود باتجاه المصرارة هدمه المحتلون قبل أيام، قبالة الباب الجديد كان عربي كهل يشرح لشاب برفقته عن البناية المقابلة ويقول: هذه بناية النوتردام كان فيها المستشفى الفرنسي، وعند مدخل شارع يافا الشرقي هناك بناية واجهتها الشرقية دائرية، وآثار رصاص على حجارتها الخارجية، أشار إليها الكهل وقال:

  هذه البناية هي مقر بلدية القدس قبل العام 1948، وآثار الرصاص هي منذ ذلك العام….لم يدخل محمد وخليل شارع يافا بل واصلا سيرهما باتجاه الغرب….مشيا أقل من مائتي متر فرأيا على تقاطع الشارع الذي أمامهما بناية قديمة، ومزخرفة، وفوق مدخلها منقوش على الحجر بخط كوفي :المجلس الإسلامي الأعلى…وتحته لافتة مكتوب عليها بالعبرية والإنجليزية والعربية:”دولة إسرائيل-وزارة التجارة”فقال خليل:

أُنظر يا محمد، هذا البناء كان مقرا لمفتي القدس والديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني….

محمد: وأين يعيش الحاج أمين الآن؟

خليل: في بيروت.

وقفا على الرصيف أمام البناية…كان باب الخليل أمامهما…الباب لا يزال مغلقا أيضا، وبجانبه مئذنة مسجد القشلة تعلو سور المدينة العظيم…وخارج باب الخليل هناك بناية من أربعة طوابق تمتد باتجاه شارع يافا…البناية مهجورة ولا يستعملها أحد….استدارا باتجاه شارع الملوك ….على يمينهما مقبرة تشكل إمتدادا لحديقة عامة كبيرة، المقبرة إسلامية وشواهد قبورها تحمل أسماء ساكنيها وتاريخ رحيلهم…شارع يمتد من الشمال إلى الجنوب يفصل بين المقبرة والحديقة….وحدة مراحيض عامة على رصيف الشارع …الحديقة تمتد غربا لتصل شارع الملك جورج…

  جلس خليل ومحمد تحت شجرة “كينيا”ضخمة…أمامهما مساحة شاسعة مزروعة بـ”النجيل”…تمددا على”النجيل” وأنظارهما تسرق المكان من الإتجاهات كلها….يريدان أن يريا كل شيء…جاءت مجموعة من الشابات والشباب اليهود…يبدو أنهم طلبة جامعيون فأعمارهم متقاربة…بعضهم يحمل آلات موسيقية….عزفوا ورقصوا فرحين….أحد الشباب مدّ يده طالبا من محمد وخليل أن يشاركاهم الرقص….لم يستجيبا له…فتقدم منهما وقال بالإنجليزية: نحن نحتفل بالنصر الذي حققه جيش الدفاع الإسرائيلي…ونحتفل بإعادة توحيد القدس بعد تحرير جزئها الشرقي من المحتلين العرب، فلماذا لا تشاركاننا فرحتنا؟….وقف خليل ومحمد يريدان الإنصراف، فقالت إحدى الصبايا: دَعْكَ منهما يا إيلي إنهما عربيان.

مشيا مع الشارع الذي يوازي المقبرة والحديقة من الجهة الشمالية….عبرا الشارع يريدان العودة شرقا إلى القدس القديمة…في المقبرة كان رجل عربي خمسيني يقتلع الأشواك من محيط قبر يساعده ثلاثة شبان…دموع الرجل تنبع من عينيه بصمت….ترسم أخاديد على وجهه…. تتساقط على تراب القبر وهو يردد: هذا قبر جدّي ….جدّكم يا أبنائي…وهذا قبر جدّة جدّي …فهذه المنطقة هي مقبرة عائلتنا حتى العام 1948…تقدم منه محمد وخليل…طرحا السلام وسأل محمد: ما اسم هذه المقبرة يا عمّاه؟

–         اسمها مقبرة مأمن الله- ماميللا- يا بني.

خليل: ومن ساكنو هذه القبور؟

–         آهٍ يا ولدي…هذه أقدم مقبرة إسلامية في القدس….وهي تمتد إلى شارع الملك

جورج….مساحتها حوالي 170 دونما ….لقد نبشوا الجزء الأعظم منها كما ترى….هذه الحديقة التي تراها جزء من المقبرة….وقد كانت ملأى بالقبور…وكما ترى فقد جرفوا القبور، وحولوا الجزء الأكبر من المقبرة إلى حديقة عامة.

هذه المقبرة مدفون فيها صحابة وتابعون ومجاهدون وأقطاب وعلماء وأعيان وأعلام من القدس، وممن أمّوا المدينة طلبا للعلم، أو ممّن شدوا الرحال إلى الأقصى، وجزء منها مقبرة جماعية تحوي رفات سبعين ألف شخص هم جميع سكان القدس القديمة الذين قتلهم الفرنجة عندما احتلوا المدينة قبل حوالى تسعمائة سنة….قتلوهم وهم يحتمون في المسجد الأقصى….ودفنوهم في قبر جماعي هنا.

  ساعد محمد وخليل الرجل وأولاده في تنظيف المقبرة…وعادوا جميعهم إلى القدس القديمة، وكل واحد منهم في قلبه حسرة ولوعة.

  سار محمد وخليل إلى المسجد الأقصى، وهناك وجدوا آلاف المصلين من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم في العام 1948، وقامت إسرائيل على أرضهم..رجال ونساء وأطفال…هرعوا إلى المسجد الأقصى الذي أتيحت لهم فرصة زيارته والصلاة فيه بعد تسعة عشر عاما…وها هم يزورونه على غير ما تمنوا…يزورونه وقد هدّهم تكرار الهزيمة…إنتظروا الفرج ولمّ شملهم، فداهمتهم هزيمة ماحقة….يُصلون في مسجد أسير وفي مدينة أسيرة…يُصلون في المسجد باكين…ويدعون الله خاشعين…وجزء منهم يسافر إلى مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة بحثا عن قريب أصبح مخيم ما مقرا له منذ النكبة.

  المصلون المقدسيون خائفون من المصلين الذين جاؤوا من مختلف المناطق التي أقيمت عليها دولة إسرائيل، فهم كما بقية الفلسطينيين والعرب لا يعلمون عنهم شيئا…كلّ ما يعلمونه أن من بقي في إسرائيل هم حفنة من العملاء.

   لاحظ الشيخ ياسين كيف ينفر المقدسيون من إخوانهم الآخرين، فوقف خطيبا على منبر الأقصى ودعا المقدسيين بلهجة حزينة إلى إكرام إخوتهم القادمين لزيارة القدس والصلاة في مساجدها وكنائسها…ووصفهم بالإخوة المرابطين المجاهدين، والأهل الأعزاء الذين تمسكوا بديارهم، وعانوا ما عانوه، فقد جار عليهم الزمن أكثر من غيرهم من أبناء شعبنا، وانقطعت أخبارهم منذ النكبة.

قطع حديثه شاب عندما سأل: أليسوا عملاء يا مولانا؟

فأجابه الشيخ غاضبا: عملاء لمن أيها الشاب؟ ومتى صار المدافع عن حقوقه والمتمسك ببيته عميلا؟ هذه أكاذيب روجها الإعلام الجاهل أو المدسوس، وأهلنا في الداخل قابضون على جمر الوطن، ومنهم شعراء وأدباء، ومفكرون كتب عنهم الأديب غسان كنفاني كتابا أسماه”أدب المقاومة” كتب فيه عن شعراء وأدباء رائعين أمثال: توفيق زياد، راشد حسين، محمود درويش، سميح القاسم، إميل حبيبي، إميل توما، سالم جبران….وآخرون….وأخشى ما أخشاه أن الجهل الذي قادنا إلى نكبة العام 1948 وهزيمة حزيران 1967سيصفنا ذات يوم بالعمالة، كما وصف أهلنا المرابطين في الداخل، فاتقوا الله بوطنكم وبشعبكم وبأنفسكم.

    بكى من استمعوا للشيخ ياسين…وأكثر من بكى هم من انتظروا النصر، وصدمتهم الهزيمة الجديدة….صلوا جماعة وخرجوا ….وإذا بصياح في ساحة المسجد قرب باب السلسة، نساء يهاجمن جنودا، ويصفعنهم بأحذيتهن على رؤوسهم….ويصحن بهم بلغتهم العبرية…لعلع رصاص في الجوّ والمصلون هرعوا لنجدة النساء واستطلاع الأمر، وإذا بعجوز تصيح بالعربية:

 الله أكبر عليكم تشربون الخمور في هذا المكان؟ ألا تعلمون قدسيته؟

  انفض النزاع عندما هرب الجنود من باب المغاربة وهم يطلقون الرصاص في الهواء..

   فرح المقدسيون المتواجدون في المسجد لموقف أخواتهم وإخوانهم القادمين من الداخل للصلاة في المسجد الأقصى…وارتفعت معنوياتهم….فهذه هي المرة الأولى التي يرون فيها جنود الإحتلال يهربون خوفا من صفعات نعال النساء المصليات.

               *****************

          ذهب محمد وخليل لزيارة الأستاذ داود في بيته، وهناك وجدا الأساتذة محمد وفؤاد وشخصا آخر ليس من أبناء البلدة عرّفهم عليه الأستاذ داود قائلا: الأستاذ عبد المجيد….قال خليل:

جئت لأسأل عن الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم في نكبة العام 1948، كم عددهم؟ وماذا تعرفون عنهم؟ وما هي أوضاعهم؟ وكيف يعيشون؟ وما هي علاقتهم بإسرائيل؟.

داود: ما هي أسباب أسئلتك؟ ولماذا تسأل عنهم؟

خليل: اليوم شاهدت الآلاف منهم في القدس وتحديدا في الأقصى، وشاهدت عجوزا يصفهم بأنهم عملاء لإسرائيل، بينما الشيخ ياسين وصفهم من على منبر المسجد الأقصى، بالإخوة الذين عضّوا على تراب الوطن بالنواجذ، وأنهم تعرضوا إلى الويلات في سبيل البقاء في ديارهم، وقال بأن بينهم أدباء وشعراء ومفكرون كتب عنهم غسان كنفاني كتابا وصفهم فيه بالمقاومين….وشاهدنا عددا من نسائهم ينهلن ضربا بأحذيتهن على رؤوس الجنود الذين كانوا يحتسون الجعّة في ساحة الأقصى.

          تلفت الأساتذة إلى وجوه بعضهم البعض حائرين….سادت لحظة صمت قطعها الأستاذ داود عندما قال:

      اليوم شاهدت في شارع صلاح الدين شابا عربيا يوزع صحيفة أسبوعية إسمها الإتحاد، وهي الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي…وقد أخذت نسخة منها قرأتها من الألف إلى الياء…وكل ما جاء في الصحيفة معادٍ للإحتلال، والمقالات تطالب بالإنسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي المحتلة، وتهاجم قرار الكنيست الإسرائيلي بضم القدس العربية المحتلة إلى دولة الإحتلال، وتستنكر ما تعرض له مائير فلنر أمين عام الحزب وعضو الكنيست من طعن بالسكين بعدما أدان الاحتلال من على منبر الكنيست.

 فؤاد: أقترح أن نذهب في رحلة إلى الناصرة…ونقضي فيها يوما كاملا…نتعرف على بعض مواطنيها العرب ونستمع منهم…ومن هناك سنسأل عن بعض القرى العربية التي بقي سكانها فيها…ونرى كيف الأحوال.

عبد المجيد: أنا اطلعت على عددين من صحيفة الإتحاد، واطلعت على مجلتين شهريتين واحدة إسمها”الجديد” والثانية إسمها”الغد” وهي صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي…ومعروف أن الأحزاب الشيوعية في جميع دول العالم أدانت العدوان الإسرائيلي منذ البداية، وتدعو إلى الإنسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي العربية المحتلة، وأقترح أن نزور مقر صحيفة الإتحاد في واد النسناس في حيفا، ونستفسر عما نريده من محرريها.

خليل: وهل الحزب الشيوعي الإسرائيلي حزب علني؟

فؤاد: كل الأحزاب في إسرائيل علنية…والحكومة الإسرائيلية مؤلفة من تحالفات حزبية بناءا على المقاعد التي تفوز بها في الإنتخابات.

داود: هذه فكرة جيدة…سنسافر غدا إلى حيفا…من سيرافقني؟ أقترح أن يسافر معي شخص واحد فقط…نستكشف المنطقة…وبناء على رحلتنا هذه سيكون رأينا.

عبد المجيد: أنا سأرافقك…ما رأيك أن نلتقي غدا في السابعة صباحا أمام البريد عند باب الساهرة ومن هناك سننطلق.

داود: إتفقنا.

خليل: ما المانع في أن أذهب معكما؟

داود: لا مانع …لكننا نخاف عليك…فنحن لا نعرف ماذا يخبئ القدر لنا.

خليل: تخافون عليّ ولا تخافون على أنفسكم؟ هذا أمر عجيب…إن لم يكن لديكم مانع فسأرافقكم…وإن كانت لديكم موانع فسأذهب وحدي أو مع واحد من أصدقائي….لأنه لا يوجد ما يخيف…ألا ترون اليهود كيف ينتشرون في الأراضي المحتلة؟ وألا ترون عرب الداخل أيضا؟

عبد المجيد: ما دمت مصرا فوجودك معنا يشرفنا.

                        ***************

 

 

وصل أبو سالم مكتب وزارة الداخلية في الثامنة صباحا…بيده مغلف فيه الأوراق الثبوتية له ولزوجته، ولإبنه سالم وزوجته…أمعن النظر يبحث عن الكابتن نمرود…فلم يره…فكر قليلا ودار في خلده أن الرجل يكذب عليه…بدلالة أنه لم ينتظره كما وعده…لام نفسه لأنه لم يحضر مبكرا كي يحجز دورا، فالدور يمتد من باب البناية ويغلق الشارع…والنساء يصطففن في صف موازٍ هن الأخريات…بعض الشباب يزاحم معتمدا على قوة جسمه في أخذ دور له…والشيوخ يرفعون أصواتهم ينهرون الشباب…أحد الشيوخ سقطت كوفيته وسط الزحام…فخرج من الصف مرغما وعقاله يتدلى في رقبته…رفع عصاه وهدد الشباب واصفا إياهم بقليلي الحياء….شاب قوي البنية أشفق على شيخوخة الرجل….أفسح مكانا له أمامه وطلب منه أن يصطف في الدور أمامه…وهدد بتكسير أضلاع من يدفع الرجل الشيخ….اصطف الرجل في الدور أمام الشاب…فحاول أبو سالم الإلتصاق به…إحتج آخرون…غير أن أبا سالم تجاهل أصوات الإحتجاج….طأطأ رأسه كي لا يرى أحدا…واعتقادا منه بأن أحدا لا يراه…وإذا بالحارس يهز كتفه ويقول:

هل حضرتك الشيخ أبو سالم؟

–         نعم أنا الشيخ أبو سالم.

–         تعال معي.

خرج أبو سالم من الصف وتبع الحارس…أفسح حارس الباب لهما ممرا يعبران منه…في الطابق الثاني كان الكابتن نمرود في انتظار أبي سالم…أخذه بالأحضان…أجلسه وطلب من المراسل أن يحضر له فنجان قهوة…عبأ الكابتن طلب هوية لأبي سالم ولزوجته ولإبنه ولكنته….وكلما أنهى طلبا قدمه لموظف الداخلية كي يجهز له بطاقة الهوية….وفي أقل من نصف ساعة كانت الهويات في جيب أبي سالم….قال له الكابتن: لا أريدك أن تخرج معي أو أن تدخل سيارتي أمام الناس…أخرج وحدك وسأنتظرك في باب العامود في نفس المنطقة التي إلتقينا فيها سابقا….وعندما أراك سأطلب منك الهوية…وسأصيح عليك غاضبا أمام الناس….وبعدها سأدفعك في السيارة…وكلها تمثيل في تمثيل حتى لا يشك بك الآخرون…

أبو سالم: بارك الله بك.

  خرج أبو سالم وقد طوى عباءته من الوسط ممسكا إياها بكلتا يديه، فتدلت خلفه كما ذنب الدابة…قال في نفسه:”إذا هبت رياحك فاغتنمها يا أبا سالم” و”الذي يتزوج أمّي هو عمّي” لم يعرف أحد مكانتي من قبل…كانوا يستهزئون بي…ولولا أنهم كانوا يخافون من شرّي لضربوني…لم أعجبهم يوما…حتى غازي كمال عضو مجلس النواب الذي عملت له دعاية إنتخابية، وكنت تابعا له، كان ينظر لي بازدراء، فلم يحترمني يوما إلا مجاملة….بينما احترم الآخرين بشكل لافت…حتى أنه كان يُجلسهم مكانه إذا ما زاروه…بينما كان يسلم عليّ جالسا…ولا يهتم بأمري اذا لم أجد مكانا أجلس فيه…إنهم لا يعرفون قدراتي العجيبة…وهذا هو الكابتن نمرود رجل المخابرات الإسرائيلي يعرفني من النظرة الأولى…ومن اللقاء الأول…مع أنني لا أعرف أصله من فصله….والله أعلم إن كان إسمه حقيقيا أم لا؟ وهل سيتنمرد عليّ هذا النمرود هو الآخر، أم هو رجل طيب؟ لا…لا…لا يمكن أن يتنمرد عليّ…قد يتنمرد على الناس كلهم …لكنه لن يتنمرد عليّ…فالرجل يعرف مقامات الرجال…وقد أكرمني منذ اللحظة الأولى…فقدم لي القهوة والماء والعصائر ومائتي ليرة إسرائيلية…وأوصلني بسيارته إلى البلدة…ولن يستطيع أن يخدعني…وبالتأكيد هو لن يحاول ذلك…فالرجل اكتشف ذكائي من البداية.

 لم ينتبه أبو سالم لنفسه إلا في باب العامود عندما أوقفه شرطي حرس حدود قائلا: الهوية لو سمحت.

أخرج أبو سالم بطاقات الهوية التي في جيبه وقدمها للشرطي….فتح الشرطي البطاقة الأولى…كانت بطاقة هوية أمّ سالم…نظر إلى الصورة..ونظر إلى وجه أبي سالم وسأل: هل هذه الهوية لك؟

–         نعم سيدي إنها هويتي.

هل أنت رجل أم امرأة يا حاج؟

–         عيب عليك أن تتكلم مع رجل بعمر أبيك بهذه الطريقة أيها الشاب…

لكن هذه صورة امرأة واسم امرأة.

نظر أبو سالم إلى الهوية فرأى صورة أمّ سالم وقال متصنعا بسمة:

هذه بطاقة زوجتي، وبطاقتي تحتها.

–         ولماذا تحمل هذه البطاقات كلها؟

قبل أن يُجيب أبو سالم كان الكابتن نمرود يقف بجانب الشرطي…أخذ منه بطاقات الهوية…نظر إلى أبي سالم وقال: هذا أمر لا يجوز…لا يحق لإنسان أن يحمل بطاقة هوية لغيره…هذا خرق للقانون…وضع بطاقات الهوية في جيبه…وطلب من أبي سالم أن يتبعه إلى السيارة…تردد أبو سالم قليلا…سأل نفسه إن كان الكابتن نمرود قد نصب له فخّا…أم أنه يتصرف حسب الخطة؟ إرتعب أبو سالم وشرطي حرس الحدود يسير خلفه مصوبا سلاحه إلى ظهره…المارة توقفوا في الشارع ينظرون ما يجري…وأبو سالم يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله…

 في السيارة قال الكابتن نمرود لأبي سالم: أرأيت كيف أحافظ عليك…لم أشأ أن أضعك في موقف مشبوه أمام الناس.

–         لكن شرطي حرس الحدود أهانني عندما سألني” هل أنت رجل أم امرأة؟

    – كان الشرطي يمازحك؟

–         وهل الممازحة في الشك برجولتي؟

    – لكن المرأة إنسان هي الأخرى.

–         المرأة إنسان…لكن الرجال أفضل من النساء…وأنا لا أقبل أن أتشبه أو أن يُشَبِّهني أحدٌ بالنساء.

–   هل تحب النساء يا أبا سالم؟

–         ومن لا يحب النساء؟

 –  أمّ سالم تبدو عجوزا في الصورة…وأنت كما الشباب…فهل تكفيك أمّ سالم؟

– ما العمل…هذه سنة الحياة.

– اسمع يا أبا سالم…سأصطحبك الآن في رحلة إلى تل أبيب…سنتناول طعامنا هناك…وسيصطحب كلُّ واحد منا فتاة جميلة…يبدو أنك فحل يا أبا سالم.

– ماذا قلت يا رجل؟ تقول عني بأنني فحل؟ فهل تراني تيسا حتى تقول ذلك؟

 – أنا أمتدح ذكورتك يا رجل…ولم أقل عنك تيسا…فكيف فهمت ذلك؟

–         نحن نصف ذكر الماعز بالفحولة…وأنت تصفني بذلك.

–  معاذ الله يا أبا سالم…أنت لست تيسَ ماعزٍ…لكنك تيسُ نساءٍ فإذا ما اختليت بامرأة فإنها ستعجب بفحولتك…أم أنك لا تنفع النساء؟

–         هذه شتيمة أخرى منك…فأنا امرأة واحدة لا تكفيني.

–         إذن سأحضر لك امرأتين في آن واحد.

–         امرأتان مع بعضهما البعض أمر معيب…وربنا طلب الستر.

–         ممارسة الجنس مع امرأتين ممتع للرجال يا أبا سالم.

–         هذا هراء….يا رجل، فأنا لم أعرف النساء إلا من خلال زوجتي.

–         زوجتك عجوز بسيطة…ويبدو أنك وإياها لا تعرفان من فنون الجنس شيئا.

–         من قال لك ذلك؟ أمّ سالم تهرب مني لأنها غير قادرة على تلبية احتياجاتي.

–         ستجد نساءا لن تستطيع تلبية احتياجاتهن.

–         المرأة التي تستطيع الصمود تحتي لم تولد بعد.

–         وفوقك؟

–         وكيف ستكون امرأة فوقي؟

–         ألم تجرب ذلك؟

صمت أبو سالم ظنا منه أن الرجل يمازحه.

                    **************

 

    إلتقى داود وخليل مع عبد المجيد في مدخل شارع صلاح الدين، أمام محطة البريد…قال عبد المجيد:

سيحضر معنا جريس يا دواد، فقد قال بأن له أقارب في الناصرة، زاروه قبل أيام، وتعرف عليهم، وهو يريد أن يصاحبنا، وهناك سيستضيفنا أقاربه، وسيصطحبوننا إلى أماكن أخرى، ومن خلالهم سنتعرف على أشياء كثيرة.

…دقائق وإذا جريس يوقف سيارته أمام البريد…صعدوا إليها….جلس عبد المجيد بجانبه….وجلس داود وخليل في المقعد الخلفي….انطلقت السيارة باتجاه القدس الغربية…مرت من المصرارة غربا في شارع الأنبياء…دقائق قليلة وإذا بهم في شارع يافا….قال جريس:

هذا شارع يافا…وهو الشارع الرئيس في القدس الغربية…..يبدأ من باب الخليل…ونحن الآن في”محنيه يهودا” وهذه المنطقة فيها سوق خضار كما الحسبة….وبعد قليل سنصل محطة الباصات المركزية….إنها المحطة التي تنطلق منها وإليها رحلات الباصات من مختلف المدن… سأل داود:

وكيف عرفت هذه المناطق؟

– منذ فتحوا الحدود وأنا ومجموعة من أصحابي نجوب المنطقة ليل نهار.

 داود: كيف سنعرف الطريق يا جريس؟

–         أنا أعرف الطريق إلى يافا فقد زرناها قبل أسبوع، وتجولنا فيها، وأكلنا في أحد مطاعمها سمكا بحريا…إنه سمك لذيذ….ثم تجولنا في تل أبيب حتى ما بعد منتصف الليل، ولم يعترضنا أحد….عندما نصل يافا سنسأل من هناك عن طريق الناصرة….لن نضيع فبلادنا صغيرة رغم كثرة الطامعين فيها….أنظروا إلى يمينكم هذه قرية لفتا المهجرة…والقرية المقابلة لكم هي قرية بيت إكسا…وما بين بيت إكسا وهذا الشارع منطقة حرام منذ العام 1948…كان بالإمكان السيطرة على هذه الطريق من بيت إكسا والتلال المحيطة بها وقطع القدس عن تل أبيب.

–         تنهد البعض منهم وأصيب البعض بالذهول….صعدوا جبلا، فأطلوا على قرية عربية…تشير لافتة على الشارع أن اسمها أبو غوش…بيوتها عربية …ومواطنوها عرب…وبعض رجالها كانوا يرتدون القمباز والكوفية والعباءة….وبعد عدة كيلومترات نزلوا في واد علي…غابة تحيط بالوادي من جانبيه…على يمينهم كانت بقايا سيارات عسكرية محطمة…السيارات مدهونة بلون بني…. وعليها باقات زهور…..وهنا قال داود:

   هل تعلمون أنني سمعت من أبي أسعد المحسيري أن الفلسطينيين كانوا يدحرجون قلاعا صخرية كبيرة من هذين الجبلين على سيارات الهجاناة التي كانت تأتي لنجدة يهود القدس في حرب 1948…لم تكن لديهم أسلحة….وبالصخور دمروا هذه الآليات….واليهود يحافظون على تاريخهم….أُنظروا كيف يهتمون بهياكل هذه السيارات لتبقى شاهدا على حروبهم.

 قبل أن يدخلوا تل أبيب كانت لافتة على الشارع تشير إلى حيفا والناصرة…دخلوا الشارع وواصلوا المسير….إلى أن وصلوا أمّ الفحم…رأوا فلسطينيين رجالا ونساءا وأطفالا…توقفوا بجانب شاب يقف على رصيف الشارع…طرحوا عليه التحية فرد بأحسن منها…سألوه عن طريق الناصرة فقال:

أنا مسافر إلى الناصرة…إذا لم يكن عندكم مانع فبالإمكان أن أرافقكم .؟

–         على الرحب والسعة قال له عبد المجيد…. عرفوه على أسمائهم بعد أن قال لهم بأن إسمه هاشم…سألوه عن أمّ الفحم وعن المناطق العربية التي بقي سكانها فيها عام النكبة….شرح لهم معاناة الأهالي…وتطرق إلى الأماكن التي بقي فيها مواطنوها…وأكد بأن الناصرة لا تزال تحافظ على طابعها العربي…مع أنهم يخططون لبناء مدينة أخرى بجانبها أسموها الناصرة العليا…مروا بالعفولة…فقال:

–         هذه مدينة العفولة…لم يبق فيها عرب…وهي قريبة جدا من جنين…والذي أمامكم هو مرج ا بن عامر…وهو أراضٍ خصبة جدا….الناصرة تتربع على الجبل الذي أمامكم….وعلى يمينكم قبل صعود الجبل قرية اكسال العربية…عامرة بمواطنيها…صعدوا طريق الجبل المتعرجة إلى الناصرة فقال جريس:

–         من هنا صعد المسيح إلى الناصرة….

 دخلوا الناصرة من جنوبها فسألهم هاشم إن كانوا يريدون عنوانا محددا…فقال جريس: خالي أبو نجيب الحداد من الناصرة نريد أن نذهب إلى بيته…سأل الشاب بعض المارة…فأجابوه بأن بيت أبي نجيب يقع قرب العين….لم يجدوا صعوبة في الوصول إلى البيت….غادرهم هاشم الفحماوي بعدما رفضوا دعوته لهم بالغداء في أحد المطاعم، وبعد أن اطمأن على وصولهم إلى العنوان الذي يريدونه.

  استقبلهم أهل البيت بالأحضان وبالدموع، قالت أمّ نجيب:

إلتقينا وإياكم على غير ما نريد وعلى غير ما تريدون…..ما حصل هدّنا…تمنينا الفرج الموعود ولقاء الأحبة….لكن يا حسرتنا.

                        *************

 إنطلقت مسيرة حاشدة من المسجد الأقصى تدعو إلى كنس الإحتلال…وتدعو إلى عدم الإلتحاق بمدارس القدس الرسمية، بعد أن فرض المحتلون المنهاج الإسرائيلي عليها…..وتستنكر إبعاد رئيس الهيئة العلمية الإسلامية ورئيس بلدية القدس العربية، ومواطن آخر إلى الأردن… آلاف المنشورات التي وُزعت في مدينة القدس وقراها، موقعة بإسم الجبهة الوطنية الفلسطينية التي دعت لذلك….وتم تسليم كل مُصل في القدس نسخة من المنشور….ترتيب المظاهرة كان أن تتقدمها النساء…..وفي مقدمتهن العجائز يرفعن المصاحف، ويهتفن مطالبات برحيل الإحتلال…دوريات شرطة الإحتلال هربت خارج أسوار المدينة المقدسة تحت قذف الشباب لهم بالحجارة من أسطح المنازل….الهتافات تعلو:

بالروح بالدم نفديك يا فلسطين

بالروح بالدم نفديك يا أقصى

بالروح بالدم نفديك يا قدس

 الدار دار ابونا

 والأغراب بدهم يطردونا

خيبر خيبر يا يهود

جيش محمد سوف يعود

خرج المتظاهرون من باب المجلس الإسلامي الأعلى ….عبروا طريق الواد باتجاه باب العامود…الهتافات تعلو….وصلت المظاهرة منطقة باب العامود….حيث اصطف هناك مئات رجال الشرطة مدججين بالأسلحة النارية وقنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات.وهم… يحتمون بالتروس….وقف ضابط شرطة كبير يحمل سماعة يدوية وقال:

    شرطة إسرائيل لن تسمح بأعمال الشغب…أطالبكم بالتفرق والإنصراف بهدوء كي لا تضطر الشرطة إلى استخدام القوة….وأنتن يا حاجّات مغرر بكن من الشيوعيين الكفرة…فلا تسمعن لهم.

 صاحت به الحاجّة أمّ نعيم:

  ليقطع الله لسانك…نحن لسنا كفرة….نحن شيوعيون على سنة الله وسنة رسوله…والأن صلينا في الأقصى…ولا نريدكم في بلادنا.

  تقدم شاب وسيم إسمه فيصل يريد مخاطبة الضابط…إنهال عليه الجنود بالهراوات…فانطلق الدم من أمّ رأسه نافورة …هاج الشباب….إنطلقت الحجارة باتجاه الجنود…وانطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين….الجنود يهاجمون الجموع الغاضبة بالهراوات ….إشتباكات بالأيدي…عشرات المتظاهرين وعشرات الجنود أصيبوا بجراح….إعتقلت الشرطة عشرات المتظاهرين….وفي مقدمتهم الشاب فيصل…والأستاذ فؤاد.

صاح رجل عجوز: لقد حطموا رأس ابن عبد القادر بيك.

 سأل خليل: هل المقصود بالبيك عبد القادر الحسيني؟

–         نعم عبد القادر الحسيني.

    خليل: غير معقول فالبيك أستشهد أعزبا.

–         من قال لك ذلك يا ولد؟…البيك عندما استشهد ترك أرملة وبنتا وثلاثة أبناء ذكور…وفيصل هذا أصغرهم عمرا.

–         البيك يظهر في الصورة شابا صغيرا.

–         نعم لقد استشهد شابا…كان عمره حوالي أربعين سنة.

تفرق المتظاهرون ….عادوا إلى بيوتهم… وخليل يستذكر صورة البيك…ويستذكر والده وهو يحدثهم عن”البيك” عشرات المرات…فقد كان أحد المقاتلين معه.

  عاد خليل إلى بيتهم…ذهب إلى بيت عمّته أمّ مصباح…اصطحب محمد معه وذهبا إلى الأستاذ داود …رحب بهما …فسأله خليل:

هل كان الشهيد عبد القادر الحسيني متزوجا عندما استشهد؟

–         نعم وخلّف ثلاثة أبناء وبنت.

–         ولماذا أبي لم يقل لنا ذلك عندما كان يحدثنا عنه؟

–         ربما اعتبر ذلك أمرا غير هام…فكل الرجال يتزوجون.

–         لقد ضرب رجال من شرطة الإحتلال ابنه فيصل على رأسه في باب العامود، فسال دمه بغزارة واعتقلوه….واعتقلوا عددا من المتظاهرين بينهم الأستاذ فؤاد والدكتور صبحي.

–         ومن أخبرك بذلك؟

–         شاهدت ذلك بعيني أنا ومحمد…فقد شاركنا في المظاهرة.

–         وماذا شاهدتم أيضا؟

–         شاهدنا الجنود يهربون من باحة الأقصى ومن أسواق المدينة خوفا من حجارة الشباب التي قذفوهم بها من على سطوح البيوت….لقد هربوا بعد أن أصيب بعضهم بجراح.

–          إذن علينا الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر.

–         الإنتباه من ماذا؟

–         ربما سيعتقلون آخرين….يجب عدم الحديث في هذه الأمور مع أيّ شخص مهما كان ثقة…لا تتحدثوا أنكم شاركتم في المظاهرة…ولا تذكروا إسم أيّ شخص شاهدتموه….ولا تحتفظوا بأية منشورات في بيوتكم….

–         قل لي …ماذا حدثك والدك عن البيك الشهيد؟

–         حدثنا أنه كان شجاعا جدا…ومتواضعا بشكل لافت….يأكل مما تيسر…وينام على ما تيسر من فراش…ويعتمر الكوفية دائما بعدما بدأ الانجليز يعتقلون القرويين لمشاركتهم الباسلة والجماعية في الثورة عام 1936، وقبلها مع الشهيد الشيخ عز الدين القسام.

 داود:سكان المدن جميعهم اعتمروا الكوفيات في تلك الفترة كي لا يعرف الإنجليز القرويين من المدينيين…ودعاهم إلى ذلك الحاج أمين الحسيني مفتي القدس والديار الفلسطينية.

 وماذا قال أبوك ايضا عن البيك الشهيد؟

–         قال بأنه كان يشاركهم العمل في هدم عبّارات الشوارع بالفؤوس والمهدات، كي يقطع الطريق على سيارات قوات الإنتداب ليسهل قنصهم من قبل الثوار.

 ومما قال عنه أنه كان يمازحهم ويضحك وإياهم…فذات يوم وبعد أن هدموا عبّارة على طريق القدس- أريحا وقطعوا الشارع عادوا للنوم في منطقة جنجس في البرية…وكان البيك متعبا فتمدد على التراب، وطلب من أحد زملائه أن يحضر له حجرا طريا يضعه تحت رأسه…فأحضر الرجل حجرا ذا نتوءات بارزة..ولما رآه البيك ابتسم له وسأل: هل هذا الحجر طريا؟

فردّ عليه الرجل غاضبا: وهل توجد حجارة طرية؟

فأجابه البيك: الحجارة الملساء ناعمة ولا تهشم رأس ووجه من يتوسدها.

                          ************

 

عندما عبر الكابتن نمرود وأبو سالم  مدينة الرملة في الطريق إلى تل أبيب رأى أبو سالم بيوتا فقيرة وأمامها نساء عربيات سأل: هل هؤلاء عرب؟

–         نعم إنهم بدو.

–         عجيب

–         وما العجيب؟

–         أنا لا أعلم ببقاء عرب منذ حرب 1948 في المناطق التي قامت عليها اسرائيل…فقد طردتهم جميعهم.

–         هذا غير صحيح فإسرائيل لم تطرد أحدا.

–         كيف يكون ذلك واللاجئون مشتتون في كل مكان؟

–         اللاجئون خرجوا بإرادتهم بعد أن وجه لهم القادة العرب، وجيش الإنقاذ نداء كي يخلوا المنطقة عدة أيام، لتتمكن الجيوش العربية من ذبح اليهود.

–         يا رجل أنا سمعت من لاجئين أنهم هربوا من ديارهم بعد أن هاجمتهم “الهاجناة” وقتلت منهم أعدادا كبيرة.

–         هذه دعايات كاذبة لتشويه الوجه الحضاري لإسرائيل….فاليهود لا يقتلون أحدا.

–         ليست دعايات يا رجل…فأمّ مازن امرأة مسكينة تقول إن ابنيها وزوجها قتلوا ….وأن العشرات من بلدتها المسمية قُتلوا وهم يحتمون بمسجد الرملة.

–         أمّ مازن تكذب…وربما تكون صادقة بأنها فقدت إبنيها…فهذه طبيعة الحروب…حيث يُقتل مدنيون خطأ..وقد قُتل مدنيون يهود وفلسطينيون.

–         ومذبحة دير ياسين ماذا تقول فيها؟

–         لم تقع مذبحة في دير ياسين…كل ما كان هناك أن المحاربين اليهود من “ليحي”وايتسل” هاجموا مسلحين إلتجأوا للقرية..ولم تكن مذبحة.

–         هذا غير صحيح…فقد قابلت أشخاصا فقدوا كل أقاربهم.

–         وكيف نجوا هم إن كانوا صادقين؟

–         ربنا نجّاهم…وحماهم…ولهم بقية حياة.

–         وهل ربنا يُنجي ويحمي أناسا ويرفع حمايته عن آخرين؟

–         أستغفر الله العظيم يا رجل…فالرب واحد والعمر محدود…ومن انتهى أجله، فلا راد لقدر الله ومشيئته.

–         إذا كنت تؤمن بهذا فمعناه أن ما حصل هو تنفيذ لمشيئة الله…والله إذا ما شاء فعل…..لكن أراك يا أبا سالم عنيدا…وتجادل في كل شيء…وهذا ليس في صالحك.

–         ماذا تقصد؟

–         أقصد أن أسألك إن كنت تريد أن تعيش بسلام كمواطن صالح في هذه الدولة، أم أنك تريد أن تبقى مع أكاذيب العرب؟

–         طبعا أنا أريد العيش بسلام…

–         إذن عليك أن تسمع، وأن تكون مطيعا.

–         حاضر سيّدي…لكن…قل لي ما عدد العرب الذين بقوا في ديارهم؟

–         تقصد في اسرائيل.

–         نعم.

–         في العام 1948 كان عددهم مائة وخمسين ألفا، وهم الآن حوالي350 ألفا.

–         وكيف يعيشون؟

–         يعيشون كأيّ مواطن عاديّ.

–         وهل يتجندون في الجيش الإسرائيلي؟

–         بعضهم يتجند وبعضهم لا يتجند.

–         لم أفهم هذه.

–         بعض الطوائف فرضنا عليها التجنيد بعد أن ربطت قياداتها الدينية والعائلية مصيرها بمصير الدولة…وبعض البدو يتطوعون….كل هذه الأمور ستعرفها لاحقا…لكن الأن أين ترغب بأن نتناول طعامنا، في تل أبيب أم في يافا؟

–         حسبما تريد.

–         أنا أحبذ أن نتناوله في أحد فنادق تل أبيب…من هناك سنطل على البحر…نتناول طعامنا…ونقضي يومنا في الفندق.

–         لا بأس في ذلك…لكن قل لي: أين نحن الآن؟

–         نحن الآن في المنتصف بين تل أبيب ويافا.

–         أين يافا؟ فأنا لا أرى يافا التي أعرفها قبل العام 1948.

–         العالم تغير منذ ذلك التاريخ يا أبا سالم…ويافا الآن جزء من تل أبيب….وتل أبيب تطورت واتسعت كثيرا منذ العام 1948.

–         عليّ الطلاق لو جئت وحدي لما عرفت شيئا.

–         ستتعرف لاحقا على كل الأمكنة…..أنظر…الآن البحر على يسارك…ومسجد حسن بيك على يمينك.

–         ما شاء الله! المسجد جميل وشاطئ البحر جميل أيضا.

–         لقد قلت بأنك كنت تعرف المنطقة قبل العام 1948 أليس كذلك؟

–         نعم.

–         لكنني أراك تتعجب من جمال بناء مسجد حسن بيك وشاطئ البحر، وكأنك تراهما للمرة الأولى.

–         هذا صحيح…لكنني حينها لم أنتبه للمسجد، لأنني كنت شابا ولا أصلي…كما أنني لم أنتبه للمكان، لأنني لم أفكر أن نفقده يوما ما.

–         عن أيّ مكان تتحدث؟

–         عن فلسطين كلها.

–         هل تقصد إسرائيل؟ وهل تعتبر أرض إسرائيل أراضي فلسطينية؟

–         طبعا…فمتى أصبحت إسرائيل دولة؟ وكم كان عدد اليهود في فلسطين قبل العام 1948؟

–         يا أبا سالم…لا تصدق أكاذيب العرب…هذه الأرض من النهر إلى البحر هي جزء من أرض إسرائيل….وهبهم الله إياها…والله لا يخلف ميعاده…ألم تسمع بأرض الميعاد؟

–         أيّ أرض وأيّ ميعاد يا رجل؟

–         أرض إسرائيل التي وعد الله اليهود بها…وكانت لهم عليها مملكة.

–         لا أفهم شيئا مما تقول.

–         أمر طبيعي ولو كنت متعلما لقرأت ذلك وفهمته.

–         يوجد عندنا متعلمون وتعلموا في الجامعات…ودائما يقولون بأن فلسطين عربية …يجب تحريرها…وإعادة اللاجئين الذين طُردوا من ديارهم.

–         هؤلاء مضللون ولا يعرفون التاريخ الصحيح.

–         والمسجد الأقصى ماذا تقول فيه؟

–         المسجد الأقصى سيزول حتما…وسيبنى مكانه الهيكل اليهودي.

–         يا رجل الأقصى مسجد إسلامي…الرسول محمد صلوات الله عليه صعد منه إلى السماء في معجزة الإسراء والمعراج…

–         لا تصدق ذلك…فكل ذلك أكاذيب….ألا يكتفي العرب والمسلمون بالكعبة في مكة، والمسجد النبوي في المدينة؟

–         استغفرك يا رب.

–  وصلنا الآن الفندق…سندخل لتناول طعامنا…أعتقد أنك جائع…وأنا لم أتناول شيئا منذ الصباح سوى كعكة صغيرة….هيا بنا.

نزل أبو سالم من السيارة…رتب عقاله فوق كوفيته…ثبَّت عباءته على كتفيه…ضمّ وسطها من الإتجاهين…أمسك بهما بيده اليسرى، وبقيت يمناه طليقة…مشى بجانب الكابتن نمرود…دخلا الفندق….وهذه هي المرة الأولى في حياة أبي سالم التي يدخل فيها فندقا….بُهِر بصالة الفندق…وبالإضاءة اللافتة…وبالكنبات المرتبة لجلسات منفردة…تلفت إلى كل الاتجاهات وقال في سرّه: اللهم صلي على النبي….إستأذنه الكابتن نمرود ليقضي حاجته بعد أن أجلسه في زاوية فيها أربع كنبات…تتوسطها طاولة قصيرة القوائم مربعة الشكل…في وسطها مزهرية فيها ورود بلاستيكية….على زاويتها منفضة سجائر…تلفت أبو سالم حواليه فرأى الجميع يركزون أنظارهم عليه…دخلت فتاتان بلباس البحر…إلتهمهما بعينيه وقال في نفسه…يبدو أن اليهود لا ينفعون النساء…ولو كانوا رجالا لما تعرت أمامهم هؤلاء النسوة….الشاطئ مليء بالنساء اللواتي لا يلبسن إلا ما يستر عوراتهن المغلظة…رحمتك يا ربّ…من يرى هكذا نساء سيخرج من دينه.

 قضى الكابتن نمرود حاجته…عاد إلى قسم الإستقبال في الفندق قبالة أبي سالم، إتصل هاتفيا وهو يبتسم لموظفة الإستقبال…ذهب وجلس مقابل أبي سالم…مرت لحظات وإذا صبيتان في العشرينات من العمر واحدة بلباس البحر جلست على يمين الكابتن، والثانية بفستان قصير إلى ما فوق منتصف الفخذين….الرقبة واليدين عارية، الصدر نافر…جلست على يمين أبي سالم وقالت بعربية ركيكة:

مرخبا

–         هلا والله.

–         كيف خالِك؟

–         الحمد لله…

–         انتي جوعانِه أبو سالم.

–         كيف عرفتِ اسمي؟

–         خلِمِت فيكي.

–         يا سلام عليك.

 إلتفتت إلى الكابتن نمرود وقالت له: ختيخات عربي ملوخلاخ” خلقة عربي قذر”

ترختسي أوتوه” حمّمّيه”قال لها.

سألت أبا سالم: إنتي بتنامي في كيبوتس ؟

ماذا تقولين؟

إلتفتت إلى الكابتن وقالت بالعبرية: يبدو لي أنه يعيش في كيبوتس زراعي…فرائحة روث الحيوانات تفوح منه.

دعيك من هذا الكلام…وإياك أن يفهم ما تقولين…ولا تثقلي معه في الكلام…والتفت إلى أبي سالم وقال:

هذه الصبية إسمها تسيبورا”عصفورة” وتقول بأنك رجل وسيم…وقد وقعت بحبك من النظرة الأولى…والصبية التي على يميني إسمها زليخة وهي تحبني.

–         ليباركها الله قال أبو سالم وهو يمسد شاربيه.

هيا بنا إلى غرفة الطعام قال الكابتن نمرود…أزاح يدي زليخة التي كانت تطوق بهما عنقه وقام….فقاموا معه….استقلوا المصعد…عندما دخل أبو سالم المصعد ارتعد خوفا فبسمل وتسيبورا تضحك أمامه.

نزلوا في الطابق الثالث…حيث غرفة طعام واسعة …فيها طاولات سفرة تتسع لأكثر من مائتي شخص….جلسوا على طاولة واحدة…سألت تسيبورا:

خبيبتي أبو سالم شو بتخبي تاكلي؟

أبو سالم: يا نمرود هذه العصفورة تخاطبني بلغة المؤنث ماذا جرى لها؟…هل تحسبني إمرأة؟

–         لا يا أبا سالم…هذه لا تعرف إلا كلمات قليلة من العربية، لا تجيد لفظها…وهي تحب العرب كثيرا.

–         إذا كانت الأمور هكذا فلا بأس في ذلك سأعلمها العربية.

–         وهي ستعلمك العبرية.

طلب الكابتن نمرود من النادلة أن تحضر لأبي سالم قطعة ستيك كبيرة، وكأس عصير برتقال، وطلب لنفسه سمكة…وزجاجة عرق، أما تسيبورا وزليخة فقد طلبتا صحني سمك وكأس نبيذ لكل واحدة منهما.

عندما وضعت النادلة كأس عصير البرتقال أمام أبي سالم…إحتساه دفعة واحدة…وقال للكابتن نمرود:

أراك تحتسي حليب السباع…وأشار إلى زجاجة العرق…هذا كان المشروب المفضل للنائب غازي كمال….يبدو أن الأشخاص المهمين يشربون حليب السباع في حين يشرب العامة عصير البرتقال.

–         متأسف إذا كنت تريد أن تشرب عرقا…فبإمكانك….صفق بيديه للنادلة ولما إلتفتت طلب منها أن تحضر كأسا فارغة….وضعت الكأس أمام أبي سالم…فرفع الكابتن نمرود الزجاجة وصبّ كأسا لأبي سالم…إحتسى أبو سالم الكأس دفعة واحدة…وتناول الزجاجة وملأ كأسه كما يملؤها بالماء.. إبتلع لقمة كبيرة في فمه…فتوقفت في بلعومه…فأتبعها كأس العرق دفعة واحدة أيضا…وتجشأ مما رسم تكشيرة تقزز على وجه تسيبورا…في حين ضحكت زليخة قبالتها.

–         تناولوا طعامهم…وأبو سالم يمسح فمه بكم قمبازه وبطرف عباءته…ناولته زليخة محرمة ورق فوضعها في جيبه…ضحكوا من الموقف…وهم يقفون بعدما قال الكابتن نمرود لأبي سالم:

–         إذهب يا أبا سالم مع تسيبورا…إذهب معها إلى غرفتها…وهناك إعتبرها مثل أمّ سالم فهي تحبك، وسنلتقي في صالة الفندق في الخامسة مساء…والتفت إلى تسيبورا وقال لها خذي معك زجاجة عرق أخرى…طاب يومك.

إستقلت تسيبورا برفقة أبي سالم المصعد إلى الطابق الثاني عشر…وهناك أدخلته إلى إحدى الغرف، وقالت له:

خبيبتي أبو سالم…هذا خمام بتخمم فيه…وهذا خليب اللي بتخبيه…اشربي عَ كيفِك مثل ما تخبي….اشلخي ملابسِك وتخممي.

–         أنا لا أريد الإستحمام فأنا نظيف قال أبو سالم…

–         لكن ريخة أرك تالعة منكِ .”رائحة عرق تنبعث منك”

–         العرق سيجف الآن ولن تشمي شيئا.

–         معناه أنا بتخمم لخالي.

  جلس أبو سالم على كنبة…وضع زجاجة العرق بجانبه…صبّ كأسا وشرع يشرب…بينما خلعت تسيبورا فستانها…كانت عارية الثديين وسروالها يغطي ما بين فخذيها، ثدياها يتراقصان كقبضتي ملاكم…إتجهت إلى حمام الغرفة…تركت باب الحمام مفتوحا…بالت في المرحاض …إتجهت إلى حوض الحمام ….فتحت صنبور المياه…وقالت لأبي سالم:

الميّه زاكيه يا خبيبتي…تعالي تخممي معي.

إستحمي وحدك قال أبو سالم.

 كانت عينا أبي سالم تراقب الحمام كعيني فأر يراقب قطا يتربص به خارج جحره الصغير في حائط مهترئ قريب من فضاء مزبلة….شرب عرقا حتى شعر رأسه يلف كأنه يحاول الفرار من جسده….بدأ يغفو…..

خرجت تسيبورا من الحمام تلف وسطها بمنشفة كبيرة…تقدمت من أبي سالم…وضعت يديها على خديه…قدمت جسدها من وجهه وقالت:

خبيبتي أبو سالم وين إنتي؟

همهم أبو سالم ولم يتكلم…ضحكت وأمسكت به تجره إلى السرير…سقطت كوفيته وعقاله من على رأسه…داستهما بقدميها…بقيت عباءته مكانه…حلت حزامه من على وسطه….حلّت دكة سرواله التقليدي…سقط السروال إلى الأسفل لكنه بقي عالقا بقدميه…بانت عورته…ألقت به على السرير…خلعت نعليه…زكمت أنفها رائحة جوربيه المخزوقين…خلعت سرواله وألقت به بجانب السرير…مددته على ظهره…كان شبه غاف…لم يكن نائما ولا قادرا على الحركة…طلبت منه أن يساعدها كي تخلع قمبازه فلم يستجب…فردت طرفي قمبازه على جانبيه…فتحت أزرار قميصه وفردت طرفيه أيضا، فبدا عاريا من أمام تماما….ألقت منشفتها بجانب السرير……….و……………………………..؟

الكابتن نمرود يراقب ما يحدث على شاشة من غرفة أخرى…. يضحك قهقهة….يحتسي العرق بتؤدة…..يثني على حذاقة تسيبورا كيف تصرفت في هكذا موقف مع رجل لم يعد واعيا لما يحدث معه…

تسيبورا ثنت ركبتيها عند منتصف جسم أبي سالم.. وجلست عليه… مدت نصفها العلوي عليه…قربت فمها من فمه وكأنها تعانقه…تسيبورا سعيدة بتنفيذ مهمتها كما يجب…لكن هذه هي المرة الأولى التي تختلي بها برجل غير صاح على ما يجري معه…داعبته أكثر من ربع ساعة بطرق مختلفة…أنهت مهمتها وعادت إلى الحمام تتقيأ من رائحة الرجل…دخلت حوض الحمام وتطهرت من دنس رجل رائحته كريهة …ارتدت ملابسها…جلست قليلا…ولمّا علا شخير أبي سالم خرجت من الغرفة…ذهبت إلى غرفة الكابتن نمرود وزليخة…استقبلاها ضاحكين…وكانت فرحة بآداء مهمتها…قال لها الكابتن:

أنت رائعة يا تسيبورا…دعيه نائما…وعندما يبدأ يتململ في فراشه…عودي إليه…وتصرّفي حسب الموقف.

بقي شخير أبي سالم يعلو حتى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي.     

                        ***********

 بكى عبد المجيد وداود وخليل، بعد أن بكت أمّ نجيب النصراوية، وأبكت من تواجدوا….فجريس إبن شقيقتها الذي ولد في عيلبون قبل النكبة بثماني سنوات، يزورها شابا، كانت تحلم بأن يعود هو ووالداه وجميع اللاجئين إلى بيوتهم، التي شردوا منها…لكن النكبة أصبحت نكبتين، وبدل التحرير وقع الناس تحت إحتلال جديد…سألت أم نجيب؟

هل يُثقلون عليكم في القدس يا أبنائي؟

 داود: لا ….لا يتدخلون في شؤوننا الشخصية….فقط  قمعوا مظاهرة إنطلقت من المسجد الأقصى…قمعوها بالهراوات وبالغازات المسيلة للدموع.

أم نجيب: يتمسكنون حتى يتمكنوا.

خليل: ماذا تقصدين يا خالة؟

–         أقصد أنكم لم تروا من القرد إلا أذنيه.

جريس: لم أفهم ماذا تعنين.

–         أعني أنهم سيتدخلون في كل مناحي حياتكم….لن يتركوكم وشأنكم…سيصادرون أراضيكم…وسيقيدون حرياتكم…وسيتدخلون في مناهجكم الدراسية…وحتى دور العبادة لن تسلم منهم….ولن يتركوا القدس في حال سبيلها…ألم تسمعوا بقرار الكنيست القاضي بضم القدس الشرقية المحتلة، واعتبار “القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية”.

داود: هذا كلام تذروه الرياح…وهو مخالف للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية.

أمّ نجيب: أين الشرعية الدولية يا بني؟ فإسرائيل تأخذ منه ما يفيدها وتتنكر للباقي…وأمريكا والدول الغربية توفران لها الحماية….حتى قرار التقسيم المعروف بالقرار-181- الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثني -نوفمبر-1947 والذي يعتبر شهادة ميلاد إسرائيل الدولية، إعترفت بنصفه هذا، وتنكرت للنصف الثاني الذي يدعو لإقامة دولة فلسطين.

جريس: الأوضاع الدولية الآن مختلفة….

أمّ نجيب: هذا صحيح لكنها ليست في صالحنا..وقلبي على القدس.

جريس: القدس مكانها يا خالة.

أمّ نجيب: أعلم يا ولدي أنها مكانها…لكنهم لن يُبقوها كما هي… وخوفي على المسجد الأقصى….

خليل: ماذا سيجري للأقصى؟

أمّ نجيب:  ستبكي السماء دما لما سيجري في القدس…وخصوصا للمسجد الأقصى…ألَمْ تشاهدوا كيف دمروا وجرفوا حارة الشرف وحيّ المغاربة وحيّ النمامرة المحاذية لحائط البراق؟  فحائط البراق يسمونه حائط المبكى، ويقدسونه ويصلون أمامه…وسيبنون حارة كبيرة للمستوطنين في الحارات التي هدموها…وليت أطماعهم تتوقف عند هذا فقط…بل ستتعدى ذلك إلى المسجد الأقصى نفسه.

جريس: لن يجرؤوا على ذلك….فلو مسّوا بالأقصى فإن العالمين العربي والإسلامي سيثوران ضدهم وضد من يدعمهم، وستندلع حروب دينية لا يعلم إلا الله متى ستنتهي؟

أمّ نجيب: وهل هم لم يمسّوا بالمسجد الأقصى حتى الآن؟ وأين العالمان العربي والإسلامي؟ لا تتوهموا كثيرا يا أبنائي.

 مسحت أمّ نجيب دموعها وقالت: لا تؤاخذوني يا أبنائي…فأنا أتكلم من النار التي تشتعل في صدري…الآن سأعدّ لكم طعام الغداء…وبعد قليل سيحضر نجيب وأبوه…

داود: نحن لم نحضر للغداء يا خالة….جئنا لزيارة الناصرة واستطلاع بعض الأمور وسنعود إلى القدس.

أمّ نجيب: أهلا وسهلا بكم ….فأنتم ضيوفنا…بل أنتم أبناؤنا…ولن نترككم تعودون هذا اليوم…ومدة الضيافة ثلاثة أيام وثلث اليوم…فما بالكم إذا كان الضيوف أبناءنا؟

 وإذا بجرس الباب يرن….فتحت أمّ نجيب الباب وقالت:

أهلا يا نجيب…جريس إبن خالتك فريدة واثنان من أصدقائه في ضيافتنا…

أشارت لجريس وقالت: هذا جريس… ابن خالتك…وهذا داود…وهذا خليل…إحتضنهم نجيب وقبلهم واحدا واحدا…قبلهم ودموعه تتساقط على وجنتيه، وهو يقول:أهلا بالغاليين.

فقالت: ابني نجيب يعمل ممرضا في مستشفى….وفي هذه اللحظة عادت ابنتها ديانا التي تعمل محامية …عرفتها على الضيوف…وعرفتهم عليها…تصافحوا …واستأذنت أمّ نجيب لإعداد الغداء فقالت ابنتها ديانا:

ماما… إسمحي لي…الوقت الآن متأخر على الغداء…سنصطحبهم إلى مطعم…فبالتأكيد هم جائعون…. سنتناول طعامنا سوية.

وسنطوف بهم في المدينة كي يتعرفوا على بعض ملامحها.

أمّ نجيب: إذن أنا سأعد العشاء.

جريس: من يأكل الآن لن يستطيع تناوُلَ طعام آخر يا خالة….فالنهار في آخره.

أمّ نجيب: أنتم ضيوفنا…وستتناولون طعاما في بيتنا أم نسيتم أهمية”العيش والملح”؟

–         لم ننس يا خالة لكن للضروروة أحكام.

أمّ نجيب: لا تلتهوا بالكلام…إذهبوا لتناول طعام الغداء وسنلتقي مساء.

داود: إسمحي لنا يا خالة…لن يكون لدينا وقت…لأننا سنعود إلى القدس بعد الغداء.

أمّ نجيب وديانا ونجيب: لن نسمح لكم…وفي” الصباح رباح”.

استقلوا سيارة نجيب….ذهبوا إلى مطعم في منتصف البلد….قدم لهم مختلف أنواع السلطات والحمص والفلافل…كمقدمات للشواء الذي يعده.

سأل داود: هل يوجد في الناصرة يهود؟

ديانا: الناصرة لا يوجد فيها يهود…لكنهم صادروا الأراضي الواقعة شرقي المدينة…وعملوا مخططات لبناء مدينة”نتسيرت عليت”-الناصرة العليا-

وقد شرعوا ببنائها فعلا، وهي تمتد إلى جبل”القفزة” سنأخذكم إليه بعد الطعام…أو غدا….وستطلون منه على بعض القرى العربية وعلى مرج ابن عامر.

خليل: هل يتعلم أبناؤكم في مدارس عربية؟

نجيب: طبعا…لكن المنهاج إسرائيلي.

خليل: لم أفهم عليك.

نجيب: نتعلم المنهاج الإسرائيلي…الذي لا يتطرق إلى تاريخ العرب خصوصا في هذه البلاد… فهذه البلاد”أرض اسرائيل” كما يسمونها، وفلسفة المنهاج الإسرائيلي تقوم على تربية الطلاب حسب القيم الصهيونية…وأخلاق الديانة اليهودية والولاء التام لدولة إسرائيل.

خليل: هل تدرسون الديانة اليهودية بدل الإسلام والمسيحية.

نجيب: لا …الطلاب المسلمون يدرسون مبادئ التربية الإسلامية كعبادات…يتعلمون الصلاة والصوم والزكاة….والمسيحيون يتعلمون شيئا عن المسيحية….كما أن اللغة العبرية لغة رسمية…يدرسها أبناؤنا بحصص مساوية لحصص اللغة العربية، كما يدرسون الإنجليزية كلغة أجنبية.

داود: وهل يتعلم الطلاب اليهود في المدارس اليهودية اللغة العربية؟

ديانا: لا….لا يتعلمونها.

داود: وماذا يتعلم الطلاب العرب أيضا؟

 نجيب: يتعلمون “مدنيات اسرائيل” وهذه تتعلق بنظام الحكم وبالأحزاب الإسرائيلية، والكنيست…..وكيفية الإنتخابات…وكيفية تشكيل الحكومة من الأحزاب التي تفوز في الإنتخابات.

داود: وهل المعلمون في المدارس العربية يهود أم عرب؟

ديانا: غالبيتهم عرب…لكن تعيينهم يخضع لمقاييس أمنية…ومن له أيّ نشاط سياسي معارض…فإنهم لا يوافقون على تعيينه.

عبد المجيد: ما المقصود بالنشاط الأمني المعارض؟

ديانا: مثلا أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأبناؤهم وأنصارهم لا يعينون في المدارس الرسمية…وبعضهم يعمل في المدارس الخاصة التابعة للكنائس…وكذلك أنصار حركة الأرض التي ظهرت في العام 1958…وهي حركة قومية…وغيرهم من غير الساكتين على المظالم.

داود: وهل الحزب الشيوعي الإسرائيلي حزب مرخص ومسموح له أن يعمل؟

نجيب: نعم إنه حزب قائم ويخوض الإنتخابات البرلمانية…وله عضوان في الكنيست…كما يخوض إنتخابات المجالس المحلية العربية.

عبد المجيد: وهل يترشح أعضاؤه في المجالس المحلية اليهودية؟

ديانا: لا…لأن أعضاءه اليهود قليلو العدد.

عبد المجيد: وهل هو قوي في الوسط العربي؟

ديانا: له أعضاؤه ومناصروه بين العرب…لأنه الحزب الوحيد الذي يدافع عن حقوق العرب الذين أصبحوا أقلية في وطنهم بعد النكبة.

عبد المجيد: وهل ينضم العرب أو يؤيدون أحزابا أخرى؟

ديانا: نعم…بعضهم في أحزاب صهيونية…كحزب العمل الحاكم…وبعضهم أعضاء في حزب”مبام” الذي يمثل اليسار الصهيوني، وبعضهم في حزب الليكود اليميني المعارض.

عبد المجيد: وهل هم مقتنعون بالفكر الصهيوني حتى ينضموا إلى أحزابه؟

نجيب: هذا حديث يطول….والمعاناة التي عاناها عرب البلاد بعد النكبة تحتاج إلى تأريخ…فـ 90% من أراضيهم صودرت، وحارس أملاك الغائبين إستولى على عقارات كثيرة….وخضعت البلدات العربية للحكم العسكري منذ نشوء الدولة وحتى قبل عام…تصوروا أن من كان يخرج من قريته إلى قرية أو مدينة أخرى كان بحاجة إلى تصريح من الحاكم العسكري….وبعض العرب ارتبطوا بالأحزاب الصهيونية لتحقيق مصالح لهم.

خليل: وهل القرى العربية التي بقي بعض أهلها فيها لا يزالون يحافظون على لغتهم ودينهم وعاداتهم؟

ديانا تقول ضاحكة: وهل ينسى المرء لغته ودينه مهما قست الظروف؟

  تناولوا طعامهم ….وخرجوا بنيّة التجوال في الناصرة…مرّ بهم نجيب في بعض الأحياء، فقال جريس:

ما رأيكم أن نعود إلى البيت كي نصافح العمّ أبا نجيب ونجلس مع الأسرة، وغدا سنتجول معا؟

ديانا: حسبما تريدون.

عبد المجيد: هذا إقتراح حسن.

إستقبلهم أبو نجيب بالأحضان….كان الرجل عابسا مهموما فضربتان في الرأس قاتلتان كما قال، فالنكبة قصمت ظهورنا، وهزيمة حزيران قضت علينا، كنا نتمنى عودة الأحبة ولقاءهم، وتحقق اللقاء على غير ما نتمنى…عندما زارت أمّ نجيب القدس لم أقدر على مرافقتها مع شوقي العظيم للقدس وناسها….فهل يهون على المرء أن يرى عزيزا عليه مصابا بمرض خبيث…أشعل سيجارة…إبتلع دخانها وهو يسأل:

كيف القدس يا شباب؟

عبد المجيد: دمروا حارات فيها…ليس بفعل الحرب….بل بعد أن انتهت الحرب…هدموا حارة الشرف وحيّ المغاربة وحيّ النمامرة….

–         هل هدموها بالكامل؟

–         نعم….لم يُبقوا على شيء فيها.

–         وهل هرب أناس كثيرون خارج الحدود؟

–         هرب حوالي مليون شخص من مختلف أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.

ضرب أبو نجيب كفّا على كفّ…وقال:

إذن الهزيمة مضاعفة…

جريس: ماذا تعني يا عمّاه؟

–         أعني ثبات الناس على أرضهم وفي ديارهم يفشل مخططاتهم الإستيطانية…فهم يريدون أرضا غير مأهولة….ألم تسمعوا مقولتهم”شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب”؟…لو بقي الناس في بيوتهم عام 1948 لاختلفت الموازين…وها هي المأساة تتكرر،  وكأنه مكتوب علينا أن لا نتعلم من أخطائنا وتجاربنا.

–         خليل: كم عدد العرب الذين بقوا في ديارهم يا عمّاه عام 1948؟

–         حوالي مائة وخمسين ألفا، وهم الآن حوالي ثلاثمائة وخمسين ألفا.

–         وكيف يعيشون؟

–         ذقنا ألوانا من الذلّ والهوان يا ولدي…لكن هواء هذه البلاد ينعش القلب…ويقوي العزيمة….وحالنا أفضل من حال من تشتتوا في بلاد الله…مع أن منا من تشتتوا في هذه البلاد أيضا.

عبد المجيد: كيف تشتت من بقي في دياره؟

–         قرى بأكملها جرى تهجير أهلها إلى مناطق أخرى بذرائع شتى.

–         كيف؟

–         هنا حجة الأمن هي قميص عثمان…فباسم الأمن يعملون العجب العجاب..يقتلون…يهجرون…يعتقلون…يطردون خلف الحدود…يهدمون بيوتا وقرى..يصادرون الأراضي.

–         وهل أمنهم مهدد يا عمّ؟

–         ألا تراهم يهددون أمن المنطقة بكاملها؟ يشنون حروبا …يحتلون أراضي جديدة…ويصيحون بأن أمنهم مهدد.

 فؤاد: سلاحهم الجوي هو الذي حسم المعركة.

ديانا: نعم سلاحهم الجوي هو الأقوى في المنطقة…وطائراته متطورة ولا يوجد عند الدول العربية نِدٌّ لها.

–         القادة العرب سياسيون وعسكريون يدخلون الحروب وكأنها “فزعة”عشائرية…ولو كانت عندهم أحدث الأسلحة لما استفادوا منها.

 أبو نجيب: دعونا من هذا الكلام الذي يكدر النفوس….يلتفت إلى جريس ويسأل:

ما هي أخبار عمّك سليمان؟

–         عمّي سليمان ترك زوجته وأبناءه وسافر إلى تشيلي عام 1950..ومن يومها قُطعت أخباره…ووردتنا بعض الأخبار بأنه توفي هناك.

–         رحمة الله عليه….هو من جيلي…كنت وإياه في صف واحد أيام الدراسة…وما هي أخبار إميل حنا؟

–          أخباره فوق الريح….إنه يعمل مديرا لشركة كبيرة في عمّان…واشترى أرضا وبنى فيللا تشبه قصر الملك.

–         ليوفقه الله…الرجل كان عصاميا…أنهى المدرسة والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت…وقبل أن يتخرج بأيام اندلعت حرب النكبة…وضاعت البلاد.

–         وما هي أخبار محمد الحمدان صديق وجار والديك أيام البلاد.؟

–         محمد الحمدان موجود في مخيم عقبة جبر…ابنه حمدان ترك المدرسة منذ الخروج من البلاد…وبناته تزوجن في قرى رام الله، كل واحدة في قرية…وابنه فريد درس هندسة في جامعة القاهرة.

–         في هذه الأثناء كان خليل يتصفح أعدادا من مجلتي الجديد والغد الصادرتين في حيفا….فسأله داود:

  ماذا تقرأ يا خليل؟ أتصفح هاتين المجلتين كما تصفحت أعدادا من صحيفة الإتحاد الحيفاوية.

أبو نجيب: هذه صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي…ولها دور هام جدا في الحفاظ على اللغة والثقافة العربية في هذه البلاد بعد النكبة.

 داود: في الإتحاد مقالات سياسية لاذعة وساخرة موقعة باسم جهينة.

أبو نجيب: هذا رئيس تحرير الصحيفة.

أبو نجيب يطلب من ابنه نجيب أن يرافق الضيوف غدا في جولة في الناصرة، فيعتذر نجيب لأنه سيكون في عمله، وتتطوع المحامية ديانا للقيام بالمهمة…فيستأذن أبو نجيب لأنه يريد النوم، فهو تعب والساعة قاربت على منتصف الليل، فطلبت منه زوجته أن يبقى لتناول العشاء مع الضيوف..إلا أنه لم يستجب، في حين أكد الضيوف أنهم لا يستطيعون تناول أيّ شيء من الطعام…لأنه لا يوجد متسع في مَعِداتهم….فتساءلت أمّ نجيب:

أنا أعددت الطعام لمن إذا لا تريدون تناوله؟…و”عيار الشبعان أربعون لقمة”.

داود: “اللقمة الزائدة تضر ولا تنفع” يا خالة، أتركي هذا الطعام وسنتناوله غدا.

–         “غدا رزقه معه يا بنيّ” والطعام يبحث له عن مكان في المعدة…لا مناص… يجب أن تتناولوا طعامكم.

داود: لا حول ولا قوة إلا بالله…سنتناوله يا خالة.

صباح اليوم التالي تجولوا في الناصرة… زاروا كنيسة العذراء القريبة…إنها غاية في الجمال والتصميم الهندسي….فالشمس تدخلها كل يوم من نافذة على مدار السنة…ذهبت بهم ديانا شمالا إلى شفا عمرو…وقالت لهم:

 هذه المدينة كل من فيها عرب…وهي خليط من المسلمين والمسيحيين والدروز….وعند قمة الجبل أشارت لهم إلى قلعة الظاهر عمر الذي بنى هذه المدينة واتخذها مقرا له….والقلعة عبارة عن سجن كبير وزنازين ومكاتب….ولم يكتمل الطابق العلوي من المكاتب لأن حكمه انهار نتيجة للظلم الذي مارسه وكما ترون”دار الظالمين خراب”….لم ينزلوا من السيارة…لكنهم كانوا فرحين برؤية عرب بلباسهم التقليدي….توقفوا أمام بقالة لشراء العصير، ولمّا عرف صاحب البقالة أنهم من القدس رفض استلام ثمنه، وهو يردد هؤلاء ضيوفنا…وأقسم عليهم أن يتناولوا طعام الغداء عنده في بيته المجاور…فاعتذروا وساعدتهم ديانا لأنها أعدت لهم هي الغداء في بيتها، عادت بهم ديانا إلى الناصرة، حيث أعدّت لهم والدتها طعام الغداء…تناولوا طعامهم على عجل وغادروا الناصرة عائدين إلى القدس….رغم إصرار أهل البيت على إبقائهم عندهم.

  قبل أن يدخلوا العفولة…عبروا شارعا باتجاه الغرب…ساروا بضعة كيلو مترات وإذا بهم يرون البحر أمامهم مادّا ذراعيه يحتضن اليابسة…أمواجه تتراقص ضاحكة…تركض باتجاه الشاطئ…تتكسر على الرمال بنعومة…قال خليل:

البحر جميل وعميق…يخفي في داخله أسرارا كثيرة…ما رأيكم بالتوقف قليلا على الشاطئ نتمعن البحر؟

جريس: هذه فكرة جميلة.

داود: هل هذه هي المرّة الأولى التي ترى فيها البحر يا خليل؟

–         لا….لقد رأيت البحر الأحمر عندما ذهبنا في رحلة مدرسية إلى مدينة العقبة….ورأيت البحر من الجوّ عندما سافرت إلى لندن….

جريس: وهل سافرت إلى لندن يا خليل؟ ولماذا؟ وكم كان عمرك؟

–         سافرت إلى لندن عندما كنت في الصف الثاني الإعدادي…مع أخي البريطاني براون..

–         جريس يسأل ضاحكا: وهل لك أخ بريطاني؟

–         نعم أخ لم تلده أمّي وليس إبنا لأبي…أخي بالتبني…تعرفت عليه ونحن نعمل في حفريات الآثار في سلوان.

–         يا ليت لي أخا بريطانيا مثلك.

ضحكوا على أمنية جريس…جلسوا على الشاطئ…في منطقة مكتوب أمامها لافتة باللغتين العبرية والإنجليزية…منطقة خطرة-السباحة ممنوعة…جلسوا على الرمال…راودت كل واحد منهم أفكار حتما ليست كأفكار زميليه…لكنهم اشتركوا بالسكوت والوجوم….وفجأة أعادهم سؤال من خليل إلى واقعهم عندما سأل: كم كيلو متر طول الساحل الفلسطيني؟

داود: الساحل الفلسطيني يمتد من رأس الناقورة شمالا وحتى رفح جنوبا.

خليل: أعرف ذلك…لكن كم طوله؟

نظر  داود إلى جريس وكأنه يسأله إن كان يعرف الجواب؟ إلا أن جريس أجاب: لم يبقّ لنا من الساحل سوى الشريط الذي يمتد عليه قطاع غزة.

داود: الأرض مكانها…والبحر مكانه…والبشر أجيال تموت، وترثها أجيال أخرى…ودول تدول…ودول تزول…فهذه طبيعة الحياة البشرية.

جريس: وهل كتب الله علينا أن نعيش في هذه المنطقة صراعا وحروبا لا تنتهي؟ فما أن ننتهي من مصيبة حتى نقع في أخرى أكبر منها؟

داود: الحياة تقوم على الصراع…والحروب موجودة دائما…وبلادنا محط أنظار الطامعين دائما لموقعها الإستراتيجي عسكريا واقتصاديا.

خليل: وهل أوروبا عاشت حروبا هي الأخرى؟

جريس: طبعا فدماء ضحايا الحرب العالمية الثانية لم تجف بعد…وقد دمرت هذه الحرب أوروبا، وزاد ضحاياها على الستين مليون قتيل….وقبلها شهدت حروبا كثير.

داود: دعونا من التاريخ…ومن الحروب وهيّا بنا كي نعود إلى القدس قبل مغيب الشمس.

وفي الطريق سأل خليل: كيف رأيتم الناصرة؟

داود: الناصرة عامرة بأهلها…ولو بقي مواطنو المناطق الأخرى في مدنهم وقراهم في حرب العام 1948 لاختلفت الأمور..ولما كانت مخيمات اللاجئين…ولتوقفت الهجرات اليهودية.

جريس: ولقامت دولة فلسطين بجانب إسرائيل حسب قرار التقسيم.

داود: لا أعرف حتى الآن لماذا رفض العرب قرار التقسيم.

جريس: لأنهم لم يدركوا حجم المخططات التي كانت تستهدف فلسطين…

ولو قبل العرب قرار التقسيم لرفضه القادة الصهاينة…لأن أطماعهم تتعدى حدود القرارـ، بل حدود فلسطين التاريخية.

داود: لكن عصبة التحرر قبلت قرار التقسيم واتهمت بالخيانة وقتها.

جريس: عصبة التحرر قبلت قرار التقسيم لأن الإتحاد السوفييتي وافق عليه…ولو رفض السوفييت قرار التقسيم، لرفضته.

داود: لكن يُسجل لصالحهم أنهم كانوا بعيدي النظر سياسيا.

جريس: إذا حكمنا على تلك المرحلة الآن بعد انتهائها فموافقتهم كانت صحيحة….وإذا كانت أطماع اسرائيل فقط بحدود قرار التقسيم، فأعتقد أن الفرصة مناسبة الآن لتطبيقه وتحقيق السلام.

داود: الأمور إختلفت الآن، وموشيه ديان قال بأنه ينتظر في مكتبه ليستقبل اتصالا تلفونيا من عبد الناصر بالإستسلام.

جريس: هذا جنون القوّة…وعبد الناصر لن يستسلم لو لم يبق من العرب أحد غيره…ألم تسمعوا ما قاله في مؤتمر الخرطوم:”ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة…ولا مفاوضات ولا إعتراف بإسرائيل ولا صلح معها” وقد أعاد تسليح جيشه…وبدأ حرب استنزاف مع إسرائيل على طول جبهة قناة السويس…كي يستنزف قواها…ويجعل الإحتلال عبئا عليها…حتى تحين ساعة الحسم.

خليل: الأنظمة العربية كذبت على شعوبها…فطوال الوقت وهم يرددون عبارة “العصابات الصهيونية” حتى حسبنا أنه يمكن تحرير فلسطين وإعادة اللاجئين إلى ديارهم بالمظاهرات ودون حرب..وعندما إندلعت الحرب كانت نتائجها كارثة…والآن أسقطوا شعار “التحرير”، ورفعوا شعار”إزالة آثار العدوان”…

داود: الرهان على الأنظمة العربية رهان خاسر.

خليل: ما يلفت الإنتباه هو كذب الإعلام العربي…فاليهود في فلسطين ليسوا عصابات كما كنا نسمع…لاحظوا حركة العمران والشوارع، والمدارس والمستشفيات والتنظيم والحدائق والنظافة…ولو كانوا عصابات كما كنا نسمع، لسرقوا ونهبوا وهربوا….ولما بنوا ما ترونه ولما استقروا.

جريس: هذه قضية لافتة تدعو إلى التفكير.

داود: لقد دعموا إسرائيل بالمليارات لتكون مركز جذب للهجرات اليهودية، فعدا عن أموال اليهود التي تنهال على إسرائيل بالمليارات، هناك المساعدات التي تقدمها الدول الأوروبية وأمريكا لإسرائيل وهي بالمليارات أيضا وفي مختلف المجالات، ويقدمون تعويضات لإسرائيل عن ضحايا “الهولوكست”-المحرقة- التي إرتكبها النازيون.

خليل: وما ذنبنا نحن في المجازر والمذابح التي ارتكبها النازيون ضد اليهود؟ وإذا كان الأوروبيون والأمريكيون يحبون اليهود حقيقة، فلماذا لم يقيموا لهم دولة عندهم؟

داود: القضية أبعد من هذا بكثير.

خليل: عندما كنت في لندن خرجت بانطباع بأن الشعب الإنجليزي لا يحب اليهود…

داود: الإنجليز والأوروبيون والأمريكان لا يحبون اليهود، لكنهم يساعدون إسرائيل عسكريا واقتصاديا وفي مختلف المجالات.

جريس: نحن الآن على مدخل القدس الغربية…هل تريدون العودة إلى بيوتكم مباشرة كي أوصلكم، أم تريدون الذهاب إلى القدس الشرقية؟

 

خليل: لو سمحت…أوصلنا إلى بيوتنا.

                *****************

 

 

استيقظ أبو سالم بعد الثامنة صباحا…فرك عينيه…نظر في غرفة الفندق..استغرب المكان….اعتقد أنه يحلم…فرك جبينه…تعوذ بالله من الشيطان الرجيم….وهنا دخلت تسيبورا التي كانت تراقبه على شاشة من غرفة أخرى….ابتسمت له وقالت:

صباخ الخير خبيبتي.

جلس على السرير وقال متكاسلا: أهلا….إنتبه إلى أن جزأه الأمامي عار تماما…وضع يديه بين فخذيه يواري سوأته….رأى سرواله ملقى على الأرض…وقف متعبا …أدار ظهره لتسيبورا وارتدى سرواله….شبك أزرار قميصه…وربط قمبازه…ارتدى حطته وعقاله…ربط حزامه….وارتدي عباءته…جلس على الكنبة وسأل: أين الكابتن نمرود؟

تسيبورا: ليش انت مستخي حبيبتي؟

–         لماذا أنا هكذا وكم الساعة الآن؟

–         إنتي خبيبتي هيك لأنه بدِّك هيك.

–         ماذا تقصدين؟

–         انتي خبيبتي ليله اللي فاتت عملت معي عجايب.

–         ماذا عملت؟

–         طول الليل وانا زوجتك.

–          هل تزوجتك؟ هذا هراء…

–          ردت بدلع وغنج…..ليش ما تتخمم خبيبتي.

–         لا….لا…يبدو أن حليب السباع قد أطار عقلي…لكن أين الكابتن نمرود؟

–         بعد الخمام باخدك للكابتن.

اتجه أبو سالم إلى الحمام…أغلق الباب خلفه…قضى حاجته…اتجه إلى حوض الحمام…فتح صنبور الماء البارد دون قصد منه…فانهمرت المياه باردة عليه…خلعت تسيبورا ملابسها…طرقت الباب عليه…طلبت منه أن يفتح لها كي تستحم معه…رفض طلبها وهو يردد”وقعت يا أبا سالم ولم يبسمل عليك أحد”…أكمل استحمامه ….ارتدى ملابسه كاملة…وخرج من الحمام…تسيبورا ممددة على السرير….وقف أبو سالم أمامها كتمثال حجري…فغر فاه ولم يقوَ على الكلام…فقالت له:

 ليش الخيا خبيبتي…تعالي هون…وللا ما خبيتيني…..انت مش زلمه خبيبتي أبو سالم.

–         وأنت شيطانة ولست امرأة. …………………………………………………………………………………………………؟

ضحكت تسيبورا بغنج زائد…اتصلت هاتفيا بقسم خدمة الغرف في غرفة الطعام وطلبت إفطارا لها ولأبي سالم…كما طلبت شايا وقهوة…عندما دخلت النادلة السمراء الغرفة تدفع عربة الطعام…نظر إليها أبو سالم وقال:

ما أكثر “حريم” هذه البلاد!

فردت عليه النادلة بلغة عربية سليمة وبلهجة اليمن قائلة:

 رجالنا  يخدمون في الجيش….ونحن هنا نعمل…كلنا رجال ونساء.. نعمل.

–         هل أنت عربية يا امرأة؟

–         أنا من يهود اليمن…هاجرت وأسرتي إلى اسرائيل عام 1951 كان عمري ست سنوات يومئذ….وفي بيتنا لا نتكلم إلا العربية.

 نظرت تسيبورا إلى النادلة وأشارت إليها بالخروج…فانصرفت….والتفتت تسيبورا إلى أبي سالم وسألت:

 شو خبيبتي أبو سالم انتي خبيتي بنت يمنيه؟

–         اليمنية تعرف اللغة العربية على الأقل…وسأل:

–         من أيّ البلدان أنت يا تسيبورا؟

–         من إسرائيل.

–         أعرف …ولكنني أسأل: من أيّ البلدان هاجرت.

–         من فرنسا….عدنا لبلادنا عام 1950.

–         أيّ بلاد تقصدين؟

–         أرض إسرائيل.

–         هل تعتبرين نفسك فرنسية أم إسرائيلية؟

أشارت بإصبعيها السبابة والوسطى دون أن تتكلم….فسألها:

لماذا لم تتعلمي العربية؟

–         أنا تعلمت شويه عربي….بس إذا بيصير إنتي صاخبتي بتعلم كويس….

 احتست نسكافيه مع حليب وابتلعت قليلا من المعجنات… نظرت إلى أبي سالم وقالت: خبيبتي أبو سالم …كُلِي واشربي مثل ما بدك…كل واخد هون بيخدم خاله….وبعد ما نخلص بتركبي معي في السياره وبنروخ يروشلايم عند الكابتن نمرود.

ملأ أبو سالم كأسه”نسكافيه” تذوقها وأعادها بتقزز وهو يسأل: ما هذه القهوة؟

فردت عليه تسيبورا: هذي نسكافيه خبيبتي.

–         هل تحسبينني لا أعرف القهوة؟

–         خبيبتي أبو سالم…هاي شاي….إذا بدِّك… إشربي….ورفعت سماعة الهاتف تسأل غرفة الطعام إن كانت لديهم قهوة عربية…ولمّا أجابوها بالنفي طلبت قهوة سمراء مركزة وبدون سكر….وما هي إلا لحظات حتى طُرق الباب..نادلة أخرى شقراء هيفاء زرقاء العيون…تحضر القهوة السمراء…قالت:بوكر توف”صباح الخير” ولما لم يفهم أبو سالم قالت له تسيبورا: أبو سالم …الست بتقول لك صباخ الخير…

فقال:صباح الخير…

وضعت النادلة القهوة أمام أبي سالم وانصرفت….فقالت تسيبورا:

–         خبيبتي أبو سالم: هذي قهوه عربيه.

–         ملأ كأسه…تذوقها…قال: هذه ليست قهوة عربية…لكنها أفضل من السابقة…شرب قهوة وشايا …أكل المعجنات….تجشأ…لفّ سيجارة”هيشي”…وضعت تسيبورا علبة سجائرها أمامه…حاولت ثنيه عن تدخين الهيشي واستبداله بسجائر Kent الأمريكية الصنع إلا أنه رفض ذلك…رنّ جرس هاتف الغرفة …وعندما ردت تسيبورا جاءها صوت الكابتن نمرود يقول:ما متساف هاكيلف شلاخ”ما هي أخبار كلبك”؟…قدمت السماعة لأبي سالم، فجاءه الصوت من الطرف الآخر:

–         صباح الخير يا أبا سالم…أنا الكابتن نمرود.

–         أسعد الله صباحك سيدي.

–         ما هي أخبارك؟…كيف كانت ليلتك؟…..هل أعجبتك تسيبورا؟

–         الحمد لله سيدي…لكن تسيبورا مشكلة…فهي لا تعرف إلا بضع كلمات عربية.

–         كيف قضيت ليلتك معها؟…من الأفضل هي أَمْ أُمُّ سالم؟

–         النساء متشابهات سيدي.

–         لا…لا يا أبا سالم النساء كالفاكهة لكل صنف طعمه….إنتظرتك كثيرا الليلة الماضية يا أبا سالم….لكنك كنت مستمتعا بتسيبورا ولم تخرج من الغرفة…وأنا لم أُفسد عليك ليلتك…فتركتك وعدت إلى عملي في القدس…ستأتي بك تسيبورا إليّ.

–         مثلما تريد…سيدي.

 أقلّت تسيبورا أبا سالم في سيارتها وسارت باتجاه القدس، لم يكن أبو سالم راغبا في ذلك، فالرجل يريد شخصا يفهم لغته على الأقل، وتسيبورا كانت مأمورة بنقل أبي سالم، وليس أمامها إلا تنفيذ الأمر، جلس أبو سالم بجانبها كالصنم…دارت في رأسه أفكار كثيرة….فهو خائف من انكشاف أمره…ولا يعلم إلى أين ستصل به الأمور….أنّب نفسه كثيرا لاختلائه بتسيبورا في غرفة واحدة…وتأكد له أن(حليب السباع) نوع من الخمور…وتساءل إن كان الله سيغفر له أم لا؟…شعر بأنه أصبح حقيرا حتى أمام نفسه….فالعار والفضيحة ستلاحقه إلى أبد الآبدين فيما لو انكشف أمره…عندها لن يجد ما يدافع به عن نفسه…فقد ارتكب موبقات ثلاث في يوم واحد…لكن العمالة للعدو شيء خطير قد يفقده حياته…وكيف سيواجه أهالي الشهداء الذين سقطوا في الحرب ودماؤهم لم تجف بعد؟….لا….إنها ليست عمالة…فهذه طبيعة الحياة…صراع دائم…وحروب…دول تنتصر…ودول تهزم…لكن الأرض باقية مكانها…تتغير أنظمة طواعية أو بانقلابات عسكرية…لكن ما حصل عندنا ليس تغيير نظام…إنه احتلال…عدو يحتل أرضنا..وشعبنا يتشرد في أصقاع الأرض…لكن الإحتلال سيحكمنا…ومن يعمل مع الحكم القائم ليس عميلا…فكثيرون عملوا في العهد العثماني، وعملوا مع الإنجليز عندما انتهى العثمانيون…لم يعاقبهم أحد…والإنجليز احتلونا قبل اليهود…وقبل أن يبنوا دولة اسرائيل…فهل سيحكمنا اليهود ثلاثة عقود كما حكمنا الإنجليز؟ فإن فعلوها سيوفرون الحماية لمن يعمل معهم…وسأموت قبل أن يرحلوا…وإن انسحبوا قريبا فقد أكلت”الخراء” يا أبا سالم….لكن المصيبة إن اكتشف الناس أنني أعاشر نساء أجنبيات وأتعاطى الخمور في مثل هذا العمر…فهل هذه المصائب كلها مقابل الفلوس؟ وهل سأصبح وجاهة تحميها الدولة كما أحلم، أم سأخسر حياتي مقابل ذلك؟…لا…لا…الأمر ليس بهذه السهولة…لن أكون جاسوسا…وسأخبر الكابتن نمرود بذلك…

التفتت إليه تسيبورا التي كانت سعيدة بصمته وسألته:

خبيبتي أبو سالم فيش بيفكري إنتي؟

لم يرد…فعادت تسأل؟

شو في راسك خبيبتي؟

–         خراء.

ضحكت وقالت بالعبرية: إيش مهعولام هتحتوني”رجل من العالم السفلي”

وأبو سالم لا يلتفت إلى شيء..بل إنه لم ينظر أمامه…يعيش صراعاته وعذاباته…أراد أن يلف سيجارة”هيشي” فنهرته تسيبورا قائلة:

لا تعملي وسخ في السيارة خبيبتي…سيجاره ممنوع.

أعاد علبة السجائر إلى جيبه…ألقى رأسه على الكرسي…أغمض عينيه وعاد يحاسب نفسه.

عندما وصلا المسكوبية أوقفت تسيبورا أبا سالم أمام مكتب الكابتن نمرود….دخلت…سلمت شريط تصوير غرفة أبي سالم في الفندق إلى الكابتن…وهي تقول:هذا شريط كلبك وانصرفت…وضع الكابتن الشريط على الفيديو….وراقب كل شيء، وأبو سالم يتململ، وكلما مرّ من أمامه أحدهم يسأل عن الكابتن نمرود….وتأتيه الإجابة بالإنتظار هادئا…مرت أكثر من ساعة وهو يتلظى تحت الشمس…جفّ لسانه…فأرسل الكابتن نمرود من يسمح له بالدخول…وفي المكتب مدّ يده وصافح الكابتن….وعندما جلس أمامه قال له:

أبو سالم…أنت كلب هرِم.

ماذا تقول يا رجل؟

–         أقول أنك كلب هرم.

–         أهكذا تستقبلني؟  ماذا تريد مني؟

–         أريد منك أن تكون كلبي الوفي.

–         ألم تجد لي وصفا غير الكلب؟

–         الكلب أفضل منك….وأريدك أن تراقب لي كل شيء…وأن تخبرني أولا بأول عن كل شيء…المتسللون الذين يعودون عبر النهر….أريد معرفة كل واحد منهم….ومن هم الذين يحرضون الناس على المظاهرات؟…ومن يمنعون الطلبة من الدراسة في المدارس الرسمية في القدس؟…من بحوزتهم أسلحة؟ ولو كان السلاح مسدسا لا يساوي شيئا؟ وهذه ألف ليرة دبِّر شؤونك بها.

–         يا كابتن…إسمح لي هذه أعمال لا أقوى عليها…وإذا ما افتضح أمري فإنهم سيقتلونني…وإذا  انسحبتم بعد عدة أشهر من سيحميني؟

–         من قال لك بأننا سننسحب بعد مليون سنة؟

–         الناس جميعهم ومحطات الإذاعة يتحدثون عن انسحاب قريب.

–         وهل ينسحب المرء من بيته يا غبي؟

–         أيّ بيت؟

–         هذه الأرض بيتنا الذي وعدنا به الرب….وأنت لا تستطيع أن ترفض ما نطلبه منك يا أبا سالم.

–         لماذا؟

–         لأنك تعرف ما فعلت.

–         وماذا فعلت؟

–         ألا تذكر ما فعلت مع تسيبورا؟

–         والله لم أفعل شيئا معها.

–         أنت كاذب….تعال بجانبي…أنظر إلى أعمالك….لقد عملت معها العجائب.

–         من قام بتصوير ذلك؟

–         الحيطان….قهقه وقال ألا يوجد عندكم مثل يقول”الحيطان لها آذان”؟ وحيطاننا لها آذان وعيون…..وعلى كل إذا لم تنفذ ما أطلبه منك…سأطبع آلاف النسخ من هذه الصور، وسأوزعها على بيوت القرية جميعها.

                  دبّ الرعب في قلب أبي سالم…فجلس على الكرسي يرتجف ويردد يا لفضيحتك يا أبا سالم…فقال له الكابتن: أنت كلب في رقبته حبل يا أبا سالم، ولن تستطيع الإفلات…

–         ومن سيحميني يا كابتن؟

–         إذا عملت بذكاء فلن يكتشفك أحد….وإذا اكتشفوك نتيجة غبائك فنحن لا نتخلى عمّن ساعدونا…فالحياة تقوم على المصالح….اذهب وفكر وعد إليّ غدا بالموقف النهائي…وتذكر صورك في ليلتك الماجنة مع تسيبورا.

                           ****************

زينب جمعت بنات بلدتها في المسجد، ودعتهن إلى الإلتحاق بالمدارس الخاصة، أو بمدارس خارج حدود البلدية، وقالت: أنا شخصيا تركت المدرسة المأمونية في القدس، وانتقلت إلى مدرسة بنات بيت لحم الثانوية للبنات، وعلى الطالبات والطلاب أن يختاروا مدارس تقع خارج حدود البلدية التي وضعها المحتل وقريبة من مكان سكنهم، أو أن يلتحقوا بالمدارس الخاصة إن كان فيها متسع.

 وقال إمام المسجد:

لا يمكن أن يدرس أبناؤنا وبناتنا في مدارس تتبع المعارف الإسرائيلية، والمدرسات والمدرسون رفضوا العودة إلى مدارسهم الرسمية داخل حدود البلدية حسب تقسيمات المحتلين الإدارية، والمحتلون يعينون معلمين مكانهم ممن أكملوا المرحلة الثانوية.

وقالت زينب: شكرا لك يا شيخنا…وأضيف أن المنهاج الإسرائيلي لا يسمح للطلبة بتقديم امتحان الثانوية العامة”التوجيهي”الأردني، وبالتالي فإن الجامعات العربية لن تقبلهم لتكملة دراستهم فيها…

وبعد صلاة المغرب حثّ إمام المسجد المصلين على تسجيل بناتهم وأبنائهم في المدارس الخاصة أو في مدارس خارج حدود البلدية، فقال الحاج عبد الودود:

يا إخوان …المنطقة تعيش حالة حرب، ولا يمكن أن نفرط بأعراضنا، فالبنات خلقن للزواج…ويكفيهن التعليم الإبتدائي في مدرسة القرية قرب بيوتنا وتحت رقابتنا، ولا يعقل أن نرسلهن إلى مدارس في القدس أو خارجها، فمن سيحميهن من جنود الإحتلال، ومن أبناء الحرام؟

أبو سالم: وَحِّدْ ربك يا رجل…جنود جيش الدفاع الإسرائيلي لا يعتدون على الأعراض، وعندهم بنات أكثر جمالا من بناتنا ولا يلتفتون إليهن…وهل سمعتم أنهم اغتصبوا إمرأة؟ والمدارس الرسمية فتحت من أجل أبناء الشعب…وهي لا تتقاضى رسوما مثل المدارس الخاصة، وفي إسرائيل مائة وخمسون ألف عربي يدرس أبناؤهم المنهاج الإسرائيلي في مدارس رسمية، فهل بناتنا وأبناؤنا أفضل من بناتهم وأبنائهم، أم أننا أفضل منهم؟

المختار أبو السعيد: أراك تدافع عن الإحتلال يا أبا سالم…

أبو سالم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم….هل من يقول الصدق والحق يصبح مدافعا عن الإحتلال؟ أم أنكم لا تريدون أن تفهموا الصحيح.

منصور: أنا مع رأي الحاج عبد الودود…البنات يكفيهن التعليم الإبتدائي في مدارس القرية.

أبو سالم: إذا كان هذا رأيك…فلماذا سمحت لإبنتك زينب أن تلتحق بمدرسة بيت لحم؟ ولماذا سمحت لها أن تدور على بيوت القرية وتجمع البنات في المسجد، وتحرضهن على ترك مدارس القدس الرسمية، والإلتحاق بالمدارس الأخرى؟

منصور: لو كانت الأمور بيدي لأخرجتها من المدرسة قبل الإحتلال بخمس سنوات….لكن إخوتها كامل وخليل مصران على تلبية رغبتها بتكميل المدرسة، وقد بقي لها عام واحد وستنهي التوجيهي.

أبو سالم: هل أفهم من كلامك بأن أبناءك خارجون عن طاعتك؟

منصور: أنت رجل لا تستحي…ولولا أننا في بيت الله لعرفت كيف أرد عليك.

إمام المسجد: وحَّدوا الله يا جماعة… تعليم البنات ليس عيبا ولا حراما…وقد حثّ رسولنا عليه الصلاة والسلام على تعليم البنات…فلا تظلموا بناتكم.

 

الحاج عبد الودود: البنات لسن كالأبناء…فالولد أينما ذهب يبقى رجلا أما البنات فـ “همّهن للممات”وزماننا هذا”طاسه وضايعه غطاتها”لا أحد يسمع أحدا…ولا أحد يعلم ماذا سيحصل غدا.

الإمام: يا مسلمين…يوجد مدارس خاصة للبنات وللبنين في القدس…وقد باشرت الأوقاف الإسلامية، وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بفتح مدارس خاصة جديدة مثل التي كانت قبل الحرب…فليلتحق بها أبناؤنا وبناتنا حتى تنفرج الأوضاع…وتنقشع هذه الغيمة.

الحاج عبد الودود: ما رأيكم أن نجتمع بالأساتذة ونستمع لرأيهم فهم متعلمون، ويعرفون بالتعليم وقضاياه أكثر منا.

المختار أبو السعيد: الأساتذة ضد التحاق الطلاب بالمدارس الرسمية التي تطبق المنهاج الاسرائيلي….والمدرسون رفضوا العودة للعمل في هذه المدارس.

أبو سالم: الأساتذة شباب طائشون لا يعرفون مصلحتهم حتى يعرفوا مصالح أبناء الآخرين…وابني سالم ترك العمل في مدارس رام الله وانتقل إلى مدارس القدس، ورواتب المعلمين في اسرائيل أضعاف رواتبها عندنا….وفي القدس سيتقاضى المعلمون رواتب مثل الإسرائيليين…والعمال في الورشات الإسرائيلية يتقاضون أجورا أكثر من راتب وزير قبل الحرب….أم أنكم تحللون العمل وتحرمون التعليم؟

المختار أبو السعيد: الحديث مع أبي سالم لا يجدي نفعا…أي لو تَشاهَدَ أحدكم وقال: لا إله إلا الله…محمد رسول الله، فسيرد عليه أبو سالم بأنه قد كفر.

أبو سالم: ماذا تقصد يا أبا سعيد؟

المختار: أنا ذاهب إلى بيتي…قالها وخرج….فتبعوه خارجين إلى بيوتهم….أوهموا أبا سالم بأنهم عائدون إلى بيوتهم كي يتخلصوا منه….لكنه راقبهم وهم يلتفون في الطريق ويتسللون إلى بيت المختار أبي السعيد…وهناك قال منصور:

عندما اصطففنا أمام مكتب الهويات للحصول على بطاقات لنا….خرج موظف من الداخل وأخرج  أبا سالم من الصف وأدخله…وقبلها كان رجل قوي البنية أشقر البشرة يشير للموظف إلى أبي سالم  من شباك مكتب في الطابق الثاني،  وخرج أبو سالم مطأطئا رأسه، ويحمل بيده أكثر من بطاقة هوية، وهذا ما شاهدته بنفسي، فبماذا تفسرون ذلك؟

المختار: الرجل دنيء النفس طيلة حياته، ولا أستبعد عنه شيئا.

الحاج عبد الودود: يجب الحذر منه وعدم الحديث أمامه.

الإمام: ولماذا لا تتم مقاطعته كليا؟

منصور: أخشى أن يشي بالشباب.

الحاج عبد الودود: هذا رجل تافه لا يعرف شيئا يشي به.

الإمام: الرجل لا يخاف الله، ويكذب…فإن لم يجد ما يشي به…سيبتدع أشياء كاذبة….

المختار: الإنجليز زمن الإنتداب اعتمدوا على حثالات المجتمع لبث الفتنة بين الناس…والمحتلون لن يجدوا من يناصرهم سوى الساقطين من أمثال أبي سالم…والسلطات الحاكمة تخشى الشباب وتراقبهم.

الإمام: ما العمل معه؟

المختار: لا تتكلموا معه أو أمامه بشيء ذي قيمة…مع أنه لا توجد عندنا أسرار نخفيها عن الإحتلال أو غيره.

                         **************

 

في الثامنة صباحا وقف أبو سالم أمام المسكوبية يستأذن الدخول لمقابلة الكابتن نمرود….فلم يأذن له الشرطي الذي يحرس البوابة…فجلس على رصيف الشارع ينتظر…وفي حوالي الساعة التاسعة وصل الكابتن نمرود…توقف بجانب أبي سالم…وأشار إليه بأن يجلس بجانبه في السيارة…ودخلا…وفي المكتب سأل الكابتن:

ما هي أخبارك يا أبا سالم؟

–         الحمد لله.

–         هل فكرت بالموضوع؟

–         نعم فكرت…وقبلت…وعملت ..وأحضرت لك بعض الأخبار.

–         هاتِ ما أحضرت.

–         إسمعني واكتب الأخبار…فأنا لا أجيد الكتابة والقراءة.

–         تفضل.

–         زينب بنت منصور…انتقلت للدراسة في مدرسة بيت لحم الثانوية للبنات، وجمعت بنات القرية في المسجد، وطلبت منهن عدم الدراسة في المدارس الرسمية في القدس، لأنها ترفض المنهاج الإسرائيلي….وإمام المسجد يؤيد كلامها…..والحاج عبد الودود يدعو إلى إخراج البنات من المدارس بعد المرحلة الإبتدائية…..ويوجد منشورات في البلد تدعو إلى مقاطعة التعليم في المدارس الرسمية في القدس…والمختار أبو السعيد يؤيد (الأساتذة) الذين يوزعون المنشورات….ويغضب من كلامي عندما أتحدث…ويتهمني بالدفاع عن الإحتلال.

–         كم عمر زينب؟

–         حوالي سبعة عشر عاما….هذه السنة ستنهي التوجيهي.

–         ومن يحرضها أو يقف خلفها؟

–         أخواها كامل وخليل الأكتع.

–         وماذا يعملان وكم عمر كل واحد منهم؟

–         كامل عمره حوالي خمسة وثلاثين عاما ويعمل في البناء وفي زراعة الأرض…والأكتع أنهى التوجيهي هذا العام…لكنه ولد سليط…يتدخل في أمور كثيرة…وله علاقة مع (الأساتذة..داود…فؤاد…ومحمد) ويلقبونه في البلدة بالأستاذ…وهؤلاء في انتخابات العام 1957 دعموا المرشحين الحزبيين، وكانوا يرافقونهم، وأحضروهم للبلدة عدة مرات.

–         وهل عندك أخبار أخرى يا أبا سالم؟

–         نعم…لكن أريد منك وعدا أن لا تتحدث لأحد من أبناء البلدة عني.

–         نحن لا نكشف أعواننا ما داموا صادقين معنا.

–         فالح بن أبو فالح…عاد هو وزوجته متسللين من الضفة الشرقية ليلة الخميس الماضي….والحاج خليل محمود وصابر حمدالله وعبد الخليل يقومون بتهريب أشخاص وأغراض خفيفة من الضفة الشرقية…

–         ولماذا يقومون بهكذا أعمال؟

–         يتقاضون عشرة دنانير عن كل شخص يهربونه…وهم يعرفون الطرق جيدا…يتخطون الشوارع التي تسلكها السيارات…كما يعبرون النهر من المناطق البعيدة عن نقاط المراقبة العسكرية.

–         هل يهربون أسلحة؟

–         حسب علمي لا يهربون أسلحة…فهم لا يحتاجونها…هم يهربون بعض البضائع الخفيفة وغالية الثمن…وهم معتادون على التهريب زمن الإنتداب…وهدفهم أن يجمعوا أموالا فقط.

–         وكم مرة يهربون في الشهر؟

–         إنهم ينامون ليلة هنا وصباح اليوم التالي يسافرون إلى الضفة الشرقية ويعودون في الليلة القادمة.

 سجل الكابتن نمرود كل ما نقله له أبو سالم…طلب فنجان قهوة لأبي سالم…وقال له: إسمعني جيدا يا أبا سالم.

–         أمرك سيدي.

–         أريدك أن تراقب كل شيء في البلدة…وأن تسمع كل كبيرة وصغيرة فكل شيء مهم…ولا أريدك أن تكذب علينا…فنحن لا نحب الكذب…وسهل علينا أن نكتشف المعلومة الكاذبة من الصادقة…ولا أريدك أن تحضر إلى المسكوبية بتاتا…لا أريد أن يراك أحد هنا…سآخذك الآن إلى محل يبيع الأحذية…وسأعرفك على صاحبه…عندما تكون لديك أخبار جديدة…قف أمام المحل وانظر الأحذية في “الفاترينا” كأنك تريد ابتياع حذاء…وعندما لا يكون عرب قريبين منك أدخل المحل…وسيأخذك صاحبه إلى السَّدّة العلوية…تشرب القهوة وتتصل بي هاتفيا وتسمعني الأخبار التي أتيت بها…وإذا كانت هناك ضرورة سأحضر إليك أنا.

–         هذا أمر جيد.

–         وهذه ألف ليرة مقابل أخبارك التي أتيت بها …إنها تساوي مائة دينار أردني تساوي دخلك لأكثر من عام في السنوات السابقة.

–         شكرا لك.

–         لكن أحذرك من مغبة الإلتفاف علينا…أو خداعنا…عندها سأوزع صورك وأنت مع تسيبورا في الفندق…وسأنشر بين الناس بأنك تعمل معنا…وعليك أن تتحمل عواقب ذلك.

–         أنا يا سيدي لا أخون اليد التي تساعدني…بل أُقبلها.

–         أنت كلب وفيّ.

–         عووووووووووو.

 انتهى

15-7-2011

الجزء الأول:ظلام النهار.

الجزء الثاني: جنة الجحيم.

الجزء الثالث: هوان النعيم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

      

  

  

 

 

 

 

     

    

 

 

   

 

 

 

 

     

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات