رواية الفتيات والفتيان-جبينه والشاطر حسن

ر

جميل السلحوت

جبينه والشاطر حسن

رواية للفتيات والفتيان

مكتبة كل شيء – حيفا-2023

في البرّيّة

     تحبُّ جُبينه الّلعبَ، والتّنزّهَ، والتّغنّي بجمال الطّبيعةِ، وهذا ليس غريبًا عليها، فقد عوَّدَها والداها على ذلك، وقلّدَهُ آخرون صاروا يصطحبون أطفالَهُم بجولاتٍ في البراري، بعد أنْ وصَفَتْ لهم جبينه ما شاهدتْه في تلك المناطق الجميلة.

   تسكنُ أُسْرَةُ جبينه في بابِ حُطّة، قريبًا من بُرْجِ الّلقلق في القدس القديمة، وكلّما وقفتْ بجانب نافذةٍ من بيتهم رأت المسجدَ الأقصى؛ فينشرحُ قلبُها وتعلو وجهَها ابتسامةٌ عريضةٌ، وتمعنُ النّظرَ إلى قبّةِ الصّخرةِ المشرّفةِ، فتتعجّبُ من جمالِ جدرانِها الخارجيّةِ المزخرفةِ بالفُسيفساء، تضحكُ بملءِ فِيْها، وهي ترى قَطَراتِ النَّدى تنزلقُ في ساعات الضُّحى من قِمَّةِ القُبّةِ الذّهبيّةِ، حيثُ يقف الهلالُ شامخًا فوقَها، تجولُ بعينيْها المدينةَ، فيقعُ نظرُها على قُبَّةِ كنيسةِ القيامة، ترى الهلالَ على مآذنِ المساجدِ، يعانقُ الصّليبَ على أبراجِ الكنائسِ والأديرةِ، فيمتلئُ قلبُها إيمانًا.

ذات صباحٍ خرجتْ أسرةُ جبينه في رحلةٍ إلى براري السّواحرة، قاد أبو جبينه السّيّارةَ واتّجهَ شرقًا إلى جبل الزّيتون، عند قمّةِ الجبلِ اتّجهَ جنوبا إلى أبو ديس، ومنها إلى السّواحرةِ الشّرقيّةِ باتّجاه البرّيّةِ، مرّوا بمضارب بدويّةٍ في منطقة “الضُّحضاح”، رأوا امرأةً أمامَ إحدى الخِيامِ جالسةً، وقد ثنتْ رُكبةَ رِجْلِها اليُمنى، وتخضُّ اللبنَ في سِقاء؛ يرتكزُ السِّقاء على ركبتِها، وتُحرّكُهُ بسرعةٍ ذات اليمينِ وذاتَ اليسار؛ لتستخرجَ منه الزّبدةَ.

أوقف أبو جبينه سيّارتَه في الضُّحْضاحِ بناءً على طَلَبِ زوجتِه وابنتِه، ألقتْ والدةُ جبينه السّلامَ على المرأة البدويّةِ، التي ردّتِ التّحيّةَ بمثلِها، ودعتْهم لضيافتِها. لكنَّ أمَّ جبينه اعتذرت بأدبٍ جمّ بعد أنْ عانقتِ المرأةَ البدويّةَ، الّتي قبَّلتْ وجنتَيّ جبينه، وهي تُصلّي على النّبيِّ؛ لِتطرُدَ عنها العينَ الحاسدةَ، لكنّها لم تسمحْ لهم بالمغادرةِ قبلَ أن يشربَ كلُّ واحدٍ منهم كأسَ لَبَنٍ رائبٍ.

سألت جبينه والدَتَها:

من هذه المرأةُ يا أمّي؟

أجابتِ الأمُّ: هذه بائعةُ الجُبْنِ الّتي كانت سببًا بِحَمْلي بكِ.

استغربتِ جبينه ما سمعتْهُ من أمِّها، وسألتْ:

وكيف كان ذلك؟

قالتِ الأمُّ: هذه امرأةٌ تقيّةٌ نقيّةٌ، جلستْ ذات يومٍ قريبًا من بابِ بيتِنا تبيعُ الجبنَ واللّبنَ الرّائبَ، كانتْ تَعِبَةٌ تتصبَّبُ عَرَقًا، اشتريتُ منها تنكَةَ الجبنِ التي كانت معها، قدّمتُ لها ماءً باردًا، وأعددْتُ لها كأسَ شايٍ، احتستْها، وهي تمسحُ عَرَقَها، نقدتُها ثمنَ الجُبنِ الذي ابتعتُهُ منها، توضّأتْ وصلّتْ في بيتِنا، عندما انتهتْ من صلاتِها، مدّتْ يديْها عاليًا ودَعَتِ اللهَ. خرجتْ من بيتنِا، وهي تدعو اللهَ لي، وتقول:

أسألُ اللهَ أنْ يعطيَكِ ما تشائين.

فأمّنْتُ على كلامِها، وقلتُ على مسمَعِها:

اللهُمَّ ارزقني بِنْتًا جميلةً بيضاءَ مثلَ جُبنةِ هذه المرأةِ الطَّيِّبَةِ.

فسمعَ اللهُ دعائي ودعاءَها، ورزقني إيّاكِ، فأسميتُكِ جبينه تيمُّنَا بِجُبْنَةِ المرأةِ الطّيّبة.

أصغتِ جبينه لحديثِ والدتِها باهتمامٍ بالغٍ، وسألتْ:

وهل أنا بيضاءُ يا أمّي مثلَ الجُبْنَةِ؟

أجابت الأمّ: نعم، أنتِ أجملُ الجميلاتِ، وأكثرُ البناتِ بياضًا.

عادت جبينه تسألُ أمَّها:

كيفَ عرفتِ أنَّ اللهَ استجابَ لدُعاءِ هذه المرأةِ الطّيّبةِ؟

ضحكتْ أمُّ جبينه، وقالتْ:

لقد تزوّجتُ أباك قبلَ أنْ أحملَ بكِ بعشرِ سنواتٍ، ولم أحملْ بك إلّا بعدَ دعاءِ تلك المرأةِ الطَّيِّبَةِ.

جبينه: هل يستجيبُ اللهُ دُعاءَ النّاسِ الطّيّبين؟

الأمّ: ليس بينَ اللهِ وعبيدِه حجابٌ، ومن يدعو اللهَ بإيمانٍ يستجيبُ له.

جبينه: لِمَ سمّيتِني جبينه يا أمّي؟

ابتسمتِ الأمُّ، وهي تحتضنُ ابنتَها جبينه تُقَبِّلُ وَجْنَتَيْها، وتقولُ:

في الليلةِ التي حملتُ بكِ فيها جاءني في المنامِ شّيْخٌ أشيبُ، وقورٌ، ذو مهابةٍ يرتدي ملابسَ بيضاءَ، تحسّسَ وجهي، وقال لي:

لقد استجابَ الله دعاءَكِ أنت وبائعة الجبنِ، وأنتِ بدءًا من هذه الّليلةِ حاملٌ ببنتٍ  بيضاءَ ناصعةِ البياضِ كالجُبْن، رائعةِ الجمالِ، سمِّيها جبينه، وسيكونُ لهذه البنتِ شأنٌ غيرُ مسبوقٍ، ستغارُ النّساءُ من حُسنِها، سيتسابقُ الأعيانُ للزّواجِ منها، وسيكونُ نصيبُها مع أكثرِهم وسامةً وشهامةً، وأعلاهُم شأنًا، وأعطاني خرزةً زرقاءَ الّلونِ، وأوصاني بأنْ أُقلّدَكِ هذه الخرزةَ في رَقَبَتِكِ؛ لأنّها ستحفظُكِ من كلِّ مكروهٍ، وستُخرِجُكِ من كلِّ ضيقٍ.

شَعَرَتْ جبينه بسعادةٍ غامرةٍ، وسألتْ والدتَها ببراءةِ الطُّفولةِ، وهي تضحكُ:

هل يعني هذا أنّني سأتزّوجُ الملكَ؟

أجابتِ الأمُّ ضاحكةً:

الملكُ من جيلِ أبيك، وإن شاءَ اللهُ ستتزوّجين وليَّ عهدِهِ، فهو من جيلِكِ.

       وصلتِ الأُسْرةُ منطقةَ الدِّمْنَةِ، بَنَوْا خيمتَهم في طرَفِها الشّماليِّ، بجانبِ خِيامٍ لمتنزّهين آخرين، التحقتْ جبينه بالأطفالِ المنتشرينَ في سُفوحِ الجبالِ والتّلالِ المجاورةِ، يلتقطون أعشابًا تُؤكلُ نَيْئَةً، مثلَ: الذُّبّيحِ، الحُمّيض وغيرها، بينما التحقتْ أمُّ جبينه بنساءٍ أخرياتٍ يُبَقِّلْنَ الخُبّيزَةَ والحويرّةَ واللفّيتةَ والعَكّوبَ، في حين تمدّدَ أبو جبينه في الخيمةِ ينظرُ جبلَ المنطار، الّذي يعلو الدِّمنةَ من جهةِ الجنوبِ.

         جمعتْ بعضُ النِّساءِ الحطبَ، عملتْ كلُّ واحدةٍ منهنَّ موقدًا أمامَ خيمتِها الصّغيرةِ، طبخنَ الخبّيزةَ كوجبةِ غداء، أمّا أمُّ جبينه فقد كان بحوزتِها بابورُ كازٍ

” بريموس”، أشعلتْهُ داخلَ الخيمةِ، وطبختْ خُبّيزة، وقبل أن تنضجَ طبختُها عادت جبينه تحملُ ضُمّةً من الحُمّيض، فأضافتْها والدتُها إلى الطّبخةِ، وهي تقولُ:

 هذا الحُمّيضُ يُعطي الخُبّيزةَ حموضةً ناعمةً أفضلَ من الّليمون.
سألت جبينه والدتَها، وهي تُشير إلى الحويرّةِ:

ما هذا؟

أجابت الأمُّ، وهي تضعُ ورقَ العُشْبَةِ في فمِها:

هذه عُشبةٌ لذيذةٌ اسمُها الحويرّةُ، وهي تُؤكلُ نَيْئَةً، لكنّها لذيذةٌ جدًّا عندما تُفْرَمُ ويُضافُ إليها الّلبنُ، ويسمّيها البعض” حويرنة”.

أمسكتِ جبينه ورقةَ حويرّة ووضعتْها في فمِها، عندما مضغتْها، قالتْ لأمِّها:

إنّها تحرقُ يا أمّي!

ضحكتِ الأمُّ، وقالت:

نعم، في طعمِها قليلٌ من الحُرقةِ، لكنّها تتلاشى مع اللبن.

بعدَ أن تناولوا وجبةَ الغداءِ المُكَوَّنةِ من الخُبّيزةِ الّلذيذةِ، أشارَ أبو جبينه إلى قمّةِ جبلِ المنطار، وسألَ زوجتهِ: 

ما رأيُكِ أن نذهبَ إلى قمّة ذاك الجبلِ المرتفعةِ؛ لِنَرى المنطقةَ؟

اعتذرتْ أمُّ جبينه، وقالتْ بأنّها تَعِبَةٌ، وتريدُ أنْ تغفو قليلًا؛ لترتاحَ، في حين قفزَت جبينه، وقالت لأبيها، وهي تُطَوِّقُ رقبتَهُ بيديْها:

أنا سأذهبُ معكَ يا أبي إلى قِمَّةِ الجبلِ.

تراجعَ أبو جبينه عن فكرتِهِ بالذّهاب إلى قِمَّةِ الجبلِ مشيًا على الأقدامِ، خوفًا على ابنتِه من التّعبِ، وقرّرَ الذّهابَ بالسّيّارةِ رغمَ أنَّ الطّريقَ ترابيّةٌ ووعرةٌ.

عند قمّةِ الجبلِ نظرت جبينه إلى جهةِ الشّمالِ الغربيّ، وسألت أباها عن البلداتِ التي تراها، فأجابها الأبُ:

ذلك الجبل البعيدُ المرتفعُ هو جبلُ الزّيتون، وتلك المئذنةُ برجُ كنيسةٍ، والبلدةُ الواقعةُ أسفلَهُ هي بلدةُ العيزريّة، وبجانبها بلدةُ أبو ديس، تليها السّواحرةُ الشّرقيّة، والتفتَ إلى الجنوبِ الغربيِّ، وقال: تلك مدينةُ بيت ساحور، وتعلوها مدينةُ بيت لحم. ثمّ أشارَ إلى بلدة العبيديّةِ، وهي الأقربُ إليهما. ومن هناكَ أشارَ إلى منطقةِ الخان الأحمرِ، والتفتَ شرقًا، وقال: تلكَ الجبالُ هي سلسلةُ جبالِ الغورِ الشّرقيّةِ، التي تتوسّطُها مدينةُ السّلطِ الأردنيّة.

عندما استداروا جنوبًا رأوا البحرَ الميّتَ، تتلألأُ مياهُهُ المالحةُ كَصَحْنٍ فِضّيٍّ عظيمٍ. وتحتضنُهُ سلسلةُ جبالِ مؤاب من جنوبِه، حيثُ تقعُ مدينةُ الكَرَكِ الأردنيّةُ.

هزّت جبينه رأسَها بعدَ كلِّ منطقةٍ يذكُرُها والدُها؛ دلالةً على موافقتِها، فهي فخورةٌ بوالدِها، وترى أنّهُ يعرفُ كلَّ الأمكنةِ، مع أنّ أيًّا من هذه الأمكنةِ لم يترسّخْ في ذهنِها.

       جلس أبو جبينه على قمّةِ الجبلِ، ووجهُهُ إلى جهةِ الشّرقِ، بينما جبينه تركضُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال دون هدفٍ، لكنّها سعيدةٌ بهذا المكانِ، حذّرها أبوها من مغبّةِ الوصولِ إلى حافّةِ الجهةِ الشّرقيّةِ، التي تنحدرُ بشكلٍ حادّ نحو “جوايف شَرَف”.

      عندما نظرت جبينه إلى “جوفةِ المَخبّيّة” رأتْ على حافّةِ جبل المنطارِ، التي تمتدُّ شمالًا منخفضةً بِبُطْءٍ، رأتْ حجارَةً مقنطرةً فوقَ بعضِها البعض، فسألتْ أباها عن سببِ ذلك، فأجابَها:

لا أعلمُ، لكنّني أعتقدُ أنّ أطفالًا بنوها، وهم يلعبون.

     وفي هذه الأثناء مرّ رجلٌ يمتطي حمارًا، ويسيرُ باتّجاهِ منطقةِ “الزّرانيق” التي تقع بين جبل المنطارِ ومنطقة “البقيعة”، سَمِعَ سؤالَ الطّفلةِ، فأوقفَ حمارَهُ، وقالَ بعد أن طرَح السّلامَ:

هذه الحجارةُ التي ترونَها هي إشاراتٌ للمارَّةِ، الّذين يزورون مقامَ النّبيِّ موسى، خصوصًا في موسمِه، الّذي يتزامنُ مع عيدِ الفصحِ عندَ المسيحيّين، وأشارَ إلى حجارةٍ أخرى على حافّةِ الجبلِ عندَ ” شِعْبِ الزّبْدة”، وقال:

تلك القناطرُ الحجريّةُ علاماتٌ تُشيرُ إلى طريقِ مقامِ النّبيِّ موسى، وكلُّ قَنطرةٍ حجريّةٍ تُطِلُّ على الأخرى من جهةِ الشّرقِ؛ حتّى يصلَ الزّائرون والمارّةُ مقامَ النّبيِّ موسى.

شكرَ أبو جبينه الرّجلَ على هذه المعلومةِ، واصلَ الرّجلُ طريقَهُ، لكنّه توقّفَ عندما نظرَ إلى وجهِ جبينه، رأى عينيْها الّلتين تُشبهان عيونَ المَها، شعرَها الذّهبيَّ الذي يتطايرُ مع النّسيم، سمعَ قهقهتَها، الّتي ذكّرتْهُ بخرير جداولَ نبعِ عين جِدِي، وهي تتساقطُ على سفحِ الجبلِ، فتقفزُ فوق الصّخور مسرعةً في طريقِها إلى البحرِ الميّتِ، سحرتْهُ بابتسامتِها العذبةِ، وصوتِها الذي يُشبهُ تغريدَ العنادِلِ، فسألَ أباها:

هل هذه الطّفلةُ ابنتُكَ؟

أبو جبينه: نعم، إنّها ابنتي.

الرّجل: اعتنِ بها، واحرُسْها.

وهنا اقتربت جبينه من الرّجلِ، وسألتْه، وهي تبتسمُ:

هل تسمحُ لي يا عمُّ أن أركبَ الحمارَ؟

     نزل الرّجلُ عن ظهرِ حمارِه، حملَ جبينه ووضعَها على ظهرِ الحمارِ، وهو يقولُ:

لا أستطيعُ أنْ أرفضَ طلبًا للملكة.

   مشى على يمينِ الحمارِ، وهو يمسكُ بذراعِ جبينه؛ كي لا تسقطَ عن ظهرِ الحمارِ، متجاهلًا كلامَ أبيها، الذي قفزَ من مكانِه، وهو يقول:

لا تستجبْ لِطَلَبِها.

    أدارَ الرّجلُ وجهَ الحمارِ إلى جهةِ الغربِ على قمّةِ الجبلِ؛ كي لا يمشيَ بالطّفلةِ هابطًا المُنحدَر، فالحمارُ يعرفُ طريقَهُ إلى مضاربِ صاحبِه، مشى الحمارُ متباطِئًا حوالي عشرين مترًا، وقهقهةُ جبينه تنثرُ السّكينةَ على قمّةِ الجبل، ووالدُها يمشي على يمينها ممسكًا بذراعها الأيسرِ، وبعدها استدار إلى جهةِ الشّرق، وجبينه تضحكُ بملْءِ فيها، وتطلبُ من الرّجلِ ومن أبيها أن يتركاها وحدَها على ظهرِ الحمار، أنزلَها الرّجلُ عن ظهر الحمارِ بعدَ أنْ طبعَ قبلةً أبويّةً على ظاهر كفِّ يدِها اليُمنى، وقالَ لأبيها:

انتبِهْ لهذه الأميرةِ الصّغيرة، واحرُسْها. وواصلَ طريقَهُ.

     أمسكَ أبو جبينه يدَها؛ كي لا تفلتَ منه، ومشى باتّجاه سيّارتِهِ؛ ليعودا إلى الخيمةِ في منطقة الدِّمْنَةِ، حيثُ تنتظرُهم أمّ جبينه، حاولت جبينه أن تتملّصَ من يدِهِ دون جدوى، ركلتْ بقدمِها اليُمنى حجرًا رقيقًا، رأت تحتَه عقربًا، فصرختْ:

هذا عقربٌ…انظرْ يا أبي.

حاولتِ الجلوسَ قرفصاءَ بجانبِ العقربِ، لكنّ أباها رفعَها، وهو يقولُ:

العقاربُ سامّةٌ وسُمُّها قاتلٌ، فابتعدي عنها.

قالت جبينه: أريدُ أنْ أنظرَ إليها فقط، ولن ألْمَسَها.

عندما جرَّها والدُها، وهو يمسكُ يدَها، انزاحتْ حجارةٌ أخرى؛ بسبب حذاءِ جبينه الذي ارتكزتْ مُقَدِّمَتُه على الأرضِ، فظهرتُ عقاربُ أخرى، توقّفَ أبو جبينه وأشارَ إلى العقاربِ، وهو يقول:

انظري…ما أكثرَ العقاربَ هنا، دعينا نبتعد عنها، فهي خطيرةٌ.

عندما وصلت جبينه وأبوها إلى خيمتِهم الصّغيرة، قال لزوجتِه:

هيّا بنا نجمعُ أغراضَنا؛ لِنَعودَ إلى بيتِنا قبلَ مغيبِ الشّمسِ.

اعترضت جبينه على كلامِ أبيها، وقالتْ:

أنا أريدُ أن أبقى هنا، فالمكانُ جميلٌ وهادئٌ.

سألَها أبوها مازحًا:

أينَ ستنامين إذا بقيتِ هنا وحدَكِ؟

ردّت جبينه، وهي تحتضنُ خاصِرَتَيْها بكفّي يديْها:

سأنامُ عند صديقتي وضحا!

تفاجأَ أبوها بجوابِها، فسألَها:

من تكونُ وضحا صديقَتُكِ؟ وكيف عرفتِها؟

وقفتْ جبينه أمامَ الخيمةِ، وأشارتْ إلى بيتٍ من شَعْرِ الماعزِ قريبٍ من المكان، وقالت: ذاك هو بيتُ وضحا، وقد عرفتُ وضحا، ولعبتُ معها عند ذلك الحاجبِ الصّخريِّ، ونحن نلتقطُ “الحُمّيضَ” من بين الصُّخور الصُّوّانيّة، وقد عرَضتْ عليّ أنْ أذهبَ معها إلى بيتهم، لكنّي اعتذرتُ، وقلت:

لا أستطيعُ أنْ أذهبَ معكِ إلى بيتِكُم قبلَ أنْ أستأذِنَ من أبي وأمّي.

ضحكَ والدا جبينه فَرِحَيْنِ بِنَباهَةِ ابنتِهما، وقالتْ أمُّها لها:

سنعودُ إلى هذا المكانِ الجميلِ بعد يومين، سنُجَهِّزُ فِراشًا وغطاءً، وسنمضي هُنا ثلاثةَ أيّامٍ على الأقلِّ.

عادت جبينه تسأل:

ما المانعُ عِندَكُمْ إذا بقيتُ عندَ وضحا حتّى تعودا؟

أجابتْها والدتُها:

لا يليقُ بطفلةٍ عمرها عشرُ سنواتٍ أن تنامَ بعيدةً عن والديْها.

صمتت جبينه قليلًا، وسألتْ:

هل تخافونَ عليَّ إذا نِمتُ عندَ البدو.

ضحك أبو جبينه، وقال:

البدوُ يا بُنَيّتي يُكْرِمونَ ضيفَهم ويحمونَهُ، لكنَّ حياتَهُم قاسِيَةٌ لا تحتملينَها.

جمعوا أغراضَهم ووضعوها في صندوقِ السّيّارةِ، أشعلَ أبو جبينه السّيّارةَ وزوجتُه بجانبِهِ، وجبينه واقفةٌ مكانَها لا تتحرَّكُ، أرادَ والدُها أن يستعجلَها، فقال بعد أن قادَ السّيّارةَ بضعةَ أمتارٍ:

 إذا لم تأتِ مسرعةً سنتركُكِ هنا!

أشارتْ لهُ بيدِها، وقالت له:

إلى اللقاء، وأدارتْ ظهرَها؛ تريدُ الذّهابَ إلى صديقتِها وضحا.

نزل أبوها من السّيّارةِ وركضَ خلفَها، حملَها بين يديه، قبَّلَ وَجْنَتَيْها فرِحًا بها، وضعَها على الكرسِيِّ الخلفيّ للسّيارة، وانطلق عائدًا إلى بيتهم.

عندما مرّوا بمنطقةِ وادي “تشُخّ الضَّبع” صرخت جبينه:

انظروا هناك ثعلبان يطردُ أحدُهما الآخر، ينزلان الجبلَ بسرعةٍ فائقةٍ، وقبلَ أن يرى والداها الثّعلبين، شعروا بشيءٍ يصطدمُ بِعَجَل السّيارِة الخلفيِّ من جهة اليمين، أوقف أبو جبينه السّيّارةَ، ونزلَ يستطلعُ الأمرَ، وإذا به ثعلبٌ مطروحٌ أرضًا في حالةِ إغماء، بينما كان الثّعلبُ الآخرُ يدورُ على بُعدِ حوالي ثلاثينَ مترًا خلفَهم، فيقتربُ ويهربُ وكأنّه يحاولُ إنقاذَ رفيقِه، خافت جبينه من الثّعلبِ ولم تنزلْ من السّيّارةِ، واكتفتْ بِمُراقبةِ ما يجرى من خلفِ زجاجِ نافذةِ السّيّارة المُغلقِ، حملَ أبو جبينه الثّعلبَ الطّريحَ من ذيْلِهِ، ألقاهُ في صندوقِ السّيّارةِ الخلفيّ، وأغلقَ البابَ عليه، ثمّ عادَ يقودُ سيّارتَه، فسألتْهُ زوْجتُهُ:

ماذا تريدُ بهذا الثّعلب؟ لِمَ وضعتَهُ في صندوقِ السّيّارة؟

أجابَها مبتسِمًا:

سنسلخُ جِلْدَهُ وسنبيعُهُ، فجلودُ الثّعالبِ غاليةُ الثَّمنِ، فهم يصنعون منها قُبَّعاتٍ ومعاطفَ.

سألت الزّوجةُ مستغربةً:

هلُ ستسلخُ جلدَ ثعلبٍ نافقٍ؟

وهنا قالت جبينه:

نعم، سيسلخُ أبي جِلْدَ الثّعلبِ، وسيصنعُ لي منه قُبَّعةً.

ضحك والداها من حديثِها، وقالت أمُّها:

لكنّ أباك لا يعرفُ كيف سيتعاملُ مع هذا الجلدِ، ولا يعرفُ كيف تُصنعُ القُبّعات.

قال الأبُ: سأسلخُ جلدَهُ، وسآخُذُه معي إلى مَدْبَغَةٍ في الخليل، حيثُ يصنعون الأحذيةَ والمعاطفَ الجلديّةَ، وهناك سأطلبُ منهم أن يعملوا قبّعةً من جلدِ الثّعلبِ لابنتي الحبيبةِ جبينه.

ضحكت جبينه بملءِ فيها، وقالتْ لأبيها:

سأذهب معكَ إلى الخليل؛ لأشاهدَ كيف يدبغون الجلودَ، وكيف يصنعون منها أحذيةً ومعاطف.

فسألتْها والدتُها مازحةً:

هل ستأخذاني معكما إلى الخليلِ يا جبينه؟

ردّت جبينه، وهي تُقَهْقِهُ:

لن نأخذَكِ معنا؛ لأنّك لم توافقي على سَلْخِ جِلْدِ الثّعلبِ.

فضحك والداها، وقالا لها بصوتٍ واحِدٍ:

كما تشائين يا جبينه.

عندَ المدخلِ الشّرقيِّ للسّواحرةِ الشّرقيّة، التفّوا يمينًا باتّجاهِ وادي أبو هندي؛ ليدخلوا “أبو ديس” من جنوبها الشّرقيّ، وفي الوادي رأوْا على قارعةِ الطّريقِ سِرْبًا من الغِربانِ ينهشُ جِيفَةَ حمارٍ نافقٍ، والنّسيمُ يحملُ رائحةَ الجيفةِ العَفِنَةِ الكريهةِ، غطّت جبينه أنفَها بِطَرفِ رِدْنِها، وقالتْ متأفِّفَةً:

ما هذه الرّائحةُ الكريهةُ؟

فأجابتْها أمُّها: هذه رائحَةُ جيفةِ الحمارِ النّافقِ.

جبينه: كيف تأكلُ الغِربانُ لحمَ حمارٍ متعفّنٍ؟

الأمّ: الغِربانُ من الطّيورِ الجوّالةِ التي تأكلُ الجِيَفَ.

في أبو ديس مرّوا ببقّالةٍ صغيرةٍ، فطلبت جبينه من أبيها أن يوقِفَ السّيّارةَ؛ ليشتريَ لها عصيرًا تَشْرَبُهُ، توّقّفَ أبوها على يمينِ الشّارعِ، أعطاها خمسةَ قروشٍ؛ لِتشتريَ ثلاثَ زُجاجاتٍ من عصير البرتقالِ، نزلتْ جبينه، وأسرعتْ إلى البقّالةِ، انتظرَها والداها أكثرَ من خمسِ دقائق، لَحِقَ بها أبوها؛ لِيَعْرِفَ سبَبَ تأخُّرِها، فوجدَها تجلسُ على كرسيٍّ صغيرٍ من القشِّ، تشربُ عصيرَها، وتسردُ لصاحبِ البقّالةِ عن رحلتِها في البرّيّةِ، وعن الأعشابِ التي قطفتْها وأكلتْها نَيْئةً، وصاحبُ البقّالةِ يستمعُ إليها باسمًا فرِحًا بها، سألَها أبوها:

لِمَ تأخّرتِ يا جبينه؟

أجابت جبينه، وهي جالسةٌ على الكرسيِّ:

حدّثتُ هذا الرّجلَ الطّيّبَ عن جمالِ البرّيّةِ في فصلِ الرّبيعِ.

قالَ الأبُ مبتسمًا:

هذا الرّجلُ يعرفُ البرّيّةَ أكثر منّي ومنكِ.

جبينه: أردتُ تذكيرَهُ بها؛ ليأخذَ زوجتَهُ وأبناءَهُ إليها.

ضحكَ أبوها وصاحبُ البقّالةِ إعجابا بكلامِها. وقفت جبينه بعدَ أن انتهتْ مِنَ شُرْبِ عصيِرِها، حملتْ زُجاجتيْ عصيرٍ لِوالديها، وضعتْ خمسةَ قروشٍ على الطّاولةِ أمامَ صاحبِ البقّالةِ، لكنّه ردَّها إليها، وهو يقولُ:

هذه ضيافةٌ منّي إليكِ، يا…..ما اسمُكِ يا بُنيّتي؟

أجابت: اسمي جبينه.

صاحب البقّالةِ: اسمٌ جميلٌ يليقُ بطفلةٍ بيضاء حسناء مثلك.

أعاد والدُ جبينه ثمنَ العصيرِ لصاحبِ البقّالةِ، لكنّه أقسمَ أن لا يأخُذَهُ، فهو ضيافةٌ منه لجبينه ولوالِدَيْها، اللذين أنجبا هذه الطفلةَ الذّكيّةَ الحسناءَ.

      عندما وصلوا بابَ الأسباطِ أوقفَ أبو جبينه سيارتَهُ أمامَ البابِ، نزلوا من السّيّارةِ، فتحَ بابَ صندوقِها الخلفيّ؛ ليُنزِلَ أشياءَهم منها، رأى الثّعلبَ مستلقيًّا على جانبِهِ الأيمنِ، فاتحًا فمَهُ، تنبعثُ منه رائحةٌ كريهةٌ، رفعَ أبو جبينه الثّعلبَ مُمْسِكًا بذيلِه، ووضعَه خارجَ صندوقِ السّيّارةِ معتقدًا أنّه نافقٌ، وإذا بالثّعلبِ يقفزُ هاربًا يُسابقُ الرّيحَ، هربَ إلى مقبرةِ باب الرّحمةِ، جفلت جبينه عندما هربَ الثّعلبُ، وصرختْ خائفةً، وهي تحتمي بأبيها، الذي قال:

لا ردّكَ الله أيُّها الثّعلبُ الماكرُ.

أمّا جبينه، فقد قالت بعدَ أن استجمعتْ قواها:

راحتْ عليَّ قبّعةٌ مصنوعةٌ من جِلْدِ الثّعلبِ.

فقال لها أبوها:

سأشتري لكِ قُبّعةً أكثرَ جمالًا من القُبّعاتِ المصنوعةِ من جلودِ الثّعالبِ.

مازَحَتْها والدتُها قائلةً:

جميل أنّ هذا الثّعلبَ الماكرَ هربَ، وأراحَكِ يا جبينه من أن تحمليه قبّعةً على رأسِكِ.

صمتت جبينه قليلًا، وقالت:

ما كنتُ لأحمِلَ الثّعلبَ على رأسي، بل كنت سأحملُ قُبّعةً من جلدِه.

مازحَ الأبُ ابنتَه، وقال:

لو نِمْتِ يا جبينه عند صديقَتِكِ وضحا، واصطادوا ثعلبًا لأكلوهُ ولأكلتِ معهم.

نظرت جبينه لأبيها نظرةَ استغرابٍ، وسألتْ:

هل لَحْمُ الثّعالبِ حلالٌ أم حرامٌ؟

فأجابها أبوها: الجائعُ لا يسألُ عن حرامٍ أو حلالٍ، وما يهمُّه هو أن يملأَ بطنَهُ.

وقالتْ أمُّ جبينه:

سمعتُ أنّهم يأكلون أيضًا الجانبَ الأيمنَ من الضّبعِ عندما يصطادونه! وأضافت تسألُ زوجَها:

ما الفرقُ بين الجانبِ الأيمنِ والجانبِ الأيسرِ للضّبع؛ حتّى يحلّلون أَكْلَ الأوّلِ ويُحرّمونَ أًكْلَ الثّاني؟

أبو جبينه: يقولون إنّ الضّبعَ ينامُ على جانبِه الأيسر، فيتجمّعُ الدّمُ فيه، وبالتّالي فهم يعتبرونَهُ حرامًا، ويُطعمونَهُ لكلابِهم، وهذه مجرّدُ عاداتٍ لا تخضعُ لحلالٍ أو حرامٍ، فالثّعالبُ من فصيلةِ الكلابِ، وهي والضّباعُ من ذواتِ النّابِ، ولحمُها حرامٌ شرْعًا.

******

في بُرْج اللقلق

       في ساعاتِ المساءِ من اليوم التّالي ذهبت جبينه؛ لِتَلعبَ مع أقرانِها من أطفالِ الحيِّ في بُرْجِ اللقلقِ المجاورِ لبيتِهم، فالتفّوا حولَها بشكلٍ دائريٍّ، وهي تجلسُ في وَسَطِ الدّائرةِ، وتقصُّ عليهم ما شاهدَتْهُ في رِحْلَتِها إلى البَرِّيَّةِ ذلكَ اليومِ، وصفتْ لهم الأعشابَ التي تؤكلُ نَيْئَةً مثلَ الذُّبّيْحِ، والحُمّيضِ والمَرْوِ، وكيف كانت هي وصديقتُها وضحا تأكُلانِ عيدانَ القُوصِ والمُرّارِ بعد أن تزيلا الأشواكَ عنها.

سرحَ خيالُ الأطفالِ بتلكَ الأعشابِ، فارتسمتْ أمامَهم وجبينه تصفُها لهم.

     عندما وصفتْ جبينه لهم ارتفاعَ جبلِ المنطارِ، والمناطقَ التي رأتْها منه دونَ أن تتذكّرَ أسماءَها، سألَها أحدُهم:

هل رأيتِ القدسَ من هناك؟

فردّت عليه بكبرياء الواثقِ:

نعم، رأيتُ القدسَ وبيتَ لحم والبحرَ الميّتَ أيضا.

 وعادت جبينه تصفُ الهدوءَ في تلكّ الأمكنةِ الهادئةِ، والذي تفتقرُ إليه المدينة. خيّمَ الصّمتُ عليهم، وهم يحلُمون بجنّةِ البراري، التي يكسوها الرّبيعُ المحلّى بمختلفِ النّباتات. وصفتِ البرّيّةَ، وقالتْ أنّها بربيعِها تُشبِهُ سجّادةً مزركشةً كتلك السّجاجيدِ الجميلةِ المفروشةِ في المسجدِ الأقصى. وهنا توقّفتْ جبينه عن الحديثِ وقالتْ إنّها ستعودُ إلى بيتِها؛ كي لا يفتقدَها والداها، إلّا أنّ أقرانَها الأطفالَ أمسكوا بها؛ لِتُكمِلَ حديثَها عمّا رأتْه في رِحْلَتِها. فاستأنفتْ حديثَها من جديدٍ، وهي تشيرُ بيديْها وتعابيرُ وجهِها تختلفُ حسبَ المَوْقِفِ، رَوَتْ لهم كيف أركبَها بدويٌّ على حمارِه، فشعرتْ أنّها فارسَة، وستطلبُ من صديقتِها وضحا في المرّةِ القادمةِ أن تمتطيَ فرسَ أبيها.

       وهنا جاءتْ امرأتان؛ لِتأخذَ كلٌّ منهما أطفالَها، لكنّهما استطابتا حديثَ جبينه ووقفتا تستمعان لها، وهي تسردُ لأقرانِها عن الثّعلبِ الذي ارتطمَ بسيّارتِهم، وكيف تحايلَ عليهم ذلك الثّعلبُ الماكرُ، وهربَ عندما فتحوا بابَ صندوقِ السّيّارةِ عند باب الأسباط، ونجا بجلدِهِ، إذ إنَّ والدَها وعدَها أنّه سيسلخَ جلدَ الثّعلبِ؛ ليعملَ لها قُبّعةً منه، كما حدّثتهم عن ذلك الحمارِ النّافقِ الذي رأتْهُ هي ووالداها، والغربانُ تنهشُ لحمَه رغمَ الرّائحةِ الكريهةِ، التي تنبعثُ من جيفتِه.

لم تتوقّفْ جبينه عن الحديثِ إلّا عندما جاءتْها والدتُها؛ لِتُعيدَها إلى البيت، فودّعتهم، وهي تقول:

وسنعودُ بعدَ يومينِ إلى البرّيّةِ؛ لِنَستمتعَ بجمالِ الطّبيعةِ، وبمذاقِ النّباتاتِ الّتي يؤكلُ بعضُها نَيْئًا، والبعضُ الآخرُ كالخبّيزة والعكّوبِ يُؤكلُ مطبوخًا.

تصايحَ الأطفالُ، وكلٌّ منهم يقولُ:

سأطلبُ من أبي وأمّي أن نذهبَ نحنُ أيضًا في رحلةٍ إلى البراري.

     في اليومِ التّالي ذهبت جبينه ومعها أطفالُ الجيرانِ إلى المسجدِ الأقصى، دخلوه من بابِ الأسباط، لعبوا وتسابقوا في ساحات المسجدِ، أكملوا دورةً كاملةً في باحات المسجدِ راكضين، حتّى عادوا إلى النُّقطةِ التي انطلقوا منها، ومن هناك مشوا هرولةً حتّى الدّرجاتِ التي تنحدِرُ من البائكةِ الجنوبيّةِ لقُبّةِ الصّخرةِ المشرّفةِ، وتُوصِلُ إلى المسجدِ القبليّ، جلسوا على الدّرجاتِ ينظرون إلى المسجدَ، وإذا صفيّةُ بنتُ الحاديةَ عشرةَ تطلبُ من جبينه أن تقصَّ عليهم ما حصلَ معها في رحلتِها مع والديْها إلى البرّيّةِ، ضحكت جبينه، وشعرتْ بكبرياءِ العارفين، وسألتْ صفيّةَ:

كيفَ عرفتِ أنّنا ارتحلنا يومَ أمسٍ إلى البرّيّةِ؟

أجابت صفيّةُ: أخي زهير كان برفقتِكم مساءَ الليلةِ الماضيةِ، وأنتم في بُرْجِ اللقلقِ، وحدّثني عمّا قصصتِه عليهم عن البرّيّةِ.

عادت جبينه تسأل:

وَلِمَ لم تكوني مع أخيكِ؟

صفيّة: كان رأسي مصدوعًا.

ابتسمت جبينه، وهي تهمُّ بالحديثِ عن رحلتِها، خُصوصًا وأنّ عددًا من أطفالِ الحاراتِ الأخرى قد انضمّوا إلى مجموعةِ أطفالِ حارةِ بابِ حُطّة، لكنّها غيّرتْ رأيها في الّلحظةِ الأخيرةِ، عندما رأت رَجُلَيْنِ يجمعان القٌمامةَ من ساحةِ المسجد، فقفزتْ من مكانِها وذهبتْ إلى الرّجُلَيْنِ؛ لَتُساعِدَهُما، وهي تقولُ:

هيّا بنا؛ لِنُساعِدَ هذين الرّجُلَيْنِ في تنظيفِ ساحاتِ المسجدِ المباركِ، وبعدها سنتحدّثُ وسنلعبُ كما نشاءُ. لَحِقَ بها أقرانُها الأطفالُ فَرِحين، أُعْجِبَ الرّجلان بجبينه وبمبادَرَتِها الرّائعةِ، خصوصًا وأنّهما سمعا ما قالتْهُ لِأَقرانِها الأطفالِ، وكيف استجابوا لها، نظرا إلى جبينه، دُهشا بجمالِها، فقال أحدهما لِزَميلِه، وهو يُشيرُ إلى جبينه:

يبدو أنّ تلك الطّفلةَ ملاكٌ. فهي مُمَيّزةٌ خَلْقًا وخُلُقًا.

فردَّ زميلُهُ: سبحانَ الخالق!

بعدَ أن انتهوا من تنظيفِ ساحاتِ المسجدِ الأقصى، عادوا يستظِلّون تحت الأقواسِ القديمةِ المحيطةِ بالمسجدِ الأقصى من الجهةِ الغربيّةِ، قريبًا من بابِ السّلسلة.

عادَ الأطفالُ يُلِحّونَ على جبينه كي تَقُصَّ عليهم ما رأتْهُ في البرّيّةِ يومَ أمس.

ابتسمت جبينه لهم، وقالتْ:

لِمَ لا تذهبون أنتم وآباؤُكم وأمّهاتُكم إلى البراري وترونها بعيونِكُم؟

قالَ لها خالدٌ: نحن لا نملكُ سيّارةً مثلَكُم، فكيفَ سنذهبُ دون سيّارةٍ؟

تعاطفت جبينه معه، وسألتْهُمْ جميعَهُم:

من منكم لا تملكُ أُسْرَتُهُ سيّارةً؟

فأجابَ غالبيّتُهم بأنَّ أُسَرَهُم لا تملكُ سيّارة!

صمتت جبينه قليلًا، وقالت:

عندي اقتراحٌ.

ردّوا عليها: أسْمِعينا اقتراحَك.

قالت: أقترِحُ أن يجتمعَ أباؤُكم، وأن يتّفِقوا على اسْتِئجارِ حافلةٍ تُقِلُّكُم جميعكم.

فصاحوا جميعُهم، وهو يُصَفّقون:

هذه فكرةٌ رائعةٌ، أمّا خالد فقد سألَ جبينه:

كيف سنعرفُ البرّيّةَ التي كنتِ فيها إن لم تكوني معنا؟

تأفّفت جبينه، وقالت بعدَ أنْ تنهّدتْ تنهيدةً عميقةً:

إذا كنتم لا تعرفون، فإنّ آباءَكُم يعرفون. قالت ذلك وغادرتِ الجلسةَ عائدةً إلى بيتِها.

******

الشّاطر حسن

         سَمِعَ الشّاطرُ حسن، وهو ابن شاه بندر التّجّار في المدينةِ المُقدّسَةٍ، وأكثرهم وسامةً وشجاعةً برغبةِ أطفالِ المدينةٍ في زيارةِ براري القدس، بعدَ أنْ قصّتْ عليهم جبينه بنتُ كنعان عن مشاهداتها في تلك البراري، فقرّر تلبيةَ رغبةَ الأطفالِ هذه. ذهبَ إلى المسجدِ الأقصى، وطلبَ من الخطيبِ أنْ يُعلنَ عن بابِ التّسجيلِ لمن يرغب بزيارةِ البراري، وقضاء يومِ الجمعة القادمِ  فيها على حسابِ الشّاطرِ حسن  بن شاه بندر التّجار، وذلك لِيَحصُرَ عددَ الرّاغبين في المشاركة لحجزِ حافلاتٍ تُقلُّهم. 

فتهافتتِ النّساءُ مع أطفالهنّ للتّسجيلِ عند إمامِ المسجدِ الأقصى، والكلُّ يدعو للشّاطرِ حسن بالسّلامةِ وطول العمرِ وكثرةِ الرّزق، وعند صباحِ يومِ الأربعاء القادمِ أحصى الإمامُ والشّاطرُ حسن أعدادَ المُسَجّلين، فوجداه قد زادَ عن خمسمائة شخصٍ. فكّرَ كلٌّ منهما بالموضوعِ، فاقترحَ الإمامُ التّراجُعَ عن فكرةِ زيارةِ البراري؛ لعدمِ وجود حافلاتٍ تُقِلُّ هذه الأعدادَ من البشرِ، خصوصًا وأنّ غالبيّتَهم من الأطفال.

ابتسمَ الشّاطرُ حسن، وقال للإمامِ:

ليس من المروءةِ أنْ نُخيّبَ ظنَّ الأطفالِ والنّساءِ بنا يا مولانا. أقترحُ أنْ نأخذَهم على دفعتين، في يومين متتاليين، وفي خمس حافلاتٍ تُقلُّهم صباحًا وتُعيدُهم مساءً.

فرحَ الإمامُ باقتراحِ الشّاطر حسن، وقال له ضاحكًا:

بوركتَ…فما خابَ ظنّي بكَ يومًا يا الشّاطرُ حسن. لكن كيفَ سَنُرَتّبُهم؟

ردّ الشّاطرُ حسن ببساطةٍ متناهيةٍ:

هذه ليست مشكلة، سنحدّدُ يومًا لكلِّ حارةٍ، وسنبدأ بحارةِ بابِ حطّة؛ لأنّ جبينه بنت كنعان قصّت على أطفال الحارةِ ما رأتْه هي ووالداها في رحلتهم إلى البرّيّة، فأثارتْ فُضولَ الأطفالِ لزيارةِ تلك المناطق.

وافق الإمامُ على رأيِ الشّاطرِ حسن، وتعهّدَ بأن يُخبرَ المصلّين بذلك، وقبل أن يفترقا سأل الشّاطرُ حسن الإمامَ:

كيف سنخبرُ إخوتَنا مسيحيّي المدينةِ؛ لِيُشاركوا في هذه الرّحلة، فهم لا يرتادون المسجدَ الأقصى للصّلاة؟

ابتسمَ الإمامُ، وقال:

لقد سجّلَتْ عشراتُ النّساء المسيحيّات؛ ليُشاركن هنّ وأطفالُهنّ بهذه الرّحلة، بعد أن سمعنَ من أخواتهنّ المسلمات، وسمع أطفالُهنّ من أقرانهم المسلمين، ولا تنسَ يا الشّاطرُ حسن أنّ الرّحلةَ صارت حديث الكبارِ والصّغارِ في المدينةِ فورَ إعلانِنا عنها.

أبدى الشّاطرُ حسن سرورَهُ بما قاله الإمامُ، فاقترحَ على الإمام قائلًا:

ما رأيُكَ يا مولانا أنْ تلتقيَ بطريركِ المدينةِ، لِتُخبرَهُ بالرّحلةِ، ولِتَطلبَ منه أن يُخبرَ رعيّتَه بذلك، ولِتَقترحَ عليه أن تتقدّمَ أنت وهو جموعَ الرّحلة.

ارتسمتْ على وجهِ الإمامِ ابتسامةٌ عريضةٌ، وقال:

ما أروعَكَ يا الشّاطرُ حسن! فأنتَ تنتبُه لكلِّ صغيرةِ ولكلِّ كبيرةٍ، سأحدّدُ موعدًا مع بطريركِ المدينة؛ لأقابلَهُ برِفقتك.

لماذا؟

      دخلت جبينه بيتها لاهثةً خائفةً، ارتمتْ في حِضْنِ أمِّها، وهي ترتجفُ، احتضنتْها والدتُها وهي تسألُها:

ما بكِ يا جبينه؟ مِمّ أنت خائفة؟

ردّت جبينه بصوت متهدّجٍ مُتقطّعٍ:

مررْتُ عندَ بابِ الأسباطِ بامرأتين غريبتين، نظرتا إليّ باستغرابٍ، فركضتا باتّجاهي يُرِدْنَ الإمساكَ بي، وهما تقولان:

قِفِي يا بنتُ؟ ما اسمُكِ؟ ومن أينِ أنتِ؟

هربتُ منهما فلحقتا بي، ولم تتوقّفا إلّا بعدَ أنِ اعترضتْهمُا مجموعةٌ من الرّجالِ، فاحتميتُ بهم، يبدو أنّهم في طريقِهم إلى المسجدِ الأقصى للصّلاةِ، فصاحَ بهما رجلٌ:

ماذا تريدانِ من هذه الطّفلَةِ؟

لم تُجيبا الرّجلَ عن سؤالِهِ، لكنّهما تركتاني واستدارتا عائدتين خلفَ الرّجالِ.

تحسّستِ الأمُّ رأسَ ابنتِها جبينه تُهدّئُها، وتقولُ:

لا تخافي يا بُنيّتي، فرُبّما أرادتا التّعرّفَ عليكِ، والتّمَعُّنَ بجمالِ وجهِكِ، وبالتّأكيدِ أنّهما لم تريا في حياتهِما طفلةً بِحُسْنِكِ وجمالِكِ.

هدأت جبينه قليلًا، وعادتْ تسألُ أمَّها:

لِمَ لا يُوجدُ لي إخوةٌ وأخواتٌ مثل بقيّةِ الأطفالِ؟

نزلتِ الدّموعُ من عينيّ أمِّ جبينه، وقالت لابْنَتِها:

إنْجابُ الأطفالِ ليس بأيدينا، وكمْ تَمَنّينا أن نُنجبَ أبناءً غيرَكِ! لكنّنا لمْ ننجَحْ.

لمْ تفهمْ جبينه كلامَ أمِّها، لكنّها قالتْ:

كلُّ الأطفالِ الذينَ ألعبُ معهم لهم أخواتٌ وإخوةٌ.

أمّ جبينه: أعلمُ ذلكَ يا جبينه.

صمتت جبينه قليلا، وسألتْ أمَّها:

لِمَ لا تذهبين إلى المرأةِ البدويّةِ بائعةِ الجُبْنِ وتسألينَها؛ كي تدعو لكِ اللهَ؛ كي تُنجبي طفْلًا آخرَ، كما دَعَتْ لكِ في المرّة الأولى عندما أنجَبْتِني؟

احتارتِ الأمُّ بأسْئِلَةِ ابنَتِها، فسألتْها:

لِمَ تريدينَ أن يكونَ لكِ أخٌ أو أختُ يا جبينه؟

قهقهتِ جبينه، وأجابتْ بِعَفَوِيّةٍ تامّة:

لألعبَ معه أو معها كبقيّةِ الأطفالِ الذين يلعبونَ مع إخوتهم.

أرادتِ الأمُّ أن تَصْرِفَ ابنتَها عن الموضوعِ، فقالت لها:

عندما يكونُ الطّفلُ وحيدَ أبَوَيْهِ فإنّهمْ يُحبّونَهُ كثيرًا، كما أحُبُّكِ أنا وأبوكِ.

لمْ تَقْتَنِع جبينه بكلامِ أمِّها، فعادتْ تسألُها:

هل مَنْ لهم أكثرُ من طفلٍ لا يُحِبّونَ أبناءَهُم؟

أثارتْ تساؤلاتُ جبينه أشجانَ أمِّها، ورغبَتَها الجامِحَةَ بإنْجابِ أطفالٍ آخرين، لكنّها لا تُريدُ أن تشارِكَ ابنتَها في هكذا مواضيع، فهي لا تزالُ صغيرَةً على هكذا أمور، فسألتْها:

هل أحبَبْتِ أعشابَ البراري يا جبينه؟

لكنّ جبينه لم تُجِبْ عن سؤالِ والدتِها، وعادتْ تسألُ:

هلِ النّساءُ اللواتي يُرِدْنَ الحَمْلَ يذهبْنَ إلى بائعةِ الجُبْنِ؛ لِتدعوَ لهنّ كما دعتْ لكِ عندما حَمَلْتِ بي؟

ابْتَسَمتِ الأمُّ عندما سمعتْ سؤالَ ابنتِها، وقالت:

لا أعرفْ.

نظرت جبينه إلى أمِّها، وقالتْ:

إِذَنْ كيف تحملُ النّساءُ؟

ضحكتِ الأمُّ، وقالتْ:

عندما تكبرين ستعرفينَ كلَّ شيءٍ يا جبينه.

تفاجأت جبينه بجوابِ أمِّها، وقالت وهي تنظرُ إلى نفسِها:

أنا كبيرةٌ يا أمّي…انظُري إليَّ.

ردّتِ الأمُّ: أنتِ طفلةٌ صغيرةٌ يا جبينه، لكنّكِ ذكيّةٌ جدًّا. وأضافت:

لقد جُعْنا يا جبينه، هيا بنا إلى المطبخَ؛ لِنأكلَ.

*******

اقتراح

        نامت جبينه قبلَ أن يعودَ أبوها من عملِه بعدَ غروبِ الشّمسِ، فهو صاحبُ بقّالةٍ في سوقِ باب خانِ الزّيتِ في القدسِ القديمةِ، تناولَ عشاءَهُ، وجلس هو وزوجتُه في صالةِ البيتِ، قصّتِ أمُّ جبينه لزوجها ما قالتْهُ جبينه عن رغبَتِها بأن يكونَ لها أخٌ أو أختٌ، كما قصّت عليه ما قالته جبينه عن المرأتين اللّتين طاردتاها عند باب الأسباط.

استمعَ أبو جبينه باهتمام بالغٍ لقصّةِ المرأتين اللّتين طاردتا جبينه، فسألَ زوجتَهُ يلومُها:

لِمَ لَمْ تصطحبي جبينه معك إلى الأقصى؛ لِتَتَعَرَّفَ عليهما، ولِتَعرفي من تكونان، ولماذا طاردتا البنت؟

استغربتْ أمُّ جبينه كلامَ زوجِها، وقالت:

من غير المعقولِ أنّ تلكما المرأتين تنويانِ سوءًا لجبينه، فبلادُنا آمنةٌ، ولا أحدَ يؤذي الأطفالَ.   

أبو جبينه: لكنّ جبينه طفلةٌ ليست كباقي الأطفالِ، فهي مُمَيّزةٌ في كلِّ شيءٍ.

ضحكت أمُّ جبينه، وقالتْ:

كلُّ النّاسِ يرون أطفالَهم مُمَيَّزين.

أبو جبينه: إذن ماذا أرادتا من جبينه؟ وَلِمَ طاردتاها؟

أمّ جبينه: لا أعرفُ، لكن رُبّما أرادتا التّمعّنَ بجمالها.

أبو جبينه: يجبْ أنْ لا نترُكَ جبينه وحدَها، فهي لا تزالُ طفلةً، ولا تقوى على حمايةِ نفسِها.

أمُّ جبينه: وماذا بالنّسبةِ لِطَلبِها أن يكونَ لها إخوةٌ؟

أبو جبينه: هذه أمنيتُنا التي لم نستطعْ تحقيقَها، وهذا نصيبُنا في هذه الحياة.

صمتتْ أمُّ جبينه قليلا، وقالتْ:

عندي اقتراحٌ لحلِّ هذه المشكلةِ.

نظرَ إليها زوجُها مستغربًا ما قالتْهُ، وسألَها مستهزئًا:

ما اقتراحُكِ يا أمَّ الاقتراحاتِ؟

ابتسمتْ أمُّ جبينه، وهي تبلعُ ريقَها، وقالتْ:

أقترِحُ عليكَ أن تتزوّجَ امرأةً أخرى، على أملِ أنْ تُنجبَ منها إخوةً لجبينه.

دُهِشَ أبو جبينه من اقتراحِ زوجتِهِ، فسألَها مُسْتنكِرًا اقتراحَها:

هل جُنِنْتِ يا امرأة؟

أمّ جبينه: اهدأ يا رجلُ، ودعنا نبحث الموضوعَ.

أبو جبينه: ما هذا الكلامُ الفارغُ؟ هذه هي المرّةُ الأولى التي أسمعُ فيها امرأةً تريدُ أن تُزَوِّجَ زوجَها من امرأةٍ أخرى.

أمُّ جبينه: تُلِحُّ جبينه كي يكونَ لها أخٌ أو أختٌ، وأنا كما تعرفُ عاجزةٌ عن الحملِ، فدعنا نُلبّي طلبَ جبينه من خلالِ زواجِكَ من امرأةٍ أخرى.

ردّ عليها أبو جبينه متسائلًا ساخرًا:

ومن يضمنُ لنا أن أُنْجِبَ من امرأةٍ أخرى؟ وأضافَ:

 الزّواجُ ليس حقلَ تجاربٍ، وأنا راضٍ ومُكْتَفٍ بكِ زوجةً، وبجبينه بنتًا لنا.

امتلأت أمُّ جبينه أُنوثةً وإعجابًا بنفسِها، وبِحُبِّ زوجِها لها، وقالتْ:

بما أنّكَ ترفضُ الزّواجَ من امرأةٍ أُخرى، فكيفَ سَنُقنِعُ جبينه؛ كي تُقلِعَ عن طلبِها بأن يكون لها إخوةٌ.

أبو جبينه: لا تزالُ جبينه طفلةً، وستنسى الموضوعَ وحدَها، وإيّاكِ أن تتحدّثي معها بهكذا موضوع.

أمّ جبينه: جبينه ذكيّةٌ جدًّا، وتُفكّرُ بطريقةٍ أكبر من عمرِها، ومن الصّعبَ أن تنسى شيئًا تريدُهُ.

سَرَحَ أبو جبينه قليلًا مع خيالِهِ، وقال:

وجدتُها.

أمّ جبينه: ماذا وجدتَ؟

أبو جبينه: سنبحثُ عن فتاةٍ؛ لتكونَ رفيقةً لجبينه، ولِتساعدَكِ في عملِ البيتِ.

أمّ جبينه: أين سنجدُ هكذا فتاةً؟

أبو جبينه: ليس صعبًا علينا أن نجدَ فتاةً فقيرةً، تبحثُ عن عملٍ.

ذهبَ والدا جبينه إلى فراشِهِما، وهناكَ قالتِ الأمُّ:

جبينه مستعدّةٌ كي نذهب غدًا إلى البرّيّةِ.

أبو جبينه: سنذهبُ إلى البرّيّةِ يومَ الجمعةِ القادمِ.

وكيفَ سنُقنِعُ جبينه أن تنتظرَ حتّى يومِ الجمعةِ بعد أن قُلنا لها:

سنعودُ إلى البرّيّةِ بعد يومين؟

أبو جبينه: اتركي جبينه لي، غدًا سأصطحبُها معي إلى الدّكّان. سأترُكُها تبيعُ للزّبائنِ وتقبضُ ثمنَ البضاعة.

أمّ جبينه: وإذا رفضتْ؟

أبو جبينه: لن ترفضَ….اتركي الأمر لي.

**********

في البقيعة:

       اتّفق الشّاطرُ حسن وإمامُ الأقصى وبطريركُ القدس أن تكون الرّحلةُ إلى منطقةِ “البقيعة”، التي تمتدُّ من مقامِ النّبيِّ موسى في الطّريقِ بين القدس ومدينة أريحا، حتّى تصلَ إلى جنوبِ شرقِ مدينة الخليل، ويتقاسمها عرب السّواحرة، عرب العبيديّة، عرب التّعامرة، وبني نعيم. واختيارُهم لهذه المنطقةِ مقصودٌ كونها سهولٌ ممتدّة، الوصول إليها ليس صعبًا، طرقاتُها ترابيّةٌ منبسطةٌ لا اعوجاجَ فيها، وهي مناطقُ زراعيّةٌ خصبةٌ، تُزرعُ فيها الحبوب كالقمحِ، الشّعيرِ، العدسِ والكرسنّةِ، وفيها مراعٍ واسعةٌ لمربّي الأغنام، تنبتُ فيها مختلفُ أنواع الأعشابِ البرّيّة. وتطلُّ على البحرِ المَيّتِ.  

باب الرّزق

      في الصّباحِ الباكرِ دخلتْ أمُّ جبينه إلى المطبخ؛ لِتَغليَ فنجانَيْ قهوةٍ لها ولِزَوجِها، ذهبا إلى صالة البيتِ؛ لِيَحْتَسِيا قهوتَهُما، فوجِئا بجبينه تجلسُ في الصّالةِ، وقد ارتدتْ ملابسَها، وانتعلتْ حذاءَها، تغامزَ الوالدان عندما رأياها، طرحا عليها تحيّةَ الصّباحِ، جلسَ أبوها بجانبِها، احتضنها وقبّلَ وجنتيها، وهو يسألُها:

ماذا تفعلُ حبيبةُ أبيها؟

ردّت جبينه بدلالٍ، تُزَيِّنُهُ ابتسامةُ طفولةٍ بريئةٍ:

جَهّزتُ نفسي؛ كي نذهبَ إلى البرّيّةِ كما وعدتُماني.

ضحكَ أبوها، وقال لها:

هذا اليومُ ستذهبين معي إلى البقّالةِ، لِتَبيعي للزّبائنِ، ولِتَقبضي ثمنَ البضاعةِ، فوجهُكِ الجميلُ يأتي بالرّزقِ، وبعد غدٍ الجمعة سنذهبُ إلى البرّيّةِ.

صمتت جبينه قليلًا، وقالتْ:

لكنّي لا أعرفُ ثمنَ البضاعةِ.

أبو جبينه: ما لا تعرفينَهُ سأقولُه لكِ.

ابتسمت جبينه، وقالتْ:

لا بأس، دعني أُجرّبُ البيعَ والشّراءَ بِشَرْطِ ألّا تغضبَ منّي إذا أخطأتُ.

ضحكَ أبوها، وقال:

أنا لا أغضبُ منكِ مهما فَعَلْتِ.

جبينه: اتّفَقنا…لكن لماذا لا تذهبُ أمّي معنا؛ لِتَتَعَلّمَ هي الأخرى البيعَ والشِّراءَ؟

ضحكتْ أمُّها، وقالتْ:

إذا ذهبتُ معكما من سيطبُخُ لنا الطّعامَ؟

جبينه: سنأكلُ في المطعمِ.

الأمّ: من أينَ سندفعُ ثمنَ الطّعامِ للمطعمِ؟

جبينه: سندفعُ ثمنَ طعامِنا من أرباحِ مبيعاتِنا في محلِّنا.

طلبَ أبو جبينه من زوجتِه أن تستعجلَ تحضيرَ الفطورِ؛ كيلا يتأخّرَ هو وجبينه عن مَوْعِدِ فَتْحِ المَحَلِّ.

     خرجَ أبو جبينه من بيتِهِ، وهو يُمسكُ يدَ ابنتِه اليُسرى بِيَدِه اليُمْنى، الأبُ سعيدٌ بِقُرْبِهِ من بنتِهِ، والبنتُ سعيدةٌ بِصُحْبَةِ أبيها لها، فتحَ المحلَّ، وجلسَ على صندوقٍ خَشَبِيٍّ يعلوه “جاعدٌ” – جِلْدُ خروفٍ مدبوغٌ- أمامَ محلِّهِ، بينما تجوّلت جبينه في المحلِّ تتفقّدُ البضاعةَ، رتّبتْ قِطَعَ صابونٍ نابُلسيٍّ على أحدِ الرُّفوفِ بطريقةِ هَرَمِيّةٍ، سألَها أبوها دونَ أن يلتفتَ لها:

ماذا تفعلينَ يا جبينه؟

ردّت عليه هي الأخرى دونَ أنْ تلتفتَ إليه:

أُرَتِّبُ البضاعةَ بشكلٍ لائقٍ.

سألها أبوها ضاحكًا:

 هل ترينَها مُرَتّبةً بطريقةٍ غير لائقةٍ؟

جبينه: نعم.

التفتَ أبوها إليها، وهو يضحكُ، ويقولُ:

سأرى ترتيبَكِ اللائقِ.

عندما رأى أبوها كيف رتّبتْ قِطَعَ الصّابونِ النّابلسيّ كالهرمِ، فَرِح بها، وقال:

حقّا أنتِ تُرَتّبينَ البِضاعةَ على الرُّفوفِ بطريقةٍ لائقةٍ أكثرَ وأجملَ من ترتيبي.

     وقفتِ امرأةٌ أمامَ باب الحانوت، وقالتْ:

أريدُ رَطْلَ سُكّر.

وقفَ أبو جبينه ووزنَ رطلَ سُكّرٍ للمرأةِ، وجبينه تراقبُهُ.

وقبلَ أن تدفعَ ثمنَ رَطْلِ السُّكَّرِ، سألتْها جبينه؟

هل تريدين شيئًا آخرَ يا خالةُ، تفضّلي وانظري بِضاعَتَنا، فلدينا أشياءُ أخرى.

التفتتِ المرأةُ إلى جبينه فبُهِتَتْ بجمالِها، أمعنتِ النّظرَ بوجهِ جبينه، فدخلت المحلَّ

باسمةً، وجبينه تشيرُ إلى البضاعةِ على الرّفوفِ، وتقولُ:

اختاري الأشياءَ التي تحتاجينَها يا خالةُ.

تناولتِ المرأةُ قِطْعَةَ صابونٍ، وتمعّنتها وكأنّها تراها للمرّةِ الأولى، وقرّرتْ شراءَها، بعدَها أشارت جبينه إلى صندوقِ الزّبيبِ، وقالتْ للمرأةِ:

هذا زبيبٌ طازِجٌ لذيذٌ، يُحِبُّهُ الصّغارُ والكبارُ، تذوّقيهِ يا خالةُ.

تذوّقتِ المرأةُ حبّتي زبيبٍ، وقالت:

ممم… إنّه لذيذٌ حقّا، زِني لي كيلوغرامًا واحدًا.

نقدتِ المرأةُ جبينه قطعةَ خمسةِ القروش، فالتفتت جبينه إلى أبيها دون أن تقولَ له شيئًا، فقال لها أبوها:

 خذي قِرْشينِ وردّي لها ثلاثةَ قروشٍ.

      قبلَ أن تُغادرَ المرأةُ كان عددٌ من المارّةِ، يصطفّونَ في المحلِّ للشّراءِ، وهم ينظرون جبينه مبهورين بجمالِها، مسحورين بابتسامتِها.

لاحظَ أبو جبينه أنّ حركةَ البيعِ ازدادتْ عن المألوفِ، فقال في سِرِّهِ:

وُجودُ جبينه يجلبُ الرّزقَ الوفيرَ.

تركَ الأبُ جبينه تستلمُ ثمنَ المبيعاتِ، وتَضَعُها في الجارورِ، وهي فَرِحَةٌ سعيدة.

في ساعاتِ الظّهيرةِ، سأل أبو جبينه:

هل أنتِ جائعةٌ يا جبينه، لقد حانَ وقتُ الغداءِ؟

تساءلت جبينه، وهي تبتسمُ:

كيف أجوعُ والزّبائنُ يملؤون المحلَّ؟

انتبهَ أبو جبينه أنّ بَيْعَ محلِّهِ في ذلك اليومِ يزيدُ على بيْعِ أسبوعٍ كاملٍ، ورأى أنّ المحلّاتِ الأخرى لا يرتادُها الزّبائنُ كما يرتادون محلَّهُ.

      في ساعاتِ العصرِ مرّت امرأةٌ بصحبتِها ابنتُها، ملابِسُهما رثّةٌ، نظراتُهما حائرةٌ، اقتربت المرأةُ من أبي جبينه، طرحتِ السّلامَ، وسألتْهُ، وهي تشير إلى ابنتِها:

هل يوجدُ لديكَ عملٌ لهذه الفتاةِ؟

نظرَ الرّجلُ إليهما، وسألَ:

ما صِلَتُكِ بهذه الفتاة؟

المرأة: ابنتي.

أبو جبينه: كم عمرُها؟

الأمّ: اثنا عشر عامًا.

ماذا تريدينَها أن تعملَ؟

المرأة: أيُّ شيءٍ، كأن تعملَ بائعةً في المحلِّ كتلك الطّفلةِ الحسناء، وأشارتْ إلى جبينه.

أبو جبينه: هل أنتما بحاجةٍ إلى العملِ؟

المرأة: نعم…أنا أرملةٌ، ولي خمسةُ أطفالٍ، ولا مُعيلَ لنا، وهذه هي ابنتي الكبرى.

سألَ أبو جبينه البنتَ:

ما اسمُكُ يا بُنيّتي؟

البنت: اسمي زينب؟

أبو جبينه: من أينَ أنتم؟

زينب: من بيت لحم.

أبو جبينه: هل سبقَ لكِ أنْ عملتِ؟

أجابت زينبُ، وحُمْرةُ الحياءِ تعلو وجهَها:

لا.

أبو جبينه: أيُّ عملٍ تريدين؟

أمّ زينت: أيُّ عملٍ متوفّرٍ يا عمّ، فنحنُ محتاجون، ولا دخلَ لنا.

نادى أبو جبينه ابنتَهُ جبينه، وقال لها، وهو يُشيرُ إلى زينب:

هل تقبلين هذه الفتاةَ أُختًا لكِ؟

ابتسمت جبينه للبنتِ، وسألتْ:

هل تقبلين أن تنامي وأن تقومي معي كأختي؟

تصنّعتْ زينبُ ابتسامةً، وقالتْ:

أتشرّفُ أن أكون أختًا لك؟

قال أبو جبينه لِزَينبَ ولأمِّها:

لا أبناءَ لي غيرَ جبينه، وهي في العاشرةِ من عمرِها، ونريدُ أختًا لها ترعاها وترافقُها، نحن نسكنُ في بابِ حطّة، ليس بعيدًا من هنا، إذا رغبتِ يا زينبُ أن تكوني بنتًا لنا، وأختًا لزينبَ تنامين معها وترافقينها، تأكلين وتشربين وتلعبين معها، فهذا ما نريدُهُ. وسأدفعُ لكِ دينارًا كلّ شهرٍ، فما رأيكُ أنتِ وأمُّكِ؟

سألتْ أمُّ زينبَ على استحياءٍ، وقد نزلت دموعُها:

هل ستسمحُ لنا يا سيّدي أن نزورَ زينبَ ونراها، إذا عملتْ عندكم؟

أبو جبينه: طبعًا…فزينبُ ابنتُكم، تزورونها متى شئتُم، وتأخذونها يومًا في الأسبوعِ، تنامُ عندكم، وتلعبُ معَ أشقّائِها كيفما تشاء.

وهنا قالتْ جبينه، وهي تحيطُ خاصرتي زينبَ بيديها:

وأنا سأزوركُم مع زينبَ أيضًا، وسأنامُ عندكم بجانبِ أختي زينبَ.

قبّلتْ زينبُ وأمُّها وجنتي جبينه، وكلٌّ منهما تقول لها:

حبيبتي.

أبو جبينه: اتّفقنا، وأضافَ مخاطبًا جبينه:

خذي أختَكِ زينبَ وأمَّها إلى بيتِنا، كي تتعرّفَ الأمُّ على البيتِ وعلى أمِّكِ، وأنا سألحقُ بِكُنّ بعدَ ساعةٍ عندما أُغلقُ المحلَّ. ووجّهَ حديثَهُ لأمِّ زينبَ، قائلًا:

إذا أردتِ المبيتَ عندنا، فأهلًا بكِ.

شكرتْهُ أمُّ زينبَ، وقالت:

لا أستطيعُ أن أتركَ أطفالي وحدَهم، فقد تركتُهم برعايَةِ جدّتِهم العجوز.

     عندما وصَلتا البيتَ في بابِ حُطّة، طرقت جبينه البابَ، وهي تقولُ لأمِّها فرحةً سعيدةًّ، وكأنّها امتلكتِ الدّنيا وما عليها:

ماما، افتحي البابَ… معي أختي زينبُ وأمُّها.

فتحت أمُّ جبينه البابَ، فقالت لها ابنتُها، وهي تشيرُ إلى زينبَ وأمِّها:

هذه أختي زينبُ، وهذه أمُّها.

مدّتْ أمُّ جبينه يدَها تُصافِحُ زينبَ ووالدتَها مرحّبّةً بهما. دعتْهُما للدّخول،

شرحتْ أمُّ زينبَ لأمِّ جبينه أنّ ابنتَها ستعملُ عندهم حسبما اتّفقتا مع والدِ جبينه.

عادتْ أمُّ جبينه تُرحِّبُ بهما مرّةً أخرى، وسألت زينبَ:

كم عمرُكِ يا بُنَيّتي؟

أجابت زينبُ، وهي تطأطئُ رأسها:

اثنا عشر عامًا.

أمّ جبينه: هل تقبلين بي أمّا لكِ وبجبينه أختًا لكِ؟

احمرّ وجهُ زينبَ حياءً، طأطأتْ رأسَها ولم تُجبْها، لكنّ والدتَها استدركتِ الأمرَ، وقالت:

هذا شرفٌ لنا يا سيّدتي.

عادت أمُّ جبينه تقولُ لزينب:

طبعًا، ستنامين مع جبينه في غرفتِها، وستلعبان معًا. وأضافتْ تسألُ الأمَّ:

أين تسكنون؟

أمّ زينبَ: في بيت لحم.

استأذنتْ أمُّ زينب؛ لِتَنصرفَ، وهي تقولُ:

عن إذنكم لقد تأخّرْتُ على أطفالي.

سألتْها أمُّ جبينه، وهي تُمسكُ بها:

كم طفلًا عندكِ؟

أمّ زينب: أربعةٌ غيرَ زينب، ومات أبوهم قبل عامٍ.

أمُّ جبينه: لن تغادرينا قبلَ أن تشربي القهوةَ، وتتناولين العشاءَ معنا…لا تخافي…لن تتأخّري على أطفالِكِ، فسنوصلُكُ إلى بيت لحم في سيّارتنا.

        عندما وصلَ أبو جبينه إلى بيته، أحضرَ معه عشاءً من أحدِ المطاعمِ، له ولأسرتِه بمن فيهم زينب، عندما انتهوا من طعامِهم، قال أبو جبينه لزوجتِه:

جهّزي نفسَكِ؛ كي نذهبَ جميعُنا؛ لإيصالِ أمِّ زينبَ إلى بيتِها.

قالت جبينه: اذهبوا أنتم، وسأبقى أنا وأختي زينب نلعبُ هنا.

ألتفتَ إليها أبوها، وقال:

ألا تريدين أن تتعرّفي على بيتِ أهلِ زينبَ، وعلى إخوتِها؟

ردّت جبينه تلومُ نفسها، وهي تقهقه:

هذه غابتْ عنّي.

       جلستْ زينبُ مغلوبةً على أمرِها، فهذه هي المرّةُ الأولى التي ستنامُ فيها خارجَ بيتِها، بعيدةً عن والدتِها وأشقّائها وجدّتِها، ورغمَ إدراكِها أنّها ستحظى بعيشِ أفضلَ ممّا هو في بيتِ أهلِها، إلّا أنّ الابتعادَ عن حضنِ الوالدةِ وعن الأشقّاءِ ليسَ بالأمرِ الهيّنِ.

       وصلوا بيتَ أهلِ زينب، وهو عبارةٌ عن كوخٍ صغيرٍ من ألواحِ الزّينكو، وبجانبه مغارةٌ، يقعُ في الجهةِ الجنوبيّةِ الشّرقيّة لبيت ساحور، ويبعدُ عنها حوالي كيلومتر، السّيّارةُ لا تصلهُ، فأوقفوها في طريقٍ  تُرابيٍّ قريبٍ.

عندما رأى والدا جبينه حالةَ البُؤسِ التي تعيشُها أسرةُ زينب، شعرَا بمأساةِ الفقراءِ والمحتاجين، بينما جلستْ جبينه بجانبِ جدّةِ زينبَ، تسألُها عن صحّتِها، والعجوزُ تئنُّ، وتسأل:

أين أنت يا زينبُ، اِئتيني بشرْبَةِ ماءٍ؟

ارتجفت جبينه، وانهمرتْ دُموعُها حُزنًا على العجوزِ العطشى التي ستفارقُها حفيدتُها زينب، سألتْ عن الماء؛ لِتَسقيَ العجوزَ، وخرجتْ من المغارةِ، ودموعُها ترتسمُ على خديّها سياطًا تجلدُها.

       انفردَ والدا جبينه بأمِّ زينبَ، أخرجَ الأبُ من جيبه دينارين وأعطاهما لها، قائلًا:

اشتري ملابسَ لأطفالِكِ، واشتري ما تريدين من موادَّ غذائيّةٍ، ولا تنسي حماتَكِ العجوزَ، اشتري لها ما تطلُبُهُ، ولا تقلقي على زينبَ، فهي منذُ الآن لا فرقَ بينها وبين جبينه.

تردّدتْ أمُّ زينبَ في قُبولِ الدّينارين رغمَ حاجتِها الماسّةِ لها، انتبهتْ أمُّ جبينه لدموعِ المرأة، فتناولت الدّنانيرَ من يدِ زوجِها، ووضعتْها في يدِ المرأة، وهي تقولُ:

نراكم على خيرٍ، بيتُنا مفتوحٌ لكم متى أردتُم زيارةَ زينب.

      في طريقِ العودةِ جلستْ زينبُ وجبينه في مقعدِ السّيّارةِ الخلفيِّ، خيّمَ الصّمتُ في السّيارةِ، سمعَ أبو جبينه نحيبًا خلفَهُ، خمّنَ أنّ زينبَ تبكي على فراقِ أُسرتِها، حاولَ أن يُخرِجَها من حُزنِها، فسألَ ابنتَهُ جبينه:

ماذا تفعلينَ يا جبينه؟ لِمَ لا تتكلّمين؟

لم تردّ جبينه، فالتفتت إليها والدتُها، وإذا بها تحتضنُ رأسَ زينبَ، وكلاهما تبكيان، فأرادتْ أمُّ جبينه أن تُخرجَ زينبَ من حالتِها، فسألتْها:

حبيبتي زينب ما اسمُ أمُّكِ، لقد نسينا أن نسألَها عن اسمِها:

ردّتْ زينبُ: والدتي اسمُها خيزرانة.

أمّ جبينه: وأنا اسمي بثينة، وعمُّكِ أبو جبينه اسمُهُ كنعان.

       في البيت مدّتْ بثينةُ فراشَ ابنتِها جبينه بجانبِ الحائطِ لغرفةِ نومِها، ووضعتْ فراشَ زينبَ على الجِهَةِ اليسرى، فاحتجّت جبينه على ذلك، وسألتْ والدتَها:

لماذا أبعدْتِ فِراشَ زينبَ عن فراشي؟

أجابتِ الأمُّ: لِتَرتاحَا كلاكما.

لمْ تُوافق جبينه على كلامِ والدتِها، وتساءلتْ:

من قالَ لكِ أنّنا سنرتاحُ، لقد أمضيتُ عمري وأنا أحلُمُ أن تكون لي أختٌ أنامُ بجانبِها.

ابتسمتْ أمُّ جبينه، وهي تجرُّ فراشَ زينبَ؛ لِتَضعَهُ بجانبِ فراشِ جبينه، وهي تقولُ:

كما تشائين يا جبينه…ها هو فراشُ زينبَ بجوارِ فراشِكِ.

ما أنْ خرجتْ بثينةُ من الغرفةِ حتّى قفزتِ بنتُها جبينه إلى فراشِ زينبَ، وقالتْ:

تعالَيْ يا زينبُ؛ لِنَنامَ على فراشٍ واحدٍ.

       في غرفةِ نومِ الزّوجين، قالَ أبو جبينه لزوجتِهِ:

زينبُ أمانةٌ في أعناقِنا، فلا تُثقلي عليها بأيِّ شيءٍ، تَعامَلي معها مثلَ جبينه تمامًا، ومن صباحِ غدٍ، اذهبي إلى السّوقِ، واشتري قماشًا، فَصِّلي لها ثيابًا جديدةً مثلَ ثيابِ جبينه، ودعيها تذهبُ إلى الكُتّابِ في المسجدِ الأقصى مع جبينه؛ لِتَتَعلّمَ القراءةَ والكتابةَ.

      أمضت جبينه ليلتَها، وهي تَروي لزينبَ عن مشاهداتِها في البرّيّةِ، وعنِ الأعشابِ  الّتي تنمو في فصلِ الرّبيع، وبعضُها يُؤكلُ نيْئًا، والبعضُ الآخرُ مطبوخًا، وسألتْ زينبَ:

هل تعرفين الخُبّيزةَ يا زينبُ؟:

أجابتْ زينبُ باسمةً:

نعم، أعرفُها، وأعرِفُ الأعشابَ البرّيّةَ كلَّها.

جبينه: هلْ تذوّقتِ طَعمَ الخُبّيزةِ يا زينبُ:

زينبُ: في فصلِ الرّبيعِ نأكلُ الخبّيزةَ أكثرَ من مرّةٍ كلَّ يومٍ، وهي مصدرُ غِذائِنا الأوّلُ؛ لأنّها غيرُ مُكْلِفةٍ.

عادت جبينه تسألُ:

هلْ زُرْتِ البرّيّةَ يا زينبُ؟

ضحكتْ زينبُ وأجابتْ:

أنا وُلِدْتُ في البرّيّةِ يا جبينه، وعشتُ فيها حتّى وفاةِ أبي قبلَ عامٍ.

جبينه: يا إلهي كمْ أنتم محظوظون! فالبراري جميلةٌ جدًّا، وسعيدٌ من يعيشُ فيها.

وهنا سألتْ زينب:

كم مرّةً زُرتِ البرّيّةَ يا جبينه:

جبينه: مرّةً واحدةً.

زينب: كم يومًا مكثتم فيها؟

جبينه: بضع ساعاتٍ، وسنعودُ لزيارتِها مرّة أخرى بعد غدٍ الجمعة، وسأركبُ فرسَ والدِ صديقتي وضحا، وسألت زينبَ:

هل ركبتِ فرسًا يا زينبُ؟

زينب: ركبتُ فرسًا وحمارًا وبغلًا، وأضافتْ تسألُها:

لكن من هي صديقَتُكِ وضحا؟

جبينه: صديقتي وضحا طفلةٌ بدويّةٌ، تسكنُ مع أهلِها في البراري، وهي من عرّفتني على أعشابٍ تُؤكلُ نَيْئَةً مثلَ: الحُمّيضِ، والذُّبيحِ والمروِ، وفي البرّيّةِ ركبتُ حمارًا فقط، وشاهدتُ ثعلبًا.

زينب: أنا شاهدتُ ثعالبَ وذئابًا، وضباعًا وأرانبَ وغِزلانًا.

جبينه: أنتِ محظوظةٌ يا زينبُ، هل شاهدتِ كلَّ هذه الحيواناتِ في الدّمنةِ وجبلِ المنطارِ؟

زينب: أنا لا أعرفُ الدّمنةَ والمُنطارَ، لكنّي شاهدتُها في محيطِ جبلِ الفريديسِ، في برّيّةِ التّعامرة.

جبينه: أين تقعُ هذه البرّيّةُ التي تتكلّمين عنها؟ وكمْ برّيّةً عندنا؟

زينب: تقعُ البرّيّةُ التي عشنا فيها إلى جنوبِ شرقِ بيت لحم. ولكلّ واحدةٍ من مدننا وقرانا برّيّتُها.

جبينه: هل كنتم تصطادون هذه الحيواناتِ؟

زينب: أبي كان يصطادُ طائرَ الحجلِ “الشُّنّار”، ويصطادُ الأرانبَ أيضًا، وفي إحدى المرّات اصطاد “نيصًا”، لكنّي لم آكلْ منه؟

جبينه: لماذا؟

زينب: لأنّي سمعتُ صراخَهُ الذي يشبهُ صُراخَ الأطفال، وله أذنان وأصابعُ تشبهُ أُذُنَيّ الإنسانِ وأصابعَهُ.

        أمضت جبينه وزينبُ ليلتَهما وهما تتحدّثان، نامتا عندما سمعتا أذانَ الفجرِ من المسجدِ الأقصى، غفت زينبُ، ودموعُها تنساب على وجنتيها، فهي لم تعتدْ على النّوم بعيدا عن حضن والدتِها، وضجيج إخوتِها، ولم تعلمْ أنّ أمَّها أمضتْ هي الأخرى ليلَها، وهي تبكي؛ لبعدِ ابنتِها عنها، لكنّ أنينَ جدّتِها العجوزِ لا يزالُ يطرقُ سَمْعَها.

     استيقظت جبينه في ضُحى اليومِ التّالي، أمّا زينبُ فقد كانتْ تغفو وتستيقظُ دون انتظام، في أثناءِ تناولِهما لفطورِهما بدت جبينه سعيدةً، كفراشةٍ تُحلِّقُ في فضاء حديقةٍ غنّاء، بينما زينبُ تحاولُ أنْ تُسيطرَ على شعورِها بالغُرْبَةِ، فلمْ تكنْ لها شهيّةُ لطعامٍ أو شرابٍ، انتبهتْ لها أمُّ جبينه، فحاولتْ تحريرَها ممّا هي فيه، فسألتْها:

كيفَ وجدتِ أختَكِ جبينه يا زينبُ.

تصنّعتْ زينبُ ضحكةً باهتةً، وقالت:

ليتَ كُلَّ الأخواتِ مثلُ جبينه.

أمّ جبينه: بعدَ أنْ تنتهيا من طعامِكُما استعدّا؛ لنذهبَ إلى السّوقِ.

ضحكت جبينه، وهي تُغادرُ المائدةّ؛ لِتّستبدلَ ملابسَها:

حسنًا، سنذهبُ إلى الحانوتِ عندّ أبي؛ لنبيعَ أنا وأختي زينب كما فعلتُ بالأمس.

نظرتْ والدتُها إليها، وقالتْ:

من أدبِ الطّعامِ أنْ لا تغادري المائدةَ يا جبينه قبلَ من يُشاركونَكِ الطّعامَ.

عضّت جبينه بِنَواجذَها العُليا على شفتِها السّفلى ندمًا، وعادتْ إلى مكانِها حولَ المائدةِ، واعتذرتْ لزينبَ، قائلةً:

اسمحي لي يا أختي، فقد استعجلتُ لِأُغيّرَ ملابسي؛ لأنّكِ من أهلِ البيتِ، ولو كنتِ ضَيْفةً ما قُمتُ من مكاني.

ابتلعتْ زينبُ ما في فمِها وقامتْ، فليسَ لديْها شَهِيّةٌ للطّعامِ.

       ذهبتْ بهما أمُّ جبينه إلى صانِعِ الأحذيَةِ في محلِّهِ الصّغيرِ عند الزّاويةِ التي تقطعُ فيها طريقُ الآلامِ سوقَ خانِ الزّيتِ، وطلبتْ من الرّجُلِ أن يصنعَ لزينبَ حذاءً مثلَ حِذاءِ جبينه. ألحَّتْ عليه أنْ يستعجِلَ صُنْعَهُ في اليومِ نفسِهِ بعد أنْ أغرتْهُ بنصفِ قرشٍ زيادةً عن ثمنِهِ، فوعدَها الرّجُلُ، وهو يأخُذُ مقاسَ قَدَمَيْ زينبَ بخيطِ قِنَّبٍ يلفُّهُ حولَ القدَمِ، ووعد بأنْ ينتهيَ منهُ قبلَ عصرِ ذلك اليوم.

      بعدَها واصلنَ طَريقَهُنَّ إلى سوقِ الخواجات، حيثُ مّحَلُّ بيعِ الأقمشةِ، وقالتْ لزينبَ اختاري ما يُعْجِبُكِ من الأقمشةِ؛ لنُفَصِّلَها ثيابًا لكِ.

تردَّدَتْ زينبُ في الاختيار،ِ وهي تجولُ بعينيْها رُفوفَ الأقمشةِ، لكنّ جبينه حَسَمَتِ الأمرَ عندما قالتْ:

سأختارُ أنا لأختي زينبَ القِماشَ والألوانَ؛ لِتَكونَ مثل ثيابي تمامًا؛ ولِيَعرِفَ مَنْ يرانا أنّنا أختان مُتشابِهتان في ملابسِنا. وافقتْ بثينةُ على رأيِ ابنتِها بينما التزمتْ زينبُ الصّمتَ. فاختارتْ أربعَ قِطَعِ قماشٍ مُختلفةَ الألوانِ، بينما طلبت بُثينةُ من التّاجرِ أن يَقُصَّ ثلاثةَ أذرُعٍ، من قماشٍ خفيفٍ ورديِّ اللون، تخيطُهُ النّساءُ ملابسَ داخليّةً لهُنَّ، عندَ الخيّاطةِ أمِّ ياسمين التي تسكُنُ في حارةِ السّعْديَّةِ، وتخيطُ ملابسَ النّساءِ والأطفال في بيتِها، وما أنْ رأتْ زينبَ حتّى سألتْ:

مِنْ أينَ لكِ هذهِ الطّفلةُ الحسناءُ يا بُثينةُ؟

أجابت جبينه قبلَ والدتِها:

هذه أختي زينبُ.

ابتسمتْ أمُّ ياسمين، وهي تحتضنُ جبينه وتُقَبِّلُ وَجْنَتَيْها، وقالت:

تَشرّفتُ بِكِ وبأختِكِ يا جبينه.

أخذت الخيّاطةُ مقاسَ زينبَ؛ لتخيطَ لها الثّياب.

       قبلَ أنْ يرجِعنَ إلى البيتِ، قالتْ أمَّ جبينه:

سنذهبُ الآنَ إلى الأقصى؛ لأطلُبَ من معلّمِ الصّبيانِ أنْ يُسَجِّلَ جبينه معكِ في الكُتّابِ يا جبينه؛ لِتَتَعلّمَ هي الأخرى أصولَ القِراءَةِ والحِسابِ.

ابتسمت جبينه، وقالتْ:

مُعلِّمُ الصِّبيانِ في الحَجِّ يا أمّاهُ، والكُتّابُ مغلقٌ حتّى يعودَ، ونحن في إجازةٍ، هل نسيتِ ذلكَ يا أمّي؟

ضحكتْ أمُّ جبينه، وقالتْ:

نعم، نسيتُ.

أمُّ جبينه: إذنْ سنرجِعُ إلى بيتِنا؛ لِنَتَناولَ طعامَ الغداءِ، نستريحُ بعد ذلك قليلًا ونعودُ إلى صانعِ الأحذيةِ، لِتَأخُذَ جبينه حِذاءَها.

جبينه: تعودينَ أنت وحدَكِ، وتجلبينَ حذاءَ جبينه، أمّا نحنُ -قالتْها وهي تشيرُ إلى زينبَ-، فسنذهبُ إلى بُرْجِ اللقلقِ؛ لِنَلعبَ هناك.

ردّتْ أمُّ جبينه: يجبْ أنْ تذهبَ جبينه معي؛ لتقيسَ حِذاءَها، ولِتَنتعلَهُ، كما سنذهبُ إلى الخيّاطةِ؛ لِتأخذَ زينبُ أحدَ ثيابِها، لأنّ أمَّ ياسمينَ وعدتني أن تنتهيَ من خياطَتِهِ بعدَ صلاةِ العصرِ؛ ولنشتريَ لزينبَ مِنديلين جديدين تغطّي بهما رأسَها، فقد نسينا شراءَهما مع القّماش.

تنحنحت جبينه، وقالت لأمِّها:

لا تنسي يا أمّي أنّ موعدَنا غدًا؛ لنذهبَ إلى البرّيّةِ؛ ولِنُخَيِّمَ فيها بضعةَ أيّامٍ.

أمُّ جبينه: عندما نذهبُ لإحضارِ أغراضِ زينبَ سنمُرُّ بأبيكِ في المحلِّ، لِنُحضرَ بعضَ الأغراضِ التي نحتاجُها في رِحلتِنا إلى البرّيّةِ، وسنُذَكِّرُ أباكِ بموعدِ رحلتِنا غدًا الجمعة.

جبينه: هذه فِكْرَةٌ رائعةٌ، وسآخُذُ علبةَ حلقومٍ، وقالِبَ حلاوةٍ هديّةً لِصَديقتي وضحا.

أمّ جبينه: خُذي ما تريدين.

أختانِ…ولكن

         بعد أن تسلّمتْ زينبُ حذاءَها وأحدَ ثيابِها، بدأتْ نفسيّتُها تتحسّنُ، خصوصًا وأنّ أمَّ جبينه أضفتْ عليها حنانًا أموميًّا، لم تعهدْ مِثْلَهُ من أمِّها التي أنجبتْها، وأشغلتْها همومُ الحياةِ والرّكضُ خلفَ رغيفِ الخبزِ عن خصوصيّاتِها، تذكّرتْ جبينه المرحومَ والدَها، الذي كان يشتري لها ثوبًا واحدًا عندَ قُدومِ عيدِ الأضحى كلَّ عامٍ، تُفَصِّلُهُ وتُخيطُهُ لها جدّتُها لأبيها، لكنّ أباها لم يشترِ لها ولا لأيٍّ من أخواتِها وإخوتِها أكثرَ من ثوبٍ في العام، بسببِ ضيقِ ذاتِ اليدِ. وعندما يهترئُ الثّوبُ فإنّ الأمَّ أو الجدّةَ ترقعُهُ بقطعةٍ من ثوبٍ أخر مهترئٍ، حتّى أنّ الرُّقَعَ تطغى على الثّوبِ، فتظهرُ كما أنّها هي الأصلُ وبقايا الثّوبِ هي الرُّقَعُ.

       عندما رَجَعْنَ إلى البيتِ استحمّتْ زينبُ، وارتدتْ ثوبهَا الجديدَ، انتعلتْ حذاءَها الجديدِ، مشّطَتْ شعرَها وأسدلتْهُ على كتفيها، طوتْ ثوبَها القديمَ، وفي خاطرِها أن تحتفظَ به؛ لِتُعطِيَهُ لأمِّها، لكنّ جبينه خطفتْهُ منها وارتدتْهُ فوق ملابِسِها، وقفتْ أمامَ المرآةِ تنظرُ نفسَها، فقهقتْ إعجابا به، وخرجتْ إلى أمِّها تقولُ دون أن تنتبهَ للحَرَجِ الذي وضعتْ زينبَ فيه:

يا إلهي ما أجملَ هذا الثّوبَ! لمْ أرتدِ مثلَهُ من قبلُ، ما رأيُكِ يا أمِّي أنْ تَقُصّي من ذيلِهِ قليلًا؛ ليُصْبِحَ على مقاسي؟ وطلبتْ من زينبَ أن تُهديَها إيّاهُ.

أبدتْ أمُّ جبينه إعجابها بجمالِ زينبَ، وقالت وهي تحتضنُها:

انظري يا جبينه إلى أختك زينبَ كم هي جميلةٌ، وثوبُها الذي ترتدينه اكتسبَ جمالَه من زينبَ التي ارتدتْهُ.

ردّت جبينه: سأحتفظُ بهذا الثّوبِ حتّى أرتديَهُ عندما أكبرُ وأصبحُ على مقاسِهِ.

خلعت جبينه ثوبَ زينبَ المُرَقّعَ، طَوَتْهُ؛ لِتضَعَهُ مع ثيابِها في خزانةِ الحائطِ في غرفةِ نومِها، لكنّ زينبَ قالتْ لها:

هاتِ الثّوبَ؛ لأغسلَهُ قبلَ أن تضعيه في الخزانة يا جبينه.

     ذهبت زينبُ إلى المطبخِ، وشرعتْ تغسلُ الأواني، وتُرَتّبُها، ساعدتْها جبينه في ذلك، ولمّا رأتْهما أمُّ جبينه، سألتْ:

ماذا تفعلان ؟

ردّت زينبُ: نغسلُ الأواني ونُنَظّفُ المطبخَ، وبعدها سنكْنِسُ البيتَ وسنُنّظِّفُهُ.

فرحتْ أمُّ جبينه بمبادرةِ زينبَ هذه، وقالتْ:

اتركا هذا العملَ لي.

ردّتْ عليها زينبُ:

لا تقلقي يا خالةُ، واتركي هذه المهمّةَ لي.

قالت أمُّ جبينه لِزَينبَ، وهي تبتسمُ:

قلتُ لكِ أنا أمُّكِ، ولستُ خالتَكِ، فأنتِ بنتي وأختُ جبينه.

قالت زينبُ على استحياءٍ، وهي تتذكّرُ والدتَها خيزرانة:

هذا شرفٌ لي يا خالتي بُثينةُ.

ضحكتْ أمُّ جبينه، وقالتْ:

هل عُدْنا لخالتي بدلَ أمّي؟ ستعتادينَ على ذلك يا زينبُ، وحفظَكِ الله لِأُمِّكِ التي أنجبتْكِ، وسهرتْ الليالي، وهي ترعاكِ.

شكرتْها زينبُ، وهي تقولُ:

أنا محظوظةٌ أكثرَ؛ لأنّهُ لي بدلَ الأمِّ الواحدةِ اثنتان.

******

اختبار

      أثناء توضيبِ زينبَ لفراشِها وجدتْ خمسةَ قروشٍ قِطْعَةً واحدةً، ظنّتْ أنّها سقطتْ من جبينه، فأعادتْها لها، وهي تقول:

وجدتُ هذه على طرفِ فراشي، وبالتّأكيدِ أنّها سقطتْ منكِ.

تناولَتْها جبينه، ووضعتْها في جيبِها.

     قبل المساءِ بقليلٍ من الوقت، وعندما انتهتْ زينبُ من تنظيفِ البيتِ، طلبتْ منها جبينه أنْ تُرافِقَها للّعبِ في برجِ اللقلق، نظرتْ زينبُ إلى أمِّ جبينه نظرةً فهمتْ منها أنّ زينبَ تسألُها رأيَها فيما قالته جبينه، فقالت لها:

رافقيها يا زينبُ، لكن لا تتأخّرا، ارجَعا عندَ صلاةِ العشاءِ.

      في طريقِهما إلى برج اللقلق، مشتْ زينبُ مرفوعةَ الرّأسِ، ثوبُها طويلٌ يضيقُ عند الخصرِ، حذاؤها ينقرُ الطّريقَ المعبّدَ بالحجارة، شعرتْ كما لو أنّ طقطقةَ نَعِلِ الحذاءِ دقّاتٌ على الطّبلِ، تذكّرتْ يومَ طلبتْ من أمِّها أنْ تشتريَ لها ثوبًا وحذاءً جديدين، فردّتْ عليها، والحزنُ يُخيِّمُ على وجهها:

مِنْ أينَ سنأتي بثمنِ حذاءٍ وثوبٍ يا زينبُ، ونحن لا نملكُ ثمنَ الطّعامِ الذي نأكلُه؟

وقتَها شعرتْ زينبُ بكسوفٍ وحُزنٍ عندما نظرتْ قدميْ والدتِها المتشقّقتين من الحفاء، وترحّمت على روح أبيها الذي مات وهو ينتعلُ حذاءً مهترِئًا، التقطتْهُ من مزبلةٍ في بيت لحم، عندما مرّتْ مِنْ طرفها بصُحبةِ أمِّها.

        قرّرتْ زينبُ أن تشتريَ لوالدتِها ولجدّتها العجوزِ ولكلٍّ من إخوتها وأخواتِها حذاءً وكسوةً عندما تقبضُ أوّلَ راتبٍ لها.

      عِنْدَ بُرجِ اللقلقِ اندمجتْ جبينه مع الأطفالِ الذين يلعبون” طاق طاق طاقيّة” بينما جلستْ زينبُ بجانبِ حائطِ بناءٍ قديمٍ، حثّتْها جبينه؛ كي تلعبَ معهم، لكنّ زينب رفضتْ بشدّةٍ، فقدْ رأتْ نفسَهَا أكبرَ عُمْرًا وأكثرَ طولًا من الأطفالِ الحاضرين، لكنّها استمتعتْ، وهي تُطِلُّ على غالبيّةِ أحياءِ المدينة، شعرَتْ بخشوعٍ غيرِ مسبوقٍ، وهي تنظرُ إلى المسجدِ الأقصى، أبهرها انعكاسُ ضوءِ القمرِ على قبّةِ الصّخرةِ المُشرّفةِ الذّهبيّة، فتمعّنتْ بهذا السّحرِ الذي تراه للمّرة الأولى.

       فتّشتْ أمُّ جبينه عن خمسةِ القروشِ التي ألقتْها على فراشِ زينبَ، فلمْ تجدْها، رفعتِ الفرشةَ واللِحافَ والوسادةَ ونفضتْها قطعةً قطعةً، ولم تجدْها، ساورَها غضبٌ شديدٌ، عندما عادَ زوجُها إلى البيتِ أخبرتْهُ عن القطعةِ النّقديّةِ التي ألقتْها على فراشِ زينبَ ولمْ تجدْها، وقالتْ له:

زينبُ بنتٌ فقيرةٌ محرومةٌ من أشياءَ كثيرةٍ، وسَرِقتُها لخمسةِ القروشِ تُثيرُ مخاوفي، فكيف سنُؤَمِّنُها على جبينه؟ أقترحُ أنْ نُعيدَها يا كنعانُ إلى والدتِها قبلَ أن تتعلّقَ بها جبينه.

صمتَ أبو جبينه قليلًا، وقال:

هل سألتِ جبينه؟ فربّما هي من أخذتْ خمسةَ القروشِ.

بثينة: من غيرِ المعقولِ أنْ تأخُذَها جبينه، ولو وجدتْها لأعادتْها إليَّ. زينبُ هي من نظّفتِ الغرفةَ ووضّبتِ الفراشَ.

كنعان: جبينه لا تزالُ طفلةً بريئةً، فرُبّما هي من وجدتْها، وحملتْها وأبقتْها معها.

بثينة: جبينه تربّتْ تربيةً صحيحةً، ويستحيلُ أنْ تمدَّ يدَها إلى ما هو ليس لها.

كنعان: عندما ننتهي من رِحلتِنا، سأصطحبُ زينبَ معي إلى المحلِّ وسأراقبُها، وانتبهي لزينبَ بذكاء؛ لنتأكّدَ من أمانَتِها.

        عندما سألَ الأطفالُ جبينه في برجِ اللقلقِ، وهم يُشيرونَ إلى زينبَ من هذه الفتاة؟

 أجابتهم:هذه أختي زينبُ.

قالَتْ لها إحداهُنّ:

لكنّها لا تُشْبِهُكِ.

فردّتْ جبينه: وأنتِ لا تُشبهين إخوتَكِ أيضًا.

أمّا محمّدٌ ابنُ السّادسةِ، فقد تساءلَ:

 كيفَ تقولينَ أنّها أختُكِ، ونحن نعرفُ أنْ لا أخواتَ ولا إخوةَ لكِ؟

 لكنّ جبينه بقيتْ مُصِرّةً على أنّ زينبَ أختُها. وهذا ما أثلجَ صدرَ زينب.

       عندما ارتفعَ صوتُ الأذانِ من المسجدِ الأقصى، طلبت زينبُ من جبينه أن تعودا إلى البيتِ، كما أوصتْهما أمُّهما، لكنّ جبينه تجاهلتِ الطّلبَ، فسألتْها زينبُ:

هل نسيتِ يا جبينه أنّنا على سَفَرٍ يومَ غدٍ؟

هنا انتبهت جبينه، وقالتْ لِأَقرانِها:

تُصبحون على خيرٍ.

      عندما عادتْ جبينه وزينبُ من بُرجِ اللقلقِ، طرحتا تحيّةَ المساءِ، ركضت جبينة إلى أبيها، وارتمتْ في حضنِهِ، بينما جلست زينبُ على يمينِ أمِّ جبينه، انتبهتْ زينبُ إلى الكشرةِ التي تعلو وجهَ أمِّ جبينه، فسألتْها بعفويّةٍ:

ما بكِ يا خالة؟ هل أنتِ مريضةٌ؟

أمُّ جبينه: أنا بخيرٍ، لكنّي فقدتُ خمسةَ قروشٍ وضعتُها في جيبي؛ لِنَشتريَ بها أغراضًا نحتاجُها في رحلتِنا إلى البرّيّةِ، ولا أعرفُ أينَ وكيفَ أضعتُها.

قالت زينب: لا تقلقي يا خالة، لقد وجدتُها على طرفِ فراشي، واعتقدتُ أنّها سقطتْ من جبينه فأعطيتُها لها.

انفرجت أساريرُ أمِّ جبينه، وسألت ابنتَها:

أين وضعتِ خمسةَ القروشِ التي أعطتْها لكِ زينبُ؟

قالت جبينه، وهي تشيرُ إلى جيبِها:

إنّها معي …في جيبي.

ارتفعَ صوتُ بثينةُ، وهي تسألُ ابنتَها:

لِمَ لَمْ تعطني إيّاها؟

أجابتْ جبينه، وهي تجلسُ في حضنِ أبيها وجهًا لِوَجهٍ:

وَلِمَ أعطيكِ إيّاها؟

وهنا تدخّلَ أبو جبينه، وقالَ لِزَوجتِهِ؛ لِيَصرفَها عنِ الموضوعِ:

أعدّي لي فنجانَ قهوةٍ يا بثينةُ.

وقفتْ زينبُ، وقالتْ:

ارتاحي يا خالةُ…أنا سأغلي القهوةَ للعمِّ.

لكنَّ العمَّ كنعان قالَ:

ارتاحي يا زينبُ، واتركي بثينةَ لتُعِدَّ القهوةَ.

فَهِمَتْ بثينةُ ما أرادَهُ زوجُها بطلبِهِ القهوةَ، فقامتْ تَجُرُّ جسدَها بِتَثاقلٍ.

       طلب أبو جبينه من ابنته ومن زينبَ أن تنصرفا إلى غرفة نومِهما؛ لِيَناما؛ كي تستيقِظا صباحًا؛ استعدادًا للرّحلةِ. فسألتْه جبينه:

أيُّ ساعةٍ سنغادرُ بيتَنا؟

الأب: في ساعات الضّحى. قالها ودخلَ إلى غرفةِ نومِهِ، لَحِقَتْ به زوجتُه بفنجانِ القهوةِ إلى غُرفةِ النّومِ. وهناك قال لِزوجتِهِ:

      اسمعي يا بثينةُ، زينبُ طفلةٌ مُؤَدّبةٌ جارَ عليها الزّمنُ بوفاة والدِها وفَقْرِ أُسْرَتِها، وهذا لا يُعيبُها، فغالبِيّةُ النّاسِ فُقراء، وتَبْلُغُ حاجَتُهم مداها في سنواتِ القحطِ، لأنّهم يعتمدون في حياتِهِم على زِراعةِ الأرضِ وتَرْبِيَةِ المواشي. وقدْ مرّتْ علينا ثلاثُ سنواتٍ قَحْطٍ أهلكتِ الزّرعَ والضِّرْعَ، ولولا العوْزُ لما أتتْ بها والدتُها إلى القدسِ؛ لِتَبْحثَ لها عن عملٍ، وهذه السّنَةُ  مُخْصِبَةٌ، ستُعينُهم على تدبيرِ شُؤون حياتهم. فإيّاكِ أنْ تُهيني زينبَ، فهي طفلةٌ يتيمةٌ، وأصبحتْ أمانةً في أعناقِنا، وَجِّهيها كما تُوَجِّهين جبينة.

قالتْ بُثينةُ، وقد جفَّ ريقُها بعد أن شعرتْ بالنّدمِ؛ لاستعجالِها باتّهامِ زينبَ بالسّرقةِ: لقدْ أحببتُها كابنتي يا كنعان، خصوصًا أنّي رأيتُ البراءةَ في وجهِها، حتّى أنّني طلبتُ منها أنْ تعتبرَ نفسَها بنتي وأخُتًا لجبينه، لكنّ الحذرَ مطلوبٌ؛ لِنُحافظِ على جبينة.

سألها زوجُها: هلْ جَهَّزْتِ الخيمةَ ومُتطلّباتِ الرّحلةِ من الطّعامِ والأواني؟

بثينة: نعم، جَهّزْتُ كلَّ شيءٍ، لكن كم يومًا سنمكُثُ في البراري؟

كنعان: سنبيتُ ليلةً أو ليلتينِ حسبَ ظروفنا.

         في غرفةِ نومهما أصرّتْ جبينه أنْ تنامَ بجانبِ زينبَ؛ لِتَستأنسَ بها، تمدّدَتا على الفراشِ كقطّتينِ صغيرتين، خافت جبينه أن تنزعجَ زينبُ منها؛ لأنّها تنامُ بجانبها على فرشةٍ واحدةٍ، فسألتْها.

هل تنزعجين منّي؛ لأنّي أحبُّ النّومَ بجانبكِ؟

ضحكتْ زينبُ، وقالتْ:

لا تقلقي يا جبينه، فأنا لا أذكرُ أنّني نمتُ وحدي في بيتِ أهلي، فقد كنّا أنا وأشقّائي ننامُ متلاصقين على فراشٍ واحدٍ، وفي مساحةٍ صغيرةٍ.

فسألتها جبينه مستغربةً:

لِمَ لَمْ تفرشوا فراشًا واسعًا في مكانٍ واسعٍ؟

لأنّ بيتنا سقيفةٌ من الزّينكو في الصّيف، والمغارةُ في الشّتاء، ينامُ والدانا في طرفٍ، وأمّي تحتضنُ الصّغيرَ، وتُرتّبُنا من الصّغير إلى الكبير. وفراشُنا قليلٌ فقيرٌ كبيتِنا.

تعاطفتْ جبينه مع زينَبَ، وسألتها:

هل أنتِ سعيدةٌ؛ لأنّنا ننامُ في هذه الغرفةِ الواسعة، وعلى هذا الفراشِ الوفيرِ؟

صمتتْ زينبُ ولم تُجِبْ عن سؤالِ جبينه، فرغمَ النّعيمِ الذي تعيشُه في هذا البيتِ إلّا أنّها تشعرُ بالغُربةِ؛ لفراقِ والدَتِها وأشقّائِها، نزلتْ دموعُها دونَ إرادتِها، لَمْ تفهمْ جبينة سببَ صَمْتِ زينبَ، فسألتْها:

هلْ أنتِ ناعسةٌ يا زينبُ؟ لِمَ لا تتكلّمين؟

ردّت زينب: لا…أنا لستُ ناعسةً.

عادت جبينة تسألُها:

هلْ رأيتِ البحرَ يا زينبُ؟ وهل تُجيدين السّباحةَ؟

زينبُ: نعم، رأيتُ البحرَ الميّتَ من بعيدٍ.

جبينة: أقصدُ بحرَ يافا الكبير!

زينبُ: لا…لمْ أزُرْ يافا ولا غيرَها، ولا أعرفُ إنْ كان ليافا بحرٌ، لكنّي أكلتُ برتقالًا قالوا لي إنّه من يافا.

جبينة: سنزورُ يافا في الصّيفِ وستكونين معنا، وسأسبحُ في بحرها.

************

زيارة مفاجئة

         في ساعات صباحِ يومِ الجمعةِ الأولى، سمعتْ أمُّ جبينة طرقًا على البابِ الخارجيّ للبيت، غطّتْ رأسَها، ارتدتْ ثوبًا ساترًا فوقَ منامتِها، اتّجهتْ إلى الباب ونادتْ بصوتٍ مُرتفعٍ، وهي تتثاءب:

مَنِ الطّارقُ؟

سمعتْ صوتًا أنثويًّا خافتًا، يقول:

أنا خيزرانةُ يا أمُّ زينبَ.

فتحتْ أمُّ جبينة البابَ على غيرِ رغبةٍ منها، رحّبتْ بأمِّ زينبَ، وهي تقول:

كفانا اللهُ الشّرَّ، هل ماتتْ حماتُكِ.

قالتْ أمُّ زينبَ ودموعُها تنهمرُ على وجنتيها:

الحماةُ لم تمتْ، لكنّي لمْ أُطِقْ صبرًا على فراقِ زينبَ، فصلّيتُ الفجرَ وجئتُ لأطمئنَّ عليها؛ ولأصلّي الجمعة في الأقصى الشّريفِ.

سمعتْ زينبُ صوتَ أمِّها، قفزتْ من فراشِها بعفويّة، فتحتْ بابَ الغرفةِ وعندما رأتْ أمَّها، ركضتْ إليها، وهي تصرخُ، ودموعُها تنهمرُ:

يمّه.

قفزتْ أمُّها هي الأخرى، وهي تبكي وتقولُ:

يا روح إمّك.

التقتا في منتصفِ المسافةِ التي لا تزيدُ على خمسةِ أمتارٍ، احتضنتْها والدتُها وكلتاهما تبكيان، لكنّ الأمَّ انتبهتْ أنَّ ابنتَها لمْ تكنْ بكاملِ ملابسِها، فقالتْ لها:

اذهبي وارتدي ملابِسَكِ بسرعةٍ.

عضّتْ زينبُ على شفتِها السُّفلى ندمًا؛ لأنّها خرجتْ من غرفةِ نومِها شبهَ عاريةٍ، ركضتْ إلى غُرفتِها، ارتدتْ ثوبَها وحِذاءَها الجديدين، غسلتْ وجهَها، مشّطتْ شعرَها، وعادتْ تجلسُ مع والدتِها.

     تأثّرتْ أمُّ جبينه بالموقفِ، فنزلتْ دموعُها هي الأخرى، اتّجهتْ إلى المطبخِ؛ لتُحضِّرَ الشّايَ. استيقظت جبينه، خرجتْ من غرفةِ النّوْمِ تبحثُ عن زينبَ، لمّا رأتْ والدةَ زينبَ اتّجهتْ إليها تُصافحُها، فاحتضنتْها هي الأخرى، وقبّلتْ وجنتيها، بقيت جبينه واقفةً وسألتْ أمَّ زينبَ:

هل ستُرافقيننا في رِحْلَتِنا إلى البرّيّة يا خالة؟

استغربتْ خيزرانة السُّؤالَ، فالتفتتْ إلى ابنتِها تسألُها:

عن أيِّ رحلةٍ تتكلّمُ هذه الطّفلةُ يا زينبُ؟

شرحتْ زينبُ لأمِّها أنّ الأسرةَ ستذهبُ إلى البرّيّةِ في رحلةٍ، قد تستغرقُ ثلاثةَ أيّامٍ، وستكونُ هي معهم.

دُهِشتْ أمُّ زينبَ ممّا تسمعُ، وسألتْ:

وهل هناكَ من يرتحلُ إلى البراري؟

زينب: هم مُعجبون بالبراري، ويتغنّون بجمالِها، لأنّهم لم يعيشوا فيها، ولا يرونَ الرّبيعَ في المدُنِ.

       تناولتْ زينبُ صينيّةَ الشّايِ الفِضّيّةَ من يدِ أمِّ جبينه، تريدُ أنْ تُعطيَ كلَّ واحدةٍ كأسًا، لكنَّ أمَّ جبينه وضعتْ ثلاثَ كاساتٍ جانبًا، واحدة لجبينه، وحملتْ اثنتينِ إلى غرفةِ نومِها، لها ولزوجِها، وقالتْ لجبينه:

خُذي كأسَكِ، اشربي شايَكِ في غُرفتِكِ، اتركي زينبَ ووالدتَها وحدَهما.

      لمّا خلا لهما الجوُّ، سألتْ أمُّ زينبَ ابنتَها:

طمئنيني…هل أنت مرتاحةٌ؟ هل يُضايقُكِ أحدٌ؟

ردّتْ زينبُ باسمة، وقد تورّدَ وجهُها:

أنا بألفِ خيرٍ يا أمّي، يتعاملون معي كابنتِهم جبينه، حتّى إنّني أنامُ وإيّاها على فراشٍ واحدٍ، اشترَوْا لي أربعةَ ثيابٍ جديدةٍ، وحذاءً جديدًا. وآكلُ معهم على مائدةٍ واحدةٍ ومن الطّعامِ نفسِه، وسأدرسُ في الكُّتّاب مع جبينه في المسجد الأقصى، وهذا اليومُ سأرافقُهم في رحلةٍ إلى البرّيّة، فلا تقلقي مُطلقًا عليّ.

حمدلت أمُّ زينبَ، وتمتمتْ بكلماتٍ لم تفهمها زينبُ، فسألتْ أمَّها:

ماذا تقولين؟

الأمّ: أقولُ لعلَّ الله يفتحُ لنا بابَ السّعادةِ على يَدَي هذه الأُسرةِ الطّيبةِ. وسألتْ ابنتَها:

متى سيذهبونَ إلى البرّيّة؟

زينبُ: قالَ أبو جبينه إنّنا سنخرجُ من هنا في ساعاتِ الضُّحى.

       استأذنت أمُّ زينبَ لتنصرَفَ؛ كي لا تكون سببًا في تأخيرهم عن رِحلتِهم كما خطّطوا لها، إلّا أنّ أمَّ جبينه قالتْ:

لا يُمكن أن تخرجي من بيتِنا قبل أنْ تتناولي معنا طعامَ الفطور. وبعد نقاشٍ لم يستمرّ طويلًا، وتحت إصرارِ بثينةَ، تراجعتْ أمُّ زينبَ عنْ قرارها بالانصرافِ، وقالت:

إذنْ سأساعدُكِ في إعدادِ الفطورِ، وهمّتْ بدخول المطبخِ، لكنّ أمَّ جبينه أوقفتْها، وهي تقول:

هذا مستحيلٌ، فأنتِ ضيفتُنا، وأنا سأُعِدُّ وجبةَ الطّعامِ وحدي. حوقلتْ خيزرانةُ، وقالتْ وهي تشيرُ إلى ابنتِها:

إذنْ ستُساعدٍكُ زينبُ.

أمُّ جبينه: زينبُ ستبقى معكِ، فأنتِ جئتِ لزيارتِها والاطمئنانِ عليها، وهذا حقُّكِ وحقُّها، اجلسي معها في الصّالونِ أوفي غرفةِ نومِها، وتحدّثي معها كما تشائين.

خرجَ أبو جبينه من غرفتِه عندما قدّمت له زوجتُه كأسَ الشّايِ، وأخبرتْهُ بأنَّ أمَّ زينبَ في ضيافتِهم، حاملًا كأسَ شايِه بيدهِ، رحّبَ بأمِّ زينبَ التي وقفتْ أمامَهُ تصافحُهُ، جلسَ قبالتَها، وقالَ:

أنتِ محظوظةٌ؛ لأنّ زينبَ ابنتُكِ، فهي كاملةُ الأوصافِ، ونحنُ نعتبرُها ابنتَنا، مثلَ جبينه تمامًا.

شكرتْهُ أمُّ زينبَ على شهامتِهِ وحسنِ رعايتِهم لزينب.

استأذنَ أبو جبينه منها، وقال:

اجلسي وحدَكِ مع ابنتِكِ، وتكلّما كما يحلو لكما.

ردّتْ عليه أمُّ زينبَ:

لا أسْرارَ بيننا، لكنّي اطمأنَنْتُ على زينب.

بعدَ أن تناولوا وجبةَ الفطورِ، استأذنتْ أمُّ زينبَ قائلةً:

اسمحوا لي…لا أريدُ أنّ أؤخِّرَكُم عن رحلتِكم، سأذهبُ إلى المسجدِ الأقصى.

ضحكتْ أمُّ جبينه، وسألتْها:

ما رأيُكِ أنْ تذهبي معنا في رِحلتنا؟

ابتسمتْ أمُّ جبينه، وقالتْ:

ليتني أستطيعُ ذلك، فمن غير الممكنِ أنْ أترُكَ أطفالي وحدَهم، والبراري مكانٌ عاديٌّ لي، وُلِدْتُ في البرِّيَّةِ، وعشتُ فيها غالبيَّة سنوات عُمري.

وهنا قالت جبينه لأمِّ زينبَ:

أنت محظوظةٌ، لأنّكِ عشتِ في البرّيّةِ الجميلةِ.

ردّتْ عليها أمُّ زينبَ تُداعبُها:

وأنتِ محظوظةٌ ثلاثَ مرّاتٍ، الأولى لأنّكِ ابنةٌ لهذين الزّوجين الرّائعين، والثّانيةُ لأنّكِ وُلدتِ في القدسِ الشّريف، أقدس وأجمل مدن العالم، والثّالثة لأنّكِ تسكنين بجانب المسجدِ الأقصى.

      قبلَ أنْ تُغادرَ أمُّ زينبَ بيتَ والدَي جبينه أوصتِ ابنتَها:

انتبهي ومَنْ معكِ من الأفاعي، فهذا موسمُ خُروجِها من جحورِها.

وهنا سألتْ أمُّ جبينه باستغرابٍ:

هلْ يوجدُ في البراري أفاعٍ؟

التفتَ إليها زوجُها، وقال:

إذا لم تتكاثر الأفاعي في البراري فأينَ ستتكاثر؟ ألمْ أقلْ لكِ إنني وجبينه رأينا عددًا من العقاربِ على قمّةِ جبلِ المُنطارِ؟

وهنا تدخّلتْ زينبُ، وقالتْ:

غالبيّةُ الأفاعي ليست سامّةً، لكن هناكَ أفعى رقطاءُ سمُّها قاتلٌ، وأنا أعرفُها، وأقتُلُها حيثُما أراها، أمّا غيرُ السّامّةِ فأتركُها وشأنَها.

أمّا أمُّها، فقد قالتْ:

الحامي هو اللهُ، لكنَّ الحذرَ مطلوبُ.

استمعت جبينه للحديثِ عن الأفاعي، فسألتْ زينبَ بصوتٍ فيه بحّة:

هل تقتُلين الأفاعيَ حقًا؟

ردّت زينبُ دون اكتراث:

نعم، أقتلُ الأفاعيَ السّامّةَ.

جبينه: أكادُ لا أُصَدِّقُ ما تسمعه أُذُناي، فأنا أخافُ من الأفاعي حتّى لو كانتْ ميّتةً.

في البقيعة

       عندما علمت جبينة بترتيبِ الشّاطرِ حسن لرحلةٍ إلى البقيعة عرضتْ على والديْها أن تُشاركَ في تلكَ الرّحلةِ، فقال لها أبوها:

سنذهبُ نحنُ في رحلتنا إلى المكانِ الذي نعرفُهُ، والّذي تعرّفتِ فيه على صديقتِكِ وضحا، وسنُخيّمُ فيه يومين أو ثلاثة، ولكِ الخيارُ أن تكوني معنا، أو أن تكوني في رحلةِ الشّاطرِ حسن، التي تستمرُّ بضعَ ساعاتٍ فقط، حيثُ سيعودون قبل مغيب شمسِ اليوم.

فكّرت جبينه قليلًا، وقالت:

إذا ذهبتم في رحلتِكُم وخيّمتم هناك، وشاركتُ أنا في الرّحلة الأخرى، وعدتُ من رِحلتي مساء اليومِ فكيف سأنامُ وحدي؟

ضحك والداها وزينب، وقالت أمُّها:

تنامين عند خالَتِكِ فاطمة.

ابتسمت جبينه، وقالت:

أقترحُ أنْ أذهبَ وأختي زينب في رحلةِ الشّاطرِ حسن، وعندما نعودُ ننامُ معًا في بيتنا.

ابتسم أبوها، وقال لها:

أختُكِ زينبُ تريدُ أن تذهبَ معنا.

التفتت جبينة لزينبَ، وسألتها:

هل صحيحٌ ما قاله أبي يا زينبُ؟

أجابتْها زينبُ: نعم، صحيح.

وجدت جبينه نفسَها مجبرةً على الذّهاب مع والديها، فحوقلت وسكتت.

       انطلقت حافلاتُ رحلةِ الشّاطر حسن من بابِ السّاهرةِ في السّاعة السّابعة صباحًا، بعد أن اكتظّت بالأطفالِ وأمّهاتهم، وصلوا مقامَ النّبيّ موسى بعد عشرين دقيقةً. شرحَ لهم الشّاطرُ حسن عن تاريخِ المقامِ، الذي بُنِيَ في العصرِ الأيّوبيِّ بعدَ أنْ حرّر صلاحُ الدّين القدسَ من احتلالِ الفرنجةِ عام 1187م. وطلبَ منهم أن يدخلوا المقامَ وأن يتجوّلوا فيه، تسابقَ الأطفالُ في الدّخولِ إلى المقامِ، والدّخولِ إلى غُرفه، وبعضُ الأمّهات تُمسكُ كلٌّ واحدةٍ منهنَ بيدِ طفلِها الصّغير، الذي لا يقوى على مزاحمةِ الآخرين، وقفنَ في بهو المقامِ، دخلَ بعضهنّ إلى المسجدِ وأدّين ركعتي تحيّةَ المسجد، والأطفالُ يتراكضونَ داخلَ المبنى، بعدَ حوالي ساعةٍ طلب الشّاطرُ حسن من الجميعِ أنْ يتوجّهوا إلى الحافلات؛ لِمُواصلة رِحلتِهم إلى البقيعة. سارتْ بهم الحافلاتُ حوالي ثلاثة كيلومتر، وتوقّفوا في منطقةِ ” الطِّبِق”، وهناك قالَ لهم الشّاطرُ حسن أن ينطلقوا في المنطقةِ وألّا يبتعدوا كثيرًا، وحذّرَ الأطفالَ من مغبّةِ العبثِ بحقولِ الحبوبِ، كي لا يُلحقوا الأذى بها.

      تراكضَ الأطفالُ فرحينَ معجبينَ بجمالِ الطّبيعةِ وتنوّعِ النّباتات، في حين شرعتِ الأمّهاتُ بِتبقيلِ الخبّيزةِ والحويرّةِ والبابونجِ الّتي تكثرُ في المكان. مرَّ الأطفالُ بمضاربِ رعاةِ المواشي، الذينَ يسكنونَ بيوتَ الشَّعَرِ، قدّمتْ لهم ربّاتُ البيوتِ ما تيسّر لهنّ من الّلبن الرّائبِ، وأقراصِ الجُبنةِ، وخُبْزِ”الشّراك” دون مقابلٍ.

أكلوا من الأعشابِ النّيْئَةِ بعد أن تعرّفوا عليها من رُعاةِ المواشيِ، ومن أطفالِهم، الذين خرجوا للّعبِ معهم. تدحرجوا على الأعشابِ الطّويلةِ، تمعنّوا بمنظرِ البحر الميت القريبِ منهم، والذي تنعكسُ على مياهه أشعّةُ الشّمسِ، فيبدو لهم البحرُ ضاحكًا. امتطى بعضُهم حميرَ الرّعاةِ في المراعي، تمنّى غالبيّتُهم لو أنّهم يعيشونَ في هذا المنطقةِ المفتوحةِ الواسعة، التي تختلفُ عن أسواقِ المدينةِ وأزقّتِها الضّيّقةِ. بعدَ ظُهرِ ذلك اليومِ بساعتين، أطلقَ الشّاطرُ حسن صفارتَهُ؛ ليتجمّعَ الأطفالُ، وفاجأَ الجميعَ عندما قال:

الآن سنعودُ إلى مقامِ النّبيّ موسى؛ لِنتناولَ طعامَ الغداء، فهو لم يخبرْهم من قبلُ أنّه اتّفقَ مع طبّاخٍ؛ لِيَطبخَ مائتي كيلو غرام من لحمِ الضّأنِ ابتاعَه من أحدِ جزّاري مدينةِ أريحا القريبة من المكان، كما ابتاعَ ألفَ رغيفِ خبزٍ من فُرنٍ في مدينة أريحا.

اقترحَ بعضُ الأطفالِ أن يبقوا في المكان، وقالوا بأنّهم ليسوا جائعين، ولا يُريدون طعامًا، فقد شبعوا من الأعشابِ الّلذيذة التي تُؤكلُ نَيْئَةً، غيرَ أنّ أمّهاتِهم زجرنهم،  وطلبنَ منهم أنْ يستجيبوا لتعليمات الشّاطر حسن قائدِ الرّحلة. قبلَ أن تنطلقَ بهم الحافلاتُ رأوا قطيعًا من الغِزلانِ، يمرُّ على سفحِ سلسلة الجبالٍ، التي تحيطُ بالمنطقةِ من جهتها الشّماليّةِ الغربيّة، فصاحَ الأطفالُ بصوتٍ واحدٍ:

غِزلان…غِزلان.

سعادةُ الشّاطر حسن وهو يرى سعادةَ الأطفالِ وأمّهاتهم كنت كبيرةً، ولا تقلّ عن سعادتهم.

بعدَ صلاةِ العصرِ عادوا إلى القدسِ، والنّساءُ يلهجنَ بالشّكرِ والثّناءِ على الشّاطر حسنِ؛ لِكَرَمِهِ ونُبْلِهِ وحُسنِ أخلاقه، وتمنّينَ له الصّحّةَ والسّعادةَ وأن يزيدَهُ اللهُ من خيراتِه. وفي الحافلاتِ شرعنَ يُغنّين، وممّا قُلنهُ:

” اللي عجنب الخلّه *** لمين هو هالبيت*** اللي عجنب الخلّه

ومخزن للغلّه بيت “الشّاطر حسن “ومخزن للغلّه

****

دار”الشّاطر حسن” كبيره… ويا دارالعزّ تشرف عالمدينه

دار”الشّاطر حسن”سرايا سرايا…ويا دار العزّ تشرف عالقريه

****

يا دار”الشاطر حسن” ومبلطه بشلونه…فيها شور وفيها قول وفيها مقعد حكومه

يا دار”الشّاطر حسن” مبلّطه بالبلاط…فيها شور وفيها قول ومقعد الزُّبّاط

يا دار”الشّاطر حسن” ومبلطه بالرّخام…فيها شور وفيها قول وفيها مقعدالحكّام

****

لمين الدّاراللي عجنب الوادي **** دار “الشّاطر حسن” مقعد الاجواد

لمين الدّاراللى عجنب الميّه *** دار”الشّاطر حسن ” ومقعد الأفنديّه

عاليه عالنّاس

دار الشّاطر حسن

عاليه عالنّاس

فضّه وذهب روباص

يحجارها

فضّه وذهب روباص

عاداتها تضوي

قناديل الذّهب

مهباشها يظب حمع الصّباح.”

في البرّاري مرّة أخرى

     رتّبوا أغراضَهم في سيّارتِهم، وانطلقوا إلى براري القدس، كنعانُ يقودُ السّيّارةَ،  تجلسُ زوجتُه على يمينِه، أمّا جبينه وزينبُ، فقد جلستا في المقعدِ الخلفيِّ، فرحةُ زينبَ لا توصفُ، والسّيارةُ سائرةٌ في طريقٍ ترابيٍّ غير معبّدٍ، تكثرُ فيه الحفرُ فتتراقصُ السّيّارةُ كأنّها تنكةٌ صَدِئَةٌ تُدَحْرِجُها الرّياحُ في يومٍ عاصفٍ، تعلو قهقهةُ زينبَ مرّةً وتهبطُ أخرى مع حركةِ السّيّارةِ، فهذه هي المرّةُ الثّانيةُ التي تركبُ فيها سيّارةً، ففي المرّة الأولى التي أوصلَ فيها أبو جبينه والدتَها إلى بيتِها في بيت لحم، غلب عليها حزنُ فراقِ الأهلِ، فجلستْ في زاويةِ المقعدِ الخلفيِّ حزينةً تداري دموعَها، التي حرصتْ ألّا يراها الآخرون، أمّا هذه المرّةُ، فقد بدأتْ تتأقلمُ مع العيشِ وسطَ هذه الأسرة الكريمةِ، نظرَ إليها أبو جبينه من خلالِ مرآة السّيّارةِ، فأُعْجِبَ بانطلاقِها، وسألّها:

هلْ أنت سعيدةٌ برؤيةِ هذه الأماكنِ يا زينبُ؟

ردّت عليه زينبُ، ووجهُها ينطقُ فرَحًا قبلَ لسانِها:

نعم، أنا سعيدةٌ بِصُحبتِكُم يا عمُّ. وبركوبي في السّيّارةِ، أمّا منظرُ الطّبيعةِ الخلَّابِ فليس جديدًا عليَّ.

انتبهت جبينه لما قالتْهُ زينبُ، فسألتْ:

ألا تستمتعينَ يا زينبُ بجمالِ الطّبيعةِ هذا؟

زينبُ: أنا لم أقلْ هذا، بل قُلتُ إنّني معتادةٌ على رؤيةِ جمالِ الطّبيعةِ، فهو ليسَ جديدًا عليّ، والجديدُ عليَّ هو أن أقطعَ هذه المسافةَ في سيّارةٍ.

جبينه: كيف كنتِ تتنقّلين دون سيّارةٍ؟

زينبُ: على ظهورِ الدّوابّ.

استغربت جبينه ما سمعته، وقالت:

دوابّ….كيف؟

زينبُ: قلتُ لكِ سابقًا إنّني كنتُ أركبُ الحميرّ والبغالَ والخيولَ.

وهنا سألَتْها أمُّ جبينه:

أيُّهما أفضلُ: ركوبُ الدّوابِّ أمِ السّيّارة؟

زينب: ركوبُ الدّوابِّ فيه متعةٌ أكثرَ من السّيّارة. لكنّ السّيارةَ أسرعُ من الدّوابّ في قطعِ المسافات، وفي هكذا طُرُقاتٍ فإنّ الخيولَ تسبقُ السّيّارةَ.

وهنا قالتْ جبينه لأبيها:

ما رأيُكَ يا أبي أن تشتريّ لنا فرسًا نُخيّلُ عليها؟

ضحكَ أبوها، وهو يقولُ:

الخيولُ لا تصلُحُ لسكّانِ المدنِ. وأنت لا تُجيدين ركوبَها.

جبينه: أختي زينبُ ستُعَلِّمُني ركوبَ الخيلِ.

الأب: هل جئتِ إلى البرّيّةِ للتّمتّعِ بجمالِها وبما تُنبتُ الأرضُ أمْ لركوبِ الخيلِ؟

ضحكت جبينه، وقالت:

لكليهما.

وهذا ما أضحكَ والديها وزينبَ أيضًا.

عندما وصلوا منطقةَ الضُّحضاحِ صرختْ أمُّ جبينه مرتعبةً، فأوقفَ زوجُها السّيّارةِ، وسألها:

 ما بكِ يا امرأة، هل جُنِنْتِ؟

أجابت بكلامٍ متقطّعٍ:

انظروا إلى يمين الشّارعِ.

نظروا، فرأوا حَنَشًا أسودَ اللونِ، طولُهُ يزيدُ على المترين ممدّدًا على يمينِ الطّريقِ، نزلتْ زينبُ من السّيّارةِ، أمسكتْ بذيلِ الحَنَشِ ورفعته عن الأرضِ، وهي تقولُ:

هذا حَنَشٌ مقتولٌ… يا للخسارةِ!

سألتْها أمُّ جبينه مستنكرةً وساخرةً:

خسارةُ ماذا يا بنت؟

زينب: خسارةُ أحدِ الزّواحفِ التي تُغْني الطّبيعةَ.

تجمّدت جبينه في مكانِها خائفةً، أغلقتْ نافذةَ السّيّارةِ، وهي تصرخُ على زينبَ:

اتْركيه يا مجنونة.

جرّتْ زينبُ الحَنَشَ من ذيلِهِ، واقتربتْ من أبي جبينة، وهي تقولُ:

هذا الحنشُ يا عمُّ غيرُ سامٍّ، لا يؤذي الإنسانَ، بلْ هو مفيدٌ له، فهو يتغذّى على الحشراتِ، ويبتلعُ الأفاعيَ السّامّةَ وابن عرس.

تظاهرَ أبو جبينه بأنّه غيرُ خائفٍ، فقالَ لزينبَ:

اتركيه يا ابنتي، وهيّا بنا نُواصلُ مسيرتَنا.

عادتْ زينبُ إلى السّيّارةِ، فسألتْها أمُّ جبينه:

 لو كان هذا الحَنَشُ حيًّا هل كنتِ تَجرُؤين على الإمساكِ به؟

أجابتْ زينبُ دونَ اكتراثٍ:

إذا كان لديّ وقتٌ للّعبِ معه، فسأحاولُ الإمساكَ به معَ صُعوبةِ ذلك، فهو سريعٌ جدًّا.

لمْ يُعجبْ كلامُها جبينه، فالتصقتْ بزاويةِ السّيّارةِ مبتعدةً عن زينبَ. لكنّ أمَّ جبينه عادتْ تسألُ زينبَ:

كيفَ عرفتِ أنّ الحَنَشَ يبتلعُ الأفاعيَ السّامّةَ؟

زينب: الكلُّ يعرفُ ذلك، وقد سبقَ وأن شاهدتُهُ بعينيَّ، وهو يبتلعُ أفعى.

واصلوا طريقَهم إلى منطقةِ الدّمْنَةِ التي زاروها في المرّة السّابقةِ، عندما حطّوا رحالَهم، رأتْهم وضحا، فركضتْ إليهم حافيةَ القدمين، وفي ذهنِها أن تتفرَّجَ على السّيّارةِ، وأن تلتقيَ صديقتَها جبينه، وصَلَتْهم قبلَ أن يُقيموا خيمَتهم، صافحتْهم فردًا فردًا، احتضنتْ جبينه، وعندما صافحتْ زينبَ وقفتْ أمامَها، وقالتْ:

اسمي وضحا…من أنتِ؟

ابتسمت زينبُ لها، وقالتْ:

اسمي زينبُ.

وهنا تدخّلتْ جبينه، وقالت لوضحا، وهي تشيرُ إلى زينبَ:

هذه أختي زينبُ.

نظرتْ إليها وضحا باستغرابٍ، وقالتْ:

لكنّكِ قُلْتِ لي في المرّةِ السّابقةِ بأنّكِ وحيدةٌ، ولا أخواتَ، ولا إخوةً لكِ.

ضحكت جبينه، وقالت:

صارَ لي أختٌ كما ترين.

دارتْ وضحا حولَ السّيّارةِ تتفحّصُها بإعجابٍ، انتبه إليها أبو جبينه، فقال لها:

هل أعجبتْكِ السّيّارةُ؟

وضحا: نعم.

فتحَ أبو جبينه باب السّيّارةِ، وقال لها:

اجلسي أنت وجبينه في المقعدِ الخلفيِّ حتّى نبني الخيمةَ.

دخلتْ وضحا السّيّارةَ فرحةً بذلك، لكنّ جبينه سألتْ أمَّها:

 أينَ هديّةُ وضحا؟

أشارتْ لها أمُّها إلى بابِ صندوقِ السّيّارةِ، وقالت لها:

هناك مع الأغراضِ.

أخرجتْ زينبُ الأغراضَ من صندوقِ السّيّارةِ ووضعتْها جانِبًا، فركضتْ جبينه وحملتْ علبةَ حلقومٍ، وقالبَ حلاوةٍ، لحقتْ بوضحا وجلست بجانبها في السّيّارة، وقدّمتها لها وهي تقولُ:

هذه هديّةٌ منّي إليكِ يا وضحا.

فرحتْ وضحا بهديّتِها، وشكرتْ وضحا قائلةً:

سأطلُبُ من أُمّي أنْ تطبخَ لكم طُنجرةَ “بَحْتِيَّةِ”، وسأهديكِ يا جبينه لبنًا وجبنةً وسمنًا بلديَّا، وأضافتْ ضاحكةً: وطبخةَ خُبّيزةٍ أيضا.

سألتْها جبينه: ما هي البحتيّةُ، فأنا لمْ أسمعْ بها من قبلُ؟

وضحا: البَحْتِيَّةُ حلويّاتٌ لذيذةٌ، تتكوّنُ مِنَ: الرُّزِّ، والحليبِ، يُضافُ إليها قليلٌ من السُّكَّرِ.

ضحكتْ جبينه، وقالتْ لوضحا:

ما رأيكُ أن تذهبي لبيتِكم؛ لِتَضعي هديّتَكِ عند أمّكِ، ولِتَعودي إلينا بفرسِ أبيكِ؛ كي أتعلّمَ رُكوبَ الخيلِ؟

وضحا: هذا رأيٌ جيّدٌ، لكن لن أسمحَ لكِ بركوبِ الفرسِ قبلَ أنْ يُدرّبَكِ فارسٌ كبيرٌ على ذلك.

ردّت جبينه بسرعةٍ:

أختي زينبُ تجيدُ ركوبَ الخيلِ.

        ركضتْ وضحا إلى بيتِ أهلِها حاملةً هديّتَها، سعيدةً بها، فكّرتْ بطلبِ جبينه للفرسِ، وقرّرتْ أنْ تقودَ الفرسَ عاريةً بِلا سَرْجٍ وبِلا لِجامٍ؛ كيْ تراها جبينه دونَ أنْ تطلُبَ رُكوبَها.

      فَرِحَتْ جبينه برؤيةِ الفرسِ، لكنّها خافتْ من الاقترابِ منها، بينما تقدّمتْ زينبُ وحسّستْ على جبينِ الفرسِ، وعلى رقَبَتِها، والفرسُ تتحرّكُ في مكانِها رافعةً رأسَها بكبرياء الأصايلِ، دارتْ زينبُ حولَ الفرسِ ويدُها تلامسُ جسدَ الفرسِ بِلُطْفٍ وإعجابٍ، وما لَبِثتْ أنْ أمسكتْ رَسَنَ الفرسِ، وبِلَمْحِ البصرِ ارتكزتْ بيدِها اليُمنى على رَقَبَةِ الفرسِ، ورَفعتْ جسدَها بحركةٍ شِبْه دائريّةٍ، وإذا بها على ظهرِالفرسِ كخيّالٍ مُحْتَرِفٍ، أرختِ الرّسَنَ قليلًا، وضربتْ ساقيْها برشاقةٍ على بَطْنِ الفرسِ، فانطلقتْ تُسابِقُ الرّيحَ وزينبُ تُوَجِّهُها إلى الطّريقِ الذي سارتْ به السّيّارةُ، ظنَّ والدا جبينه أنَّ الفرسَ هربتْ بزينبَ، وأنّها ستسقُطُ عنها لا محالةَ، فتموتُ أو تتكسّرُ عظامُها، وبالتّالي سيقعون في مصيبةٍ؛ لأنّها أمانةٌ عندَهم، لكنَّ وضحا طمأنتْهُما، قائلةً:

لا تخافا، فزينبُ فارسةٌ معتادةٌ على رُكوبِ الخيلِ كما يبدو، الفرسُ لم تهرُبْ بها، بل هي من أطلقتِ العِنانَ للفرسِ.

تابعوا بنظرِهم زينبَ والفرسَ، وأيديهم على قلوبِهم خوفًا على زينبَ.أمّا جبينه فقد جلستْ مذهولةً على الأرضِ، واضعةً كفَّيْها تحتَ فكّيْها، وكوعاها يرتكزان على ساقيْها. غابتْ زينبُ عن أنظارِهم، فكّرَ أبو جبينه أن يلحقَ بها بسيّارتِه، لكنّه تراجعَ عن فِكْرَتِهِ عندما رأى الفرسَ أسرعَ من سيّارتِهِ.

      أوقفتْ زينبُ الفرسَ عندَ الضُّحضاحِ على بُعدِ حوالي ثلاثة كيلو متر منهم، عادتْ طريقَها تاركةً الفرسَ تمشي خَبَبًا، وهيَ تراها عروسًا تختالُ وسطَ صُوَيْحِباتِها ليلةَ زفافِها، عندما وصلتْ عندَ كعبِ جبلِ المُنطارِ، استدارتْ في طريقِها شمالًا؛ لِتعودَ من حيثُ انطلقتْ، فأطلقتْ عنانَ الفرسِ، فانطلقتْ بأقصى سُرْعَتِها، فبدتْ كحصانِ امرِئ القيس الذي وصفَهُ بِقولِه:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا…..كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَل

عندما وصلتْهم زينبُ أوقفتِ الفرسَ بجانبِ السّيّارَةِ، نزلتْ عن ظهرِ الفرسِ كأنَّ شيئًا لمْ يكنْ، فصاحتْ بها أمُّ جبينه:

ما هذا الجنونُ؟ كيف امتطيتِ الفرسَ دونَ إذنٍ، وطِرْتِ بها كالقرودِ؟ لقدْ خفنا عليكِ.

نظرَ أبو جبينه إلى زوجتِه نَظَراتٍ فهمتْ منها أنْ تسكُتَ، وقال لزينبَ:

ما عَمِلْتِهِ خطأٌ يا ابنتي، فقد خِفْنا عليكِ.

ردّتْ زينبُ عليهما:

ما الدّاعي لخوفِكُما؟ ألَمْ أقلْ لكما أنّني أجيدُ ركوبَ الخيلِ؟

ضحكت جبينه، وقالت:

نعم، لقد قُلتِ ذلك يا زينبُ، لكنّني لم أتوقّعْ أن تكوني فارسةً بهذه الرّوعةِ، مع أنّني أنا أيضًا خفتُ عليك.

         لَمْ يستغرقْهم بناءُ الخيمةِ سوى دقائقَ قليلةٍ، رتّبتْ زينبُ وأمُّ جبينة أغراضَهم داخلَ الخيمةِ، عرضتْ وضحا على جبينه وزينبَ أنْ تُرافقاها لإعادةِ الفرسِ إلى مِذْوَدِها؛ ولِيذهبْنَ بعدَها لالتقاطِ بعض الأعشابِ البرّيّةِ التي تُؤكلُ نَيْئَةً. سمعتْها أمُّ جبينه فطلبتْ من زينبَ عدمَ امتطاءِ الفرسَ مرّةً أخرى، وأوصتْهُنَ بِعَدَمِ ارتيادِ الأماكنِ الخطيرةِ.

فردّت عليها وضحا:

لا توجدُ هنا أماكنُ خطيرةٌ، ولا داعيَ للخوفِ يا خالة.

ربطتْ وضحا الفرسَ في مِذْوَدِها قريبًا من بيتِهم، فقالتْ زينبُ لها:

مِنَ الواجبِ أنْ نُصافِحَ والدَتَكِ قبلَ أنْ ننطلِقَ لجمعِ الأعشابِ التي نريدُها.

صافحن أمَّ وضحا ووضحا تُعَرِّفُها على رفيقَتَيْها قائلةً، وهي تُشيرُ إلى كلٍّ منهما:

هذه زينبُ، وهذه جبينه.

بعدَ أنْ رحّبَتْ أمُّ وضحا بضيفتيها، قالتْ لابنتِها تُوَبِّخُها:

كم مرّةً قُلْتُ لكِ أنَّهُ ممنوعٌ أنْ تمتطي الفرسَ وحدَكِ، خصوصًّا وهي عاريةٌ دونَ سرجٍ؟ عندما رأيتُ الفرسَ وهي تطيرُ بكِ بأقصى سُرعَتِها، هبطَ قلبي من مكانِه خوفًا عليكِ.

ردّتْ عليها وضحا:

مَنِ امتطى الفرسَ دونَ استئذانٍ هو زينبُ، وقد أثبتَتْ أنّها فارسةٌ تُجيدُ الفروسيّةَ.

نظرتْ أمُّ وضحا إلى زينبَ نظرةَ عتابٍ ولم تقلْ شيئًا.

وعندما استأذنَّ للانصرافِ كي يلتقِطنَ الأعشابَ، ولِيَنْظُرْنَ جمالَ الطّبيعةِ، حيثُ تكتسي الأرضُ ثوبًا جميلًا مُزركشًا بألوانِ مُخْتَلفِ نُوّارِ الأعشابِ البَرّيّةِ، التي تَسرقُ الألبابَ، قالتْ لهنَّ الأمُّ:

لقدْ طبختُ طُنجرةَ بَحْتِيَّةٍ، لضيوفِنا جبينه وأهلِها. وطبختُ طنجرةَ خُبّيزةٍ أيضا.

فقالتْ وضحا: نأخُذُها معنا؛ لِنأكلَ معَ العمِّ كنعان، والخالةِ بُثينةَ، فما رأيُكِ أنْ تذهبي معنا يا أمّي، لِتَتعرّفي عليهما، ولِنأكلَ جميعُنا على مائدةٍ واحدةٍ؟

ابتسمتِ الأمُّ، وقالتْ:

سأذهبُ معكنَّ؛ لِأحملَ طُنجرةَ البَحْتيّةِ، وستحملُ زينبُ طُنجرةَ الخُبّيزةِ، أمّا خُبْزُ الشّراكِ فستحملُهُ وضحا، وسأتعرّفُ على والدي جبينه، لكنّي لنْ أشاركَكُم الطّعامَ.

خطفت جبينه جِرابَ الخُبزِ من يَدِ وضحا، ركضتْ قبلّهُنّ، وهي تقولُ بأنّها هي من تحملُ الخُبْزَ؛ لِتُخبرَ والديها بقدومِ أمِّ وضحا.

استقبلَ والدا جبينه ضيفتَهم أمَّ وضحا بحفاوةٍ، شَكَراها على طَبْخَتَي البَحْتِيَّةِ والخُبّيزَةِ، وقالتْ لها أمُّ جبينه:

لا داعِيَ لهذه الغَلبةِ يا أمَّ وضحا.

فردّتْ عليها أمُّ وضحا على استحياءٍ:

لا توجدُ غَلَبَةٌ وواجبُكم كبيرٌ، واستأذنتْ بالانصرافِ، إلّا أنّهما أصرّا عليها أنْ تحتسيَ عندهم فنجانَ قهوةٍ.

           تذوّقوا البَحْتِيَّةَ واستطيبوا طعمَها، وأكلوا الخُبّيزَةَ….بعدها انصرفتِ البناتُ الثّلاثةُ، إلى قِمَّةِ الامتدادِ الجبليِّ الذي يُشَكّلُ السّاقَ اليُمنى لجبلِ المنطار، وهو يُطِلُّ على القدس من جِهَةِ جنوبِها الشّرقيِّ، ويُطِلُّ على جوفةِ المَخْبِيَّةِ وعلى منطقةِ الزَّرّاعَةِ، ومِنْ ورائها الخان الأحمرُ، أمْعَنَّ النّظرَ في المنطِقَةِ، التي يكسوها العشبُ الأخضرُ، الذي نوّرَتْ بعضُ أنواعهِ، التقطنَ مِنَ الحاجبِ الصّخريِّ الحُمّيضَ وأكَلْنَهُ.

عندما خلا الجوُّ لوالدَيِّ جبينه، قال أبوها:

رغمَ غضبي من زينبَ؛ لخوفي عليها عندما امْتَطِتِ الفرسَ، إلّا أنّني سَعِدْتُ بفروسيَّتِها وجُرْأتِها، وتأكّدْتُ أنّها ستكونُ رفيقةً لجبينه، يُعْتَمَدُ عليها.

قالتْ زوجتُهُ تستشيرُهُ:

ما رأيُكَ أنْ نشتريَ فرسًا لجبينه، ونطلُبَ من زينبَ أنْ تُعلّمَها الفروسيةَ؟

أبو جبينه: إيّاكَ أنْ تسمعَ جبينه هذا الكلامَ، فهي لا تُشْبِهُ زينبَ التي وُلِدَتْ وتَرَبّتْ بطريقةٍ تختلفُ عنها، والمدينةُ لا تًصْلُحُ للفروسيّةِ كالبراري الشّاسعةِ، وقبلَ هذا وذاكَ وَمِنْ بابِ الحِرْصِ على جبينه فإنّني لا أوافقُ على تعليمِها الفُروسيّة.

أمّ جبينه: كيف تقولُ إنَّ المدينةَ لا تصلحُ للفروسيّةِ، وشاه بندر التّجّار يقتنيها، وابنُهُ الشّاطر حسن يتبخترُ في طرقاتِ المدينةِ على ظهرِ حصانِه كلّ يومٍ؟

أبو جبينه: مربطُ خيولِ شاه بندر التّجارِ في واد الجوزِ، خارج سورِ المدينةِ، والمنطقةُ هناك شبهُ خالية.

عند غُروبِ الشّمسِ قالتْ وضحا لزينبَ ولجبينه وهنّ يجلسن على الحاجبِ الصّخريِّ:

هيّا بنا نعودُ إلى البيتِ.

ابتسمتِ جبينه، وقالتْ بدلالٍ:

الجلوسُ هنا مُريحٌ وجميلٌ، فما رأيُكما أنْ نبقى هُنا ساعةً أخرى؟

قالتْ وضحا، وهي تُغادرُ المكانَ:

سيقلقُ الأهلُ علينا إنْ تأخّرْنا، ولا يجوزُ أنْ نبقى هنا في الظّلامِ. لحقتْها زينبُ، وهي تقولُ لجبينه:

كلامُ وضحا صائبٌ يا جبينه، فاضطرّت جبينه أنْ تلحقَ بهما.

في الخيمةِ لمْ تتوقّف جبينه عن الكلامِ، وهي تَصِفُ لوالديْها جمالَ وهدوءَ المكانِ، وتمنَّتْ على والدَيْها أنْ ينتقلوا للعيشِ في البرّيَّةِ.

ضحكَ أبوها، وقالَ لها:

السّياحةُ ليستْ كالإقامة.

عادتْ جبينة تسألُ باستغرابٍ:

هل نحنُ هنا سيّاحٌ كأولئك الغُرَباءِ الذين يزورون بلادَنا؟

الأبُ: نعمْ، نحنُ هنا سُيّاحٌ، فالرّحلاتُ الدّاخليّةُ سياحةٌ أيضًا.

جبينه: لكنَّ هذا المكانَ أكثرُ جمالًا وراحةً مِنْ سَكَنِنا في القدسِ.

وهنا ضَحِكَتْ زينبُ، وقالتْ:

لا أحدَ راضٍ بما هو فيه، وبما هو له.

جبينه: ماذا تقصدين؟

قالتْ زينبُ لجبينه تُمازِحُها؛ لِتُفْهِمَها ما قصدتْهُ:

ما رأيُكِ أنْ نُبادِلَ بيتَكُم ودُكّانتَكُم في القدسِ بخيمةِ وقطيعِ أغنامِ أهلِ وضحا، فهي الأُخرى ترى العيشَ في المدينةِ أفضلَ بكثيرٍ من العيش هنا في البراري؟

أُعْجِبَ أبو جبينه بِذكاء زينبَ، فقال:

هذا اقتراحٌ جَيِّدٌ، هل تُوافقينَ عليه يا جبينه؟

صمتتْ جبينه قليلًا، وإذا هبّةُ نسيمٍ تُطْفئُ “لامبةَ الكازِ” في الخيمةِ، فقالتْ أمُّ جبينه:

دعونا من هذه الثّرثرةِ؛ كي ننامَ بهدوءٍ.

بعدَ أنْ غفت جبينه بقليلٍ، قفزتْ من فراشِها تصرخُ مذعورةً، فهبَّ والداها مِنْ فراشِهما، أمسكا بها يُهدِّئانِها ويسألان:

ما بكِ؟

فقالتْ، وهي ترتجفُ مُرْتَعِبةً:

التفَّ حَنَشٌ أسودُ اللونِ على رقبتي، ورفعَ رأسَهُ على وجهي يُريدُ أن يبتَلِعَني!

ضحكتْ زينبُ، وقالت:

يبدو أنّها تَحْلُمُ.

أمّا أبو جبينه، فقد أشْعَلَ لامبةَ الكازِ، وأصرَّ على تفتيشِ الفِراشِ بَحْثًا عن الحَنَشِ، فقامتْ زينبُ، وهي تضحكُ، فحملتِ الغطاءَ والفراشَ ونفضتْهُما، وهي تقولُ:

انظروا فلا شيءَ في الفراشِ.

أمضت جبينه ليلتَها نائمةً بينَ والديْها، ووالدتُها تحتضِنُها واضعةً يدها اليمني عليها كي تُشْعِرَها بالأمانْ، عندما استيقظتْ في ساعات الصّباحِ الأولى، قالتْ لأمِّها التي أمضتْ ليلَتها على جانبِها الأيمنِ؛ حرصًا منها أنْ لا توقظَها:

هلْ نِمْتِ يا أمّي؟

 نظرت جبينه إلى وَجْهِ أمِّها، فابتسمتْ عندها رأتْها غافيةً بينَ صَحْوٍ ونوْمٍ، انتبهتْ لها أمُّها، وقالتْ لها:

نامي ولا تخافي يا حبيبتي.

ضحكت جبينه، وقالتْ:

استيقِظوا فقد أشرقتِ الشّمسُ، ألا تسمعون ثغاءَ الغنمِ ونُباحَ الكلابِ؟

سَمِعتْها زينبُ، فهمستْ لها:

تعاليْ، وتمدّدي بجانبي، واتْرُكي والديكِ نائميْن.

ردّت جبينه عليها:

لنْ أنام بجانبِكِ في البَرِّيَّةِ، كيلا تُهاجمني الأفاعيُ التي حلمتُ بها.

فهمستْ لها زينبُ مرةً ثانيةً تُطَمْئِنُها:

إذنْ هيّا بنا نخرجُ مِنَ الخيمةِ؛ لِنَتْرُكَ والديكِ يرتاحان.

اقتنعت جبينه بكلامِ زينبَ، فانسَلّتْ من بينِ والديْها بِخِفَّةٍ، وخرجتْ مع زينب، وصوتُ أبو جبينه يلاحِقُهما:

لا تّبْتَعِدا عن الخيمةِ يا زينبُ.

ردّتْ زينبُ هَمْسًا:

لا تَخَفْ يا عمّي.

        عندما خرجَتا من الخيمةِ همستْ زينبُ لجبينه:

هيّا بِنا نتمشّى بجانبِ الوادي القريبِ؛ كي لا نُزْعِجَ والديْكِ بِصَوْتَيْنا.

وافقت جبينه ومشتْ معَ زينبَ دونَ نقاشٍ، جَلَسَتا بجانبِ الوادي الذي يَبْعُدُ عن الخيمةِ حوالي خمسين مترًا، وما لَبِثَتْ زينبُ أنْ مدّتْ يَدَها إلى نَبْتَةِ حويرّةِ واقتلعتْها، وضَعتْ عِرْقًا منها في فَمِها ومدّتْ يدَها بالباقي إلى جبينه، وهي تقولُ:

هذه حويرّة يا جبينه.

تناوَلَتْها جبينه، وضَعتْ ورقةَ منها في فمِها، وهي تقولُ:

أنا أعْرِفُها، فهي لذيذةٌ.

         في هذه الأثناءُ وقعتْ عينا زينبَ على سُلَحْفاةٍ صغيرةٍ تَجْثُمُ بين الأعشابِ، وتلتَهِمُ أوراقَها الصّغيرةَ، راقَبَتْها دون أن تَلْمِسَها، خوفًا أن تتفاجأ بها جبينه فيعلو صُراخُها، فأرادتْ أنْ تُمَهِّدَ لجبينه؛ لِتُعَرِّفَها على السَّلاحِفِ، وَلِتَعْرِفَ موقِفَها منها، فسألتْ جبينه.

هل تعرفينَ السّلاحِفَ يا جبينه؟

ردّت جبينة بحماسٍ:

نعم، أعرِفُها، فمحمّدٌ ابنُ حيّنا باب حُطّة، عندَهُ سلحفاةٌ، يأتي بها أحيانًا إلى بُرْجِ اللقلق، ويَضَعُها أمامنا، فنلمِسُها ونحمِلُها، ونُحضرُ لها الأعشابَ لتأكلَ.

فعادتْ زينبُ تسألُها:

ألا تخافين منها؟

ردّتْ عليها جبينة تستنكرُ سؤالَها:

كيف أخافُ منها، وهي حيوانٌ لطيفٌ لا يُؤذي أحدًا؟

مدّت زينبُ ساقَها؛ لِتُبْعِدَ بعض الأعشابِ جانِبًا؛ كي تظهرَ السّلحفاةُ، وما لبثت جبينه أنْ رأتْها، فأطْلَقَتْ صوتًا فَرِحًا، وهي تَقْفِزُ من مكانِها، فحملَتِ السُّلَحْفاةَ بين خُنْصَرِ يَدِها اليُمْنى وإبْهامِها، وقالتْ لزينبَ:

ها هي السُّلَحْفاةُ… انْظُري كم هي جميلةٌ يا زينبُ.

ابتعدَتْ زينبُ بِضْعَةَ أمتارٍ مُتظاهِرةً بأنّها خائِفَةٌ مِنَ السُّلَحْفاةِ، فلحقتْ بها جبينه تُقَهْقِهُ وتُطارِدُها وتخيفُها بالسُّلَحْفاةِ، وزينبُ تَهْرُبُ إلى الخيمةِ، سَمِعتْ أمُّ جبينه قهقهةَ ابْنَتِها، فَخَرَجَتْ مِنَ الخَيْمَةِ تَسْتَطْلِعُ الأمْرَ، فَسَألَتْ زينبَ:

ما الأمْرُ يا زينبُ؟

غَمَزَتْها زينبُ بِطَرَفِ عينِها، وهي تقولُ:

وجدت جبينه سُلَحْفاةً فَحَمَلَتْها وتُطارِدُني؛ لِتُخيفَني بها.

وَمِنْ داخِلِ الخيمةِ علا صوتُ أبو جبينه، وقدْ فَهِمَ ما تَرْمي إليه زينبُ:

لا تَخافي يا زينبُ مِنَ السُّلَحْفاةِ، فهي لا تُؤذي ولا تُخيفُ أحَدًا تمامًا مِثْلَ الحَنَشِ المّيِّتِ.

     في هذه الأثناءِ وصَلَتْ وضحا تحملُ بِيَدَيْها طُنْجَرةً، طَرَحَتْ تَحِيَّةَ الصّباحِ، وهي تَبْتَسِمُ، وقَبْلَ أنْ تَضَعَ طُنْجَرَتَها على الأرضِ، سألَتْها أمُّ جبينه:

ما هذا يا وضحا؟

رَدّتْ وضحا مَعَ ابْتِسامَةٍ حَيِيَّةٍ:

هذا حليبٌ طازِجٌ غَلَتْهُ أمّي لكم.

فقالتْ أمُّ جبينه:

لا داعِيَ لذلك يا ابنتي.

وهنا أحْضَرَتْ زينبُ الكاساتِ؛ لِتَصُبَّ الحليبَ وهي تشكُرُ وضحا وأمَّها، وأضافتْ بأنَّ الحليبَ الطّازِجَ مفيدٌ جِدًّا، لِذا فإنَّ مَنْ يقتنونَ الأغنامَ يَشْربونَهُ قبلَ القهوةِ عندما يستيقظون.

      بعد أن تناولوا فطورَهم، قالت أمُّ جبينه لِزَوجِها:

ما رأيُكَ أنْ نذهبَ إلى قِمّةِ جَبَلِ المنطارِ؛ لِنُشاهِدَ المناطِقَ التي حَدَّثَتْنا عنها جبينه كثيرًا مِنْ شِدَّةِ إعجابِها بها؟

وهنا قَفَزَت جبينه فَرَحًا، وهي تُؤَكِّدُ على كلامِ والدَتِها. فقالَ الأبُ يُمازِحُ ابْنَتَهُ:

سَنَذْهَبُ بِشَرْطِ أنْ تَتَعَهَّدَ جبينه بأنْ لا تَقْلِبَ الحِجارَةَ هُناكَ؛ بَحْثًا عن العقاربِ.

لَمْ يُعْجِبْ شَرْطُ الوالدِ جبينه، فَنَظَرَتْ إليه نَظْرَةً تَشي بِعَدَمِ الرِّضا، ولَمْ تَقُلْ شيئًا.

فَعادَ الأُبُ يقولُ:

لَمْ أسمعْ مُوافَقَةَ جبينه على شَرْطي.

وهنا تدخَّلَتْ زينبُ، وقالت:

جبينه مُوافِقَةٌ على الشَّرْطِ، ولَمْ تَرُدّْ لأنّها لا تَعْتَبِرُهُ شرْطًا، فَمِنْ غيرِ المعقولِ أنْ تَقْتَرِبَ مِنَ العقاربِ، فهي تُدْرِكُ أنَّها سامّةٌ وقاتِلَةٌ.

ضَحِكَ الأبُ، وقال:

إذن هيّا بِنا إلى السّيّارةِ.

وهنا اعْتَرَضَت جبينه، وسألتْ:

لماذا السّيّارةُ؟ هل جئنا هُنا لِنَرْكَبَ في السّيّارةِ أمْ لِنَسْتَمْتِعَ بجمالِ الطّبيعة؟

فإذا كنتما لا تُحِبّان المَشْيَ وتُصِرّان على الذّهابِ في السّيّارةِ، فاسْمَحا لي أنا وزينب لِنَذهبَ مشيًا على الأقدامِ، وسنلتقي بكما على قِمَّةِ الجَبَلِ.

ابتسمتْ أمُّ جبينه، وقالتْ:

وأنا سأذهبُ مشيًا على القدمين مع زينبَ وجبينه.

فقالَ أبو جبينه: رافَقَتْكُنّ السّلامةُ، فأنا عجوزٌ لا أقوى على المَشْيِ.

ضَحِكَت جبينه، وهي تَقْتِربُ من أبيها وتقولُ، وهي تُحيطُ خاصِرَتَيْه بيدَيها:

أنت لستَ عجوزًا يا أبي، لكنّك كسولٌ.

        رَكِبَ الأبُ سيّارتَهُ واتّجَهَ إلى قِمَّةِ جبلِ المُنطارِ، بينما صَعَدَتْ الأمُّ وزينبُ إلى سنامَةِ الجَبِلِ الشّرقِيَّةِ التي تمتدُّ شمالًا، لِيواصِلنَ طريقَهُنَّ صُعودًا إلى قِمَّةِ الجبلِ. وفي هذه الأثناءِ رأتْهُنَّ وضحا فلحقتْ بِهِنَّ راكضةً ضاحكةً.

       عندَ قمّة الجبلِ الشّرْقِيَّةِ أشارتْ وضحا إلى الوادي الذي يسيرُ بمحاذاةِ المَخْبِيَّةِ وقالتْ: هذا الوادي يبدأُ من هنا كما تَرَيْنَ، ويلتقي بوادي الدّكاكينِ عندَ انتهاءِ العُرْفِ الذي يمتدُّ أمامكنّ، والذي يواصلُ طريقَهُ إلى الشّرْقِ. وهنا سألتْ أمُّ جبينه:

ما اسمُ الوادي الذي ذكَرْتِهِ يا وضحا.

وضحا: وادي الدّكاكين.

أمُّ جبينه: ما هذا الاسم؟ هل توجدُ فيه دكاكين.

ضحكتْ وضحا، وقالتْ:

لقد سألتُ هذا السّؤالَ لجدّي، فأجاب:

هذا الوادي مليءٌ بالكُهوفِ القديمةِ، ويبدو أنّهُ كان مأهولًا بالسّكّان، أو أنّهُ كانَ سوقًا تجاريًا، فأسموه وادي الدّكاكين.

قالت جبينه وزينبُ بِصَوْتٍ واحدٍ:

إذن وجبتْ زيارَتُنا لهذا الوادي اليومَ أو غدًا؛ لِنرى كهوفَهُ.

           وفجأةً قالتْ جبينه انظُروا إلى ذلك الكلبِ الذي يمشي على أقلِّ من مَهْلِهِ، وأشارتْ بيدِها إليه في الجِهةِ المقابِلَة.

قالتْ زينبُ عندما رأتْهُ:

هذا ثَعْلَبٌ وليس كلبًا.

فأكّدتْ وضحا على صِحَّةِ ما قالته زينبُ. بينما قالتْ جبينه ووالدتُها:

إنّهُ يُشْبِهُ الكلبَ.

فقالتْ زينبُ: الثّعالِبُ من فصيلةِ الكلابِ.

واصلن طريقَهُنّ ببطءٍ شديدٍ، فقالت لهنَّ أمُّ جبينه:

هيّا بِنا….لِنُسْرِعَ قليلًا. فأبو جبينه انتظرَنا أكثرَ ممّا يجبُ.

ضحكت جبينه، وقالتْ:

دعيهِ ينتظر، فَلَمْ يُجِبِرْهُ أحدٌ أنْ يذهبَ بالسّيّارة، ولِمَ لَمْ يمشِ معنا؟

      عندما وصلن قِمَّةَ الجبلِ كان أبو جبينه قدْ مَلَّ، فتمدّدَ على المقعدِ الخلفيِّ للسّيّارة، وأخرجَ رَجِلَيْهِ مِنَ النّافذةِ وغفا، وكانَ قدْ جالَ بناظِرَيْهِ كلَّ الاتّجاهاتِ، ومِمّا لفتَ انتباهَهُ دَيْرُ أمِّ عبيد، فتذكّرَ دير مار سابا الذي يَقَعُ في برّيّةِ العبيديّةِ، فقدْ زارَهُ قبلَ سنواتٍ مع مجموعةِ أصدقاء، وهناك شَرَحَ لهمْ أحدُ الرُّهبان عن تاريخِ الدّيرِ، راودتْهُ فِكرةُ زيارةِ الدّير في هذه الأجواء الرّبيعيّةِ، فعرضَ الفكرةَ على زوجتِه وعلى البناتِ أيضًا، وهو يُشيرُ إلى موقعِ الدّيرِ، فسألتْهُ جبينه:

بِمَ يتميّزُ هذا الدّيرُ؟

فأجابها، وهو يستعيد ذكرياتِه عن ذلكّ الدّير،ِ وقال:

“يقع دير مار سابا في (عرب ابن عبيد) شرق مدينةِ بيت لحم في فلسطين. تمَّ بناؤهُ بين عامي 478 م – 484 م، على يدِ الرّاهبِ سابا، بمشاركة 5000 راهب، وهو بهذا يُعتبرُ واحدًا من أقدمِ الأديرةِ المأهولةِ في العالم.

بُني الدّيرُ بطريقةٍ هندسيّةٍ جُزْءًا فوقَ جُزْءٍ، على سفحِ أحدِ الجبالِ المُتّصِلَةِ بالسّلسِلَةِ الجّبّلِيَّةِ المُمْتَدّةِ في جنوبِ بلادِنا فلسطين. ويكادُ يكونُ البناءُ منحوتًا في بَطْنِ هذه الجبال. يذهبُ كثيرون إلى هناك من أجل المُشاهدةِ والتّنزُّهِ، وليس فقط للصّلاةِ بالنّسبةِ للمسيحيين.

وقد تُوفِّيَ الرّاهِبُ سابا في عامِ 532 م، وبعد سنواتٍ حملَ الصّليبيون جُثمانَهُ إلى الغربِ ثُمَّ أعادوه إلى مكانِه. وتمَّ حِفْظُ رُفاتِهِ بعد تحنيطِها في صندوقٍ زُجاجيٍّ. ولا يزالُ الدّيرُ يحتفظُ بالعديدِ من تقاليدِهِ العريقَةِ، من أهمِّها: فرضُ قُيودٍ على دُخولِ النّساءِ إلى المجمعِ الرّئيسيّ. ويُعتبرُ “برجُ المرأةِ” (أو ديرُ البناتِ)المبنى الوحيد الذي يُمكنُ للمرأةِ أنْ تدخُلَهُ، ويقعُ بالقربِ من المدخلِ الرّئيسيّ.

وكان الدّيرُ مَوْطِنًا للقدّيسِ يوحنا الدِّمَشْقَيِّ (676-749)، وهو شخصيّةٌ دينيّةٌ رئيسيّةٌ أثارت الجدلَ في وقتِه.

يُقيمُ في هذا الدّيرِ خمسةَ عشرَ راهبًا يونانيًّا، يقومون على خدمتِهِ، ويعتزلون كافّةَ مظاهرِ الحياةِ المدنيّةِ: من كهرباء، وهواتف، وغيرها، ويستخدمون الوسائلَ البدائيّةَ لتسيير أمورِهم.” ويُحيطُ بالدّيرِ مِنْ جِهتيه الجنوبّيّةِ والشّرقيّةِ جبالٌ شديدةُ الانحدار، مليئةٌ بالصُّخورِ الصّوّانيّةِ الجميلةِ، وفي بطونها كهوفٌ عدّة، تصِلُها طُرُقٌ ضيّقةٌ للمشاة، وهي تتبعُ الدّيرَ أيضًا.

سألتْ أمُّ جبينه: هل نستطيعُ الوصولَ إليه في السّيّارةِ؟

أبو جبينه: توجدُ طريقٌ وَعِرَةٌ كثيرةُ الحُفَرِ، يَصْعُبُ على السّيّارةِ اجتيازُها.

أمُّ جبينه: يصعُبُ علينا المشيَ كلّ هذه المسافةِ.

أبو جبينه: إذن نزورُهُ مُستقبلًا بالسّيّارةِ من بيت لحم.

زينبُ: وأنا سأدُلُّكُم على الطّريقِ؛ لأنّني أعرِفُها.

نظرتْ إليها جبينه باسْتِغْرابٍ، وتساءلتْ:

عجيبٌ…كيفَ زُرْتِهِ، وهو بعيدٌ في البراري؟

أحاطتْ زينبُ بِيدِها رَقَبَةَ جبينه بِرِفْقٍ، وقالتْ لها باسمةً:

أَلَمْ أَقُلْ لَكِ بأنّي وُلِدْتُ وعِشْتُ في البَرِّيَّةِ حتّى وفاةِ أبي؟

عادت جبينه تضحكُ، وتقولُ:

ليتَني وُلِدْتُ وعِشْتُ في البراري، فالحياةُ فيها جميلةٌ.

وهنا ضحكتْ وضحا، وقالتْ:

وأنا ليتَني وُلِدْتُ وعِشْتُ في المدينة.

ضحكوا، وقالتْ أمُّ جبينه تُمازِحْهُما:

إِذَنْ تبادلا أنا آخُذُ وضحا بِنْتًا لي؛ لِتَعيشَ معنا في المدينةِ، وأنتِ يا جبينه تبقين مع والدةِ وضحا، وتصيرين بنتًا لها، والتفتتْ إلى وضحا، وسألتْها:

هل تقبلينني أُمّا لكِ يا وضحا، وتقبلينَ العيشَ معنا في المدينة.

ابتسمتْ وضحا ولمْ تُجِبْها، بينما قالت جبينه:

أنا لا أريدُ أمًّا لي غيرك، لكنّي أقترحُ أنْ تعيشَ وضحا معنا في المدينةِ كأختٍ لي، وكُلّما اشتقنا للبرّيّةِ أتينا أنا وهي بضعة أيّامٍ نعيشُها مع أُسْرَتِها.

وهنا قالتْ وضحا:

أنا لا أقبلُ العيشَ إلّا معَ والِدَيّ.

ابتسمَ أبو جبينه، وهو يتحسّسُ بِكفِّ يَدِهِ اليُمنى رأسَ وضحا بحنانٍ أبويٍّ، وقال لها:

لِيَحفظَكِ اللهُ لوالديكِ، وليحفظهما لكِ، وليحفظ لنا جبينه، وبيتُنا مفتوحٌ لكِ ولوالديكِ يا وضحا، فأهلًا بكم في بيتِنا متى شِئتُم.

ولم ينتبه أيٌّ منهم لمشاعرِ زينبَ الّتي تفتقدُ والدَها المتوفّى، ويُحزنُها البعدُ عن حضن والدتِها، فأدارتْ وجهها، تواري دمعتينِ سقطتا من عينيْها.

الكنز

      عادوا إلى خيمتِهم في السّيّارةِ، ومِنْ هناك عادتْ وضحا إلى بيتِها، استظلّوا في الخيمَةِ مِنْ حرارةِ الشّمسِ، عند الظّهيرةِ وبعد أن تناولوا غداءَهم، تمدّدَ أبو جبينة؛ لِيأخُذَ غفوةً اعتادَ عليها، وعندما يحينُ موعدُها تُسيطرُ عليه، ولا يستطيعُ ردَّها عنه، فاقترحتْ زينبُ على جبينه أنْ تذهبا إلى وادِ الدّكاكين لاستكشافِه، تحمّست جبينه للفكرةِ رغم أنّ والدَتَها اقترحتْ عليهما أن تنتظِرا وضحا؛ لتكونَ دليلَهُما لِمَعْرِفَتِها بالمنطقة، لكنّ زينبَ قالتْ أن لا حاجةَ لهما بوضحا، فهما تعرفان الوادي، فقد أشارتْ إليه وضحا أمامهما أكثرَ من مرّةٍ، وشرَحتْ لهما عن كَثْرَةِ الكهوفِ فيه، وأنّ مدخلَهُ قريبٌ من الخيمةِ، ويبعدُ عنها أقلّ من مائتي مترٍ. فعادتْ أمُّ جبينه، واقترحتْ عليهما أنْ تنتظرا إلى ما بعدَ العصرِ حتّى تخبو حرارةَ الشّمسِ قليلًا، وتحتَ إصرارِ جبينه على الذّهابِ قرّرتْ والدتُها مرافقتَهما، وذلك خوفًا من ضياعِ ابنتِها في مكانٍ لا تعرفُهُ، وعندما أخبرتْ زوجها بقرارِها، لمْ يسمعْها، فقد غَرِقَ في غفوتِهِ.

          عندَ مدخلِ الوادي وقفتْ أمُّ جبينه تنظرُ إلى المَنْطِقَةِ، وهي تضعُ يديها على خاصرَتَيْها، بينما اندفعتْ جبينة تركُضُ وزينبُ تلحقُ بها. فرفعتْ أمُّ جبينه صوتَها تأمُرُهما بالتّوقّفِ، لكنّ جبينه تجاهلتْ نِداءَ والدتِها، فوجدتْ زينبُ نفسَها مجبرةً على اللحاقِ بها، عندما رأت جبينه كَهْفًا واسعَ البابِ على يمينِها، ويبعدُ عن مجرى السّيل حوالي سبعينَ مترًا صعدتْ إليه مُسرِعَةً، وكأنّها في سِباقٍ مع زينبَ، وقفتْ أمامَه، والتفتتْ خلفها وكأنّها تتفحّصُ المنطقةَ، تبعتْهُما الأمُّ وهما تقفانِ أمام الكهفِ، الذي توجدُ أمامَهُ ساحةٌ مساحتُها حوالي مائتي مترٍ، ويحيطُ بها سلسلةٌ حجريّةٌ يبلغ ارتفاعُها حوالي خمسةٍ وسبعينَ سنتميترًا. وصلتِ الأمُّ لاهثةً، فجلستْ على حجرٍ بجانبِ بابِ الكهفِ ساندةً ظهرَها على جدارِ الكهفِ الأماميّ؛ لِتَستردَّ أنفاسَها، بينما دخلت جبينه إلى الكهفِ ضاحكةً في مُحاولةٍ منها للاختباءِ عن والدَتِها.

      لفتَ انتباهَهُنَّ روثُ المواشي القديمِ، الذي يُغطّي أرضيّةَ الكهفِ وساحتَهُ، فقالتِ الأمُّ: يبدو أنّ هناكَ من يسكنُ هذا الكهفَ مِنْ مُرَبّي المواشي في فصلِ الشّتاء.

فقالتْ زينبُ: واضحٌ أنّ قطيعَ أغنامِ من يأوي إلى هذا الكهفِ مكوّنٌ من النِّعاجِ والماعزِ.

فسألتْها أمُّ جبينة:

كيفَ عرفتِ ذلكَ؟

ابتسمت زينبُ، وقالتْ:

النّعاج لا تكتَرثُ بالأمطارِ، ولا تختبئُ في الكُهوفِ؛ لِتَحتمي بها من المطر، فصوفُها يحميها، لذا فهي تبقى في السّاحةِ الخارجيّةِ، على عكسِ الماعزِ فإنّ شَعْرَها لا يحميها من المطرِ والبَرْدِ، فتختبئُ في الكهوفِ أو في أيِّ مكانٍ لا يصلُ المطرُ إليها فيه.

     جلست جبينه في زاويةِ الكهفِ اليُمنى الأماميّةِ، تسنِدُ ظهرَها على الحائطِ، وتمدُّ ساقيْها أمامها تَنْعُمُ برطوبةِ الكهفِ، نظرتْ إلى يمينِها، فرأتْ رُقْعَةً ناشِزَةً في الحائطِ، تَرْتَفِعُ عن الأرضِ حوالي نصفِ مترٍ، وتُغطّيها طحالبُ خضراءُ اللونِ، تفحّصّتْها جيّدًا، وخرجتْ تُخبرُ والدتَها وزينبَ بما رأتْ، فقالتْ لهما:

تعالا وانظُرا هذا الشّيءَ في حائطِ الكهفِ.

لم تأخذا كلامَها على محملِ الجدِّ، ولَمْ تستجيبا لِطَلَبِها، وتحتَ إصْرارِها طلبتْ والدتُها من زينبَ أنْ تدخُلَ معها؛ لِترى ما تقولُ عنه.

وقفت جبينه أمام الجِدارِ تشيرُ لزينبَ إلى رُقعةِ الجدارِ، لَمْ ترَ زينبُ شيئًا، وهي واقفةٌ، وبِحَرَكَةٍ عَفَوِيَّةٍ غاضبةٍ، ضربَتٍ المكانَ الذي أشارتْ إليه جبينه ضربةً قويّةً بقدمِها، فانهارتِ الرّقعةُ، فصاحتا بِصوتٍ مرتفعٍ:

واوووووووو….ما هذا؟

       هرعتْ أمُّ جبينه على صوتِهما، فوقفتْ مشدوهةً أمام ما رأتْ، جلستْ تنظُرُ الحُفرةَ التي ظهرتْ، فرأتْ جَرَّتينِ نحاسيّتينِ مُزخرفتين، مدّتْ يدَها وأزاحتْ غطاءَ إحداهما، وتوقّفتْ تتمعّنُها، وهي تتهيّبُ من إدخالِ يدِها إلى باطنِ الجرّةِ؛ لترى ما فيها، لكنّ زينبَ مدّتْ يدَها إلى داخل الجرّةِ، وغَرَفَتْ مِلْءَ كَفِّها، وإذا به قِطَعٌ ذهبيّةٌ. شَهَقْنَ مِنْ هولِ المفاجأةِ، مدّتْ زينبُ يديها؛ لِتُخْرِجَ الجرّتينِ، لكنّ أمَّ جبينه أوقفتْها، وقالتْ لها:

هاتان الجرّتانِ كبيرتان لافتتان، ليس باستطاعتِنا إخفاؤهما عن عيون النّاس إذا حملناهما دون تغطِيَتِهما، وأضافت:

اذهبي بسرعةٍ يا زينبُ إلى عمِّكِ أبو جبينه، وعودي وإيّاهُ ببطّانيّتين، لِنَلُفَ بهما الجَرَّتينِ، بعدَ أنْ تخبريهِ بالموضوعِ، واحرصي ألّا يسمعَكِ أحدٌ، وأنا وجبينه في انتظارِكُما.

ركضتْ زينبُ حتّى وصلت الخيمةَ، وهناكَ وجدت العمَّ أبا جبينه مستغرقًا في نومهِ، مادّا يديه على جانبيه كالمصلوب، أمسكتْ يَدَهُ، وهي تلهثُ، فاستيقظَ، وقالَ لها بِعصبيّةٍ:

ما بكِ يا بنت؟

همستْ له، وهي تُريهِ قِطَعَ الذّهبِ:

لا ترفعْ صوتكَ، لقدَ وجدْنا كنزًا، قُمْ بهدوءٍ لِنُحْضِرَهُ.

قفزَ أبو جبينه من مكانِه، فحملتْ زينبُ بطّانّيّتينِ وركضت أمامَه، وهو يمشي خببًا خلفها.

بسرعةٍ فائقةٍ لفّوا كلَّ جرّةٍ ببطّانيّة، والخوفُ يسيطرُ عليهم، حملَ أبو جبينه واحدةً، وحملتْ زينبُ الثّانيةَ، عادوا إلى الخيمةِ مُسرعين، وضعوا حمولتَهم في السّيّارةِ، وانطلقوا عائدين إلى بيتِهم في القدسِ، تاركينَ خيمتَهُم وما فيها خلفهم.

خيّمَ عليهم الصّمتُ باستثناء أبي جبينه الذي ردّد عشرات المرّات:

إيّاكنّ أنْ تتحدّثن عن الجرّتينِ أمام أيِّ إنسان.

استغربتْ وضحا وأهلُها رحيلَ جيرانِهم القادمين من المدينةِ، تاركين خيمتَهُم وأغراضَهُم مكانَها. قالت وضحا لوالدتِها:

رُبّما ذهبوا لزيارةِ ديرِ مار سابا، فقد تحدّثوا عن ذلك ونحنُ على قِمَّةِ جبلِ المنطار، حَتْمًا سيعودون قبلَ المساءِ.

بينما قالتْ والدتُها:

اليومُ حارٌّ، والأفاعي تنطلقُ من جحورِها، أخشى أنْ يكون أحدُهم قد تَعَرَّضَ لِلَدْغَةِ أفعى أو عقربٍ.

       في بيتِ أبي جبينه في القدسِ راقبتْ زينبُ الأوضاعَ دون أنْ تبوحَ بأيِّ شيءٍ، بينما دخل والدا جبينه إلى غرفةِ نومِهِما، فرشَ الأبُ بطّانيّةً على أرضِ الغرفة، وأفرغَ ما في الجرّتينِ عليها، فوجدَ في أحدهما ليراتٍ وعقودًا وسلاسلَ وأساوِرَ وأقراطًا من الذَهَبِ قديمةً، وفي الثّانيةِ وجدَ تماثيلَ صغيرةً من الذّهبِ أيضًا، تفحّصَها فرأى عليها كتابةً بحروفٍ لَمْ يفهمْ منها شيئًا، فقالت زوجتُهُ، وهي تتفَحّصُها:

يبدو أنّ هذه مصاغًا ذهبيًّا لإحدى ملكاتِ أحدِ العصورِ الغابرةِ، وأنّ التّماثيلَ قدْ تكونُ للملكِ زوجها.

تشاورَ الزّوجانِ حولَ ما يُمكنُهما فِعله، بهذه الثّروةِ التي جاءتهم من حيثُ لا يدرون، فقال أبو جبينة:

سآخذُ صباحَ غدٍ ليرةً من هذه وسأعْرِضُها على صائغِ المدينةِ، فهو صديقٌ موثوقٌ، وسأستمعُ إلى ما سيقولُهُ.

لمْ يَناما تلك الليلةِ، وهما يُفكّرانِ.

      في غُرفةِ نومِ البنات، لم تذقْ زينبُ طعْمَ النّومِ وهي تُفكّرُ أيضًا بنصيبِها في هذا الكنزِ، لكنّ جبينه استغرقتْ في نومِها، فقد كانتْ تَعِبَةً، وهي غيرُ قَلِقَةٍ بالجرّتين وما فيهما، ما دامتا في حَوْزَةِ والِدَيْها، أوْ أنّها لا تُدْرِكُ قيمتهما.

عندما خرجَ أبو جبينه من غرفةِ نومهِ في صباحِ اليومِ التّالي لاحظَ أنَّ زينبَ تجلسُ في صالونِ البَيْتِ، وكما يظهرُ أنّها لمْ تنمْ هي الأخرى، طرحَ عليها تحيّةَ الصّباحِ، وسألَها:

لِمَ تجلسينَ هنا يا بُنَيّتي، وكما يبدو فإنَّكِ لَمْ تنامي؟

أجابتْهُ والقلقُ بادٍ على وجْهِها:

كيفَ أنامُ يا عمُّ بعدَ أن استحوذتَ على الكنزِ أنت وزوجتك، وأغلقتُم غُرفةَ

نومِكما عليكما دونَ أن تلتَفِتا إليَّ، مع أنَّ لي نصيبًا كبيرًا فيه، ولولا أنّني ركلتُ الحائطَ بقدمي، فانهارَ بابُ الحُفرةِ وانكشفتِ الجرّتان لنا، لما عثرنا على شيءٍ؟

جلسَ أبو جبينه بجانبِها، وقالَ لها:

لا تخافي يا زينبُ فنصيبُكِ محفوظٌ، لكن دعينا في البدايةِ نتحرّى عن ماهيّةِ هذه الجواهرِ، وما هي قيمتُها.

نظرتْ إليه بِحَذَرٍ، وسألتْهُ:

من سيضمنُ لي ذلك يا عمُّ؟

ابتسمَ لها، وقال:

أُعاهِدُكِ أنْ أحفظَ لكِ نصيبَكِ، وأنا هذا اليومُ سأترُكُ الجّرّتين وما فيهما في البيتِ، وسآخذُ قطعةً واحدةً فقطْ؛ لِأسْتَطْلِعَ ثمنَها وبعدَها سنتقاسمُ، وستأخذينَ نصيبَكِ بكلِّ أمانةٍ.

صمتتْ زينبُ، وهي تُفَكِّرُ بطريقةٍ تُخبرُ فيها والدَتَها بالكنزِ.

       خرَجَ أبو جبينه والليرةُ الذّهبيّةُ في جيبِه من بيتِه في ساعاتِ الضُّحى، التي تفتحُ فيها المتاجرُ أبوابَها، قصدَ محلَّ صديقِهِ الصّائغِ، احتسى كلٌّ منهما فنجانَ قهوةٍ، بعدَها أخرجَ أبو جبينه ليرةَ الذّهبِ من جيبِه، وقدّمَها لصديقِه الصّائغِ، وهو يقولُ:

كمْ قيمةُ هذه الليرةِ الذّهبيّة؟

تفحّصَها الصّائغُ، غسلَها أكثرَ من مرّةٍ، ثمَّ استعانَ بِعَدَسَةٍ لقراءةَ ما هو مكتوبٌ عليها، وقال:

هذه عٍمْلَةٌ قديمةٌ جدّا، مصكوكةٌ من الذّهب الخالص، وعليها كتابةٌ أعتقدُ أنّها آراميّةٌ، وأعتقدُ أنّ قيمتَها عاليةٌ؛ لأنّها أثَرِيَّةٌ. أينَ وجدتَها؟ وهل وجدتَ شيئا غيرَها؟

ردّ أبو جبينه، وفي نيّته عدمُ البوحِ بكلِّ ما عنده، فقال:

وجدتُها بالصّدفةِ عندما جلستُ على كثبانٍ رمليٍّ عند شاطئِ يافا، ولمْ أعثرْ على شيءٍ غيرها.

الصّائغُ: هل حاولتَ أن تحفرَ ولو شبْرًا في المكان، فرُبّما هناك أشياءُ أخرى.

أبو جبينه: لا أعتقدُ ذلك.

الصّائغُ: ما رأيُكَ أنْ ترافِقَني إلى ذلك المكان لِنَتفحّصَهُ، على أملِ أن نجِدَ قِطَعًا أخرى.

أبو جبينه: يا رجل، أنا سألتُكَ عن قيمتِها، ولمْ تُجبْني، فإذا كانتْ ذاتَ قيمةٍ تستحقُّ العناء، سأعود وإيّاكَ إلى شاطئِ البحرِ ونفحَصُ المكان.

الصّائغُ: أصدُقُكَ القولَ، أنا لا أعرفُ قيمتَها، لكن إذا أردتَ أن تبيعَها لي سأشتريها بضعفِ وزنِها من الذّهب. أيّ حوالي ثلاث ليراتِ ذهبيّة.

أبو جبينه: سأتْرُكُها معي بضعةَ أيّامٍ، وسأعرُضُها على بعضِ تُجّارِ الآثار؛ لأسمعَ رأيَهم فيها.

الصّائغ: ما رأيُكَ أنْ نعرِضَها على دليلٍ يونانيّ، مقيم في كنيسةِ القيامة، تعرّفتُ عليه منذ قدومِه إلى القدسِ قبل عامين، وقد رأيتُه مهتمًّا بشراءِ أشياءَ قديمةٍ من المحلّاتِ التي تبيعُ هكذا أشياء، ويبدو أنّه على درايةٍ بالآثار.

أبو جبينه: لا مانِعَ لديّ، متى سنذهبُ إليه؟

الصّائغُ: بعد قليلٍ سيأتي ابني؛ لِيَنوبَ عنّي في المحلِّ، وعندما يصلُ سنذهبُ فورًا.

التقيا الدّليلَ اليونانيَّ في كنيسةِ القيامَةِ ظُهْرَ ذلك اليومِ، عندما عرضا عليه الليرةَ الذّهبيّةَ تفحّصَها جيّدًا، وسأل:

هل عندكم قِطَعٌ أخرى غيرَ هذه؟

أبو جبينه: لا يوجدُ غيرُها.

صمتَ الدّليلُ قليلًا، وقال:

هذه الليرةُ تُساوي عشرةَ أضعافِ وزنِها ذهبًا، وأعتقدُ أنّها جزءٌ من كنزٍ أثريٍّ لا تُقدَّرُ قيمتُهُ بثمنٍ، وسعيدٌ من سيجدُهُ، وإنْ وافقتم على بيعِها لي سأشتريها بِعَشْرِ ليراتٍ ذهبيّة.

استمعَ أبو جبينه لكلامِ الدّليلِ، وقلبُهُ يُرفرْفُ في صدرهِ فرَحًا، بينما الصّائغُ يُخطّطُ أن يذهبَ مع أبي جبينه إلى شاطئ بحر يافا؛ ليبحثَ عن بقيّةِ الكنز!

انتبهَ أبو جبينه لراهبٍ عربيٍّ يجلسُ على بُعدُ مترين منه، فعضَّ الرّاهِبُ على طَرَفِ شفتِه السُّفلى وغمزَهُ خِلْسَةً، فهم أبو جبينه من ذلك الرّاهبِ أنّه يُحذِّرُهُ من التّعاملِ معَ الدّليلِ اليونانيّ.

سألَ الصّائغُ الدّليلَ اليونانيَّ عن الكتابة على الليرةِ الذّهبيّةِ، فأجابُهُ أنّها آراميّةٌ قديمةٌ، وقد يعودُ تاريخُ هذه العِمْلَةِ إلى أكثر من خمسةِ آلافِ عامٍ قبلَ ميلادِ السّيّدِ المسيحِ -عليه السّلامُ-.

وبعدَ جِدالٍ قصيرٍ باعَ أبو جبينه الليرةَ الأثريّةَ للدّليلِ اليونانيِّ باثنتي عشرةَ ليرةً ذهبيّةً.

عندما خرجَ أبو جبينه والصّائغُ من الكنيسةِ تَبِعَهُما الرّاهبُ العربيُّ، ولامَهُما؛ لأنّهما باعاها لشخصٍ أجنبيٍّ، وممّا قاله:

هؤلاء يأتون إلى بلادنا؛ لِيَسلبوا ولِيَنهبوا ثرواتِ وتاريخَ وثقافةَ هذه الأمّةِ وهذهِ البلادِ، إنْ وجدتُما غيرَ هذه القطعةِ أخبراني، وسأدُلُّكما على المكانِ الذي تستطيعانِ بيعَها فيه بِسِعرِها الحقيقيّ.

لمْ يُفْلِتُ الصّائغُ أبا جبينه، وألَحَّ عليه حتّى رافقَهُ إلى يافا؛ لِيَبْحثا عن باقي الكنزِ، عند يافا قادَ كنعانُ الصّائغَ إلى تَلّةٍ جنوبَ المدينةِ، وقالَ له:

جلستُ على تلك التّلّةِ، ووجدتُ الليرةَ الأثريّةَ عليها. جابَ الصّائغُ التّلّة يَفحصُها، نبشَ بيديه قليلًا في الرّمالِ حيثُ أشارَ له أبو جبينه إلى نُقطةٍ زعمَ أنّه تمدّدَ عليها ووجدَ الليرةَ الأثريّةَ بالصّدفة.

قرّرَ الصّائغُ أنْ يحفرَ من وراءِ أبي جبينه؛ لِيَنفردَ بالكنزِ وحدَهُ، فقال:

اسمع يا كنعان، سنأتي بعدَ ثلاثة أيّامٍ، وسيأتي ابني معنا، فهو شابٌ قويٌّ، لِيُساعدَنا في الحفر، وسنُحضرُ فؤوسًا ومجارفَ، فوافق أبو جبينه دون نقاش.

عندما عادَ أبو جبينه إلى بيتِهِ، قالَ لزينبَ أمام زوجتِه وابنتِه جبينه:

اسمعي يا زينبُ، بَيْعُ موجوداتِ الكنزِ ليس سهلًا ولا سريعًا، لكنّ نصيبَكِ فيه كبيرٌ جدًّا، وسيبلغُ آلافَ ليرات الذّهبِ، فإنْ قبلتِ أنت وأمُّكِ سأشتري لكِ بيتًا في القدسِ، تسكنينه أنتِ وأمُّكِ وإخوتُكِ، وسأشاركُكُما في محلّات تجاريّةٍ تُدِرُّ دَخْلًا عاليًا، وسأعطيكِ نصيبَكِ أوّلًا بأوّلٍ، وهو مبالغُ كبيرة، فما رأيُكُ؟ هل تريدين أن نذهبَ لأمِّكِ اليوم؛ لنُخبِرَها بالموضوع، أمْ ننتظرُ حتّى تأتيَ هي يوم الجمعةِ القادمِ؟

غمرتُ السّعادةُ زينب، وقالتْ:

سننتظرُ حتّى يومِ الجمعة.

في اليوم التّالي ومعَ ساعاتِ الفجرِ الأولى كان الصّائغُ وابنُه يحفران التّلّةَ بحثًا عن الكنز. استمرّا بالحفرِ يومين متتاليين، ولم يعثُرا على شيء، وبعد ثلاثةِ أيّامٍ قال لأبي جبينه في محاولة منه؛ كي لا يكتشفَ بأنّه حفرَ من ورائه:

اتْرُكنا من يافا ومن الحفرِ على شاطئِها، فلا أعتقدُ أنّ فيها كنزًا ولا غيره.

 وافقَه أبو جبينه دون نقاشٍ، ولم يُخبرْهُ هو الآخرُ أنّه عادَ إلى الرّاهبِ العربيّ، وبحوزتِه تمثالان ذهبيّان مختلفان؛ لِيَعْرِضَهُما عليه، عندما رآها الرّاهبُ، قالَ لأبي جبينه:

خبِّئهما يا كنعان، وهيّا بنا إلى بيتي، فهو قريبٌ من هنا؛ لنفحصَهما بهدوءٍ بعيدًا عن عيون النّاس، فوافقَه أبو جبينه دون نقاش. تمعّنَ فيهما الرّاهبُ كثيرا، ثمّ تناولَ كتابًا من رفوفِ مكتبتِهِ، فتحَ على مجموعةِ صُوَرٍ وقارنَ بينَها وبينَ التّمثالين، ثُمّ قال:

انظُرْ يا كنعانُ إلى الشّبه بين هاتين الصّورتين والتّمثالين، نظرَ أبو جبينه إلى الصّورتين، وتساءل:

ما هاتان الصّورتان؟

الرّاهبُ: الصّورةُ الأولى لآلهة الكنعانيين “عشتار” وهي إلهُ الحبِّ والإخصاب والرّبيع، والثّانيةُ “أشمون” وهو إلهُ الشّفاء عند الكنعانيّين أيضًا. وهذان التّمثالان ثمينان جدّا، لكن أصدقُكَ القوْلَ إنّني لا أعرف ثمنَهما بالضّبط، فإنْ أردتَ بيعَهما أنصحُكَ بالسّفر إلى إحدى العواصمِ الأوروبّيّة وبيعِهما هناك.

اطمأنّ أبو جبينه لكلام الرّاهبِ، فقال له:

أنا لا أعرفُ لغاتٍ أجنبيّةً، ولا أعرِفُ كيفَ ولمن سأبيعُها هناك؟ فما رأيُكَ أن تسافرَ معي؛ وإنْ بعناها هناك سيكونُ لكَ نصيبٌ يستحقُّ العناء؟ فوافق الرّاهبُ.

      جاءت خيزرانةُ لزيارةِ ابنتِها زينب يومَ الجمعة، وعندما سمعتْ من ابنتِها قصّةَ الكنزِ لم تُصَدِّقْها، واعتقدتْ أنّ البنتَ تحلُمُ بالثّراءِ بعدَ أنْ صارتْ في كَنَفِ أُسْرَةٍ ثريّةٍ كريمةٍ، وعندما تأكّدتْ من الحقيقةِ بعد أنْ سمعتْها من والديّ جبينه، أُغْمِيَ عليها مِنْ هولِ المفاجأةِ، وكلّما أيقظوها تُعاوِدُ الإغماءَ مرّةً أُخرى. بعدَ صلاةِ الجمعةِ التي لمْ تستطعْ أن تُؤَدّيَها في المسجدِ الأقصى، هدأتْ أمُّ زينبَ واستمعتْ لوالديّ جبينه، حيثُ قالَ لها الأبُ:

اسمعي يا خيزرانة، منذُ اللحظةِ الأولى التي رأيتُكِ أنت وابنتك زينب قلتُ لكما:

سأعتبرُ زينبَ أُخْتًا لجبينه، وأنا عندَ قولي، ولا أنقضُ عهدي، نصيبُ زينبَ في الكنزِ كبيرٌ جدًّا، فإنْ أردتِ أن تأخُذيهِ أنت وابنتُكِ فهذا حقُّكُما ومباركٌ لكما به، وإنْ أحببتِ أنْ تترُكيه عندي؛ لأبيعَهُ وبعد ذلك تأخذانِ نصيبَكُما منه فلكُما مُطلقُ الحُرّيّة في ذلك.

قطعتْ أمُّ زينبَ حديثَهُ، وقالت:

أنا أثِقُ بأمانتِكَ وبِقُدراتِكَ، فاعتبرْ نفسَكَ وليَّ أمرِنا، تصرّفْ كما تشاءُ، وأرْشِدْنا إلى ما ينفعُنا.

فكّرَ أبو جبينه قليلًا، وقال:

الأمانةُ ثقيلَةٌ وأسألُ اللهَ أنْ يُعينني على حَمْلِها، وبدْءًا مِنْ هذا اليومِ، سأشتري بيتًا لكِ في جِوارِنا؛ لتعيشي أنتِ وأبناؤكِ فيه، وعندما تستقرُّ أوضاعُنا سنفكّرُ بطريقةٍ نستثمرُ فيها أموالَنا. وأضاف:

سأسافرُ مع راهبٍ عربيٍّ إلى دولةٍ أوروبّيّةٍ؛ لِنَبيعَ تِمثالَينِ بثمنٍ غالٍ، وبعدَها سنفكّرُ بكيفيّةِ التّصرّفِ بما تبقّى لنا من الكنز.

أمُّ زينبَ: تصرّفْ بما تراهُ مناسبًا.

أبو جبينه: هيّا بنا؛ لِنأتيَ بأبنائِكِ؛ لِتعيشوا معنا.

بعدَ أنْ أمّنوا خيزرانةَ بسَكَنٍ في جِوارِهم، سافر أبو جبينه مع الرّاهبِ العربيِّ إلى الفاتيكان، وهناك باعا التّمثالينِ بألفينِ وخمسمائة ليرةٍ ذهبيّة انجليزيّة، أعطى منها أبو جبينة الرّاهبَ خمسمائة ليرةٍ.

فرحة لم تتمّ

     اشترى كنعانُ أرضًا خارجَ سورِ القدسِ القديمةِ، قريبةً من بابِ العمودِ، وبنى فيها قصرينِ مُتجاورين، واحدًا لهُ والثّاني لخيزرانةَ وأبنائِها. وفي تلكَ السّنةِ حملتْ بُثينةُ أمُّ جبينه وبعد معاناةٍ في الحملِ أنجبتْ ولدًا أسموه سعيدًا. كانتْ فرحتُهم بالمولودِ الجديدِ كبيرةً، مع أنّ بثينةُ لم تستعدْ صحّتّها بعدَ الولادة، فقالَ لها زوجُها أبو جبينه:

منذُ أن دخلتْ زينبُ بيتَنا فتحَ اللهُ لنا أبوابَ الرّزقِ والسّعادةِ، ونسألُ اللهَ أن يشفيكِ مّما أنت فيه، لتكتملَ سعادتُنا.

 بينما زوجتُه كانتْ تقول:

بلْ منذُ أنْ رزقنا الله بجبينه فُتِحتْ لنا أبوابُ السّماء، أمّا هذه الوعكةُ الصّحّيّة فأعتقدُ أنّها عابرةٌ، كما يُؤكّدُ لي الطّبيب.

      تدرسُ زينبُ وجبينه في كُتّابِ المسجدِ الأقصى، وهما ترتديان أحلى الثّيابِ، وتتَزَيَّنان بأفخرِ المجوهراتِ، وكذلك تفعلُ بثينةُ وخيزرانة وهما تتجوّلان في أسواقِ المدينة.

    لم تكتملْ فرحةُ كنعان وبثينة بمولودهما الجديد، فقد ماتت بثينةُ بسبب مرضِها الغامضِ، وهي ترضعُهُ قبلَ أنْ ينهي عامَهُ الأوّلَ بأسبوعٍ، جرتْ لها جنازةٌ مهيبةٌ، لكنّ صدمةَ جبينه بوفاةِ والدَتِها كانت كبيرةً،. احتضنت خيزرانةُ سعيدًا يتيمَ الأمِّ، كما جاءت بجبينه؛ لِتَنامَ مع زينبَ في غُرفةٍ واحدةٍ في بيتِها المجاور لبيت أبي جبينه.

      كثُرت الأقاويلُ حولَ كنعان وخيزرانة، خصوصًا وأنَّ كنعانَ كان يتردّدُ على بيتِ خيزرانة صباحَ مساءَ؛ لِيَطمئنَّ على ولديه: سعيد، وجبينه. بعدَ مرورِ شهرينِ على وفاةِ بثينة، عَرَضَ كنعان الزّواج على خيزرانة، فردّت عليه، وهي تبتسمُ:

لن أجِدَ زوْجًا لي أفضلَ منكَ، لكنْ عليكَ أنْ تطلُبَني من أخي الكبيرِ، فوافقها دون جِدالٍ.

     عندما وصلت جبينه الرّابعةَ عشرةَ مِنْ عُمْرِها، كانت زينبُ في السّادسة عشرَة، وكانتا حديثَ أهلِ المدينةِ؛ لِجمالٍهما المُميّزِ، ولِكَثْرةِ وتَنَوُّعِ المُجَوْهراتِ الّتي تتحلّيَان بها.

   وذاتَ يومٍ تعرّضَتا للاختطافِ خارجَ أسوارِ المدينة، وقريبًا من بابِ الأسباطِ على يديّ لصوصٍ مُسلّحين، أردفَهُما عُنوةً فارسانِ خلفَهما على فرسينِ أصيلتينِ، بعدَ أنْ كمّما فمَ كلٍّ منهما، وعصبا عينيهما، وطارا بهما شرْقًا. تجمّعَ شبابُ المدينةِ وانطلقوا يطاردون اللصوصَ، انطلقت سيّارةٌ فيها أربعةُ شبابٍ شرقًا، حتّى وصلتْ مدينةَ عمّان، وانطلقتْ سيّارةٌ أخرى جنوبًا حتّى وصلت الخليلَ، وسيّارةٌ ثالثةٌ اتّجهت شمالًا حتّى وصلتْ نابلس، في حين وصلت السّيارةُ التي اتّجهتْ غربًا إلى يافا، وانطلقَ عشرات الشّبابِ يبحثون في الجبال، لكنّهم جميعهُم عادوا خائبين، في اليومِ التّالي ومن على منبرِ المسجدِ الأقصى، أعلنَ أبو جبينه عن جائزةٍ بمقدارِ خمسينَ ليرةٍ ذهبيّةٍ لِمَنْ يُعيدُ جبينة وزينب، أو يُدلي بمعلوماتٍ عن مكانِ وُجودِهما، خرجَ غالبيّةُ شبابِ المدينةِ يبحثون عن الفتاتين دون جدوى. بعدَ أسبوعٍ وعندما خيّمَ الحُزنُ على المدينةِ، خرجَ الشّاطرُ حسن وشقيقُه حسين ابنا شاه بندر التّجار للبحثِ عن الفتاتين، امتطى كلٌّ منهما حصانًا أصيلًا، حمل حسين على كتفِه بندقيّةً، بينما اكتفى الشّاطرُ حسن بسيفٍ وضعَهُ على جانبِهِ الأيسر؛ لِيَسهُلَ عليه استِلالُهُ في وقتِ الحاجة. وبعدَ عصرِ ذلك اليومِ وبينما كان الأخوانِ يسيران في باحةِ المسجدِ الأقصى، رأيا سِرْبًا من الطيورِ يحُطُّ في ساحة المسجدِ وسمعاهُ يُغنّي:

يا طيور طايره ويا وحوش سايره
قولي لامّي وابوي جبينه صارت راعيه
ترعى غنم وترعى نوق
وتقيّل تحت الدّاليه

فقال حسين لشقيقه الشّاطر حسن:

اسمعْ يا حسن لِتَغريدِ الطّيور، وانتبه لِما تقولُهُ.

التفتَ إليه الشّاطرُ حسن، وقال:

 لقد سمعتُها وأنا الآنُ أُفّكِّرُ بالمكانِ الذي توجدُ فيه أغنامٌ ودوالٍ. فالبراري لا دواليَ فيها، بينما توجدُ الأغنام والدّوالي في محيطِ مدينةِ أريحا شرقًا، وفي محيطِ بيت لحم والخليل جنوبًا. وسنبدأُ بأريحا. رافقهما سِربُ الطّيورُ وبقيَ يحومُ فوقهما ويتّجهُ شرْقًا، فقال الشّاطرُ حسن لشقيقه حسين:

يبدو أنّ هذه الطّيورَ مرسلةٌ إلينا من قوى خفيّةٍ؛ لِتَقودَنا إلى مكانِ الفتاتين.

قادتهما الطّيورُ إلى منطقةِ قناةِ العوجا شمالِ مدينةِ أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظِلّان بظِلِّ داليةٍ، والأغنامُ تستظلُّ هي الأخرى بالأشجارِ البرّيّة التي تنمو في الوادي تحتَ رأسِ النّبع. عرفتِ جبينه الشّاطرَ حسن، فانشرَحَ قلبُها عندما رأتْه، قابلتْهُ بابتسامةٍ، فأردَفَها خلفَهُ على الفرسِ، في حين قفزتْ زينبُ خلف حسين، وأطلقَ الشّاطرُ حسن وشقيقُه حسين العنانَ لفرسيهماعائدين بجبينه وزينب.

استقبلَهم أهلُ المدينةِ بالزّغاريدِ والرّقصِ الشّعبيِّ، ذبح أبو جبينه الأغنامَ ونحر العجولَ قِرًى للمُهنّئينَ بعودة الفتاتين، وخطبَ بالجموعِ، قائلًا:

أُقدِّمُ جبينه عروسًا للشّاطرِ حسن، وزينبَ عروسًا لشقيقه حسين، وأتكفّلُ بمصاريفِ الزّواجِ كافّة.

ردَّ عليه الشّاطرُ حسن:

عطاؤكَ مقبولٌ يا عمُّ، لكنّ حفلَ الزّفافِ مُؤجّلٌ حتّى نستعيدَ مُجوهراتِ الفتاتين التي سرقها خاطفوهما، وبعد أنْ نُعاقبَهم على جريمتِهم النّكراء.

انتهى

5 حزيران-يونيو- 2023

جميل السلحوت:

– جميل حسين ابراهيم السلحوت.

–         مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.

–         حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربيّة.

–         عمل مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيدية الثّانويّة في القدس من 1-9-1977 وحتّى 28-2-1990.

– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبريّة لمدّة ستّة أشهر.

–         عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر،  الكاتب، الشّراع، العودة، ورئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعيّة. ورئيس تحرير لمجلة”مع النّاس”

–         عضو مؤسّس لاتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.

–         عضو مؤسّس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الإداريّة المنتخب لأكثر من دورة.

– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.

– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسّسة ثقافيّة منها: المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ.

– فاز عام 2018 بجائزة القدس للثّقافة والإبداع.

– منحته وزارة الثّقافة الفلسطينيّة لقب”شخصيّة القدس الثّقافيّة للعام 2012″.

– أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار-مارس- العام 1991وحتّى الآن.

– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، جامعة بيت لحم، جامعة خضوري في طولكرم، اتحاد الكتاب الفلسطينيين، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة الأمير عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:

– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السّوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.

– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”

– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015”.

– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017، وعام 2020.

-حصلت رولا غانم على رسالة الدكتوراة من جامعة طنطا عام 2019 برسالة”القدس في روايات جميل السلحوت.”

اصدارات جميل السلحوت

الأعمال الرّوائيّة

 – ظلام النّهار-رواية،  دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.

– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.

-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.

– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.

– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014

– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.

– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.

– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.

– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017

– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.

– عند بوابّة السّماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.

– الخاصرة الرّخوة-مكتبة كل شيء-حيفا 2020.

– المطلقة- رواية-مكتبة كل شيء حيفا 2020.

– اليتيمة-رواية-مكتبة كل شيء-حيفا 2021.

– الأرملة- مشتركة مع ديمة جمعة السمان- مكتبة كل شيء-حيفا 2023.

– الليلة الأولى- مكتبة كل شيء-حيفا 2023.

روايات اليافعين

–  عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.

–  الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، 2014، بيتونيا-فلسطين.

–  البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.

– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.

قصص للأطفال

– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.

– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.

– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.

– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.

– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.

– ميرا تحبّ الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.

– النّمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.

أدب السّيرة:

أبحاث في التّراث.

– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.

– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة منشورات الرّواد- القدس 1982.

– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.

– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:

–  معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس  2002

أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.

– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات

–  كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.

–  في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.

يوميّات

–  يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

الرسائل

    أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.

– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.

– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.

– في أدب الأطفال.منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.

– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.

– أدب السجون.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.

–  نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.

– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.

– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012

– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.

-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.

– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.

– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات