عند بوابة السماء

ع

منشورات مكتبة كل شيء-حيفا 2019

ملاحظة: أسماء الأشخاص وبعض الأماكن الواردة في هذه الرّواية متخيّلة باستثناء الرّموز، وإن توافقت مع بعض الأسماء الحقيقيّة فهي محض مصادفة.

الإهداء
إلى زوجتي حليمة جوهر التي شاركتني رحلة الحياة بحلوها ومرّها.

عندما بلغ عليّ بن فالح سنّ الشّباب، ألحّ عليه والده كي يتزوّج إحدى قريباته، لكنّ عليّ رفض، وقال لأبيه:
لا أريد الزّواج؟
الأب: لِمَ؟
– لا داعي للزّواج بهذه السّرعة.
– لكنّ العزوة سند يا ولدي، فأرضنا شاسعة وبحاجة لمن يفلحها.
– لا خوف على فلاحة الأرض يا أبي، فنحن نقوم بالمهمّة.
– وما يمنعك من الزّواج؟ فأنت الآن في عزّ الشّباب، وهناك من هم أصغر عمرا منك وتزوّجوا.
– الزّواج ليس غنيمة؛ لنتسابق عليها يا أبي، وأنا ما زلت في السّابعة عشرة من عمري.
– فاطمة بنت عمّك فتاة مزيونة وهي في الرّابعة عشرة من عمرها، وقد ينتبه لها أحد الشّباب فيسبقنا إليها.
احمرّ وجه عليّ حياء وهو يقول:
أتمنّى لها التّوفيق والسّتر.
احتدّ أبو عليّ وسأل وتكشيرة تعلو وجهه:
هل أفهم من هذا يا ولد أنّك ترغب بفتاة أخرى؟
لم يجب عليّ على سؤال والده، دارت في ذهنه تساؤلات لم يفصح عنها، ابتلع ريقه وقال في محاولة منه للهروب من الجواب:
تأخّرت على الحصّادين، وأنا ذاهب لننقل الحصاد إلى البيدر.
طلب الشّيخ فالح من أحد أبنائه أن يصبّ له فنجان قهوة، عندما أمسك الفنجان بيده اليمنى، لفّه بيده، فدارت القهوة في الفنجان بطريقة لافتة، ارتشف الرّشفة الأولى، حوقل وقال لعليّ ابنه:
قل لأمّك أن تحضر هنا.
عندما وصل الابن باب المضافة، التفت إلى أبيه وقال:
جاءنا ضيوف.
وقف أبو عليّ وقال بصوت خفيض:
أهلا بضيوف الرّحمن.
بينما خرجَ عليّ مسرعا وهو يقول بصوت مرتفع:
أهلا وسهلا.
وقف أبو عليّ عند باب المضافة وقال:
أهلا وسهلا بالشّيخ مناور ومن معه.
نظرت زينب من شبّاك المطبخ عندما سمعت التّرحيب بشقيقها، فرأته هو وعمّيها سالم وأحمد، خرجت هي الأخرى لاستقبالهما، قبّلت يدي عمّيها، ووجنتي شقيقها مناور، لم تدخل معهم إلى المضافة، بل عادت إلى المطبخ، في حين سبقها ابنها عليّ في تقبيل يد خاله، وذهب إلى حظيرة الأغنام ونحر خروفا قِرى للضّيوف.
تداول الشّيخان في أمور شتّى، وانصرفا بعد صلاة العشاء.
ذهب الشّيخ فالح إلى غرفة النّوم، وقبل أن يجلس سألته زوجته زينب:
خيرا، هل زيارة الشّيخ مناور عابرة أم أن هناك شيئا ما؟
الشّيخ فالح: أخوك مناور وعمّاه سالم وأحمد ينويان تأدية صلاة الجمعة بعد غد في المسجد الأقصى، وعرضا عليّ أن أرافقهما.
– تقبّل الله الطّاعات، وهي فرصة كي تحضر لنا بعض أغراض البيت، ولا تنس البخّور، فبخّور القدس شهير، ويضفي رائحة طيّبة على البيت، كما يطرد العيون الحاسدة.
ابتسم أبو عليّ وقال مازحا:
لا تخافي من الحسد، فالله هو الحامي والسّاتر.
زينب: لا إله إلا الله، لكن الوقاية مطلوبة.
تمدّد أبو عليّ على الفراش، وتمدّدت زينب بجانبه الأيمن، رفعت اللحاف عليهما، استدار على جانبه الأيمن، وضع يده اليسرى على صدرها، وكفّه يغطّي ثديها الأيسر، ورأسه بجانب رأسها، وقال:
اسمعي يا زينب!
– خيرا يا فالح.
– لا يوجد إلا الخير، أريد منك أن تجلسي مع ابنك عليّ على انفراد، وأن تفهمي منه إن كانت عينه على فتاة ما لنخطبها له.
ابتسمت زينب وهي تستدير على جانبها الأيسر، أحاطت خاصرة زوجها بيدها اليمنى وقالت:
هذا خبر مفرح، لكن هل هناك ما دعاك للتّفكير بهذا الأمر؟
– تعلمين أنّ عليّ في سنّ الزّواج، وقد عرضت عليه أن نخطب له فاطمة بنت أبو سالم، لكنّه لم يتحمّس للموضوع، بل عارضه، وعندما سألته إن كانت في خاطره فتاة أخرى، احمرّ وجهه حياء، وغادر إلى حقول الحبوب متذرّعا بنقل الحصاد إلى البيادر.
– لا أعتقد أنّ عليّ يشتهي البنات في عمره هذا.
– عليّ لم يعد طفلا يا زينب، فهو ابن سبعة عشر عاما.
ضحكت وهي تقول: آه والله، ماذا حصل لذاكرتي؟ لكن يبدو أنّ الأبناء يبقون أطفالا في عيون والديهم. إن شاء الله “الصّباح رباح”، سأتحدّث معه في الموضوع غدا صباحا.
قبل آذان الفجر استحمّ فالح وزينب، بعد أن سخّنت الماء على الموقد، أدّت زينب صلاة الفجر في غرفتها، بينما ذهب فالح إلى المضافة، كانت “دلّات” القهوة على المنقل، تحتها بقايا جمرات تتغامز باستحياء، بينما كان الأبناء العازبون ينامون في المضافة، احتسى فنجاني قهوة، جلس في المكان الذي اعتاد الجلوس عليه بعد أن صلّى الفجر، تناول المسبحة وشرع يطقطق بخرزها مسبّحا بحمد الله.
استيقظ عليّ، ذهب إلى المضافة، طرح تحيّة الصّباح على أبيه، وذهب لإحضار ابريق الشّاي.
استقبلته والدته زينب باسمة وبطريقة لافتة، احتضنته، قبّلته وهي تقول:
اجلس على الفراش يا ولدي، سأعدّ الشّاي لأبيك وإخوتك، وسأعود للحديث معك في أمر هامّ.
– إن شاء الله، هل هناك ما يقلق.
– لا تقلق يا بنيّ بل هناك ما يفرح.
ردّ مازحا: أكيد أنّك وجدت لي عروسا.
ضحكت وقالت مازحة: العروس ستجدها أنت وليس أنا.
حملت إبريق الشّاي والكؤوس هي نفسها، لم تدع عليّا يحملها، وضعتها في المضافة أمام زوجها، وهمست في أذنه، سأتحدّث مع عليّ بالموضوع قبل أن يستيقظ الآخرون.
جلست قبالة عليّ وقالت:
أنت الآن شابّ –اسم الله عليك-، نريد أن نفرح بك، هل ترغب بفتاة ما كي نخطبها لك؟
كست حمرة الحياء وجه عليّ وسأل:
هل حدّثك أبي بالموضوع؟
ردّت ضاحكة: حدّثني أو لم يحدّثني، نريد أن نفرح بك.
ابتسم عليّ وقال: ما رأيك بوضحة بنت خالي مناور؟
ضحكت بملء فيها وقالت:
لقد عرفت كيف تنتقي عروسك يا عليّ، فوضحة بنت حسب ونسب، جمالها أخّاذ، ونسأل الله التّوفيق، لكن قل لي:
هل تعرفها؟
نعم أعرفها فقد رأيتها أكثر من مرّة عندما كنت أزور بيت جدّي وأخوالي، وذات يوم مررت بها وهي ترد بئر الماء، فتعمّدت أن أسقي الفرس التي أمتطيها من حوض ذلك البئر، طرحت السّلام عليها وقالت لي وهي تغضّ بصرها:
حيّاك الله يا ابن العمّة.
ومنذ تلك اللحظة وأنا أحلم أن تكون زوجة لي.
– على بركة الله، ستكون من نصيبك بإذن الله.
ذهب عليّ إلى الحقول؛ ليشارك في الحصاد، في حين امتطى الشّيخ فالح فرسه، وقصد بيت الشّيخ مناور، ليسافرا سويّة إلى القدس، بينما انتظرت زينب عودته بعد أربعة أيّام بفارغ الصبر، كانت تضمر في نفسها أمرا؛ لتنتقم من ضرائرها اللواتي كنّ يتهامسن في ما بينهنّ ويكايدنها، كلهنّ زوجن أبناءهنّ ولم يبقَ إلا أبناؤها، وكم تمنّت أن تزوّج ابنها البكر عليّ وضحة ابنة أخيها مناور.
بعد أن غادر ضيوف الشّيخ فالح المضافة في اليوم الذي عاد فيه من القدس، ودّعهم وغمز زينب كي تلحقه للمضافة، فقد تعوّدت زوجاته على تناوب النّوم على فراشه في المضافة، عندما تخلو من الضّيوف، كلّ واحدة حسب دورها دون خلاف أو نزاع، خوفا من الشّيخ وجبروته على من تتطاول على الأخرى، أو تحاول إثارة خصومة، فقد كان ذا شكيمة يخافه الرّجال قبل النّساء، دخلت زينب يفوح منها عطر البخّور الذي أهداه لها الشّيخ سرّا عن ضرائرها عندما عاد من سفره الأخير للقدس، أغلقت باب المضافة، دخلت المخدع تتهادى بدلال؛ كي تغيظ ضرائرها، فهي الأصغر عمرا والأكثر جمالا، وابنة شيخ ذي عزّ وجاه،. ابتسم الشّيخ وقال في سرّه:
إنّ كيدكنّ عظيم.
قبل أن يضمّها تحت عباءته سألها:
هل أقنعتِ ابنك بالزّواج؟
ابتسمت وهي تتسلّل بدلال إلى حضنه وقالت بغنج:
عليّ يريد وضحة بنت خاله مناور.
سألها بلهجة عتاب:
هل أنت من أقنعتِه بها أم هو يريدها؟
– والله هو من اختارها، وأنا فرحت لاختياره.
– هل يعرفها؟
– نعم يعرفها.
– لقد اختار الأفضل، وهذا نسب يشّرفنا، ونسأل الله أن تكون من نصيب عليّ، فأهالي قرية كفر السّمن يتسابقون على نسب الشّيخ مناور.
– لا أحد أحقّ بها من عليّ، والشّيخ مناور يعزّك ويقدّرك، ويعتبر عليّا كواحد من أبنائه.
– لكنّ من هم في سنّ الزّواج من أبناء عمومتها كثيرون.
– الشّيخ مناور لا يردّ لك طلبا، ما رأيك أن أذهب أنا غدا صباحا، وأتكلّم معها ومع أمّها؟
انتفض غاضبا وقال:
ماذا تقولين يا امرأة؟ هل جننتِ؟ منذ متى نبعث نساءنا لطلب عرائس لأبنائنا؟
ردّت بصوت هادئ ناعم:
كما تريد يا شيخ، لكنّني فكّرت بتجاوز العادات كوني شقيقة الشّيخ مناور.
– إذا كان الشّيخ مناور سيعطينا ابنته لعليّ كونك أخته، فلا نريدها والبنات كثيرات.
– على هونك يا شيخ، ما تريده هو الذي ينفذ، ومقامك كبير عند مناور وعند غيره، وهو لا يردّ لك طلبا.
– غدا عند الضّحى سأذهب أنا وعليّ، وإذا أردت مرافقتنا فلا بأس بذلك، لكن إيّاك ثمّ إيّاك أن تفتحي فمك بكلمة واحدة حول الموضوع مع أيّ شخص مهما كان.
– أنت تأمر ونحن ننفّذ يا تاج رأسي، وإذا لم يكن غرباء في مضافة الشّيخ مناور فسأجلس بجانبك، ولن أغادر مكاني حتّى نقرأ فاتحة وضحة.
عند بيت الشّيخ مناور في قرية كفر السّمن المجاورة لقرية كفر الرّمل، خرج الرّجال والنّساء لاستقبال الشّيخ فالح وابنه وزوجته، فهم يعتبرون أنفسهم أسرة واحدة، دخل الضّيوف المضافة، صبّ الشّيخ مناور القهوة بنفسه للشّيخ فالح، وضع الشّيخ فالح فنجان القهوة أمامه وسكت.
قال الشّيخ مناور: اشرب قهوتك يا أبا عليّ.
– لنا عندكم طلب يا أبا سلطان.
– أبشر يا رجل فطلبك مستجاب، حتى لو كان واحدا من أبنائي.
– نريد ابنتك وضحة لابننا عليّ يا شيخ مناور.
– تراها جاءتكم “هديّة ما من وراها جزيّة”.
– تسلم يا طويل العمر وأنا “رادّ جزاءها مثلها مثل أخواتها وبنات عمومتها وأكثر، وخمس دونمات زيادة. ”
– مدّ يده إلى فنجان القهوة، رشفه ثلاث رشفات، ورفع الفنجان دون أن يهزّه، فقام سلطان وصبّ له القهوة مرّة ثانية، احتسى قهوته وهو يقول:
– لنقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
وهنا قامت زينب لتذهب إلى محرم النّساء، أطلقت زغرودة عمّت أرجاء كفر السّمن، فنهضت أمّ سلطان وهمست لابنتها:
– مبروك عليك عليّ ابن عمتك يا وضحة.
عانقت زينب وضحة أمّ سلطان من جديد، رفعت عقيرتها هي وأمّ سلطان بزغاريد عديدة، فخرجت عجائز الحيّ يستطلعن الأمر، في حين كانت النّساء الصّبايا يحصدن في الحقول، والأولاد في كتّاب المسجد يتعلّمون الأبجديّة وقراءة القرآن على يدي الإمام.
اقترح الشّيخ فالح أن يشتريا مصاغ العروس من عمّان، والكسوة من دمشق، على أن تكون الخطبة بعد صلاة الجمعة نهاية الأسبوع القادم، وسيكون الزّفاف بعد جمع حبوب الغلّة من البيادر.
قال الشّيخ مناور: الولد ابنكم والبنت بنتكم، ومتى قرّرتم الزّواج فهذا شأنكم، وأقترح أن تكون الخطبة مختصرة على الأهل والمقرّبين.
ردّ الشّيخ فالح: ما قصّرت، ونسأل الله أن يقدّرنا على ردّ معروفك.
التفت الشّيخ فالح لابنه عليّ:
اذهب عصر هذا اليوم للبنّاء أبو مصطفى كي يبني لك بيتا. ومن صباح الغد اذهب معه واشترِ الحجارة اللازمة من محاجر عجلون.
بعد الانتهاء من الحصاد والبيادر، أقام الشّيخ فالح أربعة بيوت من شَعْر الماعز، كلّ بيت تتوسّطه أربع أعمدة خشبيّة، قرّر أن تكون سهرة العرس أسبوعا كاملا، دعا إلى حفل الزّفاف المئات من وجاهات المنطقة، ودعا أصدقاءه من شيوخ القبائل الأخرى في الأردنّ وفلسطين وسوريّا، ونحر في ذلك الزّفاف ما يزيد على خمسين رأسا من الماشية.
في يوم الزّفاف ذهبوا فاردة على أقدامهم، الرّجال في المقدّمة يغنّون “الهجيني”، وعليّ العريس خلفهم يمتطي فرسا، وهو يرتدي قمبازا، وعباءة أحضرها والده من الحجاز عندما أدّى فريضة الحجّ قبل عامين، واعتمر كوفيّة مهدّبة مرقّطة باللون الأحمر، والنّساء خلف العريس يغنّين وهنّ يرتدين أجمل ثيابهنّ وقلائد الذّهب تتدلّى على صدورهنّ.
عندما وصلوا بيت الشّيخ مناور، كان وجاهات عائلة السّلمان في استقبالهم، عدد من أبناء الشّيخ مناور يحملون دلّات القهوة، صبّوا لرجالات الجاهة، وقبل أن تدخل النّساء مخدع العروس، دخل الشّيخ مناور إليها، واقتادها من يدها اليمنى، في حين أمسك شقيقها سلطان يدها اليسرى، أخرجاها بعد أن غطّت والدتها وجهها بمنديل شفّاف”غُمْغام”، أركباها على الفرس، والنّساء خلفها يرقصن ويغنّين، انتظروا حتّى تقدّم الرّجال مسيرة العودة إلى بيت العريس. كانت العروس ترتدي ثوبَ حريرٍ أسودَ اللون مطرّزا على جانبيه وذيله، وقبّته التي تغطّي الصّدر بخيطان حرير حمراء، في حين كان على رأسها خرقة بيضاء كبيرة تغطي ظهرها.
قاد الفرس ممسكا بلجامها الحاجّ عبد الرّحمن خال العروس بعد أن قبض دينارين بدل “عباءة الخال” ، في حين كان أخوها سلطان على جانبها الأيمن، وأخوها محمّد على جانبها الأيسر.
بقيت اثنتان من زوجات الشّيخ فالح وزوجات أعمامه عند قُدور اللحوم التي تطبخ قِرى للمدعوّين، في حين شاركت الثّالثة في الفاردة، وثلاثتهنّ كنّ يتهامسن غيرة من الإعدادات الفائقة للزّفاف، ورأين أنّ العروس أجمل من نساء أبنائهنّ، ووالدها شيخ ذو مكانة رفيعة.
في صباح اليوم التّالي سافر عليّ ووضحة لقضاء شهر العسل في القدس، ودّعتهما أمّه وهي تقول:
أنا وأبوك قضينا شهر عسل أسبوعا كاملا في القدس، وفي القدس حملت بك يا عليّ، وإن شاء الله ستعود إلينا وضحة حاملا، فالقدس مباركة وتوزّع بركاتها على من يزورها.
اكتمل بناء بيت عليّ بمساحة مئة متر، غرفتان، وفي الخلف تعلوهما غرفتان أخريتان، سطح الغرفتين السّفليّتين يُشكّل برندة مكشوفة للغرفتين العلويّتين.
عندما عاد العروسان من القدس، كان الشّيخ فالح قد أحضر من الشّام لهما خزانة من خشب الزّان مزيّنة بأشكال محفورة يدويّا، كما اشترى لهما سريرين معدنيّين من عمّان، وضعتهما زينب بجانب بعضهما، وفرشت كلّ واحد منهما بفرشتي صوف، ثمّ غطّتهما بحرام من القماش المورّد، وكان هذا أوّل أثاث فاخر دخل كفر الرّمل، بحيث أنّه أصبح حديث أهل قريتي كفر الرّمل وكفر السّمن، والعديد من النّساء جئن؛ ليشاهدن هذا الأثاث العجيب!
شعرت زينب بأنّ الشّيخ فالح منحاز لها ولعليّ ولزوجته وضحة، فقالت له:
أدام الله عزّك يا شيخ فالح، وأسبغ عليك من نعمه وأفضاله.
ابتسم الشّيخ فالح وقال: عليّ أحبّ أبنائي إليّ، فقد أسميناه عليّا على اسم ابني البكر الذي توفّاه الله وأنت حامل بعليّ، ولا تنسي أنّه أحذق أبنائي، كما أنّ الشّيخ مناور عزيز جدّا على قلبي، فقد قدّم لنا ابنته زوجة لعليّ دون شروط، وهذه البنت بنت عزّ وجاه، عاشت في بيت والديها مدلّلة، وستزداد دلالا في بيتنا، ولن أسمح لأحد بأن يتطاول عليها بكلمة واحدة، كما أنّني أعفيها من العمل في الزّراعة، أو حلب الأغنام، وما عليها إلا أن تنتبه لنفسها ولبيتها ولزوجها.
فقالت زينب وقلبها يخفق فرحا:
والله إنّك أصيل يا شيخ.
بعد تسعة أشهر أنجبت وضحة ابنا ذكرا، سمّاه جدّه حسين، واحتفلوا به كما يليق بأبناء الأكابر، علما أنّ لديهم عشرات الأحفاد، حتّى زوجة الشّيخ فالح الثّالثة أنجبت طفلا قبل وضحة بأسبوع، وسمّاه أبوه محمّدا، لكنّ أحدا لم يحتفل به، ما عدا والده الشّيخ فالح الذي ذبح شاتين عقيقة له، تماما مثلما فعل مع أبنائه وأحفاده الآخرين، كما اشترى عدّة أصناف من الفاكهة وضعوها في غرفة الوالدة.
عندما سأل البعض الشّيخ فالح عن أسباب احتفاله بحفيده ابن عليّ، وعدم احتفاله بمولد ابنه الجديد قال:
أنا احتفلت كثيرا بأبنائي وأحفادي، حتّى أنّني لم أعد أعرف عددهم، وأحيانا لا أميّزهم عن بعضهم البعض. لكن حسين هذا الابن البكر لعليّ وزوجته وضحة ذات المكانة الخاصّة عندي، وكما قال المثل: “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد!”
سمعت ذلك وضحة فقالت:
أدام الله عزّك يا عمّي الشّيخ.
في حين أثارت فرحّة الشّيخ فالح بحفيده ابن عليّ غيرة زوجات أبنائه الآخرين، فهمست فضيّة ورسميّة في سرّهما:
إن شاء الله سنجلس قريبا في عزائك وعزائه.
لكنّ أكثر من فرح بابن عليّ كانت جدّته لأمّه، التي حضرت مولده، فمنذ أنّ شعرت وضحة بآلام المخاض، أخبر عليّ والدته بذلك، فهرعت مسرعة لبيت وضحة؛ لمساعدتها على المخاض، كما انطلق لاستدعاء حماته أمّ سلطان.
وما أن أطلق المولود الجديد صرخته الأولى، حتّى احتضنته جدّته لأمّه وهي تقول بصوت مرتفع:
لك الحمد يا ربّي، ولد يا وضحة ولد!
ابتسمت وضحة وغفت مرهقة من تعب المخاض الذي استمر أكثر من ليلة بطولها، بينما قالت زينب حماتها:
الحمد والشّكر لله، صبرنا وربّنا أعطانا.
عندما استيقظت وضحة بعد نوم سبع ساعات متواصلة، قدّمت لها والدتها الوليد وهي تقول:
أرضعيه يا أمّي، أرضعي حسين، لقد سمّاه جدّه فالح “حسين”.
احتضنته والدته بفرح كبير، وضعته على صدرها، نظرت في وجهه وقالت:
سبحانك ربّي إنّه يشبه خاله سلطان.
فقالت جدّته لأبيه:
“كادت المرأة أن تلد أباها أو أخاها”، هكذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم.
عندما اختلت أمّ سلطان بابنتها وضحة قالت لها:
الحمد لله أن رزقك ولدا! “فالأولاد أوتاد.”
فردّت وضحة: الحمد والشّكر لله على ما أعطانا، ولا فرق بين ولد وبنت.
فردّت والدتها عليها:
لا نريد البنات “فهمّ البنات للمات.”
ابتسمت وضحة ابتسامة عتاب وسألت باستحياء:
وهل أنّا همّ عليكم يا أمّي؟
الأمّ: أنت –على سلامتك يا ابنتي- أنت بنت شيوخ، وزوجك ابن شيوخ، ولا يعرف معنى مصاهرة الشّيوخ إلا شيوخ مثلهم، وبالتّالي أنت بنت دلال، ولا يليق بك إلا الدّلال.
وضحة مبتسمة: أنا أحبّ زوجي وهو يحبّني، وما كنّا لنختلف على خلفة ولد أو بنت، ولا تنسي أنّ زوجي شيخ ابن شيوخ أيضا.

زينب بنت سلطان
أبوها سلطان شيخ بن شيخ وحفيد شيخ وأمّها بنت شيخ، عندما تزوّجت الشّيخ فالح، كانت زوجته رقم سبعة، فقد سبق وأن تزوّج قبلها ستّ نساء، طلّق منهن ثلاثة، فقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره كانت زوجاته أربع نساء، وكلّما مرّت ثلاث أو أربع سنوات طلّق واحدة منهنّ وتزوّج الرّابعة، وهكذا إلى أن أصبح في الأربعين من عمره، فطلّق واحدة من زوجاته، وتزّوج زينب السّلطان، وكانت في الرّابعة عشرة من عمرها. فأصبحت الزّوجة المحظيّة، حيث لم يتزّوج بعدها، بنى لها بيتا لوحدها، وعاملها كما يليق ببنات الشّيوخ، فلم تشترك يوما بفلاحة الأرض أو حلب المواشي، وأبناؤها أيضا نالهم نصيب من حظوة والدتهم، فقد أرسلهم والدهم للدّراسة في أحد كتاتيب مدينة اربد.
لكنّها لم تنج من غيرة وكيد ضرائرها، غير أنّ سطوة الشّيخ فالح لم تترك لهنّ مجالا لإيقاع الأذى عليها، بل إنّ كلّ واحدة منهنّ كانت تتملّقها كي تحنّن قلب الزّوج عليهنّ، وبذكائها وفطنتها أدركت زينب ذلك، فسخّرتهنّ لخدمتها دون أن ينتبهن لذلك، وكانت الآمرة الناهية في الطعام والشّراب وتوزيع الخيرات من السّمن، اللبن والحنطة على ضرائرها وزوجات أبنائهنّ والحرّاثين والحصّادين.
******

وضحة بنت مناور
هي ابنة الشّيخ مناور سلطان السّلمان، فتاة حسناء ولدت وتربّت في بيت عزّ ودلال، تزوّجت من علي بن فالح النّمر وهي في الرّابعة عشرة من عمرها. كان يوم زفافهما يوما مشهودا، أصبح حديث المنطقة؛ لكثرة البذخ فيه، وقد كانت مميّزة في ملابسها الحريريّة المطرّزة، ومصاغها الذّهبيّ الذي يوازي أكثر من ضعف مصاغ أيّ قرينة من أقرانها، وهذا أمر طبيعيّ بالنّسبة لبنات الشّيوخ، كما أنّ والدها وأشقّاءها “نقّطوها” يوم زفاها عشرات الليرات الذّهبيّة، فكانت “تُعصّب” رأسها بقلادة ذهبيّة تحيط رأسها بشكل دائريّ، وكلّ ليرة تلاصق جارتها، وعند جبينها كانت تتدلّى ثلاثة صفوف من الليرات الذّهبيّة، عدا عن قلادة أخرى تتدلّى على صدرها.
ومن حظوتها عند والدها قبل زواجها تعلّمت الفروسيّة، فكانت رياضتها ركوب الخيول الأصيلة، ممّا دفع زوجها عليّ أن يقدّم لها فرسا أصيلة لا يمتطيها غيرها، فكانت عندما تزور بيت والديها أو أحد أقاربها تمتطي الفرس بخيلاء كما الفرسان المحاربين، حتّى وهي حامل كانت تمتطي الفرس، ولم تسمع كلام والدتها التي كانت تنهاها عن ركوب الفرس أثناء حملها خوفا على الجنين، وكانت تردّ عليها بدلال:
لا تخافي يا أمّي، فالحامي هو ربّنا.
ومن غيرة نساء القرية منها، كان بعضهنّ يتساءلن ساخرات:
إذا جاء هذه الفارسة المخاض وهي على ظهر الفرس، كيف سيكون حالها؟
أمّا حموها الشّيخ فالح فكان شديد الفخر بها، وكان يقول دائما:
لا يركب الأصيلة إلا الأصيلة مثلها.
أنجبت وضحة عددا من الأبناء الذّكور، وذات يوم وعندما بلغت العشرين من عمرها، وكانت أمّا لثلاثة أبناء سألتها والدتها:
ماذا ستكون ردّة فعلك إذا ما تزوّج عليّ زوجة أخرى؟
أجابتها وضحة بثقة وهي تضحك:
فليتزوّج، هذا أمر طبيعيّ، فغالبيّة رجال القرية متزوّجون من امرأتين أو أكثر، والشّيوخ وأبناؤهم متزوّجون في غالبيّتهم من أربع نساء، وأنا أحبّ زوجي وهو يحبّني، وإن تزوّج غيري فلن يحبّها أكثر منّي، ولن يفرّط بي فأنا أمّ أولاده، وستكون خادمة لي. وإذا كانت سعادته في الزّواج من أخرى فهذا أمر طبيعيّ، وسأسعد لسعادته!
*****
لم تستقبله وضحة كما العادة عندما عاد من مدينة اربد ممتطيا فرسه، وقد ملأ “الخُرج” باحتياجات البيت من موادّ غذائيّة، وقف أطفاله الثّلاثة فرحين أمام البيت، فقد اعتاد أن يعود إليهم ببعض الحلوى التي يطلبونها، قبل أن يترجّل عن ظهر الفرس سأل أطفاله:
أين أمّكم؟
– في البيت؟
– ماذا تفعل؟
– نائمة، فهي مريضة وقد رأيناها تتقيّأ.
– لا حول ولا وقوّة إلا بالله.
ربط رسن الفرس بنافذة البيت، أنزل الخُرْج، أعطى كلّ طفل من أطفاله حبّة برتقال يافاوي، ودخل البيت.
نظر الأطفال إلى البرتقال وهم يتمنّون شيئا آخر، سأله حسين ابنه البكر:
هل أحضرت لنا حلاوة يا أبي؟
بينما قال أحمد الابن الأوسط:
أنا لا أريد حلاوة، أنا أريد الحلقوم.
قبل أن يردّ عليهم الأب قال محمود الصّغير ابن العامين:
أنا أريد حامض حلو.
ابتسم لهم أبوهم وقال:
لقد اشتريت لكم كلّ ما تريدون.
ذهب إلى زوجته حيث ترقد على فراشها، رآها وقد اصفرّ وجهها، مسترخية على فراشها، شعرها على جانبي وجهها يتمدّد على الوسادة بدلال، سألها:
خير يا وضحة، ماذا جرى لك؟
ردّت بصوت خفيض مغناج لا يخلو من دلال:
لا أعرف، لكنّ معدتي تؤلمني، وهنا جلست عندما فاجأتها نوبة قيء، مدّت رأسها إلى “اللجن” الذي وضعته بجانبها؛ لتتقيّأ فيه، لكن لم يخرج من جوفها شيء، كانت تلهث متعبة، التفتت إليه وسألت:
هل أحضرت لنا برتقالا وليمونا يا أبا حسين؟
– نعم أحضرت برتقالا وليمونا يافاويّا تشتهيه النّفوس.
– الحمد لله، لا أعرف لماذا اشتهيت الحمضيّات هذا الصّباح؟
– أحضر لها برتقالة، أزال قشرتها بيديه، فلقها، جلس بجانبها وقدّمها لها، تناولتها بشهيّة بائنة، وقالت:
– يبدو أنّني حامل، وهذه فترة الوحام، فأنا لا أشتهي شيئا إلا عندما أكون في فترة الوحام.
ابتسم فرحا ببشرى الحمل الجديد وقال :
كلي، صحتين وعافية، وإذا ما طلبت نفسك شيئا فلا تتردّدي بطلبه، سأحضره لك فورا.
– تسلم يا أبا حسين، وربنا يحفظك لنا.
استأذن منها؛ ليربط الفرس في حظيرتها المعتادة.
وضحة في غاية السّعادة بحملها الجديد، فهي تمنّي النّفس بمولود ذكر جديد، وعلى رأي المثل “الاولاد اوتاد”، وهذا سيقوّي مركزها في الأسرة، وسيمنع زوجها عليّ من الزّواج بامرأة ثانية كما يفعل غالبيّة أبناء القرية.
ربط أبو حسين الفرس في حظيرتها، علفها تبنا وشعيرا، بعد أن أوردها ماء البئر؛ لترتوي من حوضه، مسّد على رقبة الفرس التي تألفه ويألفها، شعر بحبّه يتجدّد لزوجته وضحة، فهي زوجة ولود تنجب له أولادا، ليكونوا عزوة يسند بهم ظهره، فيزداد مهابة، خصوصا عندما يكبرون ويعملون معه في الأرض التي تعطي من خيراتها من يعطيها الرّعاية والعناية.
عاد إلى البيت فوجد زوجته في المطبخ تعدّ طعام الغداء للأسرة، شعر أنّها ليست بقواها المعتادة، رأى جسمها ذابلا كوردة انحنت من ثقل قطرات النّدى، فتتمايل بدلال، احتضنها، طبع قبلة على شفتيها، أمسك بيدها وقادها إلى فراشها وهو يقول:
عليك أن ترتاحي يا وضحة وأنا سأحضّر الطّعام.
ردّت وضحة عليه بدلال زائد:
لكنّك لا تعرف الطّبخ.
– لن أطبخ، سأضع للأولاد صحن حلاوة، سيأكلونه مع الخبز فهم يحبّون الحلوى.
– لا يوجد عندنا حلاوة.
– بل يوجد، فقد أحضرت معي من المدينة خمسة قوالب حلاوة، كلّ قالب يزن كيلوغرام.
– سلمت يداك، وأدامك الله ذخرا لنا.
– وضع الطّعام لأطفاله، جلس معهم حتّى شبعوا، وقال:
– العبوا دون فوضى؛ كي لا تزعجوا والدتكم فهي مريضة.
ملأ صحنا بالحلاوة ووضعه على طبق من القشّ بعد أن وضع بجانبه رغيفي خبز طابون، حمل الطبق وذهب إلى زوجته، وضعه أمامها بجانب الفرشة وهو يقول:
– سنتغدّى معا أنا وأنت يا وضحة، ردّت عليه:
– لماذا أتعبت نفسك يا قلبي.
ردّ عليها وهو يمدّ يده ليمسك بيدها كي يساعدها على الجلوس:
لست تعبا، المهمّ أن ترتاحي أنت، وأن تنتبهي لجنينك.
ابتسمت وهي تقول:
لا شهيّة لي بالطّعام، فمعدتي ليست على ما يرام.
ضحك وهو يقول:
لكنّ الجنين بحاجة إلى تغذية.
تحسّست بطنها وقالت بغنج:
لأجل الجنين ناولني حبّة برتقال، وقطعة خبز.
قام مسرعا، أحضر برتقالتين، قشّرهما بيديه دون استعمال السّكّين، قدمّهما لها وبسمة ترتسم على وجهه، وضعت في فمها لقمة خبز، وألحقتها بشرحة برتقال، انتبه لها فسألها باستغراب:
هل تغمّسين الخبز بالبرتقال؟
ضحكت وهي تقول: الخبز لذيذ مع البرتقال.
– لكنّي لم أشاهد أحدا من قبل يأكل الخبز والبرتقال.
– يبدو أنّك يا عليّ لم تنتبه لأخينا الفلسطينيّ الذي كان يأكل خبزا وبرتقالا عندما زرنا القدس، بعد زواجنا بأسبوع وصلّينا في مسجدها الأقصى.
صمت عليّ قليلا وقال:
فلسطين أرض البرتقال، وحبّك للبرتقال جعلني أفكّر بزراعة عدد من أشتال البرتقال والليمون في حديقة منزلنا، لكنّي لا أعرف إذا كانت الحمضيّات تنمو في أرضنا كما تنمو في فلسطين أم لا.
– طبعا تنمو في أرضنا أيضا، ففلسطين والأردنّ توأمان متشابهان، ومناخ الأردنّ يشبه مناخ فلسطين.
صمت قليلا وقال: سأزور فلسطين خلال أيّام بعد أن أطمئنّ على صحّتك، وسأحضر معي شتلة برتقال وشتلة ليمون، بعد أن أسأل عن كيفيّة زراعتهما وطريقة العناية بهما.
أمّ حسين: أنا بخير، وهذه فترة وحام ستمرّ سريعا، فلا تقلق عليّ.
إذن سأركب فرسي صباح الغد، وسأذهب إلى فلسطين من أمّ قيس.
– لا حاجة لك بالفرس، لأنّك ستحضر الأشتال. وهذا سيحتاج سيّارة.
– سأحضر شتلتي برتقال وليمون، سأضعهما في “خُرج” الفرس.
– بل ستحضر لنا أغراضا أخرى من فلسطين.
– أيّ أغراض توجد في فلسطين ولا توجد عندنا؟
ضحكت أمّ حسين وقالت:
فلسطين بلاد مقدّسة، هل نسيت أنّ المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين، وأحد المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرّحال، وهي معراج خاتم النّبيّين –صلى الله عليه وسلّم-، ومهد السّيّد المسيح عليه وعلى أمّه السّلام؟
– لم ولن أنسى ذلك، لكنّ الأردنّ وبلاد الشّام كلّها هي” أكناف بيت المقدس”، ونسأل الله أن يحمي فلسطين ومقدّساتها، فالإنجليز يستهدفونها ويريدون إقامة دولة لليهود عليها.
– خسئوا فكلّ العرب والمسلمين يفدون فلسطين ومقدّساتها بأرواحهم.
في اليوم التّالي امتطى عليّ فرسه وقصد بلدة أمّ قيس، وضع الفرس عند صديق له، عبر نهر اليرموك، وصل منطقة الحّمة الفلسطينيّة، استحمّ بمياهها المعدنيّة السّاخنة، وواصل المسير. مرّت به شاحنة فأشار إليها، وأقلّه السّائق إلى مدينة طبريّا، وهناك حلّ ضيفا على مزارع يعرفه في قرية سمخ على كتف البحيرة الشرقيّ الشّماليّ، فهو يبيع ما تنتجه أرضه من حمضيّات وخضار في مدينة اربد، وكانا يتبادلان الزّيارات، فيحلّ كلّ منهما ضيفا في بيت الآخر، يكرمه وينام عنده.
شرح عليّ هدفه من الزّيارة لصديقه أبي محمّد، فقال له:
طلبك بسيط يا أبا حسين، لكنّ موسم زراعة الأشتال يحلّ بعد شهر في منتصف شهر كانون أوّل -يناير-، وحينما يحلّ ذلك الموعد سأحضر لك ما تريد عندما أسافر إلى اربد بشاحنة محمّلة بالبرتقال، سيصلك طلبك إلى بيتك، وسأساعدك في زراعتها.
شكره عليّ واستأذن بالانصراف؛ ليعود إلى بلدته قبل مغيب شمس ذلك اليوم، لكنّ أبا محمّد أقسم بالله ثلاثا أن لا يسمح له بالمغادرة قبل مرور ثلاثة أيّام؛ ليقوم بواجب الضّيافة. وعندما ألحّ عليّ على المغادرة قال له أبو محمّد محتجا:
ما عرفناك بخيلا يا أبا حسين حتّى تهرب من واجب الضّيافة، فأنت شيخ بن شيخ، ومضافتكم مفتوحة دائما للضّيوف، عندما كنت أزورك لم تكن تأذن لي بالمغادرة قبل أن تقوم بواجب الضّيافة.
عليّ: لكن لي عذري يا رجل، فقد تركت زوجتي مريضة في البيت.
أبو محمّد: لا تخف عليها فربّنا هو الحامي، لماذا لم تأت بها معك؟
عليّ: قلت لك إنّها مريضة.
أبو محمّد: الله يشفيها.
وجد أبو حسين نفسه في مأزق لا يستطيع الخروج منه، فرضخ لرغبة صديقه أبي محمّد، وقال له:
نبيت ليلتنا هنا في طبريّا، وغدا سأذهب للصّلاة في المسجد الأقصى.
أبو محمّد: سأذهب بصحبتك، سنستقل شاحنتي، نصلي الظّهر والعصر في المسجد الأقصى ونعود بعدها إلى طبريّا.
أبو عليّ: على بركة الله.
عاد عليّ إلى بيته في كفر الرّمل في اليوم الرّابع لزيارته مدينة طبريّا، أوصله صديقه أبو محمّد بشاحنته حتّى أقرب نقطة لبلدة أمّ قيس، ومن هناك قطع نهر اليرموك، احتسى القهوة في بيت صديقه في أمّ قيس، وامتطى فرسه عائدا إلى البيت.
استقبلته زوجته عند باب البيت، أمسكت الفرس؛ لتعيدها إلى حظيرتها بعد أن قبّلت يد زوجها، سألها:
كيفك يا وضحة؟
– الحمد لله، نحن بخير ما دام خلق الله بعيدين عنّا.
أوصلت وضحة الفرس إلى “المدود”، ربطتها هناك وعادت بعد أن تلثّمت بطرف منديلها، سألها زوجها:
خيرا يا وضحة…لِمَ هذا اللثام؟ هل أغضبك أحد؟
– خلّيها على الله يا أبا حسين.
– لا إله إلا الله، هل أنت مريضة أم غاضبة يا امرأة؟ فأنتِ لست كما تكونين دائما، أم أنّ الوحام يؤثّر عليك؟
ردّت وضحة بلهجة تبدو منها علامات الغضب:
الوحام ليس مشكلة، فكلّ النّساء يحملن ويتوحّمن. لكن وحامي هذا المرّة جلب لي عداوات كنت في غنى عنها.
– ماذا تقولين يا امرأة، فأنا لم أفهم عليك شيئا؟
تنهّدت وضحة وقالت:
لقد سافرت أنت من هنا، ولم يكن أمامي خيار سوى أن أجمع قواي، للقيام بواجبات الأطفال والبيت، ذهبت إلى بئر الماء؛ لأملأ القِربة، وهناك فاجأتني نوبات قيء، رأتني أمّك عمّتي زينب؛ فركضت إليّ فرحة، أمسكت بيدي وأعادتني إلى البيت وهي تبسمل وتحمدل سعيدة وتقول:
هذه عوارض الوحام يا وضحة، استريحي في فراشك وأنا سآتيك بالماء.
وفعلا ملأت القربة ماء وأعادتها إلى البيت، وحضّرت طعاما للأطفال بنشاط تعجز عنه الشّابّات، نسأل الله أن يعطيها الصّحّة والقوّة.
وبعد ذلك اصطحبت أبناءنا معها وهي تقول:
ارتاحي يا أمّ حسين، لا تخافي على الأطفال، فهم معي وفي رعايتي، سأهتمّ بهم حتّى المساء، وسأعود وإيّاهم؛ لأنام عندك حتّى يعود زوجك.
شكرتها من صميم قلبي وأنا أدعو لها بالصّحّة وطول العمر.
أبو عليّ محتارا: لم أفهم حتّى الآن مِمّ أنت غاضبة.
تنهّدت زوجته وقالت:
ما أن غادرتنا العمّة أمّ عليّ حتّى جاءت زوجتا أخويك رسميّة وفضيّة، جاءتا ووجه الواحدة منهما كوجه الثّعلب الذي أفلت من أنياب الكلاب، دخلتا البيت دون أن تطرقا الباب، لم أشعر بهما إلا وهما تقفان بجانب فراشي، فسألت فضيّة بلهجة شامتة:
لماذا تنامين متمارضة؟ انهضي واتركي الدّلال حتى يعود زوجك.
قلت لها: أهلا بكما، أنتما من أهل البيت ولستا ضيفتين، أنا مريضة يا بنات النّاس.
هزّت رسميّة رأسها وقالت:
أنت في فترة وحام ولست مريضة، إن كنت تخافين الحمل والولادة فاعتزلي زوجك! ألا تشبعين من كثرة الأولاد؟
نهضت من فراشي ورددت عليهما:
صلّي انت وهي على النّبيّ، واجلسا لأغلي لكما قهوة.
لكنّهما انصرفتا وهما تردّدان:
قهوتك مشروبة، فأنت لا تحبّين رؤيتنا!
لم يكترث عليّ بما قالت زوجته، فقال:
لا تكترثي بهنّ، ولا تفكّري بما قلن، والحمد لله على كلّ شيء.
لكنّ أمّ حسين أضافت:
وعندما حضرت عمّتي أمّ عليّ أخبرتها بما جرى من فضيّة ورسميّة، فاحتضنت أطفالنا، قبّلتهم وبخّرتهم، وشتمت فضيّة ورسميّة وقالت:
هاتان تغاران منك؛ لأنّك تنجبين الأبناء وهما تنجبان البنات، وأقسمت بأن تؤدّبهما، وقالت:
“اقهر النّساء بالنّساء”. ووضعت يدها على غرّتها وقالت:
“مِن هالشّيبات إلا من بكرة أسعى لتزويج أزواجهنّ، وإلا لن أكون زينب”.
ضحك عليّ وقال:
الله يهب الأولاد والبنات لمن يشاء، والحمد لله على ما أعطانا، وعلى كلّ حال سأطلب من زوجيهما أن يؤدّب كلّ منهما زوجته، وأن لا يسمح لها بأن تتدخّل في شؤوننا.
عندما حلّ المساء وبينما كان الشّيخ فالح مع أبنائه وزوجاته يتسامرون، استدعت زينب ابنيها فهد زوج رسميّة، ومسعود زوج فضيّة وقالت لهما:
حالكما لا يعجبني، ولا يمكن أن تبقيا دون خلفة!
ضحك فهد وقال: كيف نحن دون خلفة ولكلّ واحد منّا بنتان؟
الأمّ: البنات لسن خلفة يا ولدي، “فابنك لك وبنتك لغيرك”، البنات يتزوّجن بسرعة، ويذهبن لبيوت أزواجهنّ، والمشكلة في زوجتيكما، ولو كنّ مثل بقيّة الزّوجات لأنجبن البنين!
مسعود: “كلّ واحد ونصيبه يا أمّي”، وهذا قدر الله، “ومن تنجب البنات تنجب البنين أيضا.”
الأمّ محتدّة: العمر يمرّ سريعا، وأنتم بحاجة إلى عزوة تسند ظهوركم، وتساعدكم على تكاليف الحياة.
فهد محتارا: ماذا تقصدين يا أمّي؟
الأمّ: الرّجل الخيّر متزوّج من امرأتين أو ثلاث أو أربع، وأنتما من خيار ربعكما، يجب أن يبحث كلّ واحد منكم عن زوجة جديدة!
مسعود ساخرا: وإذا لم نجد يا أمّي؟
الأمّ: لا تسخر من كلامي يا ولد، وكن رجلا كما أتمنّاك، ولا تنس أنّ والدك الشّيخ فالح تزوّج سبع نساء، فكن رجلا مثل والدك، وإذا أردتما فسأختار أنا لكلّ منكما زوجة. وإذا لم تنفّذا ما قلته لكما، فلستم أولادي وأنا لست أمّكم، ولا تنسيا أنّ زوجتيكما متمرّدتان حسودتان؛ لأنّهنّ لم ينجبن أبناء ذكورا، والمثل يقول: “لا يقهر النّساء إلا النّساء”، يعني الزّواج عليهنّ.
فهد: كما تريدين يا أمّي.
الأمّ: الله يرضى عليكما، هذا أملي بكما. هيّا بنا إلى أبيكما؛ لنستشيره بالأمر؛ كي يذهب بطلب عرائس لكما.
فهد: قبل أن نذهب للوالد دعينا نتّفق على العرائس، من يكنّ؟
الأمّ: محمّد المنصور عنده ابنتان واحدة عمرها 16 والثّانية 17.
مسعود عابسا: لماذا هذه السّرعة؟ دعونا نفكّر حتّى نهاية الأسبوع.
الأمّ غاضبة: يا خسارتك يا زينب! هل تريد أن تشاور زوجتك فضيّة يا ولد؟ منذ متى يشاور الرّجال النّساء، خصوصا في هكذا أمر؟ هل توجد امرأة توافق أن تكون لها ضرّة؟
مسعود: ومن قال لك أنّني سأتشاور مع فضيّة؟ لكنّ الزّواج ليس لعبة؛ ليتمّ بهذه السّرعة؟ ومن قال لكِ بأنّ محمّد المنصور سيزوّجنا بناته؟
الأمّ بلهجة غاضبة واثقة: لا تنس أنّك ابن الشّيخ فالح، ولا أحد يردّ له طلبا، “فخيره عامّ وطامّ.”
ورجال القرية جميعهم متزوّجون من امرأتين وأكثر.
فهد: توكّلي على الله يا أمّي.
مسعود: أنا لن أتزوّج هكذا، عندي امرأة سعيد بها، وأنا مكتف بها.
الأمّ ساخرة: “ربنا يطرح البركة في سعيدة لسعيد”، وإذا لم تسمع كلامي، فلن تعود ابني ولا أنا أمّك، ومن يوم غد لن تبقى في ديرتنا.
احتدّ مسعود غضبا وقال:
إن لم تتركوني وشأني، وإن وافق أبي على كلامك، فسأرحل عن بلاد أنتم فيها.
الأمّ: الله يسهّل طريقك، أين سترحل؟
مسعود: ستعلمون ذلك في حينه. قالها وخرج من الجلسة.
*****
لم ينم مسعود تلك الليلة، فكّر كثيرا بما قالته أمّه، لم يقتنع برأيها، رأى أنّ السّعادة الزّوجيّة لا تكمن في تعدّد الزّوجات، ولا بكثرة الأبناء الذّكور، فهو راض وسعيد بنصيبة، بل إنّه يرى أنّ البنات أكثر حنانا من البنين، وقد عرف فضيلة الأبوّة من بناته، ولا خيار لزوجته بإنجاب البنات، خاف أن يوافق أبوه على رأي أمّه، عندها سيجد نفسه في فخّ لن يستطيع الإفلات منه، فقرّر أن يرحل إلى عمّان مع ساعات الفجر الأولى، وإذا ما وجد مصدر رزق، فسيعود لاصطحاب زوجته وابنتيه.
عرض خطّته بالرّحيل على زوجته دون أن يخبرها عن أسبابه، حاولت ثنيه عن رأيه، تودّدت إليه قائلة:
أنا حامل في شهري السّابع، ومن غير اللائق أن أنجب وأنت غائب عن البيت.
قال لها بلهجة حازمة:
لا تخافي، فحولك أناس كثيرون، وكلّهم من أبناء العائلة.
ردّت عليه تسأل:
ماذا سأجيبهم إذا سألوني عنك؟
ردّ عليها ببرود:
قولي لهم: لا أعرف.
فقالت محتارة: قد يفتقدونك، وقد يبحثون عنك.
– قولي لهم: سافر إلى عمّان، ولا تضيفي شيئا على ذلك، وفي الوقت المناسب سأخبرهم عن مكان وجودي، وأنا لست طفلا كي يقلقوا عليّ.
مشى على قدميه باتّجاه عمّان، مرّت به قرب مدينة اربد شاحنة، فأشار لسائقها بالتّوقّف فتوقّفت، وسأل السّائق:
هل يمكنني السّفر معك إلى عمّان؟
– حيّاك الله، سنتسلّى في الطّريق.
أنزله السّائق في سوق الخضار، مشى وسط المدينة دون تحديد هدف للوصول إليه، مرّ برجل مسنّ يجلس على مدرّجات المسرح الرّومانيّ، طرح عليه السّلام وسأل:
أين يمكن الحصول على عمل هنا يا عمّ؟
طلب منه الرّجل أن يجلس بجانبه، وسأله؟
من أين أنت يا عمّ؟
– أنا من قرية كفر الرّمل.
– لا يوجد أعمال هنا يا ولدي، فالنّاس يعتاشون على فلاحة الأرض وتربية المواشي، لكن بإمكانك الالتحاق بالجيش.
– بالجيش؟ هذه فكرة لم تخطر لي على بال، كيف يمكنني الالتحاق بالجيش؟
– اذهب إلى القيادة في “العبدلي” وسجّل هناك، وستفهم الباقي منهم.
نام مسعود ليلته في المدرّج الرّومانيّ، وفي الصّباح كان أمام “مكاتب” الجيش، قابل أحد الضّباط، الذي أخذ تفصيلاته، وعندما سجّل اسمه سأله:
هل انت ابن الشّيخ فالح النّمر؟
– نعم أنا ابن الشّيخ فالح؟
– تشرفنا بك، هل تجيد القراءة والكتابة؟
– نعم فقد درست ستّ سنوات في المدرسة.
– هل أنت على استعداد لدخول دورة للضّبّاط لمدة ثلاثة أشهر.
– نعم…وأمنيتي أن أكون ضابطا.
– حسنا سنرسلك بعد قليل مع مجموعة من الشّباب إلى معسكر التّدريب في منطقة “خوّ”.
– شكرا لك.
اغتبط مسعود كثيرا، ورأى نفسه ضابطا يرتدي الزّيّ العسكريّ، يأمر وينهى، وبعد فترة التّدريب سيعود إلى قريته ضابطا يحترمه الجميع، وسيفتخر به والداه، زوجته، بناته، والقرية كلّها.
أظهر مسعود نباهة لافتة أمام مسؤولي المعسكر، حتّى أنّ ضابطا انجليزيّا قال للضّبّاط الأردنيّين وهو يشير لمسعود:
هذا شابّ نبيه، يمكننا الاعتماد عليه، خصوصا وأّنّه يعرف الكتابة والقراءة، سندرّبه في المعسكر مع بقيّة الشّباب، وسندرّبه أيضا على سياقة السّيّارات.
في غياب زوجها مسعود أنجبت فضيّة مولودا ذكرا، وكان ذلك في اليوم التّالي لزفاف فهد على فاطمة بنت محمّد المنصور، حيث كانت والدته زينب ترقص وتزغرد فرحة، بينما كانت زوجته الأولى رسميّة تكتم غضبها؛ كي لا تتضاعف المشاكل عليها، ولعلمها بأنّ أحدا لن يسمع لها صوتا أو يتعاطف معها.
ليلة دخلة فهد على عروسه الجديدة، لم تستطع فضيّة المشاركة في الرّقص والغناء، فقد كانت على شفا المخاض. عندما مرّت بها حماتها زينب التفتت إليها شامتة وقالت بسخرية قاتلة:
ابقي مكانك لا تتحرّكي؛ كي لا تسقط العروس التي في بطنك.
فردّت فضيّة بانكسار ودمعها ينساب على وجنتيها:
عروس أم عريس، كلّه من الله.
زينب: انجابك للبنات هو من جعل مسعود يهرب من الدّيار، لكن لا تحسبي نفسك أفضل من رسميّة، فلن تطول غيبة مسعود، وسيعود إليك بضرّة على يديها طفل ذكر.
خرجت فضيّة من الجلسة غاضبة وهي تحوقل، وفي الصّباح وقبل أذان الفجر بقليل أنجبت طفلا ذكرا، لم يساعدها في المخاض سوى سلفتها رسميّة، التي زغردت عندما رأت المولود الجديد، وقالت:
العُقبى لي يا ربّ.
فأمّنت عليها فضيّة قائلة: آمين يا ربّ العالمين.
سمعت الحماة زينب الزّغرودة تنطلق من بيت مسعود، فهرعت مسرعة تقول:
ماذا حصل يا ناس؟ هل فطنت فضيّة أن تزغرد اليوم في زفاف فهد؟ يبدو أنّها مثل “اللي راح يحجّ والنّاس راجعة”! وعندما دخلت البيت، تفاجأت بوجود رسميّة، فسألتها غاضبة:
ماذا جرى يا امرأة؟
ردّت رسميّة عليها ببرود وقالت:
الله يسعد صباحك يا عمّتي، ألف مبروك، فضيّة خلّفت ولد.
بهتت زينب وسألت مستغربة:
ولد؟ هل قلت ولد؟
دخلت مسرعة، أمسكت بالمولود، رفعت ثوبه لتتأكّد أنّه ولد! قبّلت جبينه وأعادته لأمّه وهي تقول:
الحمد لك يا ربّي، وإن شاء الله سيعود أبوك سالما غانما؛ ليفرح بك.
فسألت رسميّة تستفزّ حماتها:
وهل من حقّ أمّه أن تفرح به أيضا؟
فردّت زينب: “الأبناء لآبائهم، والنّساء مجرّد “بطن حفِظ نَفِض”.
عادت رسميّة تسأل ساخرة: وهل البنات لآبائهنّ كما الأولاد؟
فصاحت بها حماتها: انصرفي إلى بيتك، فقد أطلت لسانك كثيرا.
******
كانوا يجلسون أمام البيت؛ ليستمتعوا بنسيم ساعات ما بعد العصر في ذلك اليوم القائظ، عندما رأوا جيبا عسكريّا قادما إليهم عبر الطّريق التّرابيّ الموصل للبيت، فصاح الأطفال:
سيّارة….هذه سيّارة.
أطلّت النّساء والرّجال وأعناقهم مشرئبّة تجاه السّيّارة القادمة، فهذه هي السّيّارة الأولى التي تدخل القرية، ما عدا الشّيخ فالح، فقد بقي متّكئا على كوعه الأيمن، لم يتزحزح من مكانه، فلا يليق بالشّيوخ أن يتصرّفوا كالرّعاع، مع أنّه يتوق لرؤية سيّارة، إلا أنّه كان يفاخر بفرسه الأصيلة، وعندما يرى سيّارة كان يقول:
“والعاديات ضبحا” ويردّد الحديث النّبويّ الذي سمعه من إمام المسجد الأمويّ في الشّام “الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.”
توقّفت السّيّارة أمام بيت الشّيخ فالح الذي وقف هو وأبناؤه لاستقبال من فيها، وإذا بمسعود يترجّل منها بزيّة العسكريّ، يتدلّى من حزامه مسدّس، وفي يده عصا عسكريّة قصيرة يحملها الضّباط.
قبّل مسعود أيدي والديه، وصافح الآخرين، في حين اختفت زوجته فضيّة قليلا؛ لتتزيّن بما تيسّر لها من موادّ تجميليّة، كحّلت عينيها، ودهنت وجهها بقليل من زيت الزّيتون، كما نظّفت أسنانها بالسّواك، غسلت وجه طفلها الذي أسماه جدّه “عاكف”، وألبسته ثوبا دون ملابس داخليّة؛ لأنّها غير متوفّرة أصلا، حملته وخرجت مختالة كالطّاؤوس، قبّلت يد زوجها، وضعت الطفل بين يديه وهي تقول:
هذا ابنك عاكف يا مسعود.
زاد خفقان قلب مسعود من شدّة الفرح بابنه، شعر أنّه يحمل قلبه بين يديه، قبّل يدي الطّفل ووجنتيه وهو ينظر نظرة عتاب إلى والدته، اقتربت منه ابنتاه، قبّل وجناتهما، وضع الصّغرى على فخذه الأيمن، بينما احتضن عاكف على صدره الأيسر، أجلس ابنته الكبرى على يمينه، ولفّ ذراعه حولها.
بعد الانتهاء من السّلام قال الشّيخ فالح بلهجة الواثق العالم بخفايا الأمور:
لم أحمل همّا لهروبك يا مسعود، مع أنّني فكرت بذلك كثيرا، وأقنعت نفسي بأنّك ستعود سالما غانما، وها أنت تعود ضابطا أفاخر بك، فقد كنت أحلم منذ تأسيس الجيش أن يكون أبنائي جنودا يذودون عن حمى الوطن.
فرح مسعود بكلام والديه، استأذن منهم كي يستحمّ، وليغيّر ملابسه العسكريّة، وكانت هذه حجّته كي يختلي بزوجته التي قفزت مسرعة إلى بيتها.
بعد دقائق قليلة أرسل الشّيخ فالح أحد أحفاده؛ ليستدعي مسعود، وعندما طرق الباب وهو يقول بصوت مرتفع:
عمّي مسعود.
ردّت عليه فضيّة زوجة مسعود بصوت هادئ:
عمّك نائم يا ولد.
ردّ الولد: جدّي يريده.
قلت لك أنّه متعب ونائم.
احتضنها مسعود مبتسما ومعجبا بفطنتها.
*****
تناول الشّيخ فالح ربابته، تفقّد وتر قوسها، جرّه بضع مرّات على وتر الرّبابة كأنّه يمتحنها، اعتدل في جلسته وظهره مسنودا على حائط المضافة، جرّ على الرّبابة لحنا حزينا، وقال:
يوم كانني مصروع صايبني جنون
سال دمعي فوق وجناتي طفيح
وسقاني البين كاسات الغبون
فالح السّمرين هالوجه الفليح
بالعدى فتاك ربعه يشهدون
أهل حوارة مع إربد والصّريح
والحصن والنعيمة مع أهل ايدون
لا تهابوا الموت.. من هابه قبيح
من يموت اليوم للجنّة مضمون
سالت دموع الشّيخ على وجنتيه وهو يصدح بكلماته الحزينة على لحن الرّبابة الحزين، وضع ربابته بجانبه وخاطب أبناءه قائلا:
الله يرحم الشّيخ كايد المفلح، كان رجلا والرّجال قليل.
سأله ابنه زيد ابن الثّانية عشرة:
ومن يكون الشّيخ كايد المفلح؟
قبل أن يجيب الشّيخ عليّ ابنه دخل مسعود المضافة معتدل القامة وكأنّه في استعراض عسكريّ، فقال شقيقه فهد مازحا:
أهلا بحضرة الضّابط.
أمّا الشّيخ مفلح فقد قال لمسعود:
اسمع يا ولدي، المنطقة على “كفّ عفريت”، فقد خرّبها الإنجليز والفرنسيّون، وهم يخطّطون لذبح وطرد أهلنا الفلسطينيّين غرب النّهر لبناء دولة يهوديّة، وهذا يعني أنّ المنطقة ستدخل صراعات وحروبا لا نهاية لها، لذا فقد أحسنت صنعا عندما التحقت بالجيش، فأن تدخل حربا وأنت مدرّب خير من أن تدخلها كيفا تيسّر.
سأل فهد: كيف تعرف ذلك يا أبي؟
– كلّ العالم يتحدّث عن ذلك، وثورة البراق لا تزال مستمرّة، والقلاقل تعمّ فلسطين من نهرها إلى بحرها. الإنجليز أساس الفتنة، فهم يسهّلون الهجرات اليهوديّة، يسلّحون اليهود، ويعدمون الفلسطينيّ على رصاصة فارغة.
مسعود: نعم، كلام الوالد صحيح…الاستعداد واجب.
الأب: ليت العديد من الشّباب يلتحقون بالجيش، سكت قليلا وعاد يقول:
الله يرحمك يا شيخ كايد.
فعاد زيد يسأل: ومن هو الشّيخ كايد؟
ردّ الشّيخ فالح:
“ولد الشيخ كايد بن مفلح بن جبر بن فندي بن مصطفى بن إبراهيم بن أحمد بن عبيد بن محمد بن عبيد عبيدات عام 1868م في قرية كفر سوم قضاء اربد، وكان شخصية مهيبة نافذة وزعيما مرموقا في ناحية لواء بني كنانة، كما كان شخصيّة معروفة في الأردنّ، فلسطين وجنوب سوريّا، سطع نجمه في المؤتمر الذي عقد في عجلون نهاية العام 1917 وحضره مندوبون من الأردنّ وفلسطين؛ لتنسيق المواقف ومواجهة وعد بلفور.
نسّق مع شيوخ القبائل في الأردنّ وجنوب سوريّا من أجل الدّفاع عن فلسطين التي يهدّدها خطر ما عاد خافيا على أحد.
كان يغير مع عدد من الشّباب على معسكرات الإنجليز والمستوطنات اليهوديّة في منطقتي طبريّا وبيسان.
وفي 20 نيسان-ابريل- 1920 وأثناء معركة حامية الوطيس قريبا من طبريّا سقط شهيدا، فحمل رفاقه جثمانه، وأعادوه إلى مسقط رأسه عبر الجولان السّوريّة. وكان أوّل أردنيّ يروي بدمائه تراب فلسطين.
شيّع جثمانه في جنازة مهيبة، وحضر عزاءه شيوخ وزعامات مختلف العشائر والشّباب الأردنيّين الذين طالبوا بالثّأر.
فأصبح أيقونة جهاديّة في بلاد الشّام التي تقاسمها الفرنسيّون والإنجليز –حسب اتفاقات سايكس بيكو-.”
******

التفت الشّيخ فالح إلى ابنه مسعود وسأل:
هل هناك شروط للالتحاق بالجيش يا ولدي؟
– الجيش في بداية تكوينه يا أبي، وبابه مفتوح لمن يرغب، والشّرط الوحيد أن يكون الشّخص لائقا صحّيّا، لأنّ التّدريب شاقّ.
وهنا دخل الشّيخ مناور وشقيقه أحمد خالا مسعود، فقد جاءا لتهنئته بسلامة العودة، وبالتحاقه بالجيش.
أمضوا ليلتهم يتحدّثون عن الجيش، وعن كيفيّة الالتحاق به، ومّما قاله الشّيخ مناور:
جميل أن يلتحق الشّباب بالجيش.
فسأل شقيقه أحمد: إذا التحق الشّباب بالجيش فلمن نترك فلاحة الأرض؟
فقال الشّيخ فالح بلهجة النّاصح:
قسم من الشّباب يلتحق بالجيش، والباقون يعتنون بالأرض والماشية.
لكنّ الشّيخ مناور عاد يتساءل:
وهل سيكون للإلتحاق بالجيش فائدة ما دام قادته من الإنجليز؟
فردّ عليه مسعود بهدوء:
يا خال…شبابنا الذين سيلتحقون بالجيش هم من سيخلّصوننا من الإنجليز.
أشعل الشّيخ مناور غليونه، وسأل مسعود وهو يعضّ عليه:
هل تستطيع مساعدة أبنائنا للإلتحاق بالجيش؟
مسعود: طبعا أستطيع، أمهلوني حتّى أستلم منصبا، فقد أنهيت التّدريب في معسكر “خوّ” يوم أمس، وإجازتي أربعة أيّام فقط، وعندما سأعود سيتمّ تسليمي مركزا في مكان ما، وعندها سأستطيع التّصرّف.
كان الشّيخ فالح في غاية السّعادة وهو يستمع للحديث بين ابنه مسعود والشّيخ مناور، فمسعود أوّل جنديّ عربيّ من منطقتهم يرونه، عاد إليهم بزيّ عسكريّ يقود سيّارة عسكريّة، هذه السّيّارة التي حضرت نساء القرية وأطفالها قبل رجالها ليروها، بعضهم كان يتحسّسها من الخارج كأنّه يتحسّس ظهر شاة سمينة.
عندما توقّف الشّيخ مناور عن أسئلته لمسعود، عضّ الشّيخ فالح على غليونه، طلب من أحد أبنائه أن يصبّ القهوة من جديد، تنحنح وقال:
الله يرحمك يا شيخ كايد المفلح.
فقال الحضور: تعيش.
الشّيخ فالح: لقد أدرك الشّيخ كايد لعبة الإنجليز والفرنسيّين منذ البداية، فحشد الجموع، وجمع الشّباب، وباشر بقتال الإنجليز والمستوطنين اليهود، فأكرمه الله بالشّهادة.
الشّيخ مناور: الشّيخ كايد- الله يرحمه- من أهلها، وهو وأمثاله لا يسكتون على ظالم.
قال مسعود بلهجة هادئة تليق بضابط:
الشّيخ كايد فتح الطّريق، وعلينا المسير على خطاه.
قالت زينب وعاطفة الأمومة تسيطر عليها:
وحّدوا الله، هل أنجبنا أبناءنا للموت كما فعل الشّيخ كايد؟
ردّ عليها ابنها مسعود: الشّيخ كايد –رحمه الله- قدوة تقتدى، والأعمار بيد الله،
” وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.” والدّفاع عن الوطن واجب.
الشّيخ مناور موجّها كلامه لمسعود:
بارك الله بك يا خال، والله سبحانه وتعالى يقول:” وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.”
الشّيخ فالح: الأخبار القادمة من القدس غير مطمئنة، فهناك اشتباكات عند حائط البراق، سقط فيها قتلى وجرحى.
الشّيخ مناور: ما رأيكم أن نزور القدس، نبقى فيها عدّة أيّام، نصلي في الأقصى، ونطّلع على ما يجري بشكل مباشر؟
الشّيخ فالح: هذا اقتراح جيّد، وكي لا ينتبه الإنجليز لنا سنذهب مجموعات، بما في ذلك النّساء والأطفال، وأقترح أن نسافر إليها يوم الخميس القادم، نبيت فيها، ونصلّي صلاة الجمعة.
الشّيخ مناور: هذه فكرة جيّدة، على بركة الله.
ثلاثة من زوجات الشّيخ فالح، وعشرة من بناته وأبنائه، مع أزواجهم وأطفالهم قالوا بأنّهم سيشاركون في هذه الزّيارة، بينما طلب الشّيخ من ابنه حسّان أن يستعدّ لمرافقتهم في رحلتهم إلى القدس.
التفتت زوادة أمّ حسّان إلى زوجها الشّيخ فالح وسألت:
ومن سيعتني بالماشية والدّواب إذا ذهبنا جميعنا؟ لنترك حسّان في البيت.
التفت إليها الشّيخ فالح ورماها بنظرة عتاب دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، ففهمت أنّه يزجرها عن هكذا كلام، فطأطأت رأسها حياء وندما.
بعد أن انصرف الجميع، لم يبق في المضافة غير الشّيخ فالح وزوجته زوادة، أغلقت باب المضافة وجلست بجانبه، فقال لها عاتبا:
لقد حذّرتك مرّات كثيرة من مغبّة الاعتراض على أيّ شيء أقوله، خصوصا عندما نكون في حضرة أناس آخرين، لكن يبدو أنّ “الطّبع غلب التّطبّع”، وهذه قضيّة ليست في صالحك.
زوادة: ليقطع الله لساني إن اعترضت على شيء تقوله، فأنت الآمر النّاهي في هذا البيت عليَّ وعلى غيري، ومعاذ الله أن أخالف لك أمرا.
– هل فهمتِ مرادي عندما طلبتُ من حسّان أن يستعدّ لمرافقتنا في رحلتنا إلى القدس؟
ردّت مكسوفة: بغضّ النّظر عن مرادك، لكن لشدّة فرحتي بزيارة القدس والصّلاة في المسجد الأقصى، كنت حريصة على ترتيب كلّ شيء بعدنا، كي لا نقلق على شيء في غيابنا.
تنهّد الشّيخ فالح تنهيدة عميقة، ابتلع غضبه، ونفخ زفيرا طويلا وهو يقول:
لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، “لا يصلح العطّار ما أفسد الدّهر.”
اسمعي يا امرأة، هذه المرّة سأسمحها لك، لكنّها المرّة الأخيرة.
وأضاف: أنا طلبت من حسّان مرافقتنا في هذه الرّحلة، لأنّه أصبح رجلا، فهو في السّابعة عشرة من عمره، ولنا صديق من قرية “سمخ” قرب طبريّا، وهو الرّجل الذي زرع لنا البرتقال والليمون أمام البيت، وهذا الرّجل نعرفه ويعرفنا أبا عن جدّ، وبيننا وبينهم مصاهرة قديمة، وسبق أن رأيت عنده ابنة مزيونة في عمر حسّان، وإن كتب الله نصيبا له بها، سنطلبها له، وعندما ننهي زيارتنا للقدس، سيعود مرافقونا إلى “الدّيرة” وسأذهب أنا وأنت وحسّان لزيارة صديقنا في “سمخ”، وإن شاء الله ستكون من نصيبه.
غمرت الفرحة قلب أمّ حسّان وقالت:
أدامك الله تاجا فوق رؤوسنا، فأنت صاحب قلب وعقل كبيرين، وتعرف مصلحة الجميع.
صباح الخميس تجمّع العشرات من بنات وأبناء كفر الرّمل، يتقدّمهم الشّيخ فالح، ومثلهم من بنات وأبناء كفر السّمن بقيادة الشّيخ مناور، مرّ الشّيخ مناور وجماعته بقرية كفر الرّمل، وهناك أرسل أحد الشّباب ليخبر الشّيخ فالح بأنّهم سيلتقون في باحة المسجد الأقصى.
اتّفق الشّيخ فالح مع صاحب شاحنة، كي تحمل النّساء والأطفال وبعض الشّباب من باب بيته، لتوصلهم إلى القدس عبر جسر اللنبي، بينما امتطى هو واثنان من رجالات القرية خيولهم، ليعبروا النّهر عبر جسر دامية، ومن هناك إلى القدس مرورا بمدينة أريحا، وهذا ما فعله أيضا الشّيخ مناور.
لم يشارك عليّ بن الشّيخ فالح وزوجته وضحة في هذه الرّحلة بناء على طلب وضحة، التي اقترحت أن يزورا القدس هما وأبناؤهما في مرحلة لاحقة.
التقى أبناء القريتين في باحة المسجد الأقصى، كانوا واجمين خاشعين أمام جلال المكان، تساقطت دموعهم فرحا بالوصول إلى أقرب نقط من الكرة الأرضية للسّماء، لهجت قلوبهم بالدّعاء إلى الله. وهناك قادت زينب زوجة الشّيخ فالح نساء وأطفال القريتين، فهي تعرف المكان؛ لأنّه سبق وأن زارته أكثر من مرّة، ذهبت بهم إلى الرّواق الغربيّ للمسجد حيث جزء منه مسقوف، جهته الشّرقيّة قائمة على أعمدة؛ لتبقى مفتوحة على المسجد، وضعن أغراضهنّ، تناولوا طعامهم، ثمّ طلبت من الأطفال أن يلعبوا في باحات وساحات المسجد العظيم، في حين قادت النّساء إلى الجزء المخصّص من “مطاهر المسجد” للنّساء، وقالت لهنّ:
توضّأن استعدادا لدخول مسجد “قبّة الصّخرة” و”المسجد القبليّ” للصّلاة.
كانت أعناق الجميع مشرئبّة إلى قبّة الصّخرة، انبهروا بزخرفتها وبقبّتها، رفعوا أياديهم تحت بوّابة السّماء طالبين العفو والمغفرة.
في مسجد قبّة الصّخرة طلبت زينب منهنّ أن يصلّين ركعتين “تحيّة المسجد”، وأن يجلسن انتظارا لصلاة العصر جماعة.
وما أن انتهين من صلاة الرّكعتين، حتّى تقدّمت منهنّ امرأة مقدسيّة محجّبة، رحّبت بهنّ، شرحت لهنّ عن تاريخ المسجد، ومّما قالته لهنّ وهي تشير إلى الصّخرة وسط المسجد:
أنتنّ الآن في قبّة الصّخرة التي صعد منها خاتم النّبيّين في حادثة “الإسراء والمعراج” إلى السّماوات العليا، مصداقا لقوله تعالى “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.”
وهي جزء من المسجد الأقصى، وهذه الباحات كلّها جزء من الأقصى، وتبلغ مساحتها 144 دونما وربع الدونم.
والأقصى كما تعلمن قبلة المسلمين الأولى، وهو أحد المساجد الثّلاث التي تشدّ إليها الرّحال، مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “لا تُشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.” وثواب الصّلاة في المسجد الأقصى عظيم: قال صلى الله عليه وسلم: “فضل الصّلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة.”
سألت زينب بصوت منخفض خاشع:
من بنى هذا المسجد؟
ردّت المقدسيّة بلهجة العارف الواثق:
الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان بنى قبّة الصّخرة، وجدّد بناء المسجد القبليّ أيضا.
وهنا ارتفع الأذان مناديا لصلاة العصر، فقالت السّيّدة المقدسيّة:
دعننا الآن نستمع للأذان، وبعدها سنصلّي جماعة خلف الإمام.
بعدها اتّجهت زينب وضرّتها زوادة إلى المغارة التي في الصّخرة وهنّ يحوقلن، ويسبّحن بحمد الله. دخلن المغارة وهن يبسملن خاشعات، قلوبهنّ تخفق من قداسة المكان، لحق بهنّ عدد من النّسوة حتّى امتلأت المغارة الصّغيرة، فالتفتت إليهنّ زينب وقالت:
كلّ هذا المكان مسجد يا بنات النّاس، وحتّى الباحات والسّاحات الخارجيّة كلّها مسجد، فلا تتزاحمن، فالمكان واسع جدّا، ولمّا لم يستمعن لها، خرجت من المغارة تحوقل، وأدّت صلاتها مع الأخريات تحت القبّة المزخرفة.
بعد انتهاء صلاة العصر، وقفت المرأة المقدسيّة وخاطبت النّساء قائلة:
من تريد منكنّ معرفة المزيد عن المسجد العظيم فلتتبعني. لحق بها عدد من النّساء، بينما ذهبت الأخريات يتفقّدن أطفالهن الذين يلعبون في ساحات المسجد، فوجدنهم يتقافزون ويلعبون فرحين، وقد انضمّ إليهم عدد من الأطفال المقدسيّين، فتركنهم ولحقن بالأخريات.
عندما نزلن الدّرج من تحت البوائك الواقعة بين قبّة الصّخرة والمسجد القبليّ، رأين “الكأس” الذي يتوضّأ منه الرّجال، فسألت إحداهنّ:
لماذا لم نتوضّأ هنا بدلا من “المطاهر”؟
ردّت عليها المقدسيّة بصوت هادئ:
هذا المكان مكشوف ويتوضّأ به الرّجال فقط.
ولمّا وصلن أمام المسجد القبليّ، رأين درجا واسعا يهبط تحت المسجد، فقالت لهنّ المقدسيّة:
هذا هو المسجد القديم، وهو عبارة عن نفق كبير، كان الخلفاء الأمويّون يدخلون المسجد لآداء الصّلاة فيه، وهم خارجون من قصورهم التي كانت قائمة تحت محراب المسجد مباشرة، خارج سور المدينة التّاريخيّ.
دخلن المسجد القديم مبسملات مهلّلات مكبّرات. وهناك سألت زينب:
متى بني سور القدس؟ ومن بناه؟
المقدسيّة: “بناه السّلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ -الذي حكم المدينة ما بين 1520 و1566 ميلادية- على أنقاض السّور القديم، بناه بين عامي 1535م-1538م. يبلغ طول السور 3662 مترا، في حين يتراوح ارتفاعه بين 11.6 و12.2 مترا. وعلى السّور 34 برجا للمراقبة والدّفاع عن المدينة، وبه أحد عشر بابا، سبعة منها مفتوحة وهي: باب الأسباط، باب العامود، باب الساهرة، الباب الجديد، باب الخليل، باب المغاربة، باب النّبيّ داود، وأربعة مغلقة.”
خرجت النّساء من المسجد القديم وقلوبهن تنضح إيمانا وخشوعا، قادتهنّ المقدسيّة إلى المسجد القبليّ، مررن على منبر صلاح الدّين، تحسّسنه وهن يكبّرن، ثمّ اتّجهت بهنّ إلى المصلّى المخصّص للنّساء في الجانب الغربيّ من المسجد.
شكرت زينب المرأة المقدسيّة بالأصالة عن نفسها ونيابة عن زميلاتها، على المعلومات القيّمة التي قدّمتها لهنّ عن جوانب من المسجد الأقصى، فردّت عليها المقدسيّة:
هذا واجبنا تجاه من يزورون المسجد الأقصى، وأنا جاهزة لتقديم أيّ خدمة أو مساعدت تحتجنها، وقبل أن نفترق ليتكنّ ترافقنني إلى “تكيّة” المدرسة التّنكيزيّة، التي تقدّم الطّعام مجانا لزائري المدينة.
ردّت زينب قائلة:
بوركت يا خالة، طعامنا معنا، وما نحتاجه سنشتريه من أسواق المدينة، وليبق طعام “التكيّة” للفقراء والمحتاجين.
المقدسيّة: لا تفهميني خطأ يا خالة، ما قصدت أنّكنّ فقيرات-لا سمح الله-، فالعزّ بادٍ على وجوهكنّ، وتكايا المدينة تقدّم الطّعام لزائريها بغضّ النّظر إن كانوا محتاجين أم لا.
تمتمت زينب بكلمات تشي بأنّها شعرت بالإهانة، فحاولت أمّ سلطان صرفهنّ عن الموضوع فسألت المرأة المقدسيّة:
أين تعلّمت يا خالة؟
– تخرّجت من الأزهر الشّريف، وقرأت آلافا من الكتب الموجودة في مكتبة المسجد الأقصى، وفي المكتبة الخالديّة القريبة من هنا.
سألت أمّ سلطان بلوعة: ومن لا تعرف القراءة والكتابة، كيف يتأتّى لها قراءة تاريخ المقدّسات على الأقلّ؟
– من يسأل من هم أعلم منه سيجد عندهم الجواب.
– هل أنت موظّفة هنا في المسجد الأقصى؟
ابتسمت المقدسيّة وقالت:
لست موظّفة، لكنّني أتطوّع طمعا بالمغفرة؛ لتعريف زائري المسجد بتاريخه؛ كي يساهموا في الحفاظ عليه.
– جازاك الله خيرا عنّا يا أختاه، ولولا اقتراب الغروب لطمعنا بكرمك كي ترشدينا إلى حاط البراق.
أشارت المقدسيّة إلى الحائط الغربيّ للمسجد وقالت:
هذا هو حائط البراق من داخل المسجد، ويمكنكنّ الوصول إليه من الخارج من ذاك الباب، وأشارت إلى الباب المؤدّي إلى حارتي الشّرف والمغاربة.
صلّين المغرب جماعة في الجزء المخصّص للنّساء من المسجد القبليّ، ودّعتهن المقدسيّة على أمل لقائهنّ في اليوم التّالي، وعادت إلى بيتها الواقع في حارة السّعديّة.
أمّا النّساء الزّائرات فعدن مسرعات إلى حيث وضعن أغراضهنّ، في الرّواق الغربيّ للمسجد، قريبا من المجلس الإسلاميّ الأعلى، جمعن أطفالهنّ وقدّمن لهم الخبز، الجبن والزّيتون. بعد صلاة العشاء عاد سلطان يحمل كيسا مليئا بالكعك المسمسم، ومعه حفنة من الزّعتر، عندما تذوّقت والدته الكعك قالت:
سبحان الله، كلّ شيء في هذه المدينة جميل ولافت، حتّى كعكها طيّب المذاق، ولذيذ أكثر من الكعك في أماكن أخرى.
زينب: بلاد مقدّسة، وكلّ ما فيها مبارك.
*****
عندما وصل الشّيخان فالح ومناور ومن معهما منطقة النّبي موسى بين القدس وأريحا، قبل مغيب شمس ذلك اليوم بقليل، طلب الشّيخ مناور ممّن كانوا معهما من الشّباب أن يواصلوا مسيرهم إلى القدس، بعد أن أوصاهم بأن يضعوا الخيول في خان الدّواب في باب السّلسلة بعد أن يعلفوها، وسيجدون من سبقوهم في الشّاحنات في رحاب المسجد الأقصى، وأضاف:
أنا والشيّخ فالح سنذهب لزيارة صديق لنا، وسنلتقي بكم غدا عند صلاة الجمعة في المسجد الأقصى.
أدار الشّيخان فرسيهما جنوبا باتّجاه مقام النّبيّ موسى، مرّا براعي أغنام، طرحا عليه السّلام، فسأله الشّيخ مناور:
هل ما زالت مضارب الشّيخ مهاوش النّبهان في منطقة “الطَّبّق” في البقيعة، أم انتقلوا لمكان آخر؟
الرّاعي: حيّاكم الله، نعم لا تزال المضارب مكانها في “الطِّبِق”، وهذا القطيع للشّيخ مهاوش.
بعد دقائق قليلة وصلوا مبتغاهم، وما أن رآهم الشّيخ مهاوش حتّى قفز من مكانه وقال وبسمة تعلو وجهه:
يا هلا بأعزّ النّاس. أهلا بالشيخ أبو عليّ والشّيخ أبو سلطان، عانقهما وأدخلهما إلى المضافة.
بينما أمسك شابّان الفرسين، أورداهما بئر الماء القريب من المكان، رشّا على عنقيهما قليلا من الماء، أنزلا سرجيهما، وعلّقا عليهما العلف بعد أن ربطاهما في المكان المخصّص للدّواب، بينما تركا المهرة بنت فرس الشّيخ مناور طليقة بجانب أمّها.
صبّ الشّيخ مهاوش القهوة بيده لضيفيه، في حين قام ابنه نمر بذبح شاتين سمينتين قِرًى للضّيفين.
قال الشّيخ فالح: جئنا في زيارة للقدس؛ لنصلّي الجمعة غدا في المسجد الأقصى، وقلنا من الواجب علينا أن نمرّ على الشّيخ مهاوش؛ كي نسلّم ونسهر ليلتنا بمعيّتكم.
الشّيخ مهاوش وبسمة عريضة على وجهه:
زارنا السّعد بقدومكم إلينا يا وجوه الخير، وهذا شرف عظيم لنا، ولو زرتم القدس ولم تمرّوا علينا لغضبت كثيرا، فنحن وإيّاكم أهل أبا عن جدّ.
الشّيخ مناور: هذا أملنا بكم، وقلت سنستغلّ هذه المناسبة؛ لأقدّم لكم يا أبا نمر تلك المهرة ابنة الثلاثة أشهر هديّة لكم، فهي سليلة خيول أصايل ولا تليق إلا بمقامكم.
ضحك الشّيخ مهاوش وقال:
هديّتكم يا شيخ مقبولة، وأنا أردّ جزاء لها ابنتي العنود؛ لتكون زوجة لواحد من أبنائك.
الشّيخ مناور: جزاؤك مقبول يا شيخ، وخيركم سابق دائما، والمصاهرة بيننا موجودة من زمن الآباء والأجداد، فالعشرات من بناتنا متزوّجات من رجال منكم، ومثلهنّ من بناتنا متزوّجات من رجالكم، والعنود ستكون بإذن الله من نصيب ابني مثقال، عمره عشرون عاما، ومهرها خمسون رأس من الغنم، وقلادة ذهبيّة فيها عشرون ليرة ذهبيّة انجليزيّة، وأصدقك القول أنّنا جئنا إليكم لنتشرف بطلب ابنتك لابننا مثقال، لكنّك دائما سبّاق في عمل الخير.
الشّيخ مهاوش: نسب الأجاويد ليس بالماشية ولا بالذّهب، والنّسب نسب اللحى الغانمة أمثالكم. والعنود ابنة ستّة عشر عاما، ومناسبة لابنكم سلطان.
الشّيخ فالح: دعونا نقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
بعد أن قرأوا الفاتحة قال الشّيخ مناور:
العنود ستكون معزّزة مكرّمة عندنا مثل بناتي وأكثر، ونتشرّف بمصاهرتكم، ومثقال الآن في المسجد الأقصى، سنمرّ وإيّاه ووالدته عليكم يوم السّبت، ونسأل الله الخير والتّوفيق لنا ولكم.
الشّيخ مهاوش: أهلا بكم دائما، فالبيت بيتكم.
استمعت العنود ووالدتها من محرم النّساء للحديث الذي دار بين الشّيوخ في المضافة، تفاجأت العنود بالحديث، اكتسى وجهها بحمرة الحياء عندما وجدت نفسها خلال عدّة دقائق عروسا لرجل لم تره في حياتها، دون تخطيط مسبق، ودون أن تعرف عنه شيئا، لكنّ والدتها طمأنتها قائلة:
أنت محظوظة با بنيّتي، فعريسك سليل شيوخ من طرفي الأب والأمّ، وهذا نصيبك، فبنات الشّرق من نصيب أبناء الغرب، وبنات الغرب من نصيب أبناء الشّرق.
العنود: لكنّني لا أعرف أحدا منهم يا أمّي!
تساءلت الأمّ في محاولة منها لتهدئة ابنتها:
متى كانت بناتنا يعرفن الرّجال الغرباء؟ ستتعرّفين عليه ليلة الدّخلة مثل بقيّة النّساء! أنا من قبلك لم أشاهد أباك إلا ليلة الدّخلة! لكنّني كنت أعرف أنّه شيخ ابن شيوخ، وهذه عاداتنا يا بنيّتي، ولولا أنّ أباك يعرف أنّ هذا الزّواج لمصلحتك، لما وافق عليه.
شعرت العنود بالرّضا، فكّرت بالعريس، سألت والدتها بصوت منخفض:
من منهما الشّيخ مناور والد العريس؟
ردّت أمّها: عندما نظرنا الشّيخين من “فاهق” البيت وهما يترجّلان عن ظهري فرسيهما، الشّيخ مناور هو من كان يعتمر الكوفيّة البيضاء، والشّيخ فالح كانت كوفيته شماغا أحمر.
استعادت العنود منظر الشّيخين، فكلاهما وسيمان، يرتديان ملابس نظيفة، قالت في نفسها: إن كان مثقال وسيما كوالدة، فأنا محظوظة به!
*****
صباح يوم الجمعة استيقظت الجموع التي نامت في رواق المسجد الأقصى، صلّوا صلاة الفجر، قدّمت النّساء طعام الفطور للأطفال، خرجوا من الباب الموصل إلى حائط البراق، رأوا أبنية تاريخيّة عظيمة قائمة على بعد حوالي أربعة أمتار من الحائط، مشوا أمام الحائط من بدايته من الجهة الجنوبيّة، حتى اصطدموا شمالا بحائط المدرسة التّنكيزيّة، اشرأبت أعناقهم إلى الأعلى، مرّ بجانبهم مسنّ مقدسيّ، سأله مثقال بن الشّيخ مناور:
هل هذا هو حائط البراق يا عمّ؟
– نعم يا ولدي هذا هو.
– وهل جرت الاشتباكات هنا؟
– نعم جرت هنا “في 15 آب-أغسطس “1929” الذي وافق يوم الحداد على خراب الهيكل حسب التّقويم اليهوديّ، والمتزامن مع احتفالات المسلمين بالمولد النّبويّ الشّريف، نظّمت حركة بيتار الصّهيونية اليمينيّة مسيرة تظاهريّة احتشدت فيها أعداد كبيرة من اليهود في القدس، يصيحون “الحائط لنا” وينشدون:
للنّهر ضفّتان
الأولى لنا والثّانية أيضا.
علمت الشّرطة البريطانيّة عن المظاهرة سلفا وأرسلت قوّات كبيرة لمرافقة المتظاهرين اليهود. في اليوم التّالي ردّ القادة العرب بتنظيم مظاهرة مضادّة من المسجد الأقصى، واتّجهوا إلى حائط البراق، وهناك استمعوا إلى خطبة من الشّيخ حسن أبو السّعود، تبيّن الأخطار التي تتهدّد المقدّسات الإسلاميّة.”
زينب: وماذا جرى بعد ذلك؟
– “كانت حصيلة الاشتباكات، التي امتدّت من الخليل وبئر السبع جنوبا حتّى صفد شمالا 116 شهيدا فلسطينيا و133 قتيلا يهوديّا، و232 جريحا فلسطينيا و339 جريحا يهوديا. واعتقلت سلطات الانتداب تسعمئة فلسطينيّا، وأصدرت أحكاما بالإعدام شنقا على 27 فلسطينيّا، خُفّفت الأحكام على 24 منهم، ونفّذ حكم الإعدام في 17 يونيو 1930، بسجن مدينة عكا المعروف باسم (القلعة)، في ثلاثة محكومين هم: فؤاد حسن حجازي، محمد خليل جمجوم وعطا أحمد الزير.”
مثقال: هذا الحائط جزء من الأقصى، فكيف يزعم أبناء ديانة أخرى أنّه مكان عبادة لهم؟
المسنّ المقدسيّ: خلّيها على الله يا ولدي، فالمسجد في خطر.
ردّوا بصوت غاضب واحد:
سيبقى المسجد مسجدا إسلاميّا ما دام هناك مسلمون.
تركوا حائط البراق، تفرّقوا في أسواق المدينة يتبضّعون، النّساء مررن بباب السّلسلة، ووصلن إلى سوق العطّارين، وباب خان الزّيت، في حين ذهب الشّباب إلى باب الأسباط، ومن هناك مشوا في ممرّ المشاة قريبا من سطح السّور، ليدوروا حول المدينة، يستطلعون كنوزها التّاريخيّة، لمّا اعتلوا السّور سمعوا صليل السّيوف التي ردّت الغزاة عن أسوار المدينة، عندما وصلوا منطقة باب الخليل نزلوا قريبا من “القشلة” والحماس بادٍ على وجوههم، توجّهوا غربا إلى شارع يافا، تجوّلوا في الشّارع، مرّوا بشارع “الملك جورج” حتّى وصلوا مقبرة “مأمن الله” الشّهيرة، وهناك شرح لهم أحد المشايخ عن تاريخ هذه المقبرة التي تحوي رفات أعيان وعلماء وأدباء وشعراء ومشاهير المدينة، عدا عن مقبرة جماعيّة تحوي رفات 70 ألفا هم سكّان المدينة، الذين قتلهم الفرنجة وهم يحتمون بالمسجد الأقصى عندما احتلّ الفرنجة القدس عام 1087م.
تنهّد محمود العلي وقال:
إن لم يظهر في هذه الأمّة من يخلف صلاح الدّين، فستكون مقابر كثيرة تحوي قبورا جماعيّة كمقبرة “مأمن الله ” هذه.
نظر إليه الشّيخ المقدسيّ نظرة إعجاب وقال ودموعه تنساب على وجنتيه:
حماكم الله يا ولدي، فالأيّام القادمة حبلى بأحداث أخشى أن تبكي السّماء فيها دما على ما سيجري في القدس وما حولها.
قالها الشّيخ وأدار ظهره دون أن يسمع صوت حسّان وهو يسأله:
ماذا تقصد بكلامك يا مولانا؟
ردّ محمود العلي قائلا: الشّيخ مكلوم، يبدو أنّه أب ثاكل، ومع ذلك ففي كلامه شيء من الصّحيح، فالقدس وأكنافها في خطر، لكنّ هذه البلاد لا يُعمّر فيها ظالم.” وأضاف: هيّا بنا.
مشى الشّباب شرقا عائدين إلى المدينة القديمة، استراحوا قليلا أمام سور القدس من النّاحية الغربيّة، نظروا أمامهم حيّ “مونتوفيوري” اليهوديّ، ثمّ واصلوا مسيرتهم إلى سوق الدّبّاغة، حيث رأوا الكنائس الجميلة، إلى أن دخلوا كنيسة القيامة، تجوّلوا في الكنيسة، استعانوا براهب زائر للمكان، حيث شرح لهم قليلا عمّا يوجد داخلها، وممّا قاله:
” بنيت الكنيسة فوق الجلجلة أو الجلجثة وهي مكان الصّخرة التي يعتقد أنّ المسيح صلب عليها. وتعتبر أقدس الكنائس المسيحية والأكثر أهمية في العالم المسيحي، وتحتوي الكنيسة وفق معتقداتنا المسيحيّة على المكان الذي دفن فيه يسوع واسمه القبر المقدّس.”
اقترب محمود العلي من الرّاهب وسأله:
من بنى هذه الكنيسة؟
– بنتها الامبراطورة هيلانة والدة الإمبراطور الرّوماني قسطنطين عام 335 للميلاد، وجدّد البناء بشكله الحاليّ في القرن الثّاني عشر الميلاديّ.”
شكروا الرّاهب وخرجوا من الكنيسة، عندما وصلوا بابها الرّئيس وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام جامع قديم، فاقترح أحدهم أن يزوروه أيضا، فبناؤه يبدو قديما، رأوا لافتة فوق مدخل المسجد مكتوب عليها “مسجد عمر”، نظروا إليها…ودخلوا المسجد بعد أن توضّأوا، صلّوا ركعتين تحيّة المسجد، اتّجه حسين العليّ إلى الشّيخ الذي يجلس قريبا من المحراب، طرح عليه السّلام وسأله:
لماذا هذا المسجد مبنيّ أمام الكنيسة؟
بسمل الشّيخ وحمدل وقال:
” عندما قام جيش المسلمين- تحت قيادة أبي عبيدة بن الجرّاح- بمحاصرة القدس في شوال 15 هـ الموافق نوفمبر تشرين الثاني 636 م. وبعد ستّة أشهر، وافق البطريرك صفرونيوس على الاستسلام، بشرط قدوم الخليفة الرّاشدي. وفي عام 16 هـ، سافر الخليفة عمر بن الخطاب إلى القدس لتسلّم مفاتيح المدينة.” وأضاف:
“وصيغت العهدة العمريّة التي وقّعها بطريرك المدينة صفرونيوس عن الجانب البيزنطيّ، ووقّع عليها الخليفة عمر نيابة عن المسلمين، وشهدها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان. في أواخر نيسان / أبريل 637 م، وتفقّد عمر الكنيسة بناء على طلب صفرونيوس، وأدركته الصّلاة وهو فيها؛ فالتفت إلى البطريرك وقال له:
أين أصلّي؟ فقال:
“مكانك صلّ.”
فقال عمر: ما كان لعمر أن يصلّي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلّى عمر، ويبنون عليه مسجدا، وابتعد عنها رمية حجر وفرش عباءته وصلّى، وجاء المسلمون من بعده وبنوا هذا المسجد في نفس المكان الذي صلّى فيه عمر، وأسموه مسجد عمر.”
استأذن الشّباب من الشّيخ وخرجوا، مرّوا من سوق الدّبّاغة إلى سوق العطّارين، فسوق الباشورة، فباب السّلسلة إلى أن دخلوا المسجد الأقصى، تجادلوا عمّا شاهدوه، واختلفوا في تفسير تاريخ أماكن مرّوا منها، فحسم الجدال بينهم حسين العليّ عندما قال:
القدس مدينة عظيمة، صاحبة تاريخ عريق، تعاقبت عليها حضارات كثيرة، لكلّ حجر فيها تاريخ، وبالتّالي فإنّ زيارة عابرة لها لا تكفي، ومن يريد معرفة المدينة حقّا عليه أن يقيم فيها سنين عديدة، يقضيها في البحث والتّنقيب والاستفادة من علم ذوي العلم.
في المسجد الأقصى وقبل صلاة الجمعة التقى الشّيوخ مهاوش، مناور وفالح مع الحاجّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة، سأله الشّيخ فالح بعد أن عرّفه على نفسه وعلى صاحبيه:
ماذا نستطيع فعله للدّفاع عن القدس وأقصاها؟
رحّب بهم المفتي، وقال سأرسل معكم شابّا ليدلّكم على عبد القادر، وهو سينسّق معكم.
التقوا بعبد القادر الحسيني في بيت احمد علي العيساوي في قرية العيساويّة القريبة، وهناك قال لهم بأنّه سيزورهم في ديارهم، ويأمل بأن يساعدوا في تهريب أسلحة من سوريّا إلى ديارهم، ومن هناك سيرسل لهم من يقوم بتهريبها إلى فلسطين، كما أوصاهم بضرورة التّدرّب على السّلاح؛ استعدادا لمعارك قادمة، فالمنطقة حبلى بالأزمات والأحداث، والإنجليز جادّون في إقامة دولة لليهود في فلسطين، وختم حديثه معهم قائلا:
يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.”
فردّوا عليه: “سرّك في بير.”
عادوا سريعا إلى المسجد الأقصى لآداء صلاة الجمعة.
عندما سجد الشّيخ فالح السّجدة الأولى في صلاة الجمعة، انهمرت دموعه، وما أن انتهت الصّلاة حتّى أصبح بكاؤه نحيبا، التفت إليه الشّيخ مهاوش وسأله:
لماذا تبكي يا شيخ؟
أمسك الشّيخ فالح طرف كوفيّته، مسح عينيه، تصنّع ابتسامة وهو يقول:
عندما أدخل المسجد الأقصى أشمّ رائحة الجنّة، فلا أملك إلا البكاء فرحا باليوم الموعود.
ردّ الشّيخ مهاوش: نسأل الله أن يجمعنا كلّنا في الجنّة. وأضاف:
والآن أنتم ضيوفي جميعكم، الرّجال والنّساء والأطفال.
شكراه واعتذرا منه بلطف، لكنّه لم يقبل لهما عذرا، فقال الشّيخ فالح:
سبب رحلتنا إلى القدس هو الصّلاة وطلب الثّواب، مع أنّ دافع هذه الزّيارة الرّئيس هو الاطمئنان على سلامة الأقصى، بعد أن سمعنا اعتداءات اليهود على حائط البراق، وهذه الليلة سنقضيها في حضن حائط البراق، لهذا نرجوك يا شيخ مهاوش أن تقبل عذرنا.
أمّا الشّيخ مناور فقد قال: غدا السّبت سأزوركم أنا وولدي مثقال ووالدته، لنتمّم خطوبة مثقال على ابنتكم العنود.
الشّيخ مهاوش: سيزورنا الرّحمن بزيارتكم، وأهلا بك وبمن سيأتي معك، وأوّلهم الشّيخ فالح.
ابتسم الشّيخ فالح وقال:
نتشرّف بزيارتكم يا أبا نمر، لكنّنا على موعد في قرية سمخ بجانب طبريّا، ولا أستطيع الإخلال بذلك، وكنت أتمنّاك أنت وأبو سلطان ـأن تكونا برفقتنا، لكن للضّرورة أحكام، فأنتما ستنجزان خطبة وزواج العنود على مثقال.
بعدها استأذن الشّيخ مهاوش، امتطى فرسه وعاد إلى مضاربه، في منطقة البقيعة جنوب مقام النّبي موسى.
بعد صلاة فجر يوم السّبت في المسجد الأقصى، رتّب الشّيخان “مناور وفالح” عودة من معهما من أبناء قريتيهما إلى ديارهم، في حين استقلّ الشّيخ فالح وزوجته زوادة، وابنه حسّان الباص إلى طبريّا.
أمّا الشّيخ مناور فقد امتطى فرسه وترك ابنه مثقال ووالدته يمشيان خلفه، وقصدوا بيت الشّيخ مهاوش. بعد أن أشرفوا على منطقة الخان الأحمر من منطقة الحردوب على السّفوح الشّرقيّة لجبل الزّيتون، قال الشّيخ مناور وهو يتأفّف ضيقا:
لو كنتما تعرفان الطّريق إلى مضارب الشّيخ مهاوش لتركتكما وواصلت طريقي، فالفرس تضيق ذرعا بالمشي البطيء، وسأطلق عنانها الآن، وسأنتظركما في مكان مناسب بجانب هذه الطّريق، واصلا سيركما في هذه الطريق، وستلحقان بي.
وبما أنّهما لا يملكان حقّ الاعتراض أو حتّى حقّ الحوار، فقد قالت أمّ مثقال:
كما تريد يا أبا سلطان.
عندما وصلوا بيت الشّيخ مهاوش يتقدّمهم الشّيخ مناور على ظهر فرسه، كانت زوجته زوادة وابنه مثقال يتصبّبان عَرَقا من شدّة التّعب، خرج مهاوش وابنه نمر لاستقبال الشّيخ مناور، بينما وقفت أمّ نمر والعنود أمام “محرم النّساء” لاستقبال زوادة، مرّ أمامهما مثقال متّجها إلى “الشِّقِّ” حيث الرّجال، طرح السّلام عليهم والعنود تنظر إليه على استحياء، فقالت له أمّه:
تعال يا ولدي سلّم على خالتك أمّ نمر.
استدار وحمرة الحياء تعلو وجهه، بينما دخلت العنود إلى “الصّهوة” حياء، ازداد خفقان قلبها بعد أن شاهدت وسامة مثقال، صافح أمّ نمر دون أن يرفع نظره أمامها فقالت له وهي تحضنه وتقبّله كما ابنها:
أهلا بك يا ولدي، ما شاء الله عليك!
رأى مثقال العنود ممشوقة القوام، حوراء العينين، نحيلة الخصر، ناهدة الصدر، فضحك وصفّق لها قلبه.
بعد أن احتسوا القهوة، قال الشّيخ مناور:
البلاد تعيش قلاقل لا يعلم نهايتها إلا الله، لذا نتمنّى عليك يا شيخ مهاوش أن نتمّم زواج مثقال والعنود بالسّرعة الممكنة.
ابتسم الشّيخ مهاوش وقال: كما تشاء يا أبا سلطان.
– أنا أرى أنّنا بحاجة إلى أسبوع حتّى نجهّز أمورنا في كفر السّمن.
– الشّيخ مهاوش: على بركة الله، كما تشاؤون.
– سنحدّد الزّفاف يوم الجمعة القادم، غدا سنعود إلى ديارنا، وبعد غد سنشتري مصاغ العروس وكسوتها.
قاطعه الشّيخ مهاوش وقال:
نسأل الله التّوفيق، يوم الأربعاء سنصلكم أنا وأمّ نمر ونمر والعنود، توفيرا للمشقّة وكسبا للوقت، سنبقى ضيوفا عندكم حتّى نحضر الزّفاف.
اعتدل الشّيخ مناور في جلسته وقال:
هذا فضل منكم لن ننساه ما حيينا، والواجب أن نأتي نحن إليكم لأخذ عروسنا، لكنّكم غمرتمونا بكرمكم ولطفكم.
الشّيخ مهاوش: أفضالكم سابقة يا أبا سلطان، “والنّسب نسب اللحى الغانمة”، الفاردة تحتاج يومين، لكنّ للضّرورة أحكام، وقدومنا إليكم سيوفّر مشقّة السّفر، كما سيوفّر الوقت.
– بوركتم يا أبا نمر، ودعونا نتمّم عقد الزّواج بين العروسين هذا اليوم.
– لا بأس في ذلك.
– التفت إلى ابنه نمر وقال له:
اذهب إلى مقام النّبي موسى وأحضر الشّيخ معك.
في هذه الأثناء نادى الشّيخ مهاوش:
يا أمّ نمر تعالي أنت والعنود.
دخلت أمّ النّمر وبجانبها أمّ مثقال والعنود خلفها، صافحت أمّ النّمر الشّيخ مناور، كما صافحت مثقال مرّة أخرى وجلست بجانبه الأيسر، بينما صافحت أمّ مثقال الشّيخ مهاوش وجلست على يمين ابنها، فيما قبّلت العنود يد الشّيخ مناور ويد مثقال أيضا، وقفت على استحياء لا تدري أين ستجلس، فأفسحت لها والدتها المكان لتجلس على يمينها بجانب مثقال.
التفت الشّيخ مناور إلى ابنه مثقال وقال:
هذه عروسك العنود بنت الشّيخ مناور، انظر إليها، ما شاء الله! جمال ودلال وقامة مثل عود الخيزران، ولا غرابة في ذلك فهي شيخة بنت شيوخ.
فردّ عليه الشّيخ مهاوش:
العنود كاملة الأوصاف كما ترونها، وهي أمانة سننقلها من عندنا إليكم.
قال مثقال على استحياء:
العنود ستكون في عينيّ يا عمّ.
ابتسم الشّيخ مناور اعجابا بجواب ابنه، في حين قالت أمّ نمر:
ربنا يرضى عليكم ويوفّقكم، وإن شاء الله ستكون العنود فأل خير عليكم.
عندما عاد نمر بصحبة شيخ مسجد مقام النّبي موسى، جلس بين الشّيخين، نظر إلى العروس وهو يحتسي القهوة وقال بصوت منخفض:
تبارك الخالق.
تنحنح الشّيخ مناور وقال للشّيخ:
أتينا بك لتعقد زواج ابننا هذا وأشار إلى مثقال، على العنود ابنة الشّيخ مهاوش التي تجلس بجانبه.
التفت شيخ المسجد إلى العنود وسألها:
هل تقبلين يا بنيّتي بمثقال بن الشّيخ مناور زوجا لك على سنّة الله ورسوله؟
طأطأت العنود رأسها حياء ولم تتكلّم، فقال الشّيخ:
السّكوت علامة الرّضا. بسمل وأضاف بعد أن أمر الحضور بفتح أيديهم ابتهالا إلى الله، وبعدها أدار بصره إلى مثقال وقال له:
انظر إلى عروسك يا ولدي وقل لها:
أنت على حجر، وأنا على حجر، هل تقبلينني لك ذَكَرا على سنّة الله ورسوله؟
ردّد مثقال ما قاله الشّيخ وهو ينظر إلى العنود، لكنّها لم ترفع رأسها، ولم تتفوّه ببنت شفة. فقال الشّيخ مرّة أخرى:
السّكوت علامة الرّضا، وهذا حياء العذارى، اقرأوا الفاتحة على هذه النّيّة.
وبعدها قال: مبارك لكما ولوالديكما، ورزقكما الله الذّرّيّة الصالحة.
نقده الشّيخ مناور عشرة قروش، قبضها شيخ المسجد واستأذن بالخروج، لكنّهما أصرّا عليه حتى يتناول عشاءه، في حين غادرت العنود وأمّها وأمّ مثقال المجلس.
*****
بدأت الاستعدادات في كفر السّمن منذ عودة الشّيخ مناور، مساء يوم الاثنين بدأت سهرة زواج مثقال التي شارك فيها أهالي كفر السّمن وبعض من أهالي القرى المجاورة.
حط ركب العروس على مشارف كفر السّمن عصر الأربعاء، كان في استقبالهم الشّيخ مناور وأفراد أسرته يتقدّمهم مثقال ووالدته، أعدّوا للعروس هودجا مزيّنا، جالوا بها أحياء القرية وسط الزغاريد والأغاني إلى بيت شقيقة العريس، التي أصرّت وزوجها على استضافة العروس إلى يوم الدّخلة كما هي العادة، بينما توجّه الشيخ مهاوش إلى مضافة الشّيخ مناور وسط ترحيب كبير، توجّهت أمّ العروس وخالتها إلى مضافات أعدّت خصيصا في بيت الشّيخ مناور مع نساء العائلة وزوجات الأبناء.
صوت الشّبّابة وإيقاع خبطات الدّبيكة على الأرض تلعلع في أرجاء القرية، بينما نصب الرّجال السّامر، في حين كانت النّساء يرقصن ويغنّين في الجانب الآخر من البيت، وهنّ يرتدين الجديد المطرّز من ثيابهنّ، ويتحلّين بمصاغاتهنّ الذّهبيّة، كانت عينا العريس كعيني الصّقر تراقب العروس، فقد تردّد عدّة مرّات إلى ساحة النّساء متذرّعا بأشياء بسيطة.
ليلة الحنّاء جرت مراسيمها في بيت عيّوش شقيقة العريس، الذي يبعد حوالي مائتي متر عن بيت الشّيخ مناور، فالعادات لا تجيز أن يجري حنّاء العروس في بيت العريس، العروس ووالدتها وخالتها يدارين دموعهن التي يختلط فيها الفرح والفراق، استمرّت حفلة الحنّاء إلى ساعات ما بعد منتصف الليل. منازل أقارب العريس والجيران مفتوحة لاستقبال الضّيوف، بينما مضافة الشّيخ مناور تعجّ بشيوخ القرى المجاورة ووجاهات القرية.
صبيحة يوم الجمعة كانت الاستعدادات على أكمل وجه، العروس وأمّها وخالتها وأهل البيت والمشاركات بالطبخ يتناولن المعاليق، بينما أمّ العريس تبعث ابنتها لتسارع بإحضار أمّ سعدى الشّامية المتخصّصة بتزيين العرائس. حضرت أمّ سعدى تحمل علبة المكياج التي تحضرها خصيصا لبنات شيوخ القرية، الذين ينعمون عليها بكرمهم المبالغ فيه، خاصّة إذا هيّأت العروس متوسّطة الجمال بأجمل هيئة.
ما أن رأت أمّ سعدى العنود حتى صلّت على النّبيّ من جمالها الأخّاذ، فتحيّرت كيف ستزيّنها وهي لا تحتاج لأصباغها ومعدّاتها، مضت ليلة الزّفاف وعاد الجميع إلى بيوتهم، بينما الشّيخ مهاوش وأمّ العنود وخالتها يتأهبون للعودة الى مضاربهم محمّلين بالهدايا، فقد اتّفق الشّيخ مناور مع سائق سيّارة المرسيدس التي اشتراها من جنديّ انجليزيّ، كان عازما على العودة لبلاده بعد انتهاء خدمته في تدريب الشّباب في معسكر على أطراف مدينة الزّرقاء، كانت أوّل سيّارة خاصّة يمتلكها أحد أبناء كفر السّمن. تجاوزت السّيّارة وديان الرّمان وأشجار الزّيتون متّجهة إلى أمّ قيس، ومن ثمّ إلى الأغوار وركب أبو مهاوش فرسه وسبقهم إلى مضاربه غربي النّهر يسابق خفقان قلبه، ويغالب دموعه سرّا على فراق العنود، كانت دموع الأمّ والخالة تنساب على وجوههنّ على فراق العنود، التي كانت تبكي بحرارة فراق أهلها، بينما مثقال يحضنها ويعدها بالدّلال والحبّ، ولن يجعلها تشعر بالغربة…توالت الأيّام والعنود تعيش شهر عسل مدلّلة مكرّمة من أفراد العائلة، خاصّة عمّها الشّيخ مناور وحماتها التى تصلّي على النّبيّ كلما وقعت عيناها على العنود، ترقيها من حسد عيون نساء القرية، قارب الشّهر على الانتهاء والعروسان يتناوب كلّ يوم واحد من أهل القرية على دعوتهما؛ لتناول الغداء أو العشاء تكريما لهما وللشّيخ مناور، وكانت هذه فرصة العنود لتتعرّف على القرية ونسائها.
بعد شهر من الزّفاف عاد مثقال للعمل في أراضي الأسرة، وقد وعد عروسه العنود برحلة خارج كفر السّمن، وربّما يلبّي دعوة ابن عمّته مسعود في عمّان. صباح يوم الخميس استيقظ مبكرا استحمّ وعروسه العنود من ماء ساخن على المنقل، أعدّته له والدته بعدما ارتدى ملابسه وسط استغراب العنود، أخبرها أن تستعدّ؛ لأنّه سيلبي دعوة ابن عمّته مسعود، الذي يسكن العاصمة عمّان بعد أن ترقّى في الجيش وأصبح ضابطا ذا شأن، وبعدها سيزوران أهلها في فلسطين.
*****
طرق أبو فالح بعصاه باب بيت صديقه سعيد الحسين في قرية سمخ قرب طبريا وهو يقول: يا ساتر.
أطلّت عليه هدى ابنة صاحب البيت ببهائها وسحرها، شعرها الأسود النّاعم ينسدل على صدرها، عيناها سوداوتان كحيلتان، قالت:
أهلا عمّي أبو عليّ…تفضّلوا.
سألها الشّيخ فالح وهو يدخل “صالون” البيت” تتبعه زوجته وابنه حسّان بعد أن صافحوها:
أين سعيد يا بنيّتي؟
– أبي وأمّي وإخوتي يعملون في البيّارة، اقتربت ساعة عودتهم، أنا ابنته هدى يا عمّ، البيت بيتكم، أهلا بكم.
أشار الشّيخ إلى زوجته زوادة وابنه حسّان، ذكر أسماءهم لتعريف هدى عليهما، فعادت تقول:
أهلا بك وبهما…شرّفتمونا بزيارتكم.
الشّيخ فالح: جئنا إلى القدس للصّلاة في المسجد الأقصى، واغتنمنا الفرصة لزيارتكم والاطمئنان عليكم.
هدى باسمة: نتشرّف بكم دائما يا عمّ.
نظر إليها حسّان مندهشا بجمالها، لفت انتباهه طولها الفارع، وعيناها الكحيلتان. عندما استأذنت منهم لإعداد القهوة خفق قلب حسّان لنعومة كلامها الذي يحاكي النّسيم العليل، عندما يعبر نافذة البيت نقيّا بعد أن يستحمّ في بحيرة طبريّا، بينما لهج لسان أمّ حسان بحمد الله، والصّلاة على نبيّه، فالتفتت إلى ابنها وهمست:
أنت محظوظ يا ولدي، إذا كانت هذه الفتاة من نصيبك، فستكون غزالة كفر الرّمل، التي تسبق كلّ نساء القرية.
التفت إليها الشّيخ فالح وهو يمسّد شاربيه وقال بصوت هادئ:
اذهبي وساعدي البنت في إعداد القهوة، واحفظي لسانك في فمك.
في المطبخ وأثناء إعداد عصير البرتقال دارت الأفكار في رأس هدى، فهذه هي المرّة الأولى التي يصطحب فيها الشّيخ فالح زوجته وأحد أبنائه الشّباب لزيارتهم، وخمّنت هدف الزّيارة، الذي يتمثّل بطلب يدها عروسا للابن الشّابّ، فعمدت إلى لفّ شعرها بمنديل غطّت به رأسها، فازدادت جمالا على جمالها.
قبل أن تلحق أمّ حسّان بهدى، دخلت هدى وهي تحمل صينيّة عليها ثلاثة أكواب من عصير البرتقال الطّازج، قفز حسّان من مكانه، أخذ الصّينيّة منها رغم أنّها حاولت منعه، وضع كوبا أمام كلّ من والديه، ووضع الكوب الثّالث أمامه، بينما عادت هدى لإعداد القهوة التي كان ماؤها يغلي على بابور الكاز “البريموس”.
بعد أقلّ من ساعة عاد أبو محمّد وأسرته من البيّارة، تفاجأ بضيوفه، فرحّب بهم مبتسما، عانق الشّيخ فالح، صافح حسّان ووالدته، بينما عانقت زوجته أمّ حسّان وصافحت الرّجلين، واكتفى الأبناء بمصافحة الجميع، التفت إلى ابنه محمّد، الذي فهم نظرات أبيه، فنهض ونحر خروفا أمام البيت قِرى للضّيوف.
قال أبو محمّد: زارنا السّعد بتشريفكم لنا، ولو كنت أعلم بزيارتكم لما ذهبت للعمل كي أتشرّف باستقبالكم.
فردّ عليه الشّيخ فالح:
حيّاك الله، ونحن وإيّاكم أسرة واحدة منذ زمن أبيك رحمه الله، وحتّى جدّك كان صديقا حميما لنا وأضاف:
ما شاء الله على ابنتكم هدى، لقد كبرت وأصبحت عروسا، أذكرها بالأمس القريب عندما كانت طفلة تدرج مثل طائر الحجل.
أبو محمّد: الحياة تمرّ سريعة والأطفال يكبرون بسرعة يا شيخ.
– دون مؤاخذة: كم عمرها الآن؟
– ثمانية عشر عاما.
– نحن جئنا للسّلام عليكم قبل كلّ شيء، وما أن رأيت هدى حتّى أضمرت في نفسي أن نتشرّف بمصاهرتكم، ونحن نغتنم الفرصة لطلب يدها لابننا حسّان.
صمت أبو محمّد قليلا وقال:
نتشرّف بمصاهرتكم يا شيخ، وإذا ما وافقت البنت وأمّها فلن أزيد “الملح إلا ملاح.”
تنهّد الشّيخ فالح مستغربا الجواب وسأل:
هل تستشيرون النّساء في هكذا أمور؟
ابتسم أبو محمّد وقال:
هذا حقّ أعطاه الله لهنّ، فمن حقّ البنت أن تستشار وأن تبدي رأيها بمن يطلب يدها، وعاداتنا تستوجب ذلك، فتحمّلنا يا عمّ.
امتعض الشّيخ فالح وقال:
إذا كانت هذه عاداتكم، فلا نملك إلا احترامها، لكن متى ستعطينا الجواب؟
أبو محمّد: بعد دقائق سستسمعون الجواب بما يرضيكم. قالها واستأذن منهم لاستشارة هدى وأمّها.
عندما خرج أبو محمّد خرج أبناؤه معه، فقال الشّيخ فالح لزوجته وابنه:
هؤلاء حضرٌ وعاداتهم تختلف عن عاداتنا، ولا نملك إلا احترامها.
لم يغب أبو محمّد أكثر من خمس دقائق، فزوجته وأفراد أسرته سمعوا كثيرا عن طيبة الشّيخ فالح وأسرته. قالت له زوجته:
توكّل على الله، فلن نجد أفضل منهم، ونسبهم يشرّفنا، في حين ابتسمت هدى وهذا علامة الرّضا والقبول، خصوصا وأنّ العريس فتى وسيم تتمنّاه بنات كثيرات.
عاد أبو محمّد إلى الصّالون وقال:
مباركة عليكم هدى يا شيخ فالح.
ابتسم حسّان ورأى أنّ الدّنيا وما عليها قد أصبحت بين يديه، بينما قال الشّيخ فالح:
نحن جاهزون لتلبية طلباتكم جميعها.
ردّ أبو محمّد: لا طلبات لنا يا شيخ، فالبنت بنتك والولد ابنك.
– حيّاك الله، سنشتري لها مصاغا وكسوة مثل سلفاتها وقريناتها، بل سنميّزها عنهنّ.
– نحن لا نفرض عليكم شيئا، فما تشترونه لكم، وما توفّرونه لكم أيضا، ونحن لا نبغي إلّا السّتر.
الشّيخ فالح: دعونا نقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
بعد قراءة الفاتحة عاد أبو محمّد وبارك لحسّان ولوالديه مرّة أخرى، ثمّ قال:
غدا صباحا سنذهب إلى المحكمة الشّرعيّة في مدينة طبريّا؛ لنعقد قران العروسين.
الشّيخ فالح: على بركة الله.
في المحكمة الشّرعيّة أخذ القاضي الشّرعيّ تفاصيل العروسين بعد أن سمع موافقتهما على الزّواج، وبعد أن أخذ موافقة هدى على توكيل والدها؛ لينوب عنها في عقد زواجها، سجّل الاسم الرّباعيّ وتاريخ ومكان ولادة كلّ منهما، كما سجّل المهر معجّله ومؤخّره، ثمّ قال بعد أن بسمل:
“الحمد لله الذي أحلّ النّكاح وحرّم الزّنا والسّفاح، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله سادات البطاح، ما نادى مناد حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح، أمّا بعد فإنّ من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقد قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.” وعنه صلّى الله عنه وسلّم: “إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.”
التفت القاضي إلى حسّان وأمره بأن يضع يده في يد عمّه سعيد، وأمر سعيد بأن يقول لحسّان:
زوّجتك موكّلتي ابنتي هدى على سنّة الله ورسوله على المهر المتّفق عليه.
وردّ عليه حسّان: وأنا قبلت زواج موكّلتك ابنتك هدى على المهر المذكور.
شهد على عقد الزّواج الشّيخ فالح النّمر والد العريس ومحمّد سعيد الحسين شقيق العروس.
بارك القاضي للعروسين ولذويهما بعد أن أوصى حسّان بتقوى الله في معاملته لزوجته، ثمّ طلب منهم أن يدفعوا رسوم العقد، وأن ينتظروا لاستلام عقد الزّواج بعد قليل.
في بيت أبي محمّد اتّفقوا أن يكون الزّفاف بعد أسبوعين، حدّدوه يوم الاثنين، على أن يأتوا في سيّارة لاصطحاب العروس ومن سيرافقها، فقال أبو محمّد:
أحوال المنطقة غير مشجّعة، والإنجليز يمنعون أيّ تجمّع حتّى لو كان عرسا، سنعبر النّهر من منطقة الحمّة قبالة أمّ قيس مع العروس في العاشرة من صباح يوم الزّفاف، وانتظرونا أنتم هناك.
الشّيخ فالح: سننظركم على الجانب الشّرقيّ من النّهر…والآن اسمحوا لنا بالمغادرة.
أبو محمّد: لم تأخذوا حقّكم بالضّيافة –كما يليق بكم- وبالتّالي لن نسمح لكم بالمغادرة.
الشّيخ فالح باسما: كيف لم نأخذ حقّنا بالضّيافة، وقد شرفتمونا بخطبة ابنتكم هدى لولدنا حسّان؟ ونحن نريد أن نكسب الوقت للإعداد لحفل الزّفاف؟
أبو محمّد: إذن نتناول طعام الغداء في بيتنا وبعدها طريقكم خضراء.
اعتذر الشّيخ فالح عن الغداء لضيق الوقت، وتحت إصرار أبي محمّد تناولوا وجبتهم في مطعم، وأقلّهم في سيّارته حتّى منطقة الحمّة، ومن هناك عبروا النّهر شرقا، وعينا هدى تطارد حسّان.
*****
في يوم الزّفاف جرى استقبال للعروس ولأسرتها فور عبورهما النّهر، أقلّت العروس سيّارة مرسيدس يملكها أحد أبناء قرية كفر السّمن المجاورة، في حين كان عشرات الشّباب يغنّون في ثلاث شاحنات. عند مدخل كفر الرّمل كان عشرات الرّجال والنّساء في استقبال الفاردة، حيث زفّوا العروسين كما يليق بأبناء الشّيوخ.
في اليوم التّالي لحفل الزّفاف، طلبت سعديّة أمّ العروس أن تتكلّم مع زوجها سعيد وابنها محمّد على انفراد، بعثت لهما العريس حسّان، التقت بهما خلف مضافة الشّيخ فالح، وقالت لهما:
للشّيخ فالح حفيدة بنت ابنه عليّ تقول للقمر “انزل كي أجلس مكانك” من شدّة جمالها، عيناها زرقاوان، شعرها كسواد الليل، قامتها هيفاء، أسنانها كعقد اللؤلؤ، بسمتها تأسر الألباب، فمها ينقط عسلا، نبيهة خفيفة الظّلّ ، تعرف متى تتكلّم ومتى تسكت. اسمها حفيظة ما رأيك يا أبا محمّد أن تطلبها لمحمّد؟
ابتسم أبو محمّد وسألها:
وما أدراك أنّها عزباء؟
– سألتها وأجابت أنّها لا تزال عزباء.
نظر سعيد إلى ابنه محمّد وسأله:
ما رأيك يا محمّد؟
ردّ محمّد على استحياء:
ما دامت الوالدة معجبة بها فلا مانع لديّ.
أبو محمّد: توكّلوا على الله.
بعد أن انفضّ المهنّئون من مضافة الشّيخ فالح، استند أبو محمّد وقال وهو يمسك فنجان قهوة صبّه له عليّ بن الشّيخ فالح قبل أن يغادر الجلسة للنّوم:
تمهّل قليلا يا شيخ عليّ.
جلس عليّ وهو يقول:
خيرا يا أبا محمّد؟
التفت أبو محمّد إلى الشّيخ فالح وقال:
يا شيخ لنا عندكم طلب.
الشّيخ فالح: أبشر…ما طلبك؟
– نريد أن نقوّي المصاهرة بيننا وبينكم، وأنا أطلب يد حفيدتكم حفيظة بنت عليّ لولدي محمّد على سنّة الله ورسوله.
تفاجأ الشّيخ فالح وابنه عليّ بالطّلب، أشعل الشّيخ غليونه وهو يلتفت لابنه عليّ وقال:
أجب على طلب أبي محمّد يا عليّ.
عليّ: لا كلام ولا رأي لي وأنت موجود يا أبي.
الشّيخ فالح: الله يرضى عليك يا ولدي، ثمّ التفت إلى أبي محمّد وقال:
أنتم أصحاب الفضل الأوّل يا أبا محمّد، وطلبكم مستجاب، مبروكة حفيظة عليكم.
أبو محمّد: بارك الله بكم، هذا أملنا بكم، وحفيظة سنحفظها في عيوننا، وستعيش بإذن الله في عزّ ودلال كما تعيش الآن بين أهلها.
– وأنتم أهلها أيضا.
أبو محمّد: دعونا نقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
بعد قراءة الفاتحة غادر عليّ المجلس وعاد إلى بيته، تمدّد بجانب زوجته وقال لها:
اسمعي يا أمّ حسين، لقد خطّبنا حفيظة لمحمّد شقيق هدى عروس حسّان.
نهضت زوجته من فراشها وجلست وهي تقول:
هؤلاء كما شاهدت سعديّة وبنتها هدى يعيشون حياة تمدّن، فكيف ستتأقلم معهم حفيظة؟
عليّ: نعم هؤلاء حضرٌ، يملكون بيّارات الحمضيّات، حياتهم مرفّهة قياسا بحياتنا، نساؤهم يعشن في دلال ورخاء لم تعشه نساؤنا.
الزّوجة محتارة: هل ترى هكذا حياة تناسب حفيظة؟
– بالتّأكيد تناسبها، من يرى نمط حياتهم يتمنّى أن يعيش مثلهم، تصوّري أنّ أبا محمّد يملك سيّارة منذ سنوات، ينقل بها محصول بيّارته إلى المدن، حتّى أنّه يبيعها في حسبة عمّان وحسبة اربد.
– هل تعرف العريس؟ ما اسمه؟
– اسمه محمّد وأعرفه منذ ولادته، وهو موجود الآن في المضافة جاء مع والديه لحضور حفل زفاف شقيقته هدى، وهو شابّ وسيم هادئ وخلوق، ولا تنسي أنّنا وإيّاهم أصدقاء أبا عن جدّ.
– إن كنت ترى مصلحة لحفيظة بهذا الزّواج فعلى بركة الله.
– الوالد أعطاها لهم، وقرأنا فاتحتها في المضافة.
– غدا سأخبر حفيظة بالموضوع، وإن شاء الله ستكون سعيدة بذلك.
– وغدا سنكتب عقد قرانهما في محكمة اربد الشّرعية، وسيرى العروسان بعضهما.
فجر اليوم التّالي عندما استيقظت حفيظة مع صياح الدّيك، وقبل أن تنهض من فراشها فاجأتها والدتها بابتسامة عريضة وهي تقول:
مبروك يا عروس.
استغربت حفيظة ما سمعته فعادت تسأل وهي تتثاءب ناعسة:
ماذا قلت يا أمّاه؟
– قلت عروس.
– هل تقصدينني؟
– نعم أنت العروس، لقد خطبك محمد سعيد الحسين شقيق هدى عروس عمّك حسّان.
تفاجأت حفيظة بالخبر فصمتت لا تدري ماذا تقول، غير أنّ والدتها قالت لها:
انهضي بسرعة، اغسلي وجهك، وارتدي أجمل ملابسك، قبل أن تستيقظ أمّ العريس.
استعادت حفيظة شريط ذكرياتها أوّل أمس، عندما نزلت هدى العروس من السّيارة في مدخل القرية؛ ليزفّوها حتّى بيت العريس، كان والدها على يمينها، وشابّ ربع القامة، يرتدي بدلة على يسارها، فبالتّأكيد هو شقيقها، أي العريس المقصود، كما استعادت في ذاكرتها نعومة هدى ووالدتها ورقّة حديثيهما، تضاربت الأفكار في رأسها، لكنّها منّت نفسها بحياة ناعمة هادئة في بيئة حضريّة ستعيشها في حياتها الزّوجيّة، تظاهرت باللامبالاة أمام والدتها، كأنّ الأمر لا يعنيها.
عندما استيقظت أمّ محمّد من نومها، طرحت عليها حفيظة تحيّة الصّباح، وسألتها:
ما رأيك يا خالة بكأس حليب مغليّ؟
ابتسمت سعديّة وقالت:
أنا أشرب الشّاي صباحا، لكنّني هذا اليوم سأشرب الحليب من يديك الجميلتين.
ردّت حفيظة ضاحكة:
ما أن تشربي الحليب حتى أكون قد انتهيت من إعداد الشّاي.
في المضافة قال الشّيخ فالح لابنه عليّ:
بعد الإفطار اذهبوا إلى محكمة اربد الشّرعيّة، واكتبوا عقد زواج محمّد سعيد على حفيظة.
عليّ حاضر يا أبي، ويسعدنا أن تكون برفقتنا.
الشّيخ فالح: لن أستطيع ذلك، فصحّتي ليست على ما يرام.
استمع مسعود الذي دخل المضافة بزيّه العسكريّ للحديث فقال:
سأعود إلى المعسكر في عمّان بعد قليل، فاستعدّوا لأوصلكم معي في الجيب العسكريّ إلى المحكمة الشّرعيّة.
ذهب حسّان ليخبر حفيظة ووالدتها للاستعداد للذهاب إلى المحكمة الشّرعيّة لعقد قران حفيظة على محمّد سعيد الحسين، فتأكّدت أمّ محمّد أنّه تمّت الموافقة على خطبة حفيظة لابنها محمّد، ولم تتمالك نفسها من إظهار فرحتها بذلك، فأطلقت زغرودة حلّقت في سماء القرية، بينما قالت لها أمّ العروس:
مباركة عليكم حفيظة، وربنا يهنّيكم بها.
سمعت الجارات لعلعة الزّغرودة التي اخترقت شبابيك بيوتهنّ، وهنّ يجهّزن أبناءهنّ للذّهاب إلى المدرسة، فتساءلن إن كانت تلك الزّغرودة قد انطلقت من امرأة جاءت مهنّئة بزفاف حسّان، أم هي إعلان لفرح جديد، لكنّ بعضهنّ نفين الاحتمال الأوّل؛ لأنّه يستحيل أن تأتي مهنّئات في ساعات الصّباح الأولى. وتأكّدن من صحّة الاحتمال الثّاني عندما رأين الشّيخ عليّ وزوجته وابنته حفيظة يركبون سيّارة مسعود العسكريّة، ويحشرون أنفسهم مع والدي العروس هدى وشقيقها فيها، صارت كلّ منهن تروي الخبر لجارتها حتّى عمّ أرجاء القرية، وما أن سمع الحاج محمود النّمر قريب الشّيخ فالح بالخبر حتّى ارتدى عباءته، وقصد بيت الشّيخ فالح، وهناك بعد أن احتسى قهوته وهنّأ بزفاف حسّان قال:
سمعنا زغرودة تنطلق من بيتكم، ورأينا الشّيخ عليّ وزوجته وابنته يركبون سيّارة مسعود بصحبة نسايبكم الفلسطينيّين، فلعلّه خير يا شيخ؟
ردّ عليه الشّيخ فالح بهدوء:
لا يوجد إلا الخير، شقيق عروس حسّان طلب حفيظة بنت عليّ وأعطيناه.
انتفض الحاجّ محمود وقال:
هذا ما كنت أخشاه، حفيظة نريدها لولدنا سميح، ولنا الأولويّة بها، فنحن أبناء عمومة، وكما قال المثل “جحا أولى بلحم ثوره.”
الشّيخ فالح: “الزّواج قسمة ونصيب”، حفيظة صارت من نصيب الفلسطينيّ، وقد ذهبوا لكتابة عقد قرانهما.
– يا شيخ فالح، نحن نتعلّم منك، و”ابن العمّ بطيّح عن ظهر الفرس.” ونحن كنّا ننتظر الانتهاء من زفاف حسّان حتّى نطلبها لابننا سميح.
– قلت لك بأنّ حفيظة صارت من نصيب الفلسطينيّ.
– هذا الكلام لن يمرّ، ولن نقبل أن تذهب حفيظة غريبة.
انتفض الشّيخ فالح في جلسته، وتساءل غاضبا:
من أنت حتّى تهدّد بأنّ زواج حفيظة ممّن قبلناه لها لن يتمّ؟ كيف تتجرّأ على قول هذا الكلام أمامي وفي بيتي ومجلسي؟ والعريس وأهله ليسوا غريبين عنّا، فبالأمس تزوّج حسّان شقيقة عريس حفيظة.
لم يجرؤ الحاجّ محمود على مواصلة الحديث، فخرج غاضبا دون استئذان، بينما كان الشّيخ فالح ينتفض غضبا.
بعد قليل خرج الشّيخ فالح من المضافة، جال حول بيوت أبنائه كأنّه يتفقّدها، مرّ بحظيرة الخيل، اقترب من فرسه التي صهلت عندما رأته، مسّد على رقبتها بيديه، تركها وعاد إلى المضافة، في حين كانت الفرس تصهل خلفه.
تمدّد على فراشه بتثاقل، لحقت به زوجته زوادة مصطحبة معها كنّتها هدى زوجة حسّان، اقتربت منه هدى بعد أن طرحت تحيّة الصّباح، قالت له:
كيف حالك يا عمّ وهي تمدّ يدها إلى يده، مدّ يده ببطء فقبّلتها ووضعتها على جبينها، فقال بهدوء:
الله يرضى عليك يا ابنتي.
استغربت زوجته زوادة بطء حركته التي لم تعتدها من قبل، جلست بجانبه، وضعت راحة يدها على جبينه؛ لتتأكّد إن كانت حرارة جسده مرتفعة أم لا، سألته:
هل أنت بخير؟ هل يؤلمك شيء؟
ردّ عليها بهدوء تامّ:
الحمد لله، يبدو أنّ “موسم الحصاد قد حان وقته”.
قالت مفزوعة: ألف سلامة عليك، وربنا يمدّ في عمرك.
ثمّ قالت لهدى: ابق عند عمّك، أنا ذاهبة لأغلي له كأس “جعدة”.
أدار الشّيخ رأسه تجاه هدى وقال:
انتبهي لنفسك يا بنيّتي فالدّنيا غدّارة.
– ماذا تقصد يا عمّ؟
– أقصد يا بنيّتي غيرة النّساء، فأنت لا تزالين في بداية حياتك، وإيّاك أن يوقعن بك في حبال كيدهنّ؛ لأنّهنّ يرينك غريبة.
– أنا في بيتك وحماك يا عمّي لا أعتبر نفسي غريبة.
– كلامك صحيح يا ابنتي، لكنّ الحياة قصيرة وتفنى بسرعة.
– ربّنا يعطيك العمر المديد يا عمّ، قالها وغفا.
عادت زوادة تحمل كأسا من “الجعدة” المغليّة، مسحت العرق المتصبّب من جبينه بخرقتها، أتت بالبخّور، وأخذت تتمتم بتعويذات لم تفهم هدى منها شيئا.
غصّت المضافة بزوجات الشّيخ فالح الأربعة، وبمن تواجد من أبنائه وبناته وزوجات أبنائه وأحفاده، جاؤوا للإطمئنان عليه، فقد شعرت زوجته زوادة بخطورة حالته، فأرسلت ابنها حسّان العريس؛ ليخبر الجميع بأنّ الشّيخ مريض، فلبّى طلبها رغم اعتراضه عليه، فقد قال لها:
يبدو أنّ الوالد متعب من السّهر، ولا داعي لتكبير الموضوع، لكنّها قالت له:
أبوك لا يستسلم للمرض بسهولة، نسأل الله له العافية، لكنّني لا أرى وضعه مطمئنا.
عادوا بعد عقد قران محمّد سعيد وحفيظة العلي إلى قرية كفر الرّمل، تكاد سعديّة تطير فرحا من شدّة فرحها بخطبة ابنها، اتّفقت مع والدة العروس أن يقمن ليلة ساهرة للنّساء احتفاء بهذه المناسبة.
طلب أبو محمّد من الشّيخ عليّ أن يتّفقا على تحديد يوم الزّفاف، فأجابه الشّيخ عليّ:
ستأخذ الجواب من الوالد، وإن شاء الله سيكون كما تريد أنت.
ما أن اقتربوا من بيت الشّيخ فالح، حتّى أطلقت سعديّة زغرودة، فخرجت هدى مسرعة وقالت لأمّها:
وحّدي الله يا أمّي، لا داعي للزّغاريد.
استغربت سعديّة ما قالته ابنتها، غير أنّ هدى اقتربت منها وهمست:
صحّة الشّيخ فالح ليست كما يرام، ووضعه لا يبشّر بالخير، اتركي الأغاني والزّغاريد الآن، ولمّا تصلين البيت في سمخ افرحي كما يحلو لك.
تجهّم وجه سعديّة، وطارت الفرحة من رأسها، التفتت إليهما أمّ حسين والدة العروس وسألت:
خيرا يا هدى؟ هل حصل شيء؟
ردّت هدى بانكسار وبصوت متهدّج:
عمّي فالح بخير من الله.
– ماذا جرى له؟
– لا أعرف.
عندما سمع من تواجدوا في المضافة حول الشّيخ فالح الزّغرودة، خرجت النّساء وبقي الرّجال، ولمّا رأى الشّيخ عليّ جموع النّساء يخرجن أوجس ريبة وقال:
يا ساتر!
ثمّ التفت إلى هدى وسألها:
ماذا حصل يا بنت؟
ردّت عليه بدموعها ولم تتكلّم.
لم يتمالك نفسه، فغذّ الخطى حتّى دخل المضافة والقلق بادٍ على وجهه، رأى أباه ممدّدا، اقترب منه، وضع يده على جبينه يتحسّسه وسأل:
ماذا جرى للوالد لقد تركناه في الصّباح معافى؟
لم يجد جوابا لسؤاله، بينما جلس سعيد الحسين وابنه محمّد واجمين، بعدها قال سعيد والحزن بادٍ على وجهه:
لا حول ولا قوّة إلا بالله، اللهم اجعل العواقب سليمة.
همست أمّ عليّ في أذن ابنتها التي تجلس بجانبها في مجلس النّساء:
يبدو أنّ وجه العروس الفلسطينيّة نحس علينا.
سمعتها كنّتها وضحة فقالت:
من أرادت منكنّ الكلام “فلتقل خيرا أو فلتسكت.” ولا داعي للكلام الفارغ.
بينما كانت سعديّة التي لم تسمع كلام زينب تبكي حظّها العاثر، وتدعو الله في سرّها أن يشفي الشّيخ فالح، وأن يطيل عمره حتّى يتمّ زواج ابنها على الأقلّ.
بعد صلاة العصر قبل غروب شمس ذلك اليوم، لفظ الشّيخ فالح أنفاسه الأخيرة، ارتدت النّساء ثياب الحداد السّوداء، تسابقت زوجاته وبناته بشقّ الجيوب ولطم الخدود، وعلا صراخهنّ وصراخ الأطفال الصّغار الذين شرعوا يصرخون على صراخ أمّهاتهم دون أن يدركوا سبب الصّراخ، ودون أن يدركوا معنى الموت، سال الكحل مع الدّموع على وجنات النّساء، انتبهت سعديّة لحفيظة عروس ابنها محمّد التي كانت تبكي بهدوء، فازداد إعجابها بجمالها، وقالت في سرّها بأنّ أجمل النّساء من تبقى جميلة وهي تبكي حزينة، لكنّ حفيظة لم تحافظ على جمالها فقط، بل ازدادت جمالا على جمالها، فاحتضنتها وقالت:
الله يرحمه، والبقيّة في حياة أبنائه وحيواتكم جميعكم.
ثمّ وقفت وخاطبت النّساء قائلة:
يقول تعالى “كلّ نفس ذائقة الموت”، والشّيخ فالح لن يموت، فذكراه ستبقى حيّة، و”من خلّف ما مات” والبركة في أبنائه.
ثمّ انفجرت باكية مع نشيج لافت، ممّا دفع بعض المسنّات إلى تهدئتها، وهي في الواقع لم تكن حزينة على الشّيخ فالح، بل لأنّ زفاف ابنها محمّد لن يتمّ قريبا بسبب الوفاة، فالفقيد جدّ العروس، كما أنّها استذكرت شقيقها الشّهيد ابن العشرين عاما الذي قتله الإنجليز قبل عامين في معركة غير متكافئة، وحالها لا يختلف عن غالبيّة النّساء اللواتي يبكين، فكلّ واحدة منهنّ تستحضر في ذاكرتها واحدا من أعزّائها الموتى، تتصوّره ممدّدا أمامها ميّتا، فتبكيه من جديد، وتسجّل بذلك موقفا عند قريبات الفقيد، انتظارا ليوم السّداد عندما يموت أحد أقربائها، وعلى رأي المثل :”كل شيء دين حتّى دموع العينين.”
عند تشييع جنازة الفقيد بعد صلاة ظهر اليوم التّالي، أطلق ابنه الشّيخ عليّ أكثر من ثلاثين رصاصة فور خروج الجثمان من المضافة محمولا على الأكتاف، كما استلّ الشّيخ مناور مسدّسه وأطلق خمس رصاصات.
في اليوم التّالي للدفن استأذن سعيد الحسين للعودة هو وزوجته وابنه إلى ديارهم في قرية سمخ بجوار طبريّا، لم يتكلّم عن موعد زفاف ابنه محمّد على حفيظة بنت الشّيخ عليّ، فمن غير اللائق أن يتكلّم بهكذا موضوع وعزاء الشّيخ فالح جدّ العروس لا يزال قائما، لكنّ الشّيخ عليّ وهو المعروف بنباهته أسرّ في أذنه:
نحمد الله على كلّ شيء، وقد حدث ما لم يكن بالحسبان، لا تقلقوا يا وجه الخير، سنتّفق على يوم زفاف محمّد وحفيظة بعد أربعين يوما كما تقتضي العادات.
في ساعة متأخّرة من الليل، وبعد أن غادر المعزّون ولم يبق إلا بعض المسنّين من عشيرة السّلمان –عشيرة الشّيخ فالح-، قال الحاجّ محمود للشّيخ عليّ وهو يتململ ضيقا فيما يخبّئه في قلبه:
أخاف الله يا أبا حسين أنّ مصاهرة ذاك الفلسطينيّ شؤم على هذا البيت بشكل خاصّ وعلى العشيرة بشكل عامّ، فمنذ دخول ابنتهم بيتكم العامر زوجة لحسّان حتّى…..
لم يسمح له الشّيخ عليّ بمواصلة حديثه فردّ عليه غاضبا:
صلّ على النّبيّ يا حاجّ محمود.
لكنّ الحاجّ محمود لم يصلّ على النّبيّ ولم يسكت، فعاد يقول:
واكتمل الشّؤم والنّحس بموافقتكم على خطبة ابنتكم حفيظة لشقيق العروس، والنتيجة رأيناها وهي وفاة شيخنا وكبيرنا فالح –رحمه الله- وكأنّه لا يوجد عرسان أكفياء في عشيرتنا.
ارتعد الشّيخ عليّ غضبا، وقال بلهجة الآمر:
لا أسمح لك بمواصلة الحديث بهكذا خزعبلات، اعرف حدودك، فمن أنت حتّى تحدّد لنا من يتزوّجها ابننا، وممّن سنزوّج ابنتنا؟ ما قلّة الحياء هذه؟ أنت في بيتنا، ومن أنت حتّى تشتم أصهارنا في بيتنا؟ ولو كنّا في مكان آخر، لأسمعتك الجواب الذي يليق بك.
وهنا وقف أبناء الشّيخ فالح الآخرون وفي نيّتهم أن يطردوه من الجلسة، لكنّ الشّيخ عليّ أشار إليهم بالهدوء.
عندها استند الحاج مقرن ابن عمّ الحاجّ محمود وقال له:
“الملافظ سَعْد” يا حاجّ محمود، والمثل يقول: “لكلّ مقام مقال”، ونحن في عزاء كبيرنا وقدوتنا، وأنت – مع الأسف- تهذي بما لا تعرف، ولا يحقّ لك معرفته، فاسكت – يا رعاك الله-، ولا تخلق لنا مشكلة لا تعرف عواقبها، ثمّ التفت إلى الشّيخ عليّ وقال:
يا أبا حسين أنت شيخنا وكبيرنا بعد الشّيخ فالح –رحمه الله-، وأنت جدير بهذا الإرث الذي ورثته كابرا عن كابر، فلا تؤاخذنا بجهالة بعضنا “والماعون الكبير يسع الماعون الصّغير.”
ابتسم الشّيخ عليّ وقال:
بارك الله بك يا حاجّ مقرن، وربّنا –سبحانه وتعالى- “عندما قسّم العقول بين النّاس، رضي كلّ منهم بعقله، وعندما قسّم الأرزاق لم يرض أحد برزقه.”
ثمّ أمر أحد أبنائه بصبّ القهوة للجميع، وبعدها انفضّت الجلسة.
*****
قصد أعرابيّ من صحراء العرب قبيلة الصّقور جنوب الأردنّ بصحبة زوجته هاربين من القحط والجوع الذي عمّ ديارهم، فأكرموا وفادته، حيث خصّص له شيخ القبيلة بيتا من الشَّعَر في مضاربه، ومنحه قطعة من الأرض يزرعها وثلاثين رأسا من الغنم البياض؛ ليعتاش منها، واعتبره واحدا من أبناء العشيرة. عاش الرّجل بينهم معزّزا مكرّما أكثر من عشر سنوات، أنجب خلالها عددا من الأبناء، وأصبح لديه قطيع من الغنم يربو على المائتي رأس. ولمّا اشتدّ عوده قال لشيخ القبيلة:
يا شيخ ردّاد، “البلاد طلبت أهلها”، وأنا أشتاق أهلي بعد هذا الفراق الطّويل، وأنوي العودة إلى دياري؛ لأساعد أهلي على متاعب الحياة.
ابتسم الشّيخ ردّاد وقال له:
شرّفتنا يا ولدي بوجودك بيننا، ويعزّ علينا فراقك بعد أن أصبحت واحدا منّا، لكن إذا كانت هذه رغبتك، فإنّنا لا نقول لك إلا رافقتك السّلامة.
قال الأعرابيّ على استحياء:
لساني عاجز يا شيخ عن شكرك أنت وأبناء عشيرتك على ما لقيته عندكم من كرم الضّيافة، ولم أشعر يوما أنّني غريب بينكم، بل شعرت أنّني بين أهلي وربعي، وجميلكم عليّ دين في رقبتي إلى يوم الدّين، وسأبقى على تواصل معكم ما حييت، لكنّني أتذكّر دائما والديّ وإخوتي وأهلي ومرابع طفولتي، وبعد غد سأعود إليهم إذا سمحت لي.
الشّيخ ردّاد: سنفتقدك يا ولدي، لكن ما دامت هذه رغبتك، ارجع إلى أهلك سالما غانما، وأنا أحيّيك على هذه الأصالة التي تتحلّى بها، والأصيل مثلك لا ينسى أهله.
عندما حانت ساعة الرّحيل، حمّل الأعرابيّ معه حمولة بغل من الزّبيب و”القطّين”، وشوال قمح على بغل آخر، ساق قطيع أغنامه وغادر رفقة زوجته وأطفاله بعد أن ودّعوا شيخ القبيلة وجيرانهم وسط دموع الفراق التي انهمرت من عيون الجانبين.
لمّا وصل الأعرابيّ دياره، استقبله الأهل والأقارب استقبال الفاتحين فقد “غاب وجاب”، وأخذ يحدّثهم عن طيبة وكرم من استضافوه، كما حدّثهم عن الخيرات الزّراعيّة والمراعي الخصبة الموجودة في الأردنّ، فدهشوا ممّا سمعوا.
فكّر بعض شبابهم بتكرار تجربة قريبهم الذي عاد والنّعمة بادية عليه، تداولوا في أمر الهجرة إلى الأردنّ بحثا عن حياة أفضل، وبعد مداولات ومشاورات بينهم استمرّت بضعة أشهر، اقترح شباب عشيرتهم على شيخهم بأن يغزوا قبيلة الصّقور الأردنيّة؛ لينهبوا أموالهم وماشيتهم وحبوبهم، ويعودوا بها إلى مضاربهم، وهذه ستنتشلهم من حالة الفقر المتواصل التي يعيشونها.
طرب شيخ القبيلة لاقتراح الشّباب، فبرم شاربيه، انتفخت أوداجه وقال لهم: استعدّوا للغزو.
استدعى شيخهم جحيش العائد من الأردنّ واستفسر منه عن أشياء كثيرة، تتمحور حول رجال عشيرة الصّقور الأردنيّة، ممتلكاتهم، أسلحتهم، مدى استعدادهم للقتال.
فردّ عليه العائد محمّد خريّان: رجالهم أشدّاء، خيراتهم كثيرة، يملكون آلاف رؤوس الأغنام، لديهم خيول أصيلة، أراضيهم خصبة يزرعونها حبوبا وخضروات، لا يسمح لهم الإنجليز باقتناء السّلاح، ومع ذلك فإنّ لديهم أسلحة قليلة وبسيطة، فالبدويّ لا يستغني عن السّلاح لحماية نفسه، وهو يخبّئ سلاحة في مكان آمن، ولا يظهره إلا وقت الضّرورة، وقد شاهدت بعضهم يطلق الرّصاص في مناسبات الزّواج؛ لأنّ مضاربهم بعيدة عن عيون الإنجليز.
استمع الشّيخ جحيش لما قاله ابن العشيرة العائد، فجمع ثلاثمائة من فرسان عشيرته الأشدّاء، وكلّ واحد منهم يملك بندقيّة انجليزيّة وهذه البنادق هي كل ما بحوزة العشيرة من سلاح، وطلب منهم أن يهاجموا قبيلة الصّقور، وأن ينهبوا أموالهم وماشيتهم، كما أمر محمّد خريّان العائد من الأردنّ أن يرافقهم كدليل لهم، فردّ عليه الأخير بقوله:
لا أستطيع مرافقتهم، وتساءل:
كيف سأشارك في قتال من أكرموني وحموني، واعتبروني واحدا منهم؟
عندما يئس الشّيخ جحيش من اقناع محمّد خريّان بالمهمّة وبّخه وطرده من مجلسه.
لم ينم محمّد خريّان ليلته من شدّة القلق، فكّر بأن يغافل عشيرته؛ كي يتسلّل سريعا إلى عشيرة الصّقور الأردنيّة؛ لتحذيرهم من الغزو الذي يتهدّدهم، لكنّه فكرته لم تخرج إلى حيّز التّنفيذ؛ لأنّ الغزاة انطلقوا فجر تلك الليلة؛ لتنفيذ مهمّتهم.
وصل الغزاة أطراف مراعي قبيلة الصّقور، فرآهم بعض الرّعاة الذين أسرعوا إلى شيخ قبيلتهم يخبرونه بما رأوه، فجمع فرسان القبيلة ووزّعهم مجموعات ترابط كلّ منها في مكان محدّد؛ ليردّوا الغزاة، وفي نفس الوقت شاهدت الغزاةَ دوريّة من الجيش تعود لوحدة عسكريّة يقودها مسعود بن الشّيخ فالح نفسه، فنشر عساكره على شكل نصف دائرة تحيط بالغزاة من ثلاث جهات، وأخذت تراقب تحرّكاتهم.
مع ساعات الفجر الأولى انطلق الغزاة على مضارب عشيرة الصّقور، فتصدّى لهم فرسان العشيرة، في حين هاجمهم الجيش من خلفهم ومن يمينهم ويسارهم، فسقطوا جميعهم بين قتيل وجريح وأسير.
عندما علمت عشائر شمال البلاد بتلك الواقعة، احتدم النّقاش بين شيوخ العشائر في المنطقة حول الالتحاق بالجيش، وانقسموا بين مؤيّد ومعارض، والمؤيّدون تأثّروا بموقف مسعود بن الشّيخ فالح، الذي أوضح مرارا وتكرارا أنّ الجيش هو سياج الوطن الذي يحمي حدوده، في حين شكّك المعارضون بذلك ما دامت قيادة الجيش تحت سيطرة الإنجليز، لكنّ الشّيخ عليّ بن فالح حسم الموضوع بقوله:
الالتحاق بالجيش قضيّة حتميّة، والخطر القادم ليس من غزوات القبائل الجائعة، وإنّما من هجمات الهجرات الصّهيونيّة على فلسطين بدعم من الإنجليز، وإذا ضاعت فلسطين اليوم سيضيع الأردنّ غدا.
فردّ عليه أحدهم قائلا بحماس:
لقد قلتها أنت بأنّ الإنجليز يدعمون الهجرات الصّهيونيّة، والإنجليز يتحكّمون بالجيش عندنا.
ابتسم الشّيخ عليّ وقال:
بغضّ النّظر عن موقف الإنجليز، فأفراد الجيش هم أبناؤنا، وماذا سنخسر إذا ما حصلوا على السّلاح وتدرّبوا عليه؟ وهم بالتّأكيد سيعرفون متى وكيف سيستعملونه، وفي الأحوال كلّها فأنا أوّل من يرسل أبناءه وإخوانه وأبناء العشيرة للالتحاق بالجيش كما فعل أخي مسعود. وأنتم أحرار بقراركم.
فردّوا بصوت واحد:
ونحن لسنا أحسن منكم، وسنرسل أبناءنا أيضا للالتحاق بالجيش، ونأمل من مسعود أن يساعد في ذلك.
خلال شهر اكتظّت معسكرات التّدريب بالجنود الجدد من مختلف أرجاء الأردنّ، حتّى لم يبق بيت واحد إلا ومنه جندي واحد على الأقلّ.
*****
بعد أسبوع من وفاة الشّيخ فالح، ما زالت المضافة تغصّ بالمعزّين الذين يؤمّونها…والشّيخ عليّ يتصدّر المجلس وإخوته وأبناء العائلة يحيطون به في بيعة عفويّة تعني الإقرار له بالمشيخة خلفا لوالده، فهو الابن المؤهّل لسدّ الفراغ الذي تركه والده برحيله، فالرّجل تربّى في كنف الشّيخ الرّاحل، وكان يرافقه في حلّه وترحاله، وهذا بسبب أنّه يحمل اسم أخيه عليّ بِكر الشّيخ فالح الذي اختطفه الموت وهو في عزّ الشّباب، فأسموا “عليّ” الجديد بِكر زينب على اسمه.
بعد صلاة العشاء طرق باب المضافة ثلاثة رجال غرباء وواحد منهم يقول:
يا ساتر.
قفز عدد من شباب العائلة لاستقبالهم، دخلوا بقامات عالية وفي مشيتهم هيبة ملحوظة، توجّهوا إلى الشّيخ عليّ مباشرة، عانقوه وعزّوه بوفاة والده، أفسح الشّيخ عليّ مكانا لهم بجانبه، قال كبيرهم بلهجة الواثق بعد أن احتسوا القهوة التي صبّها لهم الشّيخ بيديه:
رحم الله فقيدكم الذي نفتقده جميعنا، ونحن مندوبون من مفتي فلسطين الحاجّ أمين الحسيني، ومن قائد الجهاد المقدّس عبد القادر الحسيني؛ لتقديم العزاء لكم بالفقيد، وهما يعتذران عن الحضور لأسباب قاهرة لا يد لهما فيها.
رحّب بهم الشّيخ عليّ بحرارة وقال:
شكرا لكم ولهما، ونحن نتشرّف بحضوركم بيننا، ونسأل الله السّلامة لفلسطين وشعبها، كما أنّنا نتابع أخبار ما يجري عندكم، وما يصيبكم يصيبنا، فنحن وإيّاكم شركاء في السّرّاء والضّرّاء.
همس كبيرهم بأذن الشّيخ عليّ أنّهم يريدون الحديث معه على انفراد، فوقف وقال لهم:
هيّا بنا.
حاول الحضور الخروج من المضافة؛ ليفسحوا المجال لهم؛ ليتحدّثوا بما يشاؤون، إلا أنّ الشّيخ عليّ طلب منهم أن يبقوا في مكانهم، اصطحب ضيوفه وخرج بهم، قادهم إلى بيت ابنه حسين، الذي يقع في طرف الحارة التي يسكنونها في كفر الرّمل، وهناك عاد يرحّب بهم من جديد، حيث عرّفه كبيرهم على أنفسهم، وأضاف:
تعلمون ما يجري في فلسطين، فالهجرات اليهوديّة بازدياد مستمرّ تحت رعاية الإنجليز، الذين يدرّبونهم ويسلّحونهم لقتالنا، ويخطّطون لإقامة دولة لهم في بلادنا، والإنجليز ينكّلون بشعبنا فيقتلون ويدمّرون كما يشاؤون، حتّى أنّهم يعدمون أيّ فلسطينيّ يحاول اقتناء أيّ سلاح، حتّى ولو كان رصاصة فارغة أو “شبريّة”، لكنّ شعبنا لم ولن يستسلم، ويدافع عن أرضه بكلّ الطّرق التي يستطيعها، وقد سبق للشّيخ مناور والشّيخ فالح أن اجتمعا بالبيك عبد القادر الحسيني، وعرضا عليه تقديم المساعدة التي يريدها، والبيك يقرئك السّلام ويرجو منكم تزويده بالسّلاح الذي تستطيعون جمعه أو شراءه.
أصغى الشّيخ عليّ باهتمام للحديث الذي سمعه وقال:
حيّاكم الله أنتم والبيك، ونحن جاهزون لتقديم ما نقدر عليه من رجال ومال وسلاح.
– هذا أملنا بكم، ونحن لا ينقصنا الرّجال، وما ينقصنا هو السّلاح.
– توكّلوا على الله.
استأذنوا بالخروج، غير أنّ الشّيخ عليّ لم يأذن لهم قبل أن يأخذوا حقّهم بالضّيافة، فشرحوا له بأنّهم على عجلة من أمرهم للذّهاب إلى الشّام؛ وليعبروا الحدود تحت جنح الظلام، فطمأنهم قائلا:
غدا سأرافقكم إلى الشّام في وضح النّهار، فنحن في هذه المنطقة نعرف الطّرق إلى الشّام جيّدا، ونعرف مراكز الجيش البريطانيّ على حدودنا، ومراكز الجيش الفرنسي داخل الحدود السّوريّة؛ فنتخطّاها بعيدا عنهم، ونحن معتادون على بيع بعض منتوجاتنا في الشّام، كما نشتري منها ما يلزمنا.
التفتوا إلى وجوه بعضهم البعض لفتة تعني المشورة، فقال كبيرهم الذي اتّفقوا أن يكون ناطقا باسمهم قبل وصولهم بيت الشّيخ عليّ:
ما دمنا سنتشرّف برفقتك لنا، فإنّنا نتشرّف بالمبيت عندكم.
– هذا شرف لنا، ستنامون في هذا البيت آمنين وبعيدين عن عيون الآخرين، فالحذر مطلوب، وإذا ما طرأ طارئ من الإنجليز فأنتم من عائلتنا ولا خوف عليكم، فديارنا منيعة.
استأذن الشّيخ عليّ منهم، كي يعود إلى المضافة خوفا من إثارة الشّبهات بغيابه عن المضافة، وترك ابنه حسين معهم.
بعد أن انفضّت الجلسة في المضافة، قصد الشّيخ عليّ بيت خاله الشّيخ مناور في كفر العسل المجاورة، حيث وجده مستعدّا للنّوم، ولمّا رآه الشّيخ مناور قفز من فراشه وسأل:
كفانا الله الشّرّ، هل حصل مكروه يا أبا حسين؟
ردّ الشّيخ عليّ بهدوء:
لا تقلق يا خال، جئت أستفسر منك عن اجتماعك أنت والوالد المرحوم مع عبد القادر بيك الحسيني عندما زرتما القدس؟
تنهّد الشّيخ مناور نافخا القلق الذي اعتراه من صدره وقال:
نعم اجتمعنا مع البيك أنا والمرحوم أبوك والشّيخ مهاوش، وسألناه عمّا يمكننا أن نساعد فيه للدّفاع عن القدس والمسجد الأقصى، فقال بأنّه سيبعث مندوبا عنه؛ ليجتمع بنا في ديارنا.
الشّيخ عليّ: لقد وصلنا هذا المساء ثلاثة مندوبين من طرف البيك، وقدّموا لنا العزاء بوفاة الوالد، ويريدون المغادرة إلى الشّام في محاولة منهم لشراء أسلحة، وسأرافقهم إلى الشّام يوم غد.
الشّيخ مناور: كان بودّي أن أكون معكم، لكنّني سأبقى هنا؛ لأشتري عددا من البنادق، وما يتيسّر من الرّصاص؛ لنزوّدهم بها.
الشّيخ عليّ: على بركة الله، واستأذن عائدا إلى بيته.
في اليوم التّالي غادر الشّيخ عليّ وضيوفه كفر الرّمل في طريقهم إلى الشّام، امتطى كلّ منهم فرسا من خيول الشّيخ عليّ، ساروا مع جموع الفلّاحين الذين يسوقون دوابّهم المحمّلة باللبن الجميد والسّمن البلديّ؛ لتسويقها في الشّام. بينما استدعى الشّيخ مناور عددا من رجال عشيرته الذين يعرف أنّهم يمتلكون بعض البنادق التي غنموها في الحرب العالميّة الأولى، أكرم وفادتهم وخاطبهم قائلا:
القدس والمسجد الأقصى في خطر، وإخواننا في فلسطين يعانون من قلّة السّلاح، وعلينا نجدتهم، ومن منكم يملك سلاحا ناريّا فأنا جاهز لشرائه منه؛ كي أرسله للثّوار في فلسطين.
سكت الحضور هنيهة، لكنّ أبا الفهد كسر حاجز الصّمت وقال متحمّسا:
باطل وأنا أبوك يا فهد، أنا لا أبيع بندقيّتي، ومن غير المعقول أن نبيع سلاحنا للثّوار، بل سنقدّم لهم السّلاح وكلّ ما نملك دون مقابل، وسأتطوّع بنفسي للقتال دفاعا عن المسجد الأقصى.
وبعده قال الآخرون بحماس:
ونحن مثلك يا أبا فهد، نقدّم بنادقنا هديّة لإخواننا في فلسطين، ومن يستطيع منّا القتال فسيتطوّع دفاعا عن المسجد الأقصى، وهذا أقلّ واجب منّا تجاه إخوتنا في فلسطين.
ابتسم الشّيخ مناور لشهامة ربعه وأهله، فشكرهم، وطلب منهم أن يأتوه بما يتوفّر لديهم من بنادق ومن رصاص، وكان عددها خمس عشرة بندقيّة انجليزيّة.
وعاد أبو الفهد يسأل:
وكيف ستوصلها لفلسطين يا شيخ؟
فردّ الشّيخ مناور:
سيأتي جماعة منهم لاستلامها وتهريبها ليلا عبر النّهر.
فقال أبو الفهد: لا داعي لذلك يا شيخ، فأنا سأوصلها إلى المكان الذي سيحدّدونه لنا.
أكبر الشّيخ عليّ نخوة ومروءة أبي الفهد وقال:
هذه قضيّة ليست سهلة، ويجب التّعامل معها بحذر، وأنتم مطالبون بمراقبة الطّرق شرقيّ النّهر؛ لتخطّي نقاط المراقبة العسكريّة، والفلسطينيّون يراقبون غربيّ النّهر للسّبب نفسه؛ كي نصل أهدافنا دون خسائر.
اتّفقوا على ذلك على أن يعود أبو الفهد للشّيخ مناور بعد ثلاثة أيّام بناء على طلب الأخير، الذي أراد مهلة حتّى يعود الشّيخ عليّ ومن معه من الشّام.
بعد يومين عاد الشّيخ عليّ وصحبه من الشّام، عادوا باتّفاق مع أحد مشايخ جبل العرب أن يجمع لهم ما يستطيع من تبرّعات وسلاح.
التقى بهم الشّيخ مناور، وأخبرهم أنّه قد جمع خمس عشرة بندقيّة انجليزيّة وشوال رصاص. اتّفق مع الوفد الفلسطينيّ أن يعطي كلّ واحد منهم بندقيّة وخمسين رصاصة للدّفاع عن أنفسهم عند أيّ خطر يواجههم، على أن يحدّدوا له مكانا غرب النّهر لإيصال البنادق المتبقّية إليه، شكروه وعادوا في ليلتهم إلى القدس.
في الليلة التّالية عبر أبو الفهد ومعه شابّان النّهر والبنادق محمّلة على ظهر بغل، وصلوا بها منطقة فصايل شمال أريحا حسب الاتّفاق الذي أبرمه الشّيخ مناور مع مندوبي البيك، وهناك وجدوا شخصا بانتظارهم، سلّموه البنادق والرّصاص، وقفل الشّابّان عائدين شرقا في ليلتهم، بينما رفض أبو الفهد العودة وهو يقول:
سأقاتل مع جنود البيك، ومن غير المعقول أن أعود شرقا والأقصى في خطر.
بعد أيّام قليلة بعث الشّيخ مناور ابنه سلطان إلى شيوخ عشائر الجنوب، في الكرك وماديا ومعان، طالبا منهم العون في إمداد مقاتلي الجهاد المقدّس بالسّلاح.
عندما وصلهم سلطان حاملا رسالة أبيه الشّفويّة وجدهم قد قاموا بالواجب طواعية، وأنّهم يقومون بتهريب السّلاح عبر وادي عربة، حيث يعرفون الطّرقات جيّدا، يهرّبونها إلى مدينة الخليل التي اعتادوا ارتيادها لشراء احتياجاتهم البيتيّة منها وللصّلاة في المسجد الابراهيميّ.
*****
يجلس الشّيخ عليّ في المضافة في أوقات فراغه قلقا، فهناك أمور كثيرة لا بدّ من إيجاد الحلول لها، وهو لا يحمل هموم عشيرته فقط، بل هو دائم التّفكير بما هو أبعد من ذلك بكثير، حتّى ما يجري في فلسطين هو شريك فيه، لا يمكنه الابتعاد عنه، لذا فإنّه يواصل الحديث أينما حلّ وارتحل عن المخاطر التي تهدّد فلسطين، ويحثّ النّاس على ضرورة الدّفاع عن هذا البلد، محمّلا الإنجليز المسؤوليّة الكاملة عن الأحداث.
ذات يوم جاء ضابط انجليزيّ مع زوجته بصحبة مسعود لزيارة كفر الرّمل، وقد دفعته زوجته لهذه الزّيارة في محاولة منها للاطلاع على كيفيّة حياة النّاس في القرى الأردنيّة.
عندما وصلوا المضافة استقبلهم الشّيخ عليّ بحفاوة رغم كرهه للإنجليز، لكنّ العادات تتطلّب أن تستقبل ضيوفك وأن تكرمهم.
دعا مسعود عددا من نساء العائلة للجلوس في المضافة مع الضّيوف، وقال لأخيه الشّيخ عليّ:
الإنجليز لا “حريم” عندهم، فنساؤهم يجالسن الرّجال ويتحدّثن معهم بشكل عاديّ، ومن غير اللائق أن تجلس “الإنجليزيّة مع “الحريم” في المحرم.
دخلت هدى سعيد الحسين زوجة حسّان إلى المضافة باسمة، صافحت الضّيفين وتكلّمت معهما بالإنجليزيّة، فانتبه لها الضّيفان، كما انتبه لها نساء ورجال العائلة، جلست بجانب الشّيخ عليّ تترجم ما يقول للضّيفين، وتترجم ما يقوله الضّيفان على مسمع الجميع، حتّى أنّها كانت تترجم ما يقوله مسعود أيضا.
سألتها زوجة الضّابط وهي تضحك:
أين تعلّمتِ اللغة الإنجليزيّة؟
ابتسمت هدى وقالت:
تعلّمتها في المدرسة.
– وهل يوجد في قريتكم هذه مدرسة؟
– لا يوجد هنا مدرسة، أنا درست في مدرسة في مدينة طبريّا في فلسطين.
– إذن أنت من أرض إسرائيل.
– بل أنا عربيّة من فلسطين.
فسألت زوجة الضّابط مندهشة:
وكيف تزوّجت هنا؟
ردّت هدى بهدوء:
ما الغرابة في ذلك، فنحن شعب واحد، كلّنا عرب، وأنتم من وضعتم الحدود الوهميّة بيننا.
التفتت الإنجليزيّة إلى زوجها وقالت:
يبدو أنّ حكومتنا لا تعلم مدى ارتباط وانتماء هؤلاء النّاس ببلادهم.
بعدها التفتت إلى الشّيخ عليّ وسألته:
أنتم هنا هل تعتبرون أنفسكم أردنيّين أم فلسطينيّين؟
فتساءل الشّيخ عليّ بلهجة حادّة:
ما هذه الأسئلة؟ نحن عرب وأبناء وطن واحد، والبلدان العربيّة كلها وطن لنا.
اعتذر الضّابط الإنجليزيّ عن أسئلة زوجته، وقال:
إنّها لا تقصد شيئا من أسئلتها، وهدفها فقط هو معرفة الحقائق؛ لأنّها تجهل كلّ شيء عن هذه البلاد.
وهنا تدخّلت هدى وسألت الإنجليزيّة:
هل أنت يهوديّة يا راشيل؟
فوجئت راشيل بالسّؤال، احمرّ وجهها وقالت:
لا ….أنا لست يهوديّة…أنا مسيحيّة.
فعادت هدى تسأل:
إذن لماذا تضعين النّجمة السّداسيّة في قلادتك التي تتدلّى على صدرك؟
ارتبكت راشيل وقالت:
هكذا قلائد تباع في بلادنا بشكل عاديّ، وهي لا تعني لي شيئا.
فردّت هدى: النّجمة السّداسيّة شعار يهوديّ، وقد رأيت كثيرا من اليهود الذين يهاجرون إلى بلادنا رجالا ونساء يعلقونها على صدورهم.
راشيل: هذا أمر عجيب… لا أعرفه.
حاول مسعود أن يغيّر الحديث فقال:
دعونا نتكلّم عن أمور أخرى، ثمّ التفت إلى الضّابط الإنجليزي وسأله:
ما رأيك يا كابتن جورج؟ هل أعجبتك قريتنا؟
– نعم قرى بلادكم صغيرة وجميلة، لكن كيف يعيش النّاس هنا؟
مسعود: يفلحون الأرض، ويربّون المواشي.
– ماذا يزرعون؟
– يزرعون الحبوب والخضار.
– لماذا لا تزرعون الأشجار المثمرة؟
– من قال لك أنّنا لا نزرع الأشجار المثمرة؟ لدينا عشرات آلاف أشجار الزّيتون التي يزيد عمرها عن ألف عام، كما لدينا كروم العنب والتّين والرّمّان.
التفتت راشيل إلى هدى وسألتها ضاحكة:
هل يمكنك مرافقتي لنتجوّل في هذه المنطقة؟
ترجمت هدى ما قالته راشيل، فقال لها الشّيخ عليّ:
خذيها وامشي معها يا عمّي.
خرجت معها هدى، عندما رأت راشيل حظيرة الخيول بدت فرِحة فرحا طفوليّا وقالت:
يا إلهي ما أجمل هذه الخيول! هل يمكننا الاقتراب منها؟
هدى: بالتّأكيد.
اقتربت هدى من فرس الشّيخ عليّ، أخذت تمسّد رقبة الفرس التي كانت تهزّ رأسها بلطف، وتشمّ رائحة هدى، فظهرت وكأنّ بينهما ألفة. انتبهت راشيل لذلك وسألت:
يبدو أنّ الفرس تعرفك يا هدى.
– نعم…إنّها تعرفني، فالخيول تعرف أصحابها، وأنا أمتطيها مرّات عديدة.
أخرجت راشيل “الكاميرا” وشرعت تلتقط الصّور للخيول، ثمّ اقتربت من هدى، ومدّت يدها إلى جبين الفرس تتحسّسه وهي تقول:
هذه خيول جميلة، آذانها قصيرة، رؤوسها شامخة إلى الأعلى، ذيولها مرفوعة لا تتدلّى على السّيقان، بطونها ضامرة، عيونها كبيرة مستطيلة صافية برّاقة كحلاء شاخصة، كلّ ما في هذه الخيول جميل.
ابتسمت هدى وقالت لها:
هذه خيول أصيلة.
راشيل: ماذا تعني “أسيلة”؟
– Thoroughbreds horses It means
– يا إلهي….سمعت عن الخيول الأصيلة، لكنّ هذه هي المرّة الأولى التي أراها.
– هل سبق وأن امتطيت فرسا؟
– نعم…لوالدي صديق من اللوردات، لديه مزرعة كبيرة في ريف كامبريج، زرناه فيها عدّة مرّات، كانوا يقيمون فيها حفلات بمناسبات مختلفة، وفي تلك المزرعة خيول أجسامها مترهّلة، لكنّها ليست كهذه الخيول، كنّا نمتطيها ونمارس رياضتنا عليها.
هدى: هل تجيدين الفروسيّة؟
– نعم أجيدها، وليتكم تسمحون لي بامتطاء واحدة من هذه الخيول.
– هذا يتطلّب أن نستأذن لك من الشّيخ عليّ، فأنا لا أتحمّل المسؤوليّة إن سقطت عن ظهر الفرس.
عادت بها هدى إلى المضافة، وقالت بالعربيّة:
هذه المرأة تطلب الإذن لامتطاء فرس، ثمّ ترجمت ما قالت إلى الإنجليزيّة؛ كي يفهم زوجها ما تريده.
ابتسم زوجها وقال:
لا مانع في ذلك فراشيل تجيد ركوب الخيل.
أمّا الشّيخ عليّ فقد قال:
إذا سمح زوجها بذلك، خذيها يا هدى وألبسيها ثوبا من ثيابك؛ كي تغطّي سيقانها، لا نريد أن ينتقدنا أهل القرية، فتنورتها قصيرة، وإذا ما امتطت الفرس بها ستظهر وكأنّ جزءها السّفليّ عار تماما.
أسرجت هدى على فرس الشّيخ عليّ لتمتطيها هي، بينما أسرجت على فرس هرمة حامل على وشك الميلاد، حركتها بطيئة مقارنة برشاقة فرس الشّيخ عليّ، وكانت تقصد ذلك لعدم ثقتها بفروسيّة راشيل، امتطت كلّ منهما فرسها، أرخت هدى اللجام لفرسها، فقفزت كما الرّمح، لكنّها عادت وشدّت اللجام لتلحق بها راشيل، قادتها هدى في جولة وسط حقول وبساتين العائلة، وهي حريصة أن لا تمرّ في طرقات القرية؛ كي لا يتساءل النّاس عن هذه الشّقراء صاحبة “العيون الزّرقاء والقدود البرقاء.” توقّفتا عند طرف الوادي حيث حقول الرّمّان، وبعض أشجار التّين. نزلت هدى عن ظهر فرسها وسألت راشيل:
هل تحبّين التّين فهذا موسمه؟
– نعم أحبّه، نزلت عن فرسها.
– فقالت لها هدى:
– اقطفي الثّمار التي تحبّينها وكليها.
– التقطت راشيل حبّة تين “موازيّة” نزعت قشرتها عنها، تذوّقت طرفها وكأنّها تتفحصّها، ثمّ ابتلعتها دفعة واحدة وهي تقول:
– يا إلهي ما أحسن مذاق هذا التّين! هذه أوّل مرّة في حياتي أقطف ثمر التّين فيها بيدي، وأتذوّق طعم التّين الطازج.
– ضحكت هدى وقالت:
– أجمل الثّمار وأكثرها مذاقا هي تلك التي تقطف باليد، وتأخذ طريقها إلى معدة من يقطفها مباشرة.
عادت بها هدى إلى البيت بعد حوالي ساعة من الزّمن، فقد حان وقت الغداء، رغم أنّ راشيل كانت مستمتعة بالطّبيعة.
*****
عندما غادرت راشيل وزوجها الكابتن جورج بيت الشّيخ عليّ، تنفّس الشّيخ الصّعداء وقال:
هؤلاء الإنجليز الذين يتصنّعون الطّيبة أنجاس لا ينوون الخير لبلادنا، وهم سبب المصائب التي حلّت وتحلّ بنا، ثمّ التفت إلى هدى زوجة أخيه حسّان وقال:
بارك الله بك يا هدى، لقد بيّضتِ وجوهنا، لم أكن أعرف من قبل أنّ معك لسانا.
ضحك زوجها حسّان وسأل مازحا:
وهل كنت تظنّها خرساء؟
ردّ عليه الشّيخ عليه بهدوء:
قصدت أنّني لم أكن أعرف أنّها تجيد لسان الإنجليز.
سكت الشّيخ عليّ هنيهة ثمّ قال:
الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يقول: “من عرف لغة قوم أمن شرّهم.” وتعليم البنات مهمّ كتعليم الأبناء.
اغتنمت هدى الفرصة وسألت الشّيخ عليّ:
ما رأيك يا عمّ أن نفتح مدرسة للبنات؟
أشعل الشّيخ غليونه وقال:
هذا ما أفكّر به، وأنوي أن أطلبه من المسؤولين، لكن ستواجهنا مشكلة عدم وجود معلّمات.
هدى: إذا توفّرت الإرادة، ستتوفّر الاحتياجات الأخرى بسهولة.
الشّيخ عليّ: الإرادة متوفّرة.
هدى: إذن دعونا نباشر العمل، سنحتاج إلى غرفتين في البداية، وأنا سأقوم بتعليم البنات فيها، وما عليك سوى الذّهاب إلى المسئولين كي يزوّدونا بالمقاعد والكتب والقرطاسيّة.
الشّيخ عليّ: أنا أتبرّع بالغرفتين القائمتين في طرف بستان الرّمّان، وأتبرع بقطعة الأرض التي أمامها للمدرسة. ويوم غد سأذهب إلى متصرّف اربد؛ لأطلب منه احتياجات المدرسة.
هدى: نتمنّى عليك يا شيخ أن تدعو الأهالي، وتشرح لهم فكرة المدرسة، كي يوافقوا على إرسال بناتهم إليها عندما نفتحها.
الشّيخ: سأطرح الفكرة على المصلّين في المسجد.
هدى: هناك من لا يصلّون، وحتّى لا يعرفون الصّلاة.
– لكنّهم يعرفون أنّ هناك مدارس للأولاد، وبعضهم يرسل أبناءه إليها.
هدى: دعونا نباشر بتعليم بنات العائلة، وبعدها ستنتقل العدوى إلى الأخريات.
في اليوم التّالي امتطى الشّيخ عليّ فرسه وذهب إلى المتصرّف، شرح له فكرة فتح مدرسة للبنات في قريته كفر الرّمل، وقال له أنّه تبرّع بغرفتين وقطعة أرض تزيد على خمسة دونمات، وفيها بئر ماء.
المتصرّف: هذه فكرة جيّدة، سنطرحها على مديريّة التّربية والتعليم، كي يتدبّروا أمرهم في توفير معلّمات للمدرسة، أمّا الأثاث وبقيّة المستلزمات فمقدور عليها.
الشّيخ عليّ: المعلّمة موجودة عندنا.
المتصرّف: ماذا تقصد؟
أقصد زوجة أخي حسّان من طبريّا، وهي خرّيجة الصّفّ الأوّل الثّانوي، وتجيد اللغة الإنجليزيّة أيضا.
المتصرّف: هذا أمر جيّد، سنعيّنها مديرة للمدرسة، وستتقاضى راتبا شهريّا. غدا سأرسل إليكم مدير التّربية والتّعليم للكشف على الغرفتين اللتين تبرّعتَ بهما، وفي بداية العام الدّراسي في شهر أيلول سنفتتح المدرسة.
– يا عمّي هدى لا تريد راتبا، هي متطوّعة لتعليم بنات القرية.
ابتسم المحافظ وقال:
يا شيخ عليّ، هداك الله:”حكي القرايا ما بيجي على حكي السّرايا”، التّعليم ليس لعبة، ويجب ضبط الأمور.
جمعت هدى بنات العائلة ممّن هنّ دون سنّ العاشرة، قادتهنّ إلى الغرفتين اللتين تبرّع بهما الشّيخ عليّ، كنستهما، غسلت أرضيتهما، ثمّ فرشتهما بالحصر، رتّبت البنات بصفوف متوازية، جلست أمامهنّ وجها لوجه والسّعادة تخيّم عليها وقالت:
سنباشر الدّراسة من اليوم، سنحضر الكتب والدّفاتر والأقلام خلال الأيّام القليلة القادمة، أمّا اليوم فسنتعلّم الحساب، سنبدأ بجدول الضّرب.
أمضت مع البنات ساعتين علّمتهنّ خلالها جدول الضرب للرّقم اثنين حتى الرّقم عشرة، والبنات يردّدن خلفها ما تقوله بصوت واحد.
قبل أن تنصرف البنات أحضرت هدى لوحا خشبيّا مربّع الشّكل طول ضلعه 50 سنتيمتر، وكتبت عليه بحجر جيريّ “مدرسة كفر الرّمل للبنات”، وعلّقت اللوح فوق باب الغرفة الغربيّة. في هذه الأثناء وصل الشّيخ عليّ بصحبة مدير التّربية والتعليم من اربد، عندما رأى اللوحة التي تحمل اسم المدرسة قال للشّيخ عليّ مازحا:
يبدو أنّ مدرستكم افتتحت دون علمنا.
رحّبت بهما هدى وقالت:
التّعليم لا يحتاج إذنا، ونحن هنا بحاجة إلى مدرسة للبنات.
قال مدير التّربية والتّعليم بلهجة الواثق:
ونحن نبارك خطوتكم الرّائدة، وسندعمكم بكلّ ما نقدر عليه، وخلال أسبوع سنزوّدكم باحتياجات المدرسة من المقاعد، القرطاسيّة، كتب للصّف الأوّل الابتدائيّ، طراشة الغرف، لوح وطباشير. وسنفتتح المدرسة بشكل رسميّ بعد شهرين في بداية أيلول، وهذا يتطلّب تعيين معلّمات ومديرة، ثمّ التفت إلى هدى وسألها عن اسمها، وبعدها سأل:
ما تحصيلك العلميّ؟
ردّت هدى مزهوّة بنفسها:
أوّل ثانويّ.
– في أيّ مدرسة تعلمتِ؟
– في مدرسة طبريا للبنات.
– لماذا لم تكملي دراستك؟
– لأنّني تزوّجت.
– يجب أن تأتي إلى مكتب التّربية والتّعليم في اربد لتقديم طلب وظيفة معلّمة، وسنوافق عليه فورا.
التفتت هدى إلى الشّيخ عليّ دون أن تتكلّم فقال:
غدا سأحضرها معي.
عاد مدير التّربية والتّعليم يسأل الشّيخ عليّ:
هل يوجد في القرية نساء أخريات متعلّمات؟
فردّ الشّيخ عليّ: هناك من تعلّمن عدّة أشهر في كتّاب المسجد.
– هؤلاء لا يصلحن للتّدريس.
غادر مدير التّربية والتّعليم المكان، وعاد مع الشّيخ عليّ إلى المضافة، وهناك تباحثا بضرورة الإسراع في تجهيز المدرسة، كما أكّد على ضرورة أن ترتدي التّلميذات “مراييل” موحّدة كبقيّة مدارس الإمارة.
فقال الشّيخ عليّ: هذه ليست مشكلة، سيشتري الأهالي القماش المطلوب، وستخيط كلّ أمّ مريلة لابنتها.
غادر مدير التّربية والتّعليم القرية، وهو يفكّر بضرورة توفير الميزانيّات التي يستطيع من خلالها افتتاح مدارس في مختلف قرى المنطقة، وضرورة اختيار المعلّمات والمعلّمين الأكفياء لهذه المهمّة، مع معرفته المسبقة بالأعداد القليلة لمن أنهوا مثله المرحلة الثّانويّة “المترك”، لكنّه سيحلّ المشكلة باختيار من أنهوا أعلى صفوف تعليميّة.
عند المساء جاء الحاجّ محمود إلى مضافة الشّيخ عليّ، الكشرة تعلو وجهه، احتسى قهوته وسأل:
هل تعلم يا شيخ عليّ أنّ “الحرمة” الفلسطينيّة قد جمعت البنات في الغرفتين الواقعتين عند كَرْم الرّمّان.
ردّ عليه الشّيخ عليّ باستهتار:
نعم أعلم، وقد تبرّعتُ بتلك الغرفتين؛ لتكونا نواة لمدرسة لبنات القرية، كما تبرّعت بالأرض التي أمامهما لتكون ملعبا للمدرسة. وهدى جمعت البنات لتعليمهنّ.
الحاجّ محمود غاضبا: هِئْ هئْ هذا ما ينقصنا.
لم يسمح له الشّيخ عليّ بمواصلة الحديث وقال له:
طبعا هذا ما ينقصنا، فتعليم البنات واجب.
فعاد الحاج محمود يسأل مستهزئا بهدى:
وماذا تعرف هذه البنت الفلسطينيّة حتّى تعلم بناتنا؟
الحاج عليّ: لا فرق بين فلسطينيّ وأردنيّ، فنحن شعب واحد، وهدى ليست غريبة عنّا، فهي زوجة أخي حسّان، وهي واحدة من بناتنا. وهدى فتاة متعلّمة وتتكلّم الإنجليزيّة أيضا.
الحاجّ محمود غاضبا: يبدو أنّ الدّنيا آخر وقت. أنتم أحرار ببناتكم، لكنّني وإخوتي وأبناءنا لن نعلّم بناتنا.
الحاج عليّ: بالتّأكيد نحن أحرار ببناتنا، وسنعلّمهنّ دون إذن من أحد، فنحن أدرى بمصالحهنّ. ولن نضع سيفا على رقبة أحد كي يعلّم ابنته، مع أنّنا ندعو لتعليم البنات، ونرحّب بأيّ بنت ستلتحق بالمدرسة. وما دام في القرية مدرسة للبنين، فلماذا لا تكون مدرسة للبنات.
وهنا دخل إمام المسجد، فوقف الحضور لاستقباله، وبعد أن جلس في صدارة المضافة بجانب الشّيخ عليّ، عاد الحاجّ محمود يقول:
البنات عورة، ولا يجوز خروجهنّ من البيت إلا للزّواج، فالزّواج سترة.
فردّ عليه الشّيخ عليّ ضاحكا ساخرا:
إذا كان البنت عورة ولا يجوز خروجها من البيت، فلماذا تترك بناتك يرعين الغنم في الجبال والوديان، ويزرعن ويحصدن في الحقول البعيدة عن البيت؟
الحاج محمود: بناتنا يرعين غنمنا، ولا يرعين غنم النّاس، ويعملن في أرضنا وليس في أرض غيرنا.
وهنا تدخّل إمام المسجد وقال:
صلّوا على النّبيّ يا ناس، ما الدّاعي لهكذا حديث؟
فردّ عليه الشّيخ عليّ بعد أن صلّى على النّبيّ وحوقل:
تبرعتُ بالغرفتين القديمتين وبالأرض التي أمامهما؛ لتكونا مدرسة للبنات القرية، والحاجّ محمود –كما ترى- يعارض وجود مدرسة للبنات.
بسمل الإمام وحمدل ووجّه كلامه للحاجّ محمود:
الله يخلف على الشّيخ عليّ، هذه فكرة جيّدة، وتعليم البنت وعملها ليس حراما ولا عيبا، فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم يحضّ على تعليم البنات فيقول:” مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ ، فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نَعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبِغَ عَلَيْهِ، كَانَتْ لَهُ سِتْرًا وَحِجَابًا مِنَ النَّارِ.”
ابتسم الشّيخ عليّ لكلام إمام المسجد وقال:
لا فضّ فوك يا شيخنا.
وهنا وجد الحاجّ محمود نفسه بين فكّي كمّاشة يصعب عليه الإفلات منها، فغادر الجلسة غاضبا وهو يقول:
الله يهديكم.
فضحك الحضور وقالوا بصوت واحد:
ويهديك أيضا.
بارك إمام المسجد خطوة الشّيخ عليّ بافتتاح مدرسة للبنات، وأمضى الجلسة وهو يتحدّث عن أهمّيّة التّعليم، خصوصا تعليم البنات.
قبل أن يغادر إمام المسجد الجلسة قال له حسّان بعد أن استأذن من أخيه الشّيخ علي:
أريد منك يا فضيلة الشّيخ أن تصل الحاجّ محمود في بيته؛ كي تحذّره من مغبّة الإساءة أو التّطاول على زوجتي، وممنوع عليه أن يتلفّظ باسمها خيرا أو شرّا وإلا فإنّه سيرى منّى ما لا يعجبه.
استند الشّيخ عليّ في جلسته وقال لحسّان:
الحاجّ محمود رجل جاهل، ولا يميّز الخطأ من الصّواب، ودائما يتدخّل في أمور لا تعنيه، وهذه عادته بشكل دائم، و”الرّجل مرفوع القلم عنه”، و”لا تضع رأسك برأسه” يا حسّان.
أمّا إمام المسجد فقد قال:
كلّنا نعرف الحاجّ محمود، ونعرف كيف يفكّر، ومع ذلك سألفت انتباهه إلى ضرورة أن يعرف حدوده، وأن لا يتعرّض لأعراض النّاس.
*****
رغم التّشديدات الأمنيّة التي فرضها الإنجليز على نهر الأردنّ؛ لتحديد حركة المواطنين على ضفّتي النّهر، خصوصا وأنّهم فرضوا ضرائب باهظة على فلسطين، في محاولة منهم للتّضييق على مواطنيها، لإجبارهم على الرّحيل عنها؛ لتبقى مفتوحة أمام الهجرات اليهوديّة، تمهيدا لإقامة وطن قوميّ لليهود فيها، لكنّ الإنجليز لم يستطيعوا فرض سيطرتهم رغم المظالم التي ألحقوها بالفلسطينيّين، الذين لجأوا إلى السّلاح لحماية ديارهم وبلادهم، كما خرقوا القوانين الانتدابيّة من خلال تهريب البضائع التي يحتاجها السّوق الفلسطينيّ، فيشترونها من الأسواق الأردنيّة ويعبرون بها النّهر ليلا، وكان الشّيخ فالح ومن بعده ابنه الشّيخ عليّ، قد جعلوا من مزرعتهم في الشّونة الشّماليّة قاعدة للمهرّبين، فهم يوفّرون من أسواق عمّان والسّلط واربد البضائع التي يحتاجها المهرّبون الفلسطينيّون، الذين يستلمونها في ليلتهم ويعبرون بها النّهر محمّلة على دوابّهم من بغال وحمير، ويعودون بها إلى قراهم ومدنهم، وكلا الطّرفين يستفيدان مادّيّا من ذلك، فالشّيخ فالح كان ربحه جنيها فلسطينيّا على حمولة كلّ حمار أو بغل، في حين كان المهرّبون يأخذون من تجّار المدن خمسة جنيهات على حمولة الحمار وسبعة جنيهات على حمولة البغل، بينما كانت أجرة العامل في ذلك الوقت تتراوح بين 3-5 قروش يوميّا. وبما أنّ “أهل مكة أدرى بشعابها” فقد كان المهرّبون يتخطّون نقاط الحراسة البريطانيّة الثّابتة على ضفّتي النّهر، فيعبرون النّهر ويعودون ببضائعهم في ليلة واحدة، وإذا ما اصطدموا بدوريّة عسكريّة للبريطانيّين، فقد كانوا يشتبكون معها، ويوقعون بها خسائر في الأرواح، ونادرا ما كانت تقع خسائر بالأرواح بين المهرّبين.
ظهر الثّراء بشكل واضح على الشّيخ فالح وعلى أبنائه من بعده، كما ظهر ذلك على الشّيخ مناور من كفر السّمن، الذي مارس العمل ذاته في بيّارته الواقعة في منطقة الكرامة، تماما كما ظهر على المهرّبين والتّجار في المدن الفلسطينيّة، وانتشرت الإشاعات أنّ كلّ واحد من الشّيخين قد وجد كنزا من الذّهب العثمانيّ، الذي دفنه ضبّاط الجيش العثمانيّ، أثناء انسحابهم مهزومين أمام جيوش الحلفاء في الحرب العالميّة الأولى، على أمل أن يعودوا إلى تلك الكنوز بعد الحرب، لكنّ غالبيّتهم قتلوا أو لم يستطيعوا العودة إلى الكنوز التي دفنوها في مناطق مختلفة.
وفي محاولة من الإنجليز لتخفيف خسائرهم في الأرواح، فقد لجأوا إلى تجنيد العرب ووضعهم للحراسة عند النّقاط الحدوديّة. في فلسطين كان مع الإنجليز جنود من المستعمرات البريطانيّة، ومنهم جنود من مسلمي السّنغال والهند، كما أنّ الآلاف من اليهود كانوا في صفوف القوّات البريطانيّة، كما جنّدوا عربا ممّن أطلقوا عليهم “الشّرطة الإضافيّة”. وفي الأردنّ فتحوا باب التّجنيد للمواطنين الأردنيّين؛ ليكونوا جيشا لإمارة الأردنّ.
وعلى جانبي النّهر انتبه المجنّدون العرب لنوايا الإنجليز، فمنهم من تدرّب على السّلاح، وعندما أتقن استعماله هرب بسلاحه، وباشر باصطياد الجنود الإنجليز، وأصبح مطاردا لهم، كما تجنّدوا بالجهاد المقدّس، لصدّ المستوطنين اليهود في فلسطين ومحاربة حماتهم الإنجليز، كما انضمّ عدد منهم لاحقا لجيش الإنقاذ.
وفي محاولة من الإنجليز لإحكام السّيطرة على جانبي النّهر، فقد كلّفوا الضّابط مسعود فالح النّمر بالمسؤوليّة عن الأغوار الشّماليّة، في حين كلّفوا الضّابط سلطان مناور بالمسؤوليّة عن الأغوار الجنوبيّة. وقد عمل الاثنان بذكاء خارق على حماية المهرّبين الفلسطينيّين، الذين كان من بينهم رجال الجهاد المقدّس الذين عملوا على تهريب السّلاح من شرق الأردنّ إلى فلسطين.
عندما أصيب عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس بجراح في معركة الخضر قرب بيت لحم، اختطفه الثّوار من المستشفى العسكريّ في القدس، وهرّبه الشيخ مهاوش ورجاله إلى الضّفّة الشرقيّة، حيث مكث يوما في مزرعة الشّيخ مناور في الكرامة، وهناك ارتدى القائد الجريح ثوبا فضفاضا وعباءة وكوفيّة وعقالا، ونقله ورفيقيه الشّيخان إلى بيت الشّيخ مناور في كفر السّمن، استراحوا هناك قليلا، وعندما خيّم ظلام الليل، عبر به الشّيخان الحدود السّوريّة بسرّيّة تامّة، حيث كانت تنتظرهم سيّارة سوريّة نقلتهم إلى دمشق للعلاج، ولمّا شفيت جراح البيك القائد عاد تحت حراسة الشّيخين حتّى وصل مضارب الشّيخ مهاوش في منطقة البقيعة قرب النّبي موسى، ومن هناك عاد إلى ساحات القتال مرّة أخرى.
*****
تزداد الأوضاع في فلسطين سوءا يوما بعد يوم، وهذا ما أجّل زواج محمد سعيد الحسين من حفيظة بنت الشّيخ عليّ لمدّة ستّة أشهر، فيوم عقد قرانها مات الشّيخ فالح جدّها لأبيها، وقبل مرور أقلّ من شهرين وبينما كانت الاستعدادات تجري لزفاف العروسين، سقط خال العريس شهيدا في مدينة عكّا، حيث أطلق عليه جنديّ بريطانيّ النّار وهو خارج من صلاة المغرب في مسجد الجزّار، كان يحمل بيده عصا، ظنّها الجنديّ الإنجليزيّ بندقيّة، فأطلق عليه الرّصاص، ولمّا هجمت الدّوريّة الإنجليزيّة لأخذ البندقيّة المزعومة، ووجدوها عصا انفرطوا ضاحكين، وهاجموا المصلّين الذين حاولوا إسعاف المصاب، كان عدد الجنود البريطانيّين أربعة أشخاص، وعندما لعلع رصاصهم في عنان السّماء، رفدتهم دوريّة أخرى مكوّنة من أكثر من عشرين جنديّا. لمّا انسحبوا من المكان ونشوة النّصر بادية على وجوههم! كمن لهم قنّاص فلسطينيّ. وأطلق على السّيّارة الأولى للدّورية رصاصة واحدة جندلت السّائق، فاصطدمت السّيّارة بحائط، وأصيب من فيها بجراح، فعلا صياحهم عنان السّماء، كانوا يصرخون مذعورين، فنزل من كانوا في السّيّارات العسكريّة الأخرى لإسعاف زملائهم، فاصطاد القنّاص أربعة آخرين منهم، وانسحب دون أن يكتشفه أحد، ويبدو أنّه لم يكن بحوزته غير تلك الرّصاصات الخمسة.
جرى تشييع خال محمّد سعيد الحسين في جنازة مهيبة، لكنّ هذا استدعى تأجيل حفل زواج محمّد وحفيظة.
بعد مرور شهر على استشهاد الخال، مات الجدّ الذي لم يكفّ عن البكاء حزنا على ولده الشّهيد.
كان الشّيخ عليّ على دراية بما يجري عند أصهاره في سمخ، فلم يتوان يوما عن عبور النّهر غربا لتقديم العزاء، كما أنّ هدى وزوجها حسّان لم ينقطعا عن زيارة سمخ بمناسبة ودون مناسبة.
ذات يوم تجرّأت وضحة وقالت في حضرة زوجها الشّيخ عليّ:
ما رأيك أن نطلّق حفيظة من حسّان قبل الدّخول، فكما ترى فإنّ فلسطين تعيش أحداثا دامية، ومن غير المعقول أن نزوّج ابنتنا في مكان مضطرب، وقد تأتي علينا أيّام لن نستطيع التّواصل معها إذا ما تزوّجت.
نظر إليها الشّيخ عليّ نظرة غاضبة، جعلها تطأطئ رأسها وتهرب من الجلسة، غير أنّه صاح بها عندما وصلت باب المضافة، وطلب منها أن تعود، وقال لها وعلامات الغضب بادية على وجهه:
اسمعيني جيّدا.
فردّت عليه خائفة: حاضر، ماذا تريد؟
– لا أريد أن أسمع هذا الكلام منك مرّة أخرى، وإيّاك أن تتلفّظي به مرّة ثانية أمام أيّ شخص، خصوصا حفيظة، وحياة حفيظة ليست أغلى من حياة خطيبها، ولا من حياة أيّ فلسطينيّ.
فقالت والأسف بادٍ على وجهها:
كما تريد يا شيخ. وانصرفت من المجلس.
قبل مساء ذلك اليوم، وبينما كانت مضافة الشّيخ عليّ تعجّ بالضّيوف من أبناء المنطقة، ومن أبناء مناطق أخرى كانوا عائدين من الشّام، وجزء منهم ينتظر الليل؛ ليعبر الحدود إليها؛ للتّسوّق، وإذا بخوار قطيع بقر يعلو في المكان. فخرج البعض لاستطلاع الأمر، ولم تكن مفاجأة أن يكون برفقة البقر سعيد السّلمان، وأربعة أشخاص من كفر الرّمل من بينهم حسّان ابن الشّيخ فالح، انشغلوا بسقاية البقر من بئر الماء القريب، بينما دخل سعيد الحسين المضافة، بعد أن احتضن ابنته هدى وقبّل وجنتيها.
رحّب به الشّيخ عليّ وعانقه، أجلسه بجانبه ولم يسأله إلا عن أحوال الأهل الذين تركهم خلفه. بينما خرج البعض لاستطلاع قطيع البقر الذي يزيد عدده عن المائتي رأس، فأبناء المنطقة لم يعتادوا تربية الأبقار، وكانت ماشيتهم من الغنم البياض ومن الماعز.
بعد أن انفضّ غالبيّة الضّيوف من المضافة، دخل حسّان المضافة وجلس قبالة أخيه الشّيخ عليّ، الذي بادره قائلا:
يبدو أنّك تَعِب يا حسّان، ومن يوم أمس لم نرَك.
ردّ حسّان بهدوء: كنت في زيارة قصيرة لنسائبي في سمخ.
– خير إن شاء الله.
– ما فيه غير الخير.
وهنا فتح الشّيخ عليّ المذياع الذي ورثه عن أبيه، ولا يلتقط إلا صوت “هيئة الإذاعة البريطانيّة” التي تبثّ أخبارها من لندن، وهو المذياع الوحيد الموجود في القرية، فقد وزّع البريطانيّون بعد احتلالهم للبلاد جهاز مذياع على أحد المخاتير في كلّ قرية، وهذا المذياع كان من نصيب الشّيخ فالح –رحمه الله-.
وممّا جاء في أخبار النّشرة:
“أعلن ناطق عسكريّ بريطانيّ في فلسطين أنّ مجموعة من الأشخاص هاجموا “كيبوتسا يهوديّا” لتربية الأبقار في منطقة بيسان، في الأغوار الشّمالية، وقتلوا حارسين يهوديّين بالسّلاح الأبيض، ونهبوا من الكيبوتس الأبقار المتواجدة فيه، كما استولوا على سلاح الحارسين، وتشير الدّلائل إلى أنّ المهاجمين عبروا بالأبقار نهر الأردنّ شرقا.”
ابتسم الشّيخ عليّ لسماع الخبر، ولم يعد بحاجة للسّؤال عن المصدر الذي أتوا بالأبقار منه، لكنّه التفت إلى أخيه حسّان، وقال:
أعطوا بقرة حلوبا لمن يحتاجها، وعنده استعداد لتربيتها والعناية بها، فهذا بقر حلوب، وخذوا ما تبقّى إلى الشّام وبيعوه هناك.
ردّ حسّان: كما تأمر يا شيخ، قالها وخرج لتنفيذ ما أمر به الشّيخ عليّ.
انتشرت القوّات البريطانيّة في شمال الأردنّ تبحث عن الأبقار، ووصل جزء منها قرية كفر الرّمل في ساعات ضحى اليوم التّالي، لكنّهم لم يجدوا سوى بقرة واحدة مربوطة أمام بيت أرملة في طرف القرية الجنوبيّ، فسألها أحد الجنود:
من أين لك هذه البقرة.
التفتت إليه المرأة الأرملة بازدراء ولم تجبه. فعاد يسأل بعربيّة ركيكة:
سألتك، من أين لك هذه البقرة؟
فردّت عليه: اشتراها المرحوم زوجي قبل أن يموت.
– متى مات زوجك؟
– قبل عامين.
– من أين اشتراها؟
– لا أعرف.
وهنا خرج عليه رجل مسنّ من الجوار وقال للجنود:
عيب عليكم أن تتكلّموا مع امرأة، وإذا لم تنصرفوا فورا سأنادي على رجال القرية ليصرفوكم.
فسأل أحد الجنود:
أين الرّجال؟
– في ذلك البيت…بيت الشّيخ عليّ.
توجّه الجنود إلى بيت الشّيخ عليّ، حيث سبقهم جنديّان وضابط. دخلوا المضافة غاضبين، تكلّموا مع الضّابط باللغة الإنجليزيّة، قالوا له بأنّهم وجدوا بقرة أمام بيت أرملة، فردّ عليهم الضّابط:
نحن نبحث عن أكثر من مائتي بقرة، وليس عن بقرة واحدة.
عندما نهض أحد الشّباب؛ ليصبّ القهوة للجنود، نظر إليه الشّيخ عليّ وقال:
لا تلمس دلّة القهوة.
فسأل الضّابط: ألا تريد أن تسقيهم القهوة يا شيخ؟
فردّ عليه الشّيخ عليّ بهدوء:
قهوتنا لا تصبّ إلا لمن يستحقّون الاحترام، وهؤلاء دخلوا المضافة بطريقة وقحة.
فقال الضّابط: إنّهم لا يعرفون العادات.
فردّ عليه الشّيخ عليّ:
عندما يعرفونها سيشربون قهوتنا.
فعاد الضّابط يقول:
نحن لسنا ضيوفا، وإنّما جئنا في مهمّة، فقد سطا لصوص على “كيبوتس يهوديّ” في منطقة بيسان في فلسطين، وقتلوا حارسين ونهبوا الأبقار، ونحن نبحث عنها.
فردّ عليه الشّيخ عليّ بلهجة حازمة:
نحن لسنا لصوصا، ولا بقر عندنا.
فقال الضّابط: نحن لا نتّهمكم، ولكنّنا نسأل فقط إن كنتم رأيتموها.
الشّيخ عليّ: ونحن لسنا حرّاسا لمزارع الأبقار في فلسطين.
رأى الضّابط صورة مسعود بالزّيّ العسكريّ معلّقة في صدر المضافة، اقترب من الصّورة وقال:
هذا زميلي الضّابط مسعود، هل تعرفونه؟
ردّ عليه الشّيخ عليّ:
هذه صورة مسعود شقيقي.
وهنا اعتذر الضّابط من الشّيخ عليّ، استأذن بالخروج وأمر جنوده بالخروج من القرية.
تحدّث سعيد الحسين مع الشّيخ عليّ حول تحديد يوم لزفاف ابنه محمّد وحفيظة بنت الشّيخ عليّ.
فقال الشّيخ عليّ: نحن نعلم جيّدا الأوضاع غير المستقرّة في فلسطين، وعندما ستعود سنرافقك نحن وحفيظة، وأقيموا أفراحكم كما تريدون.
شكره سعيد الحسين وقال:
أنت سبّاق إلى عمل الخير دائما يا أبا حسين، سنقيم حفلا بسيطا يحضره أبناء العائلة فقط، فالأوضاع لا تتحمّل تجمّعات كبيرة، فما يدريك أن تقوم الجهات المعادية بالهجوم على الفرح، وعندها ستقع كارثة حقيقيّة.
الشّيخ عليّ: أنتم أدرى بأوضاعكم أكثر منّا، فاعملوا ما ترونه مناسبا، في الليلة القادمة سنترك النّساء يقمن حفلا غنائيّا لوداع حفيظة، وفي الليلة التي تليها سنعبر نحن وحفيظة النّهر في طريقنا إليكم.
في صباح اليوم التّالي جاءت هدى وزوجها حسّان، ومعهما أمّ حسّان ووضحة زوجة الشّيخ عليّ وابنتها حفيظة؛ للسّلام على أبي محمّد، وتناول طعام الإفطار في المضافة معه ومع الشّيخ عليّ، أحضروا معهم طبقين واحدا للرّجال والثّاني للنّساء.
طلب الشّيخ عليّ من وضحة أن تجهّز ابنتها حفيظة كي تغادر إلى بيت الزّوجيّة مساء الليلة بعد القادمة، كما طلب منها إقامة حفل غنائيّ وداعيّ لها مساء ذلك اليوم، وأوصاها بأن تدعو نساء القرية، ونساء أخوالها من قرية كفر السّمن المجاورة.
طأطأت حفيظة رأسها حياء، في حين ابتسمت هدى فرحا بقرب زفاف شقيقها محمّد، بينما تفاجأت زوادة” أمّ حسّان” بطلب الشّيخ، فالتفتت لهدى وقالت:
لكنّ هدى حامل في شهرها السّادس، وقد لا تحتمل وعثاء السّفر.
فقال الشّيخ عليّ: اتركي الأمر لهدى، فهي أدرى بمصلحتها، فإن أرادت السّفر معنا فلها ذلك، وإن لم ترد حفاظا على جنينها فهي حرّة بالقرار الذي تراه مناسبا لها.
نظرت هدى إلى أبيها حائرة وسألته:
ما رأيك يا أبي؟
فأجابها بهدوء:
لم يترك لي الشّيخ أبو حسين قولا أقوله، فقد ردّ الأمر إليك، وأنا أثني على رأيه.
ضحكت هدى وقالت:
بارك الله بكما، وأنا لن أسافر لحضور حفل الزّفاف مع أنّني كنت أنتظره، وألف مبروك هذا الزّفاف للعروسين ولنا جميعا، والبركة فيمن سيحضر الزّفاف.
التفتت زوادة لهدى وقالت لها:
رأيك هو الصّواب يا ابنتي- الله يرضى عليك-، وما عرفناك إلا عاقلة، وإن شاء الله ستنجبين طفلك على خير وسلام.
أقاموا سهرة باذخة وداعا لحفيظة، تجمّعت فيها غالبية نساء القرية باستثناء نساء أسرة الحاجّ محمود، فقد منعهنّ من الحضور، فالرّجل لا يزال يرى أنّ ابنه هو الأحقّ بالزّواج من حفيظة، كما حضر الحفل نساء أخوالها من قرية كفر السّمن المجاورة، ولم يضيّع الأخوال والأعمام حضور تلك الليلة؛ لوداع العروس وتنقيطها، وبدوره لم يفوّت الشّيخ عليّ هذه المناسبة فأوعز بذبح عشرة خراف قِرًى للمدعوّات والمدعوّين، وهذه هي المرّة الأولى في القرية التي يقوم فيها أهل العروس بنحر الذّبائح، مع أنّ هذا ليس غريبا على الشّيخ عليّ الذي يتمتّع بشهامة ورثها كابرا عن كابر.

غير أنّ الحاجّ محمود الذي حضر إلى المضافة كما هي العادة- دون سبب-، فرجال القرية معتادون على السّهر في المضافة، كما أنّهم اعتادوا أن يستقبلوا ضيوفهم من خارج القرية فيها، بعد أن احتسى القهوة قال:
والله حفيظة لا تخرج من ديار غانمين؛ لتتزوّج غريبة.
تنحنح الشّيخ عليّ وقال:
لا حول ولا قوّة إلا بالله. “ذنب الكلب دايما اعوج”.
وعاد الحاجّ محمود يقول:
الدّنيا آخر وقت، أفنيت عمري ولم أشاهد أو أسمع عن أناس يحتفلون بحنّاء ابنتهم بهذه الطريقة.
انتبه الشّيخ مناور خال العروس لحديث الحاجّ محمود فقال:
“البنات وديعة الأجاويد” وتكريم البنات أولى من تكريم الأبناء، وحفيظة بنت شيوخ، والعزّ يليق بها.
فقال الحاجّ محمود متسائلا وهو يتفجّر غيظا:
هل عمل أهل هدى لها حفلا وداعيّا يوم زفافها لحسّان مثل حفل حفيظة هذا؟
ردّ عليه الشّيخ عليّ ببرود أعصاب:
أهل هدى أحسن منّي ومنك.
الحاج محمود: أسأل الله أن يكون هذا الكلام صحيحا.
فنهره الشّيخ مناور قائلا:
ماذا تريد من هذا الكلام يا رجل؟ قل خيرا أو اسكت.
الحاجّ محمود: يا سيدي “ربنا يهنّي سعد بسعيدة.”
التزم الشّيخ عليّ الصّمت على مضض، فمن غير اللائق أن يطرد الحاجّ محمود من المضافة، كما أنّه لا يتنازل بأن يضع واحدا مثل الحاج محمود ندّا له، فهو يعرفه تماما، ويعرف أنّه لا يميّز الصّواب من الخطأ، مثلما أنّه لا يعرف أن يجلس ساكتا.
في ديوان النّساء جلست حفيظة في صدر المجلس كما الملكات، قلائد الذّهب تتدلى على صدرها، والأساور تلمع و”تخشخش” في يديها، بينما صفّة الذّهب تحيط برأسها، ثوبها الحريريّ لافت بتطريزه، فقد أتوا به من سهل حوران، حيث اعتادت بنات شيوخ القبائل في حوران أن يرتدين هكذا ثياب في حفلات زفافهنّ، ووجهها وضّاء كما القمر ليلة البدر، عندما تبتسم تظهر أسنانها بيضاء ناصعة كحبّات اللؤلؤ، تجلس والدتها وضحة على يمينها وجدّتها زينب على يسارها بكامل زينتيهما. عندما وقفت هدى وحفيظة وسط الحلقة النّسائيّة يرقصن، سلبتا بجمالهنّ اللافت أنظار النّساء جميعهنّ، وتسابقت الصّبايا للرّقص معهما وسط الضّرب على “الدّربكّة” والتّصفيق الصّاخب، في حين كانت الزّغاريد تلعلع من جنبات الدّيوان، وعندما كانت إحدى النّساء تهاهي بمدائح للشّيخين عليّ ومناور، تقف بجانبها امرأة أو أكثر، وما أن تنتهي من “مُهاهاتِها” حتّى يطلقن زغاريد تجوب فضاء القرية.
استمرّ الحفل إلى ما بعد منتصف الليل، والأطفال – بمن فيهم أطفال أسرة الحاجّ محمود- يتقافزون فرحين وجيوبهم ملأى”بالحامض حلو”، ولم تفوّت وضحة الفرصة، فقد أعطت كلّ طفل من أطفال أسرة الحاجّ محمود “صُرّة” حامض حلو؛ ليعطيها لوالدته، فهي تعرف أنّهنّ مغلوبات على أمرهنّ وإلا لحضرن الحفل.
فرحة حفيظة كبيرة بحفلها غير المسبوق ببذخه في القرية، مع أنّ الحفل لم يكن مفاجئا لها، فهي تعرف مكانتها العالية عند والديها وبنات وأبناء عائلتها. عندما بدأت النّساء يعانقنها مودّعات لها، انهمرت دموعها، وإن كانت دموعا مصطنعة، فمن غير اللائق أن لا تظهر حزنها على فراق الأهل ومرابع الطّفولة والصّبا.
بعد صلاة عصر اليوم التّالي، استقلّ الشّيخ عليّ سيّارة بصحبة زوجته وضحة، ابنته حفيظة وشقيقه حسّان، توجّهوا إلى أمّ قيس، حيث حلّوا ضيوفا عند صديق من أحد وجاهاتها انتظارا لغروب الشّمس، حتّى يعبروا نهر اليرموك باتّجاه منطقة الحمّة، وكان صهرهم سعيد الحسين والد العريس محمّد قد سبقهم في الليلة الماضية، وانتظرهم مع زوجته وابنه محمّد العريس في شاحنته عند الزّاوية الجنوبيّة الشّرقيّة لبحيرة طبريّا، ليقلّهم إلى بيته في سمخ كما اتّفق معهم.
عبر الشّيخ عليّ ومن معه النّهر بعد أن وضع زوجته وابنته في كيس كبير من “المشمّع” الذي لا تخترقه المياه؛ كي لا تبتلّا بالماء، وساروا في طريقهم من الحمّة غربا، حيث ينتظرهم العريس ووالداه، وقبل أن يصلوا بحوالي خمسمائة متر بدأ صوت الرّصاص يلعلع عند ملتقى روافد نهر اليرموك ونهر الزرقاء ووادي كفرنجة وجالوت، التي تشكّل نهر الأردنّ، فقد حصل اشتباك بين عابري النّهر ودوريّة للجيش البريطانيّ، كانت تسير غرب النّهر، وبدأت النّجدات البريطانيّة المسلّحة تتوالى، وبعضها يجوب المنطقة لمحاصرتها. قرّر الشّيخ عليّ مواصلة الطّريق، ولا خيارات أخرى أمامه، رأوا أربع سيّارات عسكريّة تسير في مواجهتهم تطلق الرّصاص بشكل عشوائيّ على المنطقة الحدوديّة، وكأنّها تمشّط المنطقة خوفا من وجود مسلّحين وسط الأشجار والأعشاب الطّويلة التي تغطّي المنحدرات، كما كانت تطلق قنابل الإضاءة التي تنير المنطقة، وما هي إلّا لحظات حتّى سقطت حفيظة مدرّجة بدمائها تصرخ مفزوعة من الألم، فقد أصابتها رصاصة في الصّدر، انحنى عليها والدها وعمّها لمساعدتها على الوقوف، لكنّها لفظت أنفاسها وهي تقول: أين محمّد؟ بدأت وضحة بالصّراخ بأعلى صوتها مفزوعة، وصل صراخها إلى محمّد ووالده، فصاح أبو محمّد مذعورا بالجنود:
توقّفوا عن اطلاق النّار على النّساء.
وهنا سأله ضابط الدّوريّة:
عن أيّ نساء تتحدّث؟
– ألا تسمع صراخ امرأة؟
– هل تعرفها؟
– نعم أعرفها فهي عروس ابني.
الضّابط مستغربا: عروس ابنك؟ ما الذي أتى بها هنا؟
نزل بعض الجنود من سيّاراتهم وأيديهم على الزّناد، قال الضّابط لأبي محمّد بعد أن أمر الجنود بتفتيشه وتفتيش سيّارته:
إن كنت تعرفهم فاذهب وأحضرهم مرفوعي الأيدي.
مشى أبو محمّد هرولة وهو يضرب كفّا على كفّ نادبا حظّه التّعيس، ويمنّي النّفس أن لا يكون الصّائحون هم من ينتظرهم.
عندما وصلهم تظاهر بالجرأة، لكنّ وضحة عاجلته بقولها بأنّ حفيظة قد أسلمت الرّوح، فهجم عليها باكيا، حملها بين يديه وقال لهم:
اتبعوني، فقد أمروني بأن أحضركم، وإلا فإنّهم سيقتلوننا جميعنا.
حوقل الشّيخ عليّ ومشوا خلفه.
عندما وصلوا الجنود، أوثقوا أيديهم بالكلبشات وأخذوهم للتّحقيق، ولمّا رأى محمّد العريس عروسه مخضّبة بدمائها خرّ مغشيّا عليه، في حين شقّت والدته ثوبها وصرخت بأعلى صوتها.
نقل جثمان حفيظة إلى مستشفى طبريّا، وبعد تأكيد وفاتها، سمحوا لوالدتها وحماتها وخطيبها بأخذ الجثمان لدفنه، رفضت وضحة وصمّمت على عدم استلام الجثمان قبل سؤال الشّيخ عليّ عن مكان الدّفن، فوجد الضّابط البريطانيّ نفسه في ورطة، فسارع بإطلاق المعتقلين بعد أن تأكّد له بأنّه لا علاقة لهم بالاشتباك المسلّح على النّهر.
قرّر الشّيخ عليّ أن تدفن حفيظة في مقبرة عائلة عريسها في سمخ، وقال:
لم تُزفّ حفيظة في سمخ عروسا، وها هي تُزفّ إليها شهيدة، ففلسطين أرض الرّباط، وترابها مجبول بدماء الشّهداء.
تقبّلوا العزاء بها في بيت أسرة العريس لمدّة ثلاثة أيّام. وبعدها عاد هو وزوجته وأخوه حسّان، ومعهم العريس ووالده إلى كفر الرّمل لاستقبال المعزّين.
في كفر الرّمل مسقط رأس حفيظة قامت الدّنيا عندما سمعوا باستشهاد حفيظة ولم تقعد، فنصبت النّساء حلقات النّواح حزنا عليها، في حين اجتمع عدد من الشّباب، وقرّروا الثّأر دون إذن من أحد، وانقسموا إلى قسمين، قسم سيهاجم عساكر الإنجليز في إمارة شرق الأردنّ، وقسم سيعبر النّهر غربا لمهاجمتهم في فلسطين. وفي اليوم نفسه وعند باب العمود في القدس، هاجم ثلاثة أشخاص خمسة جنود بريطانيّين، في حوزة أحدهم مسدّس، فطعن اثنان منهم جنديّين برقبتيهما، في حين أطلق صاحب المسدّس رصاصتين على رأسي جنديّين آخرين، بينما أطلق خامسهم الرّصاص على صاحب المسدّس وقتله، كما أصاب ثلاث نساء مارّات في الطّريق، هرب من طعنا الجنديّين وسط المارّة، أغلق الجنود أبواب القدس القديمة، وقاموا بحملة تفتيش واسعة. وثبت في التّحقيق أنّ صاحب المسدّس من مواليد مدينة السّلط الأردنيّة، وأنّه من المتطوّعين في الجهاد المقدّس.
*****
لم تستوعب وضحة كيف قتلت ابنتها حفيظة، وكيف زفّت إلى تراب فلسطين شهيدة قبل أن تزفّ لعريسها في سمخ قرب طبريّا، جفّت ينابيع دموع وضحة، فكانت تقوم وتنام مشدوهة من هول ما جرى، ترى المعزّيات يبكين حفيظة وهي غير قادرة على البكاء، انفجرت دموعها وسالت غزيرة بعد الحادث بعشرة أيّام، لكنّ قلبها بقي ملتاعا، لم يعد لها شهيّة بطعام ولا شراب، ولم تعد وضحة التي لا تخرج أمام الآخرين إلا بزينتها كاملة، وارتضت بارتداء الثّياب السّوداء الخالية من التّطريز، وهَنَ جسمها وما عادت قادرة على العناية بأبنائها ولا ببيتها، التزمت فراشها وطيف حفيظة لا يغيب عن ناظريها، في اليوم الأربعين لفظت وضحة أنفاسها الأخيرة بهدوء، يبدو أنّها اقتنعت بأنّه لم يعد للحياة معنى بعد رحيل حفيظة، ماتت عن ثمانية ذكور وأربع بنات، وجدوا الدّفء والحنان في حضن جدّتهم العجوز زينب. خيّم الحزن على قريتي كفر الرّمل وكفر السّمن بوفاة وضحة، الذين حمّلوا دمها للانجليز الذين قتلوا ابنتها حفيظة، وتوعّدوا بالثّأر من القتلة.
عانى الشيخ علي الأمرّين من موت زوجته والعبء الكبير الذي وقع على والدته زينب العجوز، التي لم تعد تقوى على تربية أحفادها الأيتام، لكنّها لم تبخل عليهم بحنانها وعطفها وحبّها الزّائد.
تظاهر الشّيخ عليّ بقوّة البأس والصّبر أمام الآخرين، لكنّ داخله كان مرجلا يغلي حزنا وغضبا، كظم غيظه، وعزّى نفسه بأنّ بيته قاعدة للسّلاح الذي يهربّونه من الشّام للجهاد المقدّس، لكنّه اعتبر ذلك غير كاف، فأعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين تزداد يوما بعد يوم، تحت حماية القوّات البريطانيّة، وفي فلسطين يسقط كلّ يوم شهداء، لكنّ الفلسطينيّين يزدادون في التّصدّي للمؤامرة التي تحاك ضدّهم رغم قلّة الإمكانيّات، ورغم بطش القوّات البريطانيّة بهم.
بعد انتهاء أيّام العزاء بوضحة، سأل مسعود أخاه الشّيخ عليّ:
ما العمل الآن؟
فأجاب الشّيخ عليّ حزينا:
لن يبقى بيتي معتما بعد أن خبا ضوؤه بوفاة وضحة، ولن يذهب دمها ودم حفيظة هدرا.
استغرب مسعود جواب شقيقه الشّيخ عليّ وعاد يسأل:
هل يعني هذا أنّك ستتزوّج؟
– الزّواج ليس غنيمة نتسابق عليها، وإن كان لا بدّ منه فإنّ وقته لم يحن بعد، لكن كما قلت لك لن يذهب دم وضحة وحفيظة هدرا.
– هل تقصد الأخذ بالثّأر؟
– القضيّة ليست ثأرا بمقدار أنّ الكيل قد طفح، فالإنجليز تخطّوا كلّ الخطوط الحمراء، وما يجري غرب النّهر مخيف جدّا، وإذا ضاعت فلسطين ضاع الوطن العربيّ كلّه.
مسعود: ماذا نستطيع فعله؟
– سنقاوم الإنجليز على ضفّتي النّهر.
مسعود: هناك كثير من المتطوّعين عبروا النّهر غربا للمشاركة في المقاومة.
– أعرف ذلك، ولولا أنّ البيك قائد الجهاد المقدّس طلب منّي أن أبقى هنا للقيام بأعمال مهمّة؛ لكنت أوّل من عبر النّهر غربا منذ سنوات، لكن هذا لا يعفينا من مقاومة الإنجليز هنا في إمارة شرق الأردن وفي العراق وفي غيرها، فلينصرفوا إلى بلادهم وإلا فنحن لها.
مسعود: كلامك صحيح، فإن لم يخرجوا من بلادنا بالحسنى سيخرجون بالمقاومة.
الشّيخ عليّ: مقاومتهم هنا ضروريّة لدعم أهلنا في فلسطين، وتشتيت قوّاتهم سيخفّف الضّغط على إخوتنا الفلسطينيّين.
مسعود: هذا ما أفكّر به دوما.
الشّيخ عليّ: مقاومتهم لم تغب عنّ عقلي يوما، لكن هذا يتطلّب الإعداد بالشّكل الصّحيح.
مسعود: كيف؟
– سأخبرك لاحقا فأنا مسافر إلى الشّام بعد انتهاء الحداد على وضحة.
بعد مرور أربعين يوما على وفاة وضحة غادر الشّيخ عليّ إلى الشّام، مكث فيها ثلاثة أيّام في ضيافة تاجر دمشقيّ، وأثناء تلك الرّحلة رأى بنت أخ للتّاجر حسناء فرعاء، أبوها متوفّى منذ عامين، سحرته الفتاة بجمالها عندما كانت تملأ جرّتها ماء من البئر في فناء الحوش الشّامي حيث تسكن العائلة، فطلبها يدها من عمّها، فوافق عمّها دون نقاش، ونهض لسماع رأي البنت ووالدتها وأشقّائها، فوجد قبولا حسنا منهم، عقد قرانه عليها ودخل بها في تلك الليلة، كانت في العشرين من عمرها والشّيخ عليّ في منتصف الأربعينات، وبعد يوم عاد بها إلى قريته.
التفّ أبناؤه الأطفال حوله، فقد اعتادوا أن يأتيهم يالحلويّات الشّاميّة، والفواكه المجفّفة التي اشتهرت بها الشّام. عرّفهم على زوجته الجديدة قائلا:
هذه فطّوم أمّكم الجديدة.
فرحت والدته زينب بالخبر، وأطلقت زغرودة وهي تضع يدها اليمنى على شفتها العليا، كأنّها تخفي فمها الخالي من الأسنان.
تجمّعت نساء العائلة لرؤية زوجة الشّيخ عليّ الجديدة، فقالت لهنّ والدته:
هذا جمال الشّاميّات الذي تسمعن به. في حين بسملت زوادة زوجة أبيه وقالت:
الله يرحمك يا وضحة، فقد جاءت من تحتلّ مكانك، ولا تقلّ جمالا عنك.
التفتت إليها نوف ابنة الشّيخ عليّ البالغة من العمر اثني عشر عاما وقالت حزينة:
لا يوجد في الكون أجمل وأحسن من أمّي.
وهنا احتضنتها فطّوم وقبّلتها وهي تقول:
طبعا يا بنيّتي أمّك هي الأحسن والله يرحمها.
سألت فطوم عن عقاب ابن وضحة الصّغير وكان جالسا في حضن جدّته زينب، قامت واحتضنته وهي تداعبه وتقول:
حبيبي عقاب أنا ماما فطّوم.
طلبت زينب من كنّتها الجديدة فطوم أن تقوم معها لتريها غرفة نومها في البناء المجاور للمضافة، فقال الشّيخ عليّ:
لو سمحت يا أمّي خصّصي لها غرفة وفراشا جديدين، غير غرفة وضحة.
ابتسمت الوالدة وقالت:
هذا أمر معروف ولا يحتاج طلبا.
عند المساء عاد مسعود في إجازة لمدّة يومين، تفاجأ بزواج الشّيخ عليّ وفرح بالخبر، بعد أن انفضّت التّعليلة همس مسعود للشّيخ عليّ:
وجدت لك صيدا ثمينا.
– كيف.
– هناك ضابطان انجليزيّان يسكنان في بيت منعزل في واد السّير في عمّان، يمكن اصطيادهما بسهولة.
ابتسم الشّيخ علي لسماع الخبر وقال:
غدا سنرتاح منهما، وإذا عدنا سالمين سأقيم حفلا ظاهره الاحتفال بالزّواج وباطنه راحة لروحي حفيظة ووضحة.
فتح مسعود المذياع لسماع نشرة الأخبار، وجاء في الخبر الأوّل: “أنّ شابّا اسمه محمّد سعيد الحسين من قرية سمخ قرب طبريّا قد أطلق النّار على تجمّع للجنود في مدينة طبريّا، ممّا أدّى إلى مصرع ثلاثة جنود ومصرع مطلق النّار.”
عندما سمع الشّيخ عليّ الخبر ضرب كفّا على كفّ وقال:
يا خسارتك يا محمّد، الله يرحمك ويصبّر والديك، والله “إنك سبع خلفة سبع.”
فسأله مسعود: من محمّد هذا؟
– لا يعقل أنّك نسيته يا رجل، هذا خطيب المرحومة حفيظة وشقيق هدى زوجة أخينا حسّان، وأضاف:
اكتم الخبر عن الجميع؛ كي لا تسمع شقيقته هدى، فهي حامل وعلى وشك الولادة.
جلس الشّيخ عليّ بجانب شقيقه مسعود في سيّارة الجيب العسكريّة، وانطلقا إلى عمّان، مرّا بسرعة قريبا من البيت الذي يسكنه الضّابطان البريطانيّان؛ ليستكشف الشّيخ عليّ المكان، البيت مكوّن من شقّتين متجاورتين، في الواجهة الأماميّة برندة مكشوفة لكلّ شقّة تتّجه جنوبا، يقع البيت على بعد حوالي سبعين مترا عن التفاف الشّارع بطريقة دائريّة، أمامه عدد من أشجار التّين المزروعة بطريقة غير منتظمة، الضّابطان بلباس مدنيّ يجلسان حول طاولة يلعبان الشّطرنج ويحتسيان الويسكي، وبجانب كلّ منهما زوجته. توقّفت السّيّارة بعد التفاف الشّارع، نزل الشّيخ من السّيارة متلفّعا بعباءته، مسدّسه بيده اليمنى تحت العباءة، قصد البيت من جهته الغربيّة، اقترب من حائط البيت، سمع حديثهم باللغة الإنجليزيّة، أطلّ عليهم بخفّة، أطلق رصاصة على رأس كلّ منهما، صرخت زوجاتهما، فقال لهنّ:
لا تخفن فنحن لا نقتل النّساء. وانسحب كغزال الفيافي، استقلّ السّيارة مع مسعود وانطلقا مسرعين عائدين إلى كفر الرّمل، وكأنّ شيئا لم يكن. وهناك أعلن الشّيخ عليّ إقامة حفلة ساهرة بمناسبة زواجه من المرأة الشّاميّة، فاعتبرتها النّساء فرصة لهنّ للتّحرّر من أيّام الحداد على حفيظة ووالدتها وضحة. عند المساء نصب الرّجال السّامر ولا أحد منهم يعلم ما جرى.
جنّ جنون الضّباط الإنجليز، فالقتيلان من الضّبّاط الكبار، واعتبروا ما جرى أمرا خطيرا جدّا، اعتقلوا مئات الأشخاص في عمّان، تعاملوا معهم بقسوة زائدة، حيث تعرّضوا للّكمات والضّرب بالكرابيج وأيديهم مكبّلة.
في التّحقيق قالت أرملتا القتيلين أنّ القاتل بدويّ يرتدي العباءة ويعتمر كوفيّة حمراء، وأنّه ملثّم لا يظهر من وجهه سوى عينيه، أطلق رصاصة على رأس كلّ واحد منهما من مسدّس وانسحب بخفّة كالسّهم.
جرت التّحقيقات باتّجاهات مختلفة، ومنها أنّ القاتل ربّما استعمل مسدّسا من مسدّسات الجيش والشّرطة العرب، غير أنّ فحص الرّصاصتين الفارغتين أثبت أنّهما انطلقتا من مسدّس صنع في ألمانيا، ولا تستعمله قوى الأمن. ومن الصّعب تحديد القاتل خاصّة وأنّ غالبية الرّجال في المنطقة يرتدون العباءات ويعتمرون الكّوفيّات، لكن يجب وضع كلّ العرب في لائحة الاتّهام حتّى تثبت براءة البريء منهم.
تركّز البحث والتّفتيش على القرى القريبة من الحدود السّوريّة، فهم معتادون على دخول الشّام، وتهريب الأسلحة منها، وانصبّت اللعنات على الفرنسيّين؛ لأنّهم يتساهلون في مراقبة الجانب السّوريّ من الحدود، بل ويغضّون النّظر عن مهرّبي الأسلحة ما داموا يتوّجّهون بها إلى الأردن وفلسطين. بدأت الدّوريّات البريطانيّة تجوب المنطقة الحدوديّة مع سوريّا، لكنّ أيّا منها لم تدخل كفر الرّمل وكفر السّمن بعدما رأوا غالبيّة أهالي القريتين مشغولين بحفل زواج الشّيخ عليّ.
عادت النّساء إلى زينتهنّ الأولى بعد أن تحرّرن من ملابس الحداد، تجمّلن بما تيسّر لهنّ من أدوات الزّينة، كما تحلّت كلّ منهنّ بمصاغها الذّهبيّ، وكأنّها تتباهى به أمام قريناتها، ارتدين الثّياب المطرّزة، حتّى الحاجّة زينب والدة الشّيخ علي ارتدت ثوبا حريريّا مطرّزا، ووضعت قلادتها الذّهبيّة في عنقها، فمازحتها أمّ سلطان قائلة:
عقبى لعرسك يا حاجّة.
أمسكت الحاجّة زينب عصاها التي تتوكّأ عليها، ونهرتها بها وهي تقول باسمة:
أيوه “بعد ما شاب ودّوه للكتّاب.”
فعادت أمّ سلطان تمازحها وقالت:
يبدو أن نفسك خضراء يا حاجّة، و”اللي بروح للسّوق بتسوّق.”
فردّت عليها الحاجّة زينب:
قلت لك لا تكثري الكلام، ولا يوجد في الرّجال ندّ للشّيخ فالح -الله يرحمه-.
وهنا ضحكت أمّ سلطان زوجة الشّيخ مناور وقالت:
هل هذا يعني أنّك تقبلين الزّواج إذا ما تقدّم لك شيخ من شيوخ العشائر.
فردّت الحاجّة زينب بردّ يغيظ أمّ سلطان وقالت ساخرة:
نعم فالشّيوخ يليقون بي أكثر منك. وإذا لم تغلقي فمك سأشتكيك لأخي مناور كي يردعك.
*****
ركّزت بريطانيا قوّتها في فلسطين؛ لإخراج وعد بلفور إلى حيّز التّنفيذ، فالوقت مناسب لإقامة “وطن قوميّ لليهود”، خصوصا بعد انتهاء الحرب الكّونيّة الأولى، وما تعرّض له اليهود من مذابح على أيدي النّازيّين، لذا فقد ارتأت أنّه لا بدّ من إنهاء الانتداب على الأردنّ، وهذا ما حصل فقد انتهى الانتداب البريطانيّ على إمارة شرق الأردنّ يوم 25 مايو 1946، وتحوّلت الإمارة إلى مملكة تحت اسم المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وأعلن الأمير عبد الله بن الحسين بن عليّ ملكا عليها، وفي اليوم نفسه اعترفت الأمم المتّحدة بالأردنّ كمملكة مستقلة ذات سيادة.
“غير أنّ قيادة الجيش بقيت بيد السّير جون باغوت غلوب (Sir John Bagot Glubb) المعروف باسم غلوب باشا، وهو ضابط بريطانيّ خدم فرنسا أثناء الحرب العالميّة الأولى، ثم تمّ نقله إلى العراق عام 1920، حيث كان العراق تحت الإنتداب البريطانيّ في ذلك الوقت. في العراق عمل على بناء علاقات مع القبائل حتّى حدود السّعوديّة، ولعب دورا مهمّا في شكل العلاقات البريطانيّة – العربيّة في تلك المنطقة.
درس في كلية تشلتنهام، وأصبح ضابطا في الجيش الأردنيّ عام 1930. وفي العام التّالي أسّس قوّات البادية، وهي قوّة مكوّنة من البدو بشكل حصريّ، وذلك للسّيطرة على الأزمة التي أصابت جنوب البلاد. وفي سنوات قليلة استطاع أن يوقف الغزوات المتبادلة بين القبائل البدويّة. في عام 1939 خلف غلوب فريدريك جيرارد بيك في قيادة الجيش العربيّ الأردنيّ. وبقي في منصبه حتى 2 مارس 1956 عندما أعفاه الملك الحسين بن طلال من مهامه.”
عمّت الاحتفالات أرجاء المملكة الوليدة بالخلاص من الانتداب البريطانيّ، مع أنّ قيادة الجيش بقيت في يد ضابط بريطانيّ، ومعه عدد من الضّبّاط الآخرين، وتقبّلهم الشّعب على مضض بحجّة تدريب الجيش.
فاخر الشّيخ عليّ بأنّه قد ساهم في إنهاء الانتداب على وطنه، وأنّ قتله لضابطين بريطانيّين قد ساعد في تسريع ذلك.
لكنّ الخلاص من الانتداب شرقيّ النّهر انعكس على غرب النّهر في فلسطين، حيث ازدادت الهجمات الصّهيونيّة تساعدها قوّات الانتداب البريطانيّ على الفلسطينيّين، من أجل تحقيق وعد بلفور بإقامة “وطن قوميّ لليهود في فلسطين”، كما ازدادت مقاومة الفلسطينيّين للخطر الذي يتهدّدهم، رغم القمع والقتل والاعتقالات التي يتعرّضون لها، ورغم قلّة الإمكانيّات المتوفّرة لديهم.
تنبّه العرب للخطر القادم، وبدأت طلائع المتطوّعين للدّفاع عن فلسطين تتوافد، من الأقطار المجاورة “سوريّا، الأردنّ، لبنان ومصر” كما وصل مئات المتطوّعين من المغرب العربيّ.
قرّر الشّيخ عليّ زيارة فلسطين للالتقاء بالثّوّار؛ كي ينسّق معهم؛ فقد أصبحت الظّروف مواتية بطريقة أفضل، خصوصا وأنّ أخاه مسعود قد استلم قيادة الجيش العربيّ في الأغوار، والرّجل دائما يمنّي النّفس بالشّهادة في سبيل الله دفاعا عن القدس ومقدّساتها، ويعتبر فلسطين جميعها بلادا مقدّسة، وعندما يتحدّث عن القدس؛ فإنّه يعني فلسطين.
نسّق الشّيخ عليّ خطّته لعبور النّهر مع خاله الشّيخ مناور، الذي تحمّس هو الآخر لمرافقته بحماس شديد. عبرا النّهر ليلا من المخاضة التي تبعد عدّة مئات من الأمتار شمال جسر اللنبيّ، وكلّ منهما يحمل بندقيّته في يده مستعدّا لمواجهة أيّ طارئ، توجّها إلى مضارب الشّيخ مهاوش جنوب مقام النّبيّ موسى القائم بين القدس وأريحا، وصلاه بعد منتصف الليل، كان اللقاء حميما بين الطّرفين، وكانت المفاجأة أن وجدا عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس واثنين من مقاتليه في ضيافة الشّيخ مهاوش، فقال الشّيخ مناور موجّها حديثه للحسيني:
“صدفة خير من ميعاد” يا بيك، فقد جئنا خصّيصا لمقابلتك، ونضع أنفسنا كجنديّين معكم لقتال الأعداء.
رحّب بهما الحسيني مرّة أخرى وقال:
أثمّن عاليا هذه النّخوة عندكم، لكن علينا أن نقسّم أنفسنا بطريقة تخدم مصلحة الثّورة، وهذا يتطلّب أن تبقيا في بلدكما؛ لتكونا قاعدة لنا؛ لشراء ما تستطيعونه من أسلحة للثّورة، وسأرسل رجالنا إليكم باستمرار؛ لتهريب ما تجمعونه من سلاح، وهذا ما ينقصنا، ولا ينقصنا الرّجال.
فقال الشّيخ عليّ بلهجة الواثق:
إذا كان هذا ما ترونه مناسبا، فنحن كما تأمرون.
كان الشّيخان سعيدين بمقبلة البيك، كما كان هو سعيدا برؤيتهما وبشهامتهما، جرى نقاش بين الطّرفين تطرّقا فيه إلى مواضيع عديدة، منها ما يتعلّق بهجرات اليهود إلى فلسطين، فقال الحسيني للحضور:
المشكلة ليست في يهود البلاد، فقد عشنا وإيّاهم في عالمنا العربيّ قرونا كأبناء أمّة واحدة، لكنّ المشكلة في المهاجرين من أوروبا، الذين يسعون إلى قتلنا وتشريدنا من وطننا، لإقامة دولة لهم في بلادنا بمساعدة بريطانيا ودول استعماريّة أخرى، وهم يسعون إلى استملاك ما يستطيعون من أرض.
قطع الشّيخ عليّ حديث الحسيني وسأل:
وهل هناك من يبيعهم أرضا؟
تنهّد الحسيني كاظما غضبه وقال:
الإقطاعيّون باعوا مرج ابن عامر للمستوطنين اليهود منذ بدايات الاحتلال البريطانيّ.
تساءل الشّيخ عليّ غاضبا:
وهل هناك عرب يبيعون وطنهم؟
ضحك الحسينيّ وقال:
هؤلاء الإقطاعيّون ليسوا فلسطينيّين، بل ليسوا عربا.
الشّيخ عليّ: وكيف تملّكوا الأرض إن لم يكونوا فلسطينيّين ولا عربا؟
الحسيني: لا تنسوا أن بلاد العرب كانت مفتوحة لكلّ مواطنيها، فلم تكن هناك أقاليم لها حدود…خصوصا بلاد الشّام، وجرى تقسيمها في أعقاب الحرب العالميّة الأولى، بين بريطانيا وفرنسا تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو. وقد سمعنا من آبائنا أنّهم كانوا يتناولون طعام فطورهم في يافا أو حيفا أو غيرهما، ويتناولون طعام الغداء في دمشق أو في بيروت. يبيعون بضاعتهم هناك، أو يشترون بضائعهم من هناك أيضا.
الشّيخ عليّ: ولماذا باعوا الأرض للمهاجرين اليهود؟
الحسيني: الإقطاعيون جبناء ولا يهمّهم إلا مصالحهم…لقد باعوا الأرض بمبالغ كبيرة تفوق سعرها منذ بدايات الانتداب، وهربوا من البلاد؛ لأنّهم أدركوا الخطر القادم…وكانوا متذيّلين للبريطانيّين الذين أخبروهم بأنّ المهاجرين اليهود سيبنون دولة لهم باسم إسرائيل، وبدعم بريطانيّ وأوروبيّ وأمريكيّ رغم أنوف الفلسطينيّين والعرب جميعهم.
فايز: ومن هو بائع مرج ابن عامر؟
الحسيني: “عائلة سرسق ذات الجذور البيزنطيّة. الرّجل الأوّل من العائلة وصل لبنان عام 1740 ويدعى جبور سرسق. سكن بداية في بلدة البربارة شمالي لبنان، ثم توجّه بعدها أفراد عائلته إلى بيروت، واستقروا في حيّ السّراسقة في الأشرفيّة. وأقاموا في قصور ومنازل فخمة. والعائلة جمعت ثروتها في القرن التاسع عشر من الزّراعة، والصّيرفة وثمّ من الصّناعة، فملكوا عددا من المصارف والشّركات. وامتلكت أراضي تمتدّ من تركيا وصولا إلى مصر، ومرورا بلبنان وفلسطين. هذا الثّراء أفسح المجال أمام العائلة لنسج علاقات مع دول، بدءا من السّلطنة العثمانيّة ومرورا بسلطة الانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ ومصر وروسيا. وباعت هذه العائلة أراضيها للمهاجرين اليهود منذ بداية الانتداب البريطاني على البلاد…. كانت تملك الكثير من الأراضي في عهد الدولة العثمانيّة، وحينما جاء الانتداب البريطانيّ إلى فلسطين كانت تملك عائلة سرسق 400 ألف هكتار من الأراضي الخصبة، تضم ما يقارب 77 قرية في مرج ابن عامر شمال فلسطين، وكانت تسكنها 2546 أسرة فلسطينية، طُردت من قراها لتحلّ محلّها أسر يهوديّة أحضرت من أوروبا وغيرها.
كانت تلك الأراضي تمثّل ما يقارب 3% من مساحة فلسطين. باعتها عائلة سرسق بسبعة ملايين فرنك، وهُدمت منازل القرى والمدن العربيّة، وطرد السكان أمام جحافل من الجنود البريطانيّين، وتمّ تسليم الأراضي للمهاجرين اليهود، فدمّروا القرى العربيّة، بما فيها أكثر من 65 مسجدا، وهناك بنى اليهود المستعمرات في عام 1921. وفي العام 1922 باعت العائلة عشرات الآلاف من الفدادين الواقعة على الساحل الّلبناني للصّهاينة، وهاجروا إلى فرنسا.”
الشّيخ عليّ: ومن باعهم الأراضي منذ البداية ما داموا ليسوا عربا؟
– لقد ملّكهم إيّاها العثمانيّون.
الشّيخ مهاوش: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
الشّيخ عليّ محتجّا: يا بيك…العثمانيّون لم يبيعوا أرضا لليهود.
الحسينيّ: وأنا لم أقل أنّهم باعوا أرضا لليهود…وإنّما ملّكوا أراضي شاسعة لعائلة سرسق وهي عائلة أرثوذكسيّة تنحدر من أصول بيزنطية، أي أنّهم ليسوا عربا. كما أنّ الإنجليز يُملّكون المهاجرين اليهود مساحات شاسعة من أراضي الدّولة. وهناك إقطاعيون عرب مسلمون باعوا أراضيهم للمهاجرين اليهود وهربوا إلى بلدانهم. كما أنّ بعض الإقطاعيّين الفلسطينيّين باعوا أراضي لليهود أيضا زمن الانتداب، ورحلوا عن فلسطين أيضا.
– ومن الإقطاعيّون العرب الذين باعوا أراضي لليهود في فلسطين؟
– عائلة سلام البيروتية، عائلة بيهم، أنطون تيان وأخوه ميشيل تيان، آل قبّاني البيروتيّون، آل صباغ وآل تويني البيروتيّون، عائلات القوّتلي والجزائري وآل مرديني السوريّة، خير الدين الأحدب، وصفي قدّورة، جوزيف خديج، ميشال سرجي، مراد دانا، وإلياس الحاجّ اللبنانيّون.
استأذن الحسيني بالانصراف في ساعات الصّبح الأولى، بينما بقي الشّيخان مناور وعليّ في ضيافة الشّيخ مهاوش؛ ليتسلّلا عبر النّهر في الليلة القادمة عائدين إلى ديارهما.
*****
في 29 نوفمبر 1947 صدر قرار التّقسيم رقم -181- عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، فدخل الصّراع ذروته من جديد، الحركة الصّهيونيّة تستعجل الأمور لإقامة “دولة لليهود”، والفلسطينيّون يقاتلون للحفاظ على ديارهم، وبريطانيا تمهّد لإنهاء انتدابها على فلسطين. ركّزت العصابات الصّهيونيّة هجماتها على المناطق التي خصّصها قرار التّقسيم للدّولة اليهوديّة، بينما جمعت بريطانيا قوّاتها في المعسكرات، بعد أن وزّعت كميّات كبيرة من أسلحتها على المهاجرين اليهود،
مع اندلاع المصادمات المسلّحة بين العرب واليهود على أثر صدور قرار التّقسيم من قبل الأمم المتّحدة في تشرين الثّاني 1947، “قامت اللجنة العسكريّة التّابعة للجامعة العربيّة بإرسال بعض الألوية العسكريّة على عجل، وقد أطلق على هذه الألوية اسم “جيش الإنقاذ “. كان هذا الجيش تحت القيادة العليا للجنرالات العراقيّين إسماعيل صفوت وطه الهاشمي، في حين أشغل الضّابط السّوريّ فوزي القاوقجي منصب القائد الميدانيّ في منطقة المثلث الكبير والأغوار في مراحل القتال الأولى، وفي منطقة الجليل في مراحلها المتأخّرة. والقاوقجي لم يكن غريبا على فلسطين وشعبها، “ففي الثّورة الفلسطينيّة لعام 1936 – 1939 قاد القاوقجي أربعة فصائل من المتطوّعين العرب الذين وصلوا إلى فلسطين في آب 1936، وغادروها في تشرين أوّل من السّنة ذاتها. أقام القاوقجي قيادة له على جبل حريش قرب قرية صانور في منطقة المثّلث الكبير ( جنين – نابلس –طولكرم ). وهناك انضمّت إليه بعض الفصائل المحليّة؛ ليخوض معها أربع معارك ضدّ القوّات البريطانيّة في بلعا وجبع وبيت أمرين وكفر صور. بعد هذه المعارك التي حقق فيها القاوقجي بعض المنجزات، أحكم البريطانيون حصارهم لقوّاته في منطقة جنين وسهل طوباس. ممّا اضطرّ القاوقجي وقوّاته إلى الانسحاب في الرّابع عشر من أكتوبر من خلال فتحة في الطوق بجانب إحدى العبّارات على نهر الأردنّ.”
لكنّ الفلسطينيّين واصلوا مقاومتهم، فقد أدرك قائد الجهاد المقدّس عبد القادر الحسيني وصحبه مدى المؤامرة التي تستهدف فلسطين، وكانوا على قناعة بأنّ المخطّط البريطانيّ لتنفيذ وعد بلفور قد حيكت خيوطه بإحكام، وأنّ الإعلان عن دولة إسرائيل بات قريبا جدا، فأخذ الحسيني يجوب البلاد داعيّا الشّعب إلى المقاومة بما تيسّر لهم من سُبُل مهما كانت بسيطة، وفي ليلته تلك، غادر القدس إلى مضارب الشّيخ مهاوش، وهناك طلب من الشّباب مساعدته في هدم “عبّارة” لتصريف مياه الأمطار على الشّارع بين القدس وأريحا، لقطع الطّريق على القوّات البريطانيّة المتمركزة في معسكر الخان الأحمر، وفي مناطق الأغوار الجنوبيّة والوسطى.
حمل الشّباب الفؤوس والمجارف بينما حمل الحسينيّ مهدّة “مطرقة كبيرة” تزن عشرة كيلوغرام، وابتدأ بالضّربة الأولى، واستمرّ في العمل حتّى هدمت “العبّارة”، وقطع شارع القدس-أريحا.
بعدها قاد الشّباب إلى منطقة قريبة في البراري، وقال لهم:
استريحوا حتّى الصّباح، وتفرّقوا بعدها كلّ منكم إلى منطقته، واحذروا من المشي جماعة.
أمّا هو فقد امتطى حصانه الأشهب وسار شرقا بصحبة شابّين، لم يخبر أحدا عن المكان الذي يقصده. كان الرّجل مهموما، ومع ذلك فإنّه يتصنّع الابتسامة لرفع معنويّات جنوده.
سار ورفيقاه، عبروا نهر الأردنّ شرقا، وهناك توجّهوا إلى مزرعة الشّيخ مناور في منطقة الكرامة، حيث كان في انتظارهم أحد أعوانه، عند ساعات الضّحى جاءهم مسعود الفالح بسيّارته العسكريّة، حملهم معه إلى بيت الشّيخ عليّ في كفر الرّمل. وهناك شرح الحسيني للشّيخين عليّ ومناور صعوبة الأوضاع، وأنّ ساعة الحسم قد اقتربت، واشتكى من قلّة السّلاح الذي يتوفّر له ولجنوده، في حين أنّ المستوطنين يملكون مختلف أنواع الأسلحة التي زوّدهم بها الجنود البريطانيّون، كما أوضح أنّ الآلاف من المهاجرين الجدد مدرّبون تدريبا جيّدا، ولديهم خبرات قتاليّة اكتسبوها من خلال مشاركتهم مع الحلفاء في الحرب الكونيّة الثّانية.
استمع له الشّيخان باهتمام زائد، ووعداه بأن يبذلا ما يستطيعان من جهد ومال في سبيل الحصول على السّلاح.
عند المساء عبر الحسينيّ برفقة الشّيخ عليّ الحدود إلى سوريّا، وهناك التقى مندوب الجامعة العربيّة، فشرح له مدى حاجته إلى السّلاح، ووعده الأخير بحلّ المشكلة. فاستأذن الحسيني وعاد هو والشّيخ عليّ، وفي كفر الرّمل ألحّ عليه الشّيخ عليّ أن يقضي ليلته عنده، لكنّه رفض بقوّة، متذرّعا بأنّ لديه أشغالا كثيرة لا يستطيع تركها.
فقال له الشّيخ عليّ:
أنت تعبان يا رجل، ولم تنم منذ ليلتين.
فردّ الحسيني وهو يطلق زفيرا حادّا:
كيف أنام يا رجل وشعبي يُقتل، ووطني يُسبى؟
سقطت دمعتان من عينيّ الشّيخ عليّ عندما سمع ما قاله البيك، فاحتضنه، وقبّل وجنتيه مودّعا.
اشتدّت المعارك في حيفا، كما اشتدّ بطش الإنجليز، وكلّما هاجم المستوطنون الأسواق العربيّة، ووادي النّسناس في حيفا، كان الأهالي العزّل يلجؤون إلى منطقة الميناء للاحتماء بالقوّات البريطانيّة المتواجدة، ومن ينجو بنفسه منهم كانوا يضعونهم في سفينة، تقلّهم إلى ميناء صيدا، وأحيانا كثيرة إلى مينائي بيروت وطرابلس؛ ليبعدوهم عن المنطقة الحدوديّة خوفا من أن يتسلّلوا ويعودوا إلى ديارهم. وفي يافا كانت العصابات الصّهيونيّة تهاجم التّجمّعات العربيّة تحت حماية الإنجليز، كما قاموا بتفجيرات في الأحياء السّكنيّة.
في مرحلة الأربعينات سطع نجم ابنة يافا المعلّمة مهيبة خورشيد، التي قامت بتأسيس جمعيّة أطلقت عليها اسم جمعيّة زهرة الأقحوان. ولعبت الجمعيّة أدوارا مهمّة في جمع الأموال لشراء الأسلحة وتوفير الإغاثة للأسر الفلسطينية النازحة في عام 1947، خاصّة مع تصاعد حدة التّوتر والمعارك بين القوّات شبة العسكرية الفلسطينية والعصابات الصهيونية.
ومع الوقت تحوّلت جمعيّة زهرة الأقحوان إلى منظمة تحتضن جميع السّيّدات المسلّحات اللواتي يشاركن في العمليّات ضدّ القوّات البريطانيّة والصّهيونيّة. وكان لخورشيد دورها القياديّ في تنظيم وتنفيذ تلك العمليّات ووضع الإستراتيجيّات وجمع المعلومات الاستخباريّة.
*****
ازدادت الهجمات الصّهيونيّة شراسة، شجّعهم على ذلك معرفتهم بأنّ عدوّهم لا يملك سلاحا يدافع به عن نفسه. ركّز قادة الجهاد المقدّس على حماية القدس ومقدّساتها، عملوا ما يستطيعونه لقطع الإمدادات عن القوّات الصهيونيّة المتمركزة في أحياء القدس الغربيّة، ونظرا لعدم وجود أسلحة مع المقاومين الفلسطينيّين، فقد عملوا على التّمركز في مدخل وادي عليّ عند قرية بيت محسير، حيث يضيق الوادي، وهو الطّريق الوحيد الواصل بين القدس ويافا، يجمعون القلاع الصّخريّة في بطن المنحدر، وما أن تمرّ سيّارات إمداد عسكريّة حتّى يدفعوا القلاع التي تتدحرج، والتي لا تصيب سيّارة وتدمّرها كانت تغلق الطّريق. فيطاردهم جنود القافلة بالرّصاص والمدفعيّة، ويلحقون بهم خسائر في الأرواح، لكنّ الهجمات لم تتوقّف، والحسيني دائما يجوب المنطقة مردّدا:
لا تدعوهم يرتاحون، شتّتوا قوّاتهم.
لم يصدر الحسيني الأوامر فقط، بل كان يشارك بنفسه في تلك الهجمات، رغم معارضة أقرانه ومستشاريه لذلك، وانطلقت تحذيرات كثيرة خصوصا من أحمد علي العيساوي، وبهجت أبو غربيّة اللذين كانا يقولان دائما:
القيادة تضع الخطط وتدير المعارك ولا تشارك فيها، وتساءلا كثيرا بقولهما: إذا استشهد القائد فمن سيقود الجنود؟ غير أنّ البيك كان له رأي آخر، ويردّ على الآخرين بقوله:
القائد الحقيقيّ يتقدّم الصّفوف؛ ليكون قدوة لجنوده، ويلقى التّأييد من الشّيخ عبد الفتاح الزّبن من المزرعة الشّرقيّة، والذي كان من جماعة الشّيخ عزّ الدّين القسّام، ولمّا استشهد القسّام التحق بالجهاد المقدّس.
وصل مندوبان من الشّيخين عليّ ومناور يحملان صندوقا من القنابل اليدويّة وخمس بنادق انجليزيّة، وخمسين رصاصة لكلّ بندقيّة. نظر البيك إلى الهديّة وقال:
هذه هديّة مشكورة، لكنّها ليست كافية، فالعدوّ مدجّج بالسّلاح. صمت قليلا وقرّر أن يرسل مبعوثا له إلى مندوب الجامعة العربيّة يطلب منه فيه ضرورة توفير السّلاح للمقاومين. بعد ثلاثة أيّام عاد حسين الشّايب مندوب البيك على ظهر “الدّبّابة”- بغلة البيك التي يحملون السّلاح على ظهرها-، عاد ومعه نصف شوال من الرّصاص، أعطاه له مندوب الجامعة العربيّة.
رأى البيك المدد العربيّ! فاستشاط غضبا، وكتب رسالة في 6 نيسان –ابريل- إلى عبد الرّحمن عزّام الأمين العامّ لجامعة الدّول العربيّة جاء فيها:
” السّيّد الأمين العامّ لجامعة الدّول العربيّة- القاهرة
إنّي أحمّلكم المسئوليّة بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح.
عبد القادر الحسيني”
وكان قبل ذلك بيومين قد كتب رسالة إلى أبنائه جاء فيها:
” أعزائي: هيفاء، وموسى، وفيصل، وغازي:
قبلات حارّة لكم جميعا، كيف أحوالكم، لماذا لا تكتبون لي، أرجو أن تكونوا متحابّين وأولادا طيّبين، لا تعذّبوا أمّكم، كما أنّي أرجو أن تكونوا مجتهدين بدروسكم، وإذا نجحتم بالمدرسة فسأشتري لكم بنادق ومسدسات حقيقيّة لتقتلوا بها اليهود، وسأشتري لهيفاء أدوات إسعاف لتضمّد جراح المجاهدين، سوف أراكم قريبا… الله يرضى عليكم .
أبوكم المحبّ”
شعر البيك أنّ الشّهادة قاب قوسين أو أدنى فكتب قصيدة خاصّة لابنته الوحيدة هيفاء
” رقراق دمعك هزّ قلبي الباكي
كُفّي البكا نفسي تراق فِداكِ
هيفاء لا تبكِ بحقّ أبُوّتي
هيفاء قد هدّ البكاء أباكِ
صوني دموعك إنّها من مُهجتي
ذوب الفؤاد ذرفته ببكاكِ
إن عادني ترجاج صوتك باكيا
أشفقت أن لا أحتيي لأراكِ”.
عاد الحسيني من زيارة سريعة لدمشق اجتمع خلالها بقيادة اللجنة العسكريّة العربيّة التي شكّلتها الجامعة العربيّة، فأخبروه بأنّهم لن يزوّدوه بالسّلاح قبل انسحاب القوّات البريطانيّة من فلسطين، وباءت كلّ محاولاته معهم بالفشل، بل إنّهم طالبوه بعدم مهاجمة العصابات الصّهيونيّة التي سيطرت على قرية القسطل تحت قصف مدفعيّ كثيف لتأمين الإمدادات لحامياتهم في القدس، لكنّ الحسيني أصرّ على استرجاع القسطل كونها تشكّل المدخل الغربيّ لمدينة القدس.
في القدس أخبر الحسيني قادة المجموعات المقاتلة مساء 6 نيسان –ابريل- أنّ القسطل موقع استراتيجيّ لحماية القدس من الجهة الغربيّة، ولا بدّ من استرجاعها،
و”من القدس توجه الحسيني إلى القسطل بسرعة، فوصلها ظهيرة السّابع من نيسان ومعه 56 مجاهدا، وعمد على الفور إلى إعادة تنظيم صفوف المجاهدين، وعيّن على الميمنة في الجهة الشّرقيّة، المجاهد حافظ بركات، وعلى الميسرة من الجهة الغربيّة الشّيخ هارون بن جازي، وفي القلب فصيلان بقيادة إبراهيم أبو دية، وفي موقع القيادة كان الحسيني وعبد الله العمري، وعلي الموسوس إضافة إلى فصيلي اسناد في الجهة المقابلة.
وسقط البيك شهيدا في هذه المعركة التي استطاع فيها هو وصحبه من إعادة تحرير البلدة.
عمّ السّخط بلاد الشّام قاطبة لاستشهاد البيك، وخرجت القدس بقضّها وقضيضها في تشييع جثمانه بعد صلاة الجمعة يوم 9 نيسان، حيث ووري جثمانه في رواق المسجد الأقصى بجوار والده.
بكته النّساء في فلسطين جميعها، ومن البكائيّات التي قيلت فيه:
مات البيك في بلاده يا صيته في الخليل
ويا شراشب مهرته فضّة وحرير
ومات في القدس يا صيته في حلب
ويا شراشب مهرته فضة وذهب
*****
ويا هيفا-ابنة الشهيد- قولي ع ابوك قولي الخبر ع حِلّه
بـيـّك لو طلع زعلان حرّم يخش محلّه
يا هيفا حرمي التّطريز ع ذيالك
يا بـيـّك حرّم الجينة ع ديارك
ويا هيفا حرّمي التطريز ع القبةّ
ويا بيّك حرّم الجينة ع الهدّة ” بمعنى المعركة”
****
يا بيّ موسى يا شوكة السّوّيد
يا حمل الفرس صيتك ولا ابو زيد
ويا بَيّ موسى يا شوكة العلقم
يا مرّ الشجر ويا حلو في الملقى
أقيمت سرادق العزاء في مختلف مناطق بلاد الشّام، وأقام الشّيخان عليّ ومناور بيتا للعزاء في كفر الرّمل لمدّة أسبوع.
ومن بكائيّات النّساء في كفر الرّمل:
عبد القادر لما مات وعبد القادر لما مات
وارتـّجـت سبع بلادات وارتـّجـت سبع بلادات
وانهدّين العلالي وانهدّين العلالي
والقصور المبنيّات والقصور المبنيّات
*******
يا قلعة الصّوّان هالت كلها
يا ابو موسى واطلع للمشاكل حِلّها
ويا قلعة العروبة هالت كلّها
ويا عبدالقادر واطلع للقضيّة وحلّها
*******
ويا قدر الكرم مكفي على بابه
ولا يا حسرتي ببكي على اصحابه
يا قدر الكرم مكفي على البيبان
لا يا حسرتي ببكي على الضّيفان
ولا يا نجوم الليل غرّبن وشرّقن
على قبر ابو موسى نيخن وسلمن
قولن يا كحيل العين مالك نايم
ومالك نايم ومرخي اللثام.
*****
اعتبرت العصابات الصّهيونيّة استشهاد الحسيني نصرا لها، وكانوا على عجلة من أمرهم لفرض حقائق على الأرض، ومنها ارتكاب مجازر لترويع الفلسطينيّين؛ كي يهربوا من ديارهم، ففي السّاعة الثّالثة من فجر 9 نيسان –ابريل- ” قامت عناصر من منظمتي (الأرجون وشتيرن) بشنّ هجوم على قرية دير ياسين قرابة السّاعة الثّالثة فجرا، وتوقّع المهاجمون أن يفزع الأهالي من الهجوم ويبادروا إلى الفرار من القرية. وهو السّبب الرّئيسي من الهجوم، كي يتسنّى لليهود الاستيلاء على القرية. انقضّ المهاجمون اليهود تسبقهم سيارة مصفّحة على القرية، وفوجيء المهاجمون بنيران القروّيين التي لم تكن في الحسبان، وسقط من اليهود 4 قتلى و 32 جرحى. طلب بعد ذلك المهاجمون المساعدة من قيادة الهاجاناه في القدس، وجاءت التّعزيزات، وتمكّن المهاجمون من استعادة جرحاهم وفتح الأعيرة النّارية على القرويّين دون تمييز بين رجل أو طفل أو امرأة، وحتّى الحيوانات الأليفة كالكلاب والقطط والماشية لم تسلم من نيرانهم. ولم تكتف العناصر اليهوديّة المسلّحة من إراقة الدّماء في القرية، بل أخذوا عددا من النّساء والشّيوخ -أبقوا عليهم أحياء ليرووا للآخرين عمّا شاهدوه لإثارة الرّعب بين النّاس-، مكبّلين بالشّاحنات المكشوفة واستعرضوهم في شوارع الأحياء اليهودية وسط هتافات اليهود، وأطلقوا سراحهم قريبا من باب العمود في القدس، وقد أتوا بفتاة واغتصبوها بحضور أهلها، ثم انتهوا منها وبدأوا تعذيبها، فقطعوا نهديها ثم ألقوا بها في النار “. وأسفرت المجزرة عن قتل وجرح المئات من الأطفال والنّساء والرّجال.”
أثارت مجزرة دير ياسين الرّعب في نفوس السّكّان الآمنين العزّل، في حين شدّدت العصابات الصّهيونيّة هجماتها على البلدات العربيّة، ممّا حدا بالآلاف أن يتركوا ديارهم للنّجاة بأنفسهم.
ترك أهالي سمخ قرب طبريّا ديارهم بعد أن تعرّضوا لقصف كثيف بالنّيران، وسقط العشرات منهم شهداء وجرحى، توجّه جزء منهم إلى سوريا، والجزء الآخر إلى شمال الأردنّ، وصلت أسرة سعيد الحسين “أبو محمّد” إلى تلّ الرّمل، حيث حلّوا ضيوفا على أصهارهم الشّيخ عليّ وأخوانه، خصّص لهم صهرهم حسّان زوج ابنتهم هدى غرفتين، لم يعد أبو محمّد مرحا كسابق عهده، فقد كان دائم التّفكير بما جرى ويجري في بلاده، لكنّه كغيره من اللاجئين على قناعة بأنّ غربتهم لن تطول، وما هي إلا أيّام قليلة حتّى تقضي الجيوش العربيّة على الأعداء.
صباح 15 أيّار-مايو- استيقظ النّاس على خبر انسحاب آخر جنديّ بريطانيّ من فلسطين، بعد أن سلّموا معسكراتهم بأسلحتها الثّقيلة والخفيفة للعصابات الصّهيونيّة، وأعلن بن جوريون قيام دولة اسرائيل، فأصبحت البلاد ساحة قتال مفتوحة بين أهل البلاد الأصليّين الذين لا يملكون ما يمكنهم الدّفاع به عن أنفسهم، وبين الغزاة المدجّجين بالسّلاح.
دخلت الجيوش العربيّة الحرب، تقدّمت وحدات من الجيش المصريّ إلى جنوب السّاحل الفلسطينيّ، خاضت معارك عنيفة ووصلت طلائعها إلى منطقة الفالوجة.
عسكر الجيش الأردنيّ في منطقة الخان الأحمر، في حين تقدّمت الكتيبة السّادسة بقيادة الضّابط عبدالله يوسف من مدينة اربد إلى مدينة القدس، تمركزت على سور المدينة لحمايتها وحماية مقدّساتها بتنسيق مع قادة الجهاد المقدّس، بعد أن قضت على الجيب العسكريّ للمستوطنين في حارة الشّرف، واستسلم من تبقّى منهم ومن ضمنهم قائد الهاجناة. صلّى الضّابط عبدالله يوسف وعدد من جنوده صلاة الفجر في المسجد الأقصى، بعدها توجّوا إلى ضريح الشّهيد عبد القادر الحسيني، أدّوا له التّحيّة العسكريّة وقرؤوا الفاتحة عن روحه.
في صباح اليوم التّالي تقدّمت وحدات من الجيش إلى منطقة اللدّ والرّملة، عسكر جزء منهم في منطقة اللطرون؛ ليشكّل قاعدة انطلاق للقوّات.
وصلت طلائع الجيش العراقيّ إلى منطقة جنين، وقصفت المواقع الصّهيونيّة بنيران المدافع الثّقيلة.
وضع الضّابط عبد الله يوسف خططه، لقطع الإمدادات عن القوّات المعادية من خلال السّيطرة على الطّريق بين القدس ويافا من مدخل وادي عليّ من الجهة الغربيّة، ومن خلال السّيطرة على اللدّ والرّملة، وقاد معارك حامية الوطيس في منطقة اللطرون، تعرّضت فيها قوّاته إلى هجمات جوّيّة وقصف مدفعيّ عنيف، ممّا أجبرها على التّراجع إلى منطقة اللطرون. وقعت خسائر كبيرة في صفوف المدنيّين الفلسطينيّين، أثناء نزوح المدنيّين من قرية أبو شوشة، مرّ جنديّ أردنيّ بشابّة فلسطينيّة شهيدة، وفي حضنها طفلها الرّضيع، حمل الجنديّ الطفل وعاد به إلى المعسكر، عندما رأى الضّابط عبد الله يوسف الطّفل الرّضيع ووجهه مُحنّى بدماء أمّه التي أصيب بصدرها، نزلت دموعه وهو يستشيط غضبا، حمل الطّفل بين يديه، قبّل وجنتيه، وقال:
هذا الطّفل من جيل ابني الرّضيع. طلب من فرقة التّموين أن تحمل الطفل معها، وأن تعطيه لزوجته في اربد؛ كي ترضعه مع ابنهما وهو يقول:
إن وجدنا أهله سنعيده إليهم، وإن لم نجدهم فنحن أهله.
اشتدّ القصف على قوّات الضّابط عبد الله يوسف التي اتّخذت حالة الدّفاع.
احتمى عدد من الأهالي بدير اللطرون، حيث لقوا رعاية من الرّهبان. ذات صباح خرج راهب من باب الدّير يستطلع الأحوال، طاف حول سور الدّير، وفي جهته الشّماليّة الشّرقيّة وجد ثلاثة جنود أردنيّين وقد ارتقوا سلّم الشّهادة، اقترب منهم، جسّ نبض كلّ واحد منهم، ولمّا تأكّد من وفاتهم، وقف فوق رؤوسهم حزينا، أدّى عليهم صلواته، وعاد إلى الدّير يستعين ببعض الرّجال لدفنهم، اصطحب معه خمسة رجال مسنّين، حملوا الشّهداء إلى مقبرة عمواس القريبة، سجّل اسم كلّ منهم ورقمه العسكريّ حسب البطاقة العسكريّة التي كانت في جيب كلّ منهم، صلّوا عليهم صلاة الجنازة، دفنوهم والحزن يخيّم عليهم، حمل ثلاثة منهم بنادق الشّهداء، وانضموا إلى الجنود القريبين من المكان. ولاحقا وضع الرّاهب شاهدا على قبر كلّ منهم يحمل اسم الشّهيد وتاريخ استشهاده.
أوصى الضّابط عبد الله يوسف جنوده في منطقة اللطرون بالثّبات في مواقعهم والدّفاع عنها حتّى آخر رمق، وعاد إلى القدس بعد أن مرّ بالرّاهب ليشكره هو وبقيّة الرّهبان لرعاية المدنيّين، الذين احتموا بالدّير وغالبيّتهم من النّساء والأطفال والشّيوخ، كما شكر الرّاهب على دفن جثامين شهداء الجيش. دخل القدس من باب العمود، رأى الذّهول على وجوه الأهالي الذين رحّبوا به وبجنوده وسط زغاريد النّساء، طلب من الأهالي أخذ الحيطة والحذر، وعدم الاقتراب من مناطق المواجهة، شعر بالحرج أمام الشّباب الذين طلبوا منه تزويدهم بالسّلاح؛ ليدافعوا عن مدينتهم، واصل طريقه إلى منطقة باب الخليل، حيث يتمركز قنّاصة الجيش مع عدد من مقاتلي الجهاد المقدّس عند “طلّاقات” السّور، من الجهة الغربيّة التي تمتدّ من الباب الجديد حتّى باب النّبيّ داود من الجهة الجنوبيّة الشّرقيّة.
في ساعات الليل يهاجم “المجاهدون” بتنسيق مع الجيش مواقع القوّات المعادية في الجهة الغربيّة من المدينة، السّخط يعمّ أوساط الجنود والمجاهدين لعدم وجود أسلحة ثقيلة؛ للتّصدّي للقوّات المعادية، التي تتحرّك بسيّارات مدرّعة، تساندها المدفعيّة الثّقيلة والطّائرات العسكريّة.
الأنباء تتوالى عن سيطرة القوّات العراقيّة على منطقة العفّولة، وأنّ طريق السّاحل تحت سيطرة نيرانهم، غير أنّ الأوامر صدرت إليهم بالانسحاب إلى منطقة جنين والتّمركز فيها، ممّا أثار غضب الجنود والضّباط والأهالي، وكتيبة من الجيش المصريّ حوصرت في الفالوجة.
عصر يوم مشمس، وقف الضّابط مسعود الفالح على زاوية سور القدس الشّماليّة الغربيّة يستطلع شارع يافا، وأصابته رصاصة قنّاص في صدره، فسقط مدرّجا بدمائه، حمله الجنود إلى مستشفى “الهوسبيس”، حاول الأطبّاء انقاذ حياته، لكنّه أسلم الرّوح، لفظ أنفاسه الأخيرة وزميله عبد الله يوسف بجانبه، بعد أن أوصى بأن يدفن في القدس.
تظاهر الضّابط عبد الله يوسف برباطة الجأش مع أنّ قلبه ينزف دما من شدّة الحزن والغضب، شارك في الصّلاة على زميله الشّهيد في المسجد الأقصى حيث أمّ المصلّين الشّيخ المجاهد ياسين البكري، وسط مئات المشيّعين أدخله في القبر في مقبرة باب الرّحمة قرب باب الأسباط، بقرب ضريحيّ الصّحابيّين الجليلين عبادة بن الصّامت وشدّاد بن أوس، ووسط عدد من قبور المجاهدين الذين شاركوا في الفتحين العمريّ والأيّوبيّ للمدينة.
استشهد الضّابط مسعود الفالح دون أن يعلم أنّ أخاه حسّان قد استشهد هو الآخر عند سور دير اللطرون، ودفن في مقبرة قرية عمواس، فقد أخفى زميله عبد الله يوسف الخبر عنه.
عندما وصل الخبر للشّيخ عليّ باستشهاد أخويه وبمكان دفنهما، بكاهما بحرقة، فتح بيت عزاء بهما وهو يقول:
الحمد لله الذي شرّفنا باستشهادهما، وكلّنا فداء لفلسطين ومسجدها الأقصى، وحمد الله لدفن مسعود في القدس، وحسّان في عمواس؛ ليكونا عند بوّابة السّماء.
سقط خبر استشهاد حسّان على رأس زوجته هدى كالصّاعقة، جفّت دموعها من كثرة البكاء، احتضنت طفلها وارتدت الملابس السّوداء حدادا، شاركتها والدتها الحزن والحداد، بينما أصيب والدها بحالة اكتئاب فالتزم الصّمت وهو يهذي بالوطن الضّائع وفقدان الأحبّة.
شباط-فبراير-2019
انتهت

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات