اللفتاوية-رواية لليافعين

ا

اللفتاويّة
“سرديّة”

لليافعين

دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس
2017

الغلاف: لوحة للفنّان التّشكيليّ الفلسطينيّ: محمد نصر الله.
تصميم الغلاف: رشا السرميطي.

الاهداء
إلى هناء بنت شقيقي داود.

عندما مات الحاجّ محمود، صرخت زوجتُه بأعلى صوتها وهي تلطم وجهها:
يا ويلك يا ساجدة! كيف ستعيشين بعده؟
صاح بها سلفُها عليّ:
“مَنْ خلّف ما مات” وعندكِ خمسةُ شباب ما شاء الله عليهم! فاتّقي الله ولا تصرخي.
خلعت خصلةً من شعرها وهي تقول:
لا أحدَ يُغني عن أبي وضّاح.
ضمّها وضّاح ابنُها البكرُ إلى صدره، قبّل رأسَها وهو يقول:
حيّاك اللهُ يا أمّي، فأنت في عيونِنا، باذن اللهِ لن ينقصَك شيءٌ. قادها إلى شقّتِهِ في البناية المجاورةِ وهو يقول:
اجلسي هنا معَ النّساءِ، فالبيتُ القديمُ حيثُ جثمان الوالد سيجلسُ فيه الرّجالُ، وسنتقبّلُ فيه العزاء.
صاحت وقد جفّ ريقُها:
عِشْرَةُ عُمْرٍ انتهت فجأةً، عشنا ثلاثة وخمسين عامًا بحلوِها ومرِّها، وغادرنا
– رحمه اللهُ- بهذه السّرعةِ كأنّنا ما عشنا.
جلستْ معَ النِّساءِ تبكي وحدَها، بعضُ النّساءِ يواسينها بقولهنّ:
ترحّمي عليه، فقد شبعَ من عمره.
تلتفتُ إليهنّ حزينةً…لا تقولُ شيئا، مع أنّ نارَ الفراقِ تحرقُ قلبَها الملتاع. عندما حضرت ابنتاها المتزوّجتان، هجمتا على والدتيهما، تقبّلان يديها ووجنتيها وهما تبكيان، ضمّتهما إلى صدرِها وهي تقول:
” ذهبَ عامودُ البيتِ”.
فقالت الابنتان:
رحمهُ اللهُ، هذهِ سنّةُ الحياة، فالموتُ حقٌ، وكلّنا سنموت، توكّلي على اللهِ يا أمّنا.
تنهّدت الحاجّة ساجدة وهي تسمع حديثَ ابنتيها، قالت لهما:
الله يرضى عليكن، قالتْها وهي تفكّرُ بما سيجري لها بعد المرحوم، تذكّرَتْ ما ردّده كثيرًا في السّنوات الأخيرةِ وهو:
“اللهمّ اجعل يوميَ قبلَ يومِ ساجدة” فشهقتْ حسرةً على فراقه، دار في خلدها أنّها فهمتْه خطأ في حينه، فقد اعتقدتْ أنّه لا يستطيع فراقهَا؛ لأنّها أمّ أبنائِهِ، تُعِدُّ له طعامَه، تغسلُ، تنظّفُ، وتؤنسُ وحدتَه، تذكّرت عندما تزوّجت ابنتُهما الصّغرى، ولم يعدْ في البيت سواهما، كيف بكى بحرقةٍ، وعندما أحسّت ببكائه ليلا، سألتْهُ عن سبب بكائه فأجابها:
بدأنا حياتَنا اثنين، وعدنا اليومَ اثنين كما بدأنا، ولن يطولَ بنا الوقتُ حتى يغادرَ واحدٌ منّا، ويبقى الآخرُ يتكلّمُ مع جدرانِ البيت، يومَها ضحكتْ ممّا قاله لها، وقالت له:
الحمدُ لله لقد رزقنا اللهُ ابنتين وخمسةَ أبناء، وتزوّجوا جميعُهم، وهم يعيشون برخاء وثبات، وأنجبوا الصّبيانَ والبنات، وهذا ما كنّا نحلمُ به.
ردّ عليها باكيا:
نحمدُ اللهَ على ما أعطانا، فأبناؤنا يسكنُ كلّ واحدُ منهم في بيتٍ مستقلّ، بنيناه له بجوارنا، البناتُ يعشن مع أزواجهنّ وأبنائهنّ، وأسأل الله أن يرضى عليهنّ وعلى أشقّائهنّ، وأن يوفقهنّ ويوفّقهم، لكنّنا بقينا في بيتنا القديمِ وحدَنا….لقد ملأوا بيتَنا حياةً وهم أطفال، وعندما كبروا وعملوا وتزوّجوا، انفصلوا عنّا، وبقينا وحدَنا.
عندما انفضّت المعزّيات بعد صلاة العشاء، تمدّدت على الفراش، ابنتاها واحدة على يمينِها والثّانيةُ على يسارِها، التفتتْ إليهما وقالت:
الله يرضى عليكن.
لكنّها لم تشاهد أيّا من أبنائِها، فقد كانوا مع أبنائِهم في البيتِ القديم يستقبلون ويودّعون المعزّين.
صباحَ اليومِ التّالي للوفاةِ، التفَّ الأبناءُ والأحفادُ حول والدتهم، عادوا إلى ذكريات جميلة لهم مع والدِهم الرّاحل، تحلّقوا حول والدتِهم، تناولوا طعامَ الفطورِ معها في بيتِ ابنها وضّاح، شعرتِ الحاجّة ساجدة براحةٍ كبيرة، لوجود أبنائِها وبناتِها وأحفادِها حولَها، قالت فرحةً:
يا إلهي ما أجملَ هذه اللحظةَ بوجودكم جميعكم! منذ سنوات طويلةٍ وأنا أفتقدها.
قالَ ابنُها نبيل: إنْ كنتِ تحبّين هكذا جلسات، فستحظين بها يوميّا.
قالت بعد تنهيدةٍ عميقة:
ليتني أحظى بها كلّ لحظةٍ، فالجلوس مع الأبناء والأحفاد سعادةٌ يصعبُ وصفُها، والله يرضى عليكم لا تحرموني منها.
قالت ابنتُها ودادُ بعد أن سقطتْ من عينيها دمعتان:
ليت بيتي قريبٌ من بيتكِ؛ لأكونَ معك يوميّا، لكن ما رأيُك أن تذهبي معي، وتعيشين عندي؛ لأخدمَكِ ليلَ نهار.
– الله يرضى عليك يا ابنتي، كيف سأذهبُ معكِ وأتركُ بيتي وبيوتَ أبنائي؟
وداد: وأنا ابنتُكِ أيضًا.
– أعرفُ ذلك يا ابنتي الحبيبة، لكنّ زوَجَك غريبٌ، وأبنائي أولى بي.
وداد: زوجي رجلٌ طيّبٌ ويعتبرُك مثلَ أمِّه، وكثيرا ما يفتقدُك، ويتمنّى لو أنّك معنا.
– الله يرضى عليكِ وعليه، وأنا أعتبرُهُ مثلَ أبنائي.
بعد انتهاء أيّامِ العزاءِ الثّلاثة، عادت ودادُ وفاطمةُ إلى بيتيهما، كلّ واحدة بصحبةِ زوجها وأطفالها.
ذهبت ميساءُ زوجُ وضّاح إلى البيتِ القديمِ، كنستْهُ، مسحتْهُ، رتّبت سرير حماتها، وعادت إليها تقولُ:
أسعدَ اللهُ صباحَكِ يا أمَّ وضّاح.
– أهلا بكِ يا ابنتي…صباحُك خيرٌ وسعادة.
ميساء: رتّبتُ لكِ بيتَكِ، وسريرَكِ…هيّا معي لأوصلَكِ إليهِ.
تفاجأتْ أمُّ وضّاح بما قالته كنّتها ميساء، جحظت عيناها وسألتْ:
أينَ وضّاح؟
ميساء: ذهبَ هوَ واخوانُهُ إلى أعمالهم، والأبناءُ ذهبوا إلى مدارسِهم.
دارَ لسانُ الحاجّة وداد في فمها بصعوبةٍ وهي تقول:
الله يرضى عليكِ وعليهم.
ميساء: مدّي يدَك لأساعدَكِ.
– لا داعي يا ابنتي…أنهضُ وحدي.
– اتّكأتِ الحاجّةُ ساجدة بيديها على رُكبتيها، تحاملتْ على نفسِها، حملتْ عصاها التي تتوكّأ عليها، وقالتْ:
– يا الله!
ركضتْ كنّتُها ميساءُ أمامها؛ لتفتحَ لها بابَ البيتِ، عندما وصلتِ الحاجّة ساجدة عتبةَ بيتِها…التفتتْ خلفَها…وبكت، رأتْها كنّتُها ميساء فقالت مازحةً وهي تضحك:
– يبدو أنّك تفتقدينَ المرحومَ يا أمَّ وضّاح.
كظمتْ أمُّ وضّاح غيظَها، ولم تردّ عليها، دخلت البيتَ، جلستْ على كنبةٍ في الصّالونِ، ناولتْها ميساءُ مفتاحَ البيتِ، انصرفت مسرعةً فرحةً، تبعتْها دعوات أمّ وضّاح قائلةً:
الله يرضى عليك وعلى زوجك وعلى أبنائك.
انهمرتْ دموعُ أمِّ وضّاح بغزارة، تساءلت بينها وبين نفسِها عمّا فعلته ميساء؟ هل هو تصرّفٌ فرديٌّ منها، أم بمعرفةِ زوجها وضّاح؟ افتقدَت أبناءَها الآخرينَ، لماذا لم يسألوا عنها قبل ذهابهم للعملِ؟ عادت بذاكرتها إلى معاناتها عندما أنجبتهم، وكيفَ سهرَت لياليَ طويلةً على راحتهم، شعرت بوحدةٍ قاتلة وقالت:
ربنا يرضى عليهم ويوفّقهم.
مرّت ساعات الظهيرَة ببطء شديد، وقفت أمُّ وضاح على نافذة الصّالون الجنوبيّة في بيتها الواقع في أرض السّمار على جبل المشارف، لتطلّ على القدس القديمة، وتكتحل عيناها برؤية المسجد الأقصى، حيث تظهر قبّة الصّخرة المشرّفة تتلألأ في فضاء المسجد، فنفسها لا تطمئنّ إلا برؤية القدس، التي تراها مركز الكرة الأرضيّة، فالمدينة القديمة التي يضمّها سورها التّاريخي هي الوطن بعينه، تمدّ أمّ وضّاح نظرها تستطلع مآذن المساجد وأبراج الكناس، ترى القباب وعبق تاريخ لا يكذب، فيرقص قلبها فرحا، تتحدّث مع المدينة وتراها أمّها، تسبّح بحمد الله أنّها تعيش في مدينة هي أرض المحشر والمنشر، تضحك أحيانا لأنّ الله حباها بأن تسكن قريبا من المسجد الأقصى، تبكي أحيانا أخرى على ما حلّ بالمدينة من نكبات، فترى أنّ الدّموع تغسل القلوب، وتجدّد حبّ مدينتها. سمعت أذان صلاة الظّهر، فتوضّأتْ وصلّت على كرسيّ، فهي لا تقوى على الرّكوع والسّجود، صلّت وفكرها مشتّت بين القدس، وبين ابنها وضّاح الذي خيّب ظنّها بحماقة زوجته، تعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم، حملت مسبحتَها، ذكرت ربّها، جلست وأسندتْ رأسها إلى الكنبةِ وغفتْ دون أن تقصدَ ذلك، رأتْ في منامها شريطا لحياتها منذ تزوّجت، مرّت بها لحظاتُ حملِها بأبنائها، عاشت لحظات ساعات المخاض والآلام التي تصاحبُها، رأتْ لحظات فرحها وسعادتِها بكلّ واحدٍ من أبنائها وبناتها فورَ خروجه من رحمِها، طربتْ لصرخاتِه الأولى. تذكّرت سنواتِ شقائها هي وزوجها؛ لتوفير الحياةِ الكريمة لهم، رقصتْ دون كلل أو مللٍ في حفلات زواجهم، طارت فرحا في حفل زواج وضّاح وميساء، فهو بكرُها وميساءُ كنّتها الأولى، زغردت ورقصت فرحا بحفيدها الأوّلِ ابن وضّاح وميساء، خدمت ميساء أثناء حملها وفترةَ مخاضها، قدّمتْ لها الطّعام على السّرير، هكذا فعلت مع أبنائها وبناتها كافّة، خدمتْ زوجات أبنائها أكثر بكثيرٍ ممّا خدمت بناتها. اعتنت بأحفادها وحفيداتها من أبنائها الذّكور أكثر ممّا اعتنت بأسباطها، فأحفادُها يسكنون بجوارها، تململت واستيقظت وهي تحلم بهم عندما كانوا أطفالا يتسابقون إلى النّوم في حضنها، لم تجرؤ على الحركة خوفا من أن تزعجهم فيستيقظوا، بسمتها عريضة، تمنّت لو أنّ حلمها امتدّ حتّى ساعات الصّباح، نزلت الدّموع من عينيها وهي تقول:
الله يرضى عليهم ويوفّقهم.
مرّ بها ابنُها مروان بعد عودته من العمل، طرح عليها السّلام وسأل:
هل أحضروا لك طعام الغداء يا أمّي؟
أجابته عابسة: نعم يا ولدي.
عاد يسأل مازحا: أراك عابسةً، هل أنت مريضةٌ أم تفتقدين المرحوم؟
التفتت إليه عاتبة ولم تنبس ببنت شفة، خرج من البيت وأغلق الباب خلفه.
قالت: الله يرضى عليكم ويهديكم يا أبنائي.
في ساعات المساء حضرت ابنتها وداد صحبة زوجها وأبنائها، أحضروا معهم صحنا كبيرا مليئا بالمفتول الذي “فتلته” وداد بيديها من طحين القمح البلديّ – كمّا علّمتها والدتها- جاؤوا ليطمئنّوا على أمّ وضّاح، وليتناولوا طعام العشاء بمعيّتها.
عندما طرقت ودادُ الباب، سمعت صوت والدتها خافتا يسأل:
من الطّارق؟
وداد: أنا وداد يا أمّي.
– أهلا بكِ يا ابنتي، ادخلي فالباب مفتوح.
دخلتْ ودادُ غاضبة لأنّ البيتَ غير مضاء، أضاءت البيت، قبّلتْ ودادُ يد ووجنتي والدتها، في حين قبّل أبناؤها يد جدّتهم، وقبّلت هي وجنتي كلّ واحد منهم، تساءلت:
لماذا البيت غير مُضاء؟ ولماذا تجلسين في الصّالون وحيدة؟ أين أبناؤك وأحفادُك و”كناينك”؟
لم تجب أمّ وضّاح واكتفت بقولها:
ربنا يرضى عليهم ويوفّقهم.
ارتسمت بسمة على شفاه أمّ وضّاح وهي ترحّب بهم، جلس سعيد زوج وداد قبالة حماته، بعد أن صافحها سألها:
كيف حالك يا أمّ وضّاح؟
– الحمد لله يا ابني، الله يرضى عليك ويوفقك.
أحضرتْ وداد من المطبخ صحونا ومغرفة وعددا من الملاعق، سكبت لكلّ واحد صحنا، وضعتْ صحنا على طاولة صغيرة أمام والدتها، طلبتْ من أبنائها أن يأخذ كلّ واحد منهم صحنه وملعقته، ويجلس على طاولة السّفرة؛ ليتناول عشاءه، أكلت هي وزوجها صحبة والدتها في صالون الضّيوف.
تبتلع أمّ وضّاح اللقمة وتقول في سرّها:
“أبو الاولاد نام جعّان، وأبو البنات نام شبعان”.
وأضافت بصوت مسموع:
ربنا يرضى عليكم ويوفّقكم، ويجعل لكم بكلّ لقمة رزقا جديدا.
شعرت وداد أنّ والدتها تعاني من الوحدة، أضمرت أن تتكلّم مع أشقّائها بهذا الموضوع.
سأل زوجها سعيد الذي راوده الشّعورُ نفسه:
لماذا لم تبقي في بيت وضّاح يا حاجّة؟
ردّت بامتعاض:
في بيتي أشعر بالرّاحة أكثر من أيّ بيت آخر يا ولدي.
– لكنّ بيت ابنك هو بيتك أيضا.
– البيوت يا أبا مصطفى للنّساء هذه الأيّام!
في هذه الأثناء فتح محمود بن وضّاح البيت، نظر مَنْ في البيت سريعا وعاد أدراجه، فقالت أمّ وضّاح:
أرسلوا الولد ليستطلعَ من في البيت، فقد لفتت الاضاءة انتباههم.
قبل أن ينهوا طعامهم جاء وضّاح وعكرمة، دخلا وقالا:
لا سلام على طعام.
فقالت أمّ وضّاح:
ليحضرْ أحدكما ملاعق من المطبخ وشاركانا العشاء.
استجاب وضّاح لطلب والدته، بينما قال عكرمة بأنّه ليس جائعا.
بعد العشاء سألت وداد والدتها:
لماذا عدت إلى هذا البيت؟ لِمَ لَمْ تبقي في بيت وضّاح؟
التفتت أمّ وضّاح إلى ابنها وضّاح ولم تتكلّم.
بعد العشاء قال عكرمة:
الآن سننتقل إلى بيتي، فأمّي لن تبقى وحدها، ستبقى في بيتي معزّزة مكرّمة، ولن أقبل أن تبقى وحدها تحت أيّ ظرف.
فرحت وداد بما سمعته من شقيقها عكرمة، فهذا ما كانت تتمنّاه، بينما قالت أمّ وضّاح:
الله يرضى عليكم يا ابني، أنا لن أغادر البيت الذي أنجبتكم فيه، يكفينا تشرّد، فقد تركنا بيتنا في لفتا عام النّكبة قبل أن نهنأ به، و”من ترك داره قلّ مقداره”.
عكرمة: لكنّ بيتي أوسع من هذا البيت، وهو بيتك قبل أن يكون بيتي.
– الله يرضى عليكم يا ابني، لن أغادر هذا البيت إلّا عند موتي.
وداد: أطال الله عمرك يا أمّي، ومتّعك بالصّحة والعافية.
– كلّ الأحياء نهايتهم الموت يا بنيّتي.
سعيد: “العمر محدود والرّبّ معبود”، وأقترح أن ترافقنا أمّ وضّاح، وتبقى معنا في بيتنا كيفما تشاء.
أمّ وضّاح: الله يرضى عليكم، أنا لن أغادر بيتي إلّا إلى القبر– كما قلت لكم-
عكرمة: ما دمت مصرّة على عدم العيش في بيتي، فسننتقل أنا وزوجتي وأبنائي للعيش معك في بيتك.
ارتسمت علامات الرّضا على وجه أمّ وضّاح وقالت:
الله يرضى عليكم، أهلا وسهلا بكم يا أحبابي في بيتي.
عكرمة: سأنام الليلة بمعيّتك، وغدا سننقل أغراضنا، وسنعيش بمعيّتك يا أمّ وضّاح.
وداد سعيدة بموقف عكرمة:
بوركت يا عكرمة.
أمّ وضّاح: الله يرضى عليك يا عكرمة، إذا لم توافق زوجتك على العيش في هذا البيت، لا تغصبها على شيء يا ولدي.
عكرمة: توكّلي على الله يا أمّي.
انصرفت وداد وزوجها وأبناؤها عائدين إلى بيتهم، وانصرف وضّاح خائبا؛ لأنّه لا يستطيع أن يعد أمّه بشيء قبل استشارة زوجته وموافقتها.
عادت أمّ وضّاح إلى سريرها، تمدّدَ عكرمة قبالتها على سرير في الغرفة نفسها، بعد أن أوصاها أن لا تتردّد في طلب أيّ شيء تريده منه، انفتحت قريحة أمّ وضّاح على ذكريات قديمة، وراحت تحدّث “عكرمة” بها، وممّا قالته:
يعلم الله يا عكرمة أنّني حملت بك في موسم البيادر، كنّا ندرس الحبوب على الدّواب، وننام على البيدر في أرض السّمار على جبل المشارف، قريبا من بيتنا هذا، وذات ليلة صرخ والدك – رحمه الله- ألما، وقفز من جانبي وهو يصيح:
لدغتني عقرب في رقبتي، مزّقتها بيدي وقذفتها بعيدا.
لم يكن معنا ضوء، طلب منّي أن أفصد مكان اللدغة بشفرة الحلاقة التي يحلق ذقنه بها، فقلت له وهو يضغط بابهامه وسبّابته على مكان اللدغة ليمنع تسرّب السّم إلى بقيّة أعضاء جسمه:
“الشّفرة” ليست نظيفة يا أبا وضّاح، فقال:
نظيفة أو غير نظيفة سيكون ضررها أقلّ من سمّ العقرب.
دوّرتها في رأسي وقلت له:
سأمصّ مكان اللدغة بفمي، أستخرج السّموم وأبصقها على الأرض، وهذا ما فعلتُه، وبعون الله لم يعد يشعر بالألم، نام بهدوء، بينما بقيتُ مستيقظة خائفة من وجود عقارب أخرى، وكلّما غطّ في نومه، أوقظه لأتأكّدَ أنّه معافى وغير متأثّر بسموم العقرب، عند الشّفق الأوّل صاح بي:
ما لك يا امرأة؟ لماذا توقظينني وأنا في عزّ النّوم، لماذا لا تنامين؟
عندها تأكّدت أنّه بخير، فنمت ولم أستيقظ إلّا بعد شروق الشّمس، وأوّل شيء عملته كان أن تفقّدت رقبة أبيك، فوجدت مكان اللدّغة متورّما قليلا، وعلى بعد أمتار وجدنا العقرب ميّتة، فدستها بقدمي، يا الله كم كانت تلك الفترة جميلة رغم قساوتها! كانت فترة حملي بك خفيفة عليّ يا عكرمة، ولك أن تتصوّر أنّني تزحلقت على الصّخرة التي بجانب البئر، وأنا حاملة بك في الشّهر الرّابع، خفت عليك وأنت جنين أكثر من خوفي على نفسي، لكنّ الله ستر، وبقيت صامدا في أحشائي.
أصغى عكرمة بانتباه شديد لحديث والدته، تألّم لمعاناتها السّابقة كأنّه يعيش لحظة وقوعها، لكنّه كان يفرح لفرحها عندما تضحك وهي تسرد بعضا من ذكرياتها، فرحتها كبيرة لوجود ابنها عكرمة بجانبها في الغرفة نفسها، فشعرت كأنّه طفل رضيع وديع في حضنها، وفجأة سمعا طَرْقا على الباب، قفز عكرمة من سريره وهو يسأل:
من الطارق؟
– أنا باسل يا أبتي.
فتح عكرمة الباب وسأل:
ماذا تريد يا ولد؟
– أرسلتني أمّي لأطمئنّ على مكان وجودك، خصوصا وأنّ بيت جدّتي غير مضاء.
– عُدْ لأمّك وقُلْ لها بأنّني سأنام عند أمّي.
عاد باسل وأخبر والدته بما قاله أبوه، قلقت والدته وسألته:
هل جدّتك مريضة يا باسل؟
– لا أعرف يا أمّي، فأنا لم أشاهدها.
– إذن ابق هنا مع إخوتك؛ سأذهب لأطمئنّ على جدّتك وعلى أبيك.
أسرعت أمّ باسل إلى بيت حماتها، طرقت الباب، جاءها صوت عكرمة من الدّاخل: من الطّارق؟
– أنا اسراء يا عكرمة.
قام من سريره، فتح الباب وهو يسأل:
خيرا يا اسراء؟ ماذا تريدين؟
– جئت لأطمئنّ على الحاجّة أمّ وضّاح.
– هي بخير، لكنّني سأبقى عندها، لا يجوز أن تبقى وحدها هنا، فالوحدة قاتلة.
قالت اسراء وهي في طريقها إلى غرفة نوم أمّ وضّاح بعد أن أضاءت البيت:
هذا واجب علينا جميعنا، وإذا لم تنتقل للعيش معنا، فسننتقل جميعنا للعيش معها.
فرحت أمّ وضّاح بما سمعته من اسراء، ولمّا طرحت عليها اسراء تحيّة المساء أجابت:
أهلا بك يا ابنتي…الله يرضى عليك وعلى زوجك وعلى أبنائك يا ابنتي، لكن أين تركت أبناءك؟
اسراء: أبنائي في البيت ولا خوف عليهم.
أمّ وضّاح: عودي إليهم يا ابنتي، فهم أطفال وربمّا سيخافون في هذا الليل.
– البيت بالجوار ولا خوف عليهم، وسألت:
– لماذا لا تنتقلين للعيش معنا؟
– أمّ وضّاح: لا أستطيع تَرْكَ البيت الذي أنجبت فيه أبنائي جميعهم، فيكفيني
لوعة البيت الذي أرغمونا على تركه في لفتا. سقى الله أيّام زمان كم كانت جميلة! شُربة ماء من عين لفتا تردّ الرّوح، مياه عذبة نقيّة تخرج من بين الصّخور، كان لا يطيب لنا شُرب القهوة والشّاي إلا من مياه تلك العين، ثمّ ضحكت وهي تُضيف:
لم نعرف ماء غير ماء ذلك النّبع. للشّرب والطّبيخ والغسيل والاستحمام.
– لكنّ بيتنا بيتك يا عمّة.
– بيتكم لك ولزوجك ولأبنائك…الله يرضى عليكم، بامكانك أن تغادري أنت وزوجك الآن، فلا يجوز أن تتركا أطفالكما وحيدين.
اسراء مبتسمة:
بل سنأتي جميعنا للعيش معك في بيتك يا عمّة، والتفتت إلى زوجها وقالت:
تعال معي لنحمل الأطفال النّائمين، ونأتي بهم لننام جميعنا هنا.
بانت علامات الرّضا على وجه عكرمة وهو يقول:
عودي الآن إلى البيت، وناموا فيه، أنا سأنام هنا، وغدا سننقل بعض الأغراض التي نحتاجها، وسنقيم هنا مع الوالدة.
أمّ وضّاح: أهلا بكم في الأوقات كلّها يا أبنائي.
غادرت أمّ باسل عائدة إلى بيتها ودعوات حماتها تحفّ بها. بينما شعر زوجها برضا تامّ عنها، من خلال موقفها تجاه والدته.
تمدّدت أمّ وضّاح على سريرها، تغمرها سعادة غير مسبوقة من موقف ابنها عكرمة وزوجته اسراء، التفتت إلى عكرمة وقالت له تمتحنه:
ليتك ذهبت مع زوجتك يا بنيّ، فلا داعي للقلق عليّ.
ردّ عكرمة بهدوء:
لا تقلقي يا أمّي، فاسراء تستأنس بأطفالها، وأنا سأستأنس بجوارك.
– إذن نَمْ يا ولدي فقد قارب الليل على الانتصاف، ولا أريدك أن تتأخّر عن عملك.
– لا تقلقي يا والدتي. المهمّ أن تكوني أنت راضية.
– الله يرضى عليك، ويجعل لك في كلّ خطوة تخطوها سلامة ورزقا.
فكّرت أمّ وضّاح بحيلة تجعل “عكرمة” ينام؛ ليستريح من أعمال يوم مضى، وليستعدّ لمشاقّ يوم آخر فقالت:
أنا تعبانه وأريد أن أنام يا بنيّ.
ردّ عكرمة عليها:
نوم العوافي يا ستّ الكلّ.
أمضت أمّ وضّاح ليلتها تدعو الله أن يحفظ عكرمة وزوجته وأطفاله، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب، كانت ترفع رأسها بين الفينة والأخرى لتطمئنّ عليه، فقد خافت أن يسقط غطاؤه ويصاب بالبرد. تحدّثت مع القمر الذي أطلّ عليها من النّافذة، غفت عيناها، رأت أحلاما سعيدة. موقف عكرمة وزوجته أعادها لمرحلة الشّباب، وما كانت تصبو إليه عندما يكبر أبناؤها.
استيقظت مع أذان الفجر، نهضت من فراشها نشيطة على غير عادتها في السّنة الأخيرة، لم تُحدث ضوضاء كي لا تُزعج عكرمة، توَضّأت وصلّت الفجر في غرفة الجلوس. حضّرت ابريق شاي، استيقظ عكرمة من نومه، ابتسم عندما رأى والدته تحتسي الشّاي، وأمامها كأس، طرح عليها تحيّة الصّباح، قبّل يدها التي كانت تهمّ أن تحمل ابريق الشّاي؛ لتصبّ له كأسا، وهنا سمعا صوت اسراء عند الباب، كانت تحمل، قهوة الصّباح في يد، وصينيّة الفطور في اليد الأخرى، فتح لها الباب، فتقابلت ابتسامتها مع ابتسامته، قالت أمّ وضّاح:
الله يرضى عليك وعلى زوجك وعلى أبنائك يا أصيلة.
سألت اسراء: من حضّر منكما الشّاي؟ لماذا استعجلتما؟
لم تسمع جوابا سوى دعوات الرّضا من حماتها.
خرج عكرمة إلى عمله، في حين عادت اسراء تجهّز أطفالها للذّهاب إلى المدرسة، وشرعت تنقل بعض أغراضها من بيتها إلى بيت حماتها.
في ساعات الصّباح الأولى جاءت ابنتا أمّ وضّاح وداد وفاطمة، دون تنسيق بينهما، كلّ منهما تصطحب طفلا دون الرّابعة من عمره، وتحمل فطورا لوالدتها، استقبلتهما اسراء عند الباب، غلت لهما ابريق شاي، مدّت كلّ منهما ما أحضرته من طعام، فقالت لهما والدتهما:
بارك الله بكما وبأولادكما وبزوجيكما، لقد سبقناكما أنا وعكرمة واسراء بالفطور.
أطلّت اسراء عليهن وهي تقول باسمة:
أهلا وسهلا بكما، لا داعي أن تحملا طعامكما معكما، فخير الله كثير.
ردّت عليها وداد قائلة:
هل ممنوع علينا أن نحضر طعاما لوالدتنا؟
اسراء: ما قصدت هذا، لكن أنتما من أصحاب البيت، بامكانكما أن تعدّا الطّعام الذي تريدانه هنا، فخير الله كثير.
أمّ وضّاح: ربنا يرضى عليك يا اسراء.
وهنا دخلت ميساء زوجة وضّاح تمشي كالطّاؤوس، سحبت تحيّة الصّباح من بين شفتيها بصعوبة، جلست دون أن تصافح أحدا، وضعت اسراء كوب شاي أمام ميساء التي نظرت بغضب مكبوت وسألت:
ماذا تفعلين هنا يا اسراء؟ لماذا تنقلين أثاث بيتك هنا؟
اسراء: عكرمة يريدنا أن نسكن مع والدته؛ لنؤنس وحدتها.
ميساء: هل أنتم حريصون على راحة أمّ وضّاح، أم تريدون الاستيلاء على البيت؟
التفتت أمّ وضّاح لميساء وقالت:
عودي إلى بيتك يا ميساء، ولا داعي لهذا الكلام.
ميساء تسأل غاضبة: هل تطردينني؟
ردّت عليها وداد وفاطمة:
افهمي الكلام كيفما تشائين، انصرفي من هنا، عندما يعود زوجك سنتحدّث معه.
أمّ وضّاح لميساء:
الله يرضى عليك يا بنتي، اقعدي مثل النّاس أو عودي إلى بيتك، ولا داعي لهكذا كلام.
خرجت ميساء تعلو وجهها تكشيرة وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة.
التفتت أمّ وضّاح إلى ابنتيها وإلى اسراء وقالت:
هذه امرأة قليلة عقل، فلا تتجادلن معها، ونسأل الله أن يعين زوجها وأبناءها عليها.
عادت كلّ من وداد وفاطمة إلى بيتيهما، وسط تهديد وداد بالعودة مرّة أخرى بعد أن يعود أشقّاؤها من أعمالهم. بينما دارت ميساء على زوجات أشقّاء زوجها، تحرضهنّ على اسراء زوجة عكرمة، زاعمة أنّها تخطّط للاستيلاء على البيت الذي تسكنه حماتهنّ أمّ وضّاح، استمعن لها ولم تنبس أيّ منهنّ ببنت شفة، فهنّ يعرفن أنّها غيورة وتحبّ المشاكل، على عكس اسراء الهادئة الباسمة دوما.
عندما حلّ المساء اجتمع أبناء أمّ وضّاح في بيتها، كلّ واحد منهم يريد أن ينام ليلة في بيت الأسرة؛ ليؤنس والدته، وضّاح أبدى استعداده أن ينام ليلتين في الأسبوع، نبيل ووسيم وبهاء استعدّ كلّ واحد منهم أن يسكن هو وزوجته وأبناؤه معها بشكل دائم، بينما التزم عكرمة الصّمت.
قالت أمّ وضّاح:
بارككم الله ورضي عنكم جميعكم. عكرمة وزوجته نقلا أغراضهما هنا، وهما وأبناؤهما من سيعيشون معي، وأهلا بكم في كلّ وقت يا أبنائي. سنتسامر بحضوركم، وبعدها يعود كلّ منكم إلى بيته.
في هذه الأثناء دخلت شقيقتهم وداد وزوجها وأبناؤهما، تراكض أبناء وداد على حضن جدّتهم الذي يفيض حنانا. جلست وداد وزوجها سعيد يستمعان، وإذا بهم يسمعون صوتا يقول:
يا ساتر…يا أهل الدّار.
قال نبيل وهو يتّجه إلى باب البيت:
هذا صوت مصطفى شقيق ميساء زوجة وضّاح. وأضاف:
أهلا وسهلا بك يا استاذ…تفضّل…كلّنا هنا.
دخل الأستاذ عارف على استحياء، صافح الحضور وجلس مع الجالسين في الصّالة، وقال:
أرجو أن لا أكون قد اقتحمت جلستكم.
عكرمة: أبدا…أهلا بك، فأنت واحد منّا.
الأستاذ عارف: حيّاكم الله، جئت لأطمئنّ على أمّ وضّاح، فهي أمّنا جميعنا. قالها وسكت.
فقال وضّاح: شكرا لك… الوالدة كما ترى بألف خير. وعكرمة وأسرته تركوا بيتهم وانتقلوا للعيش معها.
الأستاذ عارف: حقّ الوالدين كبير، وما فعله عكرمة أمر جيّد يُشكر عليه. فالله – سبحانه وتعالى- دعا إلى برّ الوالدين وخدمتهما والاحسان إليهما، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الاسراء:
” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.”
وسعيدٌ من يخدم والديه، وثوابه عند الله عظيم.
أمّ وضّاح: الحمد لله ربّ العالمين، الله يرضى عليهم، لم يُقصّر أحد منهم، فهم يتسابقون على رعايتي.
الأستاذ عارف: مهما قدّم الانسان لوالديه يبقى مقصّرا، ولا يردّ لهم 1% من أفضالهم عليه، فقد جاء في الأثر:
” أنّ شخصا اسمه سعيد كان يعيش مع زوجته وأطفاله الثلاثة ووالده العجوز. الأسرة متحابّة وسعيدة، كلّهم يتمازحون ويمرحون، ويجلسون أمام شاشة التّلفاز ليلا، إلا أبا سعيد الذي يبقى مستلقيا على فراشه تحت وطأة أمراض الشّيخوخة، والوحدة التي يعاني منها بعد وفاة زوجته أمّ سعيد منذ ثلاثة أعوام.
زوجة سعيد تقدّم وجبات الطّعام لوالد زوجها بانتظام، وفي أوقات محدّدة . أمّا سعيد فيكتفي بطرح تحيّة الصّباح على والده قبل أن يذهب إلى عمله، وتحيّة المساء عندما يعود. وأبو سعيد لا يغادر فراشه إلا إلى الحمّام لقضاء الحاجة متّكئا على جدران المنزل وبصعوبة بالغة، وأيّام الجمعة يساعده ابنه سعيد على الاستحمام واستبدال الملابس، لكنّ حالته الصّحّيّة تزداد سوءا يوما بعد يوم، حتى صار قعيد الفراش، لا يقوى على تحريك أطرافه .
أبو سعيد مُمدّد على فراشه وشريط ذكرياته يدور دون توقّف، أحلام ورديّة ترسم بسمة على شفتيه، وهو يتذكّر أيّام الصّبا والشّباب، فيشعر بالرّضا عن نفسه، مطمئنا أنّ هذه سُنّة الحياة، وأنّه سيلاقي وجه ربّه راضيا مرضيّا، بينما سعيد حزين على وضع أبيه الصّحّيّ، فكان يصلّي الفجر، يحضر قهوة الصّباح والإفطار لوالده، يُطعمه ويسقيه بيديه، يقوم بتحميمه، ويُبدّل له ملابسه قبل أن يذهب إلى عمله، بعد أن يوصي زوجته برعاية والده، وعندما يعود مساءً يطعمه وجبة العشاء، ويحمّمه مرّة أخرى، ويبدّل له ملابسه، فيردّد الوالد:” الله يرضى عليك يا ابني”. مرّات كثيرة، يشعر سعيد أنّ الحياة تبتسم له، فيلجأ إلى كتاب الله يقرأ ما تيسّر من آي الذّكر الحكيم، داعيا الله بالختام أن يفرّج كرب والده. وذات يوم قرأ قوله تعالى: “ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا” (سورة العنكبوت) فترقرت الدّموع في عينيه، وهو يتذكّر والدته المرحومة التي قضت نحبها عندما توقف قلبها دون سابق انذار، فسأل الله لها الرّحمة، وهو يقرأ: ” ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمّه كرها ووضعته كرها “15” (سورة الأحقاف).
وصمّم أن يقوم برعاية والده خير رعاية حتى يختاره الله الى جواره، وحرصا منه على عدم التّقصير بحقّ والده عليه، ذهب إلى أحد الحكماء للاستشارة وطلبا للنّصيحة، فشرح للحكيم حال والده، وأخبره بأنّه يقوم باطعامه ثلاث وجبات في أوقاتها، ويحمّمه ويستبدل ملابسه صباح مساء.
فقال له الحكيم:
أنت مقصّر بحقّ والدك، إنتبه لقصورك وعدّله قبل فوات الأوان، فالله تعالى يقول: ” وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا (36)” “سورة النّساء”
شكر سعيدٌ الحكيمَ وعاد إلى بيته حزينا، وقرّر أن يأخذ إجازة من عمله ليتفرّغ لخدمة والده، يُطعمه خمس وجبات، ويحمّمه ثلاث مرّات يوميّا.
بعد أسبوع عاد الى الحكيم وأخبره بما يقوم به في رعاية والده.
فأعاد الحكيم عليه ما قاله له في المرّة الأولى وهو يقرأ:
“قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا 151” “سورة الأنعام”
رجع سعيد إلى بيته مهموما مغموما، قرّر أن يُبقى الطّعام أمام والده طيلة النّهار، وألّا يأكل هو وزوجته وأطفاله إلّا ما يتبقّى منه بعد أن يشبع والده، وأن يقوم بتحميمه واستبدال ملابسه خمس مرّات في اليوم.
وبعد الأسبوع الثّاني عاد إلى الحكيم نفسه، وأخبره أنّ والده قد توفّاه الله.
فقال له الحكيم:
ادعُ ربّك له ولك بالغفران والرّحمة، فقد قصّرت معه يا بُنيّ.
فاحتار سعيد بأمر الحكيم وسأله:
وماذا كان بامكاني أن أفعله ولم أفعله حتى أتلافى التّقصير؟
فأجاب الحكيم:
عندما كنتَ قاصرا في طفولتك كان – رحمه الله – يرعاك بشكل فائق، ويدعو الله لك بطول العمر وبالسّعادة، منتظرا اليوم الذي تكبر فيه وتصير شابّا، بينما أنت كنت ترعاه وأنت تـتأفّف منه، وتدعو الله بأن يرحمه ويستعجل بوفاته. وهناك فرق بين من تدعو له بالموت، بينما هو يدعو لك بالحياة، فبكى سعيد حتى احمرّت عيناه، وتأكّد أنّه كان مقصّرا في رعاية والده.”
طأطأ أبناء الحاجّة ساجدة رؤوسهم، وبكوا متأثّرين بما سمعوه.
تنحنح الأستاذ عارف وقال:
أمّا حقّ الأمّ على الأبناء فهو كبير جدّا، فقد روى الشّيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ:
“أُمُّكَ”. قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
“ثُمَّ أُمُّكَ”. قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
“ثُمَّ أُمُّكَ”. قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
“ثُمَّ أَبُوكَ”.
شكرت أمّ وضّاح الاستاذ عارف على موعظته التي قالها، ودعت له بالعافية وطول العمر.
همست وداد في أذن زوجها:
ليت شقيقته ميساء زوجة وضّاح تفهم هذا الكلام.
فردّ عليها: دعيك من هذا الكلام.
استأذن الأستاذ عارف من الحضور قائلا:
اسمحوا لي أريد أن أطمئنّ على شقيقتي ميساء قبل أن تنام، خرج يتبعه وضّاح، ولدهشتهما أنّ ميساء كانت تسترق السّمع على حديث شقيقها، سبقتهما إلى بيتها يكسو وجهها الحياء، وبعد أن صافحها قالت له:
سمعت حديثك فلا تقل شيئا، وأعدك أنت ووضّاح أنّني سأرعى حماتي، وأحبّها كما أحبّ أمّي، فالحياة لا تغني عن الآخرة.
فقال عارف ناصحا:
أنا وزوجتي نرعى الوالدة والوالد كما يجب، والمطلوب منك أن ترعي حماتك أنت أيضا.
ابتسم عارف وهو يضيف قائلا:
هكذا أريدك أن تكوني، وإذا ما كتب الله لك ولزوجك الحياة، فإنّكما ستشيخان، وستحتاجان من يرعاكما، وأبناؤكما وزوجاتهم وأبناؤهم هم من سيتولّون ذلك، وهذه سُنّة الحياة، فـ “كما تُدين تُدان”.
عاد عارف إلى بيته فرحا بتغيير موقف شقيقته ميساء من حماتها.
*****
يخرج عكرمة من بيته إلى عمله صباحا بعد أن يتناول قهوة الصّباح مع والدته، دعواتها تلاحقه، وما أن يخطو الخطوة الأولى خارج بيته حتّى يقول:
“يا ربّ رضاك ورضا الوالدين”
اسراء تجهّز أولادها للذّهاب إلى المدرسة، وتعود لتحضير طعام الفطور لها ولحماتها، تتسامران وتضحكان، بعدها تقوم اسراء بأعمال المنزل التي تأخذ ساعات طويلة من يومها، وتعود لتجالس حماتها، ذات يوم سألت اسراء حماتها:
لماذا يلقّبك الآخرون بـ “اللفتاويّة” يا عمّة؟
تنهّدت أمّ وضّاح، عبس وجهها، انسابت دموعها على وجنتيها وهي تحرّك خرزات مسبحتها، فشعرت اسراء بالحرج، وهي تقترب من حماتها وتسأل:
هل أخطأتُ بسؤالي، سامحيني إن أخطأت يا عمّة؟
مسحت أمّ وضّاح دموعها بردنها وقالت:
لم تخطئي يا بنيّتي، لكنّ سؤالك فتح جروحا لا تندمل، وأعادني إلى زمن العزّ والدّلال في قريتي لفتا، التي ولدت وترعرعت وتزوّجت فيها. ألا تعرفين لفتا يا بنيّتي؟
اسراء وقد احمرّت وجنتاها:
لقد زرتها مرّة واحدة يا عمّة، وتمتّعت بجمالها، لكنّها مهجّرة منذ العام 1948.
– إذن تمتّعتِ أنتِ بجمالها في زيارة خاطفة، فماذا أقول أنا التي وُلدتُ ونشأتُ فيها؟ أليس من حقّي أن أحنّ إلى مرابع الطّفولة والصّبا فيها؟ آهٍ على تلك الأيّام كم كانت جميلة! سكتت قليلا ثمّ قالت:
ومن شدّة تعلّقي بقريتي لفتا، وكثرة حديثي عنها صاروا يلقّبونني “باللفتاويّة” وهذا ليس غريبا، فكلّ من هُجّروا من مدنهم وقراهم ينتسبون إليها، مثل:
“اليافاوي، العسقلاني، الحيفاوي، العكّاوي، الطّيراوي، الفحماوي، المحسيري، المالحي وغيرها” يا بنيّتي. وهذا أمر معروف في ثقافتنا، فالكلّ ينتسب إلى مسقط رأسه مثل: “المقدسيّ، العكّاويّ، الغزّاويّ، الدّمشقيّ البيروتيّ، الفلسطينيّ، الجزائريّ، المصريّ، الأردنيّ…إلخ.”
فلا أحد ينسى بيته ووطنه، ومقابر آبائه وأجداده.
وضعت اسراء يدها على خدّها وقالت:
بصدق لم أزر لفتا قبل أن أتزوّج، لكن بعد زواجي اصطحبني عكرمة معه لزيارة لفتا، وهناك أشار إلى بيتين جميلين وهو يقول بانفعال شديد:
ذاك البيت هو الذي ولد فيه أبي، ورث أبي الطّابق الأوّل عن أبيه وجدّه، وبني هو وجدّي الطابق الثّاني، وتزوّج أمّي وعاشا فيه، وذاك هو مكان بيت جدّيّ لأمّي المهدوم، حيث ولدتْ وترعرعتْ، وقد اصطحبنا أبي بعد حرب حزيران 1967 لزيارة القرية، لم يحتمل رؤية بيته الذي هُجّر منه، وعاد بنا سريعا، حيث مكث في البيت مريضا باكيا لأكثر من أسبوع، وشاركته والدتي الحزن والبكاء حتّى أنّنا خفنا على حياتهما.
أنصتت أمّ وضّاح لما قالته اسراء، حلّقت نفسها عاليا في السّماء، لمعت ذاكرتها كالبرق فوق لفتا، جابت طرقات البلدة، رأت نفسها يوم زفافها عندما أخرجوها من بيت والديها في “الفاردة” إلى بيت العريس، وهي ترتدي ثوبا من الحرير، تعاونت على تطريزه هي وأمّها وجدّتها، على وسطها حزام حريريّ آخر بعرض كفّ اليد، رأسها مغطّى بخرقة بيضاء، أركبوها فرسا أصيلة، الرّجال يهزجون أمامها، النّساء خلفها يغنّين ويرقصن، العريس يرتدي قمبازا أبيض اللون، عباءة قهوجيّة اللون على كتفيه، كوفيّته مرقّطة بالسّواد، مرّوا بجانب عين الماء في القرية، شرب بعضهم من العين، عاشت تلك الأجواء تماما، لم تنتبه لنفسها إلا عندما سألتها اسراء:
ما بك يا عمّة؟ بِمَ تفكّرين؟
جفلت أمّ وضّاح وقالت:
اعذريني يا بنيّتي ما عدت قادرة على الاحتمال، نهضت متثاقلة وعادت تتمدّد على سريرها متعبة من ثِقَلِ الذّاكرة.
لحقت بها اسراء تسأل:
ما بك يا عمّة؟ هل أنت مريضة؟
– نعم يا بنيّتي، فأنا مريضة بحبّ لفتا…أحاول أن أنساها، لكنّني لا أقوى على ذلك يا بنيّتي. وكلّما ذُكر اسمها أمامي، يقتلني الحنين إليها. ليتني متّ فيها قبل أن أغادرها.
اسمعي يا بنيّتي، لفتا، عين كارم والمالحة، كانت أكثر قرى القدس تطوّرا في المجالات كافّة، أراضي لفتا واسعة وممتدّة، تصل العيسويّة – الطّور – بيت حنينا – بيت اكسا – قالونيا – ودير ياسين – عين كارم – شعفاط – وسور القدس.
شعرت أمّ وضّاح بقوّة الشّباب وهي تتحدّث عن مسقط رأسها، فاستندت وقالت:
يا اسراء، الأرض أمّنا، في أحضانها ترعرعنا، من خيراتها تغذّينا، من مائها شربنا، وسنعود إلى حضنها في دورة عجيبة، أراضي لفتا تجوّلت فيها على قدم وساق أيّام العزّ قبل النّكبة، أبي – رحمه الله- كان يُرينا حدود آخر قطعة من أراضي لفتا في كلّ الاتّجاهات، ويقول:
هذه لي ورثتها عن أبي، وتلك لأبناء عمومتي ورثوها عن أبيهم، وتلك اشتراها فلان من فلان، وكلّها موروثة أبا عن جدّ. حتّى بيوت القرية أعرفها واحدا واحدا، كلّ بيت أعرف مالكه، والبيوت التي هدموها بعد النّكبة أعرف مكان كلّ واحد منها، فمن الصّعب على الانسان أن ينسى مرابع صباه.
أصغت اسراء لِما قالته حماتها بانتباه شديد، شعرت بقوّة الحقّ الذي تتكلّم به، استأذنت منها لتعدّ كأسَي شاي.
تفاخر أمّ وضّاح بمعرفتها الشّموليّة لقريتّها المهجّرة، وهي تؤمن بأنّها ستعود إلى ربوع تلك القرية مهما طال الزّمن، لذا فهي تعلّق مفتاح باب بيتها في عنقها، كأنّه حرز يحميها من غوائل الزّمن، وعندما تنتبه إلى أنّ عمرها يمرّ بسرعة، فالشّيخوخة تداهمها وتسلبها قواها، تتعكّر نفسيّتها، فتتحسّس مفتاح البيت، وتشحن معنويّاتها بذكريات جميلة.
تغتسل أمّ وضّاح صباح كلّ جمعة، تستبدل ملابسها، تكحّل عينيها، تنتظر واحدا من أبنائها؛ ليوصلها إلى المسجد الأقصى؛ لتصلّي الجمعة، إلا أنّ عكرمة يحرص دائما أن يوصلها بنفسه، يقلّها في سيّارته، وينزلها في المصرارة قُبالة باب العمود – حسب طلبها-، عندما تقترب من سور المدينة التّاريخيّ تهلّل، تكبّر وتسبّح بحمد الله، ولمّا تقترب من دوريّة لجنود الاحتلال تقرأ في سرّها:
” وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ”، وتمسح وجهها بيديها وهي تقول:
لعن الله اليوم الذي رأيناكم فيه، تواصل طريقها باتّجاه الأقصى، تعبر طريق الواد، وتدخل من باب المجلس الاسلاميّ.
عندما تقع عيناها على قبّة الصّخرة، يرقص قلبها فرحا، تأسرها قدسيّة المكان، وروعة الفنّ والزّخرفة المعماريّة، تحمد الله وتصلّي على نبيّه وهي تقول:
الحمد لله الذي رزقنا صلاة في المسجد الأقصى.
تقوم بجولة تدور فيها رواق المسجد، تتفحّص المكان، حتى تعود إلى المكان الذي انطلقت منه، من هناك تتوجّه إلى قبّة الصّخرة، تدخل مسجدها، تصلّي ركعتي تحيّة المسجد وتسبّح بحمد الله، حتّى يحين وقت الصّلاة.
ذات يوم وصلت الأقصى بصحبة جارتها أمّ ماهر، التي اعترضت على جولة أمّ وضّاح في محيط رواق المسجد قائلة:
أنت امرأة مسنّة، فماذا تهدفين من هذه الجولة التي تتعبك؟
ردّت أمّ وضّاح مستغربة سؤال جارتها:
أتفقّد المكان يا أمّ ماهر.
– وهل المكان سيطير حتّى تتفقّدينه؟
– هذا ما أخشاه، فالمتربّصون بالمسجد كثيرون.
– وحّدي الله يا بنت النّاس، فما الذي تستطيعين فعله؟
– على الأقلّ سأستغيث بمن يستطيعون إذا رأيت منكرا.
– لا حول ولا قوّة إلا بالله، من سيعمل منكرا في المسجد؟
– لا أحد ينوي الشّرّ لهذا المكان غير المحتلّين.
دارت أمّ ماهر مع أمّ وضّاح داخل رواق المسجد. بعد الصّلاة غادرتا المسجد في طريقهما إلى المصرارة، حيث ينتظر عكرمة والدته؛ ليعيدها إلى البيت.
بعد أن خرجتا من باب العمود، وقع بصرهما على ثلاثة أفراد من شرطة الاحتلال، يمسكون صبيّا فلسطينيّا لا يتجاوز الرّابعة عشرة من عمره، يداه مقيّدتان خلف ظهره، أحدهم يضع رأس الصّبيّ تحت ابطه ضاغطا بشدّة، الثّاني ينهال على ظهره بعصا غليظة، والثّالث يشهر سلاحه يلتفت مذعورا إلى الجهات كلّها.
اقتربت أمّ وضّاح منهم، دفعت الجنديّ الذي يسيطر على الصّبيّ وهي تسأل:
ما الذي تريده من هذا الطّفل أيّها السّافل؟
صوّب زميله بندقيّته تجاهها وهو يقول:
انصرفي من هنا وإلّا……
نظرت إليه أمّ وضّاح نظرة احتقار وقالت له:
بل انصرف أنت من هنا، فهذه مدينتنا.
هاجمها الشّرطيّ بكعب بندقيّته فوقعت أرضا، حاولت أمّ ماهر أن تساعدها على النّهوض، لكنّها صرخت ألَما وهي تقول:
يبدو أنّه كسر ساقي.
سحب رجال الشّرطة الفتى بالقوّة، ألقوا به في سيّارتهم، هربوا من المكان، تلاحقهم حجارة الشّباب.
اقترب رجل في الأربعينات من عمره من أمّ وضّاح وقال للآخرين:
ابتعدوا عنها كي لا تؤذوها، اتّصلتُ لاحضار سيّارة اسعاف؛ لننقلها إلى مستشفى المقاصد، التفت إلى أمّ وضّاح وقال لها:
لا تخافي يا أمّي. سيصل الاسعاف خلال دقائق معدودة.
ركضت أمّ ماهر إلى موقف السّيارات في المصرارة، حيث أوقف عكرمة سيّارته، أخبرته بما جرى لوالدته، فركض إلى باب العمود، وصل لحظة وصول سيّارة الاسعاف، سأل والدته ملهوفا عن حالتها فأجابته:
إن شاء الله إصابة بسيطة.
في مستشفى المقاصد ظهر في صورة الأشعّة كسر تشعيريّ، تحت الرّكبة بحوالي خمس سنتمتر. وضعوا لها جبيرة من الجبس، ووضعوها في المستشفى تحت المراقبة لمدّة ساعتين.
في البيت تهافت أبناؤها وزوجاتهم، بناتها وأزواجهن وأحفادها لخدمة أمّ وضّاح، كلّ منهم يريد أن يقدّم لها خدمة. لم تثقل على أحد منهم، فالجبس لم يصل الرّكبة، وبالتّالي لم يعق حركة الرِّجل. لكنّها كانت تقول لهم دائما:
الله يرضى عليكم، ويعطيكم حتّى يرضيكم.
بعد أسبوعين فكّ الطبيب الجبس عن رِجلها، فعادت إلى طبيعتها بسرعة، ساعدها في ذلك تدليكها لساقها بزيت الزّيتون. لكنّها بقيت تتحدّث عن المجرم الذي هوى على ظهرها بكعب بندقيّته، وأوقعها أرضا على ساقها. وممّا قالته لمن عادوها:
لم أقلق على رِجلي، بل على ذلك الطّفل الذي اختطفوه دون سبب. كان الله في عونه وعون والديه.

******
ذات يوم انتبهت اسراء لكتاب “كي لا ننسى” لوليد الخالدي، كان موضوعا بين كتب زوجها عكرمة، دفعها الفضول أن تتصفّح الكتاب، لفت انتباهها ما هو مكتوب تحت عنوان الكتاب” قرى فلسطين التي دمّرتها اسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها” بحثت في فهرس الكتاب عن قرية لفتا فوجدتها صفحة 651:
– سكّانها: يبلغ عدد سكّانها في 1944- 1945: 2550 نسمة.
– بيوتها:عدد بيوتها 410 بيتا.
أمّا منازل القرية فقد بنيت في معظمها بالحجارة، متّخذة شكل خطّ محيط التّل، كما كانت الأزقّة القديمة فيها تمتدّ على شكل متّسم بخطوط منحنية. وقد توسّعت القرية توسّعا ملحوظا في أواخر عهد الانتداب، وامتدّ البناء فيها شرقا، صاعدا منحدرات جبل خلّة الطّرحة، وواصلا القرية بأبنية حيّ “روميما” في المنطقة الشّماليّة الغربيّة من القدس الغربيّة. كما امتد البناء نحو أسافل التّلّ في الجنوب الغربيّ، في موازاة الطّريق العامّ الممتدّ بين القدس ويافا. وكان وسط القرية يشتمل على مسجد ومقام للشّيخ بدر- وهو وليّ محليّ- وبعض الدّكاكين. كما كان فيها مدرسة ابتدائيّة للبنين تأسّست عام 1929م، وأخرى للبنات أنشئت في سنة 1945، بالإضافة إلى مقهيين وناد اجتماعيّ. والواقع أنّ القرية كانت ضاحية من ضواحي القدس، تربطها بها علاقات اقتصاديّة وطيدة. وكان سكانها يبيعون منتجاتهم في أسواق القدس، ويستفيدون ممّا تقدّمه المدينة من خدمات. وكانوا يتزوّدون بمياه الشّرب من نبع في وادي الشّامي، ويزرعون أراضيهم حبوبا وخضروات وأشجارا مثمرة، منها الزّيتون والكرمة. وكانت أشجار الزّيتون تغطي 1044 دونما. وقد تركّزت زراعات القرية البعليّة في وادي الشّامي، ولا سيّما في المنخفضات الممتدّة جنوبيّ غربيّ القرية، وعلى المنحدرات.
في 1944- 1945، كان ما مجموعه 3248 دونما مزروعا بالحبوب.
المنازل الباقية في الموقع مهجورة في معظمها، مع أن بعضها رُمِّم؛ لتقيم فيه عائلات يهوديّة. ولم يبق من الحوض الذي شُيّد حول النّبع في وادي الشّامي سوى الأنقاض، ويظهر المسجد ونادي القرية شماليّ النّبع. وتحفّ بالجانب الغربيّ من المسجد مقبرة تغطّيها الأشجار والأعشاب البرّيّة. ويقع بستان التّين واللوز، التّابع للقرية، في غور واد بمحاذاة مسيل ماء يتدفّق من النّبع. وقد انتقلت عائلات يهوديّة للسّكن في ثلاثة من المنازل القديمة في القرية، بينما تظهر أطلال المنازل الأخرى في مواضع متفرّقة في القرية.”
سألت أمّ وضّاح اسراء:
ما هذا الكتاب يا بنيّتي؟
أجابت اسراء مرتبكة:
هذا كتاب عن القرى العربيّة التي دمّرتها اسرائيل عام النّكبة وبعده.
– هل فيه شيء عن لفتا؟
– نعم، هناك شيء عن لفتا.
تنهّدت أمّ وضّاح تنهيدة عميقة وقالت، لم تعد عيناي تقويان على القراءة يا بنيّتي، اقرئي لي ما هو مكتوب عن لفتا.
اسراء: أين تعلمتِ القراءة والكتابة يا عمّة؟
افتتحوا مدرسة للبنين في قريتي لفتا عام 1929، أي في العام الذي ولدتُ فيه، ووالدي – رحمه الله- وبعض أعيان القرية، سجّلوا بناتهم في المدرسة؛ ليتعلّمن مع الأولاد، وأنا التحقت بالمدرسة في السّابعة من عمري، درست ستّ سنوات، تعلّمت خلالها الانجليزيّة أيضا، أمّا مدرسة البنات فقد افتتحت في القرية عام 1945.
قرأت اسراء ما هو مكتوب عن لفتا على مسمع حماتها وسكتت.
استمعت أمّ وضّاح بانتباه شديد لما قرأته اسراء وقالت:
هناك معلومات غير صحيحة.
كيف؟ سألت اسراء.
– بيوت القرية كانت أكثر من ثمانماية بيت، نصفها في الجزء الفوقي، وهي البيوت الواقعة فوق شارع القدس-يافا، كما كنّا نقول أيّام العزّ قبل ضياع القرية:
“فلان ساكن في البلد الفوقا، وفلان في البلد التّحتا”، و”التّحتا” هي التي تقع تحت ذلك الشّارع، وبعض بيوتها لا تزال قائمة حتّى يومنا هذا، أمّا الجزء “الفوقاني” فقد هدمت غالبيّة بيوته، وأقيم مكانها أحياء استيطانيّة لليهود.
تنهدّت أمّ وضّاح وقالت لاسراء وهي تحتسي كوب الشّاي:
اسمعي يا أمّ باسل، صحيح أنّنا فقدنا قريتنا وبيوتنا، لكن لا يمكن أن نفقد ذاكرتنا التي نحتفظ من خلالها بذكرياتنا الجميلة التي هي تاريخنا الذي عشناه، فابن خالتي “عماد حامد صفران اللفتاوي، يصرّ على التّمسك بسيّارة من نوع “دودج 500” كانت صنعت في الولايات المتّحدة الأميركيّة في العام 1940، أي قبل ثماني سنوات من النّكبة. لا تزال السّيّارة التي تحمل رقم 428 موجودة، وكان عماد اللفتاوي ورثها عن والده – لا تزال تمثّل بالنّسبة له رمزا خاصّا لـ”العودة”، ولا يمكن أن تتحوّل إلى “خردة”، ليس فقط لأنّها حملت العشرات من الفلسطينيّين وهم هاربون من القرية إثر مذبحة مروّعة اقترفتها العصابات الصّهيونيّة في “مقهى الشّيخ بدر”، بل لأنّها “سيّارة مناضلة”!
و”شاهدة” على نكبة إضافية حلّت بأسرته إثر اعتقاله في ثمانينات القرن العشرين.
تفاجأت اسراء بمعلومة السّيّارة، فاحمرّ وجهها وعقد لسانها، وهي ترى الوطن يتمثّل أمامها بقرية لفتا، ذُهلت من ذاكرة حماتها التي احتفظت حتّى بالأشياء الصّغيرة، وهنا سألتها أمّ وضّاح:
ما بك يا اسراء؟
ردّت اسراء متلعثمة متسائلة:
وما الفائدة من سيّارة تآكلت، فالسّيّارات كثيرة؟
– “إنّها أحد مفاتيح الذّاكرة الجَمَعيّة لأسرة تواظب – رغم مرور السّنين- على الامساك بحلمها في العودة إلى قريتها لفتا.”
خرجت أمّ وضّاح لتجلس أمام البيت، فهي تحرص أن تجلس يوميّا هناك، تدير وجهها جنوبا، وتنظر المسجد الأقصى، فتطيب نفسها وتهلّل وتكبّر.
سألتها اسراء:
أراك تستطيبين الجلوس هنا يا عمّة.
ردّت أمّ وضّاح وهي تحرّك خرزات مسبحتها:
وكيف لا تطيب نفسي والمسجد الأقصى أمامي؟ فجبل المشارف اكتسب اسمه لأنّ من يصله أو يمرّ به قادما من شمال البلاد، يشرف على القدس القديمة ويرى المسجد الأقصى.
وهنا قالت اسراء:
غير العرب يسمّونه ماونت سكوبس” Mount Scopus”
أمّ وضّاح: هذه ترجمة معنى الجبل إلى الانجليزيّة، والهدف من استعمال هكذا ترجمات هو طمس كلّ ما هو عربيّ في المدينة وضواحيها.
في هذا الأثناء عاد ابنها عكرمة من عمله سعيدا فرحا، قبّل يدي والدته وهو يقول:
بركاتك ورضاك يا أمّي جلبا لي رزقا واسعا، فقد شاركت في مناقصة لبناء مستشفى خاصّ في رام الله، وفزت بالعطاء، فجاءت شركة مقاولات بناء وعرضت عليّ خمسين ألف دينار مقابل التّخلي عن المشروع. فقبلت ذلك وأنا أقول:
هذا فضل من الله ومن رضا الوالدين.
ابتسمت والدته وقالت:
الحمد لله، والله يرضى عليك، ويجعل لك في كلّ خطوة تخطوها رزقا.
قالت اسراء باسمة:
كنّا نتحدّث أنا ووالدتك عن لفتا، فانفتحت قريحتها، وروت لي تفاصيل صغيرة ورائعة عن ذكرياتها الجميلة في تلك القرية.
استمع عكرمة لما سردته والدته من ذكريات، وأضاف:
“أقيم مبنى البرلمان الاسرائيليّ “الكنيست” على جزء من أرض الشّيخ بدر، وتعود ملكية هذه الأراضي لعائلة علي خلف. كما أقيمت على أرض لفتا العديد من الوزارات الاسرائيليّة، والبنك المركزيّ الاسرائيليّ، ومحطّة الباصات ” إيغد” المركزيّة، وأقيمت على أرضها أيضا أحياء سكنيّة يهوديّة كحيّ (روميما) –، وكذلك حيّ “نفتوح” وحيّ “رمات اشكول” و”جبعات شابيرا” و”جبعات همقتار” و”معلوت دفنا”، وكذلك مبنى الجامعة العبريّة على أرض “جبل المحاجر”، الذي يسمّيه “الاسرائيليّون” “هار هتسوفيم”.
أمّ وضّاح: بيت علي خلف كان قصرا من طابقين، يعلوه القرميد الأحمر.
تحرص أمّ وضّاح على الجلوس أمام بيتها مرّتين يوميّا، واحدة في ساعات الضّحى، والثّانية بعد صلاة العصر، باستثناء الأيّام الماطرة والباردة، ونادرا ما تجلس على كرسيّ، فهي تستطيب الجلوس على التّراب، تستظلّ بواحدة من الأشجار المزروعة في حديقة المنزل، وإن كانت تحبّذ الجلوس تحت شجرة الليمون، التي تنبعث منها رائحة عطر طبيعيّ تنعش القلب، وتهدّئ النّفس، وتردّد دائما:
هذه الأشجار تذكّرني ببساتين لفتا المعلّقة، رحم الله أيّام زمان، كيف كنّا؟ وأين أصبحنا؟
وبجلوسها في حديقة المنزل، تستنشق النّسيم العليل، تكتحل عيناها برؤية المسجد الأقصى، يتهافت أحفادها للجلوس معها، يلعب الصّبيان حولها، تعجبها شقاوتهم، في حين يتسابق الصّغار للجلوس في حضنها، تحتضن هذا، تقبّل ذاك، وتنهر من يتطاول منهم على أشقّائه أو أبناء عمومته. تداعب أحفادها، تروي لهم ولمن يتواجد من آبائهم وأمّهاتهم حكايات عن أيّام العزّ التي عاشتها قبل النّكبة.
عندما يعود أبناؤها من أعمالهم، بعضهم يأتي إليها ليجالسها، وبعض نسائهم أيضا يجالسنها، لكنّها لا تسمح لأيّ منهم أن ينهر الصّبيان وهم يلعبون، ويقفزون من مكان إلى آخر، كانت تقول لأبنائها وزوجاتهم:
دعوا الأطفال يلعبون على سجيّتهم، فعندما كنتم في أعمارهم، كنتم أكثر شقاوة منهم.
ذات يوم التقى أبناؤها جميعهم في مجلسها أمام البيت، حدّثتهم عن ذكرياتها في لفتا، تناولت مفتاح البيت الذّي هجّرت منه في لفتا، أخرجت “كوشان” الأرض من جيبها، ناولتها لابنها عكرمة وهي تقول:
ما عاد في العمر بقيّة يا أحبتّي، هذه أمانة في عنقك يا عكرمة، فحافظ عليها أنت وأشقّاؤك.
قالوا لها: أطال الله عمرك يا أمّاه، ومتّعك بالصّحة والعافية.
نهضت من مكانها، عادت إلى البيت وتمدّدت على سريرها حزينة.
12-12-2016

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات