ظلام النهار – رواية

ظ

 

الصبيان ممن هم فوق الثانية عشرة يذهبون في العطلة الصيفية للعمل في الحفريات الأثرية التي تقام صيفاً في قرية سلوان، وفي مناطق محددة، ما بين عين سلوان الفوقا والتحتا، ومقابل طنطورة فرعون في الشمال الشرقي من العين الفوقا، في أسفل المنحدر الذي لا يبعد عن سور القدس القديمة ومنبر الأقصى سوى بضع مئات من الأمتار، تلك الهضبة التي تتمركز فيها الحفريات تنطلق من زاوية سور القدس القديمة من الجنوب الشرقي حيث مقبرة باب الرحمة التاريخية، الانحدار وعر وتحيط به الأبنية من الجهة الغربية، وتقابلها قرية سلوان من الجهة الشمالية، ولا يفصلها عن الهضبة والعين الفوقا سوى وادي قدرون الذي يعلوه شارع يصل الى كنيسة الجثمانية.
المس كينيون تلك العجوز الانجليزية السمينة،مربوعة القامة، شيباء الشعر، سيجارتها لا تنطفئ مطلقا الا عند النوم، تقف ومساعدوها يختارون العمال من الأطفال أو من الشيوخ، لأسباب لا يعلمها أحد، وإن كان البعض يفسرها أنها تريد مساعدة الأطفال والعجائز على إعالة أسرهم، ولم يصدق أحد ما كان يردده البعض أنها كانت تعمل لصالح مؤسسات اسرائيلية ويهودية للبحث عن آثار ما يسمى مدينة داود بعد أن انتهت من نبش أريحا القديمة بحثاً عن آثار يهودية.
الصبيان يتسابقون ويتدافعون للوقوف أمام المس كينيون ومساعديها كي تختار منهم من تريد، وغالبية الصبيان ان لم يكونوا جميعهم من قرية سلوان ومن السواحرة، يستيقظون في أي ساعة ليلاً-خصوصا صبيان السواحرة،يستحلبون الندى على أجسامهم الغضة، ويتسابقون الى عين سلوان التحتا حيث يستحمون، ويلهون بالماء الذي يغلق المزارعون مصرفه حتى يتجمع، وفي الصباح يطلقونة في القناة باتجاه الوادي المزروع بالتين وأنواع مختلفة من الخضار، وبعض الصبية يتعلم السباحة في العين التي لم يتجاوز ارتفاع الماء فيها أكثر من متر، وخليل من أوائل الصبيان الذين تعلموا السباحة، مع أنه أكتع، مما أثار اعجاب وحسد الآخرين، وعندما أنهى الصف الاعدادي الأول اختاره المستر ستيفن أحد مساعدي المس كينيون كي يعمل معه، اختاره لطوله، حيث كان أطول قامة ممن هم أكبر منه بعامين، وربما اختاره شفقة عليه لأنه أكتع، أو لأسباب أخرى، لكن هذا ما فسره الكبار.
وفي جورة الحفريات أعطاه(مسطرين) كي يزيل التراب ببطء من حول الحجارة التي كانت تظهر في الحفريات، أو عند المناطق التي يظهر فيها الفخار، فشعر خليل بالأهمية، خصوصاً وأن استعمال المسطرين كان من اختصاص الأجانب، أمّا الفؤوس والمجارف فكانت من نصيب العجائز العرب التي تقضي الأوامر بأن ينبشوا الأرض بضربات خفيفة دون عنف، كي لا ينكسر ما في باطن التربة، وأن يضعوا في القفاف كمية بسيطة من التراب كي تكون ظاهرة للمسؤولين الأجانب بأن لا شيء فيها، ويعللون ذلك بأنه رحمة بالصبيان، مما

أثار اعجاب كبار السّنّ الذين يتداولون الحديث عن القلوب الرحيمة للمسؤولين الأجانب.
خليل يجلس القرفصاء أو يتربع جالساً على مؤخرته، ويتفنن في استعمال المسطرين، يزهو بنفسه، يمازح الصبيان الآخرين، خصوصاً وأن الذي يستعمل
المسطرين يحصل على عشرة قروش زيادة يومياً، فهو يتقاضى خمسة وثلاثين قرشاً في حين يتقاضى أقرانه خمسة وعشرين.

المستر ستيفن يتقرب من خليل ويحادثة بالانجليزية محاولاً تعليمه، وخليل ينتبه لكل كلمة فيتعلمها، فتحسنت لغته الانجليزية بشكل ملحوظ، وعندما قبض أول أجرة له بعد أسبوعين من عمله، كانت أربعة دنانير وعشرين قرشاً، لم تسعه الدنيا، فعاد راكضاً الى البيت، امتطى حماراً بعد أن وضع خرجاً على ظهره، وعاد الى منطقة بئر أيوب دون أن يخبر أحداً…اشترى أكبر أربع بطيخات من دكان هناك، وعاد الى البيت فرحاً.
فرحت به والدته وأخواته وأخوته، ونقد الدنانير الأربعة لوالدته قبل أن تنزل البطيخات من على ظهر الحمار، فطبعت قبلتين على وجنتيه وابتسامة عريضة على وجهها، استلمتها منه وأعادتها اليه قائلة:
إعطيها لأبوك الله يرضى عليك، فاستدار الى أبيه وقال: تفضل يابا.
استلمها الوالد منه وهو يقول:
باين يا ولد أنك بتحب أمّك أكثر مني.
طأطأ خليل رأسه حياء ولم يجب، فأردف الأب مخاطباً أمّ خليل:
هاتي بطيخة وسكين وصحن يا فاطمة، فأول الثمار بيطيل الأعمار.
تحلقت الأسرة حول البطيخة،كانوا يرشفون شقحات البطيخ وكأنهم في سباق، وعندما انتهوا منها، حمل خليل قشورها وألقاها أمام الحمار، فقال الأب:
الله يرضى على خليل بينتبه لكل شي.
فقالت الوالدة: ترضيت عليه لأنه أطعم الحمار، وما ترضيت عليه عند ما أطعمنا جميعنا.
فقال كامل: للحمار أهميه أكثر من بعض بني البشر.
وعندما انتهت العطلة الصيفية، وعاد الطلبة الى المدارس، اشترى الوالد لكل واحد من أبنائه بنطالاً وقميصاً وصندلاً، وللبنات مريولاً و(وطا) لكل منهن، في حين اشترى بنطالين وقميصين وحذاء لخليل، مما أثار حفيظة اخوته، فرفض خليل انتعال الحذاء ما لم يتم شراء حذاء لكل واحد من اخوانه، فاستجاب الوالد لطلبه، واشترى لكل واحد منهم بسطارا مستعملا من سوق الباشورة، خصوصاً وأن ثمنها من(تعب) خليل.
وأثناء العام الدراسي لفت خليل انتباه معلم اللغة الانجليزية الذي رأى تقدماً واضحاً جداً في لغته.

في بداية العطلة الصيفية، وعندما حضرت بعثة التنقيب عن الآثار، ركض خليل باتجاه المستر ستيفن الذي استقبله بترحاب زائد، ضمّه الى صدره وطبع قبلتين على فضاء كتفيه، وسجله للعمل معه، بعد أن عرّفه على ابنه براون الطالب في السنة الجامعية الأولى، نظر خليل الى براون، فعجب من شعره الذهبي الأملس الناعم، ومن حمرة خدّيه التي تشبه حمرة خدود العرائس في أيام الزفاف، ودهش من شفتيه الرقيقتين اللتين تعلوهما حمرة، وتحرسان ثغرا ما أن ينفتح حتى ترى أسنانا كأنها من لجين، صوته رقيق فيه دلع، ابتسم خليل وهو يرى أن
شبابهم أكثر جمالا من صبايا بلادنا، وأيديهم فيها رقة ونعومة أكثر مما هي في أيدي أطفالنا.
بدأ خليل العمل كما العام الماضي، لكن هذا العام بصحبة براون طيلة اليوم، طلب المستر ستيفن من خليل أن يعلم ابنه العربية، وطلب من ابنه أن يُعَلم خليل الانجليزية، وكان براون يتعلم كل يوم بضع كلمات عربية، في حين يتعلم خليل عشرات الكلمات الانجليزية، وفي أيام العمل وفي نصف ساعة فرصة الافطار كان براون يصر على أن يبقى خليل بصحبته، حيث يتناول الأجانب طعامهم في خيمة فيها طاولات وكراسي، خليل يضع أمامه رغيف خبز وقطف عنب، والأجانب يبسطون الأجبان والألبان، والنقانق، وفي بعض الأحيان مشاوي من لحوم الأغنام والدجاج، اضافة الى زجاجات العصائر والمشروبات الغازية المختلفة، فيأكل خليل معهم، في حين يتسابقون على قطف العنب، مما دعاه أن يجلب يومياً ثلاثة قطوف، وهذا ما دعا المستر ستيفن أن يصحبه مع ابنه براون في سيارته للتجول في كرم العنب الذي تملكه العائلة.
وذات يوم سأل براون: كم أخاً لك يا خليل؟
فأجاب خليل: لي سبعة أخوة وخمس أخوات.
تعجب براون من ذلك وقال: أنا لا أخوة ولا أخوات لي، فهل تقبل أن تكون أخاً لي يا خليل؟
فقال خليل: بكل سرور.
ومن يومها لم يتخاطبا إلا بلغة الأخوة، براون يقول لخليل بالعربية: أخ خليل، وخليل يقول: Brother براون.
وعندما انتهت الحفريات في بداية العام الدراسي، وافترق (الأخوان) كان فراقاً مؤثراً.
عاد خليل الى البيت وهو يفكر بأخيه الذي لم تلده أمّه، تساءل عن سبب كثرة أفراد أسرته، وعن أسباب عدم وجود أخوة وأخوات لبراون، قارن بين حياة الترف التي يعيشها براون، وحياة الفقر التي يعيشها هو وأفراد أسرته، لكنه بقي يفكر في أحزان براون لعدم وجود أخوة وأخوات له، ووقف حائراً لا يجد جواباً عندما دار في رأسه بأنه لو كان وحيداً لوالديه، هل سيعيش حياة مترفة مثل براون، أم أنه سيكون حزيناً مثل براون؟

وبقي (الأخوان) يتبادلان الرسائل، وقبل عطلة نصف العام الدراسي جاءت رسالة لخليل من براون جاء فيها:
أخي العزيز خليل
سنكون سعداء أنا والوالد والوالدة اذا ما زرتنا في عطلة نصف العام الدراسي، والوالدة تنتظر زيارتك لتتعرف عليك، لأنني والوالد حدثناها عنك كثيرا، واذا ما كنت ترغب في ذلك، فسنبعث لك تذكرة الطائرة، وسنكون في استقبالك.
أخوك براون

عندما قرأ خليل الرسالة لوالديه، جرى نقاش حاد في الأسرة، فقال الأب: الانجليز أولاد حرام، شو بدهم من هالولد؟ والله إنّي خايف أنهم بدهم يلطشوه منّا.
وقال كامل: دعوه يسافر، سيرى بلاداً جديدة، وسيتعلم أشياء جديدة، ولن يكلفنا شيئاً، وأنا أضمن بأنه سيعود اليكم.
وقال صالح: يخطفوه على إيش؟ أي هو ناقصهم ولد أكتع مثل خليل؟
فقالت الوالدة: اخرس ودشرك من هالحكي الفاضي زيّك.
وأخيراً قرر الوالد أن يذهب الى المدرسة، ويستشير مديرها ومعلميها، ويعمل برأيهم، فهم متعلمون ويعرفون عن بلاد الأجانب أكثر منا.
وفي المدرسة عندما اطلع المدير ومعلم الانجليزية على الرسالة: قال معلم الانجليزية: خليل فتى ذكي ومثابر، وأنا أتوقع له مستقبلاً زاهراً، فلا تقفوا في طريقة، ولو كانت الدعوة لي شخصياً للبيتها فوراً ودون استشارة أحد.
وقال المدير: دعوه يسافر فلا خوف عليه، لكن أوصوه أن يعود قبل انتهاء العطلة بيوم واحد، وأن يرفض أية اغراءات بالتجديد، والا سيخسر مستقبلة التعليمي .
واتفقوا أن يردوا على الرسالة فكتبها معلم الانجليزية كالتالي:
أخي براون
أشكرك لعواطفك النبيلة ، وأنا في شوق للقاء الوالدين، أمّك وأبيك، أرجو أن ترسل لي التذكرة من تاريخ 27 – 12 وحتى 31 – 1
والى اللقاء.
أخوك: خليل
وما أن مرّ أسبوعان حتى تلقى خليل رسالة فيها تذكرة على الخطوط الجوية الملكية الأردنية، بنفس التاريخ الذي حدده خليل في رسالته في الاقلاع من مطار عمان الى مطار لندن وبالعكس، وفيها شيك بنكي باسم خليل بقيمة خمسمائة جنية استرليني.
صرف خليل الشيك بصحبة والده من أحد الصرافين في باب العامود، وضعها الوالد في جيبه، وعاد الى البيت حائراً في كيفية التصرف بها ،لم ينم تلك

الليلة،رأسه يكاد ينفجر من تزاحم الوساوس…لماذا يرسلون هذا المبلغ الكبير؟ هل هو ثمن لخليل؟ هل يشتري الانجليز أبناء الفقراء مثلنا؟ أم هي مساعدة من رجل ثري لطفل جار عليه الزمن؟ اذا كانوا يرغبون أن يكون لهم ولد ثان فلماذا لم ينجبوه كبقية الأزواج؟ أكثر ما أخشاه أنهم يصابون بالعجز الجنسي في سن مبكرة، فالانجليز دمهم بارد، ورجالهم ناعمون كما بنات الأثرياء المدللات في بلادنا، بل انهم أكثر نعومة منهن، ومع ذلك هم قساة غلاظ القلوب، لقد عرفناهم زمن الانتداب، يبدون ناعمين مؤدبين في أحاديثهم، لكن أفعالهم أفعال شياطين، سرقوا منا البلاد وسلموها لليهود، انهم كالأفاعي التي لا ينجو من لدغاتها السامة سوى طويلي العمر…لا …لا..لن أسمح لخليل بالسفر…خليل هذا

الولد التعاسة مكتوبة على جبينه منذ ولدته أمّه…أخشى ما أخشاه أنهم يريدون اختطافه منا بهدوء مقابل المال…وماذا سيقول الناس عندما يعلمون بالأمر؟ بالتأكيد سيقولون أن أبا كامل باع ابنه للانجليز…معاذ الله..يا رب رحمتك ورضاك.

وفي الصباح الباكر استدعى رجالات العائلة وبحث الموضوع معهم دون أن يخبرهم عن الخمسمائة جنيه استرليني.
فقال الحاج عبد الباري: يا جماعه في مثل بيقول:”لا تأمن للي عيونه زُرُقْ،وخدوده بُرُقْ،واسنانه فُرُقْ”وهاذي اوصاف الانجليز،النوايا مش سليمه ولا تودوا الولد وتخسروه.
فقال كامل ضاحكا: يا جماعه الانجليز هيك الله خلقهم…بس أنا شفت اسنانهم مثل عقد اللؤلؤ، ما هي فرقا…احنا اللي اسنانّا فُرُقْ.
الحاج عبد الباري: انت يا ولد شو عرّفك بالنجليز؟ بتتذكر يا أبو كامل يوم قالوا في توزيع(بكج) وعند ما دخل أبو موسى هجموا عليه وكتفوه وأخذوه وحكموا عليه اعدام؟
– آه والله بتذكر أي في واحد في البلد بينسى هذاك اليوم؟
– يا حسرتي عليك يا خليل… شو هالوقعة اللي وقعتها وما حدا سمّى عليك؟ قالت والدته من داخل البيت.
وقال كامل: يا جماعة والله بتعملوا من الحبّه قبّه…فرصة أجت لهالولد من غامض علم الله…انتو بتحسبوا الانجليز ناقصهم اولاد…لا تضيعوا الفرصه على الولد.
قال ابو كامل: بس ليش قال ملعون الوالدين الولد المفعوص الانجليزي انه بدّو خليل يصير أخوه؟
كامل: يعني لو قال بدي إياه خدام عندي أحسن ومقبول عليكم.
أبو كامل: الله يلعنه ويلعن أبوه…ليش إمّه وأبوه ما خلفوا له أخو؟

كامل: يا عمي الانجليز بيفكروا بعقولهم مش بـ….ومنشان هيك حكموا العالم…عندهم ولد واحد متعلم عايش عيشه مليحه أحسن من ألف ولد المرض قاتلهم والجهل مخرب بيت أهلهم.
الحاج عبد الباري: طيب يا فصيح ما دام هيك حالهم شو بدهم من خليل؟
– القصه بسيطه يا عمّي…زلمه ربنا منعم ومفضل عليه، ابنه قال له بدّي خليل يصير أخوي..ومنشان ما يكسر خاطر ابنه وافق.
أبو كامل: يعني شو الحل؟ أي والله الليله ما نمت.
كامل: الحل اتركوا الولد يسافر وعليكم الله وأمان الله إلا يرجع إلكم أحسن من قبل.
وقبل السفر بيومين اشترى كامل من القدس مجسماً صدفياً للمسجد الأقصى ومجموعة من المنحوتات الخشبية المقدسية، منها تمثال للسيد المسيح عليه

السلام، يحمل الصليب في طريق آلامه هدية لعائلة براون، كما اشترى بنطالين وقميصين ومجموعة من الملابس الداخلية وحذاء جديدا لخليل، وفي 27-12 اصطحب خليل معه الى مطار عمان حيث ودعه هناك.

وفي الطريق الى عمان كان خليل كالملهوف يتلفت الى كل الاتجاهات، فهذه هي المرة الأولى التي يتجاوز فيها حدود أريحا، رأى الكثبان الجيرية القاحلة، رأى الأشجار الكثيفة المتطاولة على ضفتي النهر، ووقف من مقعده وتابع انسياب مياه النهر بهدوء باتجاه البحر الميت، وعندما بدأ الباص يتسلق مرتفعات ناعور التفت الى الخلف، فرأى البحر الميت صفحة فضية مترامية الأطراف، ومرّ من منتصف العاصمة عمان مبهوراً بالأبنية والحوانيت.

في مطار ماركا وبعد ان انتهى من اجراءات التفتيش وختم جوازات السفر سار باتجاه قاعة المغادرين انتظاراً لاقلاع الطائرة، فراقب الطائرات الجاثمة على أرض المطار والطائرات القادمة والمغادرة، اندهش من طول أجنحة الطائرات وكبر حجمها، وتساءل عن قدرتها على الطيران بحمولتها الكبيرة، وشعر بالخوف من امكانية سقوطها وتحطمها، وتلهف لرؤية لندن وهو يؤكد لنفسه بأنه يستحيل أن تكون أجمل من القدس، فلا يمكن أن تكون أيّ مدينة في العالم أجمل من القدس، صحيح أنه لم يتجول في كافة حواري وأسواق وأزقة القدس، لكنه مبهور بقدسية وزخرفة المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وكنيسة القيامة وكنيسة الجثمانية، وسور القدس العظيم الذي يحتضن المدينة المقدسة.
وفي الطائرة أخذ يفكر بكيفية استقباله، وأين سينام؟ هل سينام في غرفة مع براون كما ينام في بيتهم مع أخوانه؟ أم سينام في غرفة مستقلة؟ وهل تملك أسرة براون بيتاً صغيراً مثل بيتهم أم ماذا؟ وأين وكيف سيقضي وقته في لندن؟
عندما هبطت الطائرة في مطار هيثرو بلندن، تعجب خليل من اخضرار المنطقة، ومن الورود التي تزين محيط المطار، وتعجب من ضخامة المطار

وكثرة الطائرات القادمة والمغادرة، التي تسير وتحلق في نظام عجيب يحول دون اصطدامها ببعضها البعض.
عندما انتهى من اجراءات التفتيش وخرج مع المسافرين رأى براون والمستر ستيفن، وبصحبتهما امرأة حسناء، احتضنته وقبلته على وجنتيه، في حين احتضنه براون والمستر ستيفن دون تقبيل، حمل براون حقيبة خليل في حين وضعت والدته يدها اليمنى على كتف خليل ترحب به، وتضحك قهقة وهي في صحبته، وهذه قضية لم يعتد عليها من والدته التي لم تحتضنه يوماً بعد الفطام بهذه الطريقة.
اصطحبوا خليل معهم الى مطعم فاخر، لم يشاهد مثله من قبل، وعندما جاء النادل لم يعرف خليل أسماء الأطعمة بالانجليزي، فقال: أيّ شيء؟ فطلبت له والدة براون السيدة أنطوانيت.
أحضر النادل عدة صحون سلطات ومقبلات وزجاجة ماء وأربع زجاجات جعّة، تفحص خليل زجاجة الجعة، حاول قراءة المكتوب عليها، وعندما علم كنهها أبعدها عنه وقال: هذه حرام حسب ديننا، وملأ كأسه بالماء البارد.
فطلبت السيدة أنطوانيت من النادل أن يحضر له عصير برتقال طازج، وسألته:
هل حقا لا تشربون البيرة في بلادكم؟
– نعم لا نشربها.
لماذا؟
– لأنها حرام حسب ديننا.
وما الحكمة من تحريمها؟
– لأنها من الخمور المسكرة.
لكن نسبة الكحول فيها قليلة جدا، وهي لا تسكر.
– ما أسكر كثيره فقليله حرام.
في بلادنا يشربون البيرة اكثر مما يشربون المياه، ولا يسكرون، والمسيح عليه السلام يقول:”قليل من الخمر يفرح قلب الانسان” على كل نحن نحترم معتقداتك ورغباتك، لا تأكل ولا تشرب شيئا لا تريده.
– شكرا لكم.
وبعد بضعة دقائق أحضر النادل أربعة صحون، كل صحن فيه شريحة لحم كبيرة – ستيك – فسأل خليل: ما هذه اللحوم؟
– انها لحم بقر…لا تخف انها ليست خنزيرا قالت السيدة انطوانيت وهي تبتسم.
ابتسم خليل ومدّ يده الى صحنه فأكلوا وتداولوا الحديث.
بعدها عادوا الى البيت، فيلا فاخرة حولها حديقة جميلة مرتبة ومتناسقة، ويحيط بها سور خشبي، أوقفوا السيارة في المرآب…دخلوا الى غرفة الاستقبال صالة واسعة…فيها طقم”كنبايات” فاخرة، وفي ركنها الجنوبي طاولة طعام يحيط بها ستة كراسي، وفي الزاوية مغسلة ومرحاضان.

اصطحب براون خليل الى الطابق الثاني، الى غرفة فسيحة فيها أثاث فاخر، وحمام واسع نظيف ومدهش، وقال لخليل: هذه غرفتك بإمكانك أن تستحم وأن تبدل ثيابك، ونحن في انتظارك في الصالة، وخرج بعد أن أغلق الباب خلفه.
استحم خليل واستمتع برذاذ الماء المتساقط من(الدوش) فوقه، فهذه هي المرة الأولى التي يستحم فيها في هكذا حمام…. استبدل ثيابه وخرج الى الصالة حاملاً هديته، وعندما رأته السيدة أنطوانيت قالت:
أوه خليل: ما هذه الأشياء الجميلة؟
سألته السيدة أنطوانيت عن والدته وأسرته وعن القدس، فأجابها بأن كل الأمور جيدة، ثم سألته ان كان تعباً ويريد أن ينام، فرد بالنفي.
فقالت له: اذن انهض كي نذهب في جولة تسوق.
استقلوا السيارة هي وخليل وابنها براون .. كان ينظر الى البيوت الجميلة والحدائق الفاتنة والمحلات التجارية الضخمة والشوارع العريضة، والسيارات متعددة الألوان والأصناف، كلها أمور جديدة عليه، فهو لم يتعود أن يرى مثلها في بلاده.

لفت انتباهه نزول الأمطار الغزير والمتواصل والضباب الذي يلف المدينة،
نهار المدينة مظلم من كثافة الضباب، فهل يأتي الضباب ليخفي مفاتن لندن، أم ليزيدها سحرا وجمالا؟ وما لبثوا أن وصلوا موقف سيارات كبير… نزلوا من السيارة …ساروا باتجاه محل لبيع الملابس .. محل يتسع لشارع صلاح الدين في القدس، وساروا باتجاه قسم ملابس الرجال، وأشارت اليه السيدة أنطوانيت بأن يختار ما يشاء من الملابس، فرد عليها بأن حقيبته ملأى بالملابس، ولا يريد ملابس جديدة، غير أنها قالت:
لا عليك .. اختر الملابس التي تريدها.
لم يتزحزح من مكانه… وعلت وجهه حمرة الحياء، فتقدمت منه وأمسكت بخدّه مداعبة إياه وهي تقول:
خليل أنت ابني، لا تستح أيها الولد… أنا أمّك.
ومع ذلك لم يتحرك .. فتقدمت واختارت له عدة قمصان مختلفة الألوان وعدة بناطيل، وبدلتين ودزينة ملابس داخلية وضعتها في عربة…دفعت حسابها…حملتها الى السيارة، وخليل حائر صامت مذهول، يشعر بأنه كالمتسول وهؤلاء القوم يشفقون عليه، فيرفض ذلك في داخله…ويلعن الساعة التي دخل فيها لندن.
وفي المطعم حيث تناولوا العشاء، فقد شهيته، استأذنت من النادل واصطحبته الى المطبخ ليختار ما يريد من طعام، لكنه رفض بشدة، واكتفى بطلب كوب عصير…تمنى لو أنه غني حتى يستضيفهم هو بدلا من أن يستضيفوه، فقد تربى على أن العرب يكرمون الضيف، وأن الانجليز بخلاء…لكن هؤلاء”البخلاء” أنفقوا عليه في يوم واحد أكثر مما يكرم به والده الضيوف في عام، ألحت عليه

السيدة أنطوانيت أن يأكل لكنه لم يستجب لطلبها، سألته ان كان يشعر بألم ما؟ ولم تعلم بأن آلامه نفسية، بعدها عادوا الى البيت حيث ذهبت السيدة الى غرفة خليل…رتبت الملابس في الخزانة، ووضعت على الطاولة طردا ملفوفا وهي تقول: عندما تجوع هذا عشاؤك يا صغيري تناوله…وضعت له سلة كي يضع فيها الملابس التي يخلعها للغسيل، وشاهدوا التلفاز سوية في الصالة حتى العاشرة مساء عندما استأذن خليل للنوم.

لم ينم خليل تلك الليلة، قام وتفقد الملابس مستغرباً…راودته أفكار تمنى خلالها لو أنه لم يحضر الى لندن…بقي يتقلب في فراشه الى أن غلبه النوم في ساعات الصباح، حيث نهض واستحم…استبدل ملابسه… نزل الى الصالة، فقدمت له

السيدة أنطوانيت كأساً من الحليب، وصحناً من(الجاتو) ثم قدمت له كأس شاي بناء على طلبه…استأذنت للذهاب الى عملها حيث تعمل مديرة تسويق في احدى الشركات .. بينما زوجها استقل سيارته الى الجامعة حيث يحاضر، بعد أن أوصيا براون بمرافقة خليل لزيارة معالم لندن.

في التاسعة صباحا أعد براون طاولة السفرة للإفطار، بعدها استقلا السيارة حتى وصلا حديقة عامة ضخمة .. اسمها الهايد بارك .. وهناك رأى خليل العجب العجاب.. رأى أناسا يخطبون ويوجد من يستمع لهم، ورأى أشخاصاً يعزفون على أدوات موسيقية… وهناك من يلتف حولهم راقصاً، ورأى شباباً كل واحد منهم يحتضن فتاة، يقبلها .. يغازلها .. يضحك معها .. وخليل يراقب مندهشاً…لا أحد يعتدي على أحد ..لا أحد يزعج أحدا .. اصطحبه براون الى ساعة (بيج بين) ورأى خطاً أخبره براون أنه خط غرينتش الذي يمثل منتصف الكرة الأرضية، فاحتج خليل على ذلك وقال: أن منتصف العالم هو مكة المكرمة كما أخبرهم بذلك معلم الجغرافيا في المدرسة.
فقال براون: هذا ما أعرفه وربما تكون معلوماتك صحيحة.
كل شيء- يراه خليل- لافت لانتباهه، ينظر الى الاتجاهات كلها، وكأنه يريد ابتلاع المكان ، ينظر .. يندهش .. المكان جميل .. لم يشاهد الا أبنية جميلة متناسقة، محلات تجارية كبيرة ترتيبها ونظافتها وفخامتها وانارتها تجذب المارة… شوارع عريضة ذات اتجاهين، كل اتجاه فيه أربعة مسارب إن لم تكن اكثر، وأرض خضراء…لم يشاهد تربة قاحلة تماماً مثلما لم يعكر صفوه الا الضباب الذي يشكل سحباً تتراقص وتتراكض ممتدة من الأرض الى السماء، وأمطار غزيرة تتساقط دون سابق انذار.
المارة في الشوارع أنيقو الملابس، بعضهم يرتدي معاطف شتوية، ويعتمرون القبعات متعددة الأشكال والألوان… بعضهم يحملون مظلات لا يلبثون أن

يفردوها عند تساقط المطر… ولا يلبثون أن يطووها عندما تتوقف، كل ذلك ارتسم في ذاكرة خليل التي طغت عليها المقارنة بين ما يرى في لندن، وبين ما يعيش ويشاهد في بلاده، فتمنى لو أن بلاده خصبة دائمة الاخضرار مثل لندن حتى تستطيع الأغنام أن تجد طعامها بسهولة، وتمنى لو أن بلاده غنية مثل بريطانيا حتى يستطيع شعبه أن يلبس وأن يأكل، وأن يسكن بيوتا فاخرة مثل البريطانيين…طرد أو بالأحرى حاول أن يطرد من رأسه فكرة أنه عاش أياماً وأشهر وسنين حافي القدمين .. نظر الى المارة فاندهش من طريقة قصاتهم لشعور رؤوسهم…بعض الشباب تتدلى شعورهم كما شعور النساء المغطاة في بلاده، وبعض النساء يقصصن شعورهن كقصات شعور الرجال، وبعضهن يرتدين بدلات وربطات عنق كما يفعل الرجال الأغنياء في بلاده .. اندهش من رؤية نساء عجائز أنيقات متجملات كالصبايا، ويقدن كلاباً للتنزه حتى التبس عليه الأمر عن المتنزهين، هل هم العجائز أم الكلاب أم كلا الطرفين؟ لكن ما حيره أن كلاب لندن لا تنبح، ولا تحاول أن تنهش المارة، حتى أن بعض المارة يمدّون أيديهم ويُمسّدون رأس الكلب الذي يحاول أن يشمهم ويتقرب منهم .. بلادٌ عجيبة .. أهلها عجيبون… وكلابها عجيبة ايضاً.

عادا الى البيت واستأذن خليل أن يذهب الى غرفته، تمدد على سريره لا يعرف ان كان سعيداً أو مهموماً، أرهقته المقارنة بين ما يرى ويشاهد في لندن، وبين واقع الحياة في قريته، وفي القدس مدينته الأجمل والأقدس من كل مدن العالم ..
فغفا قبل أن يستبدل ملابسه… وهنا جاءه الشيخ الطيب ذو اللحية البيضاء والملابس البيضاء…جلس بجانبه… مدّ يده.. تحسس شعر رأسه برقة بالغة.. ابتسم له وقال:
خليل .. العالم واسع وجميل، فيه تناقضات عجيبة، والحياة رحلة شاقة وصعبة، ممتعة لكنها قصيرة، والانسان المحظوظ من يعرف كيف يستعد لخوض غمار هذه الحياة قبل أن يختطفه الموت، وأنت الآن تسير في الاتجاه الصحيح، واصل
دربك يا بنيّ، والعناية الإلهية سترعاك، واختفى الشيخ الطيب قبل أن يتفوه خليل بأيّ كلمة وهو يردد: ستجدني بجانبك عندما تحتاجني أيها الفتى.
استيقظ خليل من نومه…تمنى لو أن الشيخ ذا اللحية والملابس البيضاء أطال الجلوس معه، أو لو أنه على الأقل طاف به في أرجاء بريطانيا، ليرى ان كانت كلها مثل لندن أم لا، تقلب في فراشه وهو يفكر بكلام الشيخ الطيب، فنام دون أن يدري، ولم يستيقظ الا في الثامنة صباحاً، غسل يديه ووجهه ونظف أسنانه بالمعجون والفرشاة، وبلّل شعر رأسه .. استبدل ملابسه ونزل الى الصالة…. استقبلته السيدة أنطوانيت-التي كانت ترتدي قميص نوم شفاف- بابتسامة عريضة، طوقته بذراعيها…ضمّته الى صدرها وطبعت قبلة على جبينه، اصطحبته الى المطبخ حيث احتسى الشاي….تناولا طعام الافطار
واستأذنته بمرافقتها، فوافق بدون تردد ودون أن يعلم الى أين؟ …قادت السيارة في شوارع جديدة لم يرها خليل من قبل حتى توقفت أمام بناية من طابقين، اصطحبت خليل الى داخلها…أدخلته الى غرفة طبية، فيها طبيبة وممرضة، وطلبت من خليل

أن يخلع ملابسه العلوية لفحص يده المبتورة، ففعل بعد تردد واستحياء .. تحسست الطبيبة يده، وشرحت للسيدة أنطوانيت أنها ستقوم بتركيب يد اصطناعية لخليل…أخذت المقاسات المطلوبة، وطلبت منهما أن يعودا في اليوم التالي.
وفي طريق العودة قالت السيدة أنطوانيت لخليل: ستكون لك يد اصطناعية تستطيع تحريكها وتناول الأشياء بها، اضافة الى أنها ستضفي عليك وضعاً جمالياً.
فسأل خليل: وكيف سأحركها؟
– سيدربونك على ذلك.
– وهل ستغنيني عن اليد الطبيعية المبتورة؟
– لا شيء يغني عن الأمور الطبيعية يا بنيّ.
– لماذا؟
– لأن التقليد ليس كالأصل، ولا بديل عن خلق الله، وأضافت انتظر عندما سنستلمها بالتأكيد ستفرح بها كثيراً.

صمتا بضع دقائق بعدها قالت السيدة أنطوانيت: لو كان في بيتكم هاتف كي تتكلم مع والديك وأسرتك، وتابعت هل يوجد رقم هاتف قريب من مكان سكن أسرتك حتى تهاتفهم من خلاله؟
فأجاب خليل: لا .. الهواتف في المدينة فقط، ولا أعرف أيّ رقم منها.
– لا بأس .. اذن سنرسل لهم برقية نطمئنهم عن أحوالك.
واصطحبته الى احدى محطات البريد وقالت لخليل: ماذا ستكتب لأسرتك؟
فأملى عليها بانجليزية غير سليمة:

والديّ العزيزين:
أنا في ضيافة أسرتي الجديدة، أوضاعي ممتازة، ومشتاق اليكم، ولا ينقصني سوى لقائكم ، ومن هنا السيد ستيفين وابنه براون يهديانكما السلام. سلامي للجميع.
ابنكم خليل
التفتت اليه السيدة أنطوانيت وقالت: وأنا أهديهم أيضا السلام، لماذا نسيتني يا خليل؟
– لأنهم لا يعرفونك يا أمّي.
– لكنهم يعرفون أنك في ضيافتنا جميعاً.
– لا بأس، اذن أضيفي اسمك، وعلى كل أنا آسف.
ربتت على كتفه وقالت باسمة: ما عليك سأضيف اسمي، وسأضيف أنك ستعود اليهم بيد اصطناعية بدل اليد المبتورة.
ابتسم خليل ولم يتكلم.

أودعت السيدة أنطوانيت البرقية في البريد، وعادا الى البيت حيث بدأت بتجهيز طعام الغداء بينما جلس خليل في الصالة يشاهد التلفاز.
******

فرحة فاطمة بتوأمي الذكور الذي أنجبته في البيت لا توصف، لم يعكر صفوها الا غياب خليل عن الديار، فلو كان موجوداً لشاركهم في أكل الحلوى التي أحضرها زوجها منصور فور ساعة الانجاب، فقد أحضر قالبي حلاوة وعلبتي حلقوم وخمسة كيلوات حامض حلو، أوصلها بنفسه لفاطمة خوفاً من أن ينتقصها أحدهم قبل ايصالها، سلمها لها دون أن يسألها عن صحتها أو صحة القادمين الجديدين.
وضعت الحلوى جانباً وقالت:
– اقعد شويه يا ابوكامل.
– شو بدّك يا مَرَه؟
– هداك الله .. اقعد شويه با ابن الحلال.

جلس على حافة الفرشة وقال: أيوه شو بدّك؟
– بدّي أسألك شو نسمّي لولاد، شو نسمّيهم؟
– هذا اللي بدّك إياه؟ الأسامي كثيره.. أيّ اسمين أي هو إحنا بدنا نتغاوى في أساميهم.
– شو رايك نسمي واحد زعل .. نعم نسمي اللي نِزِل أول زعل.

وهنا دخل كامل وقال: حمداً لله على سلامتك .. ومبروك من أنجبت .. لكن ليش زعل؟ الأسامي كثيره خلونا نختار اسمين حلوين.
– لا يا بنيي .. الولد عند ما نزل من رحمي صرخ بطول صوته، ومع انه والدتك –الله يستر عليها- حاولت تسكته وهي بتقطع سرته، إلا إنه ما سكت حتى نزل أخوه الثاني .. وعند ما نظرنا إلُه كان الزعل مرسوم على وجهه، والله كأنه بيسأل عن شقيقه خليل ..الولد زعلان يا جماعه بس ما بيعرف يحكي معاكم …خلينا نسميه زعل؟
ضحك كامل وقال: كل الأطفال بيصرخوا عند ما ينزلوا من بطون أمهم، وهذا بريء ما بيعرف شي، فليش تبلوه باسم غريب عجيب؟
– هذي أمور الشباب اللي مثلك ما بيعرفوها.
وهنا تدخل أبو كامل وقال: إلك الاسم اللي بتريديه يا فاطمة خللي اسمه زعل، وأنت يا كامل اختار اسم لأخوك الثاني.
فقال كامل: نسميه فرح.. مع اني مش موافق كليا على تسمية زعل.

ابتسمت فاطمة ومدت يدها الى كيس الحامض حلو، وطلبت من ابنتها زينب أن تحضر صحناً، وضعت فيه حفنتي حامض حلو وقالت:
مرّي على أبوك وأخوك والباقيين مشان يتحلوا، فتناول كل منهما بضع حبات وخرجا.
عندها تناولت فاطمة قالب حلاوة وعلبة حلقوم وقالت لزينب: حطيها في صندوق الخشب، ومش رايحين نفتحها حتى يرجع خليل بالسلامه وبنوكلها إحنا ويّاه…يا حسرتي عليك يا خليل…تعيس من يوم ما ولدتك…الله أعلم وين أنت هالوقت؟.

قامت أمّ كامل بغسل ملابس ضرتها فاطمة التي اتسخت بدم النفاس، في حين قامت الجدة صبحة بتغسيل الطفلين بماء وضعت فيه ملء قبضتها ملحاً، وقامت بتدليكهما بزيت الزيتون، وبعد أن ألبستهما طلبت من والدتهما أن ترضعهما كي يناما.

في اليوم التالي امتطى أبو كامل البغل، واتجه الى القدس ليشتري ثلاثة أذرع قماش، ذراعا يلفون به الطفل الثاني، وذراعين تفصلهما فاطمة قميصين له، فقد حضّرا ملابس الطفل الأول، ولم يدر في خلدهما أن فاطمة ستلد توأمين.

وما أن ربط البغل في خان الدواب القريب من باب الساهرة- مقابل المدرسة- الرشيدية وخرج، حتى رأى في مدخل شارع صلاح الدين عراكاً يشارك فيه العشرات، وتبين له أن العراك بين شباب من أبناء حامولته، وشباب من عائلة في

قرية سلوان، فهبّ كل من تواجد من أبناء قريته لنجدة أبناء بلدتهم دون وقبل أن يعرفوا السبب، منظر مريع .. شابان ملقيان على الأرض فاقدا الوعي، دماؤهما تنزف، وآخرون تنزل الدماء على وجوههم وصدورهم وظهورهم، ويواصلون الضرب(بالدبابيس) الخشبية، تدخلت الشرطة، وألقت القبض على بضعة شباب من كلا الطرفين، في حين لم يتوقف العراك الا عندما وقف الحاج حامد الخليلي على درجات البريد وقال: هذي عطوه على الطرفين مكفوله بوجوه جميع عائلات الخليل، واللي له حق بنعطيه أياه، وللي بيواصل الطوشه بيتحمل مسؤولية ذلك….وسانده كبار السن ممن تواجدوا من الطرفين، فانفض الطرفان وهرب عدد من الشباب بمن في ذلك المصابون بجراح، وبقي الحاج منصور واقفاً مع أنه أصيب بضربة قوية شجت أمّ رأسه، وأسالت دماءه… .ولما أمسك به أحد رجالات الشرطة قال: وحدّ الله يا رجل أنا كنت أفصل بين الطرفين…معقول واحد في عمري بيعمل طوشه.

غير أن أحد الشباب من سلوان المقبوض عليه من الشرطة صاح: لا تصدقه…الختيار كذاب..هو اللي ضربني بعصاته ع كتفي يكذب ، فنهره الحاج حامد وهو يقول: عيب عليك يا ولد …. هذا رجل أكبر من أبوك، والكبار ما بيكذبوا.
لف أبو كامل رأسه بكوفيته… واجتمع عدد من عقلاء السواحرة وعقلاء سلوان بحضور عدد من عقلاء الخلايلة، وفي مقدمتهم الحاج حامد في مقهى زعترة قرب مدخل باب العامود، واتفقوا على تثبيت العطوة بين الطرفين لمدة يوم كامل، يطلعون خلالها على الاصابات التي لحقت بكل طرف، ويذهبون الى مخفر الشرطة خلف الغرفة التجارية لإطلاق سراح الموقوفين…. وبعدها سيتم أخذ عطوة من أحد الطرفين .

وفي المخفر حضر متصرف القدس وقال لهم: متى ستتركون هذه الأعمال الهمجية؟ وما الداعي لكل هذه المشاكل؟
فقال الحاج حامد: يا سيدي .. مشاكل بتحصل دائماً، الجهال بيعملوا المشاكل والعاقلين شروى لحتك بيصلحوا الأوضاع .. وبنتمنى على سيادتكم الإفراج عن الموقوفين حتى نستيطع الاصلاح.
فرد المتصرف: هذا إخلال بالنظام العام، وهذه الأعمال إساءة للبلد ككل… ألم تشاهدوا السياح وهو يمدون(كاميراتهم) ويصورون .. القدس مدينة سياحية يا ناس .. فضحتمونا أمام السياح الأجانب.
فقال الحاج حامد: والله كلامك صحيح يا سيدي، لكن شو العمل بالشباب الطايش؟
المتصرف: العمل… نضعهم في السجن، ونقدمهم للمحكمة لينالوا جزاءهم، وبعدها سيتوبون وسيعرفون أن البلد ليست سائبة.

الحاج حامد: هداك الله يا سيدي .. انت ابن عشائر وبتعرف أنه اذا لم يطلق سراح الموقوفين فإن الأمور رايحة تتطور، ولن يعرف عواقبها الا الله.
وعندما أحضر شرطي القهوة .. قال المتصرف: اشربوا قهوتكم .. وان شاء الله لن يحدث الا كل خير.

خرج المحقق وذهب الى غرفة التحقيق، واطلع على افادة شابين واحد من السواحرة وواحد من سلوان، وتبين له أن سبب العراك يعود الى أن أحد شباب السواحرة ترك

حماره في منطقة البستان في سلوان، وذهب يستحم في العين، فعاث الحمار فساداً بأحد الحقول، حيث رعى وحطم الخضار، وعندما حضر صاحب البستان انهال على الحمار ضرباً بالحجارة وهو يشتم صاحبه.

وفي هذه اللحظة خرج صاحب الحمار من العين، وسمع شتيمته بأذنيه، فتشاجر مع صاحب الحقل الذي استقوى عليه، وعندما حضر من يفصل بينهما انصرف الشاب السواحري وهو يردد: والله ما تفوت فيها وبتشوف شو راح يصير فيك يا سبع إمّك.
وبعد يومين أحضر عدداً من أقاربه بعد أن تقصى المعلومات عن غريمه، وعلم أنه يعمل في احدى محلات النوفوتيه في شارع صلاح الدين… وتربص بغريمه حتى
وقف أمام المحل… فجره الى الشارع وانهالوا عليه ضرباً .. وساعدهما كل من مرّ في الشارع من القريتين.
فقال أبو كامل: اذن الحق مش على اولادنا.
فرد الحاج حامد: وحدّ الله يا رجل بعد ما يطلعوا لِولاد بنبحث في تفاصيل الموضوع، وبنقوم بالاجراءات العشائريه المطلوبه.
وسأل المتصرف: من سيضمن لي أن لا تحدث عراكات جديدة؟
فرد الحاج حامد: أنا أضمن ذلك والضامن هو الله.
فطلب المتصرف من شرطي ان يكتب تعهدا يوقع عليه الحضور، ويتعهدون من خلاله بحفظ النظام واجراء الصلح اللازم، وأحضر الشباب الموقوفين ووبخهم وهددهم بالسجن ان هم عادوا الى مثل هذه الاعمال.
*****

عند المساء ذهب الحاج حامد الخليلي يعاونه آخرون من أقاربه وأصدقائه الى بيت أبي نايف في سلوان للوقوف على حقيقة الاصابات، فوجد أن خمسة شباب من سلوان مصابون، أحدهم يده مكسورة وعليها جبيرة، وثلاثة مصابون بجروح في رؤوسهم والخامس شُج في جبينه.
غادروا الى السواحرة، وجلسوا في بيت الحاج عبد الباري شقيق أبي كامل، فوجدوا أن شاباً سواحرياً مصاب بفشخة في رأسه، اضافة الى فشخة أبي كامل.
وبعد مداولات قال الحاج عبد الباري: اسمعوا يا جماعه، إحنا فزعه لبعضنا البعض،ولا يعقل أنه رجل في مثل سن أخوي منصور ينضرب من اولاد طايشين.
فرد الحاج حامد: أبو كامل شارك في الطوشه وضرب…شفته بعينيّ اللي راح الدود يوكلهن بكره، والضارب بينضرب يا جماعه، لكن إلكم مني يمين إني ما قلت هذا أمام أي شخص من الطرف الآخر.
فقال عبد الباري: أنت رجل عاقل دايماً يا حاج… ومضيت عمرك في اصلاح ذات البين… وبعدها التفت الى ابن أخيه كامل وسأل: شو صار بالعشا يا ولد؟
فقال كامل: على النار يا عمي.
وتدخل الحاج حامد: لا ضرورة للعشا يا جماعه أي هو إحنا جايين نجربكم…اللي فيكم مخبور… ، وحنا جينا للاصلاح ومش ندور الطبيخ.
أبو كامل: سلامة خيركم يا جماعه، المسأله مسألة واجب، وواجبكم كبير عندنا .. دير القهوه يا كامل.
وانقلب الحديث الى سرد عشرات المشاكل التي حصلت في مناطق مختلفة وكيف انتهت؟

بعدما تناولوا منسف العشاء بعد منتصف الليل، وأتبعوه باحتساء القهوة السادة، قال الحاج حامد:
اسمعوا يا جماعه، السلاونه جماعه عاقلين، يا عمّي (بيت الحجر دائما اعقل من بيت الشّعَر)، والواحد بيستطيع يقوم بالاصلاح بسهوله عشرات المرات مع السلاونه اكثر منكم، والله اذا قلنا اللي بيرضي الله ورسوله لازم نوخذ العطوة من السلاونه، لأن الاصابات فيهم اكثر منكم، غير إنّه الخطأ من البداية منكم.
فقاطعه المختار قائلا: شو هالكلام يا رجل؟ هل الخطا بدأ منا؟ شايفك رايح تحملنا مسؤولية فعل الحمار؟ فالحمار حيوان ما بيعقل؟ وليش ضربوه؟
ابتسم الحاج حامد وقال: صلوا على النبي يا جماعه، ما تركتوني اكمل حديثي
فقالوا، اللهم صلي على سيدنا محمد …. تفضل يا حاج.
– ومع ذلك … اعطوني عطوة اعتراف واقرار ما فيها انكار، فأبو كامل رجل كبير وما بيجوز ان يضربوه اولاد مفاعيص، لكن إلنا عندكم رجا، عند الصلحة لا تتجبروا فينا، وبأذكركم إنه إحنا دايما لبعضنا البعض، ويا(معزب ياما كنت ضيف).
فرد الحاج عبد الباري: هذا الكلام الصحيح ..بأعطيك عطوه لمدة شهر .. بيرضيك هذا؟
الحاج حامد: خلف الله عليكم يا جماعه وهذه وجوه عائلات الخليل مجتمعه عليها.

الحاج عبد الباري: حياكم الله يا رجال، لكن إحنا بنرفض أيّ شروط على الصلحه، بتجيبوهم للقصّ وبتقعدوا انتو واياهم على فراش الكرم، ورايحين تشوفوا كرمنا من بخلنا.
الحاج حامد: خلف الله عليكم يا جماعه…اللي فيكم مخبور.
وفي الغرفة المجاورة كانت فاطمة تبكي حظها العاثر، فهل يعقل ان يُضرب أبو كامل ثاني يوم ولادة التوأمين،وهل زعل كان(زعلان)على غياب شقيقه خليل، أم انه كان يعرف ماذا سيحصل لوالده؟ غفرانك ربي …هذه حادثة شؤم لم تكن متوقعة، وهذا بختك يا فاطمه(أجت الحزينة تفرح ما لقيت لها مطرح).

**************

في موسم الحصاد ومع بداية عطلة الصيف، بنت الأسرة بيت الشَّعَر في منطقة أمّ دسيس، عند مدخل واد الدكاكين، الاناث ينمن في(صهوة) البيت مصطفات بجانب بعضهن البعض، ويلتحفن (الدّبّيّة) في حين ينام الذكور خارج البيت، الكبار منهم ينامون في محيط (مراح) قطيع الغنم من الأعلى لحمايتها على الجانب الموازي لمنامة الراعي، والصغار يفترشون أكياس الخيش أمام البيت، غطاؤهم أكياس خيش أيضا، وينام خليل بجانبهم، ينظرون الى السماء، يعدون
نجومها ويراقبون حركاتها، تتساقط حبات الندى في الأيام النديّة على وجوههم، وعندما يكون القمر بدرا تغمرهم السعادة…كل واحد منهم يرى شيئا مختلفا على وجه القمر… ويتصور الطرقات التي يريدها مسارا لحركة النجوم، وخليل
يشرح لهم بانفعال شديد، وهو يشير بسبابة يده اليمنى الى خريطة العالم التي يراها على وجه القمر…. انها تشبه الخريطة المعلقة في غرفة معلمي المدرسة.. ثم لا تلبث الصورة ان تستدير ليظهر وجه رجل ضخم… كثيف الشعر… كث اللحية….عيونه واسعة….في وسط وجهه… فوق أرنبة أنفه ترتسم مدينة القدس القديمة بجلالها وبهائها، وسورها التاريخي الذي يحتضن المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، وأسواقها الجميلة، يستمع له اخوانه وعلامات الاعجاب والدهشة ترتسم على وجوههم، يستفسرون منه عن كل التفاصيل التي يذكرها، وعن الملابس الجميلة المتدلية على أبواب المحلات، وعن بائع الحلوى الذي يعرض الكنافة والبقلاوة والهريسة، فتسأله أخته زينب من الداخل:

وبتشوف كل هالحلو الحين بعينيك يا خليل يا أخوي؟ فيجيبها بثقة:
آه والله بشوفها…اذا مش مصدقه اطلعي من البيت وشوفي بعينيك.
يستمع الأب لذلك، وينهر خليل قائلا: اسكت يا ولد ونام، خلّي اخوتك يناموا ويتريحوا …النهار طلع وبدنا مع صلاة الصبح انروح ع الحصيده مع الندى.

خفض خليل صوته قليلا، وواصل حديثه وهو يسرح في عالمه الخاص الذي يرسمه في السماء، وعلى وجه القمر تحديدا…التفت الى اخوانه فوجدهم نياما، وبقي يناجي نفسه الى أن نام دون أن يدري.
**************
في الصباح نهض الجميع، الأُمّ تحلب الأغنام بعد أن ربطها الأب والراعي في (الربق) …تضع الحليب في الأوعية، فيطلب منها زوجها منصور ان تلحق بهم الى أرض(أمّ خلف) للحصاد معهم بعد ان تعمل الجبنة أقراصا ترتبها في تنكات خاصة، وبعد ان تحضر لهم طعام الافطار، والراعي يسرح بالأغنام… بعد ان ترك الخراف الصغيرة ليرعاها خليل قريبا من البيت… فهو(أكتع) لا يقوى على الحصاد، ولا يقوى على نقل (قوادم) الزرع الى البيدر، فنقل الزرع من نصيب كامل فهو الأكبر وهو الأقوى، والآخرون سيحصدون الزرع.

شعر خليل بعقدة النقص، خصوصا بعد ان قال الوالد: هذا الولد مصيبه علينا، ما بقدر يعمل اشي غير الأكل، لو ان الله موّته يوم انقطعت إيده لريحنا وريّحه… حتى الخرفان الصغيره ما بيقدر يسقيها ميّه… يا عمّي كيف بده يقدر ينشل دلو الميّه من البير بيد واحدِه، فالدلو أثقل منه… والمصيبة انه كثير حكي تقول بالع راديو… وحَجَرُه مثل رصاصة القناص…والله اني خايف يقتل الخرفان.

كتم خليل غيظه وحزنه، وبقي مع الخراف الصغيرة، مع أنه كان يُمنّي النفس بالمشاركة في الحصاد، الا أن والدته أقنعته بأن بقاءه مع الخراف لصالحه، فالحصاد عملية متعبة وشاقة فوافق على ذلك مُكرها.
*************

في ظهيرة أحد أيام الحصاد، وبينما خليل يرعى الخراف رأى أرنبا بريا يخرج من أحد الجحور، فقذفه بحجر أصابه في صدره…تدحرج الأرنب من على منحدر فاقدا الوعي…أمسك به خليل…وضعه في شوال، ثم مدّ يده في الجحر الذي خرج منه الأرنب، فوجد أرنبا كبير الحجم وخمسة أرانب صغيرة… وضعها جميعها في الشوال وحملها معه الى البيت، وعندما عادت والدته ظهرا من الحصاد لتحضير وجبة الغداء، وسقي الخراف من البئر القريب، أخبرها خليل عن الأرانب، فأخرجتها من الشوال واحدا واحدا…أمسكت بها، بعد ان اعطت سكينا لخليل كي يذبحها، ووضعت يدها فوق يد خليل لتساعده على الذبح، وهي تقول:
اذبح يا ولدي ما هو انت زلمه… وذبح النسوان ما بيجوز.. وكانت تكرر عند قطع رأس كل ارنب : بسم الله… الله اكبر، وبينما هي تطبخ الأرانب، ركض خليل مسرعا الى الحصادين ليبشرهم بالصيد العظيم الذي اصطاده…. اقترب منهم وقبل ان يفتح فمه صاح به والده:

وين تركت الخرفان يا ولد؟
– عند البيت يا با.
وشو بدك؟
صدت سبع أرانب… وتركت أمّي تطبخها.
فقال أخوه صالح: سبع أرانب مره وحده… لا تكذب يا ولد.
فشرح لهم كيف أمسك بالأرانب وكيف ذبحها؟
فقال له صالح غير مصدق: والله لولاك أكتع لقلت لنا إنك صِدِت ضبع… وأضاف: لا تصدقوه دايما بيكذب… الليله اللي فاتت وجع روسنا وهو بيحكي لنا عن القدس …وكيف شايفها على وجه القمر.
فقال كامل: اسكت يا صالح، والله انه أصدق منك… وأفلح منك وأحسن من دزينة أولاد من شاكلتك.
اقتربت منه شقيقته نجيبة وقالت:
ليش ذبحت الأرانب يا خليل يا أخوي؟ ليش ما خلّيت إلنا واحد نلعب عليه؟
فأجابها: لو عرفت إنه بدّك واحد يظل حيّ لتركته…بس إمّي هي اللي صممت تذبحهن كلهن.
**********

حملت الأمّ طنجرة الأرانب على رأسها، وفي يدها اليمنى كيس الخبز، وعندما وصلتهم اصطفوا حول الطنجرة، فتخاطفوا قطع لحوم الأرانب…ابتلعوها بشراهة…مدّ الوالد منصور يده…أخرج عدة قطع ولفها في رغيف خبز (شراك)وأعطاها لخليل…. فمن حق الصياد أن يشبع من صيده، هكذا قال الأب، فشعر خليل بتميزه، وفرح بإطراء والده عليه هذه المرة.
*************

بعد ان انتهوا من الحصاد، وتجميع الزرع على البيدر، استراحوا يوما قبل البدء بدراسة الزرع، وفي اليوم التالي ربط الوالد منصور لوح الدراس على البغل، وعلى أحد الأبناء ان يركب اللوح واقفا ويدور مع البغل على الزرع، ليتفتت تحت اقدامه بفعل المناشير البارزة من أسفل اللوح .
أول من اعتلى اللوح خليل، كان يمسك بالحبل المربوط على الجانب الأيسر للبغل مثبتا بلوح الدراس، ليجبر البغل على الالتفاف دائريا على كومة القش وضحكات عالية تنطلق منه، والآخرون يراقبون بدهشة…الوالد يجمع القش المتطاير بـ”الشاعوب”ويعيده الى الكومة، كي يتفتت من جديد، وصالح يحاول ان يأخذ مكان خليل عنوة ظنا منه أن العملية لعبة مسلية، واستطاع دفع خليل، والوقوف مكانه…أمسك بالحبال، ولم يستطع السيطرة على مسار البغل الذي انحرف، وخرج من البيدر وهو يرفس ويشخر غاضبا، فنهره والده غاضبا وهو

يردد(مش كل من ركب الخيل فارس) والله لو خليل بيدين ثنتين لباعك واشتراك في السوق مثل ما بتنباع وتنشرى الغنم.
***********

قبيل غروب شمس أحد أيام الخميس، ذهب الأولاد بتكليف من الأهل لجلب الماء من بير الخرما في وادي الدكاكين، امتطى كل ولد حمارا تتقابل على ظهره قربتان فارغتان مصنوعتان من جلود الماعز، بينما امتطت سعدية بنت الحاج خميس بغلا، كانت في العاشرة من عمرها آنذاك، سارت أمام الأولاد كقائد قافلة، فبغلها الأقوى بين الدواب، تهز رسنه فيزداد سرعة، بينما الأولاد ينهالون بالعصا على رقاب حميرهم كي يلحقوا بها، وفي أحد منحنيات الوادي وتحديدا عند سادّة(الجقما) وهي سادّة صخورها بيضاء جيرية(حوّرية)، يزيد ارتفاعها عن ستين مترا، تآكلت بفعل عوامل الطبيعة ولا يستطيع أحد تسلقها، وتعشش الغربان في قمتها، توقف بغل سعدية فجأة، ومدّ أذنية باتجاه السادّة، فسمعت سعدية صراخ طفل خافت، لحق بها الأولاد الآخرون يتصايحون، فصرخت بهم أن يتوقفوا ليسمعوا ما تسمع، ولما سمعوا صراخ طفل ينبعث أنيناً من أحد الجحور التي ترتفع حوالي متر ونصف عن الوادي، أداروا رؤوس دوابهم، وولوا هاربين -يملأ الرعب قلوبهم الصغيرة- باستثناء خليل الذي نزل عن ظهر حماره…اقترب من الجحر….وقف على ظهر حجرين تحت الجحر المغلق بحجارة غير منتظمة… وضع أذنه عند باب الجحر فسمع أنين طفل، مدّ يده وأهال حجرين من باب الجحر…نظر داخله، فرأى طفلاً رضيعا ملفوفاً بملابس رثة…أهال بقية الحجارة…سحب الطفل ببطء وهو يلهث حيرةً وخوفاً من هول ما رأى….ضمّ الطفل الى صدره …أنزله أرضا، ثم أزاح الغطاء عن وجهه، فرأى وجهاً بريئاً لطفلٍ لا يتجاوز عمره بضعة شهور، مسح الغبار والعرق عن وجه الطفل…حمله على صدره، وقفل عائداً يسوق حماره أمامه.

وصل الأولاد الآخرون الى البيادر فزعين خائفين، فقابلهم الأهل بصراخ توبيخي سائلين عن سبب عودتهم بدون ماء، فتحدث الأولاد وفي مقدمتهم

سعدية عن سماعهم صوت بكاء طفل في منطقة الجقما، فتعوذ الرجال والنساء من ذلك، وحوقلوا وهم يرددون بأن المنطقة وعرة المسالك، لا يسكنها سوى الغربان والعفاريت والجن….اجتمعوا عند بيدر الحاج منصور حائرين خائفين متوجسين، واذا بخليل يطل عليهم حاملاً طفلاً على صدره، فتحلقت النساء حول بعضهن خائفات، بينما تظاهر الرجال برباطة الجأش …. وضع خليل الطفل أمام الرجال وهو يلهث من التعب والعرق يتصبب من وجهه، وقال:
هذا طفل لقيته في جحر في سادة(الجقما) وهو طفل حيّ، …. اقترب الحاج خميس من الطفل… ألقى عليه نظرة وقال:
اعتاد بعض العربان دفن اطفالهم اللي بيموتوا في جحور(الجقما) وهذا الطفل ابن واحد منهم، والله أعلم انّه الطفل بقى مريض مرض قوي وغمي غموه طويله، فظن أهله إنه مات، فدفنوه.. وعندما ما أفاق من غموته بدا يصرخ، …. وها هي أمّ محمد امرأة بترضع أعطوه إلها من شان ترضعه حتى ندوِّر على أهله، والله العليم إنهم من العربان المخيمين في منطقة(حنو الدكان).
قال أبو زيد:
شو بعرفنا إنّه جنّي جابه ابنك يا منصور ع شان ينعف البركة من بيادرنا؟
نظر منصور الى ابنه خليل نظرة غضب وعتاب ولم يتفوّه بكلمة.
فقال خليل:
هذا الطفل بشر مثلنا، مش شايفينه يا جماعة الخير؟…حملته كل هذه المسافه والمسكين استوى …مش قادر يصيح، وهايّه بِنِين من الجوع.
بينما التفتت النساء الى فاطمة حائرات مذعورات، وقالت رمانة زوجة زعل ابن أبي زعل:
وقعتِ يا فاطمه وما حدا سمّى عليكِ.

حمل منصور الطفل، واتجه به الى زوجته فاطمة وقال:
رضّعيه يا فاطمة دفع بلا عنك وعن اولادك، فهذا غنيمة ابنك خليل اللي بيجيب ألنا أشياء لا هي ع البال ولا ع الخاطر، والله أعلم شو بدها تكون نهاية ها الولد؟
وضع الطفل في حجرها وقال:
رضّعيه وأجرك على الله …إن كان بني آدم بيلقط بِزّك … وان كان إشي ثاني رايح يرفضه.
فردت عليه الحاجة عفشه:
ومين قال لك إنّه ولاد الجن برضعوش من نسوان البني آدميين؟ فبعض الجنّيات بيتزوجن رجال من بني آدم… وبعض الجنّ بيتزوجوا نسوان آدميات. فقال لها منصور وحدي الله يا مره من وين بتجيبي هالخراريف؟.

نظرت فاطمة الى وجه الطفل، فرأت فيه وجه خليل عندما كان في عمره، خفق قلبها له…. استدارت الى الخلف كي لا يرى الرجال صدرها، ووضعت ثديها في فم الطفل بعد ان بسملت، وأسدلت خرقتها على صدرها وعلى وجهه، كانت تمسك ثديها بيدها اليسرى التي تحضن الطفل، بينما فركت جبينه بيدها

اليمنى، فقبض الطفل على حلمة الثدي بشفتيه الواهنتين، وشرع يمص الثدي وهو يهمهم بعذوبة، أدخلت الفرحة في قلب فاطمة، بعد أن كان الخوف يملأ قلبها.

عاد منصور الى حلقة الرجال، وجلس مهموما فقال له الحاج خميس:
قوم يا منصور ع شان نروح لمضارب البدو في(حنو الدكان) ونسألهم اذا كان الطفل إلهم وللا لأ.

امتطى كل واحد منهم بغلا وساروا باتجاه(حنو الدكان) وهناك حظوا باستقبال لائق كما هي عادة البدو، دخلوا الى بيت يجلس فيه الرجال، بينما النساء يتقاسمن الطبيخ والعجين والخبز ودخان النار يتصاعد الى عنان السماء.
شرب الضيوف القهوة، فرحب بهم وحيش صاحب البيت وقال: انتم ضيوفي هذي الليله وأهلا وسهلا بيكم، وطلب من أحد الشبان بأن ينحر خاروفا للضيوف، فقال فهد:
وحِّد الله يا وحيش ..انت فاقد لابنك هذا المسا وعشا الضيوف عندي، وبيتنا وبيتك بيت واحد يا زلمه.
فرد وحيش: اللي مات الله يرحمه …وهو طير من طيور الجنه وما بترك واجبي مهما كانت الأسباب.
فقال الحاج خميس: ومين اللي مات؟
فأجاب فهد: طفل صغير ابن لوحيش عمره ست شهور.

وايمتا مات سأل الحاج خميس؟
عصر هذا اليوم أجاب فهد.
وين دفنتوه سأل منصور؟
في جحور(الجقما) أجاب فهد.
بينما دموع وحيش تتساقط على وجنتيه بصمت، في حين وصل صوت زوجة وحيش الى الرجال وهي تقول ملتاعة:
يا حسرتي عليك يا عايد، كيف بدي أنام بدونك هذي الليله؟
فنهض وحيش باكيا وقال: خفضي صوتك يا مره عندنا ضيوف، العوض في عين الله.
وعاود منصور السؤال: في إيش كفنتوا الولد يا جماعه؟
فرد فهد: هذا مصحف ربه لففناه بثوب عتيق لجدته أمّ أبوه ووضعناه في جحر مرتفع عن الأرض في(الجقما) من شان ما تطوله الوحوش.
نظر منصور والحاج خميس كل واحد منهما في وجه الآخر، وقال خميس:

يا جماعة وحدوا الله … فردوا جميعا قائلين: لا اله الا الله.
وأضاف ابنكم ما مات، ابنكم حيّ يرزق وما شا الله عليه… وهيّه في حضن فاطمة زوجة منصور …رضّعته وحممته وغيرت له ملابسه.
فبهت الرجال غير مصدقين لما يسمعون، وبعد عدة استفسارات انطلق وحيش على ظهر فرس بدون سرج متجها الى مضارب ضيوفه في جوفة (أمّ دسيس) وتبعه فهد ومنصور والحاج خميس، ولما رأى وحيش طفله سقط مغشيا عليه،
فرشّوا عليه الماء حتى أفاق …. وما هي الا لحظات حتى لحقت به زوجته حافية القدمين منثورة الشعر مقدودة الجيب …. ولما رأت هي الأخرى طفلها سقطت مغشيا عليها، وعندما أفاقت احتضنته بطريقة أبكت الجميع.
فقال منصور:
انتو الآن ضيوفي وأولكم هذا الولد اللي رضع من زوجتي… وأصبح في حكم ابني… وسأذبح هالوقت خروفين واحد لوجه الله على سلامة الولد.. والثاني عشا لكم .
فقال وحيش:
عليّ الطلاق من أمّ عايد- اللي بتسمعني- وكل ما حلّت تحرم ما واحد بيعمل العشا غيري… ومعروفكم ما بنساه دِيمِة ونا عايش.
وبعد أخذ ورد قال فهد:
يا جماعة العشا جاهز في بيت وحيش …الزلمه عمل(ونيسه) لعايد على اعتبار أنه مات، ولا واحد أحق منكم بأكل هالذبيحة، فاقتنعوا بكلامه وعادوا الى بيت وحيش في(حنو الدكان).
وبعد أن تناولوا طعام العشاء وتسامروا قال وحيش:

هذا مش عشا لضيوف مثلكم… وعليّ الطلاق ما بتطلعوا من بيتي الا تعطوني وعد قاطع مانع انكم تعودوا تضيفوني والعشاء في بيتي مغربية بكره.
قال فهد:
اسمع يا وحيش الفرحة بعودة عايد حيّ فرحه إلنا كلنا، ومش إلك وحدك… وعايد ابن اختي…ووالله ومحمد رسول الله ما بيصير العشا الا في بيتي.
فقال الحاج خميس:
صلّوا على النبي يا جماعه… إحنا تعشينا في بيوتكم وخلف الله عليكم…وحنا عندنا أشغالنا….بدنا ندرس قشاتنا قبل ما يطيرين مع الهوا… والأيام بيننا …وفرحتنا بعايد مش أقل من فرحتكم.
فرد وحيش:
سلامة خيركم يا جماعة القضية مش قضية طبيخ، ما هو إحنا عارفين انكم شبعانين من بيوتكم… بسّ المسألة مسألة حشمه وكرامه… وشانكم عندنا كبير… وفضلكم علينا اكبر.
وبعد جدال طويل وعند منتصف الليل تقريبا وافق الحاج خميس ومنصور على العودة مع بقية الرجال، وفي مقدمتهم خليل بن منصور لتناول طعام العشاء في
الليلة القادمة، بينما كانت زغاريد النساء وأغانيهن تصدح في جلبات الوادي فرحا بعودة عايد الى والديه حيّا.

في ظهيرة اليوم التالي كان وحيش وزوجته قد عادا من القدس بعد ان اشتريا اثني عشر ذراعا من قماش”الحَبَر” مع احتياجاته من الخيطان، و”خرقة” بيضاء، وقماشا آخر لقميص نسائي هدية لفاطمة زوجة منصور التي ارضعت الطفل عايد، كما اشتروا قميصا وبنطالا وحذاء لخليل الذي انقذ حياته، وكسوة للطفلة زينب ابنة فاطمة وأخت عايد في الرضاعة، ثم اقتادوا ثلاثة خراف، وذهبوا الى البيادر، وقدموا الهدية وأخبروهم ان الخراف هي عشاء لفاطمة ولبقية النساء، أمّا عشاء الرجال فسيكون في بيت وحيش.
******
نحر أبو منصور خاروفا للنساء، على ان ينحر كل ليلة خاروفا على مدار ثلاث ليال، ومشى الرجال باتجاه بيت وحيش في(حنو الدكان) وما أن دخلوا البيت وقبل أن يشربوا قهوة الترحيب فاذا بالصائح يصيح بأن طوشة كبيرة قد حصلت على بيادر(الزّرّاعة)، فانفض الجميع الضيوف والمعازيب راكضين باتجاه موقع الطوشة، بعد أن أكد وحيش على الجميع بأن يعودوا لتناول العشاء، وما أن وصلوا حتى صاح وحيش بأعلى صوته:
يا جماعة ..عطوة في وجهي لمدة اسبوع واللي له حق عند الثاني حقه عندي.
وقال منصور وخميس:
واحنا معك يا وحيش،فارتد كل طرف الى جهة.
وتبين أن الطوشة بين أقارب وحيش وأقارب منصور، وسببها أن أحد حمير العربان قد طارد أتانا يريد أن يتزاوج معها، ولم يعلُها الا عند البيادر،وبعدها أخذ يأكل واياها من البيدر، مما جعل أصحاب البيدر يشعرون بالمرارة مرتين، مرة للتطاول على شرف أتانهم من قبل حمار غريب، ومرة لأن هذا الحمار

سطا على البيدر، وهذه أسباب كافية كي ينهالوا عليه ضربا بالحجارة والعصي وحتى الفؤوس، وشتم آباء مالكيه ووصفهم بقلة الحياء، وعندما جاء صاحب الحمار لأخذ حماره سمع شتيمته بأذنيه، ورأى دماء حماره تنزف من عدة جوانب، فقال:
يا جماعة انه حمار، قطع رباطه دون علمنا فلا تأخذونا بجريرة حمار.
فقال له أحد الفتية:
لا تكذب أنت أطلقت حمارك عامدا متعمدا.
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم …استحي يا ولد.
– تناول الفتى حجرا وقذفه باتجاه رأس الرجل وهو يشتم.
شج الحجر رأس الهدف الذي بدوره نزل عن ظهر الحمار، وانبرى يضرب الحجارة بالاتجاه المعاكس، وتداعى أقارب الطرفين حتى زاد عدد الجرحى برؤوسهم على العشرة، بينما عاد الحمار الى البيدر يأكل قليلا ويغازل أنثاه، ثمّ

يعلوها مرة أخرى دون أن يكترثا بشيء مما يدور حولهما، ولولا حنكة احدى النساء العجائز التي أرسلت فتاتين طلبا للنجدة لفك النزاع لتطورت الأمور الى أكثر من ذلك، وعندما وقف منصور ووحيش على حقيقة ما جرى، ورأيا أن المتخاصمين من أقاربهما، التفت وحيش الى الجميع وركز نظره على أقاربه وقال:المشكلة بسيطة يا منصور،وأنتم أصحاب المعروف الأول، غالبية الاصابات في أبناء عمومتي، وهذي جورة وصرارة عليها من جانبنا، وحيّاكم الله على جراح جماعتكم ، لكن عليّ الطلاق لن يبرح أحد مكانه إلا لبيتي لتناول العشاء سريعا.

فرد عليه منصور:
حيّاك الله يا وحيش،وهذي جورة وصرارة على جروح ولاد عمومتي. وبعد نقاش لم يدم طويلا تصافحوا جميعا، واتجهوا الى بيت وحيش حيث تناولوا العشاء وتسامروا حتى بزوغ نجم الصباح، بعد تناول العشاء والقهوة قال أحد الفتيان: تشاجرتم بسبب الحمير، فهل تعلمون أين هي الآن؟نظروا في وجوه بعضهم البعض ولم يتكلموا، غير أن وحيش أطلق سهام ناظريه باتجاه الفتى الذي فهم المغزى وانخرس.
**********
وصل خليل ووالدته البيت مع غروب الشمس، كان تعبا، خائفا ومندهشا من يومه الذي مضى، فتمدد على فراشه بجانب أخيه محمد، وغفا بسرعة فرأى: أنه يطير في السماء مثل الطيور، كان يطير بسهولة تامة، فيتخطى الطرقات الجبلية الوعرة التي كان يسلكها الى البراري، وينظر من عل الى الكلاب التي كانت تنبح عليه قرب بيوت أصحابها فتخيفه، وحطّ على قمة جبل المنطار المرتفع، مدّ نظره الى جهة الغرب الى القدس الشريف، فرأى أضواء بيوتها تتلألأ من بعيد… نظر الى الشرق فرأى أضواءا تنبعث من الجبال الشرقية لغور الاردن، وهناك جاءه شيخ بلحية بيضاء وملابس بيضاء، احتضنه بحنان زائد، ثم جلس

القرفصاء على الأرض، فانفتحت بوابة كبيرة، نزل منها هو والشيخ الجليل، وانغلقت خلفهما، نزلا الى مدينة جميلة أسواقها تشبه أسواق القدس القديمة، لكنها أكثر نظافة، وسكانها وروّادها أُناس طيبون، يتعاملون مع بعضهم البعض بأدب جمّ وانسانية زائدة، مدينة تسودها المحبة والاخاء… رأى ملابس معلقه عند أبواب المتاجر، ورأى مطاعم فاخرة روائح الأطعمة الشهية – خصوصاً اللحوم المشوية – تنبعث منها، ورأى متاجر تبيع لعب الأطفال، فحمّله الشيخ الجليل ما أراد من ملابس وأدخله الى أحد المطاعم، وقدّم له من الأطعمة ما تشتهي الأنفس، قدّم له محشي الكوسا والباذنجان، وورق الدوالي، والحمص والفول والفلافل، واللحوم المشوية واللحوم المطبوخة باللبن، ومختلف أنواع السلطات، ومشروبات غازية وعصائر لا يعرف أسماءها .. تكدست على الطاولة أطعمة تكفي أكثر من خمسين شخصاً، فأكل حتى شبع وشرب حتى ارتوى، وخرج به

الشيخ الى حديقة، وتركه يلعب مع الأطفال، فلعب على المراجيح التي لم يسبق له أن رأى مثلها، ثم قطف بعضاً من الثمار كالتفاح والبرقوق والعنب وأكل حتى امتلأ بطنه، وكان الشيخ سعيداً لسعادة خليل، وبعد أن اكتفى من اللعب طلب من الشيخ أن يشتري له ملابس لأخيه محمد ولوالديه ففعل، ثم طلب منه أن يشتري له من الأطعمة التي أكل منها كي يأخذها معه لهم، ففعل أيضاً، واشترى أيضاً طابتين صغيرتين واحدة له وواحدة لشقيقه محمد وكرة قدم لأخيه صالح.

في الصباح أيقذته والدته كي يتناول طعام الإفطار استعداداً للذهاب مع والده الى” المدينة” كي يشتري له ملابس جديدة في كسوة أخيه الأكبر كامل، فهو سيتزوج يوم الجمعة القادم، فقال لها بأنه شبعان، فقد أكل الشيء الكثير في المطعم الفاخر، واشترى ملابس كثيرة من المدينة الجميلة التي طار إليها.فاستغربت الوالدة حديثه وتساءلت: أيّ مدينه يمّه؟
فقصّ عليها كيف طار الى جبل المنطار، وكيف التقى الشيخ الذي اصطحبه الى المدينة الجميلة، فبسملت والدته واحتضنته وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتردد أسماء الله الحسنى وتصلي على نبيه، ثم اقتادته الى خارج البيت وغسلت له وجهه، وفي داخل البيت بخرته بطرف كمّها الذي أشعلته بعود ثقاب وأطفأته سريعا وقربت الدخان المنبعث من الكمّ الى أنفه وهي تردد:
بخرتك من عيني وعين خلق الله
من دارلك باله
يشغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه
ونا مش أقدر من ربي عليه

في حوالي السابعة صباحا امتطى الوالد ظهر البغلة الشهباء، وأردف”خليل” خلفه، في حين مشى بقية الأبناء خلفهم، وفي سوق الخواجات فصّل الوالد لكل واحد منهم قمبازاً عند أحد الخياطين، بعد أن اشترط عليه أن يسلمّهم إياها خلال يومين لأن العرس سيكون يوم الجمعة، فوافق الخياط بشرط أن ينقدوه خمسة قروش زيادة.
وأثناء أخذ المقاسات، كان خليل يقول لوالده وللخياط:
بدّي بنطلون وقميص مثل اللي لابسها هذاك الولد… وأشار الى صبي يسير في السوق صحبة والده، غير أنه لم يتلق جواباً .
خرجوا من محل الخياط، مرّوا قرب مطعم يشوي اللحوم، فتنبعث رائحتها ودخان الفحم لتملأ السوق، ولتنعش رائحة الشمّ في الأنوف، ويسيل لعاب الأفواه الجائعة، فوقف خليل أمام المطعم وقال لوالده الذي كان يُمسك بيده:
يابا بدّي تشتري لي من هذا .. وأشار الى الشواء، فوافق الوالد على مضض لأنه لا يملك نقوداً بما فيه الكفاية، وبعد أن استفسر من صاحب المطعم عن الأسعار، أخبره أن “السّيخ” بنصف قرش فيه ثلاث قطع لحمة وقطعتا بندورة، وقطعتا بصل، فعمل (ساندويش) لكل واحد من الأبناء، وفي كل ساندويش سيخ، باستثناء خليل فقد طلب

الوالد أن يوضع في رغيفه سيخان، حمل الأولاد فطائرهم(ساندويشاتهم) فرحين، وكان الوالد الذي لم يشتر لنفسه شيئاً سعيداً بفرحة أبنائه الذين كانوا يلتهمون الطعام بشهية وبسرعة، وعادوا مع والدهم الى البيت فرحين .

في اليوم التالي وكان صباح يوم أحد، ذهب الوالد مع زوجته الأولى(حلوة) وابنهما البكر كامل العريس، الى بيت العروس(سعاد) بنت أبي حمدان، حيثُ اصطحبوها ووالديها الى”المدينة” لشراء كسوة العروس، امتطى الوالدان- أبو كامل وأبو حمدان- ظهور البغال في حين مشت زوجاتهما، والعروسان خلفهما.

في القدس اشتروا من أحد الصاغة اثنتي عشرة ذهبة انجليزية قلادة للعروس- ثمن كل ذهبة ثلاثة دنانير- واشتروا أيضاً قماشاً من الحَبَر الأسود يكفي لصنع ثوبين لها، – كل ثوب كان اثني عشر ذراعاً-، واشتروا لها قماشاً يكفي لصنع قميصين، وحذاءاً وخيطاناً لتطريزها على الثياب، كما اشتروا ثوباً لوالدة العروس وآخر لوالدة العريس، وثالثا لزوجة أبيه، وقمبازاً لكامل العريس، وعرض أبو كامل على أبي

نايف أن يصطحبه الى الخياط كي يشتري له قمبازاً بهذه المناسبة، غير أنه رفض وهو يردد:
عيب يا أبو كامل …بدّك تعملني مسخرة قدام الناس…هو أنا مرة تاتشتري لي كسوة؟
فرد عليه أبو كامل:معاذ الله يا رجل …بس الواجب واجب.

ذهبوا الى مطعم العائلات في باب خان الزيت لتناول الغداء بعد تردد كبير خوف أن يراهم أحد،ويعيبهم على ذلك، فلم يكن مسموحاً لنساء القرية بدخول المطاعم، وان كانت العادة تتسامح بذلك يوم كسوة العروس، حتى أن بعض النساء وُلدت وشبّت وتزوجت وأنجبت أبناء وأحفادا وشاخت وماتت، ولم تدخل مطعما في حياتها الا يوم كسوتها.
طلب أبو كامل من صاحب المطعم أن يشوي لهم فخذة خاروف كاملة، وزنها كان اثنتي عشرة اوقية بالتمام والكمال…دفع ثمنها نصف دينار أردني واحد…من أحدى البقالات اشترى أبو كامل عشر علب حلقوم، وخمسة كيلوات حلاوة، ورطلين من(الحامض حلو) وضعها في شوال وأعطاها لوالدة العروس كي تأخذها معها(حلو) ليوم الزفاف وليلة (الحناء)، واشترى مثلها لأهل بيته وأعطاها لزوجته حلوة، وعادوا أدراجهم الى بيوتهم .. لم يسمحوا لللعريس أن يمشي مع العروس ويحادثها، بل أجبروه على المشي قربهم، في حين تمشي النساء حاملات الحلو والكسوة على رؤوسهن خلفهم، فممنوع على العريس أن يُكلم العروس قبل الزفاف، وممنوع على النساء أن يمشين بمحاذاة الرجال بل خلفهم .

*********************
مساء الأربعاء بدأت السهرة، النساء في البيت يتجمعن ويغنين، والرجال في بيت شَعَر بُني على بعد حوالي ثلاثين متراً عن البيت، كي يكون السامر أمامه، الشيوخ والعجزة والوجهاء يجلسون في بيت الشعر، والشباب يقفون في الساحة، يقيمون السامر ويدبكون، ويتمازحون، وأبناء العائلة يقدمون لهم الشاي مرتين أو ثلاث مرات في الليلة، ووالد العريس يستل مسدسه بين الفينة والأخرى… ويطلق خمس رصاصات سريعة متتالية، فتعلو زغاريد النساء، وتعلو أصوات الغناء بوالد العريس السبع الذي خلف سبع الفلا…. أما بعض الوجهاء الذين كانوا يتمنطقون بمسدسات فقد كانوا يدخرون رصاصاتهم كي يطلقونها يوم(الفاردة) وأمام النساء كي يكافأ من يُطلق الرصاص بزغرودة من امرأة و(مهاهاة) من أخرى تُمجد صاحب المسدس، وتعقبها مجموعة من الزغاريد.
وقبل أن ينفض السامر، كانت كؤوس الشاي تنفذ لأن بعض الأطفال والصبية يشربون الشاي، ويخبئون الكأس في جيوبهم، ليعودوا بها الى أهلهم، فكان أهل العريس يضطرون الى شراء أربع دزينات كؤوس يومياً، ويعطيهم صاحب البقالة كأسين آخرين مجاناً ليصبح عدد الكؤوس خمسين.

ليلة الحناء أبناء العائلة يراقبون من يشربون الشاي خوفاً من أن يسرقوا الكؤوس، وغالباً ما كانت عمليات المراقبة تبوء بالفشل لأن الضوء الموجود هو(فنيار)كاز واحد عند الرجال، ولامبة كاز عند النساء، غير أن العريس شك بأن سعيدا ابن أبي سعيد قد سرق كأساً، فسأله أن يُخرج الكأس من جيبه بعدما رآه يضع يديه في جيبيه، ويقف صامتاً، فما كان منه الا أن أخرج يديه، وتناول حجراً وقذفه باتجاه العريس، فشج جبينه غاضباً لأنهم لم يقدموا له كأس شاي، وها هم يتهمونه بسرقة كأس.
وحصلت مشاجرة شارك فيها أبناء العائلة وسعيد وأبناء عائلته، ولولا تدارك الشيوخ للموقف، وقيامهم بفك الاشتباك، ووقوف أبي كامل والد العريس، وإعلانه عن التنازل عن(فشخة) ابنه العريس لحصلت أمور لا تُحمد عُقباها .
لم يحزن ولم يغضب العريس على جرحه في جبينه بمقدار ما كان على اتساخ (حطته وقمبازه) بالدماء وبالرماد الذي وضعوه على الجرح كي يُغلقه.

*****************

وعصر اليوم السابق للعرس-ليلة الحناء- الطقس قائظ، فدرجات الحرارة فوق المعتاد، وخضوعا للتقاليد توجه والد العريس أبو كامل وزوجته أمّ كامل، وشقيقه عبد الباري وزوجته، والحاجة أمّ محمود كبيرة نساء العائلة ومريم خالة العريس الى بيت صهرهم أبي حمدان، يحملون الحناء وثلاث علب حلقوم، ثلاث كيلوات حلاوة، ثلاث كيلوات لبن جميد، وعشرة كيلوات أرز، حملتها مريم خالة العروس، في حين

كان أبو كامل يمتطي بغلاً، بينما شقيقه عبد الباري يمتطي حماراً، ولم يستطع حمار عبد الباري أن يلحق ببغل أبي كامل… فكان يمشي خلفه ببضعة أمتار، في حين أن النساء يمشين خلف الحمار ببضعة أمتار أخرى .
عندما وصلوا بيت أبي حمدان استقبلتهم النساء بالزغاريد والمهاهاة، ووقف أبو حمدان وابنه حمدان أمام خيمة الشعر مرحبين، فوضعت مريم خالة العريس حمولتها من على رأسها، وهي تمسح بأردانها العرق المتصبب عن وجهها، وبدأت النساء يقبلن بعضهن البعض عند باب الغرفة، في حين كانت العروس تجلس في صدر الغرفة على فرشة صوف باستحياء، فقبلتها النساء القادمات الأربع وهي جالسة، وكادت مريم خالة العريس أن تقع فوق العروس، عندما جلست القرفصاء أمامها لتقبلها، لولا ان العروس أمسكت بكتفيها،ومنعتها من الوقوع، فضحكت الصبايا من هذا الموقف، في حين قالت أمّ حمدان والدة العروس مازحة:
باين انك خَتيرتي يا مريم فردت عليها:
العمر إله دور يا خيتي…هذي هي الحياه..ما حدا بقدر يوخذ دوره ودور غيره…وهذا جسر والكل راح يمر عليه.
وبعد أن مسحت النسوة القادمات العرق عن وجوههن ورقابهن، طلبت الحاجة أمّ محمود صحناً لعجن الحناء، فيما أقسمت مريم خالة العريس أن تطبخ الأرز باللبن بيديها، غير أن أمّ حمدان والدة العروس رفضت ذلك بشدة وهي تقول:
يا عيب الشوم…أيوه.. هو بصير هذا؟ (لا يُكرم المرء في بيته) وأنت ضيفة علينا يا مريم.
غير أن مريم ردّت عليها متسائلة: اذا ما طبخت في عرس كامل، في عرس مين بدّي أطبخ؟ وبعد أخذ وردّ اشتركتا في الطبخ.

بعد أن انتهت أمّ محمود من عجن الحناء، قامت بوضع جزء منه على راحتي يديّ العروسة، في حين وضعت نقاطاً منه على ظاهر يدها، ثم وضعت على أيدي الأطفال، وتسابقت النساء كل واحدة منهن تريد أن تخضب يديها وأيدي أطفالها بالحناء، وعندما أرادت الحاجة أمّ محمود وضع نقطة من الحناء على ذقن العروس تحت شفتها السفلى ونقطة على أرنبة أنفها، ردّت يديها بلطف وهي تقول:
لا…لا..ما بدّي يا خالتي. وتركت في الصحن قليلاً من الحناء، وهمست في أذن أمّ حمدان أن تُبقيه الى أن تنفضّ السهرة، وأن تعمل منه دائرة حول سُرّة العروس، وأن تضع بعض النقاط فوق الثديين، فإن ذلك سيسرق عقل العريس، فيطير بالعروس فرحاً، فإذا بصوت أبي حمدان ينادي أمّ حمدان بأن تترك له قليلاً من الحناء حتى يضعه على جروح يابسة في يديه، فكان له ذلك.

وبعد أن أكل الجميع الأرز باللبن، استأذن أبو كامل ومن معه بالانصراف حتى يعودوا الى بيتهم لاستقبال الضيوف الذين سيحيون ليلة الحناء في بيت العريس.

***************

فور انصراف أهل العريس ، طلب أبو حمدان من زوجته أن توقف الغناء، فقالت له بدلال:
خلّينا نفرح بعرس سعاد يا أبو حمدان، فقال وتكشيرة تعلو وجهه:
العرس لأهله مش إلنا”هم اشتروا واحنا بعنا” وفي الزواج الرابح هو المشتري والبايع خسران دايماً.
**********
في بيت أبي كامل عجنت الحاجة أمّ محمود الحناء أيضاً، بعد أن وضعت لامبة الكاز على تنكة مقلوبة بجانبها، فوقفت أمّ كامل خارج باب الغرفة وشرعت
“تُهاهي “:
آي ويا ناس صلّوا على النبي
آي وبدل الصلاة صلاتين

آي واللي ما فرحت لعرسك يا كامل
آي تقع ويتكسروا ايديها الثنتين
وفي رسالة منها لزوجها بأنها لا تُفضل ابنهما عليه، هاهت :

آي يا ابو كامل يا جودي وموجودي
آي يا صفّ الذهب ع الراس موجودي
آي وتمنيت عدوك ع اللوح ممدودي
آي ومن عام لعام لمّن يوكله الدودي
ويتبع كل وصلة من “المهاهاة” عشرات الزغاريد، وتتوالى أغاني النساء ورقصهن ودبكاتهن الشعبية.
وأمام بيت الشعر علّق أبو كامل(فنيار الكاز)وجلس الشيوخ على البسط يتكئون على الوسائد الصوفية، في حين وقف الشباب أمام البيت استعداداً لإقامة السامر، بينما الأطفال يتراكضون ويتمازحون ويلعبون، ومن يقع منهم أرضاً، أو يضربه أحد الصبية يركض باكياً لوالدته عند النساء، أو لوالده أو أحد أقاربه عند الرجال شاكياً، باستثناء خليل الذي وقف حزيناً باكياً قرب بيت الشعر لأن والدته لم تسمح له بارتداء القمباز الجديد هذه الليلة، خوفاً من أن يتسخ قبل يوم الفاردة، فرآه والده وأجلسه في حضنه.
بعد صلاة المغرب اصطف الرجال للسامر، فكان الحاج أبو علي يبدع ويقول :
وأول ما نبدا ونقول والحذر يصلي ع الرسول

فيرد عليه اثنان:
هالا بيّا هالا لا يا وليفي يا ولد
ويواصل :
واول ما نبدا بسورة تبارك وعرسك يا كامل يا ريته مبارك

وبعد كل بيت يردان عليه بنفس اللازمة.
واول ما نبدى نمدح الهادي نبينا محمد سيد العباد
وأول ما نبدا ونقول يا هيل الفرح تباركون
أما الحاشي ابو اسماعيل فقد أدى رقصات شعبية أمام السامر، وفي يده سيف يتلألأ بعد أن ألقى كوفيته وعقاله جانباً، فبدا شعره أبيض ناصعاً، بعد أن اختطف غبار الزمن سواد شعره، رقص وأجاد، بحيث لفت انتباه الحضور شيباً وشباناً، فارتفع الغبار الى عنان السماء.
وعن بُعد ومن مكان النساء اللواتي يطربن على سامر الرجال أكثر من طربهن على أغانيهن، وقفت الحاجة أمّ محمود وهاهت :
آي ويا ابو الحوش تسلم ايديك

آي وكفك مع أصابعيك
آي ويا اللي قمت بشانّا
آي حق وواجب عليك
وحوالي منتصف الليل انفض السامر وانفضت النسوة، أما قريبات العريس فقد بدأن العجين و(مرس)اللبن الجميد، تقاسمن الأدوار، خمسة يعجن الطحين، وخمسة يخبزن على الصاج، واثنتان يطبخن الأرز في القدور، وأخريات يضعن الحطب تحت الصاج، ويجلبن الماء من البئر، يجب على كل واحدة أن تقوم بعمل راضية أو

مكرهة نفسها على ذلك، فمن غير المسموح للنساء أن ينمن قبل انهاء هذه المهمات، والأطفال يتكدسون نياما في احدى الغرف، أو بجانب أمهاتهم، والرضيع منهم ربما ينام في حضن والدته وهي تعجن أو تخبز.
أمّا الرجال من أبناء العائلة فمن كان بيته قريباً عاد اليه ونام، والآخرون ناموا في بيت الشعر كيفما تيسر على البسط المفروشة، يلتحفون عباءاتهم على أن ينهضوا عند صلاة الصبح كي يذبحوا نعجتين سمينتين.

**********************

عند آذان الفجر انتهت النساء من إعداد الخبز، ومرس اللبن… اللبن الجميد… وطبخ الأرز بعد أن هدهن التعب… وبعضهن لعنّ اليوم الذي ولدن فيه…
بعضهن تظاهرن بالفرح- مع أنهن لسن كذلك-… والباقيات فرحن فرحاً حقيقياً… جزء من النساء تمددن بجانب الأطفال لأخذ غفوة تُكسبهن نشاطاً للساعات القادمة… والجزء الآخر تظاهرن بالنشاط وعدم التعب.

أبو كامل يستيقظ مع آذان الفجر أيضاً…يوقظ أربعة من شباب العائلة كي يذبحوا نعجتين…ضوء الشمس يتسلل من فوق الجبال الشرقية البعيدة يجمع عباءة الليل

المظلمة ويطويها خلفه… الأطفال يستيقظون… وبعضهم يتسابق لقضاء حاجته في المنحدر تحت البيت…وبعضهم جائع يطلب من والدته أن تُطعمه، والرضع يلتهمون أثداء أمهاتهم المضطجعات الغافيات بجانبهم…بعض الأطفال يبكي .. يفرك عينيه اللتين أغلقهما القذى.. فالرمد منتشر بين الأطفال…بعضهم يحكّ رأسه المصاب بالقرع … وينهض خليل وعيناه مغلقتان بالقذى…بكى بصمت… فانتبهت له والدته … ركضت باتجاهه… بلّلت طرف منديلها بلعابها…مسحت القذى من عينيه الحمراوين، وتساءلت بصوت عالٍ: ماذا جرى لعينيّ الولد .. هل أُصيب بعدوى الرمد من الأطفال الآخرين؟

غير أن الحاجة أمّ محمود حسمت الوضع عندما قالت: بأنه أُصيب بالحسد… عينين الولد –اللهمّ صلي على النبي- مثل فتحة الفنجان .. ولامت والدته لأنها تركته يذهب عند الرجال، ويتجول بين النساء الحاسدات… أمسكت بيد الولد، ربتت على كتفيه، وتحسست رأسه، وأشعلت طرف ردنها حتى علقت النار به، قدمته أمام أنفه كي يستنشق الدخان المتصاعد وهي تُتمتم داعية الله له بالشفاء، وداعية الله بأن يُعمي عيون النساء الحاسدات.
كان خليل يعطس ويسعل من الدخان، وعيناه تزدادان احمراراً، الا أن الحاجة أمّ محمود أكدت بأنه سيشفى بإذن الله.
أمّ كامل توزع ابتساماتها على النساء الأخريات مرحبة بهن، وضرّتها أمّ محمد تفعل نفس الشيء بابتسامة مصطنعة.

عند الانتهاء من ذبح وسلخ وتقطيع لحم النعجتين، طلب أبو كامل منهم تقطيع (المعاليق)واعطائها للنساء كي يطبخنها “فطوراً” للرجال، وطلب منها أن(تمرس)

البندورة المجففة، وتطبخها مع اللبن وقليل من الدهون فطوراً للنساء والأطفال، وأن تضع اللحم في القدور، وتغلقها حتى موعد طبيخها بعد احضار العروس.
النساء يعددن الشاي في قدر على النار، والقهوة السادة تم تحضيرها في الدلال وغليها على الموقد في بيت الشعر … الرجال يتثاءبون على فراشهم ويشربون الشاي والقهوة السادة، وعندما حضر الافطار نهضوا جميعهم…اصطفوا حول المائدة…الأطفال ينظرون اليهم يبتلعون لعابهم، وبعضهم يلوك لقمة أعطاه إياها أحد أقاربه الرجال، والنساء اكتفين بشمّ رائحة المعاليق الفائحة، ويغمسن خبزهن بالبندورة واللبن.

في العاشرة صباحاً…استحم العريس…لبس قمبازه الجديد..ووضع كوفيته وعقاله على رأسه…استعد الجميع للمشاركة في الفاردة، العريس يمتطي ظهر”قديش” أبي

العبد التي أحضروها من(الزعرورة)، هذه الفرس التي تخلت عن أصالتها حملت على ظهرها غالبية عرائس القرية .. العريس أمام النساء مباشرة والرجال أمامه .. النساء يغنين ويزغردن خلف العريس، وحاملة الطبلة في منتصف النساء بعيداً عن الفرس كي لا تجفل .. ينطلقون من قمة جبل المكبر باتجاه حيّ الصلعة، وعندما أشرفت الفاردة على بيت العروس وقرب حيّ سالم الراس أطلق أبو كامل خمس رصاصات من مسدسه في الهواء، فعلت الزغاريد وغنت النسوة:
نسايب نسايب ديروا بالكم لينا
واحنا ما تبعنا الزين

احنا ع الأصل مشينا
********
وقطعنا الواد أبو خوخه على اللي لابسه الجوخه
وقطعنا الواد ويا خالي على اللي مهـرها غالي
وقطعنا البحر بحرين على مكحولة العين
قطعنا الواد ابو صرّه على الزينة والحرّه
***********
واحنا مشينا من بلد لبلد تنوخذ بنت شيخ العرب
واحنا ذبحنا ع الطريق كبشين لما وصلنا دار ابوك يا زينه
واحنا ذبحنا ع الطريق عنزين لما وصلنا دار ابو مكحولة العين
واحنا ذبحنا ع الطريق ذبيحه لما وصلنا دار أبوك يا مليحه
**************
في بيت العروس حضر أهلها فرشة صوف ولحافا، ومخدتين كي يخرجن معها فتغني النساء على لسانها:
شدّي لي مخداتي شدّي لي مخداتي
ما ودعت جاراتي وطلعت
واطلعت من البيت ما ودعت جاراتي

وعندما وصلت الفاردة بيت العروس، رحب بهم الأهل، ودخلت النساء غرفة النساء، وعلت الزغاريد والأغاني وهن يرددن (ترويدات):
جيناك البيض قصّاده يا بيّ حمدان جيناك البيض قصّاده
يا أبو حمدان يا جيّد الخالي وتعطينا بنتك عطا يا جيّد الخال
بعد أن احتسوا القهوة اعتدل أبو كامل في جلسته، ضبط عقاله فوق كوفيته بعد أن أماله الى اليسار، فتل شاربيه وخاطب أبا حمدان قائلا: هذا كيلو قهوه لعمّ العروس، وشو في إلكم طلبات ثانيه يا أبو حمدان؟
– لا والله يا أبو كامل …بس ارضوا خال العروس.
وين انت يا حج حسن؟

– هيني يا أبو كامل.
طلباتك أوامر يا حاج.
– لا ما بدّي إشي غير عباة الخال يا أبو كامل.
من وين بدّي أجيب لك عباة هالوقت؟ قديش ثمنها؟
– الانسان بقدم قيمته يا أبو كامل ..
هذي ثلاث دنانير ان شا الله بترضيك…
– ثلاث دنانير ما بتشتري عباه عاديه ….

فقال المختار: خلّيهن خمس دنانير.. ادفعهن يا أبو كامل.
حاضر يا شيخ …
وفي الغرفة كانت النساء يغنين:
قومي اطلعي يا سعاد قومي اطلعي لحالك
واحنا حطينا، حقوق أبوك وخالك
قومي اطلعي يا سعاد يا مليحه
سرج الفرس بنقط منك ريحه
يا بيّ حمدان لا تكون طماع
والمال يهفى والنسب نفاع
ويخاطبن أخ العروس:
واطلع يا خيّ سعاد وحيّي ضيوفك
فيجبن على لسانه:
لأطلع وحيّي ضيوفي لو كانوا ميه وألوف
ويدخل أبو حمدان وابنه مرزوق الى العروس.. يمسك كل واحد منهما تحت إبط منها، ويقودانها بعد أن أسدلت والدتها الغمغام “الخمار” على وجهها، وقنعنها بعباءة والدها ..يضع والدها قدمها اليسرى في ركاب السرج، ويساعدانها على امتطاء الفرس، أبو حمدان يقود الفرس …. وتعود الفاردة باتجاه بيت العريس …
فتغني النساء وكل واحدة منهن تمسح العرق المتصبب عن وجهها:
يخلف على ابو حمدان يخلف عليه للاول
طلبنا النسب منه واعطانا غزال مصوّر
الله يخلف على ابو حمدان خلفين

طلبنا النسب منّه واعطانا بناته الثنتين
الله يخلف على ابو حمدان يخلف عليه بالثاني
طلبنا النسب منه واعطانا جوز غزلان
وتُروّد العجائز :
كثّر الله خيركم يخلف عليكم
يخلف عليكم كثّر الله خيركم
ما لقينا غيركم دُرنا البلد ما لقينا غيركم

دُرنا البلد ما رضينا بغيركم

والفاردة تصعد الجبل والنساء يواصلن الغناء، ويلهثن من شدة التعب …وقرب (سكارة الجامع) اعترض الفاردة أبو الفهد، وأقسم أغلظ الأيمان بأنه لن يسمح لها بمواصلة المسير قبل أن يتناول الجميع طعام الغداء في بيته.

فيتمنع أبو كامل وشقيقه عبد الباري، الا أن ذلك لم يثن أبا الفهد ..ولم يرضخ أبو العريس وعمّه لطلب أبي الفهد الا بعد أن قال: (عليّ الطلاق من شاربي والنسوان ما فيهن خير) قال ذلك وهو يلوح بعصاه حتى جفلت الفرس،- وكادت العروس تقع عن ظهرها لولا أن شقيقها الأكبر التقاها.. وأسندها حتى عادت الى مكانها مرة اخرى- ما بتمر الفاردة قبل ما تتغدوا عندي،(مين بيجيه صيد لباب داره وبيفلته).
فقال عبد الباري:الله يرضى عليك يا خيّي يا أبو كامل تقبل عزيمة أبو الفهد
فغنت النساء:
من هو عزمكن ع الندى يا سعاد
عزمنا أبو الفهد شيخ البلاد
وفي هذه الأثناء نبش الصبية عشّ (مدبرة) قريبة، فانتشرت الدبابير فوق الرؤوس، وقام أقارب العروس والنساء يردون الدبابير عن وجه العروس، والكل يلعن الصبية ومن أنجبوهم وربوهم، وهرب الصبية أمام الفاردة، باستثناء خليل أخ العريس الذي دفعه أحد الصبية، فسقط من على سلسلة حجرية يزيد ارتفاعها عن المترين، فتكوّم مكانه وهو يصرخ من شدة الألم، فركضت والدته باتجاهه … رفعته من يده اليسرى فازداد صراخا، ويده اليمنى كانت مهشمة وتسيل دماء خفيفة منها …..
لم يمش مع والدته وواصل صراخه وهو يردد : إيدي ….آخخخ يا إيدي
فحملته بين يديها ولحقت بالنساء تلهث …. التفتت اليها ضرتها أمّ كامل وقالت: اتركيه يمشي ولا تعلميهوش الدلع …..
في بيت أبي الفهد جلست العروس والنساء في غرفة … جلست فاطمة وابنها خليل في حضنها يغفو وهو يئن من شدة الألم…
جلس الرجال في”المضافة” وأوعز أبو الفهد لأحد أبنائه بأن يذبح نعجة سمينة، وقامت أمّ الفهد وضرتها وسلفتهما بالعجن والخبز، في حين جلست والدته العجوز بجانب قدر اللحم تغذي النار بالحطب، وتمنع أيّ أحد من الاقتراب من القدر.
أمر ابنه فهد بأن يضع العلف والماء للفرس ..ففعل… وبعد صلاة العصر قدم أبو فهد القرى للضيوف، كانت ثلاثة مناسف كبيرة يتوسط كلا منها جزء من ” ليّة ”

النعجة، ووضع في طنجرة صغيرة قطع لحم صغيرة، أعطى كل واحدة منها لطفل، والذي لم يقف من الأطفال مزاحما للحصول على قطعة لم يذق شيئا، بينما قدموا منسفين للنساء على كل واحد منها قليل من اللحم، أمّا العروس فقد قدموا لها ذراع النعجة في صحن مع رغيفين من خبز الشراك.

بعد ذلك وقف عبد الباري عمّ العريس، وطلب ان يخلف الله على أبي فهد بالرزق الحلال… واستأذنوا في مواصلة المسير ….
عندما امتطت العروس الفرس بمساعدة أخيها وأبيها غنت النساء:
حلفت سعاد ما تركب ع فرس

إلا في تكسي وحواليها حرس
وحلفت سعاد ما تركب ع حصان
إلا في تكسي وحواليها فرسان
سعاد العروس خائفة ومضطربة تسترق النظر من تحت غمغامها حذرة من أن يرى نظراتها أحد.
في بيت العريس جلست العروس حييّة تعبة على فرشة من الصوف، بينما النساء الأخريات يجلسن على الأرض أو يرقصن، وفاطمة تهدئ روع ابنها خليل الذي ازداد بكاؤه من ألم يديه، وازداد احمرار عينيه، وبدأت النساء بالطبيخ الذي نضج بعد صلاة المغرب…قدموا القرى للضيوف، وفتح أحد الشباب دفتر تسجيل النقوط الذي افتتحه المختار بخمسة دنانير غير مدفوعة… والحاج حمدان صاحب الصوت الرنان يصيح باعلى صوته:
خلف الله عليك يا ابو فلان وهذي ربع دينار محبه في راس النبي ومن صلى عليه، فيصلي الجميع على الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وكان حمدان اكثر من قدم نقوطا حيث نقط العريس دينارا أردنيا واحدا.
انفض الرجال بعد النقوط…بعد صلاة العشاء أدخلوا العريس على العروس والنساء يغنين:
شَرِّع البيت وادخُل يا ابن الحلال
العروس جوّاه رشته زعفران
عند عتبة الغرفة ضرب أبو كامل ابنه العريس بقبضة يده بين كتفيه، كي يرد اليه روحه التي ترتجف خوفا من رهبة الموقف…أوقفت النساء العروس والغمغام ملقى على وجهها كي يرفعه العريس، ويقدم لها النقوط الذي هو عبارة عن نصف دينار “فراطة” يسقطها امام وجهها على الأرض لتقوم هي بالتقاطها..بعد أن رفع الغمغام..قبلت العروس يده اليمنى…وضعتها على جبينها، مدّ يده في جيبه ليخرج النقوط، فلم يجد شيئا…فصاح بأعلى صوته يابا… واستدار الى الخلف فبسملت النساء متسائلات عما جرى للعريس، ولم يعلمن الا لاحقا أن نصف الدينار كان في جيب والده، خوفا من أن يضيعه العريس- فهو في العشرين من عمره- ولا يزال جاهلا… ونسي ان يعطيه النقوط قبل دخوله على العروس.
*************

وانفضت المدعوات وانفض الأهل ليبقى العروسان في غرفتهما…

بعد حوالي نصف ساعة فتح العروسان الباب- كما أوصوهما-… وبدأت الزغاريد فقد أفلح العريس… وتأكدت عذرية العروس، وابتسامة عريضة ترتسم على وجه أمّ

حمدان… حلقت في السماء…فرأت حبات الندى تتساقط ناعمة على وجهها تغسل عرق سنوات من التعب… ليتجسد الشرف أمامها عروسا على شكل سعاد.

ذهبت هي وأمّ كامل والدة العريس الى غرفة نوم العروسين… تفحصن الملابس الداخلية وقميص نوم العروس…. وتعازمتا على أيّهما الأحق بغسلهما؟ فقالت أمّ كامل:
أنتِ ضيفة يا أم حمدان… وسعاد الآن بمثابة ابنتي.
– أنا لم أعد ضيفة في بيتكم يا أمّ كامل… فالغالية أصبحت الآن من أهله.
– هذا صحيح… ولكن حقك واجب علينا يا أمّ حمدان.
– الله يكبر واجبك يا خيتي… وبترجاك تسمحي لي أغسل ملابس سعاد.
– اغسليها يا اختي…بس لو شافك أبو كامل وانت بتغسليها بيقيم القيامة على رأسي.
غسلت أمّ حمدان ملابس العروس وقامتا هي وأمّ كامل بنشرهما على حبل الغسيل، وأطلقت كل واحدة منهما زغرودة .
أمّا السعادة فقد غمرت سعاد التي ارتأت أنها حققت أعزّ أمنياتها بالفوز بفارس الأحلام، عدا أنها تخلصت من همّ ثقيل كدّر حياتها منذ أن وصلت سنّ الحلم .

*********
لم تنم فاطمة تلك الليلة، ولم تستطع مغادرة فراشها، وهي تحتضن ابنها خليل، الذي تورمت يده اليمنى بشكل واضح، ولم ينم الا دقائق معدودة بعد أن تعب من شدة البكاء، وازداد ألمه عندما مرّ والده من جانبه عصر اليوم السابق- وهو ممدد على فراش بسيط لا يقوى على تحريك يده اليمنى الممدوده بجانبه – فداس والده على طرف كفّ يده، فانطلقت منه صرخة ألم أزعجت والده الذي ركله بحذائه، فاندفع جسده الصغير باتجاه يده اليمنى التي تؤلمه كثيراً، ولا يقوى على تحريكها.. بكى خائفا بصمت… وكاد يختنق بدموعه التي كانت تنساب على وجنتيه وفي جوفه.

************

مضى ليل فاطمة الطويل، فنهضت مع آذان الفجر،اتجهت الى بيت الشعر، حيث كان أبو كامل يتوضأ لصلاة الفجر، وقفت قرب البيت وقالت:
– الله يصبحك بالخير يا أبو كامل.
– صباح الله ولا صباحك يا مره، شو جابك ع ساعة هالصبح؟
– خليل ما نام الليله من الوجع إيدُه اليمين متورمه، والولد– يا موت قلبي- بتوجع كثير، وعينيه حمر مثل الدبور.

– لا ردّك الله أنتِ وابنك العفريت هذا.
– اخزي الشيطان يا رجل، وتعال شوف الولد… وقول إلنا شو نساوي؟
مين اللي قال له ينط عن السلاسل؟
– يا رجل هو ولد وللا قاضي بلد؟ هو طفل كان فرحان في عرس أخوه، ويلعب مع الأولاد في الفارده… ودفعه واحد من هالولاد العفاريت.
– انصرفي وبعد طلوع الشمس بيحلها الحلاّل…الله يلعن أبوك على أبوه.
عادت أدراجها تندب حظها العاثر، وتلعن اليوم الذي تزوجت فيه على ضرّة. فأبو كامل وأمّ كامل فرحان بزواج ابنهما، وهي أيضاً فرحة لكن لا أحد يشعر بألمها وألم ابنها خليل، أو الاهمال الذي يعانيه ابنها البكر محمد، وطفلتاها الصغيرتان نجيبة وزينب، فقد ناموا بدون عشاء وبدون فراش وغطاء.
اتجهت الى ضرتها أمّ كامل والى أمّ حمدان والدة العروس حيث يجلسن أمام الغرفة المجاورة لغرفة خلوة العروسين، فطرحت عليهما الصباح، وقالت:
– مبروك عرس أولادكن.
فقالت أمّ حمدان:العرس مبروك على أهله.
فردت أمّ كامل: أنتِ من أهله يا أمّ حمدان، والله الواحد بيفرح في عرس بنته أكثر من فرحته في عرس ابنه.
والتفتت الى فاطمة وقالت:
وين بقيت يا فاطمه؟ مِنْ ما وصلت الفارده ما شفناك، والله كنت أحسبك فرحانه بعرس كامل.
فازداد حزن فاطمة وردّت بانكسار:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ع ساعة هالصبح يا أمّ كامل… والله فرحت لعرس كامل وكأنه عرس محمد أو خليل، فكلهم إخوة وولاد زلمه واحد، لكن يا بنت الحلال لو تشوفي حالة خليل ما غمضت له عين هالليلة وما خلاني أغمض.
فقالت أمّ كامل:
وشو صار لخليل؟ كل الأطفال مصابين بالرمد، ومن إيمتى صار الرمد مرض؟ بس انت بدّك حجه منشان ما تفرحي معانا بعرس كامل، على كل حضرتِ وللا عمرك ما حضرت العرس- الحمد لله- صار والعريس دخل ع العروس،والحساد أخذوا الفصوص، واللي ما هو معجبه لعُمره ما أعجبه.
فقالت فاطمة:
لا .. لا يا أمّ كامل، هالحكي ما هو مطلوب منك، ويا ريت مشكلة خليل توقفت عند الرمد، فالولد وقع في الفاردة عند سكارة الجامع، وانكسرت إيديه الثنتين.
وقبل أن تفتح أمّ كامل فمها، قالت أمّ حمدان:
صلّين على النبي يا بنات الحلال…الشمس لسّه ما طلعت…واحنا في صباح يوم عرس.
وإذا بأبي كامل يحضر حاسر الرأس، حافي القدمين، يلبس ثوبه(الدشداش) وانتهر زوجتيه قائلاً: شو هالصوت يا نسوان؟

سلامتك ما فيه إشي ردت فاطمة.
وقالت أمّ كامل:
شو صار لك يا زلمه؟ ليش ما لبست قمبازك وعبايتك وحطتك…عندنا نسوان غريبات.
تلفت يمنة ويسرة فلم يرَ الا أمّ حمدان فقال:
صبّحك الله بالخير يا أمّ حمدان، البيت بيتك، انت ما انت غريبة عندنا، ثم التفت الى فاطمة وسأل:
– وين خليل؟
– في الفراش يا أبوكامل.
– تعالي خلينا نشوفه.
دخل الغرفة فانكمش خليل عندما رأى والده، وأدار وجهه باتجاه الحائط.
فقال الأب:
– ارفع إيدك يا ولد…
رفع خليل يده اليسرى، ولم يستطع رفع يده اليمنى، فاقترب الوالد منه، وطلب منه مرّة أخرى أن يرفع يده اليمنى فلم يستطع، وانكمش على نفسه اكثر فأكثر، فقد خاف من والده، فتقدم الوالد وجلس القرفصاء بجانبه، تحسس جبينه وقال: الولد سخنان باين انه خايف.
ثم خاطبه:
– لا تخافش يا بنيّي ارفع إيدك اليمين؟ فلم يستطع ….
– طيّب حرك أصابعيك؟
– فحرّك خليل أصابعه ببطء شديد، والتفت الأب الى الجروح في اليد اليسرى وقال: والعلم عند الله إنه إيده الشمال مكسورة…والإيد اليمين متورمه من شدة الوقعه… أولاد عميان الله يعميهم ويعمي اللي خلفوهم.
– والتفت الى فاطمة وقال:
– عند ما يصحا كامل بنودّيه للحاج عبد الرؤوف منشان يفحص الولد ويجبر إيده المكسوره.
*********
عاد أبو كامل الى بيت الشعر وطلب من سليمان ابنه الثاني أن يذبح خاروفا لأمّ العروس.
بعد أن استيقظ العروسان، كان الفطور جاهزا، معلاق الذبيحة، وشق سليمان الذبيحة الى نصفين، نصف سيطبخونة غداءا لهم ولأمّ العروس، ونصف سيحملونه لأمّ العروس كما هي العادة.
عندما انتهوا من طعام الفطور أرسل أبو كامل ابنه سليمان الى بيت الحاج عبد الرؤوف كي يحضره لفحص خليل، وطلب منه أن يمتطي الحمار كي يركبه الحاج عبد الرؤوف، وحذره من امتطاء البغل فالحاج رجل عجوز.. ولا يستطيع ان يمتطي البغل.

في أقل من نصف ساعة كان الحاج عبد الرؤوف في ضيافة أبي كامل، الذي أجلسه في بيت الشعر، فقدم التبريكات لأبي كامل بعرس كامل، واحتسى ثلاثة فناجين قهوة سادة، واحد للضيف، وواحد للكيف وواحد للسيف، لم يكن الفنجان مليئا بالقهوة، ففي كل مرة يصبون فيه ثلاث رشفات صغيرة، ثم التفت الى أبي كامل وقال:
– خير يا أبو كامل شو صار للولد؟
– ما فيه الا الخير يا حاج، الغضيب وقع امبارح في الفاردة، وخاف الله إنه إيده مكسوره..وللا هو ببكي من كثرة الدلال، على كل حال بعد ما بتفطر بنجيبه منشان تفحصه.
– فقال عبد الرؤوف وهو يعض على غليونه المليء بالتبغ البلدي(الهيشي): أنا ما بأفطر في ساعات هالصباح… ما ظليناش مثل أيام زمان، تعبنا وما بيقينا قادرين حتى على الأكل.
فقال أبو كامل: سلامة خيرك يا رجل…إذا ما بتقدر تفطر معناه لازم تطرح الغدا عندنا… والتفت الى ابنه سليمان وقال:
روح هات اخوك خليل يا ولد.
وما هي إلا لحظات حتى أحضر سليمان خليلا الذي ملأ الحارة بكاء، مدّده أمام الحاج عبد الرؤوف… فاعتدل الحاج عبد الرؤوف… وجلس وهو ينفث دخان غليونه، فشرع خليل يسعل وهو يبكي من رائحة الدخان، فقال أبو كامل:
اخرس يا ولد ان شاء الله بتطلع روحك وروح اللي خلفتك وبتريح منكم… فضحتنا قُدّام الحاج.
فقال الحاج عبد الرؤوف:
صلّي على النبي يا أبو كامل، الولد متألم… لكن أحدا لم يُصلّ على النبيّ… فغضب الحاج عبد الرؤوف وتساءل: شو صار لكم… ما لكم ما صليتوا على النبيّ؟ وللا بطلتوا تعرفوه؟
فقال أبو كامل: الف صلاة عليك يا محمد.
فقال الحاج عبد الرؤوف: وزيدوه كمان صلاة؟
فقالوا جميعهم: اللهم صلي على محمد حتى يرضى محمد.
وتحسس الحاج عبد الرؤوف جبين خليل وقال:
الولد ساخن يا جماعة، اطلبوا من إمّه تغلي له جعدة.
نهض سليمان وسار باتجاه البيت لينفذ المهمة… وأخذ الحاج عبد الرؤوف يتحسس باقي أعضاء خليل، تحسس عظام قفصه الصدري..تحسس يديه، وتحسس رجليه، وشخص الحالة بأنها كسر في اليد اليسرى، ورضوض في اليد اليمنى، وهذا يستدعي تجبير اليد المكسورة.
فقال كامل: خلونا نوخذه لمستشفى الهوسبيس في طريق الواد في القدس، وهناك بيعمل الدكاتره له صور أشعة، وبيعملوا له اللازم .

فقال الحاج عبد الرؤوف وتكشيرة تعلو وجهه: اذا بقيتوا مش واثقين فيّه ومعكم مصاري زياده، وناوين توخذوه للدكاتره ليش وصيتوا وراي؟ وترك الولد واتكأ على جانبه.
فالتفت أبو كامل الى ابنه كامل وقال:
سكّر ثمّك يا ولد، والله لولا إنك عريس، وحنا في صباح يوم عرسك لعرفت كيف أتصرف معك، ثم التفت الى الحاج عبد الرؤوف وقال:
لا تواخذنا يا حاج فالولد جاهل وما بعرف شو بيقول، وحقك عليّ أنا..
الا أن الحاج عبد الرؤوف واصل سكوته، وأشعل غليونه من جديد.
فقال أبو كامل لابنه كامل:
جيل ما بيعرف الأصول، قوم يا ولد، وبوس رأس عمك الحج واستسمح خاطره. ففعل على غير قناعة.
فقال الحاج عبد الرؤوف: على كل حال انا بعتبرك مثل ابني… وأنت عريس…ما بقدر احكي معك زياده، وإكراما لله ورسوله، ولوالدك راح أفوِّت لك هالزلّة.
اخذت الأفكار تدور في رأس كامل، واستعاد ما جرى في ذاكرته، فلم يجد نفسه مذنبا في شيء، لكنه لم يستطع أن ينبس ببنت شفة.
استند الحاج عبد الرؤوف وجلس وقال:
حَضِّروا لي غصن تين مستقيم بطول ذراع، حضّروا لي بيضتين، وقطعة صابون جمل النابلسية، وسكين وصحن وقطعة قماش نظيفه، وكاس طحين. فاحضروا له ما طلب…قاس شبرا من غصن التين واقتطعه، واقتطع شبرا ثانيا، ثم شقهما بشكل عمودي، وربطهما بخيوط من أطرافهما، وثبت عليهما قطعة من القماش… وهي بقايا من سروال أبي كامل المهترئ… برش أكثر من نصف الصابونة…وضعها في الصحن…كسر البيضتين فوقهما… ثم وضع عليهما كأس الطحين، وعجن الخلطة بأصابع يده اليمنى، ثم وضعها فوق قطعة القماش، ولفّ يد خليل اليسرى من الكف وحتى الكوع، بعد أن ثبت فلقتين من عود التين على باطنها، ومثلهما على ظاهرها، وقال: دعوها حتى تجف، وبعدها علقها برقبته بواسطة دكّة السروال المهترئ، واحضروا له زيتا بناء على طلبه، وقام بتدليك اليد اليمنى تدليكا خفف وطأته الصراخ المتزايد من خليل.
بعد صلاة العصر، جاءت الحاجة صبحة- أمّ حسين- لتقديم التهاني، وهي امرأة عجوز فاضلة، كسا غبار الزمن شعرها بالبياض، ولم تبق نوائب الدهر في فمها سوى نابي الفك العلوي، وقامت هي الأخرى بفحص خليل، وأكدت صحة تشخيص الحاج عبد الرؤوف لحالة خليل، وأبدت استعدادها بتدليك يده اليمنى يوميا، ثم ربطتها في رقبته هي الأخرى بمنديل أمّه، فشعر براحة أكثر من أن تبقى متدلية على جانبه.
ازداد احمرار عيني خليل، وأصبحتا مشكلة كبيرة بالنسبة له، فهو لا يستطيع إزالة القذى عنهما بيديه، وكلما شعر بازدياد الحكّة فيهما كان يرفع يده اليسرى الجبيرة ويحكها بظاهر سبابته.
بعد ثلاثة ايام لم يعد خليل يتحمل الآلام في يديه وفي عينيه فازداد بكاؤه، ولم تمض بضعة أيام حتى أخذ الصديد ينزل من تحت الجبيرة، وتنتشر رائحة عفنة منفرة، فازدادت آلامه وأحزان والدته، وأخذت تتوسل لانقاذ ابنها بأخذه الى طبيب، يساندها كامل في ذلك، غير أن ذلك لم يُجدِ نفعا عند أبي كامل فهو صاحب القرار… وفسّر الروائح المنبعثة من يد خليل اليسرى بأنها رائحة البيض المختلط بالصابون والطحين، وردد مرات عديدة بأن الأطباء لا يفهمون اكثر من الحاج عبد الرؤوف، فهو صاحب خبرة طويلة، وقد سبق له أن قام، بتجبير كسور عشرات الأطفال والرجال، ومئات الأغنام، وجميعهم شفوا بإذن الله، باستثناء ماعز للحاج عبد الباري، فقد تعفنت قائمتها الأولى فاضطروا لذبحها، وهذا كان منذ أكثر من أربعين سنة أي في أيام شباب الحاج، وقلة خبرته، وعندما قالت فاطمة بأن ابنها خليل ليس ماعزا، قال لها:
أي والله العنز أحسن منك ومن ابنك.
انكمشت فاطمة على نفسها، وبكت حظها العاثر، وتواصل بكاء خليل الذي هدّه الألم والبكاء، فلم يعد قادرا على البكاء، فأصبح بكاؤه أنينا خافتا موجعا، وعندما جاءت الحاجة صبحة لتدليك يده اليمنى، نصحت والدته بأن تأخذه الى (الفتاحة) أمّ صابر في العيزرية، فهي امرأة مبارك فاضلة متدينة فهامة علامة ولها قدرات عجيبة.
وأمّ صابر هذه تقرأ بعض السور القصيرة من القرآن الكريم، وبما أنها أمّية، لا تجيد القراءة والكتابة، فإن من يسمعها تقرأ سورة الاخلاص والمعوذتين وتخطئ بهما يغفر لها خطأها، الا أن أحدا لم ينكر بركاتها التي كانت توزعها بشكل شبه مجاني، فهي لا تأخذ أجرة على أعمالها، بل تتقبل الهدايا، وتقول أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبل الهدية.
وصباح اليوم الثاني استأذنت فاطمة من زوجها أبي كامل كي تأخذ خليلا الى الفتاحة… فوافق دون تردد، مشت وخليل بعد أن حملت معها ديكين بلديين، يزن الواحد منهما أكثر من كيلوغرام لتقدمهما هدية للحاجة أمّ صابر، وخليل يمشي بصحبة أمّه لا يملك من أمره شيئا، فالحزن بادٍ على وجهه، ونفسيته محطمة، وهو دائم التفكير بالوضع الذي يمنعه من اللعب مع أقرانه، فقد أصبح حبيس المنزل.
في بيت الحاجة أمّ صابر في العيزرية لقيت فاطمة وابنها خليل استقبالا فسرته فاطمة بأنه جزء من بركات أمّ صابر المؤمنة التقية، التي عاينت خليلا، وأكدت أنها لا تستطيع عمل أي شيء بالنسبة ليديه، فاليسرى ملفوفة بالجبيرة، واليمنى متورمة، وهي لا تتدخل في علاج المرضى الا اذا جاؤوها بدايةً، أمّا بعد الآخرين فلا.

وبالنسبة للعينين المحمرتين والمتورمتين، فقد أكدت أن علاجهما بسيط ومتوفر، ووصفت لفاطمة أن تحضر براز حرذون جاف، وأن تطحنه وترش في عينيّ

الطفل، فالمرض الخبيث لا يشفيه الا الدواء النجس، وأوضحت أن الحرذون طاهر ومؤمن، وتساءلت:
عمرك ما شفتيه يا بنيتي وهو بيصلي؟
فسألتها فاطمة عن أوصاف براز الحرذون، فقالت:
سؤالك عجيب انت وين عايشه في المنطقة وللا في بلاد الانجليز؟ فالحراذين موجوده في كل مكان، وعند ما بتشوفي حرذون …راقبيه وشوفيه في أيّ جحر بيدخل، ورايحه تلاقي الجحر مليان خرا- الله يعزك-.
جلس خليل مستسلما كحمل بين مخالب ذئب، لا يقوى على شيء، سمع كل ما قالته أمّ صابر… فهم جزءا منه ولم يفهم الباقي، لكنه في كل الأحوال بدا مسيرا لا مخيرا، يئن أنينا خافتا يقطع نياط القلب، ويتلفت يمنة ويسرة دون ان يقوى على فهم شيء أو عمل أيّ شيء.
أمّا والدته فقد هدّها التعب، وهدّها الخوف على ابنها، فشعرت بأنها تحمل عذابات تنوء بحملها الجبال، اصطحبت ابنها، وعادت أدراجها مشيا على الأقدام، وعند مفترق (كُبسة) نزلت باتجاه(واد قدوم) ودموعها تنساب على وجهها راسمة أخاديد في وسط الغبار اللاصق بالوجه، وخليل يتعثر امامها، ولكي تمنعه من السقوط على الأرض فقد أمسكت برقبة قميصه من الخلف، وكلما كبا الى الأمام التقطته الى الخلف، فيعود واقفا رغم أنفه، فمشكلته أنه لا يستطيع أن يتقي الوقوع على الأرض بيديه، فاليسرى في الجبيرة، واليمنى متورمة، وكلتاهما مربوطتان الى عنقه، بينما الأمّ لا تقوى على حمله على ظهرها، فهي مرهقة انهكها الحمل في فترة الوحام،وتتقيأ كثيرا.
وفي البيت استنفر أبو كامل صبيان العائلة كي يجمعوا براز الحراذين قطرة لعيني خليل، وعندما اعترض كامل وزوجته على هذا(العلاج) نهرهما أبو كامل متسائلا:
إن شا الله بدكم تصيروا تفهموا أكثر من أمّ صابر؟ انخرسوا أحسن إلكم.
***************
براز الحرذون كالإبر يخز عيني خليل، فيعلو صراخه الى عنان السماء، غير ان الجسد الصغير لا يلبث ان يهوي خامدا امام الأيدي الثقيلة التي تضغطه على الأرض، لمنعه من أيّ حركة، وتزداد آلامه لأنه لا يستطيع أن يفرك عينيه بيديه، لكن دموع والدته التي تتساقط على وجهه تعطيه دفئا خاصا، فيصيح متوسلا: يمّه…التراب اللي في عينيّ بخزقهن… عينيّ طلعن من راسي يمّه، فترد الأمّ وهي تضع طرف منديلها على عيني خليل، تمسد جفنيهما:
لا تخافش يا بنيّي هذا دوا، وبإذن الله راح تشفى.

إحساس الولد بحرقة (الدواء) دلالة على بوادر الشفاء هكذا قالت الحاجة مريم والحاجة صبحة.

وعند الغروب غفا خليل منهكا تعبا.
بعد صلاة العشاء بقليل رأى خليل في المنام ان الرجل العجوز الأشيب ذا الملابس البيضاء يدعوه للتحليق معه ليصطحبه الى المدينة الجميلة، ورأى خليل جسده يحلق في الجو على ارتفاع شاهق، غير أنه لا يقوى على التقدم في الجو رغم تشجيع العجوز الطيب له، فهو يدعوه بصوت حنون ان يخلع الجبيرة عن يده اليسرى كي يستطيع التقدم، فيحاول خليل نزع الجبيرة التي تقيده كعصفور وقع في شباك صياد ماكر، فتبوء محاولاته بالفشل، لم يتجاوز (ظهرة صالح) ينظر تحته فيرى كلب الحاج أبو ياسر، ذلك الكلب العجوز الذي كان ينبح على الصبيان وهو متكور على نفسه، ممدا على الأرض واضعا رأسه عند ذيله كما الأفعى، غير أنه هذه المرة دبت فيه القوة، فهو ينبح واقفا، ويحاول الطيران في الجو كي يفترس خليل، يقف على قائمتيه الخلفيتين…يكشر عن أنيابه وينبح نباحا مخيفا، فتمنى خليل لو أن يديه سليمتان كي يلتقط بعض الحجارة ويقذفه بها…يحاول خليل الابتعاد عن الكلب، لكنه لم يعد قادرا رغم تشجيع العجوز الطيب له، ويحاول العودة الى بيته فلم يستطع أيضا، وأثناء محاولاته سقط على الأرض بقوة، فتلقفه رهط من الرجال والنساء يرتدون ملابس بيضاء، وفي أياديهم سكاكين حادة لامعة، فصرخ مذعورا كماعز يحز رقبته سكين جزار ثلمة.
قفزت والدته من فراشها على غير هدى، احتضنته وقبلته وأسقته قليلا من الماء. فلم يهدأ روعه، وأخبر والدته أنه يشعر بآلام حادة في يده اليسرى وفي عينيه. أشعلت والدته لامبة الكاز…نظرت في عينيه بعد ان أزالت القذى عن رموشهما، وهالها ان رأت جروحا في عينيه، ورأت بعض الحمرة في دموعه التي تتساقط على وجنتيه راسمة أخاديد من التعاسة التي يبدو أنها لا تنمحي…نظرت الى يده اليسرى، فرأت صديدا ذا رائحة نتنة يخرج من تحت الجبيرة… رأت يده تتحول الى اللون الأسود الرمادي…طلبت منه ان يحرك أصابعه فلم يستطع…مدت يدها تحاول تحريك أصابع يده، فوجدتها كغصن شجرة أصابها الشلل…ذعرت من ذلك، وتساقطت دموعها على وجه خليل الذي ينكمش في حضنها كعصفور بلله الندى، واختلطت الدموع بالدموع، وكلا القلبين ينزفان ألما، فقالت وهي تكاد تختنق بدموعها:
نام يمّه نام … في الصباح رباح.
خليل يغفو مغلوبا على أمره، لكنه لا يلبث ان يصرخ من شدة الألم، بينما والدته لم تذق طعما للنوم، فتارة تضعه على الأرض كي تسقي احدى طفلتيها ماء، أو تصطحب احداهما الى خارج البيت لقضاء حاجة، وتارة تعود الى خليل لتضعه في حضنها.
*************

في الصباح استدعت فاطمة زوجها ليرى خليلا، فتبعه ابنه كامل، وعندما رأوا
عيني خليل ويديه، قال الوالد:
هذا أمر طبيعي …الإيد متورمة نتيجة الكسر، وبعد كم يوم بتشفى وبتعود أحسن من قبل، وحمار العينين بشارة خير معناه إنه الدوا بوخذ مفعوله، غير أن كامل قال:
حالة الولد تدهورت كثير وما تحتمل التأجيل، لازم نوخذه فورا للطبيب.
بعد نقاش صاخب قرروا أخذه الى الطبيب، فحمله كامل بين يديه، ومشت والدة خليل خلفه، ولم يوافق كامل أن يمتطي البغل، لأن حالة الولد لا تسمح بذلك، وعند الشارع استقلوا باصا الى القدس…توجهوا الى عيادة الدكتور رشيد في شارع نابلس قبالة باب العامود، وما أن رأى الطبيب الطفل حتى صاح بوالدته وأخيه شاتما لاعنا الجهل والتخلف، وكتب لهم تحويلة الى مستشفى الهوسبيس في طريق الواد.
في المستشفى عاينه الأطباء…وطلب أحدهم من احدى الممرضات أن تأخذه الى الحمام، كي تغسله وتحلق له شعر رأسه بالشفرة كي يتخلص من القمل المعشعش فيه، والذي زاده عذابا على عذاب، وأن تخلع ملابسه وتنقعها في الكلور كي يقضي على القمل العالق بها، وأن تلبسه(بيجاما) استعدادا لعملية جراحية، لبتر يده اليسرى من الكتف لإنقاذ حياته، كون اليد مصابة (بالغرغرينا)..أمر احدى الممرضات بإحضار قطرة بنسلين لعينيه اللتين بدتا صافيتين بعد القطرة الأولى، وزال الألم منهما.
هوت فاطمة على الأرض مغمى عليها بعد أن سمعت أن الأطباء قرروا بتر يد ابنها خليل من الكتف…أسعفها الأطباء وهدأوا من روعها..أظهرت صورة الأشعة أن عظام اليد اليسرى لم تكن مكسورة، وأن الجلد الخارجي قد أصيب بجروح طفيفة فقط، وأن الجبيرة هي التي عملت على تعفن الجروح، وإصابة اليد بالشلل، في حين أن اليد اليمنى أُصيبت بكسر تشعيري، وأن هذه الكسر قد التأم وحده.
قال الدكتور توفيق لفاطمة وكامل: لو تركتم الطفل بدون(علاجكم)لشفي تماما.
*************
رفض كامل وفاطمة أن يوقعا على التعهد الطبي على بتر يد خليل اليسرى، قبل الرجوع الى الوالد، فطلب الطبيب من كامل أن يستقل سيارة ويأتي بوالده بالسرعة الممكنة لأن حياة الطفل في خطر، وحالته لا تسمح بالتأجيل…ذهب كامل ركضا…استقل سيارة أجرة…أحضر والده الذي ناقش الأطباء مطولا وهو يردد: والله يموت أحسن من ما يظل بإيد وحده…اللي بإيدين ثنتين مش عايش تيعيش اللي بيد وحده، فتدخل داود الممرض الوحيد من ابناء البلدة الذي يعمل في المستشفى، وأقنع أبا كامل بضرورة التوقيع على التعهد الطبي، لأنه لا بديل عن ذلك، فوقع أبو كامل غير مقتنع.
أفاق خليل من التخدير…لم يبك…لم يتألم، وبدت السعادة على وجهه وهو ينظر الى البيجاما، وعندما افتقد يده المقطوعة، سأل والدته:

وين إيدي يمّه؟
فردت عليه بالدموع… فسألها ثانية: ليش بتعيطي يمّه؟
فأجابته باكية:عينيّ بوجعنّي يا حبيبي، والدمع بنزل غصب عني، فنادى على الممرضة التي دخلت الغرفة، وطلب منها أن تضع قطرة في عينيّ والدته كتلك التي وضعتها في عينيه، فابتسمت له الممرضة وقالت له:
حاضر يا خليل.
بعد قليل سأل والدته: يمّه إيمتا إيدي المقطوعه بتطلع من جديد؟
فكادت تختنق بدموعها.
عندما جاء والده لزيارته، بدا حزينا لمنظر طفله، فتساقطت دموعه على وجنتيه – وهذه هي المرة الأولى التي يرى خليل فيها دموع والده –.
فسأله خليل: شو عينيك بوجعنك يابا..خلّي الممرضه تحط قطره في عينيك زيّ اللي حطتها في عينيّ، والله قطرتهم مليحه يابا وبعدها مش رايح تشعر بأيّ ألم، فقال الأب:
لعنة الله عليك يا حاج عبد الرؤوف، صدقنا أنك دكتور فخربت بيوتنا.
وقال كامل الذي كان يقف واجما:
قلنا لكم من البداية خلونا نوخذ الولد للطبيب…قلتوا الحج عبد الرؤوف بيعرف أكثر من الدكاتره، مع انه راعي غنم جاهل، فنظر اليه والده ولم يتفوّه بكلمة.
تململ خليل في سريره… طلب من والده أن يشتري له لباسا كهذا، واشار الى البيجاما…خرج كامل من الغرفة، وعاد بعد دقائق حاملا(بيجاما) جديدة لخليل، اشتراها باثني عشر قرشا، ولعبة اشتراها بقرش واحد.
بدت السعادة على وجه خليل والامتنان على وجه والدته.
أمّا الوالد فقد سأل كامل:
ليش ما قلت لي انك رايح للسوق؟ على كل حال حصل خير..خذ هالخمس قروش… واشتري لخليل وقية كبده ورغيفين خبز بلكي يعوض الدم اللي نزل منه.
**************
خليل يرقد في غرفة فيها سبعة أسرّة، سرير يشغله، والستة الباقية يشغلها ستة رجال عجائز، هدهم المرض والشيخوخة..اثنان منهما فقدا بصرهما، ولا يستطيعان الذهاب الى(وحدة المراحيض) لقضاء حاجتهما دون مساعدة…طلب أحد الممرضين من خليل أن يساعدهما، أمّا الممرضة ليلى فقد تعاطفت مع خليل كثيرا…تحمله بين ذراعيها وتطبع القبلات على جبينه ووجنتيه…تحضر له الحلوى(ملبس على لوز) وتصطحبه معها الى غرفة الممرضات، وتحادثه.

الممرضة تلاعب خليل…تلاطفه، وتعود بها الذكريات الى ذلك الشاب الذي أوهمها بعشقه لها، وأنه سيتزوجها بعد ان يكمل تعليمه الجامعي، فعشقته الى درجة الجنون…رأت فيه الرجل الوحيد على الأرض…رفضت كل من تقدموا

لطلب يدها دون أن تبدي سببا لرفضها، كانت تمني النفس بذلك العاشق الذي لم يكن يريد منها الا اشباع نزواته وغروره، وما أن أنهى تعليمه حتى تزوج من

ابنة خالته بناء على رغبة والدته، وأدار ظهره لليلى التي أصبحت في الخامسة والثلاثين من عمرها دون أن تتزوج، كانت تضم خليلا الى صدرها وتشبعه تقبيلا وهي ترى فيه ابنها الذي حلمت به كثيرا، ودار في مخيلتها لو أن ماهر صدق بحبه لها وتزوجا لكان ابنهما من جيل خليل أو أكبر منه قليلا…لقد أحبت خليلا بكل جوارحها وكأنها هي التي أنجبته…ورثت لحال خليل ومعاناته وهي تردد في سريرتها(ربنا بعطي الفول للي مالوش اسنان)… …ذات يوم قالت لها احدى زميلاتها: يبدو أنك تحبين هذا الطفل، فأجابت نعم انني أحبه فهو طلق اللسان، خفيف الدم، ذكي، لكن بيئته جارت عليه.
فقالت لها: اذن تزوجيه.
فسألت ليلى: هل تتزوجني يا خليل؟
فأجاب: نعم..
فضمته الى صدرها، وطبعت على خديه عشرات القبل وهي تقول منذ الآن أنت خطيبي.
*********
خليل يقضي يومه مع الممرضة ليلى، أو في غرفة الأطفال الرُّضع الذين يرقدون في المستشفى مع أمهاتهم…كل واحدة منهن تريده أن يلاعب ابنها، وفي المساء يعود الى غرفته، وما أن يتمدد على سريره حتى يأتيه أحد العجوزين الكفيفين طالبا منه أن يقوده الى الحمام، وأن يعيده الى سريره بعد قضاء حاجته… أحد العجوزين مصاب بالسكري ويتبول كثيرا، فما أن يغفو خليل حتى يلكزه بعصاه قائلا:
قوم يا ولد وقودني للحمام.
ذات ليلة غضب منه خليل، فقاده الى الحمام…أغلق باب وحدة المياه الرئيس من الخارج بعد ان قرر تركه في المراحيض لساعة يستريح فيها..غفا خليل.. وبقي العجوز في الحمامات حتى الصباح عندما جاء أحدهم لقضاء حاجته، فأطلق سراحه، وعاد به الى غرفته، والعجوز يرغي ويزبد كثور هائج… وهو يرفع عصاه ليضرب بها خليل، فقفز خليل من سريره، واختبأ تحت سرير العجوز…فتش عليه العجوز في كافة أرجاء الغرفة وتحت الأسرة، باستثناء سريره هو نفسه، وعندما جاء الأطباء والممرضات، وعلموا بالقصة ضحكوا

كما لم يضحكوا من قبل، خصوصا ليلى التي رفعت خليل الى صدرها، واحتضنته وهي تقول للآخرين:
ألم أقل لكم أن خطيبي ذكي حاذق….اصطحبته معها حتى جاء أخوه كامل من المستشفى، وأعاده الى البيت.
توافد الأهل والأقارب لعيادته، هذا يحمل قالب حلاوة، وتلك تحمل علبة حلقوم، وذاك يحمل سلة فواكه، وجاء الحاج عبد الرؤوف حاملا(باكيت حامض حلو) وعندما رآه خليل امتعض…علت تكشيرة وجهه، فقال مخاطبا خليل:

تعال يا ولد سلّم عليّ.
نظر اليه خليل نظرة فيها غضب، ولم يتحرك من مكانه.

فقال الحاج عبد الرؤوف:
هذا نصيبه مكتوب عليه تنقطع إيده قبل ما تحمل فيه والدته، فهذه إرادة الله… وما فيه علاقه بالتجبير اللي جبّرته…وكلكم بتعرفوا إني جبرت مئات النعاج وعشرات الأشخاص، وما انقطعت إيد أو رجل أيّ واحد منهم، ليش أخذتوه للدكتور؟ وشو فهّم الدكاتره في الكسور؟ وإيمتا صارت حياة الناس تهمهم؟ بروح البني آدم للمستشفى معافى مشافى مثل الحصان، وبرجع ميت محمول على الأكتاف، لكن: لا تهدِ من أحببت ان الله يهدي من يشاء.
قال له كامل: أهلا وسهلا بك يا حاج فأنت ضيفنا، وصلّي على النبي، ودشرك من شتيمة الأطباء.
فتساءل الحاج عبد الرؤوف مستغربا حديث كامل: شو بتتمسخر عليّ يا ولد؟
كامل: معاذ الله يا حاج..بس أنا بأنصحك بعدم تجبير أي شخص بعد اليوم، وخلّي خليل آخر ضحاياك، ولعلمك فقد تبيّن في صور الأشعة في المستشفى إنّه إيد خليل اليسرى ما كانت مكسورة، وكل ما كان فيها هو جروح خارجيه في الجلد… ولو تركتها بدون تجبير لشفيت لوحدها، أمّا الكسر التشعيري فقد كان في الإيد اليمين، وشفيت وحدها.
الحاج عبد الرؤوف:يعني بأفهم من كلامك أنك بتتهمني بأني المسؤول عن قطع أيد (المفعوص خليل)؟
كامل ساخرا: لا …. أنا المسؤول.
الحاج عبد الرؤوف: هذه تهمة خطيرة يا ولد شو فيه بيني وبينكم حتى أقطع إيد ابنكم، الحمد لله أن الدكاتره قطعوها في المستشفى مع إنّي حذرتكم من أخذه للدكاتره، لكن عليّ الطلاق من شاربي والنسوان ما فيهن خير ما بأترككم حتى تدفعوا الحق على هذي التهمة.
ووضع عباءته على كتفه وانصرف قبل أن يشرب القهوة، وهو يشتم كامل بألفاظ نابية، فرآه أبو كامل الذي لم يكن في الجلسة وقال له:
خير يا حاج عبد الرؤوف بأشوفك زعلان …شو صار يا زلمه؟
الحاج عبد الرؤوف: اسأل ابنك با أبو كامل … والله رجال آخر زمان.
فلحق به أبو كامل وأمسك بكتفه وهو يقول مبتسما:
شو صار لك يا حاج … انت زلمه عاقل … وغير مقبول منك تحط راسك بروس أولاد جهال؟ … والله ما بتروح من هان زعلان.
الحاج عبد الرؤوف: أنا حلفت بالطلاق لأطالبكم بالحق على التهمه اللي رماني فيها ابنك، صحيح اللي قاله المثلخير لا تعمل شر لا تلاقي) فوق المعروف اللي عملته معكم بتجبير إيد ابنكم بتتهموني بالمسؤولية عن قطع إيده، مع أنكم

بتعرفوا مين قطعها…الدكاتره قطعوها في المستشفى وهاي هم شاهرين ناهرين ومش متخبيين(صحيح انه اللي بيستحوا ماتوا).
أبو كامل: وحّد الله يا حج عبد الرؤوف، حقك عليّ وارجع معي هداك الله للمظافه وان شاء الله ما بتطلع إلا راضي..أي والله شانك كبير عندنا.

وبعد تقبيل رأس الحاج عبد الرؤوف مرات كثيرة قال:
لعنة الله على الشيطان الرجيم، لأنك رجل طيب يا أبو كامل ومن أجل خاطرك لحالك رايح أرجع معك.
أبو كامل: بارك الله فيك …. وأهلا وسهلا فيك يا رجل، وكامل مثل ابنك(والماعون الكبير بيسع الماعون الصغير).
الحاج عبد الرؤوف: مليح اذا صار كامل مثل ابني، والله يا زلمه لو ان ابني لا سمح الله بيتكلم مثل كلام كامل، لأقطع لسانه.
عاد أبو كامل والحاج عبد الرؤوف وجلسا في المضافة، بينما كامل يجلس غاضبا وقد اظلمت الدنيا في وجهه، خصوصا وأنه رأى أطفالا يتقافزون ويلعبون، وأخوه خليل يقرفص قرب البيت حزينا يراقبهم، لا يعرف أيّ مستقبل ينتظره، فردد في داخله وهو ينظر الى الحاج عبد الرؤوف(صحيح انه اللي بيستحوا ماتوا) فهذا الرجل(الذنب ذنبه والصوت صوته) ومع ذلك ما بيسكت ولا بيخجل.
التفت أبو كامل الى ابنه كامل وقال: قوم يا ولد وبوس راس عمّك الحج.
كامل: ليش أبوس راسه؟ لأنه قطع إيد خليل؟
وتداخل صوت أبي كامل وهو يقول: يقطع الله لسانك ما أطوله! يا ولد، وصوت الحاج عبد الرؤوف يقول: الحق مش عليك… الحق على أبوك اللي عملت له شان وقيمه ورجعت معه، وتركك تتكلم مثل المجانين.
ومدّ يده ليتناول حذاءه يريد الانصراف، الا أن أبا كامل هجم عليه مانعا إياه من المغادرة.
فقال كامل : خلّيه ينصرف يابا … وأنا باقول امامكم … والله ان عاد لتجبير أي شخص وعلمت.. لأشكي عليه للشرطة، فهذا زلمه مجرم جاهل ما بيعرف شو بيعمل.

فتناول أبو كامل حذاءا بجانبه، وقذفه باتجاه كامل، فأصاب الحذاء صدر كامل …. فترك الجلسة غاضبا وانصرف.
*************
والدة خليل تلبس السواد حدادا على يد ابنها المقطوعة… تنظر الى الفضاء البعيد فترى الشمس كتلة سوداء فاحمة، رغم سطوعها في الصيف القائظ … وتتمنى لو أن يدها هي التي قُطعت،وبقيت يد ابنها خليل، تنظر من بعيد الى الحاج عبد الرؤوف فتراه شيطانا على شكل غول، يلتهم ضحاياه دون رأفة … ولا أحد يردعه فتردد قائلة:

حسبي الله ونعم الوكيل عليك يا حج عبد الرؤوف … ولا حول ولا قوة الا بالله … وتلقي نظرة على ابنها فتراه مسكينا بائسا، وتتصوره في قادم الأيام رجلا فقيرا منبوذا لا حول له ولا قوة …. فتحتضنه باكية وهي تحذره من اللعب مع الأولاد خوفا عليه ان يقع مرة ثانية، فتصاب يده السليمة-لا سمح الله-.
***********

تمر عطلة المدارس الصيفية سريعا، ويعود الطلبة الى المدارس، محمد شقيق خليل في الصف الأول الابتدائي، وأخوه صالح راسب في هذا الصف، وابن العم سميح في الصف الأول ايضا، والمدرسة لا تقبل خليل لأنه لم يبلغ السابعة من عمره حسب القانون، فهو دون السادسة ببضعة أشهر.
فيتبعهم خليل الى المدرسة، يدخل غرفة الصف المستأجرة من أحد الجيران، فيطرده المعلم لأنه غير مسجل ….. يخرج ويقف عند النافذة يراقب ويستمع الى ما يقوله المعلم … يحاول المعلم طرده وابعاده عن النافذة، فيهرب قليلا ثم لا يلبث ان يعود وكأنه يستهوي اللعبة … فملّ منه المعلم وتركه … ويبدأ المعلم الحصة كاتبا على اللوح الخشبي الأسود بالطبِشورة: راس … ويقول وهو يشير بعصا الى أحرف الكلمة: الحرف الأول راء … انظروا اليه … وانظروا كيف نكتبه .. ويرسم اشارة الفتحة فوقه، ويقول هذه فتحة … ويشير الى الألف ويقول: … هذه التي تشبه العصا ألف …. والحرف الثالث سين … فالراء عليها فتحة وبعدها ألف نقولها را … ونلفظ السين بعدها فيصبح لدينا كلمة راس …. مثل رأس ذلك الشرير الذي يقف عند النافذة، وجمع راس هو روس ويركز على الواو ….. وهكذا … ثم يطلب من أحد الطلاب أن يكتب حروف الكلمة على اللوح … وهكذا…. ويردد الأطفال خلفه ر+ا را وبعدها س تصبح راس، ويمسح المعلم اللوح ويعيد كتابة الحروف غير مرتبة… فيضع حرف السين في البداية وبعده الراء وبعدها الألف …. ويسأل مشيرا الى السين .. ما هذا الحرف؟ فيقول الطلاب را…. ، بينما خليل يجيب من خارج النافذة سين وراء وألف …. وعندما مسح المعلم اللوح وكتب من جديد س+ا+ر لم يعرف التلاميذ

الحروف، فأجاب خليل من خارج النافذة … سين وألف وراء، ثم قالها كلمة (سار) فغضب المعلم منه، وأغلق النافذة رغم أن الطقس حار، فذهب خليل الى النافذة المحاذية للشارع، وكانت أعلى من قامته، فتسلق ممسكا بالحماية الحديدية وعاد يجيب دون استئذان على كل سؤال يطرحه المعلم .
في اليوم التالي عاد المعلم الى راس …. روس …. وفي اليوم الثالث انتقل الى دار … دور وهكذا … وخليل يستمر في الدوام خارج النافذة، ويجيب بدون استئذان قبل التلاميذ إجابة صحيحة.

عندما شرع المعلم في درس الحساب علّم الأطفال كيف يكتبون من العدد واحد وحتى تسعة … فاستوعبها خليل بسرعة فائقة ..وتعلم كيف تكتب عن ظاهر

قلب، وبدون ترتيب … ثم تعلم جدول الضرب من واحد الى عشرة … وعندما يعود الى البيت … كان يجلس مع أخيه صالح…وينسخ الدرس على أوراق دفاتر مستعملة من قبل اخوانه في سنوات سابقة.

حوالي منتصف شهر تشرين الثاني …. أمطرت السماء ، وخليل يلبس (البيجاما) التي اشتروها له وهو في المستشفى،تلك (البيجاما) التي اصبحت

رثة،وتغطيها رقع من أقمشة بالية متعددة الألوان … فأشفق عليه المعلم وأخبر المدير بقصته … فقال المدير:

دع هذا الأكتع يدخل الى الصف ولا تسجله… فان نجح سنسجله في آخر العام الدراسي، ونرفعه الى الصف الثاني، وإن رسب سنسجله وسنتركه في الصف الأول .

في الصف شعر خليل بسعادة غامرة … فقد أجلسه المعلم بجانب أخيه صالح وطالبين آخرين … وبما أن المقعد لا يتسع الا لثلاثة طلاب تجاوزا … فقد حشره قرب النافذة، وكلما طلب المعلم كتابة كلمة على الدفتر، لم يكن متسع لدفتره على الطاولة، فكان يقف ويكتب على النافذة… ويواصل المعلم شرح الدروس الجديدة…يسأل الطلاب، فيرفعون أيديهم كي يسمح لهم المعلم بالاجابة، باستثناء خليل فلم يعد يرفع يده، ولم يعد يجيب بلا استئذان، وعندما يفشل التلاميذ في معرفة الإجابة الصحيحة، يحيل المعلم السؤال الى خليل فيجيب عليه اجابة صحيحة بأدب جم… ويسأله المعلم قائلا: ما دمت تعرف الأجابة فلماذا لا ترفع يدك عندما أسأل؟ فيطأطئ خليل رأسه ولا يجيب.
عند انتهاء الفصل الأول، وبغياب معلم الصف وزع معلم الرياضة البدنية الشهادات على طلبة الصف الأول وقرأ الأسماء:

صالح منصور الأول على الصف… صفقوا له… هذه طابة جائزة له.
عبد الله نعمان الثاني… صفقوا له ..
محمود محمد … الثالث ..
وهكذا ….
خليل منصور الثاني عشر على الصف.
بعد انتهاء عطلة الفصل الأول وبينما التلاميذ يلعبون في ساحة المدرسة الوعرة، لم يسمح صالح لأخيه خليل باللعب معه في الطابة ….فرآه معلم الصف وقال له:
أعطه طابته.
فقال صالح:
هذه طابتي فأنا الأول على الصف.
فالتقط المعلم الطابة، واحتفظ بها، وطلب من صالح وخليل أن يحضرا شهادتيهما، وقام بتغيير الشهادتين، فالأول هو خليل والثاني عشر هو صالح، فقد أخطأ المعلم في أسماء الأخوين .. وأعطى الطابة لخليل الذي حملها مع الشهادة فرحاً.

أثناء عودتهما الى البيت أمسك صالح خليلاً وأشبعه ضرباً .. وأخذ الطابة منه عنوة .. فعاد خليل الى البيت باكياً .. فغضبت والدته وحاولت اللحاق بصالح لضربه ثأراً لابنها، غير أنه هرب.

*********
نام خليل ليله سعيداً، وأثناء النوم جاءه الشيخ ذو اللحية والملابس البيضاء، واصطحبه معه، فطارا في الجو، الشيخ يتقدم، وخليل يتبعه، … يطير بسهولة تامة، يُحلق في الجو بخفة ورشاقة، يرى الأرض تحته بعيني صقر، يُحلق فوق أترابه ويلوح لهم ويحادثهم … يحاولون اللحاق به فلا يستطيعون … قطع مسافات طويلة دون عناء .. الى أن وصلا قمة جبل المكبر … فطلب منه الشيخ الطيب أن يحطا هناك… وهناك انفتحت لهما الأرض .. فنزلا درجاً عريضاً مهندساً بطريقة عجيبة .. وما لبثا أن وصلا مدينة جميلة .. فيها أبنية أنيقة متعددة الطوابق .. وأسواق فيها ما تشتهيه الأنفس، تقع على شاطىء بحر جميل .. فقاده الشيخ الطيب الى حانوت يبيع ملابس فاخرة .. واشترى له بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وقميصاً أبيض … فارتداها ورأى نفسه شاباً يافعاً … ثم تجولا في جامعة فيها كليات مختلفة .. فقال الشيخ الطيب لخليل:
بإمكانك ان تدرس في أيِّ كلية تريد يا بنيّ … فاحتار خليل في الإجابة .. ثم قاده الشيخ الطيب الى عدة مكاتب فاخرة يعمل فيها رجال ونساء أنيقون … وقال له بإمكانك أن تختار أيّ مكتب يا بنيّ كي تعمل فيه … فرعي الأغنام وفلاحة الأرض ليست لك، وفي هذه اللحظة استيقظ خليل وابتسامة عريضة ترتسم على محياه.

***********

في الصباح أخبر خليل والدته بأنه سيدرس في الجامعة، وسيعمل موظفاً كبيراً في احدى الوزارات ..
نظرت والدته اليه باشفاق .. وقالت: ان شاء الله يا بنيّي عندما تنهي المدرسة بتدخل الجامعة، وبتتعلم وبعدها بتعمل اللي بتريده … وشرع يحدثها عن العمل في المكاتب، وعن السكرتيرة الجميلة التي ستقدم له القهوة والشاي، وعن المواطنين الذي ينظرون اليه باعجاب وهو يوقع لهم معاملاتهم.
فقالت له والدته:
انتبه لدروسك يمّه في المدرسة… يا بنيّي دشرك من هذي الأمور الله يرضى عليك، وبعد ما تخلص مدرستك ان شا الله بتصير ملك.
فرد عليها: إنتِ مش مصدقه …بس يمّه والله هذا هو الصحيح…والله ما كذبت عليك في كلمه.
-استغفر الله العظيم يا ولد…لا تحلف بالله كاذب ولا صادق..ودشرك من هالحكي الفاضي.

*********

في منتصف شهر كانون الثاني ابتاع أبو كامل أحذية كبساطير الجنود لبناته، غير أن نعالها من كاوتشوك دواليب السيارات، في حين ابتاع للأبناء الذكور(صنادل) نعالها أيضاً من الكاوتشوك، فالصندل ثمنه خمسة قروش، بينما ثمن (وطا) البنات سبعة قروش، فالأولاد يتحملون البرد على عكس البنات…
وعندما عاد خليل من المدرسة لم يقبل الصندل…بكى بمرارة لأنه يريد(وطا) مثل التي تنتعلها أخواته، وهدد ألا يذهب الى المدرسة بدونه، بل حاول الفرار للالتحاق بوالدته مع الغنم حيث يسكنون في شعب الزبدة في البرية، ولم يقبل الوعود التي قطعوها له بشراء(وطا) له في الصباح، ولما بقي على اصراره أعطوه(وطا) أخته هيفاء التي تصغره بعام، فثنى أصابع قدمه في(الوطا) حتى انتعله، ثم شرع يركض على غير هدى كمهر منجفل… ركض رغم الآلام التي أحس بها في أصابع قدمه…عند الغروب خلع(الوطا) ووضعه فوق رأسه، فحص أصابع قدميه، فرأى الدماء تسيل منها، خصوصا ابهام القدم اليمنى، فلم يأبه لذلك، ونام فرحا، فهذه أول مرة في حياته ينتعل حذاء غير الصندل.
***************
استيقظ الأخوة صباحا، مستعدين للذهاب الى المدرسة، باستثناء خليل فقد بقي في فراشه تعبا من تأثير حرارة جسمه المرتفعة، حثته زوجة أبيه على النهوض، فتحامل على نفسه وهو يفحص أصابع قدميه المتورمة، ارتدى بنطاله وقميصه، وخرج حافي القدمين في جو عاصف وماطر، وسط برك المياه المتجمعة في

حفر الطريق، فرآه الأستاذ داود وأمسك به، وضع يده على جبينه، فأحس بحرارته المرتفعة رغم برودة الطقس، اصطحبه الى غرفة المدرسين وأعطاه حبتي اسبرين، ونظف قدميه من الطين العالق بهما، والجروح بسائل مطهر، وضمد جراحه بالشايش الأبيض الطبي خصوصا ابهام القدم اليمنى، وأمره بعدم السير في الطين، وفي تجمعات المياه وهو يسأله عن والديه، فيجيبه: مع الغنم في البرية يا استاذ.
فيرد الأستاذ على ذلك قائلا: اسأل الله ان يريحك من والديك ومن أغنامهما. أمضى خليل بقية العام الدراسي حافي القدمين لا يستطيع انتعال الصندل

أو(الوطا)، والأستاذ داود يقوم بتمريضه يوميا… ولم تشف جراحه الا بعد ان انقطعت الأمطار في نهاية شهر نيسان، وبفضل رعاية الأستاذ داود، لكنها تركت اثارا دائمة مكانها.
**********

في هذا المكان انجبتك يا ولدي، وأشارت الى كهف يمتد مدخله الى جهة الغرب كعنق جمل هرم ، ليمنع دخول مياه الأمطار الى جوفه، كانت بداية المدخل مسقوفة بحجارة غير منتظمة على شكل نصف دائرة، يُخيل لمن يقف تحتها أنها ستسقط فوق رأسه.
أسرع باتجاه الكهف يريد أن يستكشف مكان ولادته، ينزل ما يزيد عن عشر درجات محفورة بصخور جيرية”حثانية”بيضاء اللون، ليجد نفسه في تجويف أرضي شبه دائري، قطره حوالي سبعة امتار، رائحة العفونة والرطوبة تفوح من حناياه، أرضيته ملأى بروث البهائم…وقف في وسط التجويف ينظر الى كل الاتجاهات، اقترب من الجدران ولمسها بيديه، شاهد بعض الجحور هنا وهناك، نبش الأرض بمقدمة حذائه، فتطاير الروث، وانبعثت روائح كريهة، تجاهل صوت أمّه تناديه من الخارج، فدخلت اليه وسألت: شو بتعمل يا بنيّي؟
فأجابها غير مكترث: ولا إشي.
– طيّب خلينا نروح من هون.
استني شويّه بالله صحيح ولدتيني هان؟
أيوه ولدتك هان في الزاوية هذيك، وأشارت الى زاوية الكهف الجنوبية. وساعدتني أمّي وخواتي على الولادة .. أخوك محمد كان ابن سنة عند ما ولدتك وكان نايم قريب مني .. ولدته رابع يوم استشهاد البيك،عشسان هيك ما فرحنا بالمولود الجديد مع انه كان ابني الأول، حملت قبله وأجهضت وأنا في شهري الرابع .
– ومين هو البيك الذي استشهد يمّه ؟
– عبد القادر الحسيني- الله يرحمه- هكذا أجابته.
لم يعن الاسم له شيئاً فقد كان في السادسة من عمره وقتئذ.

وانت كنتِ ضيفه في بيت أهلك عند ما ولدتيني ؟
لا ما كنت ضيفه كنت(حردانه) .. الله يسامح أبوك يومها ضربني ضرب حمار ما بحمله، وحلف يمين ما بظل في بيته وأنا حامل في شهري الثامن.
بقيت أنا وخالاتك الثلاث، وسيدك وستّك وخالك الصغير كان عمره ثلاتعشر سنه وقتها، كان طالب في المدرسة وكان ينام بجنب الباب هناك، بس انا وخالاتك بقينا ننام في هذيك الزاوية، وما كنا نسّجري نتنفس، لأن سيدك عصبي مثل المجانين، وما كان يحب سماع صوت البنات، وبقت عنده بقرة حلابه جربا ضعيفة بتعد عظماتها بالعظمه، بقى يحبها أكثر منا، وكان يربطها في زاوية المغارة الشرقية جنب فراشنا حمايه لها من المطر في الشّتا، وحماية لها من

الحراميّه في الصيف .. كانت حياة فقر بعد النكبة، سنوات محل وقحط، وألوف مؤلفه من اللاجيين، والله لولا(عجوة) العراق لمتنا جوع .. كانت البقره مدللة أكثر منا .. بنقدم إلها الميّه، وبنظف مكانها، كنا نجرف وسخها بإيدينا، ونحطّه في تنكه مصديه، وبعدين نكبّه في الأرض برّه ميشان نزبّلها… وسامحه الله كيف كيف كان يضربنا احنا وستك بسبب وبدون سبب.
دشّرنا من هالسيرة يا بنيّي .. هذا موعد عودته من المدينة، واذا رجع وسمعنا بيقيم الدنيا على راسي وراس هالمسخمه سِتَّكْ وما بقعدها.
كانت تتحدث وهي تتلفت باتجاه الباب خوفا من وجود شخص يسمعها، ثم أمسكت بيده وقادته الى الخارج.
تمنّع قليلاً .. لكنه سار معها شبه مكره.

عند مدخل الكهف توقف ثانية وسأل: وولدتيني بدون دايه في هالمغارة مش في المستشفى؟
– من وين يا حسره؟ ما كان وقتها دكاتره ولا دايات ولا مستشفيات…ما بقيناش نعرفهم يمّه يا حبيبي، وما كنا بحاجه إلهم، وسِتَّكْ بتعرف أكثر من الدايه، وأكثر من الدكتور.

صمتت قليلا خوفا من أن يسمعها أحد، ثم تنهدت تنهيدة وكأنها تنفث غيظا دفينا، وقالت والدموع تترقرق في عينيها:
عند ما أجاني الطّلِق، تألمت كثير وما قدرت أصرخ خوف يسمعني، ويبلش يسبّ عليّ، وقلت وخاطري مكسور: يمّه ….. بدي ألد …….. فنطّت المسكينه بسرعه.
بس سيدك قال: إن شا الله بتموتي انت والسعدان اللي في بطنك يا لعينة الوالدين … وربنا يسّر وزقيتك في أقل من ربع ساعة، وستك وخالاتك بقين يسمين بالله ورسول الله ويصلين على النبي، ويمدين إيديهن للسما ويستدعين، وسيدك- الله يسامحه- بقى يسب ويلعن وحتى يكفر- استغفر الله العظيم يا ربي- وأخوك محمد يصرخ بطول صوته، وكل ما سمع صراخي يزيد ويصرخ من قحف راسه يا

ميمتي، وكان سيدك يوزع المسبات اللي من السير وتحت عليّ وعلى ستك وعلى خالاتك وعلى أخوك ……أجاني الطلق بعد صلاة العشا بشويه، وعند ما زقيتك وبلّشت تصرخ …من أول صرخة أنا انبسطت، وحمدت ربي بسرّي وقلت:الحمد لله إنه ولد، يقطع البنات وعيشتهن في هالبلد، بعد ما قالت ستّك ولد …ولد يا فاطمة ….ولد… مبروك.
فردّ سيدك ان شاء الله يموت هو وللي خلّفوه، “ما نفعناش الرّخ تينفعنا ابنه ”
وفي هذه الأثناء أطلّت الجدّة من الكوخ الذي تسكنه أمام الكهف وقالت:
ليش ما تدخلي يا فاطمه إنت وابنك؟
فأجابت: هينا داخلين يمّه، خليل بدّو يشوف وين انولد …
ما هو شافه كثير يمّه، اذا عاد(طويل العمر)- قالتها ساخرة- وشافكم راح يقلب الدنيا على راسك وراسي.

فقالت الأمّ: بس خليل طفل يمّه وما كان يعرف أنه انولد في هالمغارة.
التفت خليل الى والدته وسأل:
طيّب.. ليش ما رجعتي لدارنا في المكبر قبل ما تلديني يمّه؟
– أبوك ارسل عمّك الكبير، وكم من زلمه من وُجَهاء الحاموله ع شان يردوني… بس سيدك رفض، وحلف أيمان- بتوخذها على قتيل- ما بردني إلا اذا أجا أبوك بشحمه ولحمه، لأنه اللي بدّه مَرَتُه بيجيها بنفسه حسب رايه، ولأن والدك كان مديون إلُه بنص دينار، وسيدك بدّه يستده قبل ما أعود.
وليش ما أجاش أبوي يمّه؟
– رجع عمّك عبد الباري مره ثانيه وقال لسيدك:

أخوي منصور ما بيتذكر إنه مديون لك …. فقاطعه سيدك قبل ما ينهي حديثه وقال: عند ما ييجي بأبين إله الحساب، وراح يعترف فيه غصب عنه … فقال له عمّك:
فاطمة على وجه ميلاد، خلّيها ترجع لزوجها وبيتها وأنا بأكفل لك دينك … ورجع سيدك يحلف أيمان من جديد: ما بترجع الا مع زوجها، وما بترجع قبل ما يدفع نصّ الدينار.

ومصباحية ما ولدتك أجا أخوك صالح ابن مرة أبوك .. بقى ابن سبع سنين يا رب لا تعينّي على زلل وقال:
أبوي حلم إنه فاطمه ولدت ولد وبقول إلكم إن كان الحلم صحيح سمّوه(خليل) ودار ظهره وشرد.
وفي هذه الأثناء رأينا جدّي عائدا على قدميه، رأيناه وهو ينحدر من قمة الجبل المقابل، فأمسكت أمّي بيدي ودخلتني للخشبيه وطلبت مني أن أسكت، وأن لا أتحدث في الموضوع مطلقا.

وعندما اقترب من الكوخ انطلق صوته هادرا: يا صبحه ….. الله لا يسعد صباحك ….. فقفزت جدّتي وأمّي مذعورتين، وهما ترددان: نعم … فقال وهو يلقي(حلس)حمار على جدتي: لا أنعم الله عليكن يا وجوه النحس … اقتربت منه أمّي، وأمسكت يده اليمنى، قبلتها ووضعتها على جبينها وسط شتائم لا تنقطع…. كانتا ترتجفان مذعورتين، في حين كانت الشتائم تنهال من شفتيه كسيل المجاري.
صلّي على النبي يا رجل قالت جدتي وتعال اجلس هان لأعمل لك ابريق شاي ..
فرد عليها: ما تمشي للنبي في طريق يا وجه النحس، لعن الله أبوك وأبو اليوم اليوم اللي شفتك فيه.
فسكتت المسكينة لا تلوي على شيء.
الوقت عصرا، والشمس تزحف متثاقلة باتجاه الغرب، والظلال تمتد على الجانب الشرقي للكوخ …. جلس الجدُّ على كيس من الخيش في الظل خارج الكهف كقرد يتأهب للهجوم …. في حين انزوت أمّي وجدّتي في الكوخ كأرنبين بللهما المطر بعد مطاردة من ثعلب ماكر، فانهكهما التعب قبل أن يضل طريقهما.
أشعلت الجدة الحطب ووضعت عليه ابريق الشاي … وكانت تتهامس مع ابنتها بأنه من المؤكد قد ذبح الحمار كعادته، فحمل(الحلس) وعاد.. فهو دائما يذبح الحمير …. ويا ويل الحمار الذي يقع بين يديه …. فإذا لم يفهم الحمار ما يدور في خلده، فإنه يستل(شبريته) التي يتمنطق بها دائما، ويطعنه عدة طعنات في رقبته، وعندما يسقط الحمار على الأرض يذبحه من الوريد الى الوريد كما يذبح الخاروف ….و بعدها يعود ليصب جام غضبه على زوجته وبناته.

كان خليل مذهولا مما يرى ومما يسمع … كان خائفا أن يذبحه وأمّه وجدّته كما ذبح الحمار …… فلم يستطع حراكا وقلبه تتسارع دقاته، وعندما غلى الشاي، سكبت الجدة كأسا لابنتها، وأخذت الابريق وسكبت كأسا أخرى لزوجها…. سكبت الشاي في كأسه وقالت: تفضل يا أبو نايف … فرد عليها: انصرفي لعن الله والديك.
فعادت الى الكوخ ودموعها تنساب على وجنتيها …. نهضت الابنة فاطمة من مكانها حاملة كأس الشاي، وضعته أمام والدتها ….. وقالت:
اشربيه يمّه، الله يكثر خيركم، بدّي أرجع أنا وابني لبيتنا قبل الغروب ……
فقالت الأمّ: اشربي كاس الشاي يا بنيتي واسقي شويّه منه لإبنك .
فقالت فاطمة: لا بدناش… السلام عليكم.

فقال الجدّ من الخارج: أتركيها تنصرف هي والمسخوط اللي معها ….. الله لا يردها ولا يرده …. فخرجت المسكينة باكية وخليل يمسك بطرف ثوبها غير مدرك أو واع لما يدور …. غير أنه كنت غاضبا من هذا الجدّ.
**********
وفي الطريق الى بيتها الذي كان يبعد حوالي كيلومتر عن بيت والديها، كانت فاطمة تمسك يد ابنها خليل اليسرى بيمينها، فسألها: وبعد ما ولدتيني يمّه في هالمغارة المعفنه كيف عُدتِ لبيتنا؟
فحكت رغم حزنها وقالت:
بعد ما سمع والدك إنّي ولدت ولد، أجا هو وعدد من وجوه الحاموله تيردني، وجاب إلك ولأخوك كسوة وإلي ثوب حَبَرْ مع تكاليفه وخرقه بيضا، وأربع قوالب حلاوة، كل قالب كيلو … وأربع علب حلقوم … واستقبلهم سيدك وتكشيرته بتقطع الخميره من العجين.
وعند ما جلسوا … نادى خالك الصغير، وطلب منه يحضر دفتر الحساب، ويقراه لوالدك وللرجال اللي معه … وتبيّن أن سيدك كان يسجل ثمن حليب البقره اللي كان يشربه أخوك محمد، وثمن نصّ كيلو حلاوه … والمجموع نصّ دينار، ثم التفت سيدك لأبوك وقال: إفهمت الحساب يا منصور وللا لأ؟ هات نصّ الدينار؟
فقال له أبوك: حاضر .. قبل سنة استدنت مني دينارين، وما رجعتهن … وما طالبتك، وما كنت بدّي أطالبك، لكن بعد ما لقيتك شاطر في الحساب، اخصم نصّ الدينار، واعطيني الدينار ونص المتبقية، فانخرس سيدك، وما حكى ولا كلمه، ثم نادى: يا فاطمة … خذي أولادك وانصرفي مع زلمتك.
فقالت سِتَّكْ: لحظة حتى يشربوا الشاي يا أبو نايف.
فرد جدك: شِربوا وللا ما شِربوا لا ردّهم الله.
فقام أبوك والزلام اللي معه ورجعنا مع بعض … ومن هذاك اليوم حلفت يمين بالله ما برجع لبيت أبوي إلا ضيفه، ولولا سِتَّكْ فيه كان عمري ما خشيته، بس أبوك كمان مش سهل فعنده المره والقندره واحد …. لكن نار أبوك أفضل من جنة سيدك.

وعندما اقتربا من بيتهما أوصت فاطمة ابنها خليل بأن لا يتحدث شيئا عمّا رأى وسمع في بيت جديه.
******
براون يصطحب خليلا مساء ليريه لندن ليلا، فانبهر خليل من اضاءة الشوارع، ومن الاضاءة التي تتراقص، ودهش من هذه البلاد بنسائها شبه العريات، وأشجارها وحدائقها المكسوة بالاخضرار…قاده براون الى ناد ليلي، تدخله بممر ضيق الى أن تصل مسرحا فيه جمهور من النساء والرجال، وعلى الخشبة فتاة ترقص على موسيقى صاخبة، وتخلع ملابسها قطعة قطعة، الى أن تصبح عارية كما ولدتها أمها، وما تلبث أن تنزل وسط الجمهور…تجول بين الطاولات…تعرض جسدها على الرجال…ومن يستلطفها تصطحبه الى الداخل، في حين تعقبها فتاة أخرى

ترقص بنفس طريقتها…صمت خليل صمت أهل القبور…ولم يصحُ الا على براون يسأله إن كان يريد اصطحاب فتاة من هؤلاء الى ما وراء الكواليس…فانحبس الكلام في فم خليل ولم ينطق ببنت شفة…واذا ببراون يغمز احدى الفتيات مشيرا الى خليل…فاقتربت الفتاة راقصة من خليل…تمايلت حوله…اقتربت منه…ضمت ثدييها بيديها وقربتهما من وجه خليل…فاستغرب فعلتها وثورة شهوانية تجتاح جسده..لكنه لم يحرك ساكنا…فماذا ستقول عنه السيدة انطوانيت التي تعتبره كابنها لو فعل شيئا مع هذه الحسناء التي تبيع جسدها؟ ولم ينتبه الا وبراون يراقص فتاة …يضمها الى صدره…تقبله …ويقبلها ثم يغيبان خلف الكواليس…جلست الفتاة قبالة خليل وقالت: هاي..اسمي ستيفاني..وسألته: ما اسمك؟
فأجاب: خليل.
فردت(كاليل) اسم جميل.
-اسمي خليل وليس كاليل.
أوكي كاليلnice name
– نامت على قلبك مدحلةwhat do you want
وسألته أن يطلب لها مشروبا…ففعل دون وعي…رفعت كأس الويسكي الى شفتيه…الا أنه رفضها وهو يقول: هذا حرام…حرام… قهقت بصوت كخرير مياه جدول عذب في طقس ربيعي مشمس…مدت يدها على فخذه فأبعدها بلطف وهو يتمنى لو انها تستمر.
عاد براون وفتاته وجلسا على نفس الطاولة…يتضاحكان ويتبادلان القبل….تارة يضمها الى صدره، وتارة تضمه الى صدرها…التفت براون الى خليل وسأله:
ما بك يا أخي؟…لماذا أنت ساكت؟ هذه الفتاة تريد صحبتك…لماذا لا تتحدث معها؟…ألا يعجبك جمالها؟
– اذا كانت تريد صحبتي فلتقابلني غدا في مكان غير هذا المكان.
تحدث معها وقل لها أيّ شيء؟
ابتسمت الفتاة ووجهت حديثها لبراون قائلة: يبدو أن صاحبنا بكر..لم يعرف النساء من قبل…وهذا ما أبحث عنه.
اذا تدبري أمره.
اقتربت من خليل …طوقت رقبته بذراعيها وقالت:هل أنا جميلة يا عزيزي؟
– بكل تأكيد قالها خليل بصوت مرتجف.
فطبعت قبلة على شفتيه وهي تقول: يا حبيبي.
لم يصدق خليل ما يجري…وتساءل في نفسه: من أين تعرفني هذه الفتاة حتى تعتبرني حبيبها؟ ما هذه البلاد؟ وما طبيعة أهلها؟ وماذا سيقول والداه لو علما أين يجلس الآن؟ ومع من يجلس؟ غير أنه التفت اليها وقال: اذا كنت تريدينني حقا فلنلتق غدا وحدنا.
لا بأس أعطني عنوانك.

أعطاها براون عنوان بيتهم…فقالت غدا في الواحدة ظهرا سآتي اليك لآخذك معي..فكن جاهزا…وأضافت: هل يزعجك جلوسي بجانبك؟
-لا…لا..أهلا وسهلا بك.
عادا- براون وخليل- الى البيت في الثالثة صباحا…اتجه كل واحد منهما الى غرفته…براون فرح ثمل…وخليل بائس حيران غير مستوعب ما جرى ويجري…عاد الى غرفته…استلقى على سريره…واستغرب أن والدي براون لم يكونا في الانتظار لتوبيخه أو ضربه …فكر كثيرا بـ ستيفاني وجمالها..فهي بيضاء البشرة شعرها أشقر ذهبي ينسدل على كتفيها كسنابل القمح في موسم الحصاد..عيناها ناعستان تتقدان حيوية …فمها صغير …شفتاها رقيقتان تنبسان عن عقد لؤلؤ ناصع البياض..جسمها مشدود…لا ترهل فيه…صدرها ناهد…خصرها نحيل..امرأة مغرية بكل المقاييس..وتساءل:
أين والدا هذه الفتاة؟ ولماذا يتركانها تسهر في نادٍ ليلي، وتتعرى راقصة أمام مئات الرجال دون حياء؟ بل على العكس كانت فرحة..غفرانك ربي..لو كانت هذه الفتاة في بلادنا، لتركها والدها حبيسة البيت، ولتسابق أبناء علية القوم للزواج منها…وما طبيعة العلاقة التي تريدها مني؟ هل تريدني زوجا أم مجرد علاقة عابرة؟.ذهب الى الحمام …مارس العادة السرية…لكنه لم يهدأ…دعا الله كثيرا أن لا يقع في الحرام..وصلى ركعتين..ومع ذلك بقي متوترا خائفا مما يخبئه له الغد…حاول النوم على أمل أن يأتيه الرجل الطيب ذو اللحية البيضاء، ويخرجه مما هو فيه من حيرة..لكنه لم يستطع.

في الثامنة صباحا نزل الى الصالون بعد أن سمع مضيفيه يضحكون..وما أن رأته السيدة انطوانيت حتى ضمته الى صدرها، وطبعت قبلة على جبينه وهي تسأل:هل استمتعت في الليلة الماضية؟ يبدو أنك اكتشفت عالم النساء..فلا تخجل يا بنيّ…هذا أمر جيد…انكمش على نفسه…احمر وجهه…سرت قشعريرة في جسده ولم يتكلم شيئا.
غادر والدا براون البيت الى عملهما، وقبل ان يغادر براون قال لخليل: سأتركك في البيت وحدك…وعندما ستأتي ستيفاني في الواحدة خذها الى غرفتك أو اخرج معها ولا تخف شيئا…هي ستتدبر الأمر… وعندما تنتهيان ستعيدك الى البيت…العادات هنا مختلفة عن عاداتكم…لا أحد يحاسب أحدا…ولا أحد يتدخل في شؤون غيره..بقي لك أسبوعان قبل ان تعود الى بلادك فاغتنمهما..انها فرصة لا تعوض…باي… واغلق الباب خلفه.
استلقى خليل على كنبة وهو يلعن اليوم الذي دخل فيه بريطانيا..وتساءل:
هل أحبتني حقا هذه الفتاة الحسناء؟ وماذا أحبت في فتى أكتع فقير مثلي؟ وهل لا يوجد رجال في بريطاني يشبعون نزواتها؟ وأي أمّ أنطوانيت هذه التي تسألني ضاحكة عن اكتشافي لعالم النساء؟ أين أنت يا فاطمة أيتها الأمّ الرؤوم؟ آهٍ لو تعلمين بحالي…هل يريدون سعادتي أم الايقاع بي؟ أم أن هناك سرّا ما يبغون تحقيقه على ظهري؟ هل يريدون قتلي أم وضعي في السجن؟ أم يخططون لمنعي من العودة الى بلادي؟ يا إلهي ما الحل؟ وغفا مرهقا تعبا …ولم يستيقظ الا على رنين جرس الباب..حيث كانت ستيفاني تقف أمامه باسمة…وما أن رأته حتى طوقت رقبته بيديها…ضغطته الى صدرها وأشبعته تقبيلا على شفتيه، ودخلا البيت وهي تعانقه…جلست بجانبه..فسألها: هل أنت عذراء؟
-ماذا يهمك هذا؟..على كلٍ أنا لست عذراء.
أحسن.. أجاب خليل.
– وأنت…هل أنت بكر؟
وهل للرجال بكارة؟
– أقصد هل سبق وأن ضاجعت امرأة؟
لا…لا..أعوذ بالله.
– ممتاز… فهذا ما أبحث عنه…وأضافت: مستر(كاليل) هل تريد أن نذهب الى غرفة النوم أم الى مكان آخر؟ أقترح أن نذهب الى غرفة النوم أولا وبعدها سنقرر..أمسكت يده اليمنى واقتادته الى الغرفة…مشى مسلوب الارادة وكأنه لا يعي شيئا… وهناك خلعت ملابسها وهو جالس على حافة السرير كعذراء حييّة…تقدمت منه تقهقه…لوت يدها اليمنى على رقبته…ألقته ممددا على السرير تقبله وتخلع ملابسه قطعة قطعة…نبض قلبه يتسارع …حمرة تعلو وجنتيه…العرق يتصبب من جسده…حاول أن يواري عورته…لكنها كانت سباقة…انتهى كل شيء وخليل تحت صدمة شلّت دماغه عن التفكير…لم يصحُ إلا وهو يسبح في بحر غرامها.

ستيفاني في غاية السعادة، ترقص في الغرفة كغزال يتنطط في واحة خضراء وسط صحراء واسعة…ستافجئ زميلاتها بأنها التقت رجلا لم يعرف النساء قبلها…رجل جاءها على حصان طائر من منطقة أهلها يعانون كبتا رهيبا…وما أن يعرفوا امرأة حتى يختبرون ذكورتهم بوحشية زائدة…وهذا ما لم تعهده في رجال بلادها…لكن فتاها غِـرّ انكمش على نفسه خجلا…تركها تتلاعب بجسده كيفما شاءت دون أن يواجهها بنظراته….حتى عندما قبضت بشفتيها على شفتيه أشاح نظراته الى سقف الغرفة باحثا عن حـرمانه في بلاده البعيدة…أخذت منه ما تريد باندفاع كبير…وأعطاها ما تريد على استحياء…فتى فحل ستدربه على يديها كيفما تشاء…ستسلبه عقليته الذكورية في الوصال مع النساء.
خليل يتصبب عرقا…حاول أن يواري سوأته وسط قهقة ستيفاني التي عادت اليه تقبله…عذاب الضمير يملأ دماغه وصدره…ماذا سيقول والداه ؟ وماذا سيفعلان به اذا ما علما بفعلته؟ وماذا سيفعل به معلموه؟ وماذا سيقول عنه زملاؤه وأبناء قريته؟ وكيف سيحرقه الله في نار جهنم؟
وهل ستتركه هذه الفتاة -التي سلطها الشيطان عليه- وشأنه؟ وهل سيجبره ذووها على الزواج منها أم سيقتلونه وسيقتلونها أم ماذا؟
أمسكت ستيفاني يده …سحبته عن السرير…طلبت منه أن يرتدي ملابسه في الوقت الذي شرعت فيه بارتداء ملابسها على عجل…نزلا الى الصالة…ذهبت الى المطبخ، وأحضرت من الثلاجة علبتي جعة وكأسين، مدت كأسا لخليل فاحتساها دفعة واحدة….وقالت:
أنا محظوظة بك يا خليل لقد كنت رائعا…سأدور بك في بعض أحياء لندن، وسنتناول العشاء في بيتنا مع والديّ…سيسعدان بك كثيرا عندما يتعرفان عليك…وبامكانك أن تنام معي في غرفتي وعلى سريري.
– وماذا سيقول والداك؟ ألا يغضبان من ذلك؟
على العكس سيفرحان بك لأنك أسعدتني.
– سعدان يركبك ويركب اللي خلفوك قالها بالعربية.
– ماذا تقول؟
– لا شيء.

– هل تشتمني؟
– لا.

السعادة عند بعض الشعوب قد تكون سببا للهلاك عند شعوب أخرى….السعادة في هذه البلاد عار في بلادنا قد لا يمحوه الا الدمّ الذي يورث عارا لأجيال قادمة…هذا ما يفكر به خليل..ترى ماذا سيقول أبو كامل لو علم شيئا عن فعلتي…دائما يقول إياكم والمسّ بأعراض الناس…ومن سيجلب لي العار سأذبحه كما أذبح الخاروف…لكن أعراض الناس هي التي اعتدت عليّ يا أبا كامل ومعي شهود على ذلك، وعلى مرأى ومسمع من يفترض أن يحموا هذه الأعراض…وعندما سأعود الى بلادي…هل سيعلم منصور وفاطمة أنني لم أعد بكرا ؟…وهل للذكور بكارة ؟..تحسس جسده ليرى ان فقد عضوا من أعضائه…البكارة للنساء فلماذا سألتني ان كنت بكرا أم لا ؟…وهل يعرف الكبار بكارة الرجال كما عرفتها اللعينة ستيفاني…ان كان ذلك كذلك فان منصور وفاطمة سيذبحانني فور رؤيتهم لي بدلا من أن يحضناني…يا إلهي ما هذه الورطة التي وقعت فيها ؟
نزلا من السيارة في حديقة الهايد بارك لفت يدها على خصره، وسحبت يده ليلفها على خصرها، كانت جذلى تضحك قهقهة وهي تقبله دون حياء من المارة…عجيب أمر هذه البلاد لا أحد يسأل أحدا عمّا يفعل….فكيف لم يسخطهم الله ؟ سبحانه انه يمهل ولا يهمل…لكنني لن أنجوَ من سخط أبي كامل عندما سأعود.
هل تعلم كم أنا فخورة بك يا كاليل؟ ستكون فخرا لي أمام صديقاتي… فأنت الرجل البكر الوحيد الذي اصطحبته في حياتي، ولي الشرف بأنني من قطف عذريتك…وسأعلمك فنون التعامل مع النساء.
هل تشعر بالجوع؟ دعنا نذهب لتناول الطعام..
-عن أيّ عذرية تتكلمين؟
عن بكارتك.
– وهل للرجال بكارة؟
نعم الرجل يبقى بكرا ما لم يضاجع امرأة.
– وكيف عرفت أنني بكر؟

من تصرفاتك معي …فهذه صفات الرجال الأبكار؟
– وهل زوال بكارة الرجال يورث شيئا عضويا؟
ماذا تقصد؟
– أقصد عند عودتي لبلدي هل سيكتشف والديّ أنني لم أعد بكرا؟
واذا اكتشفوا فماذا يعني هذا؟ قالت ذلك ضاحكة.
– يعني خراب ديار…سيذبحني أبي.
انتفضت مذعورة وسألت: هل أبوك مجنون؟
– العياذ بالله..أبي عاقل جدا..وهو رجل ذو مكانة مرموقة…لكن في بلادنا تمنع العلاقة بين الرجل والمرأة إلا من خلال الزواج.
اذن انتم شعب مجنون.
– لا تشتمي شعبي.
عفوا ما قصدت الشتيمة…لكن لا تخف.. لا أحد سيعرف أنك فقدت عذريتك ان لم تتحدث أنت.
– حتى الأطباء لا يعرفون.
نعم الأطباء لا يعرفون فلا تخف.
-الحمد لله.
وفي المساء طلبت ان يعودا الى البيت، فسألها الى أيّ بيت؟

الى بيتنا طبعا…وسيفرح بك والدايّ.
-وماذا سأقول لأسرتي الجديدة؟
سنهاتفهم ونخبرهم بذلك.
-لا…لا..ربما سيغضبون مني.
لن يغضبوا…وعلى ماذا سيغضبون؟…لم تفعل شيئا يغضبهم.
-لا ..أنا آسف..لا أستطيع أن أنام خارج البيت.
على راحتك…اذن نذهب الى بيتنا ليتعرف عليك والديّ وبعدها سنعود الى بيتكم.
-لا بأس.

دخلت ستيفاني البيت وهي تتأبط خاصرة خليل..تقدمت من والديها وطبعت قبلة على الخدّ الأيمن لكل منهما..وأشارت الى خليل قائلة: my boy friend فرفع الأب قبعته تحية لخليل، ومدّ يده مصافحا، في حين احتضنته الأمّ وقبلته….جلسوا قليلا..كان الأب يطالع مجلة..في حين كانت الأمّ
تسأل خليلا عن بلده وعن القدس تحديدا.

استأذنت ستيفاني من والديها كي تذهب بصحبة خليل الى غرفتها لأن وقتهما ضيق، وطلبت من أمّها أن تلحقهما بكأسي ويسكي…اغلقت باب الغرفة خلفها… وخلعت ملابسها…وعندما طرقت الأمّ الباب طرقة خفيفة باصبعها هبط قلب خليل خوفا، غير أن ستيفاني فتحت الباب مواربة وتناولت الصينية من والدتها وهي تقول: شكرا يا أمّي.
كانت دقائق حمراء في الغرفة…لكن ستيفاني نهضت من السرير …شقت الباب …أخرجت رأسها…نادت: أمّي لو سمحت كأسي ويسكي آخرين.
وانتظرت حتى أحضرت والدتها كأسي الويسكي وخليل حيران لا يفهم هذه العلاقة بين والدين وابنتهما..خرجا من الغرفة بعد حوالي ساعة..واستأذنت ستيفاني بأنها ستذهب مع خليل الى بيته، ولا تعلم ان كانت ستعود أم ستنام معه هناك.

وفي بيت أسرته الجديدة كان كل شيء عاديا عندما دخل خليل وستيفاني التي قالت:
hy Iam khalil’s girl friend فرحبوا بها…شربوا شايا واستأذنت ستيفاني بأنها ستنام مع خليل في غرفته، فأجابوها كما تريدان.
دخلت ستيفاني الحمام…أخذت”دوشا” وخرجت عارية تماما…. قهقت عندما رأت خليل ممدا على السرير بعد أن ارتدى “البجاما” تمددت بجانبه وقالت:
حسنا فعلت
– ما هو الحسن الذي فعلته؟
أنك ارتديت البجاما…فهذا يعطيني فرصة كي أستمتع وأنا أخلع عنك ملابسك قطعة قطعة متحسسة جسمك…هذا شيء يثيرني.
وفي الصباح اصطحبت السيدة انطوانيت خليل برفقة ستيفاني الى العيادة الطبية حيث ركبوا له اليد الصطناعية، ودربوه على كيفية تحريكها…وعندما حركها ضمته السيدة انطوانيت الى صدرها بطريقة أموميّة وقبلته على خدّه الأيمن وهي تقول: مبروك يا بنيّ..بالتأكيد ستساعدك هذه اليد، في حين احتضنته ستيفاني وقبلته قبلة عميقة على شفتيه وهي تقول…انها جميلة يا حبيبي… بينما زها خليل بنفسه.
****
بنى أبو كامل بيت الشَّعر قـرب داره ليستقبل فيه عشرات الرجال من عائلتي مفلح وفليحان، فقد اعتمدوا بيته كبيت يجتمعون فيه للمصالحة أو لـ”الملازمة” على حق عند قاض عشائري…وبعد صلاة العصر مباشرة، كان منصور وشقيقه عبد الباري ورجالات العائلة في الانتظار لاستقبال (الضيوف)…جلس كل فريق في جانب بينما جلس أصحاب البيت بينهما.
طاف كامل بالقهوة على الضيوف وسط ترحيب والده وعمّه بهم.
وقف الحاج عبد الباري…رحب بالضيوف ثانية…وقال: كلكم ابناء أصول وبتعرفوا العادات وحرمة البيوت…بدنا نسمع كل طرف…واحد من كل طرف…ما بنسمح بأيّ اساءة في بيتنا..وللي ربنا بقدرنا عليه بنعمله…ونشا الله بنعمل اللي ربنا بقدرنا عليه…مين طارد الثاني فيكم؟
فقال ابو السعيد كبير عائلة فليحان: احنا يا حج.

– طيب تفضل قول شو اللي بدّك إياه..
استند ابو السعيد وقال: الله يمسيكم بالخير يا جماعة….اول ما نبدا …اذكروا الله…وصلّوا ع النبي.
-لا اله الا الله …واللهم صلي على النبي.
يعلم الله يا جماعة…ومين قال يعلم الله بيكون حالف يمين، مع انه ما لكم عليّ يمين…قاعدين في بيوتنا ساهيين لاهيين… وللا بنت ابو محمود(حرمة)نايف المفلح جايّه صياحها معبّي الدار ومرمسه ومضروبه وشعرها منثور…خير يا سويدة الراي…
– ضربني زلمتي هو وأبوه وطردوني من بيتي واخذوا لولاد مني…
ليش شو سوّيتي يا بنت؟
-والله ومحمد رسول الله ما سوّيت إشي.
وللا هم مجانين ملعونين الوالدين؟
-هذا اللي أجاكم….بس عرفت انه خريوش ابن عمّ جوزي رجع من السعودية… ما هو المسخوط راح يشتغل هناك…وراح نايف يعزمه… وما قِبِل العزيمة وقال: يا جماعة احنا ناس واحد …وللي بروح يدوّر رزق عياله… وبغيب كم من شهـر ما بدّه عزيمه…فقال نايف: عليّ الطلاق من مَرَتي ما فيه عنّك حلّه…حشمتك واجبه يا زلمه…وللا مِقْصِرنا عن خاروف…من خير الله وخيرك كل إشي موجود…
فقال خريوش: سلامة خيركم يا جماعة… وللي فيكم مخبور.
بس نايف رجع ورمى الطلاق مّرة ثانيه….ولما ظلّ خريوش رافض قال له ابو نايف:
نايف طلق مرته ميشان عزيمتك وجاه الله عليك لا تفشلنا.
فقال خريوش: طلقها وللا ما طلقها أنا ما بفتح عليّ باب العزايم ..الحبايب كثار وإجازتي قصيرة.
وعند ما أخذوا منّه لا حق ولا باطل…رجعوا للبيت وقال لي نايف: يا مَره قومي ع دار أهلك…وقلت له خير يا ابن الحلال…فقال: والله ما في الخير من ورا ابن أمّ رياله…رحنا تنحشمه وما بيعرف الحشمه… وهاي انت صرت طالق من وراه..وقلت له انت وابن عمك بتدبروا حالكم وانا والله ما بدشر بيتي وولادي…وللا أبوه بيدخل وبيقول: يا عمّي ع بيت اهلك زلمتك طلّق منك …وما بيجوز مطلقه تظل في بيت جوزها…وقلت حسبي الله ونعم الوكيل…والله ما بطلع من بيتي…ولادي اطفال وين بدّي أرميهم؟
فقال أبو نايف: أيوه…احنا بقينا في وحده صرنا بثنتين من وين لِك عندنا بيوت يا بنت ابو القمل؟ وهجموا عليها نايف وابوه وجروها من شعرها وطردوها…على كل حال مالنا وطول السيرة…والبنت الها اربع شهور لا هي مطلقه ولا معلقه…يا عمّي اذا ما بدهم إياها يدفعوا حقوقها…ويحلّوا عنا…اللي حلل الزواج حلل الطلاق..وهذي حجة الزلمة البليم عند الرجل الفهيم شروى لحتك يا حج عبد الباري انت وربعك.
فقال الحج عبد الواحد: أهلا وسهلا يا جماعة ….إنشا الله بسيطة….بس خلينا نسمع قصة الطرف الثاني…تفضل يا شيخ أبو مفلح…
استند أبو مفلح…تنحنح وبرم شاربيه وقال: اللهم صلي على سيدنا محمد…يا عمّي والله اللي تفضل فيه أبو السعيد كله صحيح…وللي قالت له إياه بنت هالحلال صحيح…لكن شو بدنا نقول للجهال…مليون مرّه قلت لزلامنا…يا جماعه لا تطلقوا من نسوانكم لا على خير ولا على شرّ …بنات الناس مش لعبه…لكن الجاهل بيعمل العمله السودا والعقال شروى لحاكم يا الـربع بيصلحوا وراه…والطَّلق طِلِع من نايف الله لا يسعد له مسا…وملعون الوالدين خريوش ابن إمّ رياله زاد الطين بلَه..يا ريته قبل العزيمه وريحنا من كل هالغلبه…وهاي هي راحت زعله بينه وبين ولاد عمّه وخـرب بيت نايف…وهاي يا عمّي قضية شرع…فيها حلال وحرام…وما بنقدر نرد مَرَه لجوزها وهي مطلقه…وللا يا عمّي والله إنه نسب اولاد عمنا بيشرف…وأبوها للبنت ابو محمود أي والله انه عسل ما فيه منه…والله بينشرب مع الميّة العكرة…لكن سوّد الله وجهك يا نايف انت وابن إمّ رياله…وللي بتحكموه علينا يا جماعه بنـرضى فيه.

وهنا وقف كامل وقال:يا جماعه…شو قِلِّة هالعقل…زلمه قال:عليّ الطلاق ما بتطلق مَرَتُه منه..
– مِن وين جبت هالحكي يا ولد؟سأله الحاج عبد الواحد..
من كتب الدين يا عمّي.
– متأكد وللا بتفضحنا بكره قُدّام الناس.
أيوه متأكد.
اعتدل الحاج عبد الواحد في جلسته وقال: اسمعوا يا جماعه والله العلم مليح…هاي كامل حلّها…بكره بتجيبوا نايف وأبوه ومَرَتُه وأبوها ..واحنا والشيوخ أبو السعيد وأبو مفلح …ما بدنا ناس كثير… وبنروح ع المحكمة الشرعية…إن طِلِع كلام كامل صحيح… المره بترجع لجوزها ويا دار ما خشِّك حدا…واذا قال القاضي انها طالق….يا بنعمل له فتوى اذا وافق القاضي…واذا ما وافق بتوخذ حقوقها مثل ما بيقول القاضي… وكل واحد في دار أبوه…وللي حلل الزواج حلل الطلاق…شو رايكم؟
والله عدّاك العيب يا حج….وهاذي وجوهنا كفل ع الطرفين…وخلينا نقرا الفاتحه ع هالحكي…اذا ما عندكم اعتراض..
فبسط كل واحد منهم راحتي يديه وقرأوا فاتحة الكتاب….عندها وقف أبو كامل وقال:
هذي ساعة مباركه اللي جمعتنا فيكم يا وجوه الخير وانتو ضيوفنا …ومش رايحين تطلعوا بلا عشا من عندنا…روح يا كامل اذبح خارفين الله يرضى عليك..
فأقسم أبو مفلح وأبو السعيد أنهما ورجالهما لن يمكثوا للعشاء… وانتعل الجميع أحذيتهم استعدادا للانصراف.
****
سيارة تاكسي عمومية تسيـر في الطريق الترابي المنحدر من قمة الجبل…رأوها..فقال اكثر من شخص: اللهم اجعله خيـر يا رب….اللهمّ كفّ عنّا شرّ هالسيارة واللي فيها.
وقال أبو مفلح: يا خوف قلبي انه أبو زميتان مات في المستشفى وهاي الشرطة جايبه جثته.
فقال كامل: هذي سيارة تاكسي عمومي مش سيارة شرطة.
– شو بعرفك يا عمّي…الشرطة بتجيبه في سيارة على حساب أهله وبتدفعهم أجرة المستشفى وأجرة السيارة كمان.
وليش أهله ما بيجيبوه يا عمّي.
– أي هو من وين له أهل…كلهم خالصين مثله…أي هو لو فيه له أهل شروى من عندي بيوخذوه للمستشفى وبيرموه فيه، وما حدا بطل عليه؟
توقفت السيارة على بعد حوالي ثلاثمائة متر منهم…نـزل منها شاب يرتدي بدلة..أنزل السائق من على ظهـرها ثلاث حقائب سفر كبيرة…حمل الشاب احداها…وعلق حقيبة صغيرة على كتفه الآخر …وحمل السائق حقيبتين..
قال كامل: هذا خليل.
– لا…لا مش خليل…هذا بيدين ثنتين..
اصبح على بعد أمتار قليلة منهم وهـم لا يعرفونه…وعندما تأكدوا أنه خليل…قفزوا من مكانهم وأشبعوه تقبيلا…وهم ينظرون الى بدلته والى ربطة عنقه..ويشمون رائحة العطور المنبعثة منه…ويتمعنون بيده الاصطناعية….وفي هذه الأثناء كانت فاطمة تهاهي قائلة:
وهاي يا مرحبا يا عزازي
وهاي يا ميتين حمرا تزازي
وهاي واللي ما فرحت لطلة خليل
وهاي تنكسر كَسِر القزازي
وتطلق بعدها هي وضرتها عددا من الزغاريد.
قال ابو كامل لخليل؟ روح-الله يرضى عليك يا با سلّم على أمّك فضحتنا وهي بتهاهي وبتزغرت…وقول لها تسكر ثمها.

ما شا الله…ما شا الله يا أبو كامل…بشوف خليل صاير زلمه…هو قديش صار عمره؟
– اربعتعشر سنه.
عمره قدامه…لا تؤاخذني هو الولد اللي راحت إيده وللا غيره.
– آه والله هو ما غيره.
بس شايفه بيدين ثنتين.
– ما هو كان في بلاد النجليز وعملوا له إيد ثانيه.
الله اكبـر…معقول يا زلمه.
– هذا اللي أجاك.
يخرب بيت الانجليـز …أي والله هاي شغله ما بيقدر عليها غير ربنا….على كل الحمد لله على سلامة ابنكم…واسمحوا لنا.
فقال ابو كامل: عليّ الطلاق من شاربي والنسوان ما فيهن خير…ما فيكم واحد بقوم من محله…روح يا كامل اذبح خاروفين فرحة بعودة خليل.
فقال أبو السعيد: الحمد لله على سلامته…واسمحوا لنا يا جماعة.
فقال عبد الباري: وحّد الله يا زلمه هو انت ما سمعت طلاق أبو كامل.
لا اله الا الله…بس بدّي أسأل …- قالها ضاحكا وهو يشعل غليونه- اذا ما قعدنا شو بدّه يصير في شارب أبو كامل اللي طلق منه قبل شوية…انا خايف يلحق(حرمة)نايف.
ابتسم كامل ولم ينبس ببنت شفة…فقال أبو مفلح: شو رايك يا عمّي يا كامل نوخذ أبوك للمحكمة الشرعية معانا بكرة ونشوف القاضي شو بيقول عن شاربه…يا رب لا تؤاخذنا نوينا التزهزه.
فانتفض أبو كامل وقال: اسمعو يا جماعة…شاربي مش للمسخره…لا بروح لقاضي ولا لغيره…أي والله لو بطيح الدم فيها ما فيكم واحد ببخس طلاقي من شاربي.
– واذا بخسناه بتحلق شاربك وللا شو بتسوي؟ قال أبو السعيد.
أيوه بأحلقه وبلبس ثوب مَرَتي وبأقعد مع(الحريم)وعمري ما بقعد مقاعد الرجال.
– لا سمح الله يا زلمه …الله يحييك ويحيّّي شاربك…قالها أكثـر من واحد دفعة واحدة.
معناه اقعدوا وخلونا نتعلل.

لم تسمح فاطمه لابنها خليل ان يفتح الحقائب لتوزيع الهدايا….بعدين يمّه… بعدين… قالتها وهي تحمل الحقائب الى زاوية في غرفتها…غطتها بكيس خيش…تحسست يد خليل الاصطناعية..قبّلتها..وقبّلت وجنتيه وقالت:
روح اقعد مع الزلام يمّه ودير بالك لتوسخ ملابسك…
طلب منها خليل أن يتكلم معها على انفراد…فخرجت معه وراء الحائط الشرقي للغرفة حيث لا يراهما أحد…أدخل يده في جيبه…أخـرج رزمة كبيرة من الجنيهات الاسترلينية، وأعطاها إياها قائلا:خبّيها..وديري بالك حدا يشوفك.
فقالت له:شو هذا قبـرت أمّك؟
مثل ما انت شايفه..بعدين بأفهمك..
ألقتها في عبّها وقالت:روح عند الزلام يمّه…الله يرضى عليك.
السلام عليكم ..قالها خليل بثقة زائدة…فردّ الحضور التحية بأحسن منها وهم يقفون ترحيبا بخليل..والكل منهم يدعوه-على غير العادة- للجلوس بجانبه…
فقال له عمّه عبد الباري:
اقعد ع فرشة الصوف يا خليل بجانب عمّك أبو مفلح لتوسخ هندامك.
وبدأوا يسألونه عن بلاد الانجليـز…فحدثهم عن اخضرار تلك البلاد وكثرة أمطارها ومياهها وخيراتها…وضخامة أبنيتها ومحلاتها التجارية…واتساع شوارعها..وكثرة سياراتها

وتعدد أنواعها وألوانها…وعن النساء اللواتي يقدن السيارات…ويبعن في المحلات التجارية…ويمشين في الشوارع بملابسهن القصيرة وبدون محرم دون أن يسألهن أحد…فتلفتوا في وجوه بعضهم البعض..وقال أبو مفلح:
والله انا خايف (ما أكذب من شاب اتغـرب الا ختيار ماتت اجياله).
فقال خليل: انا لا اكذب يا جماعه هذا اللي شفته…فانتهره أبوه قائلا:اسكت يا ولد…عيب عليك ترد الكلام في وجه زلمه أكبر من أبوك…فسكت خليل وسكت الآخرون.
وبعد لحظات قال أبو مفلح:…أي والله هيّك يا أبو كامل كاين معك مصاري..اللي ودّيت ابنك ع بلاد النجليز تصنع له إيد محل الإيد المقطوعه.
– أي هو المال أغلى من الولد يا أبو مفلح…قالها وهو يفتل شاربيه؟
لا والله ما هو أغلى…بس قل لي قديش كلفتك هالعملية؟
قََدْ ما كلفت…فش إشي غالي ع خليل.
– بتقدر تحـركها يا عمّي يا خليل؟…سأل الحاج عبد الباري.
آه بقدر.
– حركها تنشوف…
رفع خليل يده الاصطناعية حتى صارت في مستوى كتفه…ثم ثناها حتى وصلت فمه..فهلل الحضور وكبروا…وقال أبو السعيد:
يا عمّي الانجليز متعلمين وفاهمين ميشان هيك حكموا العالم…بتعرفوا يا جماعة… والله لولاهم ظالمين وما بيخافوا الله… وجابوا لنا اليهود ع بلادنا لقلت ما فيه أحسن منهم.
الحاج عبد الرؤوف يلتف بعباءته …يكرر اشعال غليونه ولا يتكلم شيئا…فقال كامل:
شو رايكم يا جماعه نبعث الحج عبد الرؤوف لبلاد النجليـز مشان يتعلم يعمل إيدين ورجلين للي بيجبـرهم وبيقطع إيديهم ورجليهم.
ضحك غالبية الحضور على ما قاله كامل..إلا الحاج عبد الرؤوف انتفض وارتجف غاضبا وقال:انت يا ولد من زمان حاط ضدي…ترى معاكم المودعه يا الربع على اللي سمعتوه…وبخاطركم ما ظل لي مقعد…ولد ابن مبارح بيتمسخـر عليّ.
فقام أبو كامل والحاج عبد الباري وأبو السعيد وأبو مفلح وأمسكوا به مقبلين ذقنه…طالبين منه السماح، فجلس غاضبا بعد أن كفل أبو مفلح وأبو السعيد حقه العشائري.

انفض الجمع بعد العشاء، فذهب خليل الى غرفة أمّه وقال: يمّه جبت لكم هدايا معي..
فقالت:-الله يرضى عليك- يمّه…اترك الهدايا لمّا يناموا…
– يمّه انا جبت هديه لكل واحد في العيله.
من وين لك مصاري يا قبـرت إمّك؟
– المصاري كثيره يمّه.
الله يكثر الخيـرعليك وربنا يفتحها في وجهك وين ما رحت يمّه.

أحضر خليل لكل واحدة من أخواته فستانا ومنديلا،ولكل واحد من اخوانه قميصا وبنطالا، باستثناء كامل فقد احضـر له قميصين وست ربطات عنق ودزينة كلسات،واحضر للوالد قميصين ودزينة كلسات، في حين أحضر لوالدته وزوجة أبيه قطعتي قماش فاخرة بطول خمسة أمتار لكل قطعة، كي تخيط كل واحدة منهما قميصين على ذوقها، كما أحضر لكل واحدة منهما نصف دزينة مناديل.

ناول كل واحدة وواحد منهم هديته بيده…وأخبرهم أن السيدة أنطوانيت اصطحبته الى محل واسع جدا، وشاركته في انتقائها وهي تسأله عن أعمار أخوانه واخوته ودفعت هي ثمنها، أما

الملابس النسائية فقد اشترتها ستيفاني هدية منها لوالدة خليل، وهذا ما لم يقله خليل لأحد ولن يقوله مستقبلا.
بعد ان انصرفوا وبقيت فاطمة وأبناؤها.. طلبت من أبي كامل أن يبقى قليلا…أخرجت الجنيهات الاسترلينية من عبّها وناولتها لخليل كي يعطيها لوالده…فـرح بها أبو كامل…لكنه لا يعرف هذه العملة…فنادى كاملا كي يعدها…كانت جميعها من قطع العشرة جنيهات…عدها كامل وقال لوالده: هذه خمسة آلاف وخمسمية جنيه استرليني.
– شو بتساوي يا ولد؟ سأل أبو كامل.
حوالي ستة آلاف دينار أردني…أي حوالي تسعتعشر ألف دولار.
– يعني بنقدر نشتري فيها ألف راس غنم….من وين جبتها يا خليل؟
من أمّي وأبوي الانجليز، ولم يذكر أن ثلاثة آلاف منها هي من ستيفاني التي عشقته رغم أنفه…وابتسم عندما دار في خلده انها ثمن(بكارته).
فضحكوا جميعهم…باستثناء فاطمة فقد قالت: ليش الغنم يا أبو كامل ….الله يهديك خبيهـن من شان خليل يتعلم فيهـن تيخلص المدرسة…وللا نسيت وضعه؟
فقال خليل: تصرف فيها يابا مثل ما بدّك تأخلص المدرسة التعليم مضمون باذن الله.
– الله يرضى عليك يا خليل من يومك ابن أبوك… بس يابا-الله يرضى عليك-لو تخلينا انجوزك ونشتري لك ميتين راس غنم، وفرس وبغل وحمار، وقطعة ارض في واد الديماس أحسن لك من التعليم….أيّ شو بدّه يساوي لك التعليم؟
فقال كامل: هاي التعليم سوّى له وهو في الاعدادية…كيف تيخلص جامعه؟فابتسم خليل موافقا.
*****
صباح نديّ صباح اليوم التالي لعودة خليل…الأرض تلبس ثوبها الأخضر بعد تساقط الأمطار في الشهرين الماضيين…الحقول خضراء تنبئ بمحاصيل جيدة..ووجبة الخُبّيزة اصبحت ظاهرة يومية عند الغداء، وربما عند العشاء ايضا..يأكلونها مقلية بالزيت مع(فحل)بصل مما يزرعونه بأيديهم في الأرض..أو يأكلونها مقلوبة فهي بدل اللحم مع الأرز، وهي أكثر فائدة منه كما يتوارث

الأبناء عن الآباء..وللخبيزة فوائد أخريات منها أنهم يبيعونها في أسواق القدس للمدينيين والفلاحين، أو يستبدلونها ببعض الحلوى مثل الحامض حلو من تجار القدس.
ذاك الصباح كان باسما لعائلة ابي كامل…فالأطفال اكتسوا ثيابا جديدة من هدية خليل التي حملته اياها أمّه السيدة انطوانيت….والكبار فرحون بالمال الذي عاد به خليل…مع أن أبا كامل حذر

الجميع من مغبة أن يذكروا ذلك امام الآخرين خوفا من الحسد…بينما كان رأس فاطمة يطاول السماء فخرا بابنها خليل الذي(غاب وجاب)…فكانت مكافأته طبخة خُبّيزة بدون بصل…فهو طيلة حياته لا يأكل الثوم والبصل…بل ويقرف من الروائح المنبعثة منهما..فسألته والدته وهي تضع طبق الخبيزة أمامه :
يمّه يا خليل الانجليز بيوكلوا بصل وثومه..والله ظني انهم ما بعرفوها…يا عمّي الانجليـز بتهمهم النظافة وبيخافوا من ريحة البصل والثومه.
– يمّه كل الناس بيوكلوا بصل وثومه بس الانجليـز بيغسلوا اثمامهم بالفرشاية ومعجون طعمه مثل النعناع…وبيتعطروا بعطور ريحتها بتجنن..مثل القنينه اللي جبتها لك يمّه…
شو هالريحه هاي أي والله ريحتها بتوجع الراس…أي والله أبوك عند ما شمّها قعد بيجي ساعه وهو بيعطس..وشو يعني فرشاية ومعجون اسنان ..أيّ والله احنا بنظف اسنانّا بـ(القرطم)…والعروس اللي ليلة دخلتها بيصح لها عرق قرطم تنظف اسنانها فيه ما حدا قدّها.
– يمّه انا جبت معي فرشايه ومعجون اسنان.

يمّه انت بتستاهل كل شيء ما انت انجليزي صرت.
*****
بعد الظهر عاد أبو مفلح وأبو علي وأبو متعب الى بيت أبي كامل…دار كامل عليهم القهوة المرّة(السادة)..فوضع ابو مفلح الفنجان اليتيم أمامه وقال:
يا أبو كامل قهوتك ما بتبرد ولنا عندك طلب.
– ابشروا يا رجال اذا بقدر عليه.
طبعا بتقدر…احنا طلابين نسب بدنا بنتك زينب لإبني مرعي..
– لا حول ولا قوة الا بالله…بس زينب صغيره عمـرها ما وصل ثلتعشر سنه…لا بتعرف تعجن ولا بتعرف تخبز ولا بتعرف حتى تعمل فنجان قهوه…في المدرسه في الصف السادس…وقديش بلا مؤاخذه عمر مرعي؟
مرعي انولد سنة الخصاب يعني عمره حوالي عشرين سنه…والبنت يا عمّي ما هي مثل بنتي بتنتقل من دار ابوها لدار عمّها أبو مفلح ورايحه تتعلم كل شي عندنا.
– طيب تراها أجتك عطيه ما من وراها جزيه.
ونا راد جزاها مية دينار مثلها مثل بنتي اللي تجوزت الشهر اللي فات.
شرب أبو مفلح القهوه ودار كامل بالفنجان على الآخرين واحتج قائلا:
يا جماعة زينب طفله..بتلعب مع الاطفال..ومش وقت جيزتها…والشيخ ما بيصافح عليها …ولازم يا با سألتها قبل ما تغلط للجماعه.
– يا ولد -قال أبو كامل ناهرا-…شو أشاورها؟ أي من وينتا الحريم بتشاورن…أي والله لو قالت لا بعد ما وافقت الا بالسيف أشيل راسها عن جثتها.
والله ديمة عمرك رجل يا أبو كامل قال أبو علي…وأضاف بالنسبه للمأذون خلوا الموضوع عليّ.
نظر خليل الى كامل مستغربا ولم يجرؤ على الحديث…دارت برأسه الدنيا واستحضر ستيفاني في ذاكرته ووالديها اللذين يقدمان لها كل ما تريد…سقطت دمعتان من عينيه…وانصرف من المجلس متمتما: الحق كله معك يا ستيفاني نحن شعب مجنون …في حين أصدر ابو كامل أوامره بنحر خاروف قرى للضيوف.
فقال ابو مفلح:
بتعرفوا يا جماعه شو حصل معي مبارح؟
-خير-ان شا الله- من وين بدنا نعرف.
صار معي سالفه ما بتتصدق.
-اللهم اجعله خير شو صار؟
وحدوا الله
-لا اله الا الله.
مبارح مرقت من جنب دار ابو الكذب الحج سلامه…وطلق الا اشرب كاسة شاي عنده…فقلت شو وراك يا ابومفلح وميّلت وقعدنا جنب الدار…وقبل ما ييجي ابريق الشاي وللا هالزلمه بياع زيت محمل ست جالونات-من تبعات الجيش- وبيقول بتشتروا زيت يا جماعة؟
فقلنا له تفضل….وسأله أبو الكذب عن سعر الزيت فقال:
الله ما بينا وبينكم مثل ما بعناه الجلن باربعة دنانير ونص.
فقلنا اشترينا التنكة بأربع دنانير وللا زيتك من الجنه.
– يا عمي لا من الجنه ولا من النار الجلن بيسع عشرين لتر والتنكة ستعشر ليتر، أي الجلن تنكه وربع.
طيب اقعد تنشرب شاي وبعدها بنتفاهم.
وقعد وصار يجحـر في الحج سلامه…وبعد شوي قال:
بدون مؤاخذه بتسمحولي بسؤال؟
قلنا له اسأل مثل ما بدّك.

فالتفت للحج سلامه وهو بيمضغ بريقه وقال:
يا جماعه انا في بيتكم وبدكم تتحملوني شو ما أقول.
قلنا له عليك الله وأمان الله خذ راحتك وقول اللي بدّك اياه.
فركز نظره ع الحج سلامه وقال:
لا حول ولا قوة الا بالله ..يا رب سامحني…الأمانه انت اللي في ثورة الست وثلاثين كانوا يقولوا لك”الكاذوب”.
-أي والله أنا خير انشا الله.
وما شفناه الا مثل العفريت نط من محله ع الحج سلامه وصار يبوسه وهو بيبكي…فسكتت وما عرفت شو السالفه.
وبعدها قال وهو بيبكي:انا مديون لك بحياتي…بتتذكر الزلمه اللي فلّته من الجحر في خربة جنجس.
-أه بتذكر قال الحج سلامه.
هذا انا اللي واقف قدامك.
استندت واستند الحج سلامه وقال: حيّاك الله.
وبعدها قام بياع الزيت ونزل الجالونات السته عن ظهر البغل وقال:
هذي جميعها هديه مني إلك وثمنها حارم عليّ مثل لحم بناتي. والله والبيت اللي بناه الله ما بطلع من بيتك الا تعطيني يوم انت وعيلتك وحبايبك تيجوني يوم ع بيتي في رام الله، وراح اعمل الكم حفله مثل اللي بيعملوها للملك.
وشو سالفتكم يا جماعه سألتهم؟
فقال الحج سلامه :
بتتذكر في ثورة الست وثلاثين بقينا في الثوره مع البيك-الله يرحمه- وكنا قاعدين في جنجس وللا هالثوار جايبين هالزلمه وقالوا: هذا جاسوس، هيك قرايبه بيقولوا عنه، وما بيعرف الواحد الا قريبه وهاينا جبناه، وبقى المسؤول الشيخ عبد الفتاح في غياب البيك، فقال حطوه في الجحر لبكره تا ييجي الحج محمد قاضي الثوره بيحقق معه وبيحكم عليه، فحطوه الشباب في الجحر اللي تحت حاجب سادة جنجس، الجحر اللي انت خابره بيسعش خاروفين.
– أي والله خابره.
وسدوا عليه الجحر بشوية حجار، وقسموا شباب ينطروه ويسهروا عليه خوف يشرد، وجا دوري بعد نص الليل، قمت نعسان وعايف حالي، نزلت قدام الجحر ولفيت سيجارة هيشي وكوعت أدخنها، وللا الزلمه من جوّا بيقول:
يا زلمه: والله العظيم ما انا جاسوس ولا بعرف شو هو التجسس، بس اولاد عمّي –الله يسامحهم- حاسديني لقمة الخبز اللي بوكلها، وراحوا كذبوا عليّ واتهموني بالتجسس، وجا اولاد هالحلال لقطوني من وسط زيتوناتي وجابوني بالقوة، وما سمعوا مني ولا خلوني احكي كلمه، والله اني وحيد أمّ وابوي ولي سبع خوات ما لهن حدا غيري، وشو أسوّي يا خوك؟
والله من كلامه شعرت انه صادق وقلت في نفسي: الظلم مش مليح وللي بينقذ روح ربنا بينقذه يوم القيامه، فكرت شويّه وقلت:
اسمع يا اخوي…انا بفلتك بس بشرط بتعطيني عهد الله انه اذا مسكوك مرّه ثانيه ما تجيب اسمي ع لسانك.
فقال:إلك عهد الله والخاين يخونه الله.
وفتحت السلسلة عنه وقلت من هان بتمشي بلا قرقعه تتبعد شويّه، وبعدها اركض قدر ما بتقدر تتصل القدس، ومن هناك اركب في باصات رام الله تتصل أهلك.
فقال: مافيش معي فلوس.

– مديت ايدي في جيبتي وللا فيه معي شلن …أعطيته إله وقلت خذ والعوض في عين الله.
وفلّته …وبعدها رديت سلسلة الحجار قدام الجحر مثل ما كانت، وقبل صلاة الصبح أجا الدور ع الحج موسى.. كان وقتها شبّ لا حج ولا ضراط…وهذا خمّ نوم مثل ما انت عارف، قعد محلي وقلت له : دير بالك تراك تنام والزلمه يشرد، وربنا بدّه يستر الطابق معي…الحج موسى كوّم حاله ونام… والصبح لاقوه نايم، ولما فتحوا الجحر وما لاقوا الزلمه لا حطّك الله مطرحه، حطّوا فيه ضرب ما بيحمله حمار وحبسوه في الجحر اسبوع.
وانا لا من شاف ولا من دري، وهذاك يوم وهذا يوم ما شفت الزلمه ولا شافني، بس صدق المثل اللي بيقول:”جبل ع جبل ما بيلتقي وبني آدم مع بني آدم بيلتقي” وأهلا وسهلا فيك يا خوي.
وقال بياع الزيت: اشهد لله في منتهى علم الله انه اللي قاله صحيح، وصاحب الأوله ما بيلتحق، وعاد يحلف ايمان ما بوخذ ثمن الزيت وما بيطلع من الدار الا الحج سلامه يعطيه يوم يروح فيه عنده، وتيست مع سلامه ورفض لولاني تدخلت واعطيته يوم الجمعه الجايّه،
وشرط الحج سلامه والزلمه الا أروح انا كمان…ووافقت ميشان خاطرهم.
فهلل الحضور وكبروا وأثنوا على فعلة الحاج سلامه.
وقال أبو مفلح: رحنا في السوالف قبل ما نخلص موضوعنا، ايمتا بدنا نصافح يا أبو كامل ولا مهانه في السامعين؟
وبعد نقاش قصير اتفقوا ان يعقدوا القران في المحكمة الشرعية بعد أن أرسل أبو مفلح صبيا ليشتري علبة سلفانا كبيرة بخمسة قروش….وطلب ابو علي أن يلبسوا زينب ثوبا مطرزا كي تبدوا شابة امام القاضي…
أيّ والله يوم مبارك قال ابو مفلح يا عمّي نسب أبو كامل بيشرفنا…وأخوها خليل ولد نشمي ما حدا من جماعتنا وصل بلاد الانجليز غيره…وأمها فاطمه-الله يستر عليها- بتحلب ميتين راس غنم وبتحصد حراث يوم ما بتقول خنتك…وشو بدنا أحسن من هيك؟

انكمشت زينب على جسدها الطفولي النحيف عندما علمت بالخبر…جلست بائسة باكية في زاوية الغرفة..رأت الدنيا مظلمة في وجهها …أحلامها بأن تصبح مدرسة كمعلماتها تحطمت في لحظة غيـر متوقعة…لم تأكل من السلفانا ..ولم تشارك في طبخ قرى الضيوف …لم تأكل شيئا..تدثرت ببساط صوف وتظاهرت بالنوم وروحها تنازعها للخروج من جسدها من شدة البكاء…اقتربت منها والدتها باكية ايضا وقالت:
البنات خلقهن ربنا للجيزه يمّه وهذا نصيبك…اذا ما تجوزت اليوم بتتجوزي بكره…والبنات ما بيقدرن يقولن لا اذا أبوهن وافق… امسحي دموعك يمّه قبل ما يشوفك أبوك…اذا شافك رايح يقلب نهارنا ليل..
***
في اليوم التالي كان والدا العروسين بصحبتهما وصحبة أبي علي وأبي متعب في المحكمة الشرعية في شارع صلاح الدين في القدس..
سألهم القاضي عن سبب عدم عقد القران عند مأذون البلد؟
فرد أبو علي: خليها مستوره يا سيدي.
– بس أنا شايف البنت صغيره ..قديش عمرها؟ وين شهادة ميلادها؟
البنت مش صغيره يا سيدي وما في لها شهادة ميلاد …وقلنا لك خليها مستوره.
– خليها مستوره…خليها مستوره..شو يعني؟
يا سيدي بارك الله فيك.. ربنا طلب الستـر ممكن اقعد انا ويّاك دقيقة لوحدنا.
– لو سمحتم يا اخوان انتظروا في القاعة خمس دقائق.

آيوه يا حج شو فيه؟
– الولد واقع في هوى البنت …والبنت حامل يا سيدي…ما بدنا ينكشف الطابق…ويقع الدم فيها…

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال القاضي…اذا الأمر هيك العقد بنعمله فورا وزوجوهم اليوم قبل بكره.
– بارك الله فيك يا سيدنا …وهذا فضل منك ما بننساه.
أبو علي يفتل شاربيه…يختال كالطاؤوس وسط ربعه…يعدل عباءته على كتفيه وهو يسمع الرجال يرددون بأن له معارف في الحكومة… ويستطيع ان يحصل منهم على ما يشاء..وأبو مفلح وأبو كامل يرددان مرات ومرات: بارك الله فيك يا أبو علي…أي والله لولاك ما عرفنا ندبر حالنا..
فيرد متصنعا التواضع: أي بَس يا جماعة خجلتونا …انا ما عملت الا واجبي.
– طيب كيف اقنعت القاضي في لحظة يا أبو علي…يا زلمه ما اطلعنا من الباب الا وانت في رجلينا سأله ابو مفلح..
يا جماعه انا ما حدا من المسؤولين برفض لي طلب…وما بيصدقوا وانا اطلب منهم طلب ميشان ينفذوه …وحتى ما باقول لواحد منهم شكرا..
– الله يديم عزّك يا أبو علي…يس شو قلت للقاضي؟
أيوه مليح اذا كل واحد منكم بدّه يعرف اسرار الحكومه…بعدين بتبطل تصير حكومه…اتـركوا كثرة الاسئلة وللا بدكم تجبروني عمري ما أساعد واحد فيكم في أيّ عمل؟

– لا…لا…بس لا تـزعل يا أبو علي.
مرعي امشي يابا مع عروسك…بعد ما كتبت كتابك عليها صارت زوجتك.
شو هالحكي الفاضي يا ابو مفلح؟ من وين صارت حرمته؟ بعد العـرس وبعد ما يعرفوا كل الناس بتصير زوجته …وللا بدكم تفضحونا بين الناس؟ قال ابو كامل غاضبا.
ركضت زينب باتجاه محل لألعاب الأطفال …وقفت أمام دمية-عروس- وقالت:
يابا اشتري لي العروس هذي.
– الله يجعلك عمرك ما تعرسي يا رب….كم ثمن اللعبه هاي يا عمّي؟
اربع قروش.

– خذ وربنا بعوض.
التقطت زينب الدمية العروس…ضمتها الى صدرها…ابتسمت…قفزت فرحة…ربتت على ظهرها …قبّلتها…وركضت امامهم تلهو…
– يا بنت..دم يفزر عينك…ارجعي ورا الزلام…الحريم ما بيمشين قدام الزلام.
بدي العب مع عروستي يابا.
عمرك ما لعبت …لا انت ولا اللي خلفتك…بنات آخر وقت.

*********
نصبت الخيام..دقت الطبول …زغردت النساء…وصدحت الأغاني الشعبية ايذانا بزفاف مرعي وزينب…يمنعون زينب من اللعب مع الأطفال…تبكي…تحتضن دميتها العروس..تضع قلادة الذهب في عنق الدمية…تضحك معها…تحادثها…
– استاذ خليل…الله يرضى عليك يمّه اقعد مع زينب واقنعها تترك الولدنه….بعد بكره عرسها…بلاش تفضحنا فُدّام الناس.
زينب طفله يمّه…ظلمتوها…بدها تلعب يمّه…الله يخرب بيتكم مثل ما خـربتوا حياتها..
– الزواج ستره يمّه…وانا قلت خليل رجع لنا استاذ من بلاد الانجليز …وراح يرفع روسنا قدام الناس..وشايفتك لا معجبك العجب ولا الصيام في رجب.
أيّ الله هو رايح يقبل لكم صلاه وصيام ع المصايب اللي بتعملوها؟ زينب طفله يمّه ما بتعرف شو الزواج.

– لا اله الا الله…باين يا ولد الانجليز خربوا عقلك….
والله عقولكم خاربه يمّه…هذا عـرس والله ما باحضره لأنه من وراه مصايب.
– وشو اقول للنسوان اللي بيقولن…ابن فاطمه ما شالله عليه راح ع بلاد الانجليز ورجع مثل الأساتذه؟ وللا يا شايف الزول يا خايب الرجا..
قولي اللي بدّك إيّاه.
– هاي دار ابو مفلح جابو الحنّا.
وانا رايح عند صاحبي مرزوق.
– أبوك بيـزعل يمّه اذا أفقدك وما لقيك.
يزعل وللا بخاطره.
***
ليلة الدخلة..أمسكت زينب ذيل ثوب والدتها وقالت:
وين بدّك تروحي يمّه…خليك عندنا وللا أروح معك.
– يمّه هاي دارك من هون وطالع…وهاي مرعي عـريسك بتنامي انت واياه….وأغلقت الباب خلفها….تبعها مرعي وأحكم اغلاق الباب بالمزلاج…بدأ يخلع ملابسه…زينب ركضت الى الصندوق الخشبي…أخرجت دميتها …احتضنتها…التفتت الى مرعي…وقالت:

شو انت مجنون ليش بتشلح…عيب عليك.
تقدم اليها ضمّها الى صدره عنوة…لثم فمها بقبلة عميقة كتمت أنفاسها …حاولت ابعاده عنها…لم تستطع…ألقى بها أرضا على الفرشه…حاول خلع ملابسها…فصاحت بأعلى صوتها:يابا..يابا..
سمعتها المتلصصات خلف الباب والنوافذ فأطلقت أمّ مفلح زغرودة وقالت:
الحمد لله ..الولد أفلح.
مفلح يضع يده على فم زينب…ويقول: فضحتينا الله يلعن أبوك…
فردت لاعنة أباه وجدّه…
هجم عليها ثانية..قذفها بقبلات عميقة كتمت أنفاسها…قاومت…الى أن أغمي عليها…حسبها ماتت…ارتدى ملابسه…خرج من الغرفة وقال لوالدته: شو هالمصيبه؟
– مبروك يمّه ..البنات دايما بيخافن ليلة الدخله.

دخلت الغرفة وجدت زينب شاخصة الى سقف الغرفة…تتنفس بصعوبة..تقدمت منها وقالت: قومي يا بنت بدهاش هبل….لم تسمع اجابة..تقدمت منها …أمسكت يدها ..وضعت يدها على

جبينها…استعاذت بالله من الشيطان الرجيم وبسملت…رفعت ثوبها …نظرت الى فخذيها…لا يوجد هناك ما يدلّ على نزيف…دخلت فاطمة…نظـرت الى ابنتها وقالت:
شو صار للبنت؟ ضمتها الى صدرها مسدت شعـرها…كلمتها…فلم ترد.
أشعلت فاطمة طرف ردائها…قربته من أنف زينب ..وهي تردد:
يا خوفي انه عين صابت البنت…بسملت وحوقلت واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم…دعت الله أن يقتلع العيون الحاسدة…لكن دون جدوى…التفتت الى أمّ مفلح وقالت:
اسألي ابنك يا خيتي شو سوّى مع البنت؟
– أيّ هذا كلام … فيه ناس بيسألوه يا خيتي؟ أيّ شو بيعمل العـريس مع العروس؟ وللا بتعرفيش؟.
مش هذا اللي قصدته …قصدت ليش البنت مصرصعه.
زينب ممدة بلا حراك…تتنفس بصعوبة…وبين الفينة والأخرى تصيح: يا با…الى ان انبلج الصباح واستبدلت الطبيعة ثوبها الأسود… فبدت الشمس تبزغ على استحياء من خلف جبال مؤاب البعيدة…أشعتها تنبعث خيوطا مستقيمة تنير الكون، راسمة قوس قزح على حبيبات الندى

المتطايرة في الجو…فاطمة أمضت ليلتها تحتضن زينب وتبكي…وأمّ مفلح تعد الشاي الذي لم يتذوقه أحد…ومرعي يتمدد على بساط في بيت الشعر غير مستجيب لأوامر والده بأن يذهب الى الخلوة ليقضي ليلته مع عروسه.
أفاقت زينب من اغمائها الطويل ولم تتفوه بكلمة واحدة …نظـرت حولها مذعورة…لم تجب أي سؤال …ولم تلتفت حتى الى الدمية التي تحب…حاولت احتضان والدتها ..القت رأسها في حجرها …حاولت الاغفاء.
– شو الكلام اللي بتقوله أمّك يا ولد؟ سأل أبو مفلح مرعي.
أي كلام يابا؟
– شو صار للعروس؟
ولا شيء…عند ما قرّبت عليها…صاحت:يابا…وابعدت عنها.
– ليش ما بتتكلم؟
شو معرفني باين عليها مجنونه ملعونة الوالدين.
– واذا مجنونه ليش زوجوها؟
اسألهم.
تعالي يا أمّ مفلح…خذي قنينة زيت وحطيها في الشيخ سعد، واعجني شوية حنّا وحنّي حيطانه تستوره من شان خاطره…وادعي ربك يسهل الأمور ببركات الشيخ سعد…والله اني خايف كل ما حصل زعل من الشيخ سعد علينا…وللا نسيتي يوم ارتبط عبد ابن ابو العبد عن عروسه لأنه
سرق وهو ولد شوية زيت من مقام الشيخ سعد…يا عمّي ربنا يمهل ولا يهمل…والولد ما انفك الا بعد أهله ما حطوا قنينة زيت كبيرة في المقام …وذبحوا ذبيحة نذر للشيخ.
– حاضر يا ابو مفلح.
وانت يا فاطمه يا خيتي قولي لي بنتكم فيها إشي من قبل وللا لأ؟
– أيوه يا ابو مفلح هداك الله…شو بدّه يبقى في البنت…هذي طفله صغيره…والله ما كان فيها إشي …بس البنات ببقين بحظ وبيدخلن بحظ ثاني.
يعني ما كانت مجنونه؟
– لا حول ولا قوة الا بالله…من وين بدّه يجيها الجنون؟ أيّ هاي اخوتها اسم الله عليهم…كلكم بتعرفوهم…ومين من جيلهم أصلح منهم…أيّ والله الاستاذ خليل بيسوى بلد…مين من اولاد البلد وصل بلاد الانجليز غيره…وللا بطلتوا تعرفوه؟
انا ما قصدت اشي يا خيتي بس بدّي اعرف الصحيح من شان نعرف نعالج الموضوع.
*******
وضعوا الزيت في مقام الشيخ سعد، وخضبوا جدرانه الداخلية بالحناء، ودعوا الله في الصلوات وفي كافة الأوقات، لكن زينب بقيت على حالها، بل ازداد وضعها سوءا، تزداد ذبولا يوما بعد يوم، فالأزهار تأبى أن تُقطف قبل ان تتفتح ويضوع عبيرها، تنكمش على نفسها في انتظار الندى والضوء، تحيطها الأشواك لتنغرس في اليد التي تحاول المساس بها.
جاء كامل وخليل لزيارة زينب والاطلاع على حالها….رحب ابو مفلح بهم ترحيبا فاترا، أدخلهم المضافة في بيت الشَّعَر، وما أن احتسوا القهوة حتى بادرهم قائلا:
بتعرفوا يا عمّي البطن بستان، احنا قلنا خليل ولد فالح وأكيد اخته بنت أمه وأبوه بدها تكون شاطره مثل، وقلنا خلينا نخطبها للولد قبل ما يسبقنا غيرنا عليها، بس الدنيا في واد واحنا في واد ثاني، يا عمّي وين الدنيا ووين أهلها؟ وعض على غليونه وسكت.
– مالها زينب يا عمّي؟ سأل خليل.
ليش مش عارفين مالها؟ ما هي كانت عندكم….ما دامها مجنونة ليش زوجتوها؟ وللا بدكم تزيدوا مالكم مال؟
– زينب طفله يا عمّي قال كامل، وعند ما قلنا البنت طفله وما هو وقت جيزتها، ما حدا فيكم سمع، وقتلتكم المراجل، وانت جعلت حالك مثل أبوها، وللا نسيت…على كل وين هي موجوده خلينا انشوفها؟
موجوده في الغرفه استنوا شويه تفتح الطريق إلكم….ونادي بصوت عال:
يا إمّ مفلح… افتحي الطريق في زلام بدهم يشوفوا عروس الهنا.
خرجت أم مفلح من الغرفة…فاصطحب أبو مفلح كامل وخليل الى الغرفة حيث ترقد زينب واضعة رأسها الصغير في حضن والدتها.
عندما رآها أخواها كامل وخليل لا تحرك ساكنا…اقترب منها خليل، جثا على ركبتيه، أمسك يدها بيده المرتجفة، وعندما سقطت دموعه على وجهها، فتحت عينيها، حملقت به…ابتسمت ابتسامة خجولة أو هكذا خُيّل له…تكلم معها …حاول اسنادها…لكنها لم تستجب، فقال ابو مفلح: ليش ما تردي لا ردك الله…قبل شويه ابتسمت وللا ما كنت شايفتيني وابتسمت لأخوتك..اذا بتتحيلي ميشان تخلصي من مرعي، ليش ما قلت قبل ما نتخسر، على كل اللي أوله أهونه…هاي اخوتك موجودين بتقدري تروحي معهم…وورقتك بتلحقك…ونشا الله بتتزوجي ابن الملك…وللي له حق عند الثاني بيطلبه.
كانت كلماته سياطا تجلد”كامل وخليل” ووالدتها التي انهمرت دموعها مدرارا، بينما انتفض كامل وقال: عيب الكلام اللي بتقول فيه يا أبو مفلح، واحنا في بيتك وللا بعرف كيف أرد عليك.
– شو بدّك ترد؟ خذوا مجنونتكم ووروني عرض اكتافكم وخرج من الغرفة.
خرج من الغرفة واذا بصوت أبي كامل يطرح السلام على أبي مفلح الذي ردّ عليه بغضب:
– اولادك بيهددوا فيّ في بيتي يا ابو كامل.
خير شو الموضوع ؟ سأل أبو كامل.
– اسأل اولادك؟
أبو مفلح بيقول يابا خذوا مجنونتكم ووروني عرض اكتافكم.
طيب يا ولد انت واياه انصرفوا روحوا وانا بحل الموضوع.
خير شو السالفه يا أبو مفلح؟ سأل أبو كامل.
– السالفة الناس بيتزوجوا تيرتاحوا واحنا اتجوزنا تنصير سعادين…هذي بنتكم زينب مِنْ ما دخلت هالدار وهي لا رادّه ولا صادّه …ومرعي من يومها وجهه مثل الزفت المغلي، حطينا زيت في مقام الشيخ السعد -تستوره ميشان خاطره- وحنينا حيطانه وما هو نافع شي… والله انا شايف إنه البنت مجنونه ..شو رايك شو نساوي؟
وحّد الله يا زلمه شو اللي بتقول فيه..مجنونه…من وين بدّه ييجيها الجنون؟ هذي بنت جاهله…والناس عينيهم علينا…من ما رجع خليل من بلاد الانجليز ..والكل ما له حديث غيرنا..والله أنا خايف إنه عين ضربت البنت.
– عين وللا قرد أنا شو دخلي؟ بنتك بتوخذها عندك بلاش تموت عندي وتقولوا قتلتوها…والله صابونة الشكعة ما بتنظفنا بعدين، والله وعبيده ما بيخلصونا منكم.

لا…لا..يا أبو مفلح يا ريتني ما سمعت هالحكي منك…بس اذا أخذنا البنت وما صار لها اسبوع متجوزه الناس شو بدهم يقولوا؟
– يقولوا اللي بدهم إياه …والله يا عمّي “مية عين تبكي ولا عيني تبكي”، بكره أنا ابني بجوزه…والبنات كثر همّي ع قلبي.
وغير هالحكي شو فيه عندك حكي؟
– والله أنا بقول “يا مره عاقل يا سياق حاقل”
طيب ..الحق ما هو عليك ..ع اللي ناسبك من أولها.
– هِيْ هِيْ..بشوفك فوق ما هي بنتك مجنونه بطوّل في لسانك…انت في بيتي…خذ مجنونتك وورّيني عرض اكتافك…هذا اطلعت أجهل من ولادك.
انتفض أبو كامل وقام مناديا بصوت عالٍ:
يا فاطمه..جهزي حالك انت وزينب وقومي تنروح لدارنا.
وضع زينب أمامه على البغل..وتلثم بكوفيته…زينب لا تقوى على تثبيت جسدها الصغير على ظهر البغل…رأسها ينحني على كتفها الأيمن كحملٍ نافق…حرارتها مرتفعة وأنفاسها واهنة… ووالدتها تمشي خلف البغل تنتحب بكاء.
*****
في بيت والديها اجتمع كبار العائلة ليتداولوا الأمر…كامل وخليل يستشيطان غضبا ويشتمون في كل الاتجاهات…ويستعيدون موقفهم الرافض لهذا الزواج كون “العروس” طفلة…طلبا اصطحاب زينب الى طبيب…فرفض طلبهما باستهجان شديد…وخليل يبكي زينب بصمت ووالدته نصبت مناحة في البيت …وهي تردد:
” وين بدّك تحطي وجهك قدّام الناس يا فاطمه؟ كيف بدّك تفتحي عينيك في النسوان يا فاطمه؟ يا قلّة بختك يا فاطمه.
وفي النهاية قرر الكبار احضار الفتاحة “أم خالد” لمعالجة زينب وسط معارضة كامل وخليل…وكامل يستعيد ما جرى ليد خليل على يدي الحاج عبد الرؤوف نتيجة الجهل والتخلف.
*****
ذهب أبو كامل بنفسه وأحضر الفتاحة أم خالد التي حضرت بسيارة أجرة تقاضى صاحبها دينارا أجرة له.
وأمّ خالد هذه امرأة في الخمسينات من عمرها…مربوعة القامة وإن كانت تميل الى السمنة، سمراء البشرة…موشومة على جبينها ووجنتيها وفوق أرنبة أنفها وأسفل ذقنها…غليظة الشفتين ترتدي ثوبا أسود فضفاضا لا تطريز عليه، وتلقي خرقة بيضاء على رأسها…وتضع في رقبتها سبحة بتسع وتسعين خرزة…تخرجها عندما تتحدث مع الآخرين، وتحرك شفتيها بكلمات صامتة لا يفهمها أحد…استقبلتها النسوة بالترحاب وأجلسنها على فرشتين في صدر الغرفة….وفاطمة مشغولة بتنظيف وطبخ ديك بلدي غداء للضيفة المهمة.
بعد الغداء قالت: وين أبو كامل؟
– ليش يا خيتي؟ سألت فاطمة.
ع شان يبيض كفي قبل ما أضع إيدي ع البنت.
قبضت خمسة دنانير وتقدمت من زينب…أمسكت بساعدها الأيمن… رفعته..خاطبتها:
زينب..ردّي عليّ يا حبيبتي…ولما لم تجد جوابا…تحسست جبين زينب….ثم أغلقت فتحتي أنفها باصبعيها الابهام والسبابة، وصفعتها كفا على خدها الأيمن…تململت زينب فتحت عينيها قليلا …أسندتها أمّ خالد على صدرها…وهي تردد:
أيوه شاطره انت يا زينب…قومي يا حبيبتي…انت اليوم مش صغيره …انت عروس.
وطلبت ماء وأسقتها…ثم طلبت كأسا من اللبن وأسقتها إياه على دفعات..وفاطمة وضرتها يهللن ويكبرن لقدرات أمّ خالد العجيبة.

تناولت أمّ خالد سبحتها …فركتها بيديها بعد أن مددت زينب على فراشها، وشرعت تتمتم…ولا ترد على من يحدثها…فخيّم الصمت الكامل على الغرفة…وبعد حوالي الساعة…وضعت سبحتها على رقبتها وطلبت استدعاء أبي كامل…وأخبرتهم أنه معمول للبنت سحرا، وأنها بحاجة الى عمل(مندل) حتى تتبين الأمر جيدا…فوافقوا …واستأذنت على أن تعود في اليوم التالي بعد أن أخبرتهم بمتطلبات المندل وهي:
خمسون دينارا تدفع مقدما…وغرفة فارغة وامرأة طيبة وطفلا لم يصل سنّ الحلم وبيضتان.
***
استقبلت أمّ خالد استقبال الفاتحين عندما عادت في اليوم التالي…وجلست مع النسوة اللواتي قبّلن يدها عند السلام عليها…كانت تستطلع قدرات النساء الموجودات من خلال أحاديثهن..فاختارت الجارة أمّ متعب…والطفل احمد ابن السنوات السبع الذي كان يجلس بجوار والدته صامتا.
أحضرت لها فاطمة بيضتين فوضعتهما في صحن أولومنيوم…فطلبت صحنا آخر فارغا طلبت أن يوضع فيه كأس ماء…وطلبت بطانية…وأحضروا لها موقدا فيه جمر، ثم طلبت اغلاق نوافذ الغرفة وعلى الجميع أن يخرجوا باستثناء أمّ متعب والطفل أحمد…. وبعدها أغلقت باب الغرفة بالمزلاج، طلبت من أمّ متعب والطفل أحمد أن يجلسا في زاوية البيت الشرقية، وأن لا يتحركا من مكانيهما، وأن لا يتكلما خوفا من أن يؤذيهما أتباعها من الجن الذين سيحضرون المندل…..وضعت قليلا من البخور فوق الجمر، فانتشر الدخان في الغرفة…حملت البطانية من طرفيها ووضعتها على ظهرها كما العباءة، وأخذت تدور حول الصحنين والموقد وتتحدث بكلمات غير مفهومة، جاحظة عينيها فاغرة فمها لتخيف أحمد كي يهرب من أمامها…وأحمد يدور أمامها ومعها محاولا ببراءة الطفولة أن يرى ماذا تفعل ظنّا منه أنها تداعبه؟ بينما أمّ متعب أدارت وجهها الى الحائط، تبسمل وتتعوذ وتحوقل وترتجف رعبا….أخرجت أمّ خالد من جيبها بيضة وورقة…كسرت البيضة …غمست الورقة في “مح” البيضة ثم وضعتها في صحن الماء…أخرجت منديلا جمعت فيه بقايا البيضة المكسورة، وأعادته الى جيبها….وبعد حوالي نصف الساعة فتحت الباب والعرق يتصبب منها…جلست تداعب سبحتها، وأشارت للآخرين رجالا ونساء وأطفالا أن يدخلوا….جلسوا أمامها وكأن على رؤوسهم الطير…أخرجت زفيرا عميقا… أخبرتهم أن هناك سحرا معمولا لزينب…وأن قرين أم خالد الجني قد أخرج السحر من احدى البيضتين دون أن تنكسر…وأشارت الى الورقة…فتناولها أبو كامل وبوادر الفرح بادية على وجهه ووجوه الجميع.
انتفض الطفل أحمد وصاح محدثا بما رآه، وقال أنها أخرجت الورقة من جيبها وأن بقايا البيضة المكسورة في جيبها …غير أن أحدا لم يستمع له…ومع ذلك صاحت أمّ خالد باتجاه أمّ احمد قائلة:
المفعوص إبنك كافر ولابسه جنّي كافر، ولازم تديري بالك عليه، وللا راح يجيب لكم مصايب…انتهرته والدته غير أنه لم يسكت فأمسكت بيده وسحبته الى الخارج.
طلبوا من كامل أن يقرأ”السحر” فقال:
يا جماعه هذا كلام فاضي ودجل وكذب واسمعوا أحمد شو بيقول؟
لكن والده أصر على قراءة “السحر” بعد أن جففوا الورقة على الموقد.
فرأى على يمين الورقة رسما لوجه فتاة مكتوب تحته زينب، وعلى يسارها رسم لوجه فتى مكتوب تحته مرعي….وبين الرسمين جملة( بجاه هالفك ما تنفك) وما تبقى أحرف وكلمات غير مفهومة.
فبدأ الجميع يهللون ويكبرون، وأمر أبو كامل بنحر كبش عشاء لأمّ خالد…وهو يقول:
وكيف بنحل السحر يا أمّ خالد؟
– بسيطه يا ابن الحلال….بتذوبوه بلبن رايب، وبتسقوه لزينب…ومِنْ ما بيصل اللبن لمعدتها الجني بتسمم وبيموت، أو بيهـرب قبل ما يصله….واذا ما مات وما هـرب معناه إنه جني كافر لعين والدين، وعندها شغلته بسيطه بينحلها.
بس قولي لنا يا ام خالد مين اللي عمل السحر؟
– ما بدّي أخرب بيوت الناس…لكن اللي بيعمل هيك عمايل ما له في رقبتي خطيّه…
أنا ما بعرف الأسامي بس شفتها في المندل اللي عملت السحـر.
بارك الله فيك أيوه شو اوصافها؟
– مره لا هي طويله ولا هي قصيره…لا ضعيفه ولا سمينه..لونها مثل لون القمح البلدي..عمرها في حدود الأربعين سنه…وفيه على خدها اليمين جنب منخارها شامه.
التفت كل واحد منهم الى الآخر مستغربين مندهشين، فأشار اليهم أبو كامل بالسكوت، فالأوصاف تنطبق على شقيقته سعدية….وصرف الحديث الى جانب آخر طالبا الاستعجال بإذابة السحر في اللبن.
أذابوا الورقة باللبن وأعطوها لأم خالد كي تسقيها لزينب…أسندتها الى صدرها …هزتها وأمالت رأسها قليلا الى الخلف وأرغمتها- رغم أنينها الخافت- على ابتلاع اللبن الذي اصطبغ لونه بالزرقة من حبر الورقة.
استأذنت أم خالد للانصراف، ولم تجد توسلاتهم معها نفعا كي تبقى للعشاء، فاقتطعوا نصف الكبش وحملوها إياه بعد أن أحضروا سيارة تعيدها الى بيتها…وقبل أن تخرج من البيت تقيأت زينب وكادت تختنق بقيئها فقالت أمّ خالد:
هذا بشارة خيـر أو خرا.
– كيف يا أمّ خالد؟
يعني يا الجني مات وطلع وريحنا، أو دفع اللبن قبل ما يصله…واذا عملها أنا رايح أعمل فيه العمايل.
– وكيف بنعرف انه مات وللا لا.
اذا شفيت زينب معناه يا مات يا هـرب…واذا لا هاي ولا هاي خلّوا الباقي عليّ.
– شو يعني؟
يعني اللي ما بيجي بالمليح بيجي بالعصاه.
-الله لا يحرمنا منك ويستر عليك ربنا دنيا وآخره…قالها أبو كامل بخشوع تام.
****
سهروا ليلتهم يتسامرون الى ما بعد منتصف الليل، ويعددون القدرات الخارقة للفتاحين، مستشهدين بقصص وحكايات سمعوها، لكن أحدا لم يشكك بقدرات أم خالد سوى كامل وزوجته وخليل، غير أن أيّا من علامات التحسن لم تطرأ على حالة زينب، فسألت فاطمة:
شو رايكم أوصاف اللي عملت السحر ع مين بتنطبق؟
فقالت أم كامل: والله باين انها سعديه اختك يا أبو كامل بدون مواخذه.
– الله يوخذك ويوخذ اخوتك وخواتك يا حماره يا بنت الحمير…سعديه ليش بدها تعمل سحـر لزينب؟
ع شان تجوزها لابنها المسخوط قالت فاطمة…ما هي بعد ما قريتوا فاتحة زينب ع مرعي قالت: ابو كامل مستعجل ليش ع البنت لو صبر اشويه بقينا بدنا إياها لياسر.
– لو انها صادقه وقالت هالحكي شو منعها لتتبدى فيها… ما هي لو أشارت باصبعها انها بدها البنت بطرد مرعي وابوه ولو ليلة الدخله، وللا بتعرفوش انه ابن العم بيطيح عن ظهر الفرس…واسمعوا كلكم ..ما بدّي اسمع ولا واحد منكم يحكي كلمه وحده في هالموضوع…ناقصني تعملوا مشكله بيني وبين أختي وجوزها وولادها.
قال كامل: هذي وحده نصابه أم خالد والله أنا خايف فوق ما أخذت المصاري تشبكنا في بعض وتخلينا زي ذناب الحصينيات.
فقال أبو كامل:
– يا فاطمة خذي قطعة لحم وحطيها فوق الجمر واشويها للمصيبة اللي الله بلانا فيها….خابرها مثل البس يوم بشم ريحة اللحم المشوي…قدمي النار منها خليها تشم الريحة وانسوا سالفة مين اللي عمل السحر…في مليون مره مثل اللي وصفتهن أم خالد…وربنا بيخلق من الشبه اربعين..
– ففعلت فاطمة ما أمرها به أبو كامل…غير أن زينب لم تحرك ساكنا..فقال أبو كامل:
– طيّب هاتي قطعة اللحم…وأكلها وهو يردد:
اللقمه اللي إلك فيها نصيب وين ما دارت بتروح وبترجع لك.
وفي اليوم التالي لم يتغير شيء على زينب…تفتح عينيها قليلا …تقدم والدتها لها ماء وتسقيها قليلا من اللبن وهكذا….اقترح كامل أن ينقلوها الى المستشفى…وبعد الحاح وصياح وشتائم خرج من البيت غاضبا…ذهب الى القدس…أحضر سيارة أجرة…عاد الى البيت…حمل زينب بين يديه… وضعها في المقعد الخلفي…جلست والدتها على يمينها وجلس خليل على يسارها، بينما جلس كامل بجانب السائق…وهناك في مستشفى الهوسبيس…استمع الأطباء الى شرح من كامل عن بداية مرض زينب….فقال كبيرهم:
الطفلة مصابة بصدمة نفسية لأنها لا تفهم معنى الزواج.
– وشو الحل يا دكتور؟ سأل كامل.
الحل سأكتب لها روشيته ..اشتروا الدواء واعطوها إياه مثل ما بأقول لكم..وهالوقت بأعطيها إبره وحبتين دواء ….وخلوها ترتاح ساعه عندنا قبل ما تروحوا.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى فتحت زينب عينيها، وأسندت جسمها وجلست ….تلفتت الى كل الاتجاهات وكأنها تستفسر عن مكانها، وكيف وصلت الى هذا المكان؟ وقالت:
يمّه أنا عطشانه وجوعانه.
خرج خليل الى السوق مسرعا واشترى “ساندويشات” وعصائر وعاد الى المستشفى…

مرّ الطبيب من باب الغرفة ولما رأى زينب جالسة تأكل…دخل مبتسما…وضع يده على جبينها متلمسا حرارة جسدها…وقال:
كل شيء تمام والحمد لله….كتب تقريرا بتحريرها من المستشفى وأوصاهم بأخذ الدواء حسب التعليمات….وعادوا الى البيت والسعادة تغمرهم…ولمّا رآهم ابو كامل التفت الى كامل وقال:
يا ولد يا غضيب…اللي في راسك بتعمله ما بترد ع حدا…بعد أم خالد ما عالجت البنت وشفيت أخذتها للدكتور أي هو انت عارف من وين المصاري بتيجي؟
– الدكتور في المستشفى يا با كلفنا مع الدواء دينارين وهاي البنت شفيت والحمد لله…بس النصابه هذيك احسب قديش خسرتنا وما نفعت في شيء.
يا ولد انت سمعت أم خالد شو قالت امبارح؟ مش قالت بكره بتشوفوا شو بصير للبنت.
– آه سمعت ..قالت يا خير يا خرا…وما شفنا من وراها إلا الخرا …والخير شفناه من المستشفى.
طيب اخرس بدهاش قلة حياء…والله لولا أم خالد عمرها ما وقفت ع رجليها.
خليل: أمّ خالد مره نصابه واذا عمرها دخلت هالبلد لألعن أبو العيله اللي طلعت منها، بلاش تعمل في زينب مثل عملة حتيت الشيب الحج عبد الؤوف اللي قطع إيدي والزعل إله كمان.
– وكيف بدها تقطع إيد زينب يا فصيح مثل إيدك سأل أبو كامل ساخرا.
يا ليتها ناويه ع قطع إيد وبس…ناويه تقتل وتريحكم من مرّه….وللا ما اسمعتوها شو قالت؟
– شو قالت؟
قالت اللي ما بيجي بالمليح بيجي بالعصا.
– وشو فيه حكيها هذا؟
فيه بتطلب منك تظل تضرب في زينب بعصاه حتى تشفى…وهي بتقول الجن الكافر ما بيطلع الا بالضرب، أي والله ما فيه كافر وهي موجودة…والله اعلم شو بتساوي هذي المره بعد ما تروح من عندكم؟ واذا ماتت البنت من الضرب وعرفت الشرطه في الموضوع رايحة تقول: أنا ما لمستها …أبوها ضربها واسألوه…وبعدها بتطلع مجرم وقتال قتلى يا با.
فاطمة: البنت الحمد لله رجعت عال العال ونحمدك يا رب ودشرونا من هالسالفه.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات