جميل السّلحوت
جَنّة الجَحيم
رواية
جميل السّلحوت
جنة الجحيم
رواية
الطبعة الأولى
نيسان-ابريل-2011
منشورات دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس
تصميم الغلاف: شركة 2i لتطوير وتصميم البرامج
رام الله -فلسطين www.2ime.com
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
شكر خاص للأخ موسى أبو دويح الذي راجع الرواية وقام بالتصحيح اللغوي والمطبعي.
“لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة سالكيه”
الامام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
كايد الذي درس في جامعة دمشق وعمل معلما في احدى قرى رام الله أقنع حامولته بعمل بقالة تعاونية تبيع أبناء البلدة احتياجاتهم بدلا من شرائها من القدس، ويكون ريعها للمساهمين، واقترحوا أن يكون احمد بن أبو عليّ المسؤول الأول عن البقالة، براتب قدره خمسة دنانير شهريا، على أن يتعهد بدفع أيّ خسارة تلحق بالبقالة، وأن يجتمع بالمساهمين ليقدم لهم تقريرا عن سير العمل كل ثلاثة شهور، واتفقوا أن يشتروا حمارا لإيصال البضاعة الثقيلة الى بيت المشتري… بضاعة ثقيلة مثل إيش يا عمّي يا كايد؟ سأل أبو فالح.
– مثل كيس طحين ومثل جالون كاز.
بس مين بدّو يكون مسؤول عن الحمار؟ أحمد مش معقول يترك الدكان ويروح يودي اغراض للناس لبيوتهم.
– طيب اختاروا واحد من هالناس القاعده لا شغله ولا عمله وخّلوه مسؤول عن الحمار.
اسمع يا أبو علي قال أبو فالح:
ابنك احمد مسؤول عن الدكانه…معناه المسؤول عن الحمار لازم يبقى من عِيلتنا.
– ما عندنا مشكله…بس شو بدكم تعطوه أجره؟
– ثلاث دنانير…بس مين اللي بدكم تشغلوه؟
– ابني فالح لكن… ليش هو ابنك أحسن منه تيوخذ خمس دنانير؟
– لا ياعمّي ابني متعلم وبقدر يشتغل شغله أحسن من هذي وبأجره أكبر.
– دخيلك ابنك شو متعلم؟ والله اللي يسمعك تقول متعلم بحسبه دارس في الأزهر.
– لا دارس في الأزهر ولا في غيره …درس خمس سنين في المدرسه ويعرف يقرا ويكتب.
وهنا تدخل الحضور واقترح أبو فايز ان تكون أجرة فالح اربعة دنانير، فسكت أبو فالح على مضض بعد أن تلثم بكوفيته، ورفض شرب الشاي.
بعد ستة شهور دبت الخلافات بين أفراد الحامولة حول”دكان الحامولة” فأبو سالم قام بحملة تحريضية واسعة، زاعما بأن هناك من يريدون الغنى على ظهر الحامولة، وهاجم كايد بشدة واصفا إياه بأنه يقبض من جهات خارجية، ويحرض الشباب على الحكومة، وهو لا يهدف مصلحة الحامولة ولا مصلحة القرية، بل يريد أن يبني مركزا له على ظهورنا، والله أعلم متى ستسجنه الحكومة، وعندها ستصادر البقالة وما فيها، ولن تستطيعوا عمل شيء عندها سوى خسارة أموالكم، والله أعلم إن كانت الحكومة ستكتفي بذلك أم ستسجنكم أيضا.
أبو سالم دعا المساهمين في “دكان العيلة” وعددهم ستون شخصا لاجتماع في بيته، بنى بيت شعر يتسع للجميع، حضر حوالي أربعين شخصا، طرح عليهم مخاوفه من كايد ومخططاته، فسأله أبو كايد:
قل لي يا أبو سالم: ليش حاط قردتك ع هالولد؟ شو عمل معك وللا مع غيرك؟ من يوم ما صارت هالدكانة وإنت قايم قيامته، أيّ والله لولا خفت تقولوا أبو كايد ما بدّه يشارك مع الحاموله ما ساهمت بالخمس دنانير، والدكانه هي نفعتكم وللا ضرتكم؟ هاي ست شهور مرّت وكل واحد منكم والطحين والرز والسكر والشاي والصابونه والكاز وغيره تصل لدوركم وانتو مثل الشيوخ.
أبو سالم: هَيْ هايْ.. مليح إنّك اعترفت إنك ساهمت بخمس دنانير خجل من الناس، يعني ميشان تورط غيرك، إلا قل لي: ابنك المحروس كايد وينه؟
وانت يا أبو فالح والله لولا ابنك اشتغل ع حمار الدكانه ما وافقت تدفع خمس دنانير…. يا عمّي شو ناقصك ابنك فالح يقبض أربع دنانير في الشهر، وأحمد إبن أبو علي يقبض خمس دنانير…وكله ع ظهورنا.
أبو كايد: إتّقي ربك يا زلمه، كايد الله يرضى عليه سافر لبيروت يكمل تعليمه…كلها سنة زمان ويرجع حامل شهاده كبيره، وع العيد راح يرجع زيارة…بعد أقل من اسبوع يكون عندنا لمدة اسبوعين.
أبو سالم: شو وصّله لبيروت؟…ومين بصرف عليه؟
أبو كايد: بعثه ع الجامعة الأمريكية.
أبو سالم: شو قلت؟ الجامعه الأمريكيه…شو عرّفه بالأميركان؟ وشو علاقته معهم؟
أبو كايد: شو دخّلك انت في هيك أمور؟ الولد وهو يتعلم في سوريا تعرف ع دكتور لبناني وصاحبه وهو اللي دبّر له بعثه.
أبو فالح: أنا شايفك يا أبو سالم مش مصلّي ع النبي، وحاسدنا ع الأربع دنانير اللي يقبضها الولد أجرته من الدكانه، يا عمّي أنا ابني من بكره يسلمكم حمار الدكانه ودبروا حالكم، والرزقه اللي من وراكم ما بدّي إياها.
أبو علي: وابني أحمد مش أحسن من فالح… من بكره ما برجع للدكانه.
أبو سالم: شايفين يا جماعه… مِن ما كشفت طابقهم … ظهروا ع حقيقتهم… يا عمّي ما حدا يستنى رمضان حب فيه… لكن حبّ بطبايخه؟.. شو رايكم يا اصحاب المال؟ لا تحملوني المسؤوليه… أنا حبيت أوضح إلكم الأمور.. وكل واحد منكم خطيته في رقبته.. يا بوخذ مصرياته.. يا بطلب العوض من الله.
أبو حسن: يا عمّي.. وحدّوا الله وخلّوا المركب ساير، أي والله من ما صارت هذي الدكانه ارتحنا.. والغرض اللي بدنا إياه ولد صغير يروح ويجيبه، والدكانه تبيع أرخص من القدس، والربح إلنا يا ناس…
أبو سالم: أنا عارف إنه مصلحتك ما تخلّيك تقول الصّحيح.
أبو حسن: عيب يا أبو سالم… شو اللي تقول فيه؟ وشو في مصلحه إلي أكثر من مصلحة كل واحد فيكم؟ وانت أصلا ما ساهمت في الدكانه.. وشو مغلبك؟
أبو سالم: شو مغلبني؟ نص مصريات الدكانه من إخوتي وولاد عمّي… إن شاء الله بدّي أترككم تلفوها وأنا أتفرج؟
أبو علي: احفظ كلامك ولا تقول تلفوها… ليش شايفنا حراميه؟
أبو سالم: انت في داري وللا كان عرفت شو أرد عليك؟ لكن ميشان ترضى انت وكل من قال بقولك…عليّ الطلاق من أمّ سالم اذا عادت وفتحت الدكانه من بكره لأحرقها.. وأشوف شو بدكم تعملوا.
انتفض أبو فالح وأبو عليّ وخرجا.. وخرج معهما أقاربهما وهم يرددون: إذا إنك زلمه احرقها….
أبو حسن: لا حول ولا قوة الا بالله… اسمع يا أبو سالم… لا تحرق الدكانه ولا عَ بالك.. أنا رايح أشوف أبو علي وأبو فالح.. يا يشتروا الدكانه هم وجماعتهم ويردّوا مصرياتكم لكم.. أو تشتروها انتم وتردّوا لهم مصرياتهم…
أبو سالم: هذا الكلام الصحيح… واحنا يا عمّي بدنا مصرياتنا.
انفضت الجلسة وعادوا الى بيوتهم، في المساء ذهب أفراد من أقارب أبو سالم الى أبو مفلح وإلى أبو عليّ وطلبوا منهم أن لا يدفعوا قيمة أسهمهم في البقالة لأبو سالم، فالرجل “يأكل الضبّ الذي سلم على الرب” كما وصفه حسّان بن عمّه.
وصل خليل البيت مرفوع الرأس مختالا بنفسه، فقد كان في عمّان، وعند المخابرات، وجلس مع الباشا، طلب طعاما من والدته، فَقَلَتْ له بيضة بالسّمن البلدي، سأله والده:
– خير يا ولد وين كنت؟
– عند المخابرات في عمّان.
– شو بدهم منك؟
– سألوني عن الحزب الشيوعي.
– شو قلت يا ولد؟ الحزب الشيوعي… من وين فيه حزب شيوعي؟
– الجائزة اللي قلت لكم فزت فيها من إذاعة موسكو باللغة العربية هي اللي جابت إلنا الدَّوَرْ.
– وشو سألوك غير هذا؟
– ولا شيء.
– سألوك عن بلاد الانكليز؟
– آه سألوني بس ما ركّزوا عليها.
– سألوك عن المصاري اللي جبتها من بلاد الانكليز؟
– لا …ما سألوني.
– ضربوك؟
– لا.. في عمّان ما ضربوني بس هددوني اذا أكتب لإذاعة موسكو مره ثانيه أو بأسمعها، لكن في المحافظة في القدس واحد زيّ البغل شمطني كف قلب سحنتي.
– والله أنا خايف هذا الراديو يخرب بيتنا… لا تفتحه من اليوم ورايح وللا رايح أكسره، يقطع الراديو واليوم اللي شفناه فيه.
أنهى خليل طعامه، وتمدد على فرشة صوف، وتغطى بلحاف صوف وحاول النوم…كان مضطربا… غفا دقائق … واستذكر اسماعيل بن أبو اسماعيل عندما أخرج طلاب المدرسة في مظاهرة وهو طالب في المترك، تهتف بحياة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وسقوط حلف بغداد، والدعوة لتحرير فلسطين، كان خليل في الصف الابتدائي الأول، خرج طلاب المدرسة… يهتف اسماعيل أمامهم وهم يرددون خلفه، وزع عليهم عددا من صور الرئيس عبد الناصر كي يرفعوها في المظاهرة، اقترب منه خليل وحمل صورة.. تقدم الصّفوف وهو يرفع الصّورة عالية بيده…
حضر رجال الشرطة من المخفر… اقتادوا اسماعيل فلم يقاومهم… طلبوا من الطلبة أن يعودوا الى بيوتهم بهدوء… انصرف بعضهم وبقي البعض الآخر في الشارع.. خليل الأكتع بقي يرفع صورة عبد الناصر ويهتف وحده: فليعيش الرئيس جمال عبد الناصر….
بالرّوح بالدّم نفديك يا فلسطين.
اقترب منه شرطي، وانتزع منه الصّورة ومزقها وهو يردّد: انصرف الى بيتك أيها الأكتع الصغير… فلسطين ما يحررها غير واحد اكتع مثلك، ولو أنك أكبر سنا لعرفت كيف أتعامل معك.
اعتقلت الشرطة اسماعيل وأودعته السجن… وشاويش المخفر طلب من مدير المدرسة عدم إعادة أيّ طالب للمدرسة، حتى يوقع وليّ أمره على تعهد بعدم خروج ابنه في مظاهرات، ومن سيخرج في مظاهرة بعد اليوم فان الشرطة ستعتقل أباه، لأن الشرطة لا تعتقل أطفالا.
في اليوم التالي جلس شاويش المخفر على كرسي مدير المدرسة والمدير بجانبه، وشرطيان يجوبان ساحة المدرسة، وفي يد كل منهما عصا…المعلمون يطلبون من كل تلميذ يحضر الى المدرسة أن يعود الى البيت ليحضر وليّ أمره معه.
عندما حضر أبو كامل مع ابنه خليل، نظر الشاويش اليه وقال وهو يشير الى خليل:
هل هذا الأكتع ابنك؟
– نعم سيدي.
– كم عمره؟
– ست سنوات.
– مبارح بعينيّ شفته يحمل صورة عبد الناصر ويمشي أمام المظاهرة.
– ولد جاهل يا سيدي والله أعلم مين أعطاه الصورة؟
– الجاهل وراه عاقل، والآن وقع على هذا التعهد، واذا مرة ثانية شفناه في مظاهرة رايحين ندوس على رقبته، ونكسر إيده الثانية ونحبسك أنت مش الولد المفعوص هذا.
– حاضر سيدي.
في المساء كانت القرية هادئة ومضطربة، الكل خائف من الكل، واسماعيل لم يعد، وانتشرت في القرية شائعات تقول بأنه صدر عليه حكم بالسجن لمدة 15 سنة، وأنّهم أرسلوه الى سجن الجفر الصحراوي، غير أن كامل قال بأن اسماعيل حُكِم بالسجن لمدة شهرين، كما هو منشور في الصحف.
وشو التهمة يا عمّي يا كامل سأل أبو علي؟
– التهمه حزب البعث.
– شو يعني حزب البعث؟
– حزب يرفع شعار تحرير فلسطين، ويقول ان العرب أمّة واحدة ذات رسالة خالدة.
– وشو معنى رسالة خالدة؟
– يعني الاسلام.
– وينادي بالوحدة والحرية والاشتراكية.
– شو الاشتراكية هذي؟
– هاي مثل اللي في روسيا.
– يعني بلشفيك والعياذ بالله، والبلشفيك ع ذمّة الراوي ما يفرق الواحد منهم بين زوجته وبين أخته.
– وَحِّد الله يا أبو علي قال الحاج عبد الباري، أيّ هو فيه واحد في العالم ما يفرق بين زوجته وأخته؟ هذا كلام فاضي.
– طيب شو بدهم أيّ هو ناقصنا مشاكل؟
– بدهم يسقطوا حلف بغداد، وللا ما سمعتوا خطابات جمال عبد الناصر؟
– يا عمّي الحيطان تسمع دشرونا من جمال عبد الناصر قال أبو علي.
تنحنح أبو سالم وهو يشعل غليونه وقال:
البعث حزب ضد الحكومة، والأحزاب هي اللي تبعث الشباب للجامعات، مش لسواد عيونهم ولا لسواد عيون أهلهم، يا عمّي ناس يحرثوا ع ظهور ناس… ويصيروا زعماء ع ظهورهم.
انتفض أبو كايد وأبو داود غضبا، فكايد وداود يدرسان في جامعة بيروت الأمريكية، وقال أبو داود: اشهدوا يا جماعة ع كلامه، هذا بدّه يحبس ابني، والله لو تنزل سخطة من السماء على ابني إلا انت أبوها والمسؤول عنها يا أبو سالم.
ردّ أبو سالم باستهتار: ليش أنا باقي حكومه وأحبس الناس يا أبو علي؟ دير بالك على ابنك وخليه يبعد عن الأحزاب، وعند مخالفة الدول الكل يخبّي راسه، واياك تحسب الحكومة نايمة.
المظاهرات تنطلق في الدول العربية جميعها، تهتف بحياة الرئيس جمال عبد الناصر، وبسقوط حلف بغداد وبتحرير فلسطين وإعادة الللاجئين، وخطابات عبد الناصر تلهب حماس المتظاهرين، والشرطة لم تعد تسيطر على المدن مما استدعى فرض الحكم العسكري، وتدخل الجيش لفرض النظام…لكن المظاهرات بقيت متواصلة، مما حدا بالملك الى تكليف شخصية وطنية بارزة، وتحظى بتأييد أحزاب المعارضة السرية…وبدورها أعلنت الحكومة الجديدة معارضتها الشديدة لحلف بغداد، وأنها ستعمل على تعبئة الطاقات لتحرير فلسطين واعادة اللاجئين الى ديارهم التي شردوا منها.
في وقفة العيد عاد كايد من الجامعة لقضاء عطلة العيد وسط عائلته، كانت الأجواء في القرية ملتهبة، فدكان الحامولة أصبح شغل الحامولة الشاغل، حاول كايد تخفيف الأزمة وإعادة الأمور الى نصابها، غير أن أبا حسن أوضح له، بأن أبا سالم لن يسكت، ولن يترك القافلة تسير، وأبناء عائلته لا يخالفون له رأيا مع أنهم يكرهونه ويشتمونه في غيابه، ويقفون احتراما له عند حضوره، وينخرسون في حضرته.
فقال كايد: البقالة ربحت يا جماعة، ولم تخسر، أقترح أن تجمعهم يا عمّ أبو حسن في بيتك لأشرح لهم الأمر، وإن بقي أبو سالم على رأيه، ووافقوه عليه سنعيد لهم فلوسهم، ولا حول ولا قوة الا بالله.
في اليوم التالي لبّى أبو سالم والمساهمون من أبناء عائلته في “دكان الحامولة” دعوة أبو حسن، ووصلوا بيته بعد صلاة المغرب، وحضر كايد وأبوه وبضعة رجال من وجهاء القرية.
رحب بهم أبو حسن بعد أن احتسوا القهوة وقال:
يا جماعة” دكان الحامولة” فكره من راس كايد…. واتركونا نسمع شو رأيه في الموضوع، وبعدها اللي عنده رأي الكل يسمعه.
فاعتدل أبو سالم في جلسته وقال: يا عمّي الله يمسيكم بالخير… ما جينا لدارك يا ابو حسن حتى نسمع رأي كايد ولا غيره… جينا نوخذ مصرياتنا كان بقي منهن شيء، واللي بدّه الدكان مبروك عليه.
كايد: مصرياتكم يا عمّي في الحفظ والصون، ويد الله مع الجماعة، اذا تركتوهن في الدكان يربحن ولا يخسرن.
أبو سالم: لا… يا عمّي الربح اللي من وراكم ما بدنا إياه.
كايد: في واحد منكم يا جماعة أبو سالم عنده وجهة نظر أخرى؟
تلفتوا الى بعضهم البعض ولم يتكلم أحد منهم.
كايد أخرج ورقة من جيبه وقال: هذه قائمة بأسماء المساهمين، المساهمون من عائلتكم 18شخصا، كل واحد دفع خمسة دنانير باستثناء الحاجة أمّ سليمان- أرملة ابو سليمان- فقد دفعت 3 دنانير فقط، وهذه 100دينار، كل من دفع خمسة دنانير بيطلع له خمسه ونص، والحاجة أمّ سليمان ثلاثة دنانير ونص.
فقال أبو سالم: ناولني إياها.
كايد: ليش أناولك إياها؟ كل واحد ياخذ مصرياته في إيده، ويوقع لي عَ ورقة إنه استلمهن وما ظلّ له مطالب.
أبو حسن: عفاك الله يا كايد…هذا الصحيح…والله ما فيه مثل العِلم …بينما اتكأ أبو سالم على كوعه الأيمن، وتلثم بكوفيته،….أعطى كايد المساهمين الحضور من عائلة أبو سالم كل واحد منهم خمسة دنانير ونصف بيده، بعد أن يوقع أو يبصم بابهامه بجانب اسمه، والغائبون كانوا أربعة إضافة الى الحاجة أم سليمان، فاحتفظ كايد بمستحقاتهم حتى يراهم في اليوم التالي.
أبو سالم: قل لي يا كايد حسابك مزبوط وللا لأ؟
كايد: طبعا مزبوط.
أبو سالم: لكن أكيد نسيت ثمن الحمار…
ضحك البعض وابتسم البعض الآخر…فقال أبو حسن:
شو تقصد يا ابو سالم؟
– قصدي حصتنا في الحمار… النا في الحمار ثلث وما دخل في الحساب.
أبو حسن باسما: طيب روح خذ ثلث الحمار.
كايد: لا يا عمي ….اذا بدّك الحمار خذه كله… مبروك عليك … الحمار مربوط هناك بجانب بيت فالح بامكانك تاخذه.
أبو سالم: ما هو ناقصني حمير.. وشايفكم تتمسخروا… ما هو معجبكم العجب… لكن رايحين تندموا… وانتعل حذاءه وخرج.
في اليوم التالي خرج فالح بعد صلاة الصبح ليعلف الحمار، فوجده نافقا وسط بركة دماء، أخبر والده بالأمر، واتجها لبيت أبو كايد وأخبراه بالأمر، واتفقوا على اتهام أبي سالم بقتل الحمار، فإمّا ان يدفع ثمن الحمار أو يقسم بأنه لم يقتله، ولا يعلم من هو قاتله، ولم يحرض على قتله….فقال كايد:
يا جماعة .. ما بدنا مشاكل…أبو سالم رجل يحب المشاكل… واتركونا منه…وأنا أدفع ثمن الحمار ونشتري حمار جديد…واتركوا البقالة لأنها تخدم البلد والكل يستفيد منها.
الله يرضى عليك يا كايد قالها أبوه وأبو فالح، وأضاف أبو فالح:
والله العلم جنّة… أحسن من المصاري.. اللي قاله كايد عين العقل، مش ناقصنا مشاكل…وأبو سالم اذا ما فيه مشكله بخلق مشكله….أحسن شيء ولا واحد يسأله عن الحمار….وهذي اكبر عقاب له…بعدها راح يفقع غيظ…
جلالة الملك يعلن عن انتخابات برلمانية جديدة، ويكلف الحكومة الوطنية بالاعداد لها خلال اربعة شهور، ورئيس الحكومة يعلن عن اطلاق الحريات الحزبية، ويدعو الأحزاب والمواطنين الى التزام الهدوء، فالحكومة غير موافقة على الانضمام الى حلف بغداد…والملك يعلن تعريب الجيش، وطرد جلوب باشا من رئاسة الأركان، وجمال عبد الناصر يشيد بالمواقف القومية الباسلة التي اتخذها جلالة الملك وحكومته بتعريب الجيش، والوقوف صراحة ضد حلف بغداد الذي يهدف الى السيطرة على العالم العربي، ودعم اسرائيل التي اغتصبت فلسطين.
بدأت الأحزاب باجراء مشاورات بينها لخوض الانتخابات بتحالف حزبي في كل محافظة، وأن تدعو جماهير الناخبين أن ينتخبوا مرشحي الأحزاب، مع أن نظام الانتخابات يقوم على انتخاب أفراد وليس قوائم حزبية…
وأفرزت الأحزاب مرشحيها:
– المحامي عبدالرحمن النعاس وبهيج الغريب عن حزب البعث.
– الدكتور عقاب الزايد عن الحزب الشيوعي الأردني.
– الاستاذ سامي الشنار عن حركة القوميين العرب.
وترشح غازي كمال من أمّ الغزلان مستقلا…وأعلن نفسه مرشحا عن الفلاحين..
وبدأت المنشورات الدعائية التي تحمل صورا للمرشحين، توزع في كافة الأحياء، وتلصق على الجدران، واشتعلت الاجتماعات الجماهيرية، وانطلقت الخطب الرنانة.
وفي ساحة المدرسة خطب المرشحون بالجموع المحتشدة ومما قاله الاستاذ سامي الشنار:
أيها الأخوة الكرام، نتيجة لنضالات الشعب ومظاهراته الباسلة ضد حلف بغداد، فقد رضخت الحكومة لمطالبكم العادلة، وتم تشكيل حكومة وطنية، وهي حكومة مؤقتة سيجري اعادة تشكيلها بعد الانتخابات، بناء على رغبة ممثليكم في المجلس النيابي-البرلمان- ونحن دعاة وحدة، وحدة الأقطار العربية كلها، من المحيط الهادر الى الخليج الثائر، تحت قيادة زعيم الأمة جمال عبد الناصر، فلولا تجزئة العالم العربي الى دويلات وشعوب، لما ضاعت فلسطين ولما قامت اسرائيل.
ومما قاله الأستاذ عبد الرحمن النعاس:
ايها الأخوة المواطنون
يا أحفاد خالد وصلاح الدين، يا ورثة الرسالة الخالدة، الوحدة هدفنا والاشتراكية سبيلنا وتحرير فلسطين غايتنا، وفي حالة وصولنا الى الحكم سنهدم الحدود الوهمية بيننا وبين أشقائنا العرب، وسنصبح دولة كبرى لها شأن، وسيصبح تحرير فلسطين واعادة اللاجئين تحصيل حاصل، فلا تضيعوا أصواتكم على من لا يعبرون عن طموحاتكم في الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية.
أما الدكتور عقاب الزايد فقد كان هادئا في خطابه الذي جاء فيه:
أيها الرفاق: لقد بلغ السيل الزبى، ثلاثة ارباع فلسطين تحت الاحتلال الاسرائيلي، وثلثا الشعب الفلسطيني أصبحوا لاجئين، والفقر يبطش بغالبية الشعب، ونحن نعمل على تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد الشعب، ونعمل على فتح المدارس والمستشفيات وتطويرها، والقضاء على الأمية المتفشية، ورفع المستوى الاقتصادي، وعدم الاعتماد على المعونات الأجنبية من خلال تطوير اقتصادنا الوطني، ونعمل على تطوير علاقاتنا مع الاتحاد السوفييتي العظيم ومجموعة الدول الاشتراكية، للوقوف في وجه الهجمة الاستعمارية، التي تستهدف منطقتنا وتنهب ثرواتنا.
وفي هذه الأثناء وصل المرشح المستقل غازي كمال، يرتدي بدلة قمحية اللون، ويعتمر كوفية حرير صفراء، ويفتل شاربيه، فوقف المخاتير والوجهاء لتحيته والسلام عليه، واتجه الى منصة الخطابة فصافح المرشحين الآخرين وشرع يخطب دون استئذان، فقال:
يا أهلي ويا ربعي ويا أبناء عشيرتي، لن أتكلم عن نفسي، فأنتم تعرفونني أكثر مما أعرف نفسي، وبعضكم قاتل معي في القسطل عند استشهاد عبد القادر بيك الحسيني، ولن أترك الجهاد في سبيل تحرير فلسطين ما بقيت على قيد الحياة، وأنتم تعلمون أن البرلمان تكليف لا تشريف، فوالله لولا محبتكم ومحبة شعبي لما رشحت نفسي، وسأعلن عن انسحابي لصالح أيّ مرشح منكم في حالة اقدامه على ترشيح نفسه، لكن لمن أترك مقعد الفلاحين؟ فمن سيدافع عنهم وعن مصالحهم؟- وخلع كوفيته وعقاله وألقى بهما على الطاولة أمامه وهو يصيح بأعلى صوته غاضبا- أين سيضيع شرف الفلاحين اذا لم يصل واحد منهم الى البرلمان ليدافع عن مصالحهم؟…قالها وجلس.
فوقف المخاتير والوجهاء يهتفون: كلنا معك يا أبو كمال، وصعد أبو سالم الى المنصة وقبّل وجنتي أبو كمال وأعاد كوفيته على رأسه، وهو يردد:
ولا يهمك يا أبو كمال…اللي بدك إياه بصير…والليلة العشاء عندي انت وكل الاخوان. واتجه الى الجمهور وقال: المخاتير والوجهاء مدعوين مع الاخوان ع العشاء في بيتي، وما في عذر لأيّ شخص….اعتذر المرشحون الحزبيون بشدة ، بذريعة ارتباطاتهم المسبقة، وانتحى أبو كمال بأبي سالم جانبا ونقده عشرين دينارا كي يذبح خمسة خراف ويحتفظ بالباقي.
***************
في بيت أبو سالم جلس المرشح غازي كمال على فرشتي صوف وسط بيت الشَّعَر، في حين جلس المخاتير والوجهاء على بُسط منسوجة من صوف الغنم وشعر الماعز، وانتشر الأطفال أمام البيت، وخليل يقترب من الرجال …يتربع على التراب…يستمع بهدوء ولا أحد يعيره انتباها، يد قميصه اليسرى تلوح في الهواء مع كل حركة منه، فاليد مقطوعة.
بدأ المرشح غازي كمال يشرح للحضور برنامجه الانتخابي، المتمثل في خدمة أبناء القرى، فالفلاحون منسيون من قبل الحكومة، فلا شوارع، ولا عيادات صحية، وهناك نقص في الغرف الدراسية، ومربو الأغنام يعانون في سنوات القحط من غلاء الأعلاف، وقلة مياه الشرب، واذا لم يكن لهم ممثل في البرلمان فمن سيطرح مشاكلهم على الحكومة؟
فقال أبو سالم:
سلامتك يا أبو كمال، والله ما لنا غيرك….بس قل لي بصفتك زلمه فهمان…شو ربهم المرشحين اللي كانوا يخطبوا عندنا؟
– الله يخليك يا أبو سالم أنا ما هو طبعي أغتاب الناس…لو سألتني وهم موجودون.
أبو سالم: حلفنا عليهم ييجوا يتعشوا بمعيتك ورفضوا…شو نقدر نساوي أكثر من هيك…لكن أخاف الله انهم ما عندهم الجرأة يجلسوا في مجالسك.
هذي ما هي غيبة…هيهم مرشحين حالهم ع روس الأشهاد…وبكره بدهم يمثلوا الناس….ومن حق الناس يعرفوهم…هاي انت كلنا نعرفك أب عن جد…بعدين كلها صفوة …ما فيه ناس يعرفوهم تيردوا لهم الحكي.
أبو كمال: أنا ما أخاف الا من واحد أحد…لكن فيه شباب بتضحك عليهم الأحزاب …ومنتشرين في كل مكان… حتى في قريتكم…ويا ليتهم يردوا الكلام مثل ما هو ….يزيدوا وينقصوا مثل ما بدهم.
أبو فالح: شبابنا ما تربوا عَ ردّ الحكي يا أبو كمال….واذا ما بدّك تحكي على راحتك.
ابتسم أبو كمال وقال: يعني شو بدكم أقول لكم…الدكتور عقاب الزايد نصراني ومن مادبا …ما هو من كل فلسطين …وبعدين شيوعي والعياذ بالله.
أبو سالم: شيوعي…شو تقول يا زلمه؟ شيوعي ونصراني ومش فلسطيني وبدّه يمثلنا في البرلمان.
أبو حسن: لا يا جماعة الخير، الكلام هذا عيب، ما فيه فرق بين فلسطيني وأردني …أو مسيحي ومسلم…فكلنا بلد واحد وشعب واحد وحكومه واحده وملك واحد.
أبو سعيد: أي والله هذا الدكتور ما فيه أحسن منه…يوم مرضت أمّ سعيد والله لولا الله وهالدكتور لكان أخوكم أبو السعيد طاوي ثوب الرُّمْلِه…والله وأعطانا الدواء بدون مصاري….ومش بس أنا…ما هو كل المرضى بروحوا عليه وبعالجهم وعمره ما كشر في وجه واحد.
صالح بن أبو زعول: طيّب عارفين يا اخوان… يا ليت عندنا في بلدنا دكتور مثله…والله انه زلمه شبعان ذوق…وما هو طماع.
عفنان: يا ليت الدكاتره كلهم مثله.
أبو سالم: والله ما ظل غير تقولوا إنه الشيوعية أحسن من الاسلام….استغفر الله العظيم يا ربي لا تؤاخذنا.
أبو حسن: إحنا بدنا من عمله وللا من ثمنه….أنا رايح أنتخبه وأنتخب أبو كمال لأنه محسوب علينا ورايح أنتخب كل مرشح شريف.
عفنان: وأنا مثلك.
أبو سالم: يا جماعة الخير لازم نصب أصواتنا ع زلمتنا أبو كمال لحاله…ما بدّي تندموا بكره….لكن يا أبو كمال الله يحفظك المحامي النّعاس والأستاذ الغريب على مين محسوبين؟
أبو كامل: ع حزب البعث يا جماعة….والجماعه ما هم مخبيين حالهم…منشوراتهم تقول: انتخبوا مرشحي حزب البعث العربي الاشتراكي.
أبو سالم: وسامي الشنار شو سالفته؟
أبو كمال: هذا…اللهم صلي على سيدنا محمد..من حركة القوميين العرب…
ابو سالم: ما فهمت هذي…يعني الزلمه شايف حاله عربي وحنا مش عرب؟
وهنا دخل الأستاذ كايد والأستاذ داود والأستاذ محمد وبيده حقيبة جلدية… صافحوا الجميع…وعانقهم أبو كمال مع أنه لا يعرفهم من قبل.
أبو سالم: أهلا وسهلا بالأساتذة…طبعا تعرفوا أبو كمال …الأستاذ غازي كمال….زلمتنا….وحبيبنا ومرشحنا للبرلمان.
يا هلا بك يا أخ أبو كمال …قالوها مجتمعين…وأشار أبو سالم اليهم لِيُعَرِّف أبو كمال بهم،
هذا أبو قميص أبيض الأستاذ كايد…معلم مدرسه ترك المدرسه وراح يدرس في بيروت…واللي ع يمينه الأستاذ داود معلم مدرسة وترك التعليم ودرس في بيروت واليوم يدرس في لندن…واللي ع اليمين الأستاذ داود معلم ترك المدرسة وراح يتعلم في بيروت.
أبو كمال: أهلا بالأساتذة….الأمانة الواحد يفرح لما يشوف هيك شباب متعلمين….فهم بناة الوطن…وحماته….وهم من سيجعلوه جنة.
حيّاك الله يا أبو كمال…قالها الأستاذ محمد وهو يفتح الحقيبة، ويخرج منها مئات المنشورات الانتخابية، لمرشحي حزب البعث وحركة القوميين العرب…والحزب الشيوعي…ودار بها على الموجودين كلهم، وأول منشور سلمه لأبي كمال باليد.
غضب أبو سالم من ذلك وتلثم بكوفيته ولم يتكلم.
نظر الحضور الى المنشورات، تمعنوا في صور المرشحين، قال أبو حسن:
واحد منكم يا عمّي يا أساتذة يقرأ لنا شو مكتوب في هذه الورقة.
كايد: أصحاب الصور اللي شايفينها هم المرشحون عن الأحزاب الوطنية.
المحامي عبد الرحمن النعاس
الأستاذ بهيج الغريب.
المحامي سامي الشنار.
الدكتور عقاب الزايد.
– أيّ احزاب؟
حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، والحزب الشيوعي الأردني.
– أيّ هو في حزب شيوعي أردني؟…ما لكم عليّ يمين..لو واحد سألني قبل هاليوم إنه في حزب شيوعي عندنا، لحلفت إنه ما فيه…يا عمّي الشيوعية في بلاد المسكوب شو جابها لبلادنا؟
كايد: الأحزاب الشيوعية موجودة في الدول كلها….لكن هي أحزاب حاكمة في الاتحاد السوفييتي وبعض دول أوروبا الشرقية.
أبو حسن: وشو البعث والقوميين؟
محمد: هذي الأحزاب اللي سمعتوا الليله زلامهم شو بقولوا…بدهم يوحدوا العرب…ويطردوا الاستعمار …ويحرروا فلسطين…مثل الرئيس جمال عبد الناصر…اسمعوا خطاباته وافهموا عليه شو بقول.
أبو كمال: يا جماعة الخير…ربنا سبحانه وتعالى قاتل الأحزاب وما رضي عنها.
داود: الأحزاب اللي قاتلها ربنا غير عن أحزابنا، كانت أحزاب ضد الله – سبحانه وتعالى-، وضد رسوله – صلى الله عليه وسلم-، وهذي أحزاب لا هي ضد الله ولا ضد الرسول، ولا ضد الدين، هذه أحزاب بدها تجمع الناس وتنظمهم لأجل تحرير فلسطين، وتحرير البلدان العربية من الاستعمار الأجنبي، وتوحيدها، وتعليم شعوبها، وتطوير اقتصادها…، وإعادة اللاجئين.
أبو كمال: يا شباب هداكم الله…أنا مش ضد الاحزاب…لكن والله لو تعرفوا كيف الناس عايشين في الاتحاد السوفييتي لبكيتم دم بدل الدمع.
داود: الاتحاد السوفييتي نصير الشعوب المظلومة والمستعمرة ويساعدها…وضد الامبريالية العالمية، وما له أية أطماع لا في بلادنا ولا في غيرها.
أبو سالم: يا جماعه…ما لنا وما لهذا الحكي الفاضي…إحنا بدنا زلمتنا اللي منا وفينا ينجح، وشو بدنا في الناس اللي ثوبهم ما هو من ثوبنا؟ وبدّي تعاهدوني بالله وباللي قاله الله إنكم تنتخبوا أبو كمال.
محمد: إذا أبو كمال بعطينا عهد صادق إنه يخلي جماعته ينتخبوا مرشحينا رايحين ننتخبه.
أبو سالم: ومين زلامكم يا عمي اللي بدك ننتخبهم.
هاي أساميهم وصورهم في الورقة اللي قُدامك.
أبو سالم: ما هم منا ولا حنا منهم…ولا بنعرفهم ولا بعرفونا.
– لا…يا عمّي اذا ما بتعرفهم احنا بنعرفهم وهم بعرفوا كل الناس….وإذا بدّك تتعرف عليهم افتح بيتك وخلينا نحدد لك يوم بيجوا عندك…بس تتعهد تجمع البلد تستقبلهم ويسمعوا شو بقولوا.
أبو كمال: أنا ما عندي مانع اني انتخبهم إذا جماعتي وعزوتي-وانتم منهم- بدهم إياهم.
أبو حسن: آه…نعم بدنا إياهم ورايحين ننتخبك وننتخبهم.
بارك الله فيكم..قال أبو كمال مناورا.
استأذن”الأساتذة” بالانصراف، فوقف أبو سالم وقال:
وين رايحين يا شباب …العشاء على النار…وللا زادنا ما يعجبكم…أيّ طلاق ومن هالشارب اذا ما قعدتوا للعشاء عمر لساني ما بناطق لسان واحد منكم.
تشاوروا فيما بينهم وقرروا البقاء.
تنحنح أبو كمال وقال: بدّي أسألكم يا جماعة الخير….
صمتوا جميعهم وصوبوا أنظارهم عليه وقالوا: تفضل إسأل.
– في واحد منكم غشيني ع داري وما فتحت في وجهه…
– لا …لا…حماك الله يا زلمه…أيّ والله بيتك مفتوح دايما مش من الوقت…حتى من زمن أبوك وجدّك –الله يرحمهم- وما سمعنا عن شخص أجاك طالب ورجع خايب.
– وانا بدي أعطيكم وعد من اليوم …وقبل الانتخابات، واعتبروه وعد مني نجحت في الانتخابات وللا ما نجحت… إني أجتمع بجلالة الملك وأطلب منه يدخل أولادكم في الجيش والشرطة والفرسان…وكل واحد وعلمه…اللي أنهى المترك دورة ضباط ع طول…وللي أقل رتبته ع قدّه.
وأنا ما بدّي منكم حتى كلمة شكرا…مش مثل الأحزاب اللي تضحك ع الشباب وترسل اللي خلصوا المدرسة منهم بعثات للجامعات، ويرجعوا للسجون بدل ما يرجعوا ويشتغلوا في وظائف محترمة، ويعيشوا ويساعدوا أهلهم اللي تعبوا عليهم، وأصرفوا تعب عمرهم عليهم…وأقول لكم زياده..اللي بنهي الصف الثالث ثانوي- الاعدادي- أنا أضْمن دخوله دار المعلمين في بيت حنينا أو عجلون، سنتين زمان ويتخرج استاذ قدّ الدنيا…
داود: يا أبو كمال …لا تهاجمنا انت ضيف علينا عَ شان ما نهاجمك.
– شو هاجمتكم يا عمّي…أسألكم بالله يا وجوه الخير سمعتوا مني هجوم وللا شتيمه ع واحد.
حماك الله ارتفعت أصوات الشيوخ وهم يرددون: والله طول عمرك لسانك دافي وبنقط عسل.
لا إله إلا الله قالها داود وأكمل أبو سالم: محمد رسول الله…شايفك تهلل يا استاذ داود.
– ليش هو التهليل حرام يا أبو سالم؟
أبو سالم:الله يهديك يا عمّي.
سالم يتفقد قدور اللحم الذي يُطبخ على الحطب، يخرج قطعة ويتذوقها…ويعود ليهمس في أذن والده أن طعام العشاء جاهز…أبو سالم يطلب منه أن يحمل صحن الغسيل وإبريق ماء، ليدور بهما على الحضور بدءا بأبي كمال كي يغسلوا أيديهم.
أبو سالم يشرف على اعداد عشرة مناسف مجللة باللحم والسمن البلدي.
بعد تناول العشاء واحتساء القهوة المرة-السادة- مباشرة استأذن أبو كمال للانصراف، فانفضت الجلسة….أبو سالم غمز بعينه لـ “الأساتذة” كي يبقوا حتي ينصرف الجميع…ولحق بأبي كمال واختلى به قليلا قبل أن يدخل سيارته، وأصر في أذنيه بأن العشرين دينارا لم تكف ثمنا للخراف، ودون حساب اللبن والأرز والخبز..وأكد له بأنه سيضمن له أصوات البلدة كاملة باستثناء أصوات حفنة من الشباب الحزبيين، نقده أبو كمال خمسة دنانير أخرى على عجل، ودخل سيارته وغادر المكان.
عاد أبو سالم فرحا الى البيت حيث يجلس الأساتذة، سحب فرشة من الفرشتين التي جلس عليهما أبو كمال، فرشها بجانب أختها…وأصر على”الأساتذة” أن ينتقلوا للجلوس عليهما…اقترب منهم ووجهه تعلوه ابتسامة عريضة، كرر ترحيبه بهم…طلب من سالم أن يخبر والدته كي تعد ابريق شاي، وينتظر عندها لأنه يريد الحديث مع”الأساتذة” على انفراد.
شوفوا يا عمّي قالها أبو سالم بنعومة ….
– تفضل…خير يا أبو سالم.
ما فيه إلا الخير…المثل يقول:”نِيّال من استفاد وأفاد” وهذه الأيام مشمشيه…ويجوز ما تتكرر بعد عشر سنين…والمرشحين بنعفوا المصاري نَعِف…وانتم شايفين الحاله…واللي بدّي أقوله لكم…جماعتكم بدفعوا وللا… لأ؟
محمد: جماعتنا أبناء الشعب…يدافعون عن الشعب وقضاياه …ويجمعوا مصاري من الناس حتى يطبعوا دعايتهم.
بس انتو قلتوا إنه رايحين تجيبوهم لبيتي…وهذول ضيوف علينا بدهم عشاء…من وين مصاري يا شباب؟ وللا مش شايفين الحاله؟
كايد: اذا القضيه عشاء وبَس..أنا بأعطيك خمس دنانير ثمن كبش…تعمله عشاء للضيوف ..وأهل البلد ما هم ضيوف …وما يلزمهم عشاء…واذا اللي بتمون عليهم انتخبوا جماعتنا أنا أعطيك عهد صادق السنه سالم يخلص الثالث ثانوي-التاسع- سأضمن دخوله دار المعلمين في بيت حنينا، وبعد سنتين يصير معلم مدرسه، ويقبض راتب كويس.
– أكيد كلامك يا كايد.
– 100%…مدير دار المعلمين صاحبنا وما يرد طلب لنا.
طَيِّب هات الخمس دنانير وبعد بكره بعد صلاة العصر هاتوا جماعتكم. …وخذوا مني وعد ننتخبهم وننتخب أبو كمال.
– تفضل خمس دنانير واسمح لنا …يا الله تصبح على خير
– مع السلامة.
*********
تمدد أبو سالم على الفرشة في المضافة…في بيت الشَّعَر، تحسس الدنانير الخمسة، وعشرة أخرى بقيت معه مما دفعه غازي كمال، وضع يده اليسرى تحت رأسه …التحف بعباءته، وضع يده اليمنى على صدره وهو يفكر بكيفية جمع ما يستطيع جمعه من المرشحين، طار النعاس من عينيه…اعتدل في جلسته وأشعل غليونه…ها هو في منتصف الخمسينات من عمره ولم يبن بيتا، يسكن في غرفتين ورثهما… ولا يملك قطيعا من الغنم..
هذه فرصتك يا أبو سالم ..عليك أن تغتنمها…سأداهن المرشحين جميعهم…وسأحاول أن أحلب كل واحد منهم دون علم الآخرين، ومن يفوز فليفز، ومن يخسر فليخسر، والفائز أكون قد كسبت وده سلفا، وسيقضي لي أي مصلحة أريدها، يجب أن ألعب لعبتي على الجميع وبرضاهم…لن أخرج من هذا الموسم بأقل من 300دينار…سأبني غرفتين للأولاد وسأشتري 40 نعجة، ستصبح بعد ثلاث سنوات أكثر من 100 رأس، سيصبح عندي قطيع غنم، سأحلبه وسأبيع اللبن والزبدة والسمن والجبنة…جماعة الأحزاب يبدو أنهم فقراء ولا يملكون أموالا…لن أقف ضدهم…فربما سيكون الفوز نصيبهم، فخطابات عبد الناصر تلهب الجماهير، وتدعمهم أكثر من أموال العالم كله…يجب أن أعمل حساباتي بدقة متناهية، ودون أن يطلع على خفاياها أحد، سألتقي مع المرشحين المستقلين، كل واحد منهم على انفراد، وسأغرس في رأسه بأن البلدة وناخبيها طوع بناني، وأنني سأجير أصوات الناخبين لصالحه، لكن هذا سيكلفه ضيافة للناخبين، وأجرة سيارات، وعلبة سجائر للمدخنين منهم…وأيّ مبلغ يدفعه المرشح هو خير منه و”شعرة من قفا خنزير بركة”.. فتح الليل جفنيه قبل أن تنغلق عينا أبو سالم.
“الأساتذة” يفهمون موقف أبو سالم كما هو، فهو معروف لهم منذ طفولتهم، ودائما ما يسمعون قصصه من آبائهم….الأستاذ داود قال:
الرجل رخيص…أمضى حياته على النصب والاحتيال، وتستطيع شراءه أو إسكاته بأبخس الأثمان وكما قال المثل:”كلب ينبح معك ولا كلب ينبح عليك”.
الأستاذ كايد: الرجل ثمنه لن يزيد على الخمسة دنانير التي قبضها…بعد العشاء لن يبقى معه أكثر من دينار ونصف…ولا نريده أن يحرض الناس ضدنا وضد مرشحينا.
الاستاذ داود: أبناء عائلة أبو سالم يزيدون على المئة ناخب، لو انتخب نصفهم مرشحينا فهذا مكسب.. وعلينا أن لا نستهين بأيّ انسان.
وجّه حسن دعوة لعائلة أبو السّمن لتجتمع في بيت أبيه – بناء على نصيحة قيادة حزب البعث- التي وضعت خطة لِتَلَمُّس احتياجات الجماهير في كل منطقة، وعلى شباب الحزب أن يحدد كل منهم أولويات منطقته وإمكانياتها، فالجماهير اذا رأت نتائج ايجابية على أرض الواقع، فإنها ستلتف حول من يعلق الجرس، من هنا سنخلق قيادات جماهيرية ترتكز على قاعدة شعبية عريضة، هكذا قال لهم عبد الرحمن النعاس، مرشح الحزب عن دائرة محافظة القدس الانتخابية.
وحسن شاب طويل القامة، نحيل الجسم، هادئ الطباع، أكمل مرحلة التعليم الثانوية، ولم يعمل في التدريس، فقد وجهه الحزب للعمل في الاتحاد العام لنقابات العمال، وبراتب يفوق راتب معلم المدرسة….فحظي باحترام من عرفوه، خصوصا وأنه شاب على خلق حسن، كريم معطاء، لذا فإن دعوته لأبناء العائلة لاجتماع طارئ ستحظى بقبول جماعي.
أبو حسن ذبح كبشا لأبناء العائلة، فمن غير المعقول أن يجتمع رجالات العائلة في بيت كبير العائلة دون وليمة.
بعد وجبة المناسف الدسمة، رحبّ أبو حسن بضيوفه من جديد، وأعطى الدور لحسن كي يشرح لهم مشروعه الذي سيأتي على العائلة بالخيرالوفير.
حسن: الله يمسيكم بالخير يا الربع وأهلا وسهلا بكم في بيتكم الصغير.
– يسلم البيت واصحابه حيّاك الله يا أستاذ حسن. هكذا ردّ الحضور جميعهم وبصوت واحد.
يعلم الجميع أن العالم يتطور يوم يوم….ونحن ما زلنا مكاننا، وهناك مشاريع لا تكلف كثيرا…لكنها تدر دخلا محترما …وتوفر الراحة للعاملين.
مِثِل شو يا أستاذ؟ سأل أبو فايز.
هداك الله يا أبو فايز خلّي حسن يكمل .. قال أبو جمال.
حسن: لا يوجد عمل إلا في الأرض.. وغالبية العاملين من عائلتنا يزرعون الخضار على مياه وادي الديماس، وينقلون خضارهم الى الحسبة لبيعها على الدواب.. يستيقظون قبل منتصف الليل ويسرون بها، فيعودون تعبانين “نعسانين”، فينامون بدلا من أن يعتنوا بخضارهم، وأن يجنوا محاصيلهم، وبإمكاننا أن نشتري سيارة شحن بمبلغ نتعاون على جمعه، فتحمل خضارنا، وتحمل خضار الآخرين من العائلات الأخرى، مقابل أجر معقول، كما أنها ستنقل الأعلاف لمربي الأغنام، وفي نهاية العام سنقسم الأرباح على المساهمين كل حسب نصيبه.
أبو عفنان: كم ثمن السيارة يا عمّي يا حسن؟
– حسب الفلوس التي سنجمعها…وكلما جمعنا أكثر سيكون بالإمكان شراء سيارة حديثة وصالحة للعمل.
أبو فايز:
ومين راح يسوق السيارة؟
– نشغل سائق بالأجرة حتى يتعلم السياقة واحد من اولادنا.
أبو زياد: وإذا خربت السيارة شو نعمل؟
– نصلحها…يوجد ميكانيكي لتعمير السيارات المعطوبة.
– وإذا تدهورت وتحطمت بالكامل.
– فيه تأمين يشتري لنا سيارة مكانها أو يدفع لنا ثمنها.
أبو فايز: واللي عنده أرض أكثر من غيره، وخضرته أكثر من غيره كيف راح تعاملوه؟
– يا جماعة السيارة راح تاخذ أجرة من كل من يستعملها…كل واحد حسب حمولته ووزنها…وفي آخر السنة الكل ياخذ أرباحه…لكن الكل يستريح.
أبو فايز: كم راح تساهم يا أستاذ حسن؟
حسن: الوالد سيساهم بخمسين دينار.
– وأنت؟
– أنا والوالد واحد يا جماعة.
أبو جمال: لمين ندفع المصاري؟
حسن: خلونا نتفق على تشكيل لجنة من ثلاثة أشخاص…ع شان يرتبوا كل شيء.
أبو عفنان: والله إنك مرتب يا أستاذ حسن…يا عمّي والله ما فيه أحسن من التعليم…المتعلم بحسب كل صغيرة وكل كبيرة ..وما بترك شيء من أمور الشرع…التعليم نعمه يا ناس… لكن مين اللجنة اللي بقترحها؟
حسن: البركة فيكم…و”ما فيه بين الكليتين خيار”…اختاروا من بينكم ثلاثة …لجمع المصاري …ولتشغيل سائق..ولترتيب الأمور كلها.
أبو فايز: أنت أكثرنا تعليم…ولازم انت اللي تختار.
حسن: حيّاكم الله يا الربع…أبو فايز واحد…فيه اعتراض عليه وللا..لأ؟.
فلم يعترض أحد…وأكمل: وأبو جمال الثاني…فيه اعتراض عليه؟ ولم يعترض أحد أيضا..
وأكمل: وأبو عفنان الثالث…فيه اعتراض عليه وللا.. لأ؟ فلم يعترض أحد.
وأقترح عليكم …أن يكون كل شيء مكتوب في ورق، ومحفوظ في أمانة أبو جمال، فهو يعرف القراءة والكتابة…وبكرة يروح واحد منكم معي ع مطبعة خلينا نعمل إيصالات قبض وإيصالات دفع.
أبو فايز: شو إيصالات القبض والدفع اللي تتكلم عنها؟
حسن: هذي إيصالات على نسختين، المبلغ اللي تدفعه تاخذ وصل فيه موقع من أمين الصندوق، ويظل نسخة طبق الأصل عنده…..واذا قبضت نفس الشيء بس التوقيع يكون توقيعك.
أبو عفنان: والله هذا عمل كويس …يعني ما يضيع ولا فلس…. ميشان هيك خلينا نفتح باب الأسهم….أنا بدّي أساهم بعشرة دنانير.
حسن:اتركوا الدفع حتى تحضر الايصالات ….عّ شان اللي يدفع ماله ياخذ وصل بقيمته.
أبو عفنان…الله! …الله! عليك يا العلم….والله كلامك كله درر يا استاذ حسن.
حسن: استغفر الله يا عمّي أنا أتعلم منكم.
وبعد أسبوع كان مجموع المبالغ المدفوعة للجنة الثلاثية أربع مئة وخمسين دينارا.
واجتمعت اللجنة في بيت أبو جمال، وبحضور الأستاذ حسن، وقررت اللجنة تعيين محمد بن أبو موسى سائقا للشاحنة التي مضى عليها ست سنوات خدمة، وبعد استشارته فله خبرة في السيارات حيث عمل سائقا لحوالي عشر سنوات، واشتروها بأربع مئة دينار، أعفاهم بائعها من دفع خمسة دنانير من ثمنها مقابل وجبة غداء كان سيولمها لهم.
أبو فايز ساهم بخمسة عشر دينارا مع سبق الاصرار والترصد، ولم يفصح لأحد بأنه يريد أن تكون مساهمته أكثر من مساهمة زميليه في لجنة إدارة السيارة، فقد ساهم كل واحد منهما بعشرة دنانير. ولما حضر السائق الى الاجتماع بناء على توصية اللجنة التي اتفقت معه على راتب قدره سبعون دينارا عن كل شهر، سأله أبو فايز:
وين رايح تنيّم السيارة يا عمي يا محمد؟
– معي عند بيتي.
– ليش مش عند واحد منا؟
– السيارة يا عمّي دايما مع السائق….عّ شان يسوقها عند الطلب.
طيّب من وين بدّك تنقل الخضار إحنا هذي الأيام في موسم القرنبيط؟
– شو اللي يريحكم ؟ عند آخر شارع الشيخ سعد وللا في ثغرة قصّاب.
أنا شايف إنه في الشيخ سعد أحسن، لأنه الشارع الموصل لثغرة قصاب وعر ومش معبد…ويخرب السيارة لا سمح الله…بعدين المنطقة حِوَّرية وفي المطر تصير مثل الصابونة.
– زيّ ما بدكم.
معناه نخبر المزارعين يوصلوا خضارهم للشيخ سعد بجانب قبر الشيخ سعد رضي الله عنه… لكن قل لي …كم قرش بدك نحسب أجرة كل “شليف”؟
– ع كل شليف بنقبض خمس قروش، السيارة تتسع لحوالي عشرين شليف، يعني النقلة أجرتها دينار كامل.
لكن يا عمي بطلع في اليوم حوالي مئة شليف.
– ننقلها خمس نقلات….كل نقلة بدها حوالي ربع ساعة…الشوارع فاضية وأن شاء الله ما راح نتأخر…ساعة زمان بننقل للجميع.
– معناه من بعد صلاة العصر للمغرب يكونوا الكل جاهزين عند الشيخ سعد.
– ان شاء الله.
– وقبل العصر شو نعمل في السيارة؟
– أوقف فيها في المصرارة في باب العامود وأنقل فيها للناس…والكل بحسابه.
– من أي ساعة لازم تكون في المصرارة؟
– الساعة تسعة الصبح.
– وليش مش قبل؟
– لأنه المحلات تكون مسكرة وفش شغل.
– طيب الله يرضى عليك مرّ عندي وخذني معك.
– حاضر.
استأذن محمد السائق للذهاب لإحضار الشاحنة من عند الميكانيكي، فقد وضعوها عنده ليعمل لها صيانة كاملة، من تزييت وتشحيم وتفقد الفرامل….الخ…غير أن اللجنة الثلاثية قامت قبله لمرافقته ليكونوا في استقبال السيارة، لم يعترض على ذلك، لكنه استاء من هذه الرفقة.. مشوا على أقدامهم حتى باب الساهرة، الى المنطقة الصناعية مقابل المدرسة الرشيدية، ملاصقة لسور القدس التاريخي، وصلوا يتصببون عرقا، وما أن رأى أبو فايز السيارة، حتى قفز للجلوس في المقعد بجانب السائق، وعندما طلب الميكانيكي نصف دينار أجرة له وبدل غيار الزيت، أشار له أبو فايز الى أبو جمال، فهو أمين الصندوق.
لم يكن لأبو جمال ولأبو عفنان خيار سوى الصعود الى صندوق السيارة الخلفي…وجد أبو جمال صعوبة في ذلك، فعمره جاوز الخامسة والستين، لكن أبو عفنان سبقه في الصعود ومدّ يده اليمنى له ليساعده، في حين وضع السائق يديه الإثنتين عند مؤخرته ليدفعه الى أعلى.
لم يحرك أبو فايز ساكنا في ذلك، مع أنه أصغرهم سنّا، وأقواهم جسما…وقد فرح لشيخوخة أبو جمال، وضعفه، فلن يعود ثانية لمرافقة السائق في المرات القادمة، وبالتالي سيخلو الجوّ له…وأبو عفنان رجل طيّب ويسهل إبعاده والخلاص منه.
في طريق العودة مرّوا ببيت أبو حسن، فتوافد أبناء العائلة وأبناء الجيران شيبا وشبانا ليلقوا نظرة على الشاحنة، حتى النساء من لم تحضر بنفسها ألقت نظراتها عبر إحدى نوافذ بيتها…فهذه هي المرة الأولى التي تمتلك العائلة فيها سيارة.
نزلوا لشرب القهوة، فقال أبو فايز:
الآن وجب ذبح خروف لوجه الله ع بوز السيارة فداء لمن يركبها…ودفعا للحسد.
ابتسم حسن ولم يتكلم…وأضاف أبو فايز عندي خروف مثل العجل دفعوا لي فيه خمسة دنانير وما بعته…وميشان السيارة أنا بيكفيني أربعة دنانير.
أبو عفنان: خروفك ما يساوي ثلاثة دنانير …وأنا اشتريت في العيد خروف أكبر منه بثلاثة دنانير.
أبو فايز: شو صاير تفهم بسعر الغنم شايفك يا أبو عفنان، ما هو عمرك ما ربيت غنم لا انت ولا أبوك من قبلك.
حسن: صلوا ع النبي يا جماعة.
– اللهم صلي على سيدنا محمد.
– هات خروفك بأربعة دنانير مثل ما قلت…القضية ما تستحق النقاش والخلاف.
– وليش أجيبوا يا عمّي؟
– ع شان نذبحوا ع بوز السيارة مثل ما قلت.
– وليش ما نذبحوا باب داري…وللا داركم أحسن من داري؟
لا استغفر الله …الدور كلها مثل بعضها واحنا ولاد عمّ …فش حدّ أحسن من حدّ….بس دارك بعيده عن الشارع أكثر من ثلث مية متر…والسيارة ما تصل لبابها.
– هذي قضية خليها عليّ.
لا تهتم مثل ما تريد…. يا الله يا جماعة قوموا لدار أبو فايز.
أبو جمال: أنا..اعفوني يا جماعة الحاضر سادّ …والله ما أنا قادر أحرك ضلاعي…من ما طلعت في صندوق السيارة ما شفت الخير.
– سلامتك…بس ما لنا غنى عنك.
الله يسلمكم…بس اعفوني يا جماعه.
أبو فايز: تراك زعلان لأني ركبت بجانب السايق…أنا قمبازي نظيف …والمَرَهْ –أجلكم الله- ما غسلته غير مبارح…وخفت يتوسخ…وللا كان ما قعدت بجانب السايق.
أبو جمال: لا اله الا الله…من وين يجيك الهمّ يا أبو جمال.
أبو حسن: هداكم الله يا الربع …ويا الله عَ دار أبو فايز…وأول واحد أبو جمال.
وما أن وصلوا بيت أبي فايز حتى دخل لتغيير قمبازه، وأمر ابنه فايز بإحضار الخروف…
خرج وذبح الخروف وأسال دمه في طنجرة وهو يردد: بسم الله ..الله أكبر…لوجه الله ووجه الشيخ سعد “فدو” – فداء- للمال وللعيال، ترك الخروف وطلب من أمّ فايز أن تحمل الطنجرة على رأسها وسارا باتجاه الشاحنة…وخضب مقدمة الشاحنة وجوانبها بيديه…كان يضع كفيّ يديه في الدم، ويخرجهما…يفرد أصابعه ويضع بصمة بباطن كفيه وأصابعه… كررها مرات ومرات وهو يصلي على النبي ويردد: “عين الحسود فيها عود” وعاد الى البيت فرحا كطفل امتلأت جيوبه بالحلوى…وشرع يسلخ الخروف.
حسن يسأل: ليش ما غسلت إيديك يا أبو فايز؟
– ليش أغسلهن يا عمّي؟
– من الدم.
– ومن إيمتى دم الخرفان صار نجس عَ شان أغسل إيدي.
حسن: شو تركت لوجه الله ووجه الشيخ سعد من الخروف يا أبو فايز؟ قالها مازحا.
أبو جمال مبتسما: قالوا فيه عند الغوله عرس…قالوا بس طبختها تكفيها وتكفي اولادها.
أبو فايز: شو تقصد؟ يعني أنا واولادي غيلان.
أبو حسن: لأ…أنا وولادي غيلان…خلينا نتعشى واتركونا من هالسيرة.
أبو فايز أوصى السائق بأن يمر عليه صباحا ليصطحبه معه الى القدس، وبعد أن انفضت الجلسة، تمدد على فراشه ووضع خططا ليكون مرافقا دائما للسائق، فلا يعقل أن يتركه يتصرف بالشاحنة وحده، فـ “المال السايب يعلم الناس السرقة”:
تقلب في فراشه..ولم يجد النعاس طريقا لعينيه، نهض بعد منتصف الليل بقليل، قفز من فراشه بعد أن لكز زوجته كي تعد له كأس شاي…حلق ذقنه…وضّب شاربيه…ارتدى قمبازه…توضأ وصلى الفجر ظنا منه أن الشمس على وشك البزوغ…لم يدر في خلده أن الظلمة متبددة من ضوء القمر…جلس …نظف غليونه بمسمار…عبأ الغليون بالدخان”الهيشي” أشعله…كان يدخن ويسعل ويضرط أحيانا….دخن أكثر من غليون ولم تبزغ الشمس، لعن السيارات ومن يقتنون السيارات، انتعل بسطاره وخرج…سار باتجاه بيت السائق الذي يبعد أكثر من ثلاثة كيلو مترات…لم تبزغ الشمس… فيبدو أنها رحلت من مكانها…وصل السيارة…كانت الأبواب مغلقة…صعد الى الصندوق…جلس في زاويته…تلفع بعباءته…أسند ظهره على حديد الصندوق… جلس ومدّد ساقيه…تلفع بعباءته وغفا….غفا عند آذان الفجر…وما أن بزغت الشمس حتى نزل من صندوق السيارة…طرق باب بيت السائق بعصاه.
السائق: أهلا عمّي أبو فايز…خير …ان شاء الله ما فيه شيء.
– ليش نايم لهالوقت؟
تفضل…ادخل خلينا نشرب كاس شاي….الساعه خمسه وين بدنا نروح؟
– خمسه وللا سته…الرزقه بدها قومه بدريه.
الرزقه في النهار يا عمّي.
– هاي الدنيا نهار.
يا عمّي شغلنا ببلش الساعة تسعة…حتى تفتح محلات الحبوب والمواد التموينية.
– بس قوم يا عمّي الله يرضى عليك وخلينا نجرب.
شو بدنا نجرب؟ أنا سبع سنين وأنا أجرب…صحيح الطيز اللي ما هي متعوده ع البخور بتحترق؟
– شو قلت يا ولد؟ طزاز يطزز عينيك وعينين اللي خلفوك…حطيت لي كاسة هالشاي وقاعد تشتمني في بيتك…هذي الدنيا آخر وقت…سلمناك مالنا واشتمنا فوقه…هذا اللي ربحناه.
يا عمّي لا شتمتك…ولا شتمت غيرك…وهذي مفاتيح سيارتكم والرزقة اللي عن طريقكم ما بدّي إياها.
– لا ردّك الله…بس السيارة مطرح ما أخذتها تردها….يا الله وصلها لبيت أبو حسن.
حاضر ولا تهتم وهذي بوسة راس اذا إنك زعلان.
وصلا بيت أبو حسن في السادسة صباحا…نزلا من السيارة واتجها الى البيت…
استقبلهما حسن وهو يردد : خير يا جماعة …شو فيه؟
أبو فايز: هذا السبع اللي بدّك تشغله ع السيارة بدّه ينام للظهر…رحت له لبيته…ونبهته بعد طلوع الشمس…ولقيته نعسان كأنه ما هو نايم…ومسحتها بلحيتي…ورفض يمشي معي عَ الشغل …وطلعت عصبيتي عليه…وطلبت منه مفاتيح السيارة….ما بدّه يشتغل الزلمه هذا.
حسن: لا حول ولا قوة الا بالله…ع ساعة هالصبح…طيّب شو خلاك تروح عليه؟
– شو هالسؤال يا حسن؟ يا ليتني ما سمعته منك….شو نسيت إنّي عضو لجنة مسؤولة عن السيارة؟
– لا والله ما نسيت؟ بس مش هيك الأمور تمشي…على كل حقكم عليّ أنا…بعد ما تفطروا نحلها بإذن الله.
خرج عليهم أبو حسن يتثاءب…طرح تحية الصباح وقال:
ليش صوتك طالع ع ساعة هالصبح يا أبو فايز؟ باين عليك أمّ فايز طاردتك من البيت؟
– وحّد الله يا أبو حسن….الوقت مش مناسب للمزح…لا أمّ حسن ولا مليون مثلها بيطردوني من داري.
– طيب هداك الله يا زلمه…وما فيه شيء بستاهل الزعل والصراخ.
– اذا مالنا ما بستاهل الزعل ع ايش بدنا نزعل؟
– وين مالك الضايع يا زلمه؟ اللي يسمعك يصدق…مصاريك اذا ما ربحوا ما بخسروا واللي بضيع لك عندي ولازم ذمتي.
بعد وجبة الصباح اعتذر حسن وأبوه للسائق وأعطياه مفاتيح السيارة كي يذهب للعمل، ورافقه حسن في طريقه لعمله هو الآخر، وأوصى والده بتهدئة أبو فايز…وفي الطريق أوضح حسن للسائق بأن أبو فايز رجل بسيط وطيّب…ولا داعي للغضب منه، وتكفل بأن يحل المشكلة معه عند المساء.
جهز أبوسالم بيت الشّعَر لاستقبال مرشحي الأحزاب بعد أن أخبره كايد بأنهم سيحضرون هذا المساء، طلب من أمّ سالم أن تكنس البيت ومحيطه، خصوصا المنطقة الأمامية، فهي مليئة بروث المواشي، وطلب من كايد أن يحضر له عشرات الصور للمرشحين الضيوف بالسرعة الممكنة.
غطى أبو سالم واسط البيت- العامود الذي يقام في منتصف بيت الشعر ويرتكز عليه- بالمنشورات التي تحمل صور المرشحين الحزبيين، ولفّ الطرف العلوي لحبال البيت بعشرات المناشير، لتتحرك مع كل نسمة هواء وكأنها تصفق ترحيبا بالناظر إليها …استعار “فنيار” المختار ليعلقه على الواسط لينير البيت بكامله…اشترى خمسين كأسا للشاي..دعا المخاتير والوجهاء والمتنفذين في العائلات الأخرى…يجب أن يرى من يزعمون أنهم يمثلون إرادة الشعب أنني أنا الشعب في هذه القرية، وأن الآخرين يدورون في فلكي، يجب أن أترسخ في أذهانهم كزعيم للبلدة، لا أحد من المخاتير يتقدم عليّ، ولن تفوتني دعوة كل شاب يدرس في جامعة، أو يعمل في وظيفة حكومية، فهؤلاء لهم سطوة على الناس، ولهم نفوذ عند الأحزاب….خسارة كبيرة أنني لم أتعلم، فلم يكن في زمني مدارس، ولو كانت لوجدت نفسي الآن ضابطا كبيرا في الجيش، أو موظفا أو وزيرا…أو زعيم حزب…هؤلاء الشباب المتعلمون ماذا يساوون بجانبك يا أبو سالم لو كنت متعلما؟ والله بإمكانك أن تضعهم في جيب قمبازك دون أن يشعروا بك….رحمك الله يا والدي لو أنك أرسلتني الى كلية النهضة في البقعة أو كلية صهيون مثلما فعل أبو محمد وأبو داود..لكن لا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد صلاة العصر حضر عدد من كبار السّنّ والمخاتير الى بيت أبو سالم…استقبلهم أبو سالم بهندام جديد، وبحضور أبنائه وأبناء إخوانه والمقربين من أبناء الأسرة…كي يكونوا على أهبة الاستعداد لخدمة الضيوف، وأبو سالم لن يتزحزح من مكانه في حضرة الضيوف من خارج البلدة، وهذا من صفات شيوخ العشائر.
المختار أبو عليان: باين عليك قابض يا أبو سالم …شايف هدومك جديدة.
– شو هالكلام يا أبو عليان…ليش هاي أول مرة تشوفني بملابس جديدة ونظيفة؟…طول عمري ما لبست غير الجديد والنظيف…وعمري ما لبست ملابس مرقعة..وللا لأ يا أجاويد؟
نظروا في وجوه بعضهم بعضا ولم يتكلم أيّ منهم…وأبو سالم يفكر في ردّ يتناسب وسخرية المختار منه فقال وهو ينفث دخان غليونه:
صلّي ع النبي يا أبو عليان ولا يهون السامعين.
– اللهم صلي على سيدنا محمد…
يعلم الله عمري في حياتي ما انتبهت لشغله أكثر من الملابس… بتتذكروا النائب غازي كمال؟
– طبعا…كل المنطقة تعرفه.
والعلم عند الله إنه أول واحد لبس الحطّة الصفراء الحرير…ويوم شفتها ع راسه غِرْت منه…وثاني يوم وينك يا القدس…فتشت في كل محلات سوق العطارين والدباغة وسوق الخواجات…وما لقيت لها أخت…وأبو يوسف الحنيني قال لي بعد ما وصفتها له: هذي مش موجودة إلا في الشام….وثاني يوم من الصبح وينك يا عمان…وبلشت أسأل في المحلات اللي قُدّام جامع الحسين…وما لقيت..والله أهداني ورحت لسوق الحميدية..ولقيتها في محل واحد…صدقوني يوم شفتها لو إنه أبوي -الله يرحمه ويرحم أموات المسلمين- طلع من القبور ما انبسطت مثل هالبسط اللي انبسطته…واشتريتها بنص دينار …ولو طلب دينار لاشتريتها…لأني ما أقدر أشوف واحد لابس أحسن مني وأظلّ ساكت…يا عمّي لاقي عدوك جوعان ولا تلاقيه عريان.
المختار: النائب غازي كمال…طول عمره شبعان وربنا منعم عليه أب عن جد.
أبو سالم: وليش هو احنا كنا جايعين يا زلمه؟ وللا هو أحسن منا؟ باين عليك مش جايبها البر اليوم…
خميس: وحدوا الله يا جماعة…أبو سالم طول عمره مهندم حاله…وشو بدنا بهالحكي؟
خلونا في موضوعنا…مين اللي رايحين ييجوا عندك اليوم يا أبو سالم؟
– هاي صورهم وأساميهم معلقة قُدّامكم….سالم يا با..نادى أبو سالم…جيب لكل واحد من اعمامك الورقة اللي عليها صور المرشحين.
وزع فايز منشورا على كل واحد من الحضور…تمعنوا في الصور…وقرأ لهم فايز أسماءهم.
المختار: من وين تعرفت عليهم يا أبو سالم؟
– وشو يهمك هذا يا أبو عليان؟
– هذول جماعة الاحزاب وضد الحكومة بلاش تورط حالك.. وانت مش داري راسك من رجليك.
– الدنيا تغيرت يا أبو عليان …الحكومة شايفتهم وسمحت لهم يرشحوا حالهم …والجماعة مش مخبيين حالهم…أي سامي الدعاس مبارح باب العامود كان يهتف بحياة جمال عبد الناصر ويوزع صوره عَ الرايح والجاي، والشرطة والمباحث حواليه وما واحد سأله؟ وقال: هذا زعيم الأمة العربية…هذا اللي راح يوحد العرب…هذا اللي راح يحرر فلسطين ويرد اللاجئين.
كله كلام فاضي…وعند مخالفة الدول خبّي راسك…بس ما قلت لي كيف تعرفت عليهم؟
– الأساتذة عرفوني عليهم….وطلبوا مني أجمعهم مع أهل البلد.
– الأساتذة شباب طايشين وأنا خايف عليهم… بكره يقعوا في السجون…وبعدها شو بحلنا؟
– الأساتذة متعلمين وعارفين شو بعملوا.
– أنا اللي عليّ قلته والباقي على الله والكل حرّ بحاله …وكل واحد ينام ع الجانب اللي يريحه.
منصور: والله انا خايف نزعل ع بعضنا ع طبخة ما لنا فيها ناقة ولا جمل.
عبد الباري: طيّب إحنا مع مين…بدنا ننتخب مين؟ وليش ما نتفق مع بعض ويكون لنا موقف واحد؟ بلاش كل واحد يضحك علينا و”نطلع من المولد بلا حمص”.
أبو سالم: ردوا عليّ ومش رايحين تتوهوا.
وفي هذه الأثناء وصلت ثلاث سيارات، ملصق على مقدمة كل واحدة منها صور للمرشحين، سامي الدعاس، عبد الرحمن النعاس، الدكتور عقاب الزايد، وبهيج الغريب، ترجلوا من السيارت وبصحبتهم الأساتذة: كايد، محمد، داود، وكامل….هبّ الجميع لاستقبالهم يتقدمهم أبو سالم الذي أخذهم بالأحضان، وقبلهم فردا فردا بمن في ذلك الأساتذة أبناء البلدة…المختار تباطأ في الوقوف حتى وصلوه…صافحهم وهو واقف أمامهم…نظروا الى صورهم ومنشوراتهم الملصقة على واسط البيت، والمرفرفة على حباله…وإلى عشرات الأشخاص الواقفين أمام البيت أو الجالسين على التراب، والى عشرات الصبية الذين يتدافعون لرؤية الضيوف الأنيقين وسياراتهم الجميلة.
دار عليهم أبو سالم بالقهوة “الساده” ثم أعطى دلّة القهوة لسالم ليدور بها على الآخرين بدءا بالأساتذة…تربع في جلسته قبالة المرشحين، رفع عباءته على كتفيه…تفقد عقاله فوق كوفيته…مسّد شاربيه…رحب بالضيوف الكرام الذين يتشرف باستقبالهم في بيته، بل في بيتهم الصغير بمعية مختار الحامولة، ووجهاء القرية وممثلي الحمايل والعائلات، ثم أعطى الدور للمختار كي يرحب بمرشحي الشعب.
المختار: أهلا وسهلا…بكم في عَرَبْنا –مضاربنا- وهذي فرصه سعيده نتعرف عليكم ونشوفكم عندنا وبينا، ونتمنى لكم النجاح…ونتمنى اذا نجحتوا إنه نظل نشوفكم…وتخدموا الشعب والوطن…لكن لي سؤال لكم: شو تختلفوا عن غيركم؟ واذا نجحتوا شو رايحين تعملوا أكثر من اللي قبلكم؟ وأهلا وسهلا فيكم …والله يعطيكم العافية.
المرشح بهيج الغريب: في الواقع أنا سعيد بوجود هذا الحشد الكريم، ولا يسعني إلا أن أشكر – باسمي واسم زملائي-الشيخ أبو سالم، والمختار عليان وكل فرد منكم على حسن الاستقبال، فأنا لست غريبا عن هذه البلدة وعن أهلها الطيبين، فقد سبق وأن زرت مضاربكم في “جنجس” و”المخبية” والزرانيق”بصحبة عبد القادر بيك –رحمه الله- أكثر من مرة، وعندما استشهد في القسطل يوم 9 نيسان 1948كنت بجانبه أنا وثلة طيبة من أبنائكم، ومن ضمنهم الشهيد المرحوم عامر عليان الذي لاقى وجه ربه شهيدا في نفس المعركة، ولا أزال أذكر مواقفكم البطولية في الدفاع عن جبلكم الشامخ، جبل المكبر الذي يشكل البوابة الرئيسية الجنوبية المطلة على القدس القديمة، هذا الجبل الذي هللّ وكبّر الخليفة العادل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عندما اكتحلت عيناه برؤية المسجد الأقصى من قمته، وخرّ ساجدا لله، شاكرا نعمة الله على العرب والمسلمين بفتح القدس الشريف.
ولا أزال أحفظ عن ظاهر قلب قصيدة شاعرنا الكبير عبد الكريم الكرمي-أبو سلمى- أمدّ الله في عمره، والتي قالها عندما بنى الانكليز عام 1922 قصر المندوب السامي البريطاني على قمة جبل المكبر وقال فيها:
جبل المكبرطال نومك فانتبه****قم واسمع التكبير والتهليلا
جبل المكبر لن تلين قناتنا****حتى نُهدّم فوقك الباستيلا
ونحن نتوجه إليكم طالبين منكم دعمكم لنا بانتخابنا للبرلمان في هذه الدورة، لثقتنا المطلقة وغير القابلة للزعزعة بمواقفكم الوطنية، وحبكم واخلاصكم لشعبكم ووطنكم، وأنتم تعلمون ما جرى في فلسطين من تخاذل عربي رسمي، في الوقوف أمام الهجمة الاستعمارية الصهيونية، وما نجم عنها من نكبة لشعبنا في العام 1948، وتشريد حوالي مليون لاجئ فلسطيني، أجبرتهم ويلات الحرب غير المتكافئة على ترك أرضهم، وبيوتهم وأملاكهم للنجاة بحياتهم، وقد سمعتم ورأيتم ما جرى في دير ياسين من مذبحة جماعية تقشعر لها الأبدان.
ولم يكتف الاستعمار البريطاني والعالمي بسلب فلسطين وتشريد شعبنا، بل يريد السيطرة على أرجاء العالم العربي كافة، والسيطرة على منابع البترول العربي، والذي يشكل اكثر من 80% من الطاقة في العالم، والتي تمثل شريان الثورة الصناعية التي يشهدها العالم، ويسعى الاستعمار الى اسقاط نظام زعيم الأمّة جمال عبد الناصر، الذي قام بثورته الباسلة ثأرا لفلسطين وشعب فلسطين، بعدما رأى ترهل النظام العربي الرسمي، وعدم تسليح الجيوش العربية، فالرجل حارب في فلسطين كضابط في الجيش المصري، وحوصر في الفالوجة، ولم يستسلم، وهو يبذل جهوده الرائعة في تحرير الأجزاء المستعمرة من العالم العربي ويدعم الثوار العرب في جنوب الجزيرة العربية، وفي المغرب العربي، في تونس والجزائر والمغرب وبلاد الشنقيط، كما يدعم حركات التحرر في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويسعى بجهود حثيثة ومباركة لتوحيد الأمّة العربية، تمهيدا لتحرير فلسطين، وإعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. والاستعمار الآن يعمل على انشاء حلف بغداد لتقوية اسرائيل والحفاظ عليها، واسقاط نظام عبد الناصر التقدمي في مصر الشقيقة، ولم ينجح حلف بغداد بالتشكل والظهور بفضل المقاومة الجريئة لزعيم الأمّة جمال عبد الناصر، والتفاف الشعوب العربية حوله، هذه الشعوب الظافرة التي خرجت في مظاهرات صاخبة في مختلف المدن والأقطار العربية، وقدمت من أجل ذلك آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، لتعبر عن رفضها للوجود الاستعماري في المنطقة، وتطالب بالوحدة العربية، وحشد الطاقات لتحرير فلسطين.
أيّها الأخوة: لن أطيل عليكم كثيرا.. لكنني أقولها بالفم الملآن بأننا نرشح أنفسنا للبرلمان ليس طمعا في منصب أو جاه أو مال، بل تلبية لنداء الوطن… لنداء الشعب.. لنداء الأمة، فنحن من الشعب والى الشعب، ونحمل على أكتافنا هموم الشعب وهموم الوطن، وهموم أمتنا التي مزقها المستعمرون الى أقاليم متناحرة، ووضعوا حدودا وهمية بين شعوبنا لتسهل سيطرته علينا، وبالتأكيد فان شعبنا وأنتم منه سيعطينا أصواته، لتكون الغالبية العظمى في البرلمان لنا، ولنشكل حكومة وطنية تتبنى برنامجا علميا لإصلاح مؤسسات الدولة، ودعم التعليم والرعاية الصحية وبناء اقتصاد وطني قوي، وللقضاء على البطالة واستصلاح الأراضي الزراعية، ولبناء الوحدة العربية مع الرئيس العظيم جمال عبد الناصر.
أيها الأخوة الكرام: برنامجنا طموح بقدر طموحات شعبنا…
عاشت فلسطين حرة عربية.
عاشت الوحدة العربية… عاش جمال عبد الناصر قائدا ثوريا وزعيما قوميا رائدا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صفقوا له وهتف الشباب بالشعارات التي رفعها.
أبو سالم: يعطيك العافية يا استاذ….والله كفيت ووفيت…وما خليت شيء بدّه إياه الشعب إلا وقلته.
المختار:شايف الختيار هذاك اللي قاعد هناك.
عبد الرحمن الدعاس: نعم…شايفه.
– هذا والد الشهيد عامر اللي تكلم عنه الأستاذ بهيج.
تشرفنا يا سيدي.
– استاذ بهيج كنت تعرف الشهيد أبو أحمد أبو دهيم؟
طبعا …الله يرحمه استشهد في الشارع أمام الجثمانية…أطلقوا عليه صلية “برن” من عند النبي داود….وحضرت جنازته…-الله يرحمه- كان قائد منطقة جنوب القدس.
– هذاك الولد اللي واقف هناك…ابنه…ونادى: أحمد…. كايد: الله يرضى عليك يا عمي ..جيب أحمد ابن الشهيد….سلّم عَ عمامك يا عمّي يا أحمد …هذا عمّك بهيج يعرف أبوك-الله يرحمه-.
– قبّله المرشحون الأربعة…ثم ناداه الأستاذ بهيج وأجلسه في حضنه.. قبله أكثر من مرة.. ووضع في جيبه عشرة دنانير وهو يردد: اعطيها لأمّك خليها تشتري لك ولأخوك ملابس وتصرف عليكم.
عبد الباري: والله كلامكم يا إخوان يعَبّي الراس.. وأنا رايح أنتخبكم وكمان اللي أمون عليه راح أخليهم ينتخبوكم.
– بارك الله فيكم وفي أمثالكم يا أبو كامل.
عبد الحافظ: فكركم يا أساتذه فلسطين ترجع ويرجعوا اللاجئين؟
سامي الدعاس: 100% بس بدها شوية صبر.
خرج أبو سالم بعد أن أعطى إشارة بعينه للمختار كي يتبعه… وعندما انفرد به قال له:
أنا ذبحت خاروف واحد…ما يكفي للجميع.. وهذي ناس كثيره.. بطريقتك نادي ع المرشحين والأساتذه يدخلوا في الغرفة هَيّ العشاء جاهز.
استدار المختار واستأذن من الحاضرين أن يأذنوا له وللمرشحين وللأساتذة لمدة عشر دقائق.. دخلوا الغرفة وتناولوا العشاء.. وأبو فايز واقف فوق رؤوسهم لسكب الشراب على المنسف… وبينما هم يغسلون أيديهم همس الأستاذ بهيج بأذن أبي سالم أن يمر عليهم في العاشرة من صباح الغد، في مكتبهم الانتخابي في عمارة هندية مقابل باب العامود.
احتسوا القهوة واستأذنوا بالانصراف.. وعند السيارات أخبر المرشحون الأساتذة بأن الاجتماع ناجح…وطلبوا منهم أن يبقوا في الجلسة ليسمعوا ردود الفعل.
عبد الباري: شو رايك يا مختار في المرشحين.. والله باين عليهم جماعة فهمانين؟
– الحكي ما عليه جمرك… والكل يحكي زيّ ما بدّه.. بس الربط ع الفعل.
خلونا نجربهم المرة ونشوف خيرهم من شرهم.
منصور لأبي سالم: والله هذي وَحَدِه لك يا أبو سالم.. أول مرة نشوف في بلدنا مسؤولين فاهمين وعارفين مطالب الناس.
أبو سالم: أنا أصلا ما أجيب ع داري إلا الناس الفهمانه .. بس بسلامتك يا أبو كامل مش دايما تيجي ع “المضافة” وتشوف الناس.
رزقة العيال يا أبو سالم .. أكثر ايام السنه أمضيها مع الغنم والحراثة والحصيدة في البرية.
“الأساتذة” بقوا في ديوان أبو سالم حتى انفضت الجلسة….شكروا أبا سالم على حسن الضيافة وحسن الترتيب والاعداد، واتفقوا معه على التواصل حتى موعد الانتخابات.
**********
غفا أبو سالم الى ما بعد منتصف الليل واستيقظ… ارتدى ملابسه … شقّ ظلمة الليل بعصاه قاصدا القدس مشيا على الأقدام، مرّ بحيّ الفاروق…الناس نيام فيبدو أن فجر القدس لا يزال بعيدا….انحدر باتجاه “عين اللوزة”…وواصل المسير.. مرّ ببئر أيوب.. شرب من صنبور الماء الخارجي.. غسل يديه ووجهه.. وفي حيّ البستان تحسس جذوع أشجار التين والتهم بضع حبات من ثمارها الشهية… ثمّ صعد الطريق الى عين سلوان التحتا…لم يصادفه أحد في طريقه… خلع ملابسه واستحم عاريا كأنه في حوض حمام خاص، وخلفه أبواب مغلقة.. سبح في حوض المياه التي يحشرها المزارعون ليرووا بها مزروعاتهم من الخضار بعد شروق الشمس… ارتدى ملابسه… صعد الدرج الى جامع عمر المبني فوق القوس الحجري الذي يُزين مدخل العين، ويحجز الخندق الصخري العظيم الذي تنساب من جدرانه مياه العين عازفة سمفونية طبيعية تريح النفس … نقيق ضفدع من داخل البستان يقطع هدوء الليل…أشعل غليونه واتكأ على جانبه…سمع خرير المياه… أصاخ السمع…تذكر حكايات عن أن ملوك الجن يحرسون العين…دبّ الرعب في جسده …حمل عباءته وخرج …قرر أداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى…صعد الجبل …عند باب المغاربة رأى شرطيا يسند ظهره الى الحائط ويتثاءب…سأله عن الساعة….كانت الرابعة صباحا…دخل الى المسجد الأقصى مع أن شرطيا آخر عند الباب بمحاذاة حائط البراق أخبره أن لا أحد في المسجد… أسند ظهره على ساق شجرة معمرة قرب “الكاس” قبالة المدخل الرئيس للمسجد المسقوف وغفا…ايقظه أذان الفجر..توضأ من”الكاس” ودخل المسجد…صلى ركعتين تحية للمسجد وركعتي سُنّة الفجر..اتجه الى المحراب …طرح تحية الصباح على إمام المسجد وسأله:
مولانا هل أخذ فلوس من مرشحي الانتخابات حلال وللا حرام؟
– الصوت الانتخابي أمانة يا أخي وعلى المسلم أن لايخون الأمانة، وصوت الناخب حق له، وعليه أن يتقي الله في اختيار من ينتخبهم، أما قبض فلوس من المرشحين مقابل عمل معين يؤديه لهم، فهذا عمل، ومن حق العامل أن يقبض مقابل عمله، أما أن يبيع صوته الانتخابي بيعا فهذا حرام، وهو في حكم الرشوة، والراشي والمرتشي في النار والعياذ بالله.
– يا سيدنا لا تكبر الموضوع –الله يخليك- أنا ما سألتك عن الرشوة…اللي أقصده…اذا مرشح أعطاك عشرين دينار مثلا وقال لك: جيب جماعتك الليله الفلانيه… واعمل لهم عشاء ع شان أتحدث معهم…هذي حلال وللا حرام؟
وصل المئات الى المسجد للصلاة التي أقامها المؤذن قبل أن يجيب الشيخ…فاستاء أبو سالم من ذلك، وقال في نفسه قبل أن يكبر تكبيرة الإحرام:”الشبعان يفت للجائع فَتْ وني-مُتأنٍ-“
انتهت الصلاة وخرج المصلون بمن فيهم الإمام والمؤذن….خرج أبو سالم باتجاه باب المجلس الاسلامي الأعلى، التفت الى يساره …رأى رجلا أسود عجوزا يجلس على كرسي أمام حوش الأفارقة-حبس العبيد- طرح عليه السلام، فرد التحية بأحسن منها وأضاف: تفضل يا شيخ… فتفضل أبو سالم، أجلسه الرجل مكانه وأحضر كرسيا آخر له، بعد أن أوصى زوجته بتحضير ابريق شاي.
– شو اسمك يا شيخ ومن أين أنت؟
– اسمي أبو سالم…من جبل المكبر.
– وأنا اسمي محمّد عبد الصّمد، مولود في القدس، أصلنا من تشاد… ماشاء الله عليك هل تأتي من جبل المكبر لصلاة الفجر في الأقصى.. هنيئا لك.
– وتشاد وين هاي.. وجاي منها ليش؟… ليش ما ظليت في بلادك؟
– تشاد جنوب ليبيا وغرب السودان .. وهي بلد مسلم.. والقدس بلدي أيضا فبلاد المسلمين واحدة.. وأنا مولود في القدس منذ أكثر من خمسين سنة، ووالدي قصد البلاد الحجازية لآداء فريضة الحج، وبعد انقضاء موسم الحجيج شدّ الرحال الى المسجد الأقصى، فالأقصى أحد المساجد الثلاثة التي تشد اليها الرحال مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا… يعني المسجد النبوي في المدينة النورة”، وقرر الرباط في أرض الرباط، فجاور المسجد الأقصى، لأن ثواب الصلاة فيه يعادل خمسمائة صلاة.
وأنا والحمد لله أحفظ كتاب الله الكريم، وآلاف الأحاديث النبوية الشريفة، وأحد أقاربنا استشهد في حرب 1948 دفاعا عن القدس الشريف.
– حياك الله يا حاج أبو علي انت وجماعتك…. احتسى أبو سالم كأس شاي واستأذن بحجة ارتباطه بموعد…. ولم يستجب لدعوة أبي علي للبقاء حتى يتناول طعام الفطور.
مشى في طريق الواد باتجاه باب العامود، كانت الأسواق خالية والمحلات مغلقة… حتى مقهى زعترة في باب العامود كان مغلقا هو الآخر…والمدخل الرئيس لعمارة هندية كان هو الآخر مغلقا…جلس على عتبة العمارة…وأشعل غليونه وهو يردد:
يا عمّي الأفندية ما يصحوا بكير…يناموا للضحى العالي…مش مثلنا يوم نصحا متأخرين نصحا مع صياح الديك…..مرّ بائع كعك…اشترى كعكة وحبة فلافل….التهمهما على عجل…انتظر ولم يحضر أحد….شعر بالملل وقال:
يا طول يومك يا أبو سالم… والله ما أنا عارف كيف هالمرشحين بدهم يخدموا الشعب إذا يناموا للظهر؟ طّيب أنا أقوم من نص الليل ومش قادر أخدم تسع مفغوصين في الدار…أمّ سالم كل سنة تخلف بنت وهذي مصيبه…سبع بنات وولدين …لو الله يحبنا أجانا البكر ولد…كان اشتغل وساعدنا…بس شو الواحد قادر يعمل؟
واذا بشاب يطرح عليه تحية الصباح ويستأذنه كي ينزاح قليلا عن عتبة باب بيت الدرج حتى يفتحه….فسأله أبو سالم:
كم الساعة يا عمّي؟
– ثمانية.
– فكرك وينتا يفتح مكتب المرشحين؟
– هاي أنا جاي أفتحه يا عمّي…اذا انت جاي عندنا….تفضل …أهلا وسهلا.
– طبعا عندكم…وللا شو ضايع لي في هالعمارة ع ساعة هالصبح؟
– شو تحب تشرب يا حاج؟
أنا مش حج …أنا شيخ عرب يا عمّي..اسمي أبو سالم من شيوخ عرب السواحره…اعمل فنجان قهوة ساده…ولا حبة سكر-الله يرضى عليك- خليني أعدل راسي…..بس وين المرشحين؟
– أهلا وسهلا يا عمي الشيخ….شويه وييجوا بس تشرب القهوة….مين بدك منهم؟
– بدّي إياهم كلهم…والأستاذ بهيج بسلامته أعطاني موعد الساعة عشرة….قلت أصل قبل بساعة أفضل من أتأخر خمس دقايق.
رنّ جرس الهاتف…كان الأستاذ بهيج على الطرف الآخر….
– فيه واحد شيخ عرب بدّه إياك وينتظر فيك… اسمه أبو سالم.
– اسقيه قهوة واعطيه عشرين دينار……وقل له عمي بهيج يهديك السلام ويشوفك بعدين.
– هاي عشرين دينار يا عمّي الشيخ من عمّي بهيج، ويسلم عليك ويقول لك راح يشوفك بعدين.
وضع أبو سالم العشرين دينارا في جيبه….احتسى قهوته على عجل واستأذن بالخروج…نزل الدرج مسرعا كأنه في سباق…مشى باتجاه قهوة زعترة في باب العامود…
جلس عند المدخل…سأله النادل:
شو تشرب يا شيخ؟
– ولا شيء يا عمّي أنتظر في جماعة وعندما ييجوا نشرب مع بعض.
– المشروب اليوم عَ حساب المرشح غازي كمال وبعد ربع ساعة يكون هون.
– طيّب …هات أرجيله وكاس سحلب وفنجان قهوة ساده مغلي كويس.
– مين بدّك قبل السحلب وللا القهوة؟
– أمّا سؤال عجيب…الجاهز هاته.
حضر المرشح غازي كمال يحيط به بضعة شباب…احتضنه أبو سالم وقبّل وجنتيه…أجلسه مكانه…نادى النادل ليرى ماذا يشرب أبو كمال وصحبه…وعندما أُحضرت الطلبات مدّ أبو سالم يده في جيبه، ونقد النادل دينارا ليأخذ ثمن طلباته وطلبات ضيوفه…فأشار أبو كمال للنادل بأن يعيد إليه ديناره وهو يقول:
ألم أخبركم أن طلبات روّاد المقهى جميعهم على حسابي هذا اليوم؟
أبو سالم: أنت ومن معك ضيوفي يا أبو كمال…وأنت ابن أصول وتعرف العادات والتقاليد، وما يجوز تدفع وانت جاي عليّ.
أبو كمال: هداك الله…يا أبو سالم…. اليوم عَ حسابي طلبات الزباين جميعها…وانت عزيز عليّ …كيف بدّي أستثنيك؟
أبو سالم: أنا جيت من الصبح عَ شان أشوفك انت….لو سمحتوا يا شباب…اتركونا لوحدنا خمس دقايق.
أبوكمال: تفضل يا شيخ أبو سالم.
– الله يزيد فضلك…مبارح المغرب ما شفت هالشباب إلا إنهم جايين ومعهم الأساتذة المرشحين عن الأحزاب…وداعيين المختار ووجوه البلد …وبلش عمك بهيج يخطب وكأنه محرر فلسطين…ووقفت أمام الجميع وقلت لهم…اسمعوا يا اخوان: أنا سمحت لكم تدخلوا بيتي لأنه عاداتنا ما تسمح نطرد الضيف…وانا مش ناقصني سوالف فاضيه…إحنا مرشحنا الأستاذ الفاضل غازي كمال…وهذا زلمتنا أب عن جدّ…ومش رايحين ننتخب غيره…واذا الأستاذ عبد الرحمن يقول: والأستاذ غازي زلمتنا أيضا وبدنا ننتخبه… وتقدروا تنتخبونا إحنا وإياه… ورديت عليه وقلت: هذا كلام ما يعبي راسي إلا اذا سمعته من أبو كمال… والله ما دروا شو يقولوا… وإحنا تحت أمرك يا أبو كمال؟ اطلب وإحنا ننفذ؟
– شكره أبو كمال ونقده خمسين دينارا، وطلب منه أن يأتيه بأخبار البلد أولا بأول، وأوصاه بالحذر من الشباب المتعلمين، أنهم يعملون مع الأحزاب ولصالحها.
خرج أبو سالم بسرعة فائقة، خوفا من أن يراه أحد من أبناء البلدة بصحبة أبي كمال. اتجه الى مطعم سليمان في سوق العطارين، وطلب كيلو كباب أكله على عجل مع صحن حمص وصحن سلطة.. نقد صاحب المطعم خمسة وعشرين قرشا وخرج.
***************
عاد أبو سالم الى بيته مشيا على الأقدام.. سلك طريق سوق الباشورة…باب السلسة… باب المغاربة… سلوان…مقبرة السواحرة… شكارة الجامع… وصل البيت يتصبب عرقا ويحترق جوفه عطشا… صاح بزوجته وهو يلهث:
افرشي يا مَرَهْ بسرعه والحقيني بقِرْبة المَيّهْ.
بسطت فرشة على الأرض…وأحضرت كوب ماء…غبّه غبّا وصاح:
قلت لك قِرْبة ميّه مش كاس … ليش ما تفهمي من اول مرّة؟
أحضرت قِرْبَةّ الماء…. شرب حتى ارتوى…التحف بعباءته وهو يئن… اقتربت منه….سألته إن كان مريضا؟…لم يجب….غفا وأخذ شخيره يعلو….استيقظ بعد صلاة العصر…أسند ظهره وبقي مسترخيا…أعدت له كأس شاي….شربه بهدوء.. وعندما عاد سالم من المدرسة.. استغل هدوء والده… اقترب منه وقال له:
شو رايك يابا تشتري لي كندره؟ الصّندل أكل رجلي.
– ابشر يا با… يوم الجمعة آخذك معي وأفصل لك قندره عند أبو نعيم.. في باب خان الزيت.
– أكيد يابا؟
– طبعا أكيد .. ليش تسأل يا ولد؟ يعني مش مصدقني.
– لا يابا … إنت صادق بس صرت واعدني خمسين مرّه تشتري لي كندره وما اشتريت لي.
– المرّه هاي رايح اشتري لك كندره 100% ورايح أشتري لك بنطلون جديد وقميص جديد… انت السنه هاي في الثالث ثانوي-تاسع- بدّي إياك تظل شاطر ع شان السنه الجايّه تدخل دار المعلمين وتصير استاذ بعد سنتين.
– يا ريت يابا لو تعطيني كمان كل يوم قرشين ع شان اركب في الباص.
طيب… اقعد واسمعني… وأنا بعمرك.. بقيت حافي.. يوم كان ربك ييسرها.. كان سيدك- الله يرحمه- يشتري لي زربول[1] ثمنه قرش واحد…وكان عندنا حمار تالف.. كنت أركبه وأروح مع الخطارين للملاحات عند البحر الميت… في الليل.. نسرق ملح… الانجليز -الله لا يوفّقهم- … كان اللي يقرب من الملاحات يطخوه كأن البلاد والبحر لهم… وكنا نغافلهم وفي الليل نسرق الملح … نحمل دوابنا… ونروح نبيعه عند الفلاحين… في قرى رام الله… والله حِمْل الحمار ما كان يجيب عشر قروش…ومرات نبدل الملح بعنب وتين ولوز وقمح…الفقر قاتل الناس وما فيه مصاري…ويوم في تاجر قماش من القدس يعرف سيدك -الله يرحمه- وطلب منه يجيب له عشر ارطال ملح…وسيدك ما حطها في بير خارب…رحت أنا واياه مع الخطارين معنا الحمار…حملنا الحمار شوال ملح…وحملت أنا وسيدك كل واحد عشر ارطال ع ظهورنا من الملاحات توصلنا عربنا-مضاربنا- عند بيدر العبد…فوق الخلايل والختيار –رحمة الله عليه- كان عمره فوق الستين…بس كان زلمه شديد وما يرحم حاله…ومن يومها ما شاف الخير…عَ حولها مات –الله يرحمه-…وثاني يوم أخذ حصة التاجر له..وأعطاه قرشين عنها…اشترى لنا منهن بنص قرش كسبه من معصرة السيرج…ورجع بقرش ونص…وأنا رحت بحمل الحمار وبعته في ترمسعيا شمال رام الله بخمس قروش…اشتريت بقرش ونصّ شوال قُطّين…وركبت الحمار…ورجعت مثل أبو زيد الهلالي…
ولمّا سيدك شاف القطين…تقول شاف حيّه …بهدلني بهدله بتسوى حياتي….وهو يقول: يا ولد ليش ما قلت إنك بدّك تشتري قطين؟…كان ما اشتريت أنا كسبه….انت شو شفت يا سالم من اللي شفناه؟.. مش راضي في الصندل وبدّك كندره.. قلنا: مرحبا بك…بعدين بدّك تركب في الباص وانت رايح للمدرسة… يعني مش شايف حالك زدتها حبتين؟ خلينا درجة ..درجة..وعند ما يفرجها ربك وتتبحبح الأمور معنا…كل اللي بدّك إياه بتاخذه.
انكمش سالم على نفسه، أصغى بانتباه وحزن….يا إلهي ألهذه الدرجة كانت عذابات طفولة أبي؟ لم يجد ما يقوله لأبيه…بل على العكس تعاطف معه الى درجة البكاء الصامت، وفكر بالتراجع عن طلب شراء الحذاء عن طيب خاطر…وابو سالم يشعر بسعادة وهو يرى دموع ابنه….ليس لأنه يحب الدموع، ولكن لقناعاته بأن سالم يشعر مع أبيه…وهذه إشارة بأن الولد نجيب وحريص، وسيساعد أباه عندما يدخل مجال العمل.. اذا لا بُدّ من قصّ جوانب معينة من الماضي لهذا الولد، كي يستوعب مكابدات الحياة، وينتبه لمستقبله، كي يبني حياته بحرص شديد، ودون تهاون.
لم يتناول أبو سالم أيّ طعام في بيته ذلك اليوم، فازدادت مخاوف أمّ سالم عليه، خصوصا وأنه لا يتوقف عن شُرب الماء، فربما يعاني الرجل من وعكة صحية، غلت له “جعدة” فشرب كأسا منها على مضض، عرضت عليه أن تذبح له ديكا لعله يفتح شهيته، لكنه رفض، يشعل غليونه ويدخن بأريحية تامة.. وفي المساء التفّ أطفاله حوله ….قال له سالم:
فكرك يابا سيدي-الله يرحمه- مات لأنه حمل ملح عِ ظهره؟
– مين قال لك هالحكي يا ولد؟
– انت يابا قلت لي اليوم الظهر.
– يا سالم- الله يرضى عليك- …عند ما تسمع الكلام انتبه كويس عَ شان تفهمه…أنا قلت لك: سيدك –رحمة الله عليه- بعد ما حمل عشر ارطال ملح ع ظهره من الملاحات لبيدر العبد ما شاف خير ….وبعدها بسنه مات….يعني مش منها…وسيدك يا ولد كان زلمه وزلامه قليلين…مات وعمره والله أعلم حوالي سبعين سنه….بس شاف في حياته غراب البين….وللا عمّي محمد زمن التهريب….عشرين واحد من شباب اليوم ما يقدروا يسدوا محله.
– شو التهريب يابا؟
– التهريب يابا زمن الانكليز –لعنة الله عليهم- حطوا ضرايب ع فلسطين، وفي الأردن ما كان في ضرايب، مع انه الانكليز كانوا حاكمينهم مثلنا….مش طيب في الانكليز…أي والله ما فيه أوسخ من الانكليز إلا اللي مثلهم…بس الملك عبدالله –الله يرحمه- رفض الضرايب، وقال للانكليز: أنا ما بدّي ضرايب ع شعبي…وما قدروا يعملوا شيء.
ما لنا وما لـِ هالحكي؟ المهم عمّي الكبير محمد- الله يرحمه-…ومعه كم من زلمه..اشتغلوا يهربوا بضاعه من الأردن لفلسطين…يروحوا في الليل…ويرجعوا في الليل …ع دمّ رقابهم…يروحوا عشر خمستعشر زلمه مع بعض…كل واحد منهم معه حمار أو حمارين…من البرية…بين الوديان…ويقطعوا الشريعة[2]، واذا شافوهم الانكليز تصير حرب بينهم ….بس الانكليز جبناء كانوا يهربوا عند ما ينقتل واحد منهم أو ينجرح…وما كانوا ينزلوا من مدرعاتهم….وما كان فيه شوارع الا شارع واحد بين القدس وعمان…والجمرك عند جسر اللنبي. كانوا المهربين يروحوا قافله عَ شان يحموا حالهم…وسلاحهم معهم…يدفنوه في البراري…ويوم الانكليز يفتشوا ما كانوا يلقوا شيء…الانكليز كانوا يعدموا الفلسطيني عِ رصاصة فاضيه وللا عَ سكين…بس عمّك محمد كان عنده باروده انكليزيه بتلمع لمع…وعنده شبرية…وموس كبّاس.
وكل اسبوع القافله تروح ثلاث مرات، أجرة الحمار خمس جنيهات والبغل سبعه.
– وين كانوا يبيعوا البضاعه يابا؟
– البضاعه مش لهم…البضاعه للتجار المدنيّه..المقادسه…المهربين يجيبوها عَ حساب التاجر وياخذوا أجرتهم…والتجار يبيعوها في محلاتهم في القدس….يا عمّي كان فيه أمانه عند الناس…والله ما كانوا ياخذوا من البضاعه خيط في ابره…اللي يحملوه من عمان ينزلوه في محلات التجار في القدس زي ما هو…ويدافعوا عنه كأنه مالهم وزياده…
وعمّي-الله يرحمه- كان قايد قافله…هو المسؤول عن البضاعة ….غير حمل حميره ياخذ عشر جنيهات عن كل نقله…والباقيين يجيبهم هو اللي بدّه إياه ياخذه معه ….كان يربح في النقله أكثر من خمسين جنيه…مع إنه كانت أجرة العامل في اليوم خمس قروش…
وعمّي يا اولاد-الله يرحمه- ما كان يعرف الخوف ولا يعرف التعب، صيف وشتاء يقطع الشريعه ما يقول خنتك..ووقتها عملنا مصاري كثير.
– وين راحت المصاري يابا؟
– عمّي.. بنى لكل واحد من اخوته غرفتين وجَوَّز العزبان…واشترى أرض لها أول ما لها آخر….كل الأرض اللي تشوفوها من خير الله وتعبه الله يرحمه….وليله ما فيها قمر ضربته جلطه ولقيناه ميت في فراشه.
– شو كان عمره يوم مات يابا؟
– حوالي خمسين سنه.
– يوم مات عمّك محمد…كم سنه كان عمرك يابا.
– أنا أصغر واحد في اولاد سيدك …كان عمري 18 سنه.
– ليش ما كنت تروح ع التهريب مع عمّي؟
– الله يرحمه رفض ياخذني معه….كان يحبني كثير…وكان يقول: واحد منا بس يروح …عَ شان اذا اكتشفونا الانكليز….ينقتل واحد منا مش أكثر.
– وسيدي ليش ما كان يشتغل فى التهريب مع أخوه؟
– سيدك كان يروح مع عمي محمد….بس الخير كله كان لعمك محمد…..ولما مات الله يرحمه زوجته قطعت يدها وشحدت عليها…قالت وحلفت انه ما ترك عندها الا عشرين جنيه….وأبوي-الله يرحمه- ما شدد عَ الموضوع…وكان يقول: كله في الجونه…هي وين بدها تروح في المصاري؟..رايحة تظل لولادها.
– صبحه: يعني كان يحبك أكثر من حاله؟
– نعم كان يعتبرني مثل اولاده … مش ابن أخوه وبس.
مساء اليوم التالي حضر “الأساتذة” داود، كايد ومحمد لبيت أبي سالم، استقبلهم بفتور زاعما أنه مصاب بوعكة صحية، فلم يقم من فراشه منذ أمس.
كايد: سلامتك يا ابو سالم… شايفك مش مبسوط.
– الله يسلمك…والله … اني بخير من الله.
معناه متأسفين ورايحين نرجع في يوم ثاني.
– لأ يا جماعة….أهلا وسهلا فيكم….البيت بيتكم. مايصير تروحوا بعد ما وصلتونا.
بارك الله فيك…والله يعطيك الصحه.
– حياكم الله.
داود: بلاش نطول عليك يا أبو سالم….خلينا نخش في الموضوع دوز دغري….فكرنا نجيب مرشح من جماعتنا…ونخليك تجيب المرشح غازي كمال …وندعو جميع البلد في ساحة المدرسة…ونعمل بينهم مناظرة ونترك الناس يسألوهم…واللي يعجب الناس ينتخبوه.
– مين بدكم تجيبوا….الاستاذ بهيج… ما شاء الله عليه… تراه راديو ما يحكي مثله…الزلمه متعلم وما في واحد يقدر عليه…ما احنا سمعناه وللا نسيتوا؟ وأبو كمال زلمه…تعليمه بسيط.. وما يطلع راس مع المتلمظ هذا.
داود: يا عمي اذا المشكله في الأستاذ بهيج…نجيب الدكتور عقاب الزايد.
– والدكتور ان شاء الله تحسبوه قليل… ما هو الثاني لسانه ع سبع شِعَنْ… صحيح الزلمه لسانه دافي… بس يوم يتكلم يضرب عَ الوجع… وكلمته مثل الطلق ما تخطي هدفها.
داود: طيّب شو رايك في الأستاذ عبد الرحمن الدعاس؟
ضحك أبو سالم وقال: هذا محامي لسانه مثل المبرد….والله ذكرتوني بسالفة محامي مثله.
كايد: شو سالفته؟
– هذا فيه شيخ قبيله بدوي…كان عمره فوق التسعين سنه… وراح تزوج بنت عمرها سبعتعشر سنه… زوجه رابعه…. وما قدر الشيخ يقوم بواجب البنت…. هربت لدار أبوها… وكّلوا محامي عنها ورفعوا قضيه في المحكمه عّ الشيخ…ولما حضر الشيخ للمحكمه.. بلّش المحامي يتكلم ويقول: ياسيدي زوج موكلتي عجوز تعبان …وما يقدر يقوم بواجباتها…ولا يعرف كيف يعاملها…أحفاده أكبر منها… وطالب المحكمة تفرق بينهم ويدفع الشيخ حقوق البنت….والتفت القاضي للشيخ وسأله: شو ترد عليه يا شيخ؟ فوقف الشيخ وقال للقاضي: يعني كل الكلام اللي سمعته عني وعن حرمتي؟ فقال له القاضي: نعم….وشو ترد عليه؟ وقال للقاضي: قبل ما أرد…مين هو الولد هذا؟ فقال القاضي: هذا محامي زوجتك يا شيخ.
– فقال الشيخ: يا سيدي القاضي.. ارجوك أجِلّ المحكمة تشوف لي كذوب مثل هالكذوب.
ضحك “الاساتذة” والتفتوا الى بعضهم البعض وسأل داود: شو يعني؟
– يعني …زلمتكم محامي….واذا فتح جرابه…أبو كمال مش رايح يقدر يرد عليه.
كايد: يا عمّي ابو سالم…المرحله القادمه مرحله خطيره جدا…ولازم يكونوا اعضاء البرلمان متعلمين عَ شان يقدروا يتعاملوا معها…وللا قضيتنا تضيع واحنا نتفرج…وحلف بغداد يمشي…واللاجئين يظلوا مشتتين…واسرائيل تحكم المنطقه كلها…والله يستر ما يحتلوا الأرض الباقيه من فلسطين.
أبو سالم: بس يا جماعة أبو كمال مرشح الفلاحين واللاجئين….فش غيره في محافظة القدس.
داود: وجماعتنا مرشحين عن قوى الشعب العامله كلها….الفلاحين والعمال واللاجئين…والطلاب والشعب كله.
أبو سالم: لا تفهموني خطأ يا شباب…أنا مش ضد جماعتكم….بالعكس أنا معهم…ومع أبو كمال…وبدكم أشوفه زيّ ما قلتوا…ما عندي مانع …اليوم راح أشوفه…وراح أرد لكم شو ردّه.
بارك الله فيك…قالوها بصوت واحد.
أرغى وأزبد المرشح غازي كمال عندما سمع من أبي سالم في مقهى زعترة أن مرشحي الأحزاب يريدون مناظرة معه، فهذا تطاول على قامات الأصول..قامات الحسب والنسب العشائري…بل يتعدى ذلك الى التعدي على القرى والبادية بأكملها…انه تعد على الشعب بأكمله…فمن أين كانت المدن ستجد طعامها لولا القرويون وأبناء البادية الذين يفلحون الأرض، ويربون الماشية، ويحلبونها؟ هناك أمور يمكن السكوت عنها….وأخرى السكوت عنها خطيئة.. فالقضية أبعد من مناظرة.. انها مؤامرة لاستبعاد صوت الفلاحين عن دائرة اتخاذ القرار… نحن شجعناهم على ذلك…. وهم تمادوا اكثر مما ينبغي… لن أسمح لهم بتمرير ألاعيبهم علينا… وسنصل الى البرلمان رغما عن أنوفهم، وبأصوات تزيد عن ضعف ما سيحصلون ….على أكتاف من قامت ثورة العام 1936؟ ومن كان وقود الثورة؟ هؤلاء يطمحون بأن يكونوا سادتنا دائما، وما علينا إلا التصفيق لهم، التفت الى أبي سالم وسأله وهو ينفث دخان الأرجيلة: شو رديت عليهم يا ابو سالم؟
– سلامتك…. قلت لـ”الأساتذه” جماعتكم كذابين … وما فيهم غير الحكي…وابو كمال ما هو فاضي لهيك دواوين فاضيه….وهاي الميدان يا حميدان …اللي فيه فِعِل يبينه؟
معناه اسمع يا أبو سالم….هاي خمس دنانير تاخذ لك سيارة بدينار وتدور عَ مخاتير بلدكم ومخاتير صورباهر وأم طوبا، وبيت صفافا، وسلوان ، وأبو ديس، والعيزرية، والطور…وقول لهم: ابو كمال يهديكم السلام…والغداء بعد صلاة الجمعه في بيارتي في أريحا…. وقرى الشمال أرسل لهم زلمه ثاني….لازم الناس يفهموا شو يصير…ويكون الرد جماعي…والطلق[3] يقتل واحد، والمشورة تقتل مِيِّه….والليله مرّ عليّ في البيت… أو اسمعني شويّه…الليله بعد صلاة العشاء أنا أمرّ عليك…بس بدّي إياك لحالك… ما بدّي أشوف واحد عندك.
أبو سالم: زي ما بدك… طلباتك أوامر.
أبو كمال: يا الله خلينا نروح نصلي الظهر في الأقصى.
في الأقصى انتبه أبو سالم الى رجل أنيق حليق الذقن يرتدي بدلة وربطة عنق، رجل هادئ يخطب بروية وهدوء، ويتحدث بأمور الدين، بدأ حديثه عندما سأله أحدهم: ما هو برنامجك الانتخابي يا شيخنا، وبماذا ستتميز عن غيرك من المرشحين؟
فأجاب: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، مولانا وسيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين….من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد….فلا يصلح أمر هذه الأمة الا بما صلح به أولها…أمة كانت قبائل متناحرة فأعزها الله بالاسلام، وبالاسلام أنشأت أعظم وأقوى دولة…سادت العالم من حدود الصين شرقا الى المحيط الأطلسي غربا، خضعت لها شعوب الأرض جميعها…وتوالت السنون والحوادث، وابتعدنا عن ديننا الحنيف، فطمع بنا الطامعون والمستعمرون، واستغلوا ضعفنا وتشرذمنا، وهاجموا أمتنا، وهدموا دولة الخلافة التي هي عزنا ومجدنا، وقسمونا الى دويلات وهمية وشعوب متناحرة، تارة باسم القومية، وتارة باسم العلمانية، ووجهوا لشعوبنا طاحونة اعلامهم لتكريس فرقتنا، واشعال نار الفتنة بيننا، وكان ما كان في فلسطين، حين اقتطعوها لبناء وطن قومي ليهود، وشردوا شعبنا الفلسطيني المسلم في اصقاع الارض.
من هنا فأننا ندعو الى العودة الى الدين الحنيف، والى تجميع شتات الأمة لاعادة بناء دولة الخلافة الراشدة على منهج النبوة والخلافة الراشدة، ولدينا دستورنا المتمثل بكتاب الله وسنة نبيه، ولدينا تشريعاتنا التي أنزلها الله –سبحانه وتعالى- ونظامنا الاسلامي يصلح لكل زمان ومكان.
التفت ابو سالم للمرشح غازي كمال وسأله: مين هذا يا ابو كمال؟
– هذا الشيخ عز الدين نبيه….من الجماعات الاسلامية.
يعني شايف حاله مسلم وأحنا مش مسلمين؟
– لأ…مش هيك …هذا بدّه يرجع دولة الخلافة….ما لنا وما له؟ الزلمه مش رايح ينجح.
ولا يشكل علينا أيّ خطر….وما فيه معه مصاري يصرف.
وعلى إيش معتمد.
– يا سيدي معتمد عَ الله ….وربنا سبحانه وتعالى ما يشتي مصاري.
– استغفر الله يا زلمه…من اعتمد عَ الله ما خاب.
– شو بدنا منه؟…..اذا بدّك إياه …روح معه.
– شايفك زعلت…شو صارلك؟…..هو انا حكيت شيء غلط؟
– دشرك من هالحكي….قامت الصلاة …خلينا نصلي وأشوفك بعد الصلاة.
وبعد الصلاة التف حشد من المصلين حول الشيخ عزالدين نبيه، وحشد آخر حول غازي كمال…وابو سالم يتبع أبا كامل كظله…وفي منطقة باب العامود دخل ابو كمال سيارته الخاصة، وأشار لأبي سالم ان يجلس بجانبه….سار باتجاه راس العمود….نقد أبا سالم مئة دينار، وطلب منه أن يشتري عشرين خروفا…وأن يذهب بها الى البيارة في أريحا صباح الجمعة، وأن يصطحب معه مجموعة من شباب عائلته كي يذبحوها ويقوموا بشوائها وليمة للمدعوين، وأوصاه بأن يراقب اللحوم، فاذا ما نقصت عليه أن يكون جاهزا لشراء المزيد، كما طلب منه تحضير البندورة والبصل والخيار والبرتقال، من البيارة، وأخبره بأن لا داعي لحضوره الى بيته- بيت أبي سالم- هذا المساء… أنزله في راس العمود وعاد أدراجه باتجاه القدس.
******************
جلس أبو سالم وحده….أشغل فكره…حسب الأمور من مختلف جوانبها، ماذا سيشتري لوليمة أبي كمال؟ وماذا سيبقى معه من المائة دينار؟ وكيف سيتدبر أمره؟ كيف سيكسب رضا أبي كمال دون أن يخسر الآخرين؟ وهل الشيخ عز الدين نبيه يدفع فلوسا كبقية المرشحين؟ وأين يدير حملته الانتخابية؟ وأين بيت الرّجل؟ وهل يستقبل الآخرين في بيته؟ وماذا سأقول له اذا ما قابلته؟ هل سأقول له بأنني مسلم مثله؟ لكنه يعلم بأننا مسلمون، وبقية المرشحين مسلمون باستثناء الدكتور عقاب الزايد، والمحامي عبد الرحمن النعاس، والذي يراهم يحسبهم مسلمين مع أنهم نصارى، وهم لا يختلفون عنا في شيء، يحملون هموم اللاجئين وهموم تحرير فلسطين واسقاط حلف بغداد، والوحدة العربية، ويؤيدون الرئيس جمال عبد الناصر، اذا ماذا يريد هذا الشيخ؟ سمعته يتحدث عن توحيد المسلمين وعن العمل لإعادة إقامة دولة الخلافة، هذا الشيخ غير المُعَمّم يعتمد على الله كما قال غازي كمال، وبالتالي فانه لن يدفع فلوسا لأي أحد، ولن أستفيد منه شيئا، وأبو كمال رجل ثري، يدفع نقودا للناشطين في حملته، ويقيم الولائم غير سائل عن التكاليف، وسيحضر يوم الجمعة لوليمته أكثر من مائة رجل، واذا ما قدمنا لهم شواء فلن يبقى من المئة دينار شيء، اذا فالمناسف هي الحل الأمثل، وسأضع أبا كمال تحت الأمر الواقع، سأحضر المناسف دون مشورته.
نادى زوجته وقال:
اسمعي يا أمّ سالم…يوم الخميس…إعزمي خواتك وسلفاتك، وبلشن عجين وخبز من طلوع الشمس، بدّي أجيب عشر خرفان وأذبحهن، واطبخي لهن المعاليق، واخبزن لنا ألف رغيف شراك، عايزهن يوم الجمعة من الصبح.
– عشر خرفان وألف شراك هو احنا بدنا نجوز عشر عزبان؟
هذي قضايا ما هي من اختصاص الحريم…والطبيخ مش رايح يكون عندنا…ناخذ اللحم والخبز ونطبخ مطرح ما بدنا….بس هالكلام ما بدّي واحد يسمع فيه….واذا وحده من هالنسوان سألتك شو فيه؟ قولي لها ما أعرف شيء.
– حاضر يا ابو سالم…أمري لله.
استدعى أبو سالم من تجاوز الخامسة عشرة من أبناء إخوته، وأخبرهم بالوليمة، وبأنهم سيكونون من المدعوين، وعليهم أن يكونوا في خدمة المدعوين، وأنه سيصطحبهم معه الى اريحا في سيارة، كما ارسل ابنه سالم ليدعو له خضر التعبان.
انتحى أبو سالم جانبا بخضر التعبان وقال له:
يوم كنت في الحرس الوطني اشتغلت طباخ وللا أنا غلطان؟
– لأ مش غلطان….خير …شو فيه؟
– يعني بتعرف تطبخ لحمه ورز وتعمل مناسف؟
– وللا شو شغلتي؟
– بتقدر تطبخ عشر خرفان …وشوال رز؟
– طبعا يا زلمه…كنت أطبخ أكل لثلث مية جندي.
طيّب…يوم الخميس المساء تعال عندي…وجيب قدر الطبيخ معك وشوية صحون كبيره للمناسف… ع شان أذبح أنا واياك عشر خرفان …وناكل المعاليق…ونقطعهن…وتنام عندنا ع شان تروح معنا لأريحا ونطبخهن هناك….لأنه فيه عزومه كبيره…ورايح أدير بالي عليك..
يعني رايح أعطيك دينار … وتقدر تجيب لبيتك برتقال وبندورة وخيار وخضار كثيره من خير ربنا…واللحمة اللي تـزيد نتقاسمها… كل واحد ياخذ نصيبه لولاده…وأزيدك من الحب جانب…يوم الخميس هات واحد من اولادك معك…وأول خاروف تذبحه…اعطيه المعلاق والراس والكرشه….ع شان أمّه تطبخهن له ولأخوته… بس ما بدّي تجيب سيره لأي شخص.
– حيّاك الله يا أبو سالم.
داود بن أبي داود عاد يحمل شهادة من الجامعة الأمريكية في بيروت، بعد أن طلق زوجتيه الاثنتين اللتين تزوج أولاهما وهو في السادس الابتدائي والثانية بعدها بسنة، لم يكن له رأي في الزواج، هي رغبة أبيه الذي يريد عاملات في الأرض وعزوة كبيرة، داود الذي حصل على شهادة المترك عام النكبة كان يحث الناس على تعليم أبنائهم وبناتهم، ويعد من يكمل الثانوية بنجاح بمنحة دراسية جامعية ليعود موظفا كبيرا، وبدخل كبير، استمع له البعض وقبلوا نصيحته، بينما الأكثرية أوجسوا منه خيفة.
داود خريج الجامعة الأمريكية طلب من وزارة الزراعة أن تقوم بمساعدة أهالي البلدة لزراعة أراضيهم بالأشجار المثمرة تحت اشراف هندسي ودراسات علمية، فاستجابت الحكومة لطلبه، جمع الأهالي في مسجد الزاوية وشرح لهم خطته، فاعترضوا على ذلك،الحاج عبد الرؤوف قال:
هذا الولد بدّه يخرب بيتنا ويعطي أرضنا للحكومة.
منصور: شو هالكلام الفاضي يا عمّي أرضنا ما تطلع شجر…أرض الفلاحين أرض الشجر مش أرضنا.
الحاج عبد الرؤوف: المشكلة أكبر من هيك يا جماعه…هذا الولد الله أعلم مين وراه…باين بدّو يوخذ الأرض… والله أعلم بكره تلقوها مسجله باسم ناس عمركم ما اسمعتوا فيهم.
المختار أبو علي: بس قل لي يا عمّي اذا زرعنا الأرض شجر وعاش، مع انه مش رايح يعيش، وين بدنا نزرع قمح وشعير ميشان ناكل ونطعم قطاطيم اللحم اللي ورانا.
داود يرد على أسئلة الجميع بهدوء وبابتسامة موضحا أن زراعة الأشجار المثمرة ستعود عليهم بدخل ثابت، دون أن تتأثر بانقطاع الأمطار بين سنة وأخرى، وأن أشتال الأشجار والعمال والمهندسين من وزارة الزراعة وبدون مقابل، وأنه ليس مطلوب منهم التوقيع على أية مستندات أو التزامات….فازدادوا خوفا وشكوكا منه ومن طروحاته، وانفضوا من حوله بدون استئذان.
تأكد داود أكثر من قبل أن الجهل هو أكبر أعداء الانسان، وأن العلم جنّة…فجمع كبار السّن من أبناء عائلته في بيت والده، وأعاد طَرْحَ الموضوع عليهم…شرح لهم مشروعه بأدق التفاصيل، فعارضوه بشدة، واحتراما منهم لوالده الذي أكد لهم بأن أيّ ضرر سيلحق بأرضهم سيعوّضهم عنها أرضا من أرضه التي يعرفونها وافقوا على طلبه.
في اليوم المحدد وفي عيد الشجرة وصل مهندسو وعمال وزارة الزراعة بصحبتهم الأشتال وآليّة حراثة-تراكتور-..حرثوا الأرض…حفروا للأشتال…زرعوا جدارا من أشتال السرو في محيط الأرض، غرسوا أشتال الزيتون… بين كل شتلة وأخرى شتلة لوز أو برقوق أو مشمش، غرسوها بطريقة هندسية…بخيوط مستقيمة ومسافات متساوية بين كل شتلة وأخرى.
العمال يزرعون الأشتال، والحاج عليّ يضرب كفا على كف وهو يردد:
خرّب بيتنا الولد هذا…خرّب الأرض …الله أعلم مين يضحك عليه؟
قال أحد المهندسين: وحّد الله يا حاج، أرضكم تُعمَّر ولا تُخرَّب… وبعد ثلاث سنوات ستثمر الأشجار…وستزيد ثمارها كل عام… وسأعود اليكم كل عام لمدة ثلاث سنوات لتقليم الأشجار وتعليمكم كيفية التقليم، وسأعود اليكم في بداية الربيع لأعلمكم زراعة مقاثي الفقوس والكوسا، والبامية واللوبيا، وسيكون لكم دخل مرتفع في صيف هذا العام وكل عام.
الحاج علي: موت يا حمار تيجيك العليق.
المهندس مازحا: بس لي عندك طلب يا حاج.
– تفضل…قالها وهو يعض على غليونه ويتكئ على كوعه.
عندما يثمر الشجر…بدّي تعطيني سلة فواكه.
– ومين قال لك انه راح يعيش…وراح يثمر؟
احرسوه من الغنم ومن الاولاد وشوفوا كيف رايح يثمر…وشو رايحين تستفيدوا؟
– رايحين نحرسه …واذا عاش وأثمر بدّي أعطيك ثمر أول سنه.
100% رايح يعيش ويثمر اذا ما رعيتوه بغنمكم….وانا ما بدّي منكم غير تدعوا لنا بالخير…وتعلموا قرايبكم كيف يزرعوا أرضهم.
– ولا يهمك أفتح لهم جامعه…قالها ساخرا.
يوم الخميس استيقظ أبو سالم مع أذان الفجر….أيقظ زوجته…نهضت متثاقلة متثائبة، طلب منها ان تعجن وتخبز على عجل…أيقظ سالم…فنهض مذعورا…اسم الله عليك قال له، لا تخاف…تعال ساعدني بدّي أذبح خروف…واليوم لا تروح للمدرسه.
– عندي امتحان يابا…قال سالم بانكسار.
بلا امتحان….بلا زفت مغلي….اذا الاستاذ ما أعاد لك الامتحان أروح له وأخرب بيت أبوه.
– زيّ ما بدّك يابا…
طيب روح هات خروف…أكبر واحد …انتبه خوف يفلت منك.
بطح ابو سالم الخروف… داس بقدمه على قائمة الخروف الأمامية اليسرى، وطلب من سالم أن يقبض على قائمتيه الخلفيتين بيده اليمنى، وعلى القائمة الأمامية اليمين بيده اليسرى… بسم الله..الله أكبر وذبح الخروف، شرع يسلخه، علقه على شعبة بيت الشعر بمساعدة سالم ووالدته، قطع من الليّة ووضعها في فمه…وأعطى قطعة أخرى لسالم، وأرسل معه قطعة لوالدته التي شرعت تشعل النيران للخبز على الصاج…وعندما بعج بطن الخروف الذبيح، استخرج معدته…ابتعد بها قليلا … بعجها ونفض محتوياتها .. غسلها بقليل من الماء وأعطاها لزوجته كي تشويها على الصاج،….أكلوا أكثر من نصف الكبد والكليتين نيئة… وأرسل ما تبقى من الكبد للشواء على الصاج… شق الخروف نصفين…أنزله ووضعه على كيس خيش… أكلوا “الكرشة” وما تبقى من الكبد… وعاد يقطع ما تبقى من المعلاق ومن الليّة لطبخه، وطلب من أم سالم تنظيف الأمعاء..وضع رأس الخروف-بعد أن شقه الى نصفين- وسط الجمر تحت الصاج، أمّ سالم تخبز على الصاج، وتطبخ ما تبقى من المعلاق على”بابور الكاز”.
وصل خضر التعبان….طرح تحية الصباح وسأل:
وين الخرفان يا أبو سالم؟
– اقعد خلينا نفطر ع شان نقدر نقوم.
جلسا يتسامران حتى نضج المعلاق… سكبته أمّ سالم في صحن بعد أن أبقت لها قليلا منه..
قدمته لهم…فقال خضر:
شايف الخروف بلا كبد يا أبو سالم.
– الكبد راح في طريقه يا خضر…خير الله كثير…وللا خايف ما تشبع.
– لأ يا زلمه بس شايف المعلاق بدون كبد.
– بعد ما نفطر نذبح الخرفان الباقيه وكل كبد مثل ما بدّك…ما هو انت زيّ الأفنديه ما تصحا غير تتطلع الشمس.
– لا أفنديه ولا غيرهم…أنا لي ساعتين صاحي…وخفت تكونوا نايمين وما حبيت أزعجكم…
– طيّب كَمِّل فطورك عَ شان نذبح الخرفان.
احتسوا ابريق شاي، وقال أبو سالم:
نط يا خضر اذبح خروف وهاي سالم يساعدك….
– يا الله….وانت ليش ما تقوم؟
انا بدّي أشوف شو صار في راس الخروف…أمّ سالم وضعته تحت الصاج…
ابتسم خضر ولم يتكلم…..قام على مضض…أحضر خروفا…ثبت قوائمه بمساعدة سالم وقال: بسم الله …الله أكبر وهوى بالسكين على رقبة الخروف، وكان أبو سالم قد هوى على لسان رأس الخاروف الأول، وبسمل وفمه ملآن فخرجت البسملة متقطعة معوجة، فانفجر سالم ضاحكا على تأتأة أبيه.
أنهى خضر سَلْخَ الخروف الأول، شقه نصفين، وقطع كل نصف نصفين، وضعه أمام أبي سالم، وطلب من سالم أن يحضر خروفا آخر…حثّ أبا سالم كي ينهض من فراشه ليساعده في ذبح الخراف وسلخها، غير أن أبا سالم كان ممددا…يكثر من احتساء الماء، ولا يقوى على الحراك…فردّ عليه :
اتركني الله يخليك…مش رَوْيان ميّه.. راسي مثل الطاحونه.
– هذا من كثر ما أكلت…قُمْ تحرك خليك تهضم.
– هَيْ هاي…شايف لسانك طويل …أيْ هو انا أكلت من دار أبوك…عيب عليك.
– النسوان حضرن …لا تطول لسانك عليّ قُدّامهن..وللا بخاطرك.
– طيّب يا عمّي كمّل شغلك-الله يرضى عليك- وما بدها طولة لسان…وعند ما تتحسن صحتي ما بدّي نخوة.
أدار خضر ظهره…لعن الحاجة التي تجبره على العمل عند هكذا بشر…ذبح الخروف الثاني…أبو سالم نادى أمّ سالم وهمس في أذنها:
مش قادر أتحرك…وابن أبو القمل…سأل عن كبدة الخاروف الأول…اِشوِ شوية كبده واعطيه إياها…بلاش يزعل ويتركنا…
– حاضر.
بعد أن ذبح خضر سبعة خراف وسلخها، وشقها، وكوّمها أمام أبي سالم، نهض أبو سالم متثاقلا عابسا..وذبح خروفا وسلخه، بينما ذبح خضر الخروف العاشر الأخير، كان يتصبب عرقا، يحني رأسه قليلا الى الأمام، يمد ذراعه يمسح به حبات العرق التي تتدحرج من جبينه على عينيه، تتساقط خيطا من الرذاذ على الأرض…بينما النساء يواصلن العجن والخَبْز…ثلاث يعجن الطحين، واثنتان يخبزن على الصاج، يتصببن عرقا، يتدثرن بصمتهن، لا يتذمرن، ولا يشتكين، وأمّ سالم تطبخ لهن معلاقي خروفين، انزوين في غرفة بعيدا عن عيون أبي سالم وخضر، بسملن وأكلن، ولم يقطع صمتهن سوى صرخات أطفالهن الجوعى الذين كانوا يتدافعون صارخين، كل يريد أن يملأ بطنه.
كان الظل تحت أقدامهن عندما أنهين عملهن، مما يعني أن النهار انتصف…حملت كل واحدة منهن معلاق خروف وكرشته ورأسه وأمعاءه وقوائمه، وعدن الى بيوتهن لتحضير الغداء لأبنائهن التلاميذ ولأزواجهن.
شرب أبو سالم وخضر وسالم ابريق شاي، فالشاي على رأي أبي سالم يُطفئ ظمأ العطشان. وبعدها شرعا يقطعان لحم الخراف، وعندما كانا يصلان الى منطقة العمود الفقري ، كانا يجردان فتيلة لحم ويبتلعانها نيئة…اللحمة البلدية مثل الفستق على رأي أبي سالم….
وين النسوان يا أمّ سالم؟…سأل أبو سالم.
– النسوان-الله يعطيهن العافيه-…خلصن شغلهن…ورجعن لدورهن .. وراهن اولاد في المدارس وجيزان في الشغل بدهم غداء.
– شو عملن؟ خبزن شويّة خبز…ومين بدّه يُمْرس اللبن؟
– الله يحفظك…بلاش لبن مريس المرّه هذي…اللبن الرايب كثير…وخير الله كثير.
– بس المناسف بمريسة اللبن الجميد أطيب من الرايب..
– مرّرها المرّه هذي والخير في الموجهات.
– لا حول ولا قوة الا بالله….نسوان آخر وقت… شو عملتِ في حليب الصبح؟ جَبّنْتيه؟
– هاي انا رايحه أجَبْنُهْ.
– طيب … حطّي بابور الكاز جنبك واغلي لنا كاستين جعده، وغلوة قهوة.
– حاضر.
انصرفت أمّ سالم لعمل أقراص الجبنة، والتفت أبو سالم لخضر وقال:
النسوان فاضيات اشغال.. لا شغله ولا عَمْلِه… ولا همّ دنيا ولا عذاب آخره.. بس شاطرات في الأكل والشرب..
– يا زلمه والله شابين نشيطين ما يتعبوا مثل مره…طبيخ وعجين وخبز وغسيل، وحليب وجبنه…واولاد وبيت…وغراب البين فوق روسهن…غير شغل الليل.
ابتسم أبو سالم وقال: والله ما هن شاطرات إلا في شغل الليل.
سالم: شو شغل الليل يابا؟
-انت قاعد هون يا ولد…والله ما انا شايفك…انصرف عند إمّك.
خضر: يا زلمه إحمد ربك اللي حاملاتنا….ومليح ما يطلعن للمدينه ويعرفن كيف النسوان عايشات…كان ما ظلت واحده منهن عند زوجها.
– باين عليك ….شغلك في الفنادق خرّب اخلاقك….
– لا خرّب اخلاقي ولا شيء…بس نسواننا مظلومات…فخلونا ساكتين ومستورين.
أبو سالم: شو رايك ناخذ اللحم والخبز واللبن والشباب المساء وننام في اريحا، بدل من سروتنا الصبح.
– والله فكره طيبه….لكن الشباب مش موجودين.
– بعد صلاة العصر…الكل يرجع وييجي هون….اسمعي يا أم سالم…رتبي كل شيء..واطبخي المعلاقين الباقيات للشباب ….يتغدوا عندما ما يصلوا…وخلينا نقصد باب الله…وانت يا خضر…ولا عليك أمر… اتفق مع سايق سيارة دار ابو السمن…وقل له يمر علينا بعد صلاة المغرب…
في حوالي الرابعة بعد الظهر عاد أبناء اخوة أبو سالم من المدرسة، ومن واد النار حيث يعملون في الزراعة، ومن ورشات البناء…كان أبو سالم يرقب طريق عودتهم من صدر بيت الشّعَر…ومن يطل منهم من بداية الطريق الموصلة الى بيوتهم، حتى يطلب من سالم أن يناديه قبل أن يدخل بيته، تجمعوا حوله، بدا وديا ومرحا معهم كما لم يكن من قبل، وعندما اكتمل وصولهم، أحضر سالم طنجرة الطبيخ، فيها معلاقا خروفين وليّة، أكلوا وشبعوا وشربوا وارتووا، وعليهم أن يكونوا جاهزين للسفر الى اريحا في سيارة الشحن بعد غروب الشمس كما أمرهم أبو سالم.
رتب الشباب الطناجر والصحون، واللحوم في صندوق الشاحنة، ابو سالم يجلس بجانب السائق بعد أن ارتدى قمبازا جديدا، وضع عباءته على كتفيه…..اعتمر كوفيته وعقاله…مسّد شاربيه…طلب من خضر أن ينتبه للشباب كي لا يسقطوا من صندوق السيارة اثناء السفر…اسند ظهره على الكرسي بكبرياء…أمر السائق بأن يسير….وبينما هم ينحدرون منعطفات واد الحوض في العيزرية جفل ابو سالم كالملدوغ وقال للسائق:
نسينا نجيب حطب……. شو رايك ننزل الاولاد يجمعوا لنا شوية.
– اريحا مليانه ….كلها بيارات …مليانه غصون من تقنيب الشجر وما في حاجة للحطب هناك.
– واذا ما لقينا؟
– مستحيل ما تلقى…واذا ما لقيت خليها عليّ….مش رايح تتغلب.
– عَ مسؤوليتك.
– نعم عَ مسؤوليتي.
الشباب يغنون ويهزجون ويصفقون ويصرخون…كل يغني على ليلاه..واحد يغني بعض اغاني عبده موسى على الربابة فيقول:
يا مرحبا ويا هلا
ومنين الركب من وين
واقبلت علينا الضحى
يا زينة قباله
وآخر يردد أغاني لسميرة توفيق:
بالله تصبوا هالقهوة وزيدوها هيل
واسقوها للنشامى ع ظهور الخيل
وكل منهما يجد من يردوا عليه………صاح بهم خضر وقال:
شو رايكم تقعدوا مثل البشر وتردوا عليّ هجيني؟
– شو الهجيني؟
– الهجيني اغاني نغنيها.
– طيّب خلينا نسمع.
– حياكم الله…بس اسمعوا وافهموا:
صهيون وش لك عندنا
هذي البلاد بلادنا
بلاد ابونا وجدنا
وعندما رأوا مقام النبي موسى، اشار خضر بيده للمقام وغنى:
يا نبي موسى ما ابيض حجارك!
لولا الصبايا ما حدا زارك
فسأله عدنان الأقرع:
ليش في بنات في مقام النبي يا عمّي؟
– الله يعميك ويعمي عمّك يا عمّي….ما أكثر غلبتك!… طالع فالح عَ عمّك.
وعندما مروا بقناة محيي الدين أخذوا يصرخون يريدون الاستحمام بها، فنهرهم خضر…واخبرهم ان المياه والقنوات موجودة في البيارة وبامكانهم السباحة هناك…مروا من وسط أريحا وعيونهم تبتلع المكان…رائحة الشواء تنبعث من مواقد المتنزهات، فتسيل لعاب الأفواه …عبير الحمضيات ينعش القلوب…اخضرار المدينة يبعث الأمل بالحياة السعيدة… الصبية يلتهمون جمال المكان….كل واحد يتفاجأ بمنظر لم يره من قبل، فيخز جاره ليلفت انتباهه اليه…وجاره يصيح به لأنه قطع عليه متعة متابعة منظر شدّ انتباهه….عدنان الأقرع ينظر الى الشمال الى قمة جبل قرنطل…يرى الدير وشلال الوادي في الصخور الصوانية التي ارتسمت لوحة مزركشة جميلة نحتتها الطبيعة، فيصيح بأعلى صوته:
شوفوا شو فيه هناك وأشار الى الدير…يا الهي شو البنايه حلوة؟
خضر: هذا دير قرنطل.
– شو يعني؟
– يعني دير للمسيحيين مثل الكنيسه…فيه رهبان يعبدون الله.
– وكيف بنوه في بطن الجبل؟
– ما ادري لكنه دير قديم.
– وكيف الرهبان يصلوا له؟
– في طريق ضيقه ووعره يمشوا فيها.
وصلوا الى البيارة، وقف الحارس عند مدخلها……استفسر منهم عما يريدون، فأخبره ابو سالم أنهم عزوة أبو كمال….جاؤوا لتحضير غداء يوم غد الجمعة لضيوف أبو كمال…رحب بهم وأشار اليهم ان يوقفوا السيارة قرب كوخه الذي ينام فيه.
نزلوا من الشاحنة….طلب منهم ابو سالم أن ينزلوا كافة الأغراض…تلفت الى كل الاتجاهات…رأى كنبة في البرندة المفتوحة …اتجه اليها وجلس…نادى السائق وقال له:
بكره بعد صلاة العصر تعال لهون خلّيك تتغدّى وتردنا معك للبلد.
– حاضر.
– لكن هالوقت تعال معي خلينا نستأجر كراسي عَ شان حفلة بكره.
استقلا السيارة وذهبا الى المقهى الكبير المجاور للدوار الرئيسي…استأجر أبو سالم مئة كرسي، بنصف دينار، كل كرسي بنصف قرش لمدة يوم واحد، ونقد النادل قرشين كي يحملها في السيارة، وما ان دخل البيارة بالكراسي حتى اصطفت سيارتان، سيارة غازي كمال وبجانبه شخص آخر، والأخرى فيها ثلاثة أشخاص….رجال انيقون…يرتدون بدلات وربطات عنق، قفز ابو سالم كالفهد…فتح باب سيارة المرشح غازي كمال، وانهال على وجنتيه تقبيلا، ثم مدّ يده مصافحا الآخرين بحرارة وهو يردد: أهلا بالأفندية، ومشى بجوار أبو كمال يشرح له بأنه ذبح عشرين كبشا، وأحضر اللبن الرايب، والأرز، وخبز”الشراك” والقهوة والقدور والصحون ودلال القهوة والسكر والشاي والكاسات، وأنه احضر ابنه وأبناء اخوته لخدمة المدعوين….فقاطعه ابو كمال قائلا:
لكننا اتفقنا ان يكون الغداء شواء.
– يا طويل العمر انت فاتح مطعم حتى تشوي، وشو يشبع الناس الكثيرين شَوِي…الواحد خروف ما يشبعه؟ غير انه الشوي مش قِرى للضيوف، وانت ابن ناس وتعرف الأصول…المنسف يليق بالناس المحترمين شروى لحتك.
سائق الشاحنة: اعطيني يا ابو سالم اجرة الكراسي.
– شو صار في الدنيا يا زلمه بدك أجره ع خمسماية متر.
وللا السيارة فكرك تشتغل ع الميّه؟
مدّ أبو كمال يده في جيبه ونقد السائق نصف دينار بالرغم من معارضة أبو سالم.
جلس رفقاء أبو كمال في صالون البيت، في حين نادى أبو سالم”خضر” كي يحضر الكانون ودلال القهوة كي يطبخوا القهوة السادة ليوم غد، وابريقا لأبو كمال وضيوفه.
طلب أبو كمال من أبو سالم أن يشووا عشاء للضيوف، واستأذن هو بالدخول لمجالسة ضيوفه بعد أن أكد عدم دخول أيّ شخص للبيت باستثناء حارس البيارة، والصبية كانوا منتشرين وسط اشجار البرتقال، ينتقون حبات البرتقال الكبيرة ويأكلونها، كما أكلوا الكثير من الخسّ والخيار وحتى البندورة…
دخل الحارس البيت وأحضر الكؤوس، وقناني العرق من صندوق سيارة أبو كمال الخلفي…لفّها باحكام – حسب وصيّة أبو كمال- كي لا يراها أحد.
وعندما خرج سأله أبو سالم: شو اخبار الأفنديه جوّا الدار…باين بينهم حديث مهم.
– سلامتك ..يشربوا حليب سباع.
وشو حليب السباع هذا؟
– هذا حليب لا اعرفه انا ولا انت…واتركك من الأسئله هذي بلاش ابو كمال يزعل منك.
كل شيء ولا زعل ابو كمال….معناه انقل انت وخضر اغراض القهوة وكانون النار وتعالوا عند خشبيتك….ومثل ما قال المثل: ابعد تحلى….. وهاتوا شوية لحمه خلينا نشوي لهم عَ شان يتعشوا…….وين راحوا الاولاد…الله يقصف اعمارهم….يا عمّي الولد يظل ولد ولو صار قاضي بلد.
– بلا مواخذه انت شو اسمك ومن أيّ بلد باين عليك شيخ قبيله ومنقع دم.
– الله يرضى عليك ويكبر مقامك، أنا اسمي أبو سالم واحد من شيوخ عرب السواحره…اكيد سامع باسمي.
أهلا وسهلا فيك من وين ما كنت.
جمع خضر الكثير من الحطب…وركز على سيقان الأشجار الضخمة التي اقتلعت منذ سنوات، فهي جافة متيبسة يسهل اشعالها، وتصبح جمرا، كسرها الى قطع بمساعدة الحارس….اشعلوا النيران في الموقد الكبير، وشرعوا يشوون قطع اللحم الكبيرة بغرسها في”الأسياخ” المعدنية، لم يسمعوا اقتراح الحارس بجردها وتقطيعها قطعا صغيرة”شقف”، وما ان انتشرت رائحة الشواء حتى هرع الصبية الى الموقد يصرخون، كل واحد اختطف سيخا وابتعد به، نهرهم ابو سالم…صرخ بهم..لكنهم لم يستجيبوا له….
انتظروا حتى ياكل الأفندية يا ملعونين الوالدين صاح بهم.
– ليش الأفنديه أحسن منا قالها عدنان الأقرع محتجا.
ابو خضر: الله يسخطك ويسخط اللي ربوك يا وسخ.
أطل ابو كمال من نافذة البيت وسأل:
شو فيه يا جماعه…ليش هالصوت؟
أبو سالم: سلامتك ما فيه شيء…الاولاد متجاحشين.
فضحونا …قالها ابو سالم همسا…شو العمل؟ بس اللي يقرب منهم رايح أبعجه بسيخ حديد، والعن فاطس فاطسه هو واللي خلفوه…اولاد قليلين أدب فضحونا وسوّدوا وجوهنا.
خلع ابو سالم عباءته…… رفع طرفي قمبازه وثبتهما بحزامه…تخلى عن وقاره…جلس بجانب الموقد وهو يردد: هات اللحم يا خضر واللي يقرب من الاولاد راح يشوف شيء ما يرضيه…ايمتى أكلوا المعاليق؟ ان شاء الله ما يشبعوا….زيّ اولاد الحسره لا يشبعوا ولا يقنعوا ….كأنهم مش ولاد نعمه والعياذ بالله.
الحارس: اتركك منهم يا شيخ…الاولاد دايما هيك.
– الله يلعن هيك اولاد ….أيّ والله واحنا في جيلهم ما كنا نرفع عيوننا امام الكبار…. وما كنا نحط ايدينا في الزاد الا بعد ما يشبعوا الكبار.
خضر: أقول لكم كلمتين ورزقي على الله…..الاولاد معهم حق…لازم ياكلوا قبل الكبار أفنديه وللا حَبّتيّه.
أبو سالم: قبرت أهلك يا خضر…شو صار لك مجنون وللا بتتجنن انت؟ ما بدّي اسمع كلام زي هذا مرّة ثانيه….اذا سمعوه الاولاد شو يخلصنا منهم…يا عيب الشوم.
انتهوا من شواء ما يزيد على ثلاثة كيلوات لحمه…وضعها ابو سالم على صينية كبيرة، بعد أن وضب الحارس الخسّ والخيار وشرائح البندورة في صحون صغيرة، رتبها على صينية حملها باتجاه البيت حيث يجلس أبو كمال مع ضيوفه…..أبو سالم حمل صينية اللحم المشوي وتبع الحارس الذي طلب منه أن يتركها حتى يعود اليها هو شخصيا ويحملها، فلم يستجب له.
فقال الحارس: اتركها يا شيخ العرب بلاش أبو كمال يزعل عليك.
– يزعل ليش عليّ؟ وللا عَ شان خدمتنا له…والله اذا زعل لأرميها للكلاب…وألعن هالوقعه النجسة.
طق الحارس على الباب ونادى: أبو كمال.
– ادخل يا مرعي.
– معي شيخ العرب يريد يدخل غصب عني.
قام أبو كمال وفتح الباب ….نظر يمنة ويسرة…. سمح للحارس مرعي بالدخول، ومدّ يديه ليأخذ الصينية من أبي سالم…..لكزه أبو سالم بكوعه في بطنه وهو يقول ماشيا: ابعد يا زلمه….ما يصير تحمل شيء واحنا موجودين، دخل …وضع الصينية أمام ضيوف أبو كمال وجلس مرحبا بهم….
نظروا الى بعضهم البعض مستائين…فقال أبو سالم:
ما لكم؟ مدّوا ايديكم وتعشوا…باين حليب السباع لناس وناس….ناس تشرب حليب سباع …وناس مش لاقيه ميّه……بدّي أقول ليش دايما منفوخين؟ هذا من حليب السباع….أمسك كأس عرق مكسور بالماء….قربه من أنفه…شمّه وقال: شايف لونه ابيض مثل حليب الغنم….وريحته مثل النعنع….بس شايفه خفيف…
اذا ناوي تشربه ولا يهمك يا أبو سالم.. قال أبو كمال.
نظر أبو سالم للكأس مرّة اخرى….قربها من شفتيه وشربها دفعة واحدة…تلمظ مرات وقال:
فيه طعم يانسون…….بس والله طعمه أطيب من طعم اليانسون.
أبو كمال: بدّك كمان يا ابو سالم؟
– اذا فش فيها غلبه عليك حط كمان كاس خليني أروح أكمل شغلي.
ابشر قالها أبو كمال وهو يملأ كأسا اخرى…..تناولها أبو سالم وجرعها دفعة واحدة، ترك الكأس فارغة وخرج وهو يقول: اسمحوا لي بدّي أكمل شغلي….وللا والله القعدة معكم مليحة.
يبدو انه زلمتك سوكرجي قال سمعان لأبو غازي.
– لا مش سوكرجي…….زلمه غلبته كثيره ومش عارف راسه من رجليه…….ولا عارف شو اللي شربه.
عاد أبو سالم ليجلس بجانب الموقد، تلفع بعباءته وقال لخضر:
اسمع يا خضر دير بالك عَ الاولاد…..بلاش يخربوا مزروعات الناس…….وبعد ما تطبخ القهوه مليح…….غطّي الطنجره….وخليها فوق الجمر…لأنه القهوة شو ما طَبْخَتْ وغلت عِزّ لها…وانا بدي أتمدد شويه عَ فراش مرعي…حاسس راسي خدران.
خضر: شو عملت في الدار عند الأفندية يا ابو سالم؟
– سلامه تسلمك….ولا شيء…شربت كاسين حليب سباع.
حليب سباع قال خضر وانفجر ضاحكا بشكل هستيري.
أبو سالم: شو صار لك يا بن ابو ….. تراك مش مصدق.. وللا تحسب الأفنديه أحسن مني..
أنا ابن تسع شهور وهم ولاد تسعه.
خضر: لكن انت عارف شو هو حليب السباع؟
أبو سالم: ان شاء الله بدها شطاره حتى نعرف شو السبع؟
خضر يزداد ضحكا وقهقة حتى أنه انبطح على ظهره من شدة الضحك، وضع يده اليمنى على صدره، وأخذ يتلوى ويدور ضاحكا…فقال أبو سالم:
شو صار لك يا بن العمياء؟ وللا عفريت تلبسك؟ والتفت الى الحارس مرعي وسأله: ليش يضحك المتعوس هذا؟
شو عرفني؟ أجاب مرعي.
أبو سالم: يا خضر…اذا انك حاسدني كاسين الحليب…وللا نفسك تشرب مثلهن….تعال عَ شان أصب لك غصب عن الراضي والزعلان…بس سكِّر ثِمَّكْ فضحتنا يا ولد.
خضر يمسح دموعه التي تساقطت على وجنتيه من شدّة الضحك وقال ساخرا:
أنا خايف تصير أفندي بعد حليب السباع يا أبو سالم.
استشاط أبو سالم غضبا، عضّ على شفته السفلى…حمل غصن ليمون بجانبه ووقف بخفة يريد أن يهوي به على جسد خضر…. غير أن خضر قفز هاربا وهو يردد: يا ربّ كُفْ عنا شرّ الضحك. وفي هذه الأثناء خرج أبو كمال وضيوفه يترنحون واتجهوا الى سيارتيهما، وأبو كمال يوصي أبا سالم بالحرص على أن يكون كل شيء جاهزا يوم غد قبل موعد صلاة الجمعة، فلحق به أبو سالم وانتحى به جانبا وقال له:
بكره هات اولادك وكم من شاب من اولاد عائلتك معك عَ شان يخدموا الضيوف مع اولادنا….بلاش الضيوف يقولوا بكره أبو كمال مقطوع من شجرة، وللا جماعته مش واقفين معه.
– ولا يهمك…والله فكرتك كويسه باين حليب السباع فَتح دماغك….يا الله بدنا نلحق نصل دورنا وننام ساعتين زمان….تصبح عَ خير.
– مع السلامه…. في أمان الله.
عاد أبو سالم وتمدد على فراش الحارس مرعي وسأل خضر؟
وين راحوا الشباب ياخضر؟
– وين بدهم يروحوا…. اولاد يلعبوا في الميّه ومبرطعين في البستان …خليهم مبسوطين.
طيِّبْ…تعالوا نسهر شويه…انتبهتوا للأفنديه…كيف ملابسهم نظيفه…وكيف الواحد منهم بحجم الثور من العِزّ والدلال…..يا عمّي العلم ما فيه مثله….الأفنديه اللي كانوا مع أبو كمال….الصغير منهم أكبر مني بعشرين سنة….بس هم أهلهم علموهم …واحنا أهلنا خلونا رعيان غنم…يا عمّي (مال يخلف مال وقمل يخلف صيبان)….أيّ والله لو أبيع اللي فوقي وللي تحتي لأعلم سالم، عَ شان يصير أفندي غصب عن الجميع….بدل من عيشة غراب البين اللي عايشينها.
بعد أن تراقصت القهوة في الطنجرة، أحضر خضر فنجانا وقدمه لأبي سالم قائلا:
اشرب الفنجان وعدِّل راسك وقل لنا القهوه مليحه وللا نزيدها بُن.
تذوق أبو سالم القهوة وقال: يسلموا ايديك …ممتازة…والله تذكرت سالفه عن افندي من بلدنا.
– شو هي؟
– تتذكر يا خضر ابو هاشم الزعفران؟
– آه أعرفه كويس.
– له ابن عمّ من جيله اسمه حمدان…مواليد زمن تركيا….قبل احتلال الانجليز-الله يلعنهم- للبلاد بحوالي عشر سنين…وكانت الحياة مثل غراب البين…أخو اخته اللي يقدر يطعم اولاده خبز…وبعد ما صار عمر حمدان خمستعشر سنة…أخذوه أهله معهم للحصيدة في البرية، وما حصد ولا عمل شيء….بهدلوه وقالوا عنه هذا نذل ما يساوي رغيف خبز، ولما زادوها عليه…زعل وتركهم وقال:
والله ما أرجع لكم مرّة ثانيه…حياتكم تعيسة مثلكم…..بدّي أروح أصير أفندي…فقال له أبوه:
روح- لا ردّك الله- طريق تاخذ وما تجيب. والتفت لزوجته-والدة حمدان- وقال:لا تخافي…يغيب يومين ثلاث ورايح يرجع راسه هابط من الجوع.
وراح عَ القدس وما رجع للبلد بعدها الا أفندي مثل ما قال….كان يرجع ضيف ساعتين زمان ويرجع .
– لكن كيف صار افندي؟
– هذا راح للقدس وصار يبحث عن شغل…وصادفه رئيس البلدية …وشاف حجمه صغير ….فحسبه طفل….وأخذه معه وشغله في بيته….يبحش بستان الدار…ويجيب الأغراض اللي بدها اياها الست من السوق…وكان ينيمه عنده في مخزن تحت الدار…ويدير باله عليه…والولد كان ذكي، فأخذه الأفندي لمدرسة محو أميّة …وعلمه….وبعد ما صار يعرف يقرأ ويكتب… شَغَّله في قسم الصيانة….وصار يقبض راتب شهري محترم….واستأجر بيت وتزوج بنت يتيمه من قرى رام الله…كانت تخدم في بيت رئيس البلدية….وخلفوا أكثر من خمس اولاد…علموهم في المدارس….ويوم ربك يعطيك …يعطيك ويغنيك…وكان لزوجته أخت متزوجه واحد من بلدهم وسافرت معه لأمريكا …..وهناك ربك أعطاهم مال بدون حساب…-والمال في امريكا يا الربع أكثر من الزبل في “صيرة” الغنم – …لكن ربك ما أعطاهم اولاد…سبحانك يا ربي….النعمه ما تتم….وبعدها ربنا أخذ وداعة الزلمه…مات في ليله ما فيها ضوء قمر…وسحبت زوجته حالها… حملت المصريات ورجعت للبلاد…يوم رجعت كانت أمها كمان ميتة…وما في لها لا أخو ولا أخت غير زوجة حمدان….رجعت وعاشت عند أختها…وحبّت اولاد أختها وكأنهم اولادها…..ترى يا نشامى اللي ما يخلف يحب الأطفال أكثر من اللي خلفوا….مع انه اللي خلف مش مرتاح وللي ما خلف مش مرتاح….وراحت أخت الزوجة أعطتهم المصاري…واشتروا دار كبيره في القدس….دار مثل قصر الملك..والولد الكبير علموه هندسه في امريكا….واخوته بعده تعلموا مهندسين جميعهم….وحتى البنات تعلمن طب…الواحدة منهن دكتوره قدّ الدنيا ….ما شاء الله عليهم…والله لا يحسدهم…كل واحد منهم عنده قصر وسيارة وربك منعم ومتفضّل… والله…. بختهم اللي زعل حمدان وخلاه يهرب من الحصيده…. وللا كان ظل راعي وولاده من بعده رعيان غنم.
والأيام هاي… بدّك تغسل ايديك تتسلم عَ الواحد منهم… يا عمّي العلم ما فيه أحسن منه…واللي يعلم ابنه يطلع من خطيته… ويودّيه لجنّة الدنيا والجحيم للجاهلين.
وفي هذه الأثناء اقترب صوت الصبيان من غرفة الحارس… كانوا يرتجفون من البرد، فقد أمضوا ساعات في قناة الماء، وفي بركة البيارة…التفوا حول الموقد يتدفأون فصاح بهم أبو سالم طالبا منهم أن يناموا حتى يستيقظوا مبكرين، طلب من سالم أن يندس بجانبه على فراش الحارس، وقال:
اسمحوا لي بدّي أنام … راسي ثقيل ومش قادر افتح عينيّ… وخذوا الاولاد وناموا واياهم في الدار…
مع شروق الشمس نهض أبو سالم….نهض مصابا بالصداع….أيقظ خضر وطلب منه أن يطبخ الأرز في قدر كبير، وأن يطبخ اللحوم في أربعة قدور.
خضر: النهار في أوله يا زلمه….الحطب كثير والطبيخ ما يحتاج أكثر من ساعتين….
– معناه …دير بالك عَ اللحم خوف يخرب….وللا الاولاد ينعفوه….وهات لي كاس ليمون …شايف حالي مش مبسوط.
قدّم خضر فنجان قهوة سادة لأبي سالم وهو يقول باسما: هذا مليح لك ….بعد حليب السباع اللي شربته.
يا ولد شايفك تتمسخر عليّ …استحي شويه…النهار في أوله…يا فتاح يا عليم.
استيقظ الصبيان وانتشروا كالعفاريت….ركضوا باتجاه دير قرنطل كما خطط لهم عدنان الأقرع…تسلقوا الجبل حتى وصلوا الفتحة التي توصلهم الى داخل الدير…كانت مغلقة بباب حديدي فالرهبان لم يستيقظوا بعد…نادوا بأصوات عالية…أطل عليهم راهب يوناني عجوز…يتكلم بضع كلمات عربية…فتح لهم الباب فتسلقوا السلم كمن يصعد من قعر بئر…تجمعوا في الشرفة أمام الدير…شعروا وكأنهم معلقون بين الأرض والسماء…أريحا منبسطة أمامهم…بيوتها متناثرة وسط البيارات وبساتين الخضار…وكأن الله جعل من المدينة الأقدم في العالم مجمعا للخضرة والماء والجمال…مدوا أنظارهم فكانت خيوط الشمس تتكسر على الوجه اللجيني للبحر الميت…أشعة الشمس تتراقص على سطح المياه المالحة لتنعكس مرة أخرى فوق البحر…فتبدو وكأنها نوافير ذهبية، خيّم الصمت على الصبيان فيبدو أنهم وقعوا أسرى في جمال الطبيعة الخلاب، والراهب يتمشى ذهابا وإيابا يحذرهم من الاقتراب من المناطق الخطرة…دخل برهة من الزمن الى غرف الدير وعاد يرتشف كأس شاي…خرج راهب آخر وتجول بهم في غرف الدير…سألهم:
هل انتم مسلمون أم مسيحيون؟ أنا مسيحي أجاب عدنان الأقرع…مروا بغرف فيها براميل نبيذ معتق، قدّم الراهب لهم خبزا وجبنا وزيتونا، أكلوا قليلا…سألهم:هل تريدون أن تشربوا نبيذا؟
نعم أجاب عدنان الأقرع….أحضر الراهب كؤوسا ملأها نبيذا من برميل..قدمها لهم…فجرع كل واحد منهم كأسه دفعة واحدة….طلبوا المزيد…لكن الراهب لم يستجب لطلبهم، وقال لهم: يكفي ما شربتموه في هذا الصباح، فسأله عدنان الأقرع عن زوجاتهم وبناتهم وأولادهم، فاستغرب ما قاله الراهب بأن رهبان هذا الدير لا يتزوجون، وأن بعضهم لا يغادر الدير حتى وفاته، فهم منقطعون للعبادة هنا….يتقربون الى الله بصلواتهم…ويبتعدون عن ملذات هذه الدنيا الفانية، وأنهم يأكلون أبسط أنواع الأطعمة التي تبقيهم على قيد الحياة…مازحهم الرهبان وسعدوا بهم مما أغراهم كي يبقوا في الدير الى أن انتصف النهار…وكان أبو سالم يغلي غضبا لغيابهم، بحث عنهم في البيارة وفي البيارات المجاورة فلم يجدهم، خاف أن يحضر المدعوون قبل عودتهم، لم يكن معه الا سالم الذي خرج الصبيان قبل ان يستيقظ ، وخضر كان مشغولا بالطبيخ، بينما حارس البيارة يقطف البرتقال والبندورة والخسّ والخيار ليقدمه لمن يريد من المدعوين.
رتب أبو سالم الكراسي في ساحة البيت الخارجية….طلب من خضر مساعدته في حمل كنبتين من صالون البيت، وضعهما في صدر المكان واحدة للمرشح غازي كمال، وواحدة له-لأبو سالم- خطط أن يجلس على يمين المرشح، مما سيغيظ مخاتير بلدته عندما سيحضرون.
عاد الشباب من الدير يركضون….أنّبهم أبو سالم….هددهم بأنه لن يصطحبهم مرة أخرى الى أيّ مكان آخر…فهم لا يستحقون”الحشمة” ولا يمكن الاعتماد عليهم…فها هو كنس الأرض بيديه…ورتب الكراسي…ولم يجد من يساعده سوى ابنه سالم.
عدنان الأقرع يمدد رجليه قرب مواقد النار التي أشعلها خضر ليطهو عليها قدور اللحم..التعب باد على وجهه…اقترب منه خضر…عبقت بأنفه رائحة النبيذ التي انبعثت من أنفاسه…سأله:
وين كنت يا ولد؟
– كنا في الدير اللي في بطن الجبل……..وأشار الى دير قرنطل.
– شو عملتوا هناك؟
ولا شيء…تفرجنا عَ اريحا وعَ البحر الميت… وأكلنا خبز وجبنه وزيتون … وشربنا عصير اسمه نبيذ.
– شو اسمه؟
– الراهب قال لنا ان اسمه نبيذ.
– نبذ عَ دار ابوك السواد… شربت نبيذ؟…. شربت لوحدك وللا جميعكم شربتوا؟
آه….كلنا شربنا….بس أنا شربت أكثر منهم…. هم شربوا كل واحد كاس وأنا عند ما دار الراهب ظهره… غرفت من الجرة كاس كبير وشربته عَ نفس واحد….طعمه حلو مثل الدبس.
– يا حليلك يا خضر… أبو سالم شرب مبارح حليب سباع… والاولاد اليوم شربوا حليب ضباع… والله يسترنا … اسمع يا غضيب الوالدين.. صب كاس قهوة سادة واشربه…خليك تصحصح… بلاش تفضحنا قُدام الناس.
– أنا ما اشرب القهوة… وليش خايف أفضحك؟… شو عملت انا؟
– انت سكران يا ولد… النبيذ خمر يا ملعون الوالدين.
سمع أبو سالم الجملتين الأخيرتين فجاء مسرعا وصاح:
– مين السكران يا خضر؟
– وقعتنا اليوم مش لطيفه يا أبو سالم….انت الليله اللي فاتت شربت حليب سباع والاولاد شربوا اليوم حليب ضباع من دير قرنطل.
– شو فيها حليب الضباع خفيف أكثر من حليب السباع؟
– والله ما انت داري وين ربنا حاطّك…حليب السباع وحليب الضباع خمره يا أبو سالم.
– شو عرفّك يا ابن العمصاء؟…أيْ هو أبو كمال شرّيب خمره؟..لو إنه سوكرجي ما لقيته زعيم بلاد….ولا لقيته وين ما راح الكل يؤدي له التحية….والأفنديه اللي معه لو انهم سوكرجيه ما صاروا أفنديه……هاي السوكرجي زلمتنا ابو لطعه الجوع قاتله وقاتل اولاده….دشرنا من الحكي الفاضي…واطبخ اللحم واسكت -الله يرضى عليك- بلاش يرتد الحكي لأبو كمال وتنعف طحيناتنا.
خضر: لا حول ولا قوة الا بالله”لا تهدي من احببت ان الله يهدي من يشاء”
– الله لا يهديك…كمّل شغلك واسكت…..قالها ابو سالم وعاد لترتيب الكراسي.
عبأ خضر كأس قهوة سادة…قدمها لعدنان الأقرع، وحثه على شربها كي تساعده على الصحو من حالة السكر التي بدأ يعاني منها، وذلك خوفا من افتضاح أمره…وخوفا من أن يغرق في نوم عميق….وقدم له قطعة لحم نصف ناضجة كي يملأ بطنه، وهذا سيساعد معدته على امتصاص الكحول دون أن يتأثر كثيرا من مفعولها….بدأ عدنان الأقرع يحتسي القهوة على غير رغبة منه…أكمل نصف الكأس فتقيأ كل ما في معدته….ابتعد قليلا وتقيأ…فقال خضر أن القيء مفيد في مثل هذه الحالة، وطلب منه أن يكمل كأس القهوة..وفي هذه الأثناء وصل أبو غازي بسيارته، وخلفه باص فيه حوالي عشرين صبيا وشابا…كانوا يهتفون:
أبو كمال لا تهتم
ورجالك شريبة دم
ابو كمال لا تعبس
بدك جيش بنلبس
أبو كمال لا تكون زعلان
يصلح لك كرسي في البرلمان
استقبلهم أبو سالم….صافح أبا كمال وعجوزين كانا معه في السيارة، أحدهما شقيقه والثاني ابن عمّه….أشار أبو كمال الى الشباب وقال لأبي سالم:
هؤلاء من شباب العائلة واليوم هم تحت تصرفك…حتى ينتهي الغداء والكل يروح لبيته.
أبو سالم: أهلا وسهلا بالجميع….التفت الى الشباب وقال في سرّه:
عِدِّي لي رجالك عِدِّي من الاقرع لأبو قُبع مصدي…ووجه أبو سالم حديثه لأبي كمال قائلا:
يالله نصلي الجمعة في المسجد.
– ما بدها ولا صلاه اليوم…ربك غفار رحيم.
عّ خاطرك …صلينا وللا ما صلينا…ربك ما يسأل عن ناس مثلنا….سالم يابا…هات القهوة لعمّك واللي معه.
أحضر سالم دلة القهوة وفنجانين…رفع الدّلّة بيده يريد أن يصبّ …واذا بأبيه يقول له:
حطّ الدلة والفناجين ع التربيزة…وسلّم عَ عمامك…بوس يد عمك أبو كمال.
احمر وجه سالم حياء…..لم يستسغ أمر والده له بتقبيل الأيادي…فهو لا يقبل الا أيدي والديه وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وجدته لأمه التي لا تزال على قيد الحياة…سلّم على أبي كمال وصحبه…لم يُقبل يد أحد منهم، بينما قبله أبو كمال على وجنتيه…فقال ابو سالم:
اولاد آخر زمان ما يسمعوا لوالديهم ولا لغيرهم…قلنا له بوس يد عمك ابو كمال..ولا كأنه سامع.
أبو كمال: بوس الأيادي ضحك ع اللحى.
أبو سالم: حط قهوه يابا يا سالم.
قدّم سالم الفنجان الأول لأبو كمال، فأشار اليه أن يقدمها لأخيه وابن عمه وهو يقول: القهوه ع السن يا عمّي يا سالم…الاختيارية أكبر مني.
أبو سالم: يُحرس دينك يا أبو كمال….والله طيلة عمرك ابن أصول وتعرف الواجب…لكن انت كبير القدر وتمثل الشعب.
أبو كمال: الواحد الفهمان شروى لحتك يا أبو سالم ما يكبر عَ جماعته…والانسان يكبر بفعله وعمله مش بفنجان قهوه.
أبو سالم: والله كلامك جواهـر يا ابو كمال.
استأذن غازي كمال كي يدخل الى البيت هو وأخوه وابن عمّه بعد أن أوصى أبو سالم باعداد الغداء كما يجب…وشدد على ضرورة عدم نقصان أيّ شيء، وأكد على انهم يريدون الجلوس وحدهم حتى تنتهي صلاة الجمعة، ويصل المدعوون، فقال أبو سالم:
لو سمحت يا أبو كمال…بدي اياك شويه عَ جنب.
قام أبو كمال فانتحى به أبو سالم جانبا وقال:
نسينا السمن في الدار…وما في وقت نجيبه بدنا شوية مصاري نشتري سمن بلدي…وصنوبر ولوز عَ شان “نجرع” وجه المناسف.
أخرج أبو كمال خمسة دنانير من جيبه، وهو يسحب شهيقا طويلا، ويزفر مهموما ..ناولها لأبي سالم وقال:
وين راحت الـ 100دينار وللا خلصت؟
– سلامه تسلمك…لو فيه مثلهن مرتين يخلصوا…تراك شايف بعينيك.
انصرف أبو سالم باتجاه السوق…ودخل أبو كمال وشقيقه وابن عمّه الى البيت…يريدون احتساء الخمور قبل أن يحين موعد الغداء…أخرج زجاجة “فودكا” وهو يردد:
خلينا نشرب فودكا روسيه…لأنها بدون ريحه…بلاش يكون واحد من ضيوفنا شرّيب ولسانه طويل ويشم ريحتنا.. .ويصير شيخ عَ ظهورنا.
– شقيق ابو كمال: اذا شرّيب مثلنا يصير مثل ما قال المثل: أمّي شافت أمك في ….فقال له: أمّي راحت تـ…..وأمّك شو راحت تعمل هناك؟
ضحكوا على الطرفة وقال أبو كمال ضاحكا:
الليله اللي فاتت ما شفنا أبو سالم وللا هو داخل علينا لا تستور ولا حذور وكنا نشرب عرق… سأل : شو هذا؟ قلنا له: حليب سباع…وشرب كاسين كبار عَ نفس واحد…
وهو مش عارف شو شرب.
رهط من المدعوين لا يُصَلّون، حضروا قبل الصلاة، وبعضهم توجه الى الأغوار منذ ساعات الصباح….توجهوا الى البحر الميت، سبحوا في البحر …في الجزء المحاذي لنبع الفشخة.. وبقوا يستحمون حتى انتهاء الصلاة، وبعض آخر من غير المصلين، حضروا قبل الصلاة بحوالي ساعة من الزمن….تجولوا في اريحا…حاموا حول بيارة أبو كمال… رأوا سيارته… لكنهم لم يدخلوها… فالموعد بعد الصلاة، وعلى الجميع أن يشعروا أنهم مصلون، فالصلاة لديهم وجاهة ورياء أمام الناس أكثر منها عبادة.
أول من دخل البيارة باص من قرى شمال القدس…جلس أبو كمال على كنبة، في حين وقف شقيقه وابن عمه وأبو سالم، ومعهم الشباب من عائلة أبو كمال قرب الصف الأول من الكراسي يستقبلونهم، ووقف أبو كمال على الكنبة…توجهوا اليه وصافحوه، فأشار اليهم بالجلوس…وهذا ما كان مع بقية المدعوين….. من يصل يشرب فنجان قهوة سادة ويجلس، وتحلق كل منهم مع صحبه يتحدثون في مواضيع شتى حتى الساعة الواحدة، فوقف المرشح غازي كمال وقال:
صلوا عَ النبي يا اخوان…. فانتبهوا اليه وقالوا بصوت واحد: اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وشرع يخطب بهم خطبة كتبها له المحامي محمد نافز ابن أخيه، وتمرن على القائها عشرات المرات في الأيام الثلاثة الماضية فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:أبدأ حديثي بالترحيب بكم فردا فردا، فأنتم الأهل والربع… انتم العزوة التي أشد بها ظهري، وأنتخي بها في الأزمات، فأنا منكم واليكم.
سأتكلم معكم هذا اليوم بصدق تام كما عودتكم دائما، وبصراحة أقولها أن الترشح للبرلمان لم يكن واردا في حساباتي، وقد انتظرت ما فيه الكفاية حتى يترشح واحد منكم، أو أيّ شخص من أبناء قرى المحافظة، حتى أضع يدي بيده، وأكون جنديا مجهولا في خدمته، لأدور معه على كل بيت من بيوت قرى محافظتنا، وأقنعهم بانتخابه، لأنه من لحمنا ودمنا، وهو الذي سيحافظ على مصالحنا، وسينتزع حقوقنا من مختلف الوزارات، لكن ولأسفي الشديد لم يترشح أحد من أبناء القرى، وفي اليوم الأخير المحدد للانتخابات طار النعاس من عينيّ، ولم أنم تلك الليلة، وأنا أفكر بمن سيحمي مصالح الفلاحين؟ هل سأتركها للمرشحين من أبناء المدينة الذين يترفعون عن دخول القرى، ويترفعون عن الفلاحين، فوجدت نفسي اذا لم أترشح كالجندي الهارب من المعركة، وأنا لست كذلك، أنا لست جبانا، ولم أكن جبانا في أيّ يوم في حياتي، فحياتي فداء للوطن وللشعب دائما، وكلكم تذكرون أنني كنت مقاتلا في صفوف الثورة قبل النكبة، والشهيد البيك عبد القادر الحسيني –رحمه الله- كان كتفه ملاصقا لكتفي عندما استشهد في القسطل في 9-4-1948.
مسح بكوفيته دمعة انحدرت من عينيه وهو يقول: لنقرأ الفاتحة إلى روح البيك وأرواح شهدائنا كافة.
مدّوا كفوف أيديهم وقرأوا الفاتحة…فأكمل أبو كمال خطبته وقال:
ولم تكن أمامي أية خيارات أخرى، ولم يعد هناك وقت، فتوكلت على الله وعليكم ورشحت نفسي، لأكون مرشح الفلاحين، ومرشح اللاجئين الذين قاتلت من أجلهم، ولحماية الوطن من الضياع، وكان ما كان في الحرب غير المتكافئة، حيث كانت النكبة، وخرج مئات الآلاف من أبناء شعبنا من ديارهم جرّاء ويلات الحرب، ليعيشوا في المخيمات حياة غاية في الصعوبة، ومع ذلك لم أنسَهم يوما لا هم ولا قضيتهم العادلة، ولا حقهم في العودة الى ديارهم وأرضهم.
أيها الأخوة :
شرف الفلاحين واللاجئين هو ما حرضني على ترشيح نفسي، ولا يمكن أن يُمس هذا الشرف، ما دمت على قيد الحياة، فبكم وبأصواتكم سنصل الى البرلمان، سأحمل قضاياكم وهمومكم كما حملتها في السابق، وسأعمل على ضرورة تطوير قرانا من خلال بناء مدارس جديدة، ولائقة بأبنائنا الطلبة الذين هم عماد المستقبل، وحماة الوطن، وسأعمل على تعبيد الشوارع، وفتح شوارع جديدة لربط القرى بشبكة مواصلات حديثة، ولإنشاء شركة باصات تخدم كل قرية، وسأعمل على ايصال الكهرباء للقرى جميعها، وللبيوت جميعها، وسأعمل على ارسال أبنائكم الى الجامعات والمعاهد العلمية، ليتبوؤا المناصب المختلفة وفي شتى الميادين، لن نبقى” صبّيبة” قهوة للأفندية، فالفندية تليق بنا جميعا.
لن يستطيع أحد المزاودة على وطنيتنا وعلى حبنا لشعبنا ولوطننا ولأمتنا، ولن نستمع للأفكار المستوردة التي تتعارض وديننا، وعاداتنا وتقاليدنا، ولن يهدأ لنا بال حتى تحرير فلسطين، وعودة اخوتنا اللاجئين الى ديارهم، وأنتم تعرفونني وتعرفون أبي وأجدادي من قبلي، فبيتي مفتوح لكم دائما، وهو بيتكم بيت الفلاحين، بيت الشعب الأبيّ ببرلمان وبدون برلمان، لكن من العار أن يشغل مقعد الفلاحين والبادية واللاجئين، غير واحد منهم، ولهذا فان صوت كل واحد منكم مهم جدا، فلكل من تجاوز الثامنة عشرة من عمره صوت مثل أيّ شخص مهما علت مكانته وشأنه، لذا فانني أريدكم أن تخرجوا للانتخابات شيبا وشبانا، فضياع أيّ صوت هو مكسب للمرشحين الآخرين الذين لا يمثلونكم، والذين لن تروهم بعد الانتخابات، عدا أن التصويت والمشاركة في الانتخابات حق ديني ووطني وأخلاقي، حق لكل مواطن، فلا تضيعوا حقكم، ولا يكون أيّ واحد منكم سببا في تضييع فرصة ايصال ممثلكم –أخوكم أبو كمال- الى البرلمان.
وفي هذه الأثناء ركض أبو سالم الذي كان يقف خلف الجمهور وتقدم الصفوف وهو يهتف:
فليعيش أبو كمال يعيش…يعيش… يعيش..فلم يرد عليه أحد، فأشار اليه أبو كمال بأن يسكت وهو يقول: شكرا يا ابو سالم…أنا ما بدّي هتافات..أنا بدّي أفعال…بدّي أصوات، روح جَهِّز الغداء مع الشباب، وعاد الى الورقة يقرأ:
لن أطيل عليكم أيها الأخوة ففي النهاية لن يصح الا الصحيح، فالله سبحانه وتعالى يقول:”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…وأهلا وسهلا بالجميع…..وشو صار بالغداء يا ابو سالم؟
– شوية صغيره ويجهز.
جلس أبو كمال على الكنبة، أشعل سيجارة، وطلب كأس ماء، تمعن في وجوه الحاضرين، كانوا اكثر من خمسين شخصا….خاطب المخاتير والوجهاء الذين يعرفهم، سألهم عن أحوالهم الصحية، وتمنى لهم الصحة الجيدة والعمر المديد…واذا بأبي سالم يشير اليه بأن الغداء جاهز…وضع المنسف الأول أمام أبو كمال على “تربيزة” ولم يضع عليه شيئا من ليّات ودهون الخراف، ووضع كل منسف تحت شجرة برتقال، خمسة عشر منسفا توزعت تحت الشجر، وخمسة من الشباب يقفون حاملين طناجر الشراب، واثنان يحملان ابريق ماء وفي يد كل واحد منهم كأسا لصبّ الماء لمن يطلب-هكذا أوصاهم أبو سالم-…
تفضلوا يا اخوان للغداء…ع الميسور أهلا وسهلا بكم..خير الله كثير…كل اربعة اشخاص ع منسف.
توزعوا على المناسف وشرعوا يأكلون…وأبو سالم واقف قريبا من أبي كمال لتقديم أيّ خدمة مطلوبة…أشار اليه ابو كمال كي يقترب منه فاقترب وسأله:
ليش ما تقعد تاكل؟
– الحمد لله…نفسي ما هي طالبه الأكل…من كثر الوقوف بجانب القدور ودخان النار الواحد شبع….ومنافسه مغلقه….وخير الله كثير عندما نجوع نأكل.
– لكن وين الصنوبر واللوز والسمن البلدي؟
– الدكاكين مغلقة اليوم …. اليوم الجمعه كنت ناسي شو اليوم من التعب…واشتريت من بدوي سمن بلدي…وللا مش مستطعم.
هذا سمن نباتي ودهون ما هو سمن بلدي… وللا حاسبني ما اعرف طعم ثمّي[4] وللا أول مره أذوق السمن.
– لا حول ولا قوة الا بالله… ما بقي الا تخونني… هاي باقي السمن موجود في “العكّه” في غرفة الحارس تعال شوفه… وتأرجع للدار أردّ لك الخمس دنانير ما دمت سخنان عليهن.
أنا ما بدي الخمس دنانير بس بدّي نبيض وجهنا امام الناس يا بني آدم.
وتحت شجرة برتقال تحلق أربعة اشخاص من السواحرة، منهم مختاران، قال أحدهم: شوفوا زلمتنا ابو سالم…واقف مثل “القطروز” زلمه ما في وجهه حياء..فضحنا الله يفضحه…عَ شان دينار يرخص حاله…الله يستر ما يقولوا انه البلد كلها مثله.
أبو سالم توجه ووقف أمام غرفة الحارس مرعي نادى الطباخ خضر وسأله:
أبو كمال حكى معك شيء اليوم؟
– لا ما حكى.
– لا خير ولا شر؟
ما سألك شو السمن الموضوع عَ المناسف؟
– اقول لك لم يتحدث معي بالمره…أصلا ما يعرفني …..ليش تسأل؟
– خلّيك صادق معي…قلت له إنه وفرنا سمناتنا البلديات وما حطينا عَ المناسف منهن.
– يا رجل ما قال لي ولا قلت له…حتى السلام ما صار بيننا.
– معناه احمل علبة سمنة الكراكوز ولفها كويس خوف يشوفها…وارميها بعيد هي واللي فيها بلاش تفضحنا وتكشف طابقنا.
– ليش شو جريمة علبة الكراكوز؟
– وطّي صوتك يا ملعون الوالدين فضحتنا… خذها واسكت، وفي الطريق واحنا راجعين للبلد أفهمك البير وغطاه.
– ماشي ….يا ربنا ساعدنا عَ هذا اليوم اللي ما هو لطيف.
قال أبوكمال لشقيقه ولابن عمّه عن أبي سالم:
زلمه رخيص اكثر مما كنت أتصور…. وطماع وقليل حساب.. والمصيبه شايف حاله فهمان… ومش شايف غيره… سقى الله واليوم والانتخابات خالصه عَ شان أخلص منه وابطل أشوف خلقته المنحوسه.
فرد عليه ابن عمّه: اتركك منه زلمه قليل حياء… لكن شوف جماعته كيف محترمين ومؤدبين…ما تسمع لواحد منهم صوت.
الذي شبع من المدعوين وجهه ابو سالم لتغسيل يديه في قناة الماء الجارية شمال البيارة… أفرك يديك بالتراب والميّه كثيره.. ترى التراب أحسن من الصابونه، ما في صابونه تنظف مثل التراب، واسمع يابا يا سالم…..اللي يغسل من عمامك صب له فنجان قهوه…امسك الدّلّه بيدك الشمال والفنجان بيدك اليمين… بلاش يقولوا ابن ابو سالم ما يفهم العادات.
وقف أبو سالم قرب أبو كمال وقال:
شوف شبابكم يا أبو كمال… مش شاطرين غير في الأكل، ما عملوا ولا شغله… حتى بدهم ناس يسقيهم ميّه …. ويصب لهم قهوه… أي والله لولا شبابنا لانفضحنا اليوم.
لم يلتفت اليه أبو كمال … ودخل لتغسيل يديه الى البيت… ولحق به شقيقه وابن عمه.
نادى أبو سالم شابين من عائلة أبو كمال وقال لهم: الكازوز في الثلاجة داخل البيت… هاتوه واللي يشرب قهوه ويقعد عَ الكرسي قدموا له قنينه.
فقال له أحدهم: وحضرتك شو وظيفتك ؟ اللي يريد كازوز يدخل وياخذ بيده وللا قدّم له انت.
ابتسم المختاران ورفيقاهما من أبناء السواحره عندما سمعوا ذلك، مما أغاظ أبو سالم، فردّ على الشابين قائلا: عيب يا عمّي- الله يرضى عليك- تتكلم معي هيك…انا مثل ابوك.
– لكن بابا ما هو مثلك.
صاح أبو سالم: يا أبو كمال…. تعال شوف اولادكم..
أبو كمال: خير شو فيه؟
– اولادكم مش قابلين يعملوا أيّ شيء…. ومش راضيين يقدموا كازوز للضيوف.. وواحد منهم طلب مني أنا أقدم الكازوز… ولا حياء منها ولا من رجالها.. لما قلت له: عيب عليك تؤمر عليّ يا ولد أنا مثل ابوك…قال لي قُدام اولاد بلدي: بس بابا مش مثلك.
أبو كمال: يا أبو سالم… انت احسن واحد في العالم.. واسترنا باقي اليوم يا زلمه.. لا تحط راسك في روس شباب من جيل اولادك.
دخل الحارس مرعي الى البيت، أخرج قناني الكازوز في صناديق، ودار بها على الحضور، ولما وصل قرب أبي سالم قدّم له قنينة، فقال أبو سالم:ربنا يقطع الكازوز واللي يشربوه.
جلس أبو كمال على الكنبة، عاد يرحب بضيوفه من جديد، بعضهم استأذن بالانصراف بحجة انشغاله بارتباطات مسبقة، كانوا يسلمون على أبي كمال…يعدونه بأنهم لن ينتخبوا غيره…ويتمنون له الفوز الساحق… الا وفد السواحرة فقد وقفوا للمغادرة بعد أن لوح كبيرهم بيده قائلا: السلام عليكم يا جماعه… فقفز أبو كمال من الكنبة ولحق بهم وهو يقول:
يا شيخ أبو محمد… التفتوا اليه.. توقفوا… صافحهم من جديد وهو يقول:
لا تواخذوني يا جماعه…. مثل ما انتم شايفين… ما قدرت أقعد معكم عَ انفراد… وانا عايزكم…تفضلوا حتى يغادرونا الضيوف ونقوم بواجبكم…ونتحدث مع بعض يا الربع.
المختار: بارك الله فيك..وان شاء الله نقعد معك وانت في البرلمان يا رب.
أبو كمال: لا يمكن تغادرونا الوقت هذا…وجاه الله عليكم تتفضلوا.
المختار: لا اله الا الله…والتفت الى جماعته وقال: يا جماعه الزلمه جاه الله علينا… ارجعوا ما نقدر نكسر جاه الله… ومشوا معه عائدين… فاتجه بهم الى صالون الدار… وطلب من شقيقه وابن عمّه أن يجلسا معهم حتى يودع بقية المدعوين… وأوعز لأحد الشباب أن يأتيهم بدلّة قهوة … وأن يصب لهم الكازوز بكاسات.
كان أبو سالم يتمزق غيظا وهو يرى اهتمام أبي كمال بأبناء بلدته أكثر مما اهتم به، واعتقد بأنه سيخصهم بـ “حليب السباع” دونه فدخل الى غرفة الحارس، ونادى أبناء اخوته وقال لخضر:
اعمل منسف كبير لمرعي عَ شان ياخذه لاولاده… هاي بيته قريب في مخيم النويعمه… وللا أقول لك: هات قدر اللحم الباقي… فيه أكثر من خروفين… ملأ للحارس طنجرة لحم تتسع لأكثر من خمس كيلووات…وقال له:
يا مرعي… خذ الطنجره هاي لعيالك، وخذ خبز ومرق مثل ما تريد…. وانت يا سالم وولاد عمّك… خذوا الصحون الفاضية واغسلوها في قناة الميّة، حطوا فيها تراب وافركوها مليح… خلوها تلمع…وانت يا خضر…قدر اللحم غطي عليه عَ شان ناخذه معنا وفي داري رايحين نتقاسمه.
غادر جميع المدعوين…نادى أبو كمال ابن أخيه المحامي محمد نافز…وقال له: خذ ابو سالم معك في السياره…واشتروا خروف جاهز من الملحمه…واشتروا فحم…خليهم يشووا عشاء للجماعة اللي في الدار…ودخل الى الدار….حيّا ضيوفه من جديد وقال:
يا اخوان احنا أهل وحبايب من زمان….أيّ قبل ما ننولد أنا وانت…واليوم انتم ضيوفي..وبدنا نجلس مع بعض ونشوف بعض…والله ساعة سعيده اللي جمعتنا.
المختار أبو محمد: حيّاك الله يا أبو كمال…واحنا ما ننسى الماضي… واللي ما له قديم ما له جديد…والله يرحم امواتنا وامواتك الوالد –الله يرحمه- كان يحدثنا دايما عن علاقتنا وعلاقتكم…وبالنسبه للانتخابات أكيد احنا رايحين ننتخبك…وما أذيع لك سر انه شبابنا متحمسين لجماعة الاحزاب…ورايحين ينتخبوهم…وخوفنا انه الأمور تفلت من ايدينا…قلنا لهم: معناه ننتخب أبو كمال ع راس القائمه…وبعده ننتخب جماعة الاحزاب…لكن بيني وبينك احنا الاختياريه اتفقنا ننتخبك لوحدك.
أبو كمال: يا سيدي بارك الله فيكم…وانا واثق منكم…والشباب –الله يخليهم- مخدوعين في الاحزاب…شو بدها تعمل الاحزاب…هاي دول وجيوش مش قادره تعمل شيء….ويا عمّي احنا مش ضدّ جمال عبد الناصر..بالعكس احنا معه..ويوم العدوان الثلاثي اول واحد راح للسفاره المصريه يسجل اسمه مع المتطوعين أنا…بس جمال عبد الناصر –الله يسامحه- ما هو جايبها البرّ..الزلمه بدّه الدنيا مرّه واحده…بدّو يحارب الانجليز والفرنسيين واسرائيل والأمريكان…ما هي قدرته ولا قدرة كل العرب يا الربع…ويحارب العرب كمان… اللي من الحكام العرب يخالفه بأيّ موقف…يهاجمه ويلعن سيد سيده… والزلمه مسحوب من لسانه…يقعد ساعتين وثلاث يخطب..ويحرض الشعوب…ويعمل مشاكل للحكام.. وبدّه يوحد الدول العربيه في ليله ونهار…. بالله عليكم بدّي أسألكم سؤال: هل مرّ عليكم واحد قَسَم عن ابوه وللا عن أخوه ورجع له مرّه ثانيه؟ يا عمّي السياسه ما هي هيك…السياسه كرّ وفرّ وعلى قدّ فراشك مدّ رجليك…أي هو لولا الأمريكان والسوفييت وقفوا معه، كان يمكن اسرائيل تنسحب من سيناء، وللا الانجليز والفرنسيين من قناة السويس؟…ومع ذلك والله ما احنا ضدّه واحنا معه… ويا ليت العرب يتوحدوا… لكن الأماني شيء والواقع شيء آخر.. يا عمّي شو بدنا في الكلام هذا…خلينا في مصالحنا…. بدّي منكم شغله لمصلحتكم…انا اجتمعت بالمحافظ والمتصرف… واتفقت معهم نجند 200 شاب من المحافظه في الجيش والأمن العام.. شرطة وفرسان… اللي من شبابكم كمّل دراسه للمترك.. يدخل الكليه العسكرية سنتين زمان ويتخرج ضابط قدّ الدنيا… واللي كمّل الاعداديه…يتجند برتبه محترمه… والابتدائيه جندي وللا شرطي وللا فارس.. ورايح يترقى هو وشطارته… لكن أمّيين ما بدهم… لأنه العسكريه علم يا جماعه… وازيدكم من الحب جانب… اللي ما بدّه العسكريه وكّمل المترك نوظفه معلم مدرسه عّ طول الخط… واللي يكمل جامعه… يستلم وظيفه كبيره حسب علمه…. واللي يجيب علامات كويسه في المترك أضمن له – والضامن الله- بعثه عّ حساب الحكومه في الجامعات… وجلالة الملك معني بتعليم الشعب…وأنا بدّي منكم انتم ومن بقية المخاتير تجهزوا لي قائمه باسماء الشباب المتعلمين…. تكتبوا فيها الاسم الرباعي لكل شخص… وتاريخ ميلاده… وشهادته… وبعد ما تنتهي الانتخابات…اسبوع زمان..كل شيء راح يتنفذ.. وهذا الوعد ما هو دعايه انتخابيه…ولا هو ابن اليوم…هذا في راسي من شهور.. وطبخته كويس عّ نار هاديه… والايام هذي وقت تنفيذه… سواء نجحت في الانتخابات وللا ما نجحت… شو رايكم يا الربع… خلينا نبحث الموضوع في هذي السهره الطيبه بوجودكم؟
المختار أبو السعيد: والله عدّاك العيب يا أبو كمال…. وباذن الله انك ناجح في الانتخابات.
وأضاف: أنا ما انسى طول عمري معروفك يا أبو كمال… ترى يا الربع السنه اللي فاتت… كانت غنمنا في قلنديا …وداخل شِيك المطار…. العشب كان طول الزلمه… والشرطه ما كانوا يسمحوا لنا نرعى في المطار…وقمنا في الليل قصّينا مترين من الشيك ودخلنا الغنم مع الاولاد.. واكتشفوهم الشرطه وأخذوهم للمخفر… ويا طبّال دُق عَ طبلك ظلّوا يخبطوا فيهم تأعموا قلوبهم… وشاويش المخفر ثاني يوم يصيح ويقول: فضحتونا أمام الأجانب … كتبوا في جرايدهم انه الطيارات اللي تنزل في مطار قلنديا عجلاتها تطلع مليانه زبل غنم… وأخذوا الاولاد للقشله عَ شان يحاكموهم…ورحت لأبو كمال وقلت له القصّه.. والله دوز دغري ركبني في سيارته ووينك يا المحافظ… وقبل ما نشرب القهوه وللا الاولاد قدّامي.. وقال أبو كمال خذ اولادك خليهم يلحقوا المدرسه.. وسألني اذا بدّك أيّ شيء ثاني أنا جاهز… هذي السالفه حكيتها لأهل البلد اكثر من عشر مرات.
أبو كمال: الواجب واجب يا الربع… واللي ما يخدم جماعته فكركم يخدم غيرهم؟
المختار ابو محمد: اللي فيك مخبور يا ابو كمال… والله طول عمرك في الميدان.
أبو صايل: الشمس ما تتغطى بغربال يا جماعه… يوم تهاوشنا احنا والسلاونه… الشرطه حبسوا ثلاثه من اولادنا… وقبل صلاة المغرب يوم الطوشه كانوا هم واولاد السلاونه في دور اهلهم….أبو كمال رفع تلفون للمتصرف… ودوز دغري روحوا.
أبو السعيد: طيّب احنا نستأذن ع شان نلحق نرجع لدورنا قبل المغرب.
أبو كمال: وحدوا الله…يا جماعه…الاولاد يشووا لحم…جابوا ذبيحه خص نَص لكم.
أبو محمد: قبل شويه تغدينا شو صار في الدنيا؟ مش رويانين ميّه.
أبو كمال: الواجب واجب يا جماعه سلامة خيركم….القضيّه ما هي قضية أكل وشرب..القضيه واجب وحشمه….وواجبكم كبير يا اخوان ….الواحد عندما يمر من طرف بيوتكم ما يخلص منكم….وانتم أهل الجود والكرم يا الربع.
أبو سالم يجلس على كرسي خشبي صغير، فلا يوجد له متسع على الكنبات، يستمع مقهورا …يعض على غليونه… أهمله الجميع، وحتى عندما يتحدث فان لا أحد يصغي له… بل يقفزون عن كلامه وكأنه غير موجود…وسائق شاحنة عائلة أبو السمن ينتظره في الخارج…وخضر والشباب يشوون اللحم…فقال أبو سالم موجها حديثه للمختارين:
سيارة دار أبو السمن تنتظرنا بدكم تروحوا معنا وللا نروح؟
أبو كمال: عَ خاطرك بدّك تقعد تتعشى…أهلا وسهلا….واذا ما بدّك الله يسهل عليك…والجماعه ناخذهم معنا بعد العشاء…هاي سياراتنا فاضيه.
أبو سالم: معناه …السلام عليكم.
أبو كمال: مع السلامه….خذوا برتقال وخضار معكم زي ما بدكم….بس خلّي الاولاد يقطفوا ثماني صناديق برتقال للجماعه وأربع صناديق بندوره وأربع صناديق خيار….وشوية خسّ.
أبو سالم: احنا أخذنا اللي بدنا اياه…وقل لأولادكم يقطفوا اللي بدّك اياه..
– مع السلامه.
خرج أبو سالم على مضض….طلب من خضر أن يضع سيخي لحمة لكل صبي من صبيانهم في رغيف خبز، وأن يضع غداء لسائق الشاحنة، فأخبره خضر بأن السائق تناول غداءه منذ أن وصل….ولم يأخذ إذنا من أحد، استقلوا السيارة وقفلوا عائدين الى بيت أبي سالم…ومعهم ما تبقى من لحوم واكثر من خمسين صندوق برتقال وليمون وكلمنتينا ومندلينا وبندورة وخيار وباذنجان…حشروها بالطناجر والصحون في صندوق الشاحنة.
تولى عملية الشواء الحارس مرعي ….يساعده شابان من عائلة أبي كمال…في حين تفرق بقية الشباب يتجولون في اريحا…اقترح أبو كمال أن يخرجوا للجلوس بجانب البيت، فالطقس جميل وعبير الحمضيات ينعش القلوب…اضافة الى انهم سيكونون قريبين الى الموقد، فأن تأكل اللحوم المشوية ساخنة من على الموقد، وأن تسحبها قطعة قطعة عن السيخ تشعرك بلذة الطعام، وتحثك على تناول المزيد…طلب من الشباب أن يحضروا شرائح البندورة والخيار وأوراق الخسّ وقناني الكازوز، وترتيبها أمامه وأمام ضيوفه…أكلوا وارتووا حتى شعروا بالتخمة…الجوّ صاف والنجوم تتلألأ راسمة أشكالا ودروبا في السماء…الأضواء الكهربائية تتغامز من على مرتفعات مدينة السلط، وكأنها تشاركهم مائدتهم، وقربهم من نهر الأردن فتح عليهم مواجع أيّام التهريب زمن الانكليز… انتعشت ذاكرة أبو سعيد فقال:
في سنة 1936 بعد الاضراب بثلاث سنين….كنت أنا وأبو قاعود…-هو أصغر ميني بسنتين-…كنا راجعين من الشونة الجنوبية في شهر شباط…كان الجو مثل غراب البين.. البرد يقص الحديد.. والشريعة فايظه… لكن شو دفعك للمرّ؟ قال: الأَمَر منه.. الانكليز- الله يخزيهم- ما كانوا يسمحوا لنا نمر عَ الجسر مثل الناس… والله قعدنا عى الضفه الشرقيه… قلنا النهر تنقص ميته شويه… لكن صارت تزيد…قلت لأبو قاعود: توكل على الله وخلينا نقطع الوقت ما فيه دوريات للانكليز… الجماعه أرواحهم غاليه ويخافوا من البرد… وقطعنا بعد صلاة العصر… كانت الدنيا غبره وضباب وعتمه مثل الليل… وتوكلنا عَ الله وقطعنا…. بيني وبينكم ما خفنا من الانكليز ولا من الصقعه … خفنا نغرق في الطين اللي عَ جانب النهر… وربكم يسّر الأمور وقطعنا … كان معنا خمس حمير محمله ببضاعه ملفوفه بمشمعات.. وغرب النهر… لقينا “غوراني”… في بياره جامع أكثر من عشره كيلو سمك…طلعن مع الميّه الفايظه بين الشجر..والزلمه وصله رزقه مثل رزق البومه العمياء… وقاعد يشوي فيهن عَ كانون صغير مصدّي… قلنا له: الله يمسيك بالخير… والله الزلمه طلع ابن حلال… رحب فينا وقال افلحوا يا الربع تعشوا عندي… رحنا مفلحين… كنا ميتين من الجوع… بس تذكرت المثل اللي يقول”حسكه وعظمة سمكه” واحنا مش متعودين نوكل سمك… انا ما خفت على حالي…خفت عَ ابو قاعود.. قلت هذا زلمه بطنه كبير… واذا بلش يخبط عَ الحنكين تطلع روحه… وهات طبّبها بعدها… خشَّبيِّة المعزب ما فيها ضوء…اطلعت أفكّ الوضوء ورجعت.. لقيت الزلمه حاط السمكات قُدّام أبو قاعود ومغيّر قعدته…وقاعد هو محله…فرحت لكزته بخاصرته وقلت له -عَ اعتبار انه ابو قاعود-:
دير بالك شوف الزلمه كيف يوكل… وكل مثله بلاش تطلع روحك…وللا الزلمه يقول: لا تخاف تعشّى يا رجل.. واسكت…
ضحكوا جميعهم…واضاف: والله خجلت من حالي… يكفيكم شرّ حالتي …بس العتمه سترت علينا…حياه مثل غراب البين كانت يا الربع …بس التهريب كان فيه مصاري كثيره.
انتصف الليل -على رأي المختار أبو محمد الذي لا يحمل ساعة- خلينا نقوم يا الربع، فسأله ابن عمّ أبي كمال: كيف عرفت؟ فأشار الى النجوم في السماء وقال: شوف النجوم…عندما ما تكون” التبانات” في نص السماء…وسهيل ذنبه باتجاه الشرق…يكون الليل راح نصّه…نظر الرجل الى ساعته فكانت تشير الى الثانية عشرة ليلا، فتعجب من معرفة المختار بحركة النجوم…استقلوا السيارات….المختاران ورفيقاهما في سيارة أبو كمال، والباقون في السيارات الأخرى….وصلوا بيت المختار أبو سعيد بعد أقل من نصف ساعة، فوجدوا ضوضاء لم يعتادوها…عشرات الرجال واقفون يتصايحون…والختياريه منهم يجلسون في الديوان…
نزلوا من السيارة وهم يرددون: يا ساتر …يا ربّ استر…اللهم اجعله خير…
– شو فيه يا شباب؟ سأل ابو السعيد.
– سلامتك…طوشه في البريّة مع التعامرة…والرصاص مثل حبّ القليّة.
– بس ان شاء الله ما تصاوب أحد.
– لا…الحمد لله سليمه..
– مع مين الطوشه من جماعتنا؟
مع زلامك…عَ البضاعة اللي انت خابرها.
– وان شاء الله ما نهبوا البضاعه؟
كيف بدهم ينهبوها والزلام معها؟ البضاعه في الحفظ والصون.
– ممتاز….-الله يلعن الشيطان-……انزل يا ابو كمال…ولا عليك أمر…روح للتعامره…وخذ (رفْعَه) بيننا وبينهم… بلاش تتطور الأمور بين جهالنا وجهالهم….والتعامره احنا واياهم واحد…وهم فزعتنا واحنا فزعتهم…لكن… الله يلعن الشيطان…الصباح رباح… ونحلها مع اختياريتهم بعد ما تطلع الشمس وبوجودك..
أبو كمال: انا تعبان …بدّي ارتاح ساعتين زمان وبكره الساعه ثمانيه أكون عندكم.
– معناه نَمْ عندنا الليله…عَ شان نقوم بكير.
لا ما اقدر..خليني ارتاح في داري.
فهم أبو كمال الموضوع من الكلمات القليلة التي سمعها، فالمشاجرة تتعلق بتجارة المخدرات، حيث كان البعض يهرب الحشيش الى اسرائيل عن طريق ركائز لهم من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم، ولم يغادروها في النكبة، كانت حرب المخدرات دائرة بين اسرائيل وبعض الدول العربية، وتقف خلفها أجهزة أمنية كانت تسعى الى اغراق الشارع الاسرائيلي بالمخدرات، في حين تسعى اسرائيل الى اغراق الشارع العربي- خصوصا في مصر- بالمخدرات، لم يكن المهربون مهتمين بذلك، بل لم يكونوا يعرفونه، فكل ما يهمهم هو الحصول على الأموال الكثيرة، ولم يكونوا أيضا من متعاطي المخدرات.
كانوا في البداية يهربون القهوة والشاي والبهارات، فاسرائيل كانت دولة وليدة محاصرة وينقصها كل شيء، وكانت أرباحهم كبيرة تزيد عن 100%، وبعدها تعرف عليهم تجار المخدرات، فأغروهم بالمال، وأقنعوهم بأن عملهم هذا خطوة نحو التحرير، كانت المخدرات تأتي من لبنان عبر سوريا، ولم يقتصر الوضع على التهريب فقط، بل تعداه في بداية النكبة الى أن بعض اللاجئين القريبة بيوتهم التي شُردوا منها من المنطقة الحدودية، يتسللون اليها لإحضار ما غلا سعره وخفّ حمله، كمصاغات النساء وبعض مدخراتهم المالية، وتتابعت الأمور حيث مارس البعض من لاجئين وغيرهم التسلل الى بعض(الكيبوتسات) الزراعية، ونهب ما تيسر لهم من أغنام وأبقار، فلم تكن السيطرة على الحدود محكمة.
في صباح اليوم التالي حضر أبو كمال في حوالي الساعة الثامنة، اصطحب المختارين أبو سعيد وابو محمد واتجهوا الى التعامرة…..وهناك استقبلهم الطرف الآخر باسما….صبّ لهم القهوة…فشربوها……وهذه اشارة الى أن الأمور منتهية…وأوعز لأحد أبنائه كي يذبح خروفا للضيوف…ولم يقبل أيّ عذر لأبو كمال…ووجه اليهم الحديث قائلا:
الجاهل يا الربع يخرب والعاقل يعمر…رُدّوا جهالكم واحنا نرد جهالنا…القضيه ما بدها فتح…بلاش نورط كلنا…والحمد لله انه ما فيه اصابات…وهذا فضل من الله…وللا لكم رأي آخر؟
فقال أبو السعيد: عين العقل…بس اضغطوا عَ الشباب بلاش ينفضح طابقنا ونورط مع الدوله.
فقال أبو كمال: عارفين يا جماعه انه اذا ما انتبهتوا كويس شو يصير فيكم؟
– أيوه تفضل يا أبو كمال.
هذا كان في مجموعة حراميّه… كل يومين ثلاث يغيروا عَ قريه ويسرقوها، ويتقاسموا السرقه.. ويوم سطوا عَ قريه بعيده شويّه… كان الجوّ ماطر… وعندما وصلوا طرف القريه صار الثلج نصّ متر…فيه مغاره في طرف البلد… مغاره كبيره… القريه تستعملها مخزن للحطب… دخلوا في المغاره…تخبوا عن البرد والصقعه… وولعوا النار… وحطوا عليها من الحطب، ويا نعمة ربكم… لكن ثاني يوم مات حمارهم من البرد… والثلج ما وقف… جروا الحمار وبحشوا ودفنوه في المغاره… بعد يومين ذاب الثلج وأهل البلد بدهم حطب… لما وصلوا المغاره.. وجدوا الحراميه حارقين الحطب…. فهاجوا وماجوا ناويين يذبحوا الحراميه… بس الحرامي ذكي ما هو اهبل… وقف واحد من الحراميه وقال: قبل ما تذبحونا اسمعوا قصتنا يا بشر… فقالوا له تفضل: فقال: احنا الله – سبحانه وتعالى- سخرنا لكم عَ شان ننقذكم.
كيف بدكم تنقذونا؟ ومن شو؟
قال الحرامي: هذي المغاره مقبور فيها ولي صالح… وهذا قبره…نظفناه وحوطنا عليه بحجار… ويوم نسوانكم ياخذن حطب وللا يجيبن حطب…- الله يستر عليهن-…يقضين حاجتهن فوق قبره، وهذا ما يصير…وعَ شان الله ما يسخطكم…احنا أحرقنا الحطب وبيّنا القبر…
فقال أهل البلد: بارك الله فيكم..والله يحيي الطريق اللي جابتكم….وشو اسم الولي؟
الحرامي: اسمه الشيخ حمروش.
فراحوا أهل البلد عازمين الحراميه… وأسكنوهم في أحسن دار في القريه … وأكرموهم فوق ما تتصوروا… وصار أهل البلد ما يحلفوا الا بالشيخ”حمروش”.. والحراميه يسرقوا اللي بدهم إياه وما واحد انتبه لهم… وأهل البلد يتهموا بعضهم…. وفي يوم اختلف فيه الحراميه عَ تقسيم سرقه سرقوها… فقال واحد منهم: أقسم بالشيخ حمروش.. فرد عليه زميله: كيف أصدقك واحنا دفناه مع بعض.
ضحك الجميع واتفقوا أن لا يفتحوا الموضوع خوفا من أن يُكتشف أمرهم، وتناولوا افطارهم شواء لحم خروف على الصاج، لأن وقت أبو كمال لا يسمح له بالانتظار لعمل المنسف، فالانتخابات بعد غد.
عاد المختاران الى بيتيهما، واتفقا على الايعاز لجماعتيهما بعدم فتح موضوع المشاجرة، أو الحديث به، فقد انتهى حسب الأصول، وفتحه ليس في مصلحة أحد.
في اليوم السابق للانتخابات، وزع الشباب الحزبيون بيانات باسم أحزابهم، أوصلوها الى كل بيت، كل بيان من صفحة واحدة، تتصدرها صورة المرشح أو المرشحين الحزبيين، وبيان كل حزب يطرح رؤى الحزب المستقبلية للسياسة الداخلية والخارجية، ولم يخل بيان أيّ حزب من الدعوة الى التحرير، وعودة اللاجئين، واطلاق الحريات الديموقراطية، بما فيها حرية العمل الحزبي، والدعوة الى الوحدة العربية، ورفع المستوى الاقتصادي للشعب وللدولة، وركزت بيانات حزب البعث العربي الاشتراكي على شعار الحزب(أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) في حين ركز بيان حركة القوميين العرب على الوحدة العربية خلف قيادة الرئيس جمال عبد الناصر، أمّا بيان الحزب الشيوعي فقد دعا الى ضرورة التحالف مع الاتحاد السوفييتي العظيم نصير الشعوب، ونصير حركات التحرر في العالم، ودعا بيان حزب التحرير الاسلامي الى البدء باصلاح المجتمع،(أصلح المجتمع يصلح الفرد، وليس العكس). من خلال العودة الى التعاليم الصحيحة للشريعة الاسلامية تمهيدا لإعادة بناء دولة الخلافة الراشدة، أما حركة الاخوان المسلمين فقد دعت الى التمسك بالأخلاق، وعزت أسباب النكبة الى ابتعاد الناس عن دينهم الحنيف وأخلاقهم السيئة، فعاقبهم الله –سبحانه وتعالى- بمن لا يعرفون الله. والأحزاب التي لم يكن لها أعضاء في القرية استأجرت شبابا كي يوزعوا بياناتها، والشرطة والمخابرات تراقب كل حركة وتسجلها وتحفظها في ملفاتها.
*********************
صباح يوم الانتخابات أحضر انصار المرشح غازي كمال شاحنة فيها اكثر من مئة صندوق عنب، وثلاث شوالات خبز، وشرعوا ينقلون الناخبين الى مركز الاقتراع الكائن في مدرسة البنات في قمة الجبل، الناخبون يأكلون العنب والخبز، ويوزعونه على أطفالهم، وبعضهم ينزل كمية في بيته….ويصلون الى مركز الاقتراع وهم يهتفون باسم غازي كمال…الأطفال يحملون صورا فردية للمرشحين مكتوب تحت الصورة “انتخبوا مرشحكم……………….”
فيتقدم منهم أنصار غازي كمال، يعطون كل واحد منهم قطف عنب و”كماجه” مقابل ان يعطيهم الطفل صور المرشحين الآخرين…الأطفال يتخلون عن مهمتهم مقابل قطف عنب باستثناء الفتى عدنان الأقرع، وخليل منصور الذي هرب بما يحمل من صور لمرشحين لا يعرفهم، ولا يعلم ما يريدون، وحتى لا يعرف ماذا يعني البرلمان، لكنه يثق بأخيه كامل الذي أعطاه صورا للمرشحين الحزبيين كي يوزعها على القادمين للاقتراع، لكن أبا سالم لم يترك خليل وشأنه فقد شتمه قائلا: شو بدّك يا أكتع النحس؟ فرد عليه خليل: بدّي تحترم شاربك اللي مثل ذيل الفار… بكى خليل يده المقطوعة من جديد…رأى ذاك العجوز الحاج عبد الرؤوف غولا يلتهمه من جديد، فهو المسؤول عن قطع يده، حسبه ذلك العجوز ماعزا…فقام بتجبير يده المهشمة بالجروح كما يفعل مع ماعز مكسورة احدى قوائمها، لكن يد خليل لم تكن مكسورة كما أفادت صور الأشعة التي قرأها الأطباء بعد فوات الأوان…فقطعوها لأن الغرغرينا أكلتها…قطعوها لانقاذه من موت محقق…ولم يرحمه جهل أبيه الذي سلمه ليديّ الحاج عبد الرؤوف.
بعض الناخبين يأتي بقمباز وعباءة وكوفية وعقال، فينتخب، ثم يعود مرة أخرى ببنطال وقميص فينتخب مرة ثانيه وثالثه ورابعه باسماء أشخاص آخرين أصبح من المؤكد عدم حضورهم لأسبابهم الخاصة.
المرشحون يتجولون على صناديق الاقتراع في مختلف مناطق المحافظة….وعندما حضر غازي كمال في ساعات ما بعد الظهيرة وبصحبته شابان….كان الارهاق ظاهرا على وجهه، وجد المخاتير أمام مركز الاقتراع…..حضرت الشاحنة فيها أكثر من عشرين شخصا يتقدمهم أبو سالم، يرفعون كوفياتهم ويهتفون باسمه بعد أن رأوه، ففرح بذلك، قفز أبو سالم من الشاحنة وعانق أبو كمال….أوعز أبو كمال للمخاتير والوجهاء بضرورة احضار الناخبين جميعهم، فكل صوت له أهميته….وعدوه خيرا ….ترك المكان واستقل سيارته باتجاه قرية صورباهر….استمرت الانتخابات حتى الخامسة مساء، حيث أغلقت صناديق الاقتراع جميعها….مضى يوم شاق ومرهق ومحرج….فالناخبون يعِدون كل مرشح بأنهم لن ينتخبوا غيره….والمرشحون يقولون في سرّهم”لا تصدق كل ماتسمع”.
في العاشرة صباحا قال المرشح المحامي عبد الرحمن النعاس في بث مباشر من هيئة الاذاعة البريطانية”بي.بي.سي” أنه جرى تزوير الانتخابات في دائرته الانتخابية، وهدد بأن حزبه لن يقف متفرجا ازاء ذلك، وفي هذه الأثناء وصلت النتائج شبه النهائية وكانت في محافظة القدس كالتالي مرتبة حسب أعلى الأصوات:
– الاستاذ غازي كمال.
– المحامي عبد الرحمن النعاس.
– الاستاذ بهيج الغريب.
– المحامي سامي الشنار.
– الشيخ عز الدين نبيه.
– الدكتور عقاب الساعد.
وهنا التفت مراسل الاذاعة ليستكمل لقاءه مع المحامي النعاس بعد أن سمع النتائج، فلم يجده.
فقد حمله أنصاره على الأكتاف… كان الرجل مهتما بمعرفة من فاز من حزبه في المحافظات الأخرى… فذهب الى مكتب الحزب الانتخابي قرب باب العمود….الحركة كانت صاخبة في الشارع، فأنصار الأحزاب يرقصون في الشوارع، وحركة السير تعطلت… مما دفعه الى ترك السيارة والمشي على قدميه أكثر من ثلاث مئة متر… صعد الى المكتب بصعوبة بعد أن خطب في جمهور المؤيدين الذين يغلقون الشارع… شكرهم على ما تحملوه من متاعب في سبيل احقاق الحق، وايصال من يمثلونهم الى مقاعد البرلمان، ودعاهم الى الانصراف الى بيوتهم والتزام الهدوء، حتى يستطيع ممثلوهم تدبير الأمر…لم يكمل جملة من كلمته دون أن يقطعها مناصر بتهنئته وتقبيله… كان يتصبب عرقا… لكنه تحمل ذلك.
أما مخاتير السواحرة ووجهاؤها فقد اجتمعوا في بيت المختار أبو محمد، وحمدوا الله على نجاح أبو كمال، وعلى حصوله على نسبة عالية من اصوات ناخبي البلدة، فعدم نجاحه أو عدم انتخابه فضيحة لا تغتفر على رأي المخاتير، وراق لهم حسن تدبيرهم باتفاقهم أن يعطوه أصواتا مغلقة له وحده، لقناعتهم بأن الحزبيين ومن يؤثرون عليهم لن يعطوه أصواتهم، وبهذا تعادلت الأصوات بين غازي كمال وممثلي الأحزاب… بل ان أبا كمال زاد عليهم بثلاثة أصوات.
اتفق المخاتير على تشكيل وفد منهم لزيارة الفائزين من النواب، على أن يكون هدفهم الأخير ديوان أبي كمال كي يستقبلوا المهنئين معه، وفي القدس التبست عليهم الأمور بين المرشح الفائز الشيخ عز الدين نبيه، وشيخ مرشح آخر لم يسمعوا باسمه، حيث سألوا أحد المارة عن بيت الشيخ الذي ترشح للانتخابات، فأرشدهم أحد المارة الى بيت الشيخ كامل عبد الغني الذي لم يحالفه الحظ، ولم يحصل الا على عشرات الأصوات، ولما لم يجدوا أحدا أو ضجة عند بيته، اعتقدوا انه نائم من التعب… لكن لا بُد من تهنئته… جلسوا على كراسي يعلوها الغبار أمام البيت…. قرع أحدهم جرس باب البيت… خرج عليهم الشيخ كالثور الهائج… لم يطرح السلام.. وقف على عتبة البيت وقال:ايها الشعب المذبذب، أكلتم خيري وانتخبتم غيري….شربتم ليموني ولم تنتخبوني…فهل جئتم لبيتي كي تستفزوني… انصرفوا لا بارك الله فيكم…. وعاد الى داخل البيت بعد أن أغلق الباب خلفه.
قال أبو سعيد: لعنه الله … باين عليه مجنون… مش معقول يكون هذا الشيخ اللي نجح.
غضب الوفد وقرروا اختصار التهنئة على غازي كمال فقط…. توجهوا الى بيته… وجدوا خيمة كبيرة تنصب في ساحة البيت لاستقبال المهنئين… وأبو كمال يتصدر الخيمة.. شاعرا أنه يمتلك نجوم السماء وفضاء الوطن… مخاتير ووجهاء القرى يصطفون للاستقبال… أكثر من مئة رجل بجانب بعضهم البعض… منهم المنتفعون والمراؤون والانتهازيون الذين لم يُدلوا بأصواتهم، فمصالحهم تستدعي الوقوف مع الرجل.. وآداء الولاء ما دام الرجل قد فاز… فالنجاح آباؤه كثيرون، والخسارة من نصيب شخص واحد فقط… فمن يعرف ماذا تخبئ الأيام القادمة؟….رفعوا أيديهم تحية للمستقبلين… واصلوا سيرهم باتجاه غازي كمال… احتضنوه وقبلوه… لم يجدوا مكانا يجلسون فيه سوى الصفوف الخلفية، فقال المختار أبو سعيد:
ما فيه لنا مطرح اليوم… قعدنا وللا روّحنا ما فيه واحد شايفنا ولا عارفنا…. خلونا نحافظ عَ ميّة وجوهنا …. وننسحب بهدوء ورايحين نرجع في يوم ثاني… فوافقوه الرأي وانصرفوا والمختار أبو محمد يردد: يوم منحوس من أوّله… والله مِن ما طلع الشيخ علينا مثل الشيطان الرجيم… قلت يا رب استرنا…. لكن لعين الوالدين كان وحده …. ما فيه ولا واحد عنده…غريب كيف ترشح واحد زيّ هذا….أيّ والله وجهه يقطع الخميره من العجين….الحمد لله اللي سَقَط…الله يسقط اسنانه…والله والعلم عند الله يجوز ما أخذ غير صوته.
المختار أبو محمد: اتركونا من سيرته…الله يخزيه….الغيبه حرام يا بشر…مع انه اللي في الرجال يُقال…واحد مجنون باين عليه…والله لولا اني حسبتها كويس…وقلت ما بدنا مشاكل…كنت بدّي أهوي عَ راسه في العصاه وألعن راس أبوه….يا عمّي الناس أجناس والله الشيخ اللي نجح….راح اسمه عن بالي….شو اسمه يا شباب؟
– عز الدين نبيه.
– أيوه عز الدين نبيه…والله سمعته مثل المسك…انا ما أعرفه…لكن كل اللي عرفوه وشافوه يحلفوا بحياته…زلمه عالم بأمور الدين والدنيا…ويخاف ربنا…عَ شان هيك الناس انتخبوه..وبيني وبينكم أنا نادم اللي ما انتخبته…بس الحمد لله ع نجاحه.
عادوا الى بيوتهم…. والكل منهم يسرح بأحلامه التي يمني النفس أن تتحقق…أبو السعيد حلق عاليا وهو يخطط في كيفية ادخال سعيد في كلية الشرطة، فهو سينهي الثانوية في العام المقبل، وسيحصل على شهادة المترك، وبعدها سيصبح ضابط أمن يهابه الجميع… وغازي كمال يحب مساعدة الآخرين، فموقعه يستدعي أن يكون أتباعه كثيرين …وله علاقات بالمسؤولين الكبار….ولتكن حساباته كيفما يشاء…لكن المهم انه يساعد.
أبو سالم بقي في ديوان غازي كمال حتى الصباح…انفض المهنئون جميعهم…وبقي وحده في خيمة الاستقبال…حتى أبو غازي دخل بيته وتركه وحيدا دون ان يلتفت اليه… فتكور أبو سالم على الكنبة المخصصة لغازي كمال…تلفع بعباءته محاولا النوم وهو يشعر وكأنه فأر في أطراف مزبلة… نهض مع أذان الفجر.. وخرج الى الشارع العام… مشى باتجاه القدس… لحقت به شاحنة… أشار لسائقها بالتوقف فوقف… ركب معه وهو يردد بأنه يبحث عن سيارة أجرة تُقله… لكنه لم يجد واحدة في ساعات الصباح هذه… أنزله السائق في حسبة الخضار قبالة باب الساهرة… وجد سيارة عائلة أبو السمن تنزل حمولتها من خضار واد الديماس… وتريد العودة لاحضار حمولتها الثانية… سأله بائعو الخضار من أبناء بلدته عن سبب مجيئه الى الحسبة في ساعات الصباح… فأخبرهم أنه كان مدعوا في حفلة فوز النائب غازي كمال في الانتخابات… ولم يسمحوا له بالمغادرة الا قبل قليل… عاد الى بيته في شاحنة عائلة أبو السمن ووجهه يتصبب عرقا من الإهانة التي لحقت به، ولم يفصح عنها… اندس في فراشه وعلا شخيره… بينما قامت زوجته لتخبز، وتعد الافطار لأبنائها كي يذهبوا الى مدرستهم.
عدنان الأقرع كان غاضبا من عمّه أبي سالم، فالعمّ لم يتصرف بشكل لائق يوم الانتخابات، وحاول أن يفرض سطوته عليه أمام الناس، بأن ينتزع منه صور المرشحين الحزبيين التي أعطاه إياها الأساتذة لتوزيعها….أمّا خليل فقد عاد الى بيته يجرّ خيبته وبؤس طفولته، وعار أبي سالم الذي جعل من يده المقطوعة شتيمة له…وفي نومه جاءه الرجل الطيّب ذو اللحية والملابس البيضاء…أيقظه بلطف زائد…وطار وإياه الى القدس التي يحبها…نزلا في حسبة الخضار مقابل باب الساهرة…اشترى له عنبا وتفاحا وبرتقالا…أكل حتى شبع…ومشيا باتجاه باب العمود…ودخلا المدينة آمنين…الشيخ الطيب يضع يده اليمنى على كتفي خليل بحنان زائد…مرّا بسوق باب خان الزيت حيث تنبعث روائح الزعتر والبخور وعبق تاريخ طويل….سارا باتجاه سوق العطارين…فسوق الباشورة…فباب السلسلة…الى أن دخلا باحة المسجد الأقصى…علّمه الشيخ الوضوء في الكأس (المتوضأ)…ودخل به المسجد…قال له :
الآن نصلي ركعتين تحيةً المسجد…هل تحفظ فاتحة القرآن وبعض السور القصيرة؟
– نعم …أحفظ.
– اذا بعد تكبيرة الإحرام اقرأ الفاتحة وسورة قصيرة في كل ركعة…واركع واسجد مثلي..ولا تنس النيّة في البداية، وبعد الأذان سنصلي (ركعتين) سنّة صلاة الفجر…وعند إقامة الصلاة سنصلي (ركعتين) فرض الفجر خلف الإمام….غمرت السعادة خليل لرعاية الشيخ له….وبعد ان انتهيا من الصلاة خرجا الى الساحة….واتجها الى مسجد الصخرة المشرفة….انبهـر خليل بزخرفتها ونقوشها وقبتها الذهبية…فقال له الشيخ: المستقبل أمامك يا خليل ولا تكترث بمن يشتمونك أو يسيئون اليك، واظب على دروسك، وعلى الصلاة، فالتعليم جنّة في هذا الجحيم…عاد به الى فراشه واختفى…فاستيقظ خليل باسما…استيقظ وأشعة الشمس تتسلل بدون استئذان من خلال نافذة الغرفة الشرقية، فارتسمت الطفولة ملاكا على وجهه.
استيقظ أبو سالم مع أذان الفجر… لم يُصلِّ الفجر.. فهو لا يُصلي إلا رياء أمام الناس، خرج من غرفته واتجه الى بيت الشَّعَر، اتكأ على الفراش…أشعل غليونه…وأخذ ينفث الدخان في الفضاء المعتم…أشعة الشمس ترسل خيوطها من خلف جبال مؤاب شرق البحر الميت… فتنبعث في الفضاء راسمة ألوانا لم تتخذ ألوان قوس قزح… والشمس تتقلى في نارها فتظهر رويدا رويدا والحمرة تعلوها….ثم لا تلبث أن تخلع قناعها الأحمر الوردي، فترتدي البياض… وأفكار شتى تدور في رأس أبي سالم، فقد جمع ثلاث مئة دينار… سيأتي بحجّار من قرية صورباهر المجاورة كي يقطع الصخور، ويدقّ الحجارة…ويبني له غرفتين أمام الغرفتين اللتين يملكهما، ليشكل سطح الغرفتين الجديدتين “برندة” مكشوفة، وليزوج سالم في الصيف القادم بعد الانتهاء من بناء الغرفتين، وسيكون سالم قد أنهى السنة الأولى في دار المعلمين، وبعدها بسنة سيتخرج….فللزوجة ديناران ونصف علاوة في راتب معلمي المدارس، وان أنعم الله عليه بمولود خلال العام فسيكون له علاوة دينار ونصف، وهذا مكسب كبير…شرب ابريق شاي أعدته زوجته…أكل رغيف خبز حاف…وهو يتصور أنه يداعب حفيده ابن سالم، انتعل “بسطاره”….امتطى حماره واتجه الى صورباهر…قصد بيت أحد الحجّارين… طرق باب البيت بعصاه… فاستقبله صاحب البيت…ودعاه الى الدخول…فقال:
بدّي يا ابو محمود تبني لي غرفتين.
– حيّاك الله.
شو كلفتهم؟
– عندك حجار؟
– لأ… ما عندي …بس الصخر كثير.
– عندما أشوف الأرض والصخر أقول لك شو تكلفتها.
– يا زلمه هو انا بدّي أبني قصر….كلهن غرفتين.
– يا اخوي ما قلت شيء يزعلك…عندما أشوف الأرض والصخر…وان شاء الله يصير خير.
– طيّب…يا الله خلينا نقوم عَ شان تشوف الأرض.
– هداك الله عَ ساعة هالصبح…. شويّه نشرب قهوه ونفطر… والله مع الصّابرين.
قبل السابعة صباحا امتطى كل منهما حماره وعادا الى جبل المكبر… أشار أبو سالم لأبي محمود على حدود أرضه قائلا:
هذي الأرض… الصخور كثيره…. اقطع منها مثل ما تريد.. وقُدّام هالغرفتين اعمل لي غرفتين… خلّي سطحهن تحت عتبة الغرفتين اللي انت شايفهن… الأرض مايله في بطن الجبل…. مش رايح تتغلب… شو رايك؟
– اللهم صلي على سيدنا محمد… اذا انت بتحفر باب الغرفتين وتجهزهن للبناء مثل ما بدّي أعطيك سعر…. واذا بدّك أجهزهن أنا سعر ثاني.
– انا ما اعرف كيف أقطع الصخر…ولا عمري اشتغلت هيك شُغُل…بدّي إياك تعمل كل شيء.
– ولا يهمك…بدّك اشتغل معك يوميّه وللا مقاولة؟ شو بدّك مثل ما يريحك.
– لأ…اتركنا من اليوميه …بدّي مقاوله.
– معناه…هذا يكلفك تسعين دينار…اربعين دينار كل غرفه…وعشر دنانير حفريات باب الغرفتين وتسهيل الأرض…وتحضير الأساس.
– بس هذا مبلغ كبير يا زلمه.
– لأ…مش كثير…يوميتي مش رايحة تطلع عشرين قرش….احسب حفر في الصخر…وبارود…وملح بارود ….ودقّ الحجر…والبناء …وحديد للعقد…وخشب وغيره وغيراته….غلبه كثير وتعب أكثر.
– طيّب اذا اتفقنا كم شهر بدها الورشه هذي؟
– مش أقل من تسع شهور.
– والقصارة والأبواب والشبابيك….والأرضية عليّ وللا عليك.
– ههههه شو رايك أجوزك كمان؟…أنا أسلمك الغرفتين عظم…وبعدها عمّر ع راحتك مثل ما بدّك…واذا ما تعرف قصير وحدّاد…وقتها قل لي ورايح أدلك.
– يا عمّي ربك يعوض….هاي عشر دنانير عربون…لكن قل لي ايمتى تبدأ؟
– بكره ان شاء الله..
– نقرأ الفاتحه عَ الكلام هذا
– نقرأ… يا حيّ يا قيّوم.. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين……
في اليوم التالي أحضر أبو محمود لوازم العمل…أحضر فأسا ومجرفة ومهدّة وكارّة..وقطّاعات ونُخل..وملح بارود…وأحضر معه شابين ليعملا معه…الشابان يزيلان التربة من فوق الصخور… يعبئانها في الكارّة، ويلقيان بها على بعد حوالي عشرة أمتار، وأبو محمود يحفر بالنُّخل ثقوبا في الصخر ليحشوها بملح البارود كي يُفجر الصخور، ليقوم بعدها بتقطيعها الى حجارة جاهزة للدّقّ ثم للبناء.
وهناك أوعز أبو سالم لزوجته كي تحضر ابريق شاي للعمال كل ساعتين، وعند الغداء ديكان تعملهما”مقلوبة” غداء للعمال في يومهم الأول…أما في الأيام التالية فيكفيهم البندورة والباذنجان…من خضار واد الديماس، وسيحضر صندوق بطاطا أيضا من القدس.
زينب ابنة أبو كامل زوجوها طفلة وتطلقت طفلة بعذريتها بعد أن صدمت نفسيا ليلة الدخلة التي لم تتم… لم يرحموا طفولتها… اتهموها بالجنون، ولولا أخوها كامل وشقيقها خليل اصطحباها الى طبيب متخصص، لأضاعتها “الفتاحة” كما أضاع الحاج عبد الرؤوف يد شقيقها خليل، عادت تغرد في عالم طفولتها بعد أن عادت الى حضن والدتها، وزينب ليست أقل ذكاء من شقيقها خليل، فهي تحلق في سماء الطفولة…تبني عالمها الجميل كما تشاء…ضحكتها زقزقة عصافير تبني أعشاشها على غصن شجرة معمرة…فاطمة والدتها تندب حظ ابنتها زينب التي تطلقت بعد تزويجها بأقل من ثلاثة شهور…والطلاق ليس في مصلحة امرأة تعيش في مجتمع لا يحترم انسانية المرأة… لكن زينب لا تزال طفلة…لم تفهم معنى الزواج ولا معنى الطلاق….فرحتها كبيرة لأنها عادت تنام في بيت والديها وبين شقيقاتها وأشقائها…. تسعد برؤية شقيقها خليل الذي يتعاطف معها… وتمازح أخاها كامل الذي عوضها حنان الأب… واستعادت ثوب المرح الطفولي الذي عروها منه بزواج لا تفهمه ولا تريده…وهي الآن تعود الى مدرستها دون ارادة والدها… وبضغوطات وتشجيع من أخويها كامل وخليل…. أمّها أيضا تعارض عودتها الى المدرسة… وتتساءل عن”الفضيحة” التي ستنفجر كبركان في عودة مطلقة الى المدرسة، لكن كامل وخليل يتفهان المعارضة لعودتها الى مدرستها… أيّ زواج وأيّ طلاق تتكلمون عنه تساءل كامل؟ وأبدى ندمه على عدم منع ذلك الزواج مهما كانت النتائج….لأنه لو فعل ذلك لما وصلوا الى ما وصلوا اليه… عادت زينب الى الصف السابع في المدرسة المأمونية الثانوية للبنات في القدس… زينب تستقل الباص الى المدرسة بصحبة فدوى ابنة الأستاذ داود، وسلسبيل شقيقة الأستاذ محمد… معلماتها في مدرسة القرية الابتدائية عملن لها احتفالا شعرت فيه أنها عروس مدرسة الاناث… رقصت وغنت مع زميلاتها.. حلقت في فضاء حريتها كفراشة تتنقل في حديقة زهور… زينب هدفها الأول الآن اكمال دراستها وتحلم بأن تدرس الحقوق في الجامعة لتعمل في المحاماة لتدافع عن حقوق المظلومين وفي مقدمتهم بنات جنسها…. وهي ترفض الآن من يتقدمون لطلب يدها يدعمها شقيقها خليل وأخوها كامل… الزواج مسقط من حساباتي الآن… لن أفكر فيه قبل أن أنهي تعليمي الجامعي… هكذا كانت تقول.
بعد افتتاح البرلمان الجديد بأسبوعين أرسل النائب غازي كمال مندوبا عنه الى المختار أبو السعيد، ليخبره بأن يجمع المخاتير والوجهاء في بيته مساء اليوم التالي، حيث سيكون في ضيافتهم والاجتماع بهم لأمر يهمهم.
أرسل المختار ابنه سعيد الى المخاتير وبعض الوجهاء، كي يدعوهم للاجتماع مع النائب في بيته في الليلة القادمة، وأوصاه بأن يؤكد على كل واحد منهم أن يحضر بمفرده، وأن لا يخبر أحدا آخر بذلك.
في مساء اليوم التالي كان أبو سالم أوّل الحاضرين الى بيت المختار أبي سعيد، مع أن أحدا لم يدعه لذلك…رحب به المختار مع أنه استاء من حضوره…احتسى أبو سالم القهوة وهو يعبر عن استيائه من عدم دعوته…أراد ان يغيظ المختار فقال كاذبا:
أبو كمال طلب مني ألاقيه في بيتك يا أبو السعيد….وقلت له خلّي القعده عندي وانا أدعو المخاتير بس الزلمه قال، أنا وعدت أبو السعيد ومش مليح نخلف الوعد، وقلت له معك حق… بيوتنا كلها بيت واحد…وأهلا وسهلا بك وين ما لفيت…لم يجبه المختار فقد كان مشغولا بالذبح والسلخ لاعداد العشاء.
اكتمل حضور المدعوين قبل الغروب بقليل، بينما حضر النائب غازي كمال بعد صلاة المغرب…وقف الجميع لاستقباله…جلس في صدر الديوان وسط ترحيب كبير…وتهاني له بالفوز الساحق في الانتخابات…فشكرهم على حسن الاستقبال…وعلى إعطائه أصواتهم في الانتخابات…وهذا ما يتوقعه دائما منهم فهم الأهل والربع والعشيرة أبا عن جدّ، وأضاف بأنه جاءهم هذه المرة إيفاء بوعده، وليطلع على قوائم أسماء أبنائهم الذين يريدون الالتحاق بالجيش العربي الأردني، وكرر عليهم من جديد أنه كلما كان التحصيل العلمي أعلى…كلما كانت الفرصة أكبر للحصول على رتبة عالية، منوها الى أن الفرصة مفتوحة أمام من أنهى”المترك” كي يقدم طلبا لكلية الشرطة، أو الكلية العسكرية، ليتخرج ضابطا بعد سنتين في الشرطة أو الجيش، على أن يكون مقدم الطلب لائقا صحيا، وأن يكون عمره ما بين18-21 سنة، وأن من يريد الالتحاق بالجيش أو الشرطة وتحصيله العلمي أقل من ذلك فسيحصل على رتبة حسب مؤهلاته، فبعد طرد “جلوب” باشا وتعريب الجيش على يديّ جلالة الملك فانه يجري الآن اعادة بناء الجيش والأمن العام بطريقة صحيحة وسليمة.
اعتبر المخاتير أنّ لأبنائهم الأحقية بأن يكونوا ضباطا…يليهم الأقربون وأبناء الوجاهات…لكن أبا كامل أخبرهم أن الجيش والأمن ليسا حكرا على أحد، فصفوفه مفتوحة أمام أبناء الشعب جميعه، وهذه سياسة جلالة القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وشو بالنسبه للجامعات؟ سأل ابو سالم.
أبو كمال: يا عمّي اللي يخلص الثالث ثانوي-تاسع- بنجاح يستطيع الالتحاق بدار المعلمين في بيت حنينا أو في عجلون مجانا…ياكل ويشرب وينام….سنتين زمان ويتخرج معلم مدرسه، واللي يكمل المترك بنجاح…وعلاماته كويسه الحكومة ترسل بعثات للجامعات العربية والأجنبية….يدرس اللي بدّه إياه…طب…هندسه…الخ وبعد ما يتخرج يعمل حسب شهادته…
أبو سالم: هل في امكانيه تدخل لنا سالم في جامعه يا أبو كمال؟
أبو كمال: في أيّ صف هو؟
– في الثالث ثانوي-صف تاسع-.
أبو كمال: الجامعات ما تقبل غير اللي خلصوا خامس ثانوي- مترك- ونجحوا فيه.
– بس سالم شاطر يا ابو كمال.
ابو كمال: الله يخلي لك إياه… كل الاولاد شاطرين بس هذي شروط الجامعات.
– ومن هان لهان ما تقدر تدبره؟
أبو كمال: اذا مستعجل عليه هاي دور المعلمين تقبل اللي خلصوا الثالث ثانوي…وبعد سنتين يتخرج معلم مدرسه.
أبو سالم: طيّب دبره في كلية الضباط.
أبو كمال: كلية الضباط مثل الجامعات ما تقبل غير اللي انهوا المترك….وسالم لا زال صغير..ليش مستعجل عليه؟
المختار أبو السعيد: وحّد الله يا أبو سالم….وجّعت راس الزلمه…ليش انت كثير غلبه؟ وللا فاكر انه فش ّ في الدنيا غير سالم؟
امتعض أبو سالم من حديث المختار وخاطبه قائلا: أنا عارف مِنْ ما جيت عَ هذي الدار وانت زعلان مني…وما انت قادر تشوفني…وتعمل كيف تزحلقني قبل العشاء…على كلٍ أنا لولا خاطر أبو كمال عندي غالي ما دخلت لك بيت…لكن بسيطه…السلام عليكم.
أبو السعيد ساخرا: وحياة عمرك -اللي ما هو غالي- عمري ما حسبت حساب للزاد لا لك ولا لغيرك…والكل يعرفني…وانا اقول: هداك الله ويكفي اقعد مثل البشر.
أبو سالم: عليّ الطلاق ما انا قاعد.
ووقف ينتعل حذاءه ليغادر الجلسة، إلا أن أبا كمال تدارك الموقف وقال لأبي سالم:
اسمع يا أبو سالم… حلفت يمين انك ما تطلع…. وان شاء الله ما تبخس يميني…. مش قادر أصوم ثلاثة ايام.
أبو سالم: لا اله الا الله….عَ شانك لوحدك يا أبو كمال بدّي أقعد…وللا شايف بقية الزلام….مبسوطين بدهم أروح….كأني جايب الحرامي لهم عَ الدار.
العشاء جاهز يا الربع….اللي بدّه يغسل يديه قال ابو السعيد.
أبو كمال: قبل ما أغسل يديّ بدّي أطيّر ميّه…وين الحمّام؟
أبو سعيد: الدنيا عتمه…خذ العباءة تقنع فيها وعند السلسلة اللي هناك….من وين فيه حمّامات؟
غسل البعض أيديهم في حين قال البعض أن أيديهم نظيفة، لأنهم على وضوء…أما أبو سالم فقد غسل يديه بالماء والصابون نكاية بهم….ففسره البعض أنه يقلد أبا كمال حتى في غسل يديه…جهز أبو السعيد سبعة مناسف…ووضع رأس خروف على المنسف الذي أمام أبي كمال…فالرأس للرأس… والآخرون ليسوا ضيوفا…
أبو كمال: تعال جنبي يا ابو سالم.
أبو سالم: خير الله كثير…هاي أنا قاعد ومستريح.
أبو كمال: لا يمكن….ما أحط يدي في الزاد إلا وانت جنبي.
– حياك الله…..هاتوا ملعقه يا شباب لسعادة النائب.
أبو كمال: أيوه…بدّك الناس يضحكوا عليّ …في ناس ياكل المنسف بملعقه؟ هاي انا أضرب بالخمس مثلك وزياده.
أبو سالم: ابن أصول ومن أهلها والله.
انتهوا من تناول عشاءهم، واستأذن أبو كمال بالانصراف على وعد بمتابعة من يتقدم بطلبات من أبناء البلدة للالتحاق بالكلية العسكرية أو بكلية الشرطة…..فلحق به أبو سالم ….استقل السيارة بجانبه وهو يقول…أوصلني لبيتي في طريقك…وللا فيها غلبه عليك؟
– غلبتك راحه يا زلمه…. بس قل لي: ليش أهل البلد زعلانين منك؟ وللا انا غلطان.
– لأ…حماك الله من الغلط… سمعت في المثل اللي يقول:” الرجال ما يغاروا إلا من الرجل الأرجل منهم، والنسوان ما يغارن إلا من المرأة اللي أزين منهن”.
-آه سمعت.
– معناه… البقيه عندك وانت زلمه طول عمرك فهمان.
ضحك أبو كمال ولم يتكلم شيئا آخر….. وحين وصل قرب بيت أبي سالم….أقسم أبو سالم عليه أن ينزل لاحتساء فنجان قهوة، إلا أن أبا كمال رفض بشدة متذرعا بأسباب شتى…
نزل أبو سالم من السيارة مختالا، فأن يقود السيارة به عضو برلمان أمام أبناء بلدته، فهذا يعني الشيء الكثير….وقف امام بيته نظر الى الأتربة التي جُرفت من أمام بيته، وتحسس الحفر التي نقرها أبو محمود ليفجر فيها الصخور بملح البارود….قال لنفسه:
باين عليه ضحك علينا الحجّار ملعون الوالدين…. شايفه نفض باب الدار في يوم واحد….الصباح رباح …. بكره في النهار بأشوف شو الوضع معه.
بقي المخاتير والوجهاء في بيت المختار أبي سعيد… قال المختار أبو محمد:
يا جماعة شباب بيت حنينا وشعفاط، ومنطقة رام الله سافروا عَ امريكا ورجعوا بدولارات لها أول ما لها آخر… وسمعت عن شخص من بيت حنينا رجع وفتح بنك، وربنا أعطاه مال ما له عدد….. وانا بيني وبينكم سألت كيف السفر لأمريكا….وقالوا لي: لأمريكا الشماليه السفر صعب جدا، لكن لأمريكا الجنوبية فش مشكله.
المختار ابو سعيد: شو فيه فرق بين الشمال وبين الحنوب؟ كلها امريكا…. وبلاد غنيه كثير…
خلينا في البداية نبعث شابين، واذا توفقوا نبعث غيرهم.
أبو كامل: والله فكرة طيبه.
الحاج عبد الرؤوف: انا اعرف مكتب سفر في شارع الزهراء …اذا ناويين …خلّيني أسأله.
ابو سعيد: ولا عليك أمر اسأل؟ وردّ لنا الجواب بُكره.
في اليوم التالي عاد الحاج عبد الرؤوف الى مضافة المختار أبو سعيد يتهلل فرحا.
أبو سعيد: خبّر يا حج…قمحه وللا شعيره.
-لا والله –الحمد لله- قمحه.
– كيف؟
– في سفر للأرجنتين، ولبيرو… وللبرازيل…. كل امريكا الجنوبيه ما فيه مشكله في السفر اليها…غير فنزويلا… هذي بلد ما يقدر واحد يدخلها… واذا دخلت دوله من دول الجنوب تستطيع دخول امريكا كلها… تعبر الحدود تهريب… ما فيه مشكله… والسفر في الباخره من ميناء بيروت 100دينار… بس بدّك شهر حتى تصل، وفي الطياره 130 دينار وتصل في يومين…
معناه في الباخره…نوفر ثلاثين دينار…انا يا الربع بدّي أودي أخوي الصغير.. يوسف… شو رايكم… في ناس يحب يرافقه؟
المختار ابو محمد: وانا بودّي ابني نايف.
الحاج عبد الرؤوف: لكن ما فيه سفر بدون جواز سفر.
أبو عفنان: والهويه يقبلوها وللا لأ؟
– لأ ما يقبلوها….لأنه هذي دول أجنبيه…بدون جواز سفر فش واحد يقدر يدخل دوله ثانية.
نايف ويوسف يملكان جوازات سفر، فقد عملاهما قبل سنة من أجل السفر الى الكويت…هما سافرا حقيقة للكويت مقلدين آلاف الفلسطينيين، الذين دخلوا الكويت تهريبا بداية استقلالها، وعادوا بعشرات آلاف الدنانير، أما نايف ويوسف فقد سافرا الى العراق بجوازي سفر، وبطريقة مشروعة، ومن بغداد اتجها الى البصرة بعد ان التقيا ببعض المعارف الذين ليس لديهم جوازات سفر، ودخلوا العراق تهريبا، ومن البصرة دخلوا الحدود الكويتية تهريبا أيضا، ولم يساعدهم الحظ بالوصول الى الأماكن المأهولة، فقد ألقت قوات الأمن الكويتية القبض عليهم قرب الحدود، أوقفوهم يوما وأعادوهم الى العراق عبر نقطة الحدود، والذين لا يملكون جوازات سفر عادوا الى البصرة على أمل عبور الحدود الكويتية مرة أخرى، ونجحوا بذلك، أما نايف ويوسف فقد استقلا سيارة الى بغداد، ومنها الى عمان فالقدس.
أبو زميتان يسأل المختارين: بدون مؤاخذه شو عمر يوسف ونايف؟
المختار ابو سعيد: يوسف ابن خمسه وثلاثين سنه…خلفته أمّه في السنه اللي تزوج فيها أبو عفنان، هذاك الاسبوع اشترينا البغل… ونايف أصغر منه بحوالي سنه وكم شهر.
أبو زميتان: وكم ولد عند كل واحد منهم؟
المختار: يوسف عنده اربعه… ثلاث اولاد وبنت، ونايف عنده-أخاف الله- خمسه ولاد وبنات….ليش تسأل؟
– لأني بدّي أقول وين بدكم تروحوا في نسوانهم واولادهم؟
أبو السعيد: الاولاد والنسوان في الحفظ والصون…عندنا في بيوتنا…اللي يصير علينا يصير عليهم…حتى وأبوتهم مش موجودين نحرص عليهم أكثر….وشو فرق بين ابنك وابن أخوك؟
– بس ما في واحد يرعى الطفل مثل أمه وأبوه.
أبو محمد:يا فصيح ما فيه أغلى من الولد إلا ولد الولد…أي ما لك عليّ يمين أحب اولاد نايف أكثر من أبوهم.
– والنسوان؟
المختار : شو صار عليهن؟
– ما يقدرن يعيشن بدون ازواجهن.
المختار: عند ما تهيل المصاري عليهن مثل التبن ولا يسألن عن ازواج ولا عن غيرهم.
– لكن بنات الناس اللي معاهم مصاري يتزوجن كمان…
يخرب بيتك شو تتكلم كلام فاضي…نقرت روسنا …اسكت شويه.
– عَ راحتكم …اللي عليّ قلته والباقي على الله.
استيقظ أبو سالم مبكرا …..انتظر البنّاء أبا محمود الذي حضر مع عامليه، وقبل أن يطرحوا عليه تحية الصباح بادرهم قائلا:
يا ابو محمود شايفك جرفت الجبل في يوم.
– لا حول ولا قوة الا بالله…كل اللي اشتغلناه يوم واحد….وقدامنا عمل كثير….
– يعني ما زدت علينا في المقاوله؟
– شو بدّي أزيد عليك؟ اذا شايف حالك مغلوب…الله يسامحك في أجرة مبارح والسلام عليكم.
– شايفك زعلان شو زعلّك وللا أمّ محمود بهدلتك عَ ساعة هالصبح.
– هذا بقينا في وحده صرنا في ثنتين….شو دخل أم محمود؟ لا تظل تنق زي ّ الدجاجه الرقاده؟ شو بدك؟… نشتغل ولا ندور عَ باب الله.
– اشتغل يا عمّي نقرت روسنا.
– معناه خلّي أمّ سالم والاولاد يخرجوا من البيت….ويبتعدوا من المكان وانت معهم، وخذ الغنم ابعدها… بدّي أطخ بارود…خلي الصخر يطلع.
عبأ أبو محمود ثقوب الصخر التي حفرها أمس بملح البارود…رشّ بيده خيطا طويلا من ملح البارود، ابتعد هو وعاملاه وهو يصيح بأعلى صوته محذرا المارة ..بارود ….بارود…أشعل خيط ملح البارود وهرب راكضا ….تفجرت الصخور، وانهارت بشكل كبير…عادوا الى المكان… خاطب ابو محمود أبا سالم قائلا:
بدّي انصحك نصيحة….اذا سمعت مني تكسب.
– شو نصيحتك؟
– خلينا نعمل غرفتين وبينهن ليوان؟
– شو يعني؟
– يعني يصير عندك ثلاث غرف….الوسطى تقسمها مطبخ وحمّام….ويظل غرفة نوم وصالون.
وسطحهن يصير برنده يا ما شاء الله عليها.
– بنفس مبلغ المقاوله وللا بدّك زياده.؟
– طبعا في زياده…ثلاثين دينار …مش قايل اربعين.
تفاجأ ابو سالم بما سمع…. مطبخ…. حمام…. هذا يعني أنه سيكون له بيت شبيه ببيت سعادة النائب، ففي بيت أبي كمال مطبخ وحمام، وهذا سيجعل منه”أفندي” مثل أكابر القدس، والمغتربين العائدين من أمريكا….. صحيح أن هؤلاء بنوا فيللا فاخرة…لكن ان يكون في بيت أبي سالم مطبخ وحمام فهذا سبق لم يوجد في القرية من قبل… التفت الى أبي محمود وقال: لكن لا يوجد عندنا سوى مياه الأبار…. فكيف بدنا ندبر وضع المطبخ والحمام.
بسيطه تحضروا خزان ميّه عَ سطح البيت الجديد…. والمواسرجي يمدد المواسير …. هو يعرف شغله…وكل ما خلص خزان الميّه عبّوه من البير، واذا خلص البير….هاي تنك الميّه بنص دينار….في السنه ما تصرفوا اكثر من دينارين أو ثلاث ميّه…
وعد أبو سالم بأن يرد له الجواب في صباح الغد…. حضّر القهوة السادة…. أحضر الدّلّة وصبّ للعمال…احتسى أبو محمود الفنجان الأول …ولم يهزّ فنجانه…فصبّ له أبو سالم فنجانا ثانيا….احتساه…هزّ الفنجان وهو يقول:
– دايمه….قهوة شيوخ مرتبه.
أبو سالم: صحتين وعافيه…ما دامك قلت : قهوة شيوخ معناه الشيوخ يلزمهم مطبخ وحمام…..اعمل اللي قلته.
نزل المختاران- ابو محمد وابو سعيد- من شاحنة عائلة أبوالسمن في حسبة الخضار، اتجها الى شارع صلاح الدين….سألا أكثر من شخص عن مكتب سياحي….اهتديا الى مكتب يقع في زاوية التقاء شارع الزهراء بشارع صلاح الدين…سأل أبو محمد الآنسة الرقيقة التي تجلس خلف طاولة المكتب:
بتحكي عربي يا بنت؟
– أهلا وسهلا يا عمّي أنا عربية.
– عربية؟.. ليش ملابسك مش مستورة؟
– شو أقدر أخدمك يا حاج؟ تفضلوا ….استريحوا… وأشارت الى كرسيين متقابلين أمام الطاولة…. غافل كل منهما الآخر واسترق النظر اليها…. عملا مسحا لنصفها العلوي الظاهر من فوق الطاولة… تظاهرا بالوقار، لكن عيناهما التهمت الفتاة التي شعرت بالحرج…. فعادت تسألهما:
شو أقدر أخدمكم يا حجاج؟
أبو محمد: استغفر الله العظيم عَ ساعة هالصباح….قبل ما نتكلم في الموضوع….فيه عندك ميّه للشرب وللا… لأ ؟
اتجهتْ الى غرفة داخلية… وعادت بكأسي ماء بارد موضوعين على صينية مزركشة…
وقفت أمامهما وقالت:
تفضلوا يا عمّي…
بُهت المختار… فالفتاة رشيقة القوام، كأنها عامود رخام… نحيلة الخصر… صدرها ناهد… عيناها كحيلتان واسعتان، شعرها أشقر… ترتدي بدلة زرقاء كبدلات الرجال،
-بنطال ومعطف- وقميصا أبيض…شربا الماء….تنحنح أبو سعيد….أخرج مسبحته من جيبه..
وقال للفتاة دون أن يلتفت اليها:
– تبيعوا تذاكر سفر لأمريكا.
– نعم…نبيع …
– شو سعر التذكرة؟
– حسب البلد…لأيّ بلد بدّك التذكره؟
– قلنا لك لأمريكا …..أيّ كم أمريكا في العالم؟
– في أمريكا دول كثيره..كثيره…الولايات المتحدة… كندا… المكسيك… بنما… البرازيل.. الارجنتين…الخ.
– فأيّ بلد بدكم؟
– بدنا اللي فيها مصاري كثير.
ضحكت الفتاة وقالت…. دول العالم كلها فيها مصاري… حدّدوا الدوله اللي بدكم إياها.
أبو سعيد: الولايات المتحدة….شو رايك؟
– معكم فيزا لدخول الولايات المتحدة؟
– لأ ….فش معنا إلا جوازات السفر.
– اعطوني إياها…أشوفها.
– تفضّلي.
نظرت في جوازي سفر يوسف ونايف وسألت:مين يوسف ونايف؟
أبو محمد: نايف ابني ويوسف أخوه.
– في قُدّامكم أمرين… يا تحصلوا عَ فيزا للولايات المتحدة… يا تسافروا عَ دولة في امريكا الجنوبية.
– ما بدنا غلبه كثير… خلينا عَ الجنوبية.
– أيّ دولة في الجنوبية؟
– اللي بدِّك اياها؟
– أفففففففف…يا عمّي انا مش مسافره….اللي بدّه يسافر يختار وين بدّه؟
– شايف نفختك تنزل الطبخه عن النار…..ليش زعلانه؟ اختاري دوله وخلصينا.
– حاضر شو رايكم الارجنتين؟
– مليح…. كم ثمن التذكرة؟
– في الباخره 100دينار وفي الطياره 130 دينار.
وعّ شان لحية عمّك شو بدّك تخصمي لنا؟
– لحية عمّي غاليه كثير ما تتقدر بمصاري.
– بارك الله فيك… ويرضى عليك ربنا…. اسمحي لنا وبكره نرجع لك.
– مع السلامه.
خرجا وقررا الذهاب الى قهوة زعتره في باب العمود ليدخنا”أرجيله” ويتشاورا في الأمر، وأخذا يتحدثان عن فتاة مكتب السياحة فقال ابو سعيد:
– صدقني ما فيه في العالم أجمل منها….ما قدرت أحط عيني في عينها…خفت أغمى وأروح فيها…. وبعدها تقولوا راح قتيل حُرمة… عينيها ذبحنّي…
أبو محمد: يا زلمه…. بيضاء مثل قرص الجبنه… للأمانه اذا شربت ميّة تشوف الميّه وهي نازله في رقبتها….. يا بخت اللي يحضنها…. بس جننتني في شغله…. ليش لابسه مثل الرجال… بنطلون…. ما فيه فوقه فستان…. ولابسه عَ راسها طاقيه… والله مثل الشرطة في بدلتها الزرقاء… أخاف الله انها مش عربيه…. وللا الحُرمه استرجلت من قَلّة الرّجال.
– عربيه وللا فرنجيّه…البنت مزيونه…
– دشرنا من الحكي الفاضي… اذا سمعنا واحد غريب يقول: الإختياريه مجانين…. شو بدْنا نعمل؟ الباخره بدْها شهر حتى تصل…والطياره يومين…خلينا نوفر 30 دينار ويسافروا في الباخره… والطيارات يخوفن… لو سقطت الطياره… وين نلقاهم؟
أبو سعيد: سألت واحد من دير دبوان عن الشغل في امريكا…وقال لي: العرب يشتغلوا في التجارة أول ما يصلوا يعبّوا شنتاتهم”حقائبهم” ملابس ويبيعوا في القرى…القرش يربح قرشين… وبعد سنة يكونوا تعلموا لغة اهل البلاد ويفتحوا محل في المدينه ويبيعوا مثل الأفنديه… وبس يجمعوا مصاري… يا عمّي المصاري في امريكا أكثر من زبل الغنم في بلادنا.
أبو محمد: شو رايك كم دولار لازم ياخذوا معهم؟
50 دولار … المصاري قُدّامهم … هم يسافروا عَ شان يجيبوا مصاري وللا ياخذوا معهم؟
اليوم المساء خلينا نقعد مع يوسف ونايف… ونتفق عَ السفر… وندبر ثمن التذاكر.
في المساء اصطحب أبو سعيد أخاه يوسف وقصدا بيت أبي محمد، جلسوا على انفراد بحضور نايف…. تداولوا في الموضوع… واتفقوا على أن يسافرا بعد شهر في أسوأ الظروف، على أن يسألا عن امكانية الحصول على عنوان شخص عربي هناك، ليساعدهم ويرشدهم الى الأماكن التي يمكن الاقامة والعمل فيها، وكيفية شراء البضاعة…وفي هذه الأثناء على يوسف ونايف أن يُقنع كل واحد منهما زوجته بأن تتقبل الموضوع… وأن تبقى مع أطفالها في كنف العائلة… وكيف سيعودان بعد سنتين أو ثلاثة بملايين الدولارات… ليبني كل واحد منهما قصرا لزوجته وأبنائه… ويفتتح محلا تجاريا كبيرا في القدس… وسيعلمون أبناءهم في أرقى الجامعات…. وسيصبحان من أعيان البلد… والكذب عَ النسوان حلال – كما افتى بذلك المختاران نقلا عمّا سمعاه من إمام المسجد-… وهما يضحكان على قِلَّةِ عقول النسوان.
لحظات صمت مرّت…التفت المختار أبو محمد لابنه نايف وسأل:
شو رايك يا با يا نايف؟
أبو سعيد: شو هالحكي يا ابو محمد؟ أي هو فيه له راي وانت موجود؟
– والله معك حق…صحيح احنا نعرف مصلحتهم اكثر منهم….بس بدّي اشوف اذا يقدر يدبر حاله مع حرمته…ويقنعها في اللي قلناه.
– يا زلمه… مِن وينتا الحريم لهن راي؟ هاي يوسف أخوي الصغير مش ابني…والواحد يحكم ابنه أكثر من اخوه…ما سألته شو رايه…مش لأنه –لا سمح الله- لا يفهم…بس لأنه أخوي الصغير وعارف اني أحب مصلحته واعرفها أكثر منه…في حياته عُمْرُه ما قال لي لأ…
وحُرُمْتُه اذا ما وافقت شغلتها بسيطه…مش رايح أظلمها…أعطيها خيارين…يا تقعد عند اولادها حتى يرجع زوجها…أو دار أبوها مفتوحه..تُتْرُك اولادنا والله يسهل عليها…أو أقول لك…اذا ما قعدت عند اولادها…ثاني يوم يوسف يودّي لها ورقة طلاقها.
– والأطفال يا كبير البلد …وين يروحوا؟ مين اللي راح يدير بالُه عليهم؟
– سِتْهم أمّ ابوهم…. تحبهم وتعرف مصلحتهم أكثر من اللي خلفتهم.
– أي أقول لك الصحيح وللا ابن عمّه؟
– أيوه الصحيح…أصلا انا في حياتي ما حبيت الكذب.
– الصحيح عليّ الطربوش لو انك لحقت الجاهليه ما أسلمت.
– يا اخوي اذا انت أمّ محمد طمعانه فيك وكلامها يمشي عليك…هذا الوضع ما يمشي عندنا…
لم تتجاوز الساعة الثامنة مساء عندما تنحنح أبو سعيد قائلا:
الدنيا صارت نُص ليل…شو رايكم نفض الجلسه وكل واحد يروح لبيته؟
واذا بصوت الحاج عبد الرؤوف يقول: يا ساتر…يا أهل الدار؟ ….فتح له نايف الباب وأذن له بالدخول…صبّ له فنجان قهوة سادة…أمسك الفنجان وقال:
عارفين يا جماعه لو بدّي أعاملكم عَ حسب اعمالكم….كان ما شربت قهوتك يا ابو محمد.
أبو محمد: خير يا حج…شو فيه؟
– ناويين تْسَفْروا الشباب لأمريكا ….وما قلتوا لي…وللا خايفين أكسب امريكا قبلكم.
ضحك أبو سعيد وقال: الاولاد قُدّامك ما سافروا وعند ما يسافروا رايحين نقول لك ولكل البلد.
– أنا ما بدّي تقول لي ليلة ما يسافروا…بدّي تقولوا لي اليوم قبل بكره عَ شان أودّي عليان معهم…
أبو محمد: شو يروح يعمل عليان في أمريكا يا ابو عليان؟
يشتغل مثل الناس ما يشتغلوا.
– بس عليان مش مثل الناس..
– وللا شو ناقصه يد ولا رِجِل؟
– لا ناقصه يد ولا رجل ناقصه يترك الهماله والسكر والعربده… واميركا … صحيح فيها شغل ومصاري…بس مليانه هماله…أكثر من اللي عندنا …. شو ما يخطر عَ بالك…خمره…قمار…مخدرات..شراميط -يا رب لا تواخذنا واستر عَ خلقك-.
الحاج عبد الرؤوف: يا جماعه..عليان كان مثل العسل …. بس ربنا سخطه… مش عارف هي غضب والدين وللا ربنا سخطه… مِنْ ما جبّرت يد الولد المفعوص خليل ابن منصور والدكاتره بعدها قطعوا يده …. أمّه الله لا يسعد لها مساء ولا صباح …. عبّا راسها كامل ابن ضرتها إنه أنا السبب… نثرت شعرها ومدّت يديها واستدعت لربنا وقالت وانا أسمع: الله لا يربحك يا حج عبد الرؤوف…وين بدّك تروح من خطيّة هالطفل.. ان شاء الله تلقاها في الولد الفالح والمال السارح… ويا الربع… باب السماء كاين مفتوح… ليلتها … قبل العيد بيومين…. اشترينا خروف عيديه للاولاد… وتركناه مع نعجات هويمل ليوم العيد…الوحش سطا عَ الغنم…فيه اكثر من 150 نعجه معهن اكثر من 100 خروف… ما لقي غير خروفنا….لطشه وعَيَّد عليه بدل ما نعَيِّد احنا… وظلينا بدون عيد… وكامل رجع من القدس خاري عَ حاله… حسبناه صابته عين… ما عرفنا شو صار له… أمّه غلت له جعده… بس ما نفعت… راجَع”تقيأ” كل اللي في بطنه… ودموعه بعرض وجهه… وحط راسه ونام…وقريت عَ راسه قل هو الله احد… وقل أعوذ برب الفلق…. وقل أعوذ برب الناس… وأمّه بخرته بطرف اردانها… وعند ما قام من النوم… تقول شوكه وخلعتها… ما فيه ولا شيء… حمدنا ربنا عَ سلامته…. وقلنا: هذا امتحان من ربنا…. لكن كل يوم والثاني الولد يطلع ويرجع في نفس الحاله…. ويوم رحت للقدس… مريت من سوق خان الزيت وللا احمد ابن ابو احمد…. صاحب الدكان اللي جماعتنا يبيعوه الجبنه نادى عليّ وقال لي: ليش ما تدير بالك عَ عليان يا حاج؟ قلت له: شو تقصد؟
قال: الولد ماشي مع شيوخ الهماله في القدس…داير عَ السكر والعربده والحشيش والقمار …ضربت كف عَ كف وسألته: من وين عرفت؟
قال: هذي بلاد مقدسه…. كل أهل البلد يتكلموا في الموضوع… قالوا انه الشاب الساحوري اللي اسمه عليان يعمل الملعونه واختها… ويسرق مع الحشاشين ويسكر ويخمر… ويوم شفته بعيني… حاول يسرقني … وعند ما عرفته… قلت له: عيب عليك يا ولد… أنا صاحب أبوك.. وسبّ عليّ وعليك كمان… وبيني وبينك لولاه كان مش صاحي ومش قادر يمشي..وللا ضربته عَ وجهه وخلعت نيعه، لأنه رفع يده ناوي يضربني.. ومن يومها عرفت شو مصيبتنا… ومش قادرين نرده… ضربته وطردته من الدار… وما هو نافع معه شيء…. الله لا يردّك يا بنت أبو الجحوش لا انت ولا ابنك الأكتع.
أبو سعيد:طيّب واحد مثل هذا … داير عَ الهمالات.. شو بدّه يروح يعمل في امريكا؟
– يبعد عن وجهي… فضحني قُدّام الناس… عين لا تشوف قلب لا يحزن.
أبو سعيد: الأشكال هذي اذا سافرت لبلاد برّه تصير عار ومعيار…اذا بدّك النصيحه كَتْفُه..وحطُّه في بير وللا مغاره… حتى يقول: دخلك يا سيدي.
– يعني فكركم هيك أحسن.
– أيوه هيك احسن…اللي ما فيه خير في بلاده …مش رايح يطلع منه خير في بلاد الناس.
– لا اله الا الله ولا حول ولا قوة الا بالله.
انفضت الجلسة…وعاد كل واحد منهم الى بيته…عاد الحاج عبد الرؤوف ودموعه تتساقط على وجنتيه…ضاقت الدنيا في وجهه…بكى حظه العاثر…فالمصيبة الكبرى في الخلف الطالح….فأن تتعب وتشقى…وينحرف ابنك فهذا عقاب الهي في الدنيا ما بعده عقاب، عاد بذاكرته الى الخلف….استعرض سيرة حياته…وتساءل عن محرمات ارتكبها وها هو الله –سبحانه وتعالى- يعاقبه عليها في الدنيا قبل الآخرة…صَعُب عليه أن تعود ذاكرته الى علاقة محرمة أقامها في شبابه مع أرملة وعدها بالزواج، ولم يفِ بوعده…فهل تكون هي السبب؟ أم هي الأغنام التي سرقها في زمانه….لم يسرق بدافع السرقة…..بل بحكم الحاجة…سرق بضعة خراف في أوقات متفرقة…ذبح بعضها للضيوف…وبعضها ذبحه في العيد لأبنائه….وتذكر ذات يوم عندما سرق خروفا في يوم عرفات، ومرّ به صاحب الخروف فعرف خروفه…فسأله عن الخروف…فأقسم انه ابن نعجة عنده وربّاه في بيته، فقال صاحب الخروف: آمنت بالله وكذبت عيني…منك لله…وتذكر شهادة الزور التي أدلى بها لصالح المختار…لكن الله لم ينتقم من المختار وينكبه بأبنائه كما نُكب هو بابنه عليان.. وهل صحيح أن:”الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”؟ غفرانك ربي…. لكن في ديننا: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). لا بُدّ أن الله استجاب دعاء فاطمه أم خليل الأكتع عندما دعت ربها بأن ينتقم منه بـ”الولد الفالح والمال السارح” ودعوة “الحريم” المظلومات مستجابة…ليس بينها وبين الله حجاب… لكنه على قناعة تامة بأنه ليس مسؤولا عن قطع يد خليل… الأطباء هم من قطعوا يده…. بكى حظه وحيدا دون أن يراه أحد… وعاد الى فراشه حزينا.
اشتروا تذاكر ليوسف ونايف للسفر الى الأرجنتين على متن سفينه تنطلق من ميناء بيروت، قاما بقص شعر رأسيهما عند الحلاق “أبو غزاله” في سوق باب السلسة قبل السفر بيوم واحد، فهو من يقوم بختان أطفال البلدة، قصّ شعرهما على”الصفر” فالرحلة طويلة وتستغرق شهرا، هكذا قال والداهما المختاران، وبعدها اشتريا لكل واحد منهما معطفا من سوق الباشورة بعشرة قروش، مروا من أمام مكتبة الأندلس في باب خان الزيت، فاشترى يوسف بقرشين كتاب”تعلم كيف تكتب رسالة”وفي المساء تجمع الأهل والأقارب لوداعهما… بكوا جميعهم… المسافرون على فراق الأهل، والمودعون على فراق المسافرين.
مضى ثلاثة أشهر على سفرهما دون ان تصل منهم أية أخبار، ثلاثة أشهر طويلة انهمرت فيها دموع غزيرة….والمختاران يجتمعان بشكل شبه يومي، ويتداولان في الموضوع، ويتساءلان عمّا جرى ليوسف ونايف، فقال ابو سعيد:
هذا البحر كبير جدا…بدون يمين والله اعلم انه أكبر من السواحرة…ويقولوا انه فيه حيتان الواحد اكبر من هالدار.
أبو محمد: اسم الله عليك…البحر اكبر من فلسطين والأردن ….والسفن في بطنها ع الميّة مناشير كبيره…عند ما يهجم الحوت عليها عَ شان يبلعها…المنشار يقصه قسمين…وبعدها يهجم عليه السمك وياكله….ما سمعت في المثل اللي يقول:” ربك يكسر جمل عَ شان يعشي واوي”
– آه …والله سمعت.
– الجمل والواوي في البر والحوت والسمك في البحر.
في الأسبوع الأول من بداية الشهر الرابع على سفر يوسف ونايف وصلت منهما رسالتان مكتوبتان بخط نايف، فهو يجيد القراءة والكتابة، فقد تعلم زمن الانتداب خمس سنوات في مدرسة النهضة في حيّ البقعة، أمّا يوسف فهو أمّي، أخذ كل واحد منهما رسالته وعاد الى بيته كي يقرأها له أحد ابنائه بعدم وجود آخرين، فلا بدّ أن يكون في الرسالة دولارات، فالرسالة منفوخة وفيها عدة أوراق، تحلقت كل أسرة حول قارئ الرسالة، ودموع الفرح تختلط بدموع الحزن، كانت الرسالتان متشابهتين باستثناء المقدمة التي تحمل اسم المرسل اليه، وفي بيت أبي محمد استمعوا الى نص الرسالة بلهفة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والدي العزيز:
سلام سليم أرق من النسيم، يغدو ويروح من فؤاد مجروح، الى منية القلب وعزيز الروح والدي العزيز، أطال الله بقاءه، وبالعز والسؤدد صبغ أيامه، بعد تقبيل يديك الطاهرتين أنت والوالدة العزيزة، والسؤال عن أخباركم الطيبة، اسمحوا لي أن أخبركم عن تفاصيل رحلتنا، سافرنا من عندكم صباح يوم الأحد، ووصلنا بيروت بعد ظهر اليوم نفسه، نزلنا في ساحة كبيرة اسمها ساحة البرج، الساحة شبه مستطيلة، يلفها شارع كبير، وحولها محلات تجارية ويتوسطها جزيرة كبيرة فيها تماثيل لأشخاص، منها تمثال لرياض الصلح أحد رؤساء الوزارات اللبنانية السابقة، وفي مكتب التاكسيات تعرفنا على مسافرين من قرى رام الله سيسافرون معنا الى الأرجنتين في نفس الباخرة، ولهم أقارب هناك، فاستبشرنا بذلك خيرا، بعض المسافرين ناموا في فنادق…أجرة الفندق ليرة لبنانية في الليلة، لكننا لم نقرر النوم مثلهم لنوفر أجرة الفندق، تركنا حقائبنا في مكتب السفريات، وخرجنا في ساحة البرج….لم نبتعد عن المكتب خوف أن نضيع عنه، ولا نستطيع العودة اليه، مع اننا أخذنا”كرتا” منه يحمل عنوانه ورقم هاتفه، ولما عضنا الجوع بأنيابه بحثنا عن مطعم يبيع ساندوشات فلافل، ولم نجد الا مطاعم تبيع دجاجا مشويا على الكهرباء، فقررنا أن نبقى على جوعنا حتى المساء، وفي هذه الأثناء عثرنا على محفظة فيها مئة ليرة لبنانية وخمسون دولارا أمريكيا، فكانت فرحتنا كبيرة، وذهبنا الى مطعم الدجاج، وأكل كل واحد منا دجاجة مشوية، وكان ثمن الدجاجتين ليرة ونصف لبنانية، فبقي معنا ثمانٍ وتسعين ليرة ونصف، وذهبنا الى فندق صغير واخذنا غرفة بسريرين بليرتين لبنانيتين في الليلة، وأحضرنا حقائبنا ونمنا ليلتنا، وعرفنا من المكتب ان الباخرة ستغادر بيروت في الثانية بعد الظهر، وفي اليوم الثاني صباحا عدنا الى نفس المطعم، ووجدنا عنده دجاجة مشوية من اليوم السابق، فأكلناها مناصفة، وعدنا الى الفندق وحملنا حقائبنا….بعد أن سألنا عن الميناء وأخبرونا أنه قريب، لكننا خفنا أن نضيع، فأخذنا سيارة أجرة الى الميناء بليرة لبنانية، وبدلنا ما تبقى معنا من العملة اللبنانية بخمسة وأربعين دولار أمريكي، وهكذا وصلنا الميناء ومعنا نحن الاثنين 195 دولارا امريكيا…لكل واحد 97.5 دولارا.
وفي الميناء سمحوا لنا بدخول السفينة في الساعة الثانية عشرة ظهرا، اقتادونا الى طابق مغمور بالمياه، فنحن من مسافري الدرجة الثالثة كما أخبرونا، وأرشدونا الى مطعم السفينة الضخمة، والمكونة من خمسة طوابق كبيرة، وعلى سطحها ملاعب وبركة سباحة، وغرفتنا كانت صغيرة، فيها سرير معدني من طابقين، وفيها مرحاض صغير، وعندما أبحرت السفينة كنا على سطحها ….رأيناها وهي تبتعد بنا عن بيروت، وبيروت جميلة جدا من البحر…لكن قبل غروب الشمس كنا قد ابتعدنا عن اليابسة، ولم نعد نرى سوى الماء، وهنا بدأ يوسف يتقيأ ودموعه تنهمر، حسبت أن سيتقيأ معدته من كثرة ما تقيأ، فقدموا له اسعافات وقالوا أنه مصاب بدوّار البحر، وأعادوه الى غرفة نومنا، وقيدوه على السرير خوفا من أن يسقط عنه، كنا نأكل ثلاث وجبات يوميا على حسابهم، ولم نشترِ شيئا على حسابنا الخاص كما فعل بقية المسافرين…توقفت السفينة في ثلاث موانئ اوروبية، نزل منها ركاب وصعد اليها آخرون لكننا لم نغادرها خوفا من الضياع، ولعدم وجود نقود معنا للصرف، وقد وصلنا ميناء العاصمة الأرجنتينية”بيونس آيرس” بعد ثمان وعشرين يوما، لقد شاهدت أنواعا كثيرة من الأسماك وهي تتنطنط في البحر، وكان البعض يلقي لها بعض انواع الطعام، لكن يوسف لم يشاهد شيئا، فقد بقي حبيس الغرفة يتقيأ دائما، وفي الأرجنتين وجدنا أقارب للمسافرين معنا من قرى رام الله ينتظرون أقاربهم، فهمنا أنهم قدموا رشوة لرجل أمن مقابل أن يخرجهم من الميناء بطريقة غير شرعية، لأنهم لا يحملون فيزا دخول، والتصقنا بهم، وكان أحدهم شخص طيب من المزرعة الشرقية، فحملنا مع أخيه في سيارته، واستضافنا مرتين في مطعم اثناء السفر الذي استمر خمس عشرة ساعة، الى أن وصلنا مكان اقامته، والرجل يملك محلا تجاريا للملابس الجاهزة، واستضافنا في بيته لمدة يومين، حتى استأجر لنا شقة صغيرة قريبة منه بسبعة دولارات في الشهر، وعبأ لنا حقائبنا بملابس مختلفة، وكتب لنا السعر على كل قطعة، وأقلنا في سيارته الى قرى مجاورة، وعلمنا بضعة كلمات باللغة البرتغالية، كما أرانا عملة البلد، وهي عملة رخيصة اسمها”كروزيرو” وصرف لكل واحد منا عشرة دولارات بتلك العملة، وضع كل واحد منا في نهاية قرية، وقال: اطرقوا كل بيت، واعرضوا بضاعتكم حتى تعودوا اليّ، وها نحن نعمل كل يوم من طلوع الشمس الى مغيبها…تواجهنا مشكلة اللغة، والغربة وعدم معرفتنا بالبلاد وبعادات شعبها…لكننا سنتعلم كل شيء…العمل شاق جدا هنا…والأرباح ليست مثلما كنا نسمع في البلاد… الغنى الفاحش والفلوس الكثيرة في الولايات المتحدة كما اخبرونا هنا. وهذه البلاد بلاد خير…كلها خضراء…امطارها غزيرة…انهارها كثيرة..لكن عملتها رخيصة، وهي تنخفض كل اسبوع، في هذه الأيام الدولار يساوي أربعين كروزيرو…تجمع فلوسا كثيرة وعند تحويلها للدولار تجد نفسك أمام عدد قليل من الدولارات…سنتدبر أمورنا فلا تقلقوا علينا…ونسأل الله التوفيق.
طمئنونا عنكم جميعا….وسلامنا لكل من يسأل عنا بطرفكم.
8-1-1961
ابنكم المشتاق نايف
ملاحظة: العنوان هو عنوان محل أبو عزيز المزرعاوي…انقلوه بطريقة صحيحة واكتبوا اسمي على الرسالة بالعربي…وهو سيسلمني اياها.
عملت الأسرة مناحة فجميعهم يبكون الى درجة النحيب باستثناء “عيشه” زوجة نايف، فقد جمعت أطفالها، ودخلت غرفتها تتمزق غيظا وغضبا، فزوجها الذي وعدها بالملايين وحياة رفاهية، لم يخصها بتحية أو سؤال في رسالته، بل تجاهلها وتجاهل أطفاله أيضا، وهذا أمر غير معقول وغير مقبول أيضا، رأت نفسها عصفورة شقية حبيسة قفص لا أحد يطرق ابوابه، حلقت في السماء فوق الغيوم تبحث عن مصير زغب الحواصل الذين انجبتهم في هذا القفص، تمنت لو تستطيع الطيران الى البعيد الذي لا يعرفها فيه أحد، لعلها تنجو بنفسها على الأقل من هذا الجحيم…وهذا ما حصل أيضا مع “بسمة” زوجة يوسف، التي تدثرت بخيباتها المتواصلة، مع زوج لا يملك إلا الخنوع ، وأهل يرون أن الزوج سترة، ولو لم يملك من مقومات الزوج سوى الذكورة التي تنبعج على شكل اطفال…. فهل للأب والأخ الأكبر سطوة الى درجة أن الزوج لا يسأل عن زوجته وعن أطفاله، وما العيب في ذلك؟
أسرتا يوسف ونايف تبكيان غيابا لم تألفاه، ولم تتعودا إلا غياب من يغيبه الموت، تبكيانه أياما ثم تغيب ذكراه كغيمة ساقتها الرياح الى البعيد البعيد.
ونايف ويوسف يجوبان قرى في الأرجنتين يبحث كل منهما على من يشتري منه قطعة ملابس ليكسو جسدا أنهكه الفقر، فهل سيغتني الفقير من الفقير؟ بلاد خضراء وطبيعة جميلة، الغابات تتداخل في مدنها التي سرقت أجزاء منها، فحولتها الى كتل من الاسفلت وأكداس من أبنية يسكنها باحثون عمّا يسد رمقهم، يعودون الى سكنهم مساء منهكين، يقطعون بحارا عبروها في طرقهم الى هذه البلاد التي ظنوا ان ترابها ذهب، سيحملون منه ما يكفي الى تغيير نمط حياة فقر عاشوها…بكوا حنينا الى حياة هربوا منها طمعا في سعادة وهمية سيطرت على عقولهم، ولم ينتبهوا الى أنهم خرجوا من الجنة الى الجحيم الا بعد فوات الأوان، يتحدث كل منهما للآخر عن يومه الذي مضى… يتحدث عن امرأة راودته على جسدها عندما طرق باب كوخها عارضا بضاعته، تشير اليه بدخول البيت…تتعرى أمامه وتنقض عليه…تضاجعه…تشتري منه قطعة ملابس وتودعه بقبلة شهوانية… لا لغة مشتركة بينهما إلا لغة الجسد، يفتقد دفء حضن تركه في البلاد، ليقع في أحضان ليس لها معنى… يتذكر العفة والشرف والكرامة التي تربى عليها وتركها خلفه… ويبكي واقعه الذي اصبح فيه سلعة لا قيمة لها…تنفرج أساريره كلما تعلم بضع كلمات من لغة يجهلها…يحاول أن يعلمها لزميله مساء كيفما تيسر له…يشعر أنه يخرج من جسده، وأن عقله يطير مع الأثير ليحط على جسد امرأة تركها تتلوى شبقا وشهوة…ولتعانق أطفالا أدخلوا الفرحة لقلبه…وها هو يتركهم دون استئذان، ليداعب طفل غانية منحته جسدها….نايف يكتب الرسائل لأهل ما عادا يحبانهما…
ذات يوم عاد نايف الى البيت وقد قُصّ شعره حتى النهاية…يواري صلعته بقبعة مكسيكية..عاد يتصبب عرقا من الخجل…ولمّا رآه أبو عزيز المزرعاوي انفجر ضاحكا وهو يبارك له بالصلعة الجديدة…فطأطأ رأسه حياء…وعندما سأله يوسف عمّا دفعه الى قصِّ شعره بهذه الطريقة أشار له بعينه كي يسكت ولا يتكلم في الموضوع أمام أبوعزيز…لكن قهقة أبو عزيز تنبئ بأنه يعرف السبب….وفي البيت قال ليوسف:
في القرية التي في وسط الغابة أغوتني امرأة منذ أن رأتني لأول مرة….امرأة تشبه نساء بلادنا …بل هي أكثر سمرة… تعيش في كوخ ومعها طفل رضيع…ضاجعتني دون ارادتي…هي الفاعل وأنا المفعول به، وكلما مررت من هناك تعيد الكرّة …وأنا تعمدت اليوم المرور من هناك فأنت تعرف قسوة تجربتنا و”عزوبية دهر ولا رُملة شهر” وبينما كنا على السرير المتهالك وإذا برجل قوي البنية يترجل عن حصان …وبيده كرباج ويتمنطق بخنجرين …رآنا عراة…يبدو أنه زوج المرأة زمجر وصاح بلغته التي لم أفهم منها شيئا، وانهال على المرأة بالكرباج…فأحسست أن منيتي قد دنت…تشاهدت وسألت الله النجاة…خارت ركبتاي من الخوف…تذكرت زوجتي وأطفالي…وبكيت نفسي على الميتة التي سأموتها ….جرني الرجل بعنف وألقاني أرضا…أحضر ماكينة حلاقة …وقصّ شعري على الصفر….ودفعني بلهجة آمرة وهو يصرخ بي…حملت حقيبتي وحمدت الله بأن خلصني من هذه الحادثة المؤلمة والمرعبة….واذا بجرس الباب ينبئ بزائر…انه أبو عزيز…دخل ضاحكا…أشار الى رأسي وقال: عادة أهل هذه المنطقة وهم من الهنود الحمر أنهم يعاقبون المرأة التي تخون زوجها بالضرب، ويعاقبون شريكها بقصّ شعره…ليعرفه جميع سكان منطقتهم… وهذا سلاح ذو حدين، فنساؤهم عندما يشاهدن غريبا حليق الرأس فانهن يعتبرنه صيدا جنسيا ثمينا اذا كانت ظروفهن تسمح بذلك، بينما يسخر منه الرجال الذين يفاخرون بشعورهم الطويلة مثل شعور نساء بلادنا…. لا تحزن يا أخي فجميعنا مررنا بهذه التجربة…لا تخف منهم انهم جماعة مسالمون وطيبون…بإمكانك انهاء الموضوع مع زوجها بسهولة…ارجع اليه وقدم له زجاجة نبيذ….وسترى كيف سيكرمك…وربما ستشاركه في زوجته برضاه.
دُهش نايف ويوسف مما سمعاه…لم يُعقبا بشيء…لكن يوسف استحلف أبا عزيز عن مدى جدية ما قال أم أنه يمازحهما…فأكد ابو عزيز أنه لم يقل غير الصدق وهذا سبب حضوره اليهما…فلا يمكن أن يترك”نايف” ينام قلقا…
عندما غادرهما أبو عزيز قال يوسف: يبدو أننا لن نجني من هذه البلاد سوى معاشرة النساء…لكن علينا الانتباه للأمراض الجنسية.. فقد روى لهما المختار أبو سعيد ما سمعه من آخرين عن مغترب الى أمريكا عاد الى البلاد ليموت فيها بعد معاناة من مرض جنسي ومما قاله: وعندما ذهب الى الطبيب المعروف الدكتور فرح في عيادته بحارة النصارى، وشرح له عن معاناته من المرض… طلب منه الطبيب أن يخلع بنطاله وسرواله …. لم يلمسه بيديه… طلب منه أن يقف على طاولة صغيرة في المكتب…وأن يقفز منها على الأرض…ولمّا قفز…واذا بعضوه الذكري يسقط أمامه…سقط مشلولا لا حياة فيه…مشلولا كغصن شجرة فاقد للحياة… وتساءل وما يدرينا أن نساء هذه البلاد يحملن عدوى ذلك المرض؟… ضحكا من طرافة الموقف…ومن خيال المختار الواسع…..لكن نايف قال ساخرا: هذه مأساة اذا عدنا الى البلاد وقد فقدنا رأسمالنا الذكوري….وبهذا سنخسر حياتنا حتى لو عدنا بالملايين من أمريكا…فرد عليه يوسف: لكن الخوف هو من عودتنا بدون دولارات وبدون “رأسمالنا”.
قرر أبو سالم تزويج سالم في العطلة الصيفية، فقد أنهى الصف الثالث الثانوي-التاسع- وسيلتحق بدار المعلمين في بيت حنينا مع بداية العام الدراسي…..لم ينتظر حتى الانتهاء من البناء الجديد…ولم يكن خيار لسالم في ذلك…ولا لأميرة ابنة عمّه التي تكبره بثلاث سنوات….اتفق الأبوان على تزويجهما بمهر معجله خمسون دينارا ومؤجله مئة دينار، بحضور سرحان الذي جاء الى بيت عواد شقيق أبي سالم لخطبة أميرة لابنه…فارتأى أبو سالم أن لابنه حق الأولوية في الزواج من ابنة عمّه، فـ”ابن العم يطيح عن ظهر الفرس” و”ليش نطلع خيرنا لغيرنا”؟ لم يناقش عواد في ذلك بل قال:” الزيت اذا احتاجوه أهله…حرم عَ الجوامع” و “احنا ما نزيد الملح الا ملاح”….قرأوا الفاتحة….وقف أبو سالم أمام بيت أخيه عواد ونادى زوجته بصوت عالٍ: يا صبحه…ولما أطلت عليه: أمرها بأن تحضر هي وسالم بسرعة…وعندما وصلا قال:
مبروك …خطبنا أميره لسالم…ادخلي عند سلفتك وزغرتن وغنين…وانت يا سالم…خذ عشرين قرش ومثل الطير…اركب البغل وطير للدكان واشتري رطل حامض حلو…دخلت صبحه عند سلفتها زوجة عواد: احتضنت أميرة وقبلتها وهي تقول:
مبروك يمّه يا أميره…خطبناك لسالم….احتضنت سلفتها زهيّه وفعلت معها نفس الشيء…ثمّ أطلقت زغرودة تردد صداها في البيوت القريبة… ثمّ أتبعتها هي:
هاي يا ابو سالم يا جودي وموجودي
هاي ويا صفّ الذهب عَ الراس موجودي
هاي وتمنيت عدوك عَ اللوح ممدودي
هاي ومن عام لعام تايوكله الدودي
وأعقبتها زغرودتان منها ومن زهيّة.
هاي يا زرقا وشهبا وهذي من خيول ذياب
هاي وعليها ابو سالم حلو خفيف الركاب
هاي وعليها عواد على الأعادي كسّاب
هاي مرحوم من من خلّف
وهاي عافيه عَ من جاب
وأتبعنها بزغرودتين ايضا
هاي وطحت عَ الكرم تتفرج على جراسه
هاي ولقيت سالم نايم ومنديله تحت راسه
هاي ويا ريت من دنّق على المنديل وما باسه
هاي ويبلى بدولة سكرانين يقطعوا راسه
وتوالت الزغاريد
هاي وشفت سالم طايح طريق العين
هاي وشبريته فضّه وبارودته بالفين
هاي وقولوا لامّه وخواته لا تصيبه عين
هاي ومدخول بالله
ورجال العلي وابنه الحسين
احمرّ وجه أميرة…فقد صدمتها المفاجأة …فسالم أصغر منها عمرا…وهو ليس فتى أحلامها…صحيح أنه ولد محترم لكنه لا يزال طالب مدرسة…
ليش ما تضحكي يا أميره …وللا مش راضيه في سالم؟ قالت أمّ سالم.
زهيّة: صلي عَ النبي يا أمّ سالم…شو هالحكي؟…البنت مستحيه…أي هو احنا بدنا أحسن من سالم…وللا بدنا نصير نفهم أكثر من الزلام اللي اتفقوا؟
عاد سالم بالحامض حلو…ربط رسن البغل بشباك بيت عمّه…دخل بالحلو …وضعه أمام أبيه…أخرج أبو سالم حفنة حبات ووضعها أمام أخيه، وحفنة أمامه…وطلب من سالم أن يدخل الباقي لـ”الحريم”…
دخل سالم غرفة النساء فاحتضنته أمّه وأشبعته تقبيلا…وقالت له: سَلِّم عَ عمتك وعَ عروسك..وضع الحلو أمامهن وخرج.
أمّ سالم: روحي يا عمتي يا أميره.. البسي وزبطي حالك خلينا نروح عند الزلام ما في احد غريب ما في غير أبوك وعمّك…يا الله يا خيتي يا زهيّه.
دخلتا في الغرفة الثانية حيث يجلس أبو سالم وأخوه عواد….فقالت أمّ سالم:
والله ساعه مباركه…خير ما عملتوا …خلينا نفرح في الاولاد….وانت يا سالم…روح البس بنطلون نظيف واعزم خالاتك وعماتك ونسوان اعمامك وبناتهن كلهن…وانت يا زهيه…ودّي واحد من اولادك يعزم خواتك…خلينا نغني لنصّ الليل.
عوّاد: شو العمل يا أبو سالم بعد اليوم؟
أبو سالم: روحي يا صبحه…هاتي مية دينار…بكره اشتري لبنتك ذهب وكسوه مثل ما تريد
وان شاء الله العرس يوم الجمعة.
– لازم نروح مع بعض أنا وانت ونسواننا والعرسان.
– ولا يهمك هذي بسيطة….نتغدى في المطعم ونشتري حنّاء وحلو.
– عَ بركة الله.
وليلة الأربعاء والخميس سهره…بكره نعزم القرايب والنسايب…
– عَ إيش مستعجل…خليها اسبوعين ثلاث.
– ما هو انا نسيت أقول لك…سالم –الله يرضى عليه- سجل في دار المعلمين في بيت حنينا…بدّه يتعلم سنتين وبعدها يصير استاذ…والدوام في أول شهر تسعه.
– الله يوفقه…بس وين رايحين يسكنوا؟
هاي عندنا غرفتين…وحده منهن لسالم و”حرمته” وعند ما يخلص البناء الجديد…كله لسالم.
– ربنا يجيب الخير…شو قال البنّاء؟ ايمتى يخلص البناء؟
– والله انا فكرتها شغله بسيطه…لكنها باقيه مش مثل ما فكرت…هاي صار له اربع شهور وهو يقطع الصخر ويدق الحجار…وقال بدّه سنه حتى نصل للعقد…وبعدها بدنا سنه عَ شان نعمّر …يعني سنتين ثلاث …يكون سالم خلص دار المعلمين واشتغل استاذ..والأيام قُدّامنا ما حدا يطارد فينا…والعمر يخلص والشغل ما يخلص.
بدأت النساء يتوافدن لبيت عواد…وبدأت الزغاريد والأغاني تنطلق من أفواه مكبوته…فهذه فرصتهن ليطلقن أصواتهن في الفضاء…ويرقصن كما يحلو لهن…فصوت النساء لا يسمع عاليا إلا في الأفراح والأتراح…في الأفراح يغنين…وفي الأتراح يندبن الرجال الموتى…أمّا النساء فلا نَدْبَ لهن فـ”اللي تموت وليته…من حُسُن نيته” وحياتهن عار”عار البنات للمات”.
عاد سالم يلعب مع الصبيان ووجدها فرصة مناسبة ليأكل فيها الحلوى.
غادر”الأساتذة” أرض الوطن لاستكمال دراساتهم العليا، غادروا الجحيم بحثا عن جنّة العلم، داود الى بيروت، كايد الى دمشق، ومحمد الى موسكو، حلقوا بطموحاتهم عاليا الى ما فوق النجوم، تركوا خلفهم حكومة وطنية، وأحزابا تعمل علانية، والسباق الآن سباق علمي، سيحصلون على أعلى الشهادات العلمية، وسيعودون الى ارض الوطن للعمل كنواب للشعب في البرلمان، أو وزراء اضافة الى قيادتهم لأحزابهم.
خمسة من الشباب أنهوا الثانوية العامة، ثلاثة منهم التحقوا بكلية الشرطة، واثنان التحقا بالكلية العسكرية ليتخرجوا منها ضباطا، وعشرات الشباب التحقوا بالفرسان والشرطة والجيش، وحصلوا على رتب حسب كفاءاتهم العلمية والتدريبية، وجميعهم قابلوا المسؤولين بناء على اعلانات في الصحف، وقُبلوا بدون أيّ محسوبيات أو وساطات.
المخاتير كانوا يفخرون بأن أبناءهم أصبحوا ضباطا كبارا في الجيش والشرطة، بينما تفاخر أبو زميتان أن ابنه التحق بكلية الشرطة حسب رغبته هو ودون تدخل من أحد، كان ابو زميتان يريد ابنه معلم مدرسة، لكن سليم-الله يرضى عليه- يحب الحياة العسكرية، فيها انضباط وفيها مسؤولية، كما ينقل الأب عن ابنه.
بعد أن تخرج الضباط تزوجوا في شهر واحد، وتزوج معهم عشرة من الفرسان والشرطة والجيش، فأرّخ الأهالي لذلك العام بأن أطلقوا عليه عام”عرس العسكر”
في كل عام يتخرج العشرات من المدارس، ينهون الثانوية العامة”التوجيهي” بعد أن أصبحت الدراسة اثنتي عشرة سنة بدل احدى عشرة التي يتخرجون منها بـ”المترك”…لكن”التوجيهي” لم يركب على عقول بعض الآباء، فأصروا على أن ابناءهم انهوا”المترك”.
كثير من الأبناء تركوا المدارس بانتهاء المرحلة الابتدائية أو قبلها، اشترى كل منهم صندوقا مزركشا بمواصفات معينة، وعملوا في تنظيف ومسح ودهن أحذية الأفندية والسياح في شوارع القدس، وقرب بعض الفنادق السياحية….ولمّا اشتدّ عودهم انتقلوا للعمل في البناء، واحترف بعضهم الطراشة والدهان….
خليل الأكتع لم يترك المدرسة، فكونه بيد واحدة فهذا يعيقه عن العمل اليدوي، أو رَعْي الغنم، أو حراثة الأرض، كان والده أبو كامل يرغب في تزويجه من امرأة قوية البنية، وأن يعطيه قطيع غنم يعتاش منه بمساعدة زوجته، ويعطيه ارضا يزرعها…لكن نحافة جسمه وضعف بنيته…وتفوقه في المدرسة شفعت له….واشتد ساعده وتحسن وضعه بعد عودته من لندن بيد اصطناعية وآلاف الدنانير.
أما عدنان الأقرع فرغم فقر والده إلا أنه أصر على البقاء في المدرسة غصبا عن الجميع، سأصبح مهندسا رضيتم أم رفضتم…والأيام بيننا… وسترون أنني سأحقق ذلك.
البنات يلتحقن بالمدارس…غالبيتهن يتزوجن بعد الابتدائية، وقلة منهن واصلن تعليمهن بمساندة من إخوتهن الذين يكبرونهن عمرا، وواصلوا تعليمهم…وكثيرات ممن لم يتزوجن تركن المدرسة بعد الصف الابتدائي السادس، رضوخا للعادات، فلا يعقل لبنت”عروس” أن ترتدي “مريول”المدرسة، ولو كانت ترتدي بنطالا تحته، فعليها أن ترتدي ثوبا مطرزا كبقية نساء القرية.
************
في بداية صيف العام 1964،أي بعد مرور نصف عام على عودة خليل من رحلته الى لندن عادت بعثة الآثار البريطانية للعمل في سلوان، لكنها هذا العام وصلت الى سور القدس، تحت محراب المسجد الأقصى، وتعدت ذلك الى داخل السور عند باب المغاربة، قرب مدرسة البنات…ذهب خليل للعمل ….في اليوم الأول رأى المستر ستيفن- والده بالتبني- وابنه براون “أخ خليل بالتبني” احتضناه بابتسامة عريضة، كانت ملابسه جديدة ونظيفة هذا العام…أوقفاه بجانبهما مما أثار انتباه الآخرين من أبناء بلدته…أخبره المستر ستيفن بأن عليه أن يعمل هذا الصيف في مدرسة الآثار البريطانية، مقابل دار الطفل العربي، سيقوم بتنظيف قطع الفخار المعثور عليها في حفريات سلوان وباب المغاربة، ومحاولة اعادة تركيبها اذا ما كانت بقايا أواني فخارية قديمة محطمة، والتدقيق فيها لمعرفة اذا ما كانت تحمل نقوشا أو كتابة، وهذا ما سيقود الى العلم بتاريخها…وقال له براون:
– لك مفاجأة عندي يا brother خليل.
– ما هي؟
– بعد يومين ستعرفها…واذا قلتها لك الآن فلن تكون مفاجأة.
خليل يجلس على كرسي، قطع الفخار موضوعة في”قفاف” على طاولات، ممنوع عليه خلطها مع بعضها البعض، فكل مجموعة استخرجت من مكان واحد…وبالتالي فان امكانية اعادة تركيبها كأواني كبيرة، ينظف قطعة قطعة ويتفحصها…يبسطها على الطاولة أمامه ويراقبها…يساعده في العمل عدد من العاملين الأجانب…غالبيتهم نساء…وغالبيتهم أيضا طلاب جامعات يدرسون علم الآثار في جامعات أوروبية مختلفة، والمسؤولون عنهم أساتذة آثار أيضا ومن الجامعات نفسها، وما يشغلهم هو البحث عن آثار يهودية تدل على الوجود اليهودي في المدينة في عصورها السابقة، لتقود الى بقايا آثار الهيكل، …البروفيسورة جاسيكا الدانمركية، والأستاذة في جامعة كوبنهاجن….امرأة في منتصف الأربعينات.. من جيل فاطمة والدة خليل أو تكبرها بسنوات قليلة..يعلو النمش وجهها الأحمر المتورد…عيونها خضراء ذات بريق….شعرها أشقر يتدلى على صدرها…يتطاير مع هبات النسيم خلفها…تزيحه عن وجهها بحركة لافتة…تقترب من خليل…تبتسم له…تلاطفه…تقدم له القهوة وتحادثه…تمنع طالباتها من الاقتراب منه بالايعاز لهن بالعمل…تصطحبه معها كلما ذهبت الى الحفريات…وبعد الانتهاء من يوم العمل تصطحبه معها الى فندق “الأميركان كولوني”…خليل فرح لاهتمامها به، ويتعلم منها الانجليزية بشكل لافت….بعد العمل…براون يشتاق “لأخيه” خليل…يجلس بجانبه…كريستينا صديقة براون تريد التجوال في القدس…فهذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها المدينة….براون يستعين بخليل كي يرافقهما في جولة سياحية في القدس القديمة…البروفيسورة جاسيكا تتحمس لمرافقتهم…يسير بهم خليل باتجاه باب العمود…يتوقفون قبالة الباب…يلتقطون صورا له…يخبرهم خليل أن هذا الباب هو باب العمود…وهو الباب الرئيس للمدينة المقدسة…يتمعن خليل في الباب للمرة الأولى…فلم يخطر له على بال أن ينظر جمال السور قبل ذلك….خليل يرى صلاح الدين يعتلي السور شاهرا سيفه…. يقودهم الى داخل السور…يحاولون التهام المدينة بعيونهم…
مدينة يفوح منها عبق التاريخ…كل بناء فيها له حكاية…ويشهد على حضارة وتاريخ عريقين…خليل يعرف أسواق المدينة لكنه لا يعرف أسماءها…عبرها مئات المرات منذ طفولته المبكرة…يألفها وتألفه…لم يستغرب شيئا فيها…ولم يعجب من شيء فيها أيضا…الغربة والعجب العجاب كانا في لندن…مدينة الضباب…مدينة الأضواء الساطعة…والشوارع العريضة…والمحلات التجارية الضخمة…والحدائق العامة الواسعة…والأبنية متعددة الطوابق.
استمع بدهشة الى البروفيسورة جاسيكا وهي تشرح لهم قائلة: هذه المدينة هي الأجمل بين مدن العالم…لها رونقها الخاص…وتعاقبت عليها حضارات كثيرة…فتشكلت لوحة فنية رائعة…سعيد من يعيش فيها…وأسير لذكرياتها من مرّ بها.
سأل خليل: أيهما أجمل القدس أم لندن؟
جاسيكا: القدس هي الأجمل دائما…”لتنسني يميني ان نسيتك يا قدس”
تذكر خليل يده اليسرى المقطوعة….ولن ينسى لندن طيلة حياته…فلندن أعادت له يده المقطوعة بيد أخرى اصطناعية، وهذه المرأة تدعو بأن تنساها يمينها إن نسيت القدس…فهل ذكرى القدس عندها أغلى من يدها اليمنى؟….لم يستوعب ذلك…ولا يعنيه هذا الجنون.
عندما أطلوا على سوق باب خان الزيت وسوق الواد…كانا ينفرجان كشعبتي مقلاع…هكذا رآهما خليل وكأنه يراهما للمرة الأولى….أما هم فقد أشغلوا آلات التصوير لالتقاط الصور…خليل على عجلة من أمره….وهم متمترسون في المكان وكأنه يجذبهم اليه…أشار الى باب خان الزيت وقال: هذا يوصلنا الى كنيسة القيامة…وذاك- سوق الواد- يوصلنا الى المسجد الأقصى وقبة الصخرة، فالى أيهما تريدون الذهاب.
براون الذي زار المدينة في العام الماضي اقترح أن يذهبوا الى كنيسة القيامة أولا…أما جاسيكا فقالت: لا تستعجلوا الأمور…من يريد السياحة ففي كل شبر في هذه المدينة يوجد ما يلفت انتباهه…يجب الشبع من هذه المدينة وعادت تقول:” لتنسني يميني ان نسيتك يا قدس” فاعتبر خليل ذلك جنونا منها…وتمنى في نفسه لو أنه لم يفقد يده اليسرى، لكان أفضل له من دخول أيّ مدينة في العالم…فكيف تفرط هذه المرأة بيدها اليمنى مقابل أن لا تنسى القدس…فماذا يوجد لها في القدس؟ وماذا تعني لها هذه المدينة؟
كم عمر هذه المدينة سأل براون؟
خليل: ستة آلاف عام.
جاسيكا: ثلاثة آلاف عام.
براون: من بناها؟
جاسيكا: الملك داود وأكمله ابنه الملك سليمان واتخذها عاصمة لمملكته.
خليل: من هما سليمان وداود؟ الذي بناها الملك اليبوسي العربي ملكي صادق وأسماها يبوس واتخذها عاصمة لمملكته.
جاسيكا: انت لا تزال صغيرا ولا تعرف التاريخ جيدا…هذه المدينة اسمها أورشليم وكانت عاصمة لمملكة يهودا.
خليل: لم أسمع بهذه الأسماء من قبل.
جاسيكا: اذًا دعك من هذا الكلام..
دخلوا سوق باب خان الزيت…رائحة القهوة العربية تفوح من المكان…على يمينهم محل متخصص بطحن القهوة….الناس يصطفون أمامه لشراء القهوة…واصلوا المسير ورائحة البهارات الشرقيه تفتح الشهية…اقتربوا من محل حلويات…هذا أشهر محل للكنافة والبقلاوة..التفتوا الى المحل…دخلوه…جلسوا على طاولة…طلب خليل اوقية كنافة لكل شخص…
تذوقوها على رأس الملعقة…وقالوا: انها لذيذة جدا…الحلويات الشرقية لذيذة…بينما خليل انتهى من أكل ما في صحنه….أكلوا ببطء وتلذذ…وجاسيكا تنظر الى سقف المحل القوسي فوقها…..دفعت جاسيكا الحساب وخرجوا…..مروا بتقاطع طريق الآلام…التفتت كريستينا الى اللافتة التي تشير الى ذلك…توقفت…التفتت الى اليمين والى اليسار وقالت وهي تعمل اشارة الصليب على صدرها وجبينها:
من هنا مروا بالسيد المسيح مصلوبا…..
فقال خليل:
المسيح لم يصلب ولم يقتل وقرأ:” وما صلبوه وما قتلوه، ولكن شُبِّه لهم”.
جاسيكا: انت ممتاز يا خليل….نظرت الى قوس حجري يعلو السوق…له قواعد تتكيء على جانبي السوق….التفتت الى براون وكريستينا وقالت:
انظرا الى هذا القوس….هو وأمثاله في هذه الأسواق ليس هندسة جمالية فحسب…بل له وظيفة أخرى هي تقوية الأبنية القائمة ومنعها من التصدع….وهذه الأقواس تتكرر في اسواق وزقاق هذه المدينة.
يسيرون ببطء كطفل يحبو…والسوق مكتظ بالمتسوقين والعابرين….صدر القدس يتسع للجميع…تحتضن أبناءها وزائريها والحاجّين اليها….فكل من يدخل هذه المدينة سيجد فيها ما يهمّه ويثير فضوله…وخليل على عجلة من أمره….فلا مواصلات لقريته بعد الغروب…التفتوا الى يمينهم فرأوا درجا عريضا يعلو المحلات التجارية ويوصل الى بناء مرتفع يعلوه الصليب..وعلى الجدار لافتة مكتوب عليها(الكنيسة القبطية)…في الكنيسة مدرسة خاصة تدرس المنهاج الدراسي المصري، صعدوا الدرج وتوقفوا عند منتصفه…شاهدوا جموعا من البشر تعبر السوق بالاتجاهين…التقطوا صورا كثيرة للسوق وللمارة….والبروفيسورة جاسيكا تتحسس الحجارة….تتنهد وتقول: حجارة قديمة…أبنية قديمة…وحضارة عريقة….واصلوا المسير…انتهى سوق باب خان الزيت …الى تقاطع يتبعه سوق العطارين….وعلى اليمين الى سوق الدباغة وكنيسة القيامة…خفّت أزمة الازدحام…مجموعات من السياح تشتري التحف من المحلات السياحية….كنائس وأديرة تعلوها الصلبان…جدار يتوسطه باب يقف أمام باحة كنيسة القيامة من جهة الشرق…ومسجد يعلو مئذنته هلال يقابل المدخل الرئيس للكنيسة…الهلال والصليب يتعانقان على المآذن…
خليل يشرح لهم …هذا المسجد هو المسجد العمري نسبة الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاتح المدينة….اجتمع مع بطرك المدينة صفرونيوس في الكنيسة واتفقا على شروط تسليمها للمسلمين….وعندما حان موعد الصلاة رفض الصلاة في الكنيسة خوفا من أن يتخذها المسلمون مسجدا…خرج وصلى هناك …فبنى المسلمون مسجدا في المكان الذي صلى فيه…دخلوا الكنيسة التي تكتظ بالسياح والزائرين والحجاج المسيحيين….خليل زار الكنيسة مرتين قبل ذلك…مرة في رحلة مدرسية حيث شرح لهم المعلم عن تاريخ الكنيسة وعن العهدة العمرية، وعن جامع عمر…براون وكريستينا رسموا الصليب على صدورهم…وعندما وصلوا القبر المقدس ركعوا على رُكَبِهِمْ …رسموا الصليب مرة أخرى وقرأوا تراتيل دينية بخشوع وحزن…البروفيسورة جاسيكا لم تفعل مثلهم….كانت تلتقط الصور…وتلتهم جدران الكنيسة بعيونها…سألها خليل:
لماذا لا تصلين مثلهم؟
– أنا لا أصلي هنا.
– اذن أين تصلين؟
– في أماكن أخرى.
اعتبرها خليل مهملة بواجباتها الدينية مثله…فهو أيضا لا يصلي.
تجولوا في الكنيسة الى أن أخبرهم شرطيّ وراهب بضرورة الخروج لأن الكنيسة تغلق أبوابها في السادسة مساء.
قادهم خليل الى حارة النصارى….ثم عاد بهم الى باب خان الزيت…فباب العمود….اتجه بهم الى شارع سليمان ….أنظارهم تتجه الى سور المدينة …التقطوا صورا كثيرة له…وعند باب الساهرة توقفوا…تفحصوا البوابة…ابتعدوا الى مدخل شارع صلاح الدين….أعادوا النظر الى باب الساهرة…التقطوا صورا مرة أخرى…مشوا عائدين الى مقر اقامتهم وقلوبهم مشدودة الى المدينة.
احتسوا الجعة في صالة الفندق المكشوفة…..بينما خليل اكتفى بصحن بوظة…فهو على عجلة من أمره…يريد العودة سريعا الى بيته…قال له براون:
لا تقلق سأعيدك أنا وكريستينا الآن الى قريتك بسيارتي….
فقالت البروفيسورة جاسيكا: لا…لا…استريحا انتما وانا سأعيده الى بيته… فهناك أمور عن العمل سأتحدث معه عنها….انهض يا خليل…لنذهب الآن.
اصطحبته الى غرفتها…وقالت له:
أنا متعبة ….سأستحم وبعدها سنذهب…لم يكن أمامه خيار آخر فسكت…جلس على كرسي ينتظرها…خلعت ملابسها أمامه…القتها على السرير…دخلت الحمام بملابسها الداخلية…شرعت تستحم….نادت: خليل…اذا كنت ترغب بالاستحمام اخلع ملابسك وتعال لنستحم سوية….ازداد نبض قلبه…تسارعت أنفاسه الى درجة اللهاث وكأن الأكسجين لا يصل رئتيه…ارتبك…وتذكر ما فعلته معه ستيفاني في لندن….أظلمت الدنيا في وجهه ….حاول التخلص من وساوسه….لا…لا….لا يمكن هذا…فهذه المرأة من جيل أمّي أو أكبر منها…ستيفاني تكبرني بخمس سنوات….أما هذه فعمرها ثلاثة أضعاف عمري…مستحيل أن تفعلها…فمن غير المعقول أن تضاجع امرأة شابا من جيل أبنائها…فربما هذه المرأة تريد أن تساعدني على الاستحمام كما كانت تفعل أمّي…. يا إلهي …لكن أمّي لا تخلع ملابسها امامي ولم تعد تساعدني في الاستحمام منذ بلغت العاشرة من عمري…فهل ستفعلها هذه المرأة الدنماركية؟ ….قطعت حبل أفكاره عندما خرجت من الحمام عارية تلف وسطها بمنشفة…اقتربت منه…أمسكت رأسه بكلتا يديها…قربته من بطنها…قبلت رأسه وقالت: لا تستحِ يا صغيري…رفع رأسه وكأنه يتوسل …رأى نهديها قمرين واحد عن يمينه وواحد عن يساره….قادته الى السرير وهي تردد…ما عليك إن لم تستحم…فأنا أستمتع برائحة عَرَقِ الرجال.
خرجا بعد ساعة من الغرفة تحت إلحاح خليل، فوالداه الآن قلقان عليه…استقلت سيارتها وخليل بجانبها….واتجها الى جبل المكبر…أنزلته في قمة الجبل وهي تقول:
Good night lovely فرد عليها بالمثل.
وين كنت يا ولد؟ سأله والده.
– في الشغل.
– وين فيه شغل لنصّ الليل؟
– الساعة تسعه بعدها….بعد ما خلصنا الشغل عزمني”أخوي” الانجليزي عَ عشاء في الأوتيل.
– ليش رحت معه يا ولد….الواجب نعزمه احنا مش هو يعزمك.
– عاداتهم تختلف عن عاداتنا يا با.
– الله يلعنهم ويلعن عاداتهم….أبوه جاي معه وللا الولد وحده.
– آه…أبوه معه…بدّي أنام ….تعبان…تصبحوا عَ خير.
– وانت من أهله.
بقي خليل يتقلب في فراشه….يفكر بيومه الذي مضى….عاد بذاكرته الى لندن وستيفاني…
ماذا يريدون منا هؤلاء القوم؟…ستيفاني تريد الجنس وبقيت في بلادها…وجاسيكا…امرأة تكبر أمّي عمرا….وتريد الجنس هي الأخرى….جاسيكا تحب القدس كثيرا…فهل اعتبرتني تحفة من تحف القدس؟….هناك شباب أكبر مني …. وأكثر وسامة منّي …وأيديهم سليمة…أمّا أنا فيدي مقطوعة …وأصبحت عارا لي…أقرب الناس لي لم يتركوا مناداتي بالأكتع إلا بعد أن أصبحت أطول قامة منهم…وبعد رحلتي الى لندن صاروا يخاطبونني بالأستاذ…وأنا مجرد طالب مدرسة… فهل ملابسي الجميلة والمنمقة التي أحضرتها من لندن أهّلتني للقب استاذ….وماذا يختلف الاستاذ عن بقية البشر؟ هل عشقتني فعلا جاسيكا هذه؟ انها بروفيسورة…في بلادنا من تنهي الابتدائية تتزوج معلم مدرسة أو طبيبا أو مهندسا…فلماذا لم تختر رجلا متعلما ومن جيلها، أو عمره قريب من عمرها؟ أسئلة كثيرة دارت في رأسه ولا يعرف إجابات لها…ولا يجرؤ على الاستعانة بأحد في الإجابة عليها…وما نوعية هؤلاء النساء؟ في لندن النساء لا يستحين من شيء…يلبسن ما يُردن….ويسرحن شعرهن حسب أهوائهن…ويعملن ويلبسن البنطال كما الرجال…وها هن يعملن الشيء نفسه في بلادنا…في بلادنا النساء لا ينظرن في وجوه الرجال…ولا يلتفتن اليهم….فهل نساؤنا من طينة غير طينة هؤلاء النساء؟ في بلادنا المرأة التي تبتسم لرجل قد يكون مصيرها القتل…والرجل الذي ينظر لامرأة يتعرض للضرب والإهانة…أما هؤلاء النساء فإنهن يقدن الرجل الى سرير النوم كما يقاد الخروف الى المسلخ….لا …لا…لا يقدن الرجال كلهم…أنا من ينقاد الى أحضان النساء…صحيح أنني أشعر بالسعادة في أحضان امرأة، لكنني أخاف من العواقب…ولو علم بذلك أبي لعمل بي العجائب…واذا كان فيّ ما يغري النساء فلماذا لا أغري نساء قريتي أو بنات شعبي اللواتي يشاهدنني في القدس؟ غفرانك ربي.
بقي يتقلب في فراشه الى أن غلبه النعاس فغفا غفوات متقطعة…وحلم أحلاما وردية، وأخرى مرعبة…لن يستطيع الحديث مع أحد في ما رأى في أحلامه…فكلا الأمرين ليس في صالحه…حتى أمّه التي تحبه وتفاخر به كثيرا لن ترضى عنه لو علمت بأفعاله أو بأحلامه.
في صباح اليوم التالي استيقظ مبكرا…استقل الباص الى القدس…وصل مدرسة الآثار البريطانية في السادسة صباحا…لم يجد أحدا …جلس أمام المبنى…في السابعة بدأوا يحضرون… البروفيسورة جاسيكا آخر من وصلوا…ألقت تحية الصباح على خليل..ضمته الى صدرها…قبلته على فمه…وهي تسأله:
هل نمت جيدا هذه الليلة؟
كذّب عليها وقال: نعم …نمت نوما عميقا.
– لكنني لم أنم الا قليلا…قضيت ليلي أفكر بك….تمنيت لو أنك أمضيت ليلتك بجانبي…أنت شاب رائع يا خليل.
خليل: أمامي قطع فخار مكتوب عليها كلمات عربية….وعليها رسومات ايضا…انظري.
التقطت قطع الفخار من أمام خليل…حاولت تجميعها…أحضرت مادة لاصقة…واذا ابريق فخار متكامل…وجدوه في الحفريات الملاصقة للحرم…أمام محراب المسجد الأقصى خارج سور المدينة…قم يا خليل دعنا نذهب للموقع…استقلا سيارة وسارا باتجاه موقع الحفريات..أعمدة حجرية تظهر…وأساسات قصر ضخم….المس كنيون تنفث دخان سيجارتها التي لا تنطفئ…جاسيكا تخبرها انها استطاعت تجميع ابريق فخار عليه كتابات باللغة العربية…قرأها هذا الفتى العربي وأشارت الى خليل.
مس كنيون: أعرف ذلك…انها قصور أموية… – مع الأسف- جاءت نتائج الحفريات على غير توقعاتنا…كنا نأمل أن نجد أيّ أثر يهودي…نريد الهيكل.
جاسيكا: ومن هم الأمويون هؤلاء؟
انهم عرب مسلمون…هم من بنوا مسجد الصخرة صاحب القبة الذهبية في ساحة المسجد الأقصى، على جبل الهيكل… على بعد مئات الأمتار من هنا…
خليل: دولة الخلافة الأموية حكمت من 662م حتى 750م وكانت عاصمتها دمشق….واذا كنتم تبحثون عن آثار يهودية فلن تجدوا…هذه الأرض عربية اسلامية، ولا علاقة لليهود بها.
نظرت اليه المس كنيون مستغربة وسألته:
أين تعلمت الانجليزية ايها الولد؟
– في المدرسة.
جاسيكا: أريد زيارة هذا المسجد…والتعرف على المكان…أين الحائط الغربي؟
مس كنيون: انه الحائط الغربي للمسجد…
جاسيكا: اسمحوا لي سأعود للعمل…دعنا نذهب يا خليل…وفي السيارة سألت خليل عن أقرب الطرق للحائط الغربي…فأجاب:
أيّ حائط غربي تقصدين؟
– خذني الى المسجد الأقصى…وسأريك أين الحائط الغربي.
طلب منها خليل أن تستدير بالسيارة الى باب المغاربة…ففعلت…دخلا باب المغاربة …أوقفا السيارة وترجلا منها…مشى بها خليل الى المسجد الأقصى…وقبل أن يدخلا باحة المسجد وقعت عيناها على لافتة the walling wall فصرخت oh my God فسأل خليل ما بك؟
فأجابت: لا شيء تعال من هنا…وقفت أمام حائط البراق تلهث مرتبكة…الحائط الغربي للمسجد الأقصى…هناك فسحة عرضها حوالي أربعة أمتار…عشرات السياح يقفون أمام الحائط…بعضهم يضع ورقة صغيرة بين حجارة الحائط الذي يرتفع الى حوالي خمسة عشر مترا…أخرجت جاسيكا ورقة صغيرة وكتبت عليها بضع كلمات، ووضعتها هي الأخرى بين حجارة الحائط…التفتت الى الأبنية خلفها….مسجد قديم…وأبنية تاريخية….التقطت صورا كثيرة للحائط وللأبنية المحيطة به….وتركت المكان باكية.
خليل: ما بك؟ لماذا تبكين؟
– لا شيء دعنا نعود لسيارتنا.
– هذا هو مدخل المسجد الأقصى ألا تريدين رؤيته ورؤية قبة الصخرة؟
– لا …لا… لا أستطيع أن أدوس بقدمي في ذلك المكان؟
– لماذا؟
– هناك أشياء مقدسة مدفونة هنا…ولا يمكن أن أدوسها.
– لا يوجد شيء هنا مدفون في المسجد….بعض الصخور ظاهرة للعيان…وحتى الصخرة التي صعد منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم- الى السماء ظاهرة للعيان تحت قبة مسجد الصخرة.
– خليل …أرجوك…اعذرني…لا أستطيع دخول المكان…سأنظر اليه من بعيد…هل تعرف مكانا مرتفعا يطل عليه؟
– نعم …أعـرف… من جبل الزيتون تستطيعين رؤيته بوضوح…ومن السفوح الشمالية لجبل المكبر- قريتي- تستطيعين رؤية الأقصى أيضا.
هيا بنا…عندما مرّا أسفل مقبرة باب الرحمة…رأت كنيسة الجثمانية…رأت اللوحة الجميلة التي تعلو مقدمتها فوق الأعمدة الرخامية…ورأت مجسمين من ذهب لغزالين يتوسطهما صليب على قمة الكنيسة….كنيسة جميلة قالت تخاطب نفسها…أين جبل الزيتون سألت خليل؟
ذاك الشارع الضيق الذي بجانب كنيسة الجثمانية يوصلنا الى قمة الجبل….صعدت الشارع بسيارتها…وهي تردد: انحدار قوي يصعب على السيارات صعوده….عند قمة الجبل استدارت الى يمينها بناء على تعليمات خليل…وصلت أمام فندق الانتر كونتيننتال…أوقفت السيارة…كان المسجد الأقصى بباحاته وساحاته وقبة الصخرة واضحا لها…التقطت عشرات الصور وهي تبكي…هذه مقبرة لليهود قال لها خليل.
جاسيكا: أين مقبرة اليهود؟
– هذه المقبرة المترامية الأطراف التي تحتنا لليهود.
نظرت الى المقبرة تمتمت بكلمات لم يفهمها خليل…وازداد نشيجها…
استغرب خليل ذلك وسأل: لماذا تبكين؟ هل يؤلمك شيء؟
– أبكي شوقا الى القدس.
– ها أنت في القدس…تجولي فيها كيفما تشائين.
– أريدها لي وحدي…
– هل انت مجنونة؟ هل يوجد مدن يملكها شخص واحد؟
– دعنا نذهب يا خليل…لقد تأخرنا عن العمل …اذا افتقدتنا المس كنيون ستغضب مني…لتنسني يميني إن نسيتك يا قدس.
– سمعت هذه العبارة منك أكثر من مرة…فهل أنت تكرهين يدك اليمنى وتريدين الخلاص منها؟ أم ماذا تقصدين بها؟
– لا أقصد شيئا…لكن من يحب القدس فانه يفتديها بروحه وليس بيده فقط.
– كلنا نحب القدس…ونحب أن نعيش، وأن نموت وندفن فيها لا أن ننتحر من أجلها.
– العاشق يفتدي عشيقه يا خليل.
*****************
سالم تخرج من دار المعلمين وهو أب لطفلين، عمل مدرسا في مدرسة مخماس…استأجر بيتا في مخماس مع معلم آخر…يعود الى بيته كل يوم خميس…ويغادره الى مدرسته صباح كل سبت….اتفق مع مدير المدرسة أن يبدأ دوامه أيام السبت في الحصة الرابعة…في العاشرة والنصف صباحا…الغرف الثلاث انتهت منذ عام ولم يجر تعميرها…أبو سالم استعمل احدى الغرف مضافة….وأم سالم استعملت غرفة أخرى مطبخا للعجين والخبز…سالم يريد تعمير”البناء الجديد” غرفة نوم وغرفة صالون، والغرفة الوسطى يجري تقسيمها لتكون حماما ومطبخا…يعطي عشرين دينارا لوالده في نهاية كل شهر…ويحتفظ بخمسة دنانير مصروفا له.
أحضر ابو سالم حدادا ليعمل للغرف أبوابا وشبابيك حديدية مع حماية….العملية تكلف عشرين دينارا…أعطاه عشرة دنانير مقدما والباقي على شهرين…كل شهر خمسة دنانير عندما يقبض الأستاذ سالم… وأحضر قصّيرا…بنفس المبلغ على أن يحضر له سيارة نحاته ناعمة وطن اسمنت…لم يقبل أبو سالم تبليط البيت….البلاط ينكسر بسرعة حسب رأيه…ومدّة الباطون أقل كلفة وأكثر متانه… القصير أوعز اليهم بتمديد أنابيب مياه للمطبخ والحمام قبل القصارة…فوافق أبو سالم بعد أن أقنعه الأستاذ بأهمية ذلك.
الاستاذ سالم يتعامل مع زوجته أميرة كخادمة…..هي مخلصة بحبها له…تتفانى
بخدمته…ترعى أبناءهما ووالديه واخوانه….لا ترفض أمرا… وهي فخورة بزوجها الاستاذ …لكن الأستاذ سالم يريد زوجة متعلمة مثله…أفصح لوالده عن نواياه…فقال أبو سالم:
صحيح هي مش استاذه مثلك…ولا عارفه ربها وين حاطها…لكن هذي بنت أخوي…يعني مثل بنتي…واذا طلقتها راح أقصّ راسك….لكن اذا بدّك تتزوج عليها…فهذا شيء ربنا حلله…وأنا لا أحرم اللي حلله ربنا…
لم يعد سالم يتكلم في الموضوع، لكنه كان عاتبا على والده الى درجة الحقد…وكان دائما يتساءل: لماذا زوجني وأنا طفل يا ربي؟…لم يكن لي خيار في الزواج…ولم أكن أعي لماذا يتزوج البشر؟ لكن كثيرين من زملائي في دار المعلمين- وهم من جيلي- تزوجوا في نفس الفترة….تزوجوا بناء على رغبة آبائهم…ما هذه الحياة؟ وما هي حدود سلطة الآباء على الأبناء؟ حتى لو صممت على الزواج الآن فلن أستطيع الخروج عن سلطة أبي.
وأمّ زوجته بسمة توصي ابنتها دائما بأن تحرص على أن تنجب كل عام طفلا فـ”الأولاد اوتاد” على حسب رأيها…ولا أمان للرجال….فسالم استاذ ويقبض نهاية كل شهر راتبا محترما….فمن سيمنعه من الزواج؟
****************
جلس خليل يحتسي العصير في صالة فندق الأميركان كولوني والبروفيسورة جاسيكا أمامه تحتسي الجعة…. اشرب الجعة يا خليل كي نذهب لغرفتي وانت في أحسن حال….ظهره للباب…وقف براون وكريستينا خلفه…صاح به براون: خليل…أجاب خليل دون أن يلتفت: ماذا تريد يا براون؟…أنظر المفاجأة وصلت…هجمت عليه ….انها ستيفاني…حوطت عنقه بيديها….جلست على ركبته…مصمصت شفاهه….وجاسيكا مشدوهة تسأل: من هذه الحمقاء؟ مِن أين أتيت بها يا براون؟
براون: انها صديقة أخي خليل تعرفّ عليها في لندن…أحبته وأحبها…. لقد حضرت من لندن خصيصا من أجله…لم ترغب بإعلامه بقدومها…أرادتها مفاجأة له ليكون وقعها على نفسه أكثر حميمية…. لقد حجزتُ لها الغرفة المجاورة لغرفتك…عن إذنك بروفيسورة جاسيكا….اسمحي لنا كي نجلس أنا وكريستينا وخليل وستيفاني على طاولة….قام خليل دون استئذان من جاسيكا…بقيت وحيدة على الطاولة غبت الجعة وهي تبتلع خيبتها…
انتهى الجزء الثاني
الجزء الأول”ظلام النهار”
22-كانون ثاني-يناير 2011-01-22
جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر- القدس في 5 حزيران 1949
صدرت له الكتب التالية:
– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.
– المخاض – مجموعة قصصية للأطفال .منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين- القدس.1989.
– حمار الشيخ. منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري. منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.
– معاناة الأطفال المقدسيين تحت الاحتلال مشترك مع ايمان مصاروة، منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية – القدس آب 2002.
– عش الدبابير رواية للفتيات والفتيان ،منشورات دار الهدى – كفر قرع،تموز 2007
– الغول – قصة للأطفال منشورات مركز ثقافة الطفل الفلسطيني- رام الله2007.
– كلب البراري-مجموعة قصصية للاطفال، منشورات غدير – القدس في اواخر كانون اول 2009.
– ظلام النهار-رواية،منشورات دار الجندي للطباعة والنشر- القدس – ايلول 2010.
– أعد وحرر الكتب التسجيلية لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :
– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانوم اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
*************