أميرة-رواية

أ

جميل السلحوت

أميرة

رواية

دار الجندي للنشر والتوزيع

القدس

جميل السلحوت

أميرة- رواية

الطبعة الأولى-2014

لوحة الغلاف:الفنانة الفلسطينية لطيفة يوسف

تنويه: جميع الأسماء الواردة في هذه الرّواية وهميّة باستثناء أسماء القادة، وأيّ تشابه بينها وبين أسماء حقيقيّة هي مجرّد صدفة.

كانت فرحة عبّاس طاهر المحمود لا توصف عندما أطلّ عليه وجه  الدّاية كاترينا من داخل غرفة زوجته وهي تطلب منه البشارة، حيث قالت له بصوت تملؤه السعادة : ربّنا أنعم عليك عروسا مثل البدر….ابتسم لها وقال:

بشارتك ليرة ذهبية انجليزية مطوّقة مع سلسالها.

–       إن شاء الله ستعيش في عزّك.

–       لكن طمئنيني…كيف حال سعديّة؟ هل أستطيع رؤيتها الآن؟

–       تريّث قليلا فهي متعبة من الولادة، فهذه بكرها.

–       الحمد لله…هذه فاتحة خير علينا، سأسمّيها أميرة…لأنّها ستكون أميرة قلبي.

عادت كاترينا إلى الغرفة حيث سعديّة ووالدتها وحماتها تجلسان بقربها، فقالت الحماة أمّ عبّاس: تمنيتها ولدا، ليكون سندا لوالده.

فردّت الدّاية كاترينا: من تنجب البنات تنجب الأبناء، ولو سمعك ابنك عبّاس لغضب منك، فعندما بشّرته بالبنت طار فرحا، ووعدني بذهبة انجليزيّة مطوّقة مع سلسالها، وقال بأنّه سيسمّيها أميرة لأنّها ستكون أميرة قلبه.

عبست أمّ عبّاس وقالت: لماذا العجلة بتسميتها؟ على كلّ نحن في وقت لا ينفع فيه ولد أو بنت…حسبته سيسمّيها خديجة على اسمي…لكن حسبي الله على الظلّام واولاد الحرام.

التفتت سعديّة إلى والدتها وتغامزتا….وفي هذه الأثناء علا صوت عبّاس من شرفة المنزل ينادي سعيدا العامل في البيّارة ويقول له:

اذبح ثلاثة كباش، واحد تقاسمه أنت وزميلك فايز، وخذاه لأسرتيكما، والثّاني شقّه نصفين…نصف للدّاية كاترينا، وواحد ونصف أحضرها إلى المطبخ.

–       هل أنجبت سيدّة البيت؟

–       نعم، أنعم الله علينا بأميرة.

–       مباركة إن شاء الله وعقبى للصّبيان.

–       ولا تنسوا من الآن ولمدّة ثلاثة أيّام من يريد برتقالا من البيّارة أو ليمونا لاستهلاكه المنزلي، لا تأخذوا منه مقابلا، فهذا شكر لله على نعمته علينا بأميرة.

–       إن شاء الله ستتربّى بعزّك.

وفي هذه الأثناء خرجت الدّاية كاترينا واستأذنت بالانصراف،  فأقسم عبّاس أنّه لن يسمح لها بالانصراف قبل أن تتناول طعام العشاء في بيتهم، وسيوصلها بسيّارته الخاصّة إلى بيتها في حيّ العجمي بيافا، فالمسافة بين بيت دجن ويافا ليست طويلة، إنّها تسعة كيلو مترات، ولن يستغرق قطعها أكثر من عشر دقائق….لم يكن خيار لكاترينا سوى الرّضوخ لربّ البيت، فعادت إلى غرفة سعديّة باسمة.

لكن خديجة “أمّ عبّاس” لم ترغب بالبقاء معهنّ، فخرجت دون استئذان، مرّت بابنها عبّاس متلثّمة بغطاء رأسها وقالت له: مباركة ابنتك.

–  الله يبارك فيك يمّه…وين رايحة؟

–       رأسي يوجعني…سأذهب إلى غرفتي فمنذ مساء أمس وأنا مرابطة بجانب سعديّة…صعدت الدّرج إلى الطّابق الثاني، وجلست على كنبة في شرفة البيت الذي تتقدّم واجهته الأماميّة أقواس حجرية مزخرفة…أخرجت سبحتها…شرعت تحرّك خرزاتها وتبكي…وأطلّت برأسها عندما سمعت هدير سيّارة أبي عبّاس وهي تصطفّ أمام البيت…وازدادت بكاء عندما سمعت عبّاس يقول له:

سعديّة أنجبت طفلة يا أبي.

وردّ عليه: ألف مبروك يا بنيّ.

–       وسمّيتها أميرة.

–       تعيش وتنقل اسمها.

–       وقد أمرت الخدم بذبح ثلاثة كباش عقيقة واحتفالا.

–       وعلى الأربعين سأعمل لها حفلا كبيرا سأذبح فيه عشرة كباش.

جلسا على كرسيّين وسط حديقة الورود أمام البيت…أحضر عبّاس دلّة القهوة، واحتسيا نخب المولودة الجديدة، فقال أبو عبّاس:

اذهب يا بنيّ إلى يافا الآن، واحضر كمّية من البقلاوة، وعدة أصناف من السّكاكر احتفاء بهذه المناسبة، ولا تنس نصيب الخدم أيضا، اشترِ لهم ما يكفي حاجة أسرة كلّ منهما، فواجبهما علينا كبير، وكما قال المثل:”راعي مالك من عيالك”..

كانت الدّاية كاترينا تستمع لحديثهما، فخرجت وطرحت السّلام على أبي عبّاس وقالت:

مبروكة العروس يا أبا عبّاس.

–       الله يبارك بك…وكيف الوالدة والمولودة؟

–       الحمد لله بخير والمولودة قمر ما شاء الله.

–       الحمد لله.

واستأذنت بالانصراف قائلة: اسمحوا لي بأن   أنصرف مع عبّاس وهو ذاهب لشراء الحلوى.

لن تغادرينا قبل تناول العشاء في بيتنا، فأفضالك علينا وعلى قريتنا كبيرة. قال أبو عبّاس.

–       استغفر الله ردّت عليه بتواضع.

–       تعالي اجلسي هنا واشربي القهوة….

قبل أن يغادر عبّاس أخرج من جيبه ثلاثة جنيهات ونقدها لكاترينا وهو يقول: هذه أجرتك وثمن الذهبة الانجليزيّة التي وعدتك بها، فقال أبو عبّاس:

ومنّي جنيه مكافأة لها…انقدها أربع جنيهات يا بنيّ.

مدّت يدها على استحياء وهي تقول: هذا كثير والله…وإن شاء الله قبل الحول نبارك لكم بالصّبيّ.

سلامة خيرك فأنت تستحقين الكثير قال أبو عبّاس…فأنت من أشرفت على ولادة أمّ عبّاس عندما أنجبت عبّاس، وها أنت تشرفين على ولادة زوجته، وتشهدين ولادة ابنته…ربنا يعطيك طول العمر.

–       الله يحفظكم ويعمّر بيتكم.

ما أن أشعل عاملا البيّارة سعيد وفايز الموقد للشّواء في طرف حديقة الورود أمام المنزل، حتى طلب منهما أبو عبّاس أن يملأ كلّ واحد منهما صحنا لزوجته، فبيتاهما ليسا بعيدين، فهما يقعان في الطّرف الشّمالي للبيّارة على بعد حوالي مائتي متر من بيت أبي عبّاس، وطلب منهما أن يعودا بسرعة مصطحبين أبناءهما وبناتهما، ليتناولوا العشاء من على الموقد كيفما يحلو لهم، وليملأوا البيت  فرحا وسرورا احتفالا بالقادمة الجديدة، كما طلب من عبّاس أن يأخذ صحن شواء لزوجته، وأن يدعو حماته لمشاركتهما في الجلسة، ولتناول الطّعام بصحبتهم، أمّا أمّ عبّاس فقد دخلت غرفتها، والتزمت سريرها باكية متمارضة، فهي تعتقد أن ابنها الوحيد عبّاس لم يطلق اسمها على ابنته بتحريض من زوجته وحماته. ولمّا سألت الحاجّة زليخة والدة سعديّة عن خديجة أم عبّاس، أجاب عبّاس:

دعوها وشأنها فهذه عادتها “ما بتخلّي مركب ساير”.

بينما قالت الدّاية كاترينا: الله يسامحها، فمن المفترض أن تكون أكثر النّاس سعادة بهذه المناسبة، فهذه أول مولود لابنها الوحيد.

طبع عبّاس قبلة عميقة على شفتي سعديّة، وهو يقدّم لها على سريرها صحن الشّواء مع رغيف خبز طابون ويقول:

حمدا لله على السّلامة يا حبيبتي.

ثم التفت إلى المولودة الجديدة…رفع يدها وقبّلها وهو يردّد: الحمد لله… إنّها أميرة حقّا.

ازداد قلب سعديّة خفقانا من شدّة الفرح، صحيح أنّها كانت تتمنّى ولدا ذكرا ليحمل اسم جدّه لأبيه طاهر المحمود، لكنّها راضية بما أعطاها الله، فالتّبكير بالبنات فأل حسن…كان الأمل يرقص أمامها، ويحمل لها مفتاح السّعادة…فقالت بغنج ودلال:

حبيبي عبّاس، لو أنّك سمّيت البنت خديجة على اسم والدتك.

–       ألا يعجبكِ اسم أميرة؟

–       طبعا يعجبني… ولكنّني أحبّذ اسم خديجة وفاء لوالدتك التي أنجبتك، وكما تعلم فقد تعبتْ عليك كثيرا…وهي تريد استمراريّة اسمها- بعد عمر طويل- باسم ابنتك، فغالبيّة أبناء القرية يطلقون على بناتهم وأولادهم أسماء والديهم.

–       كلامك صحيح لكنّه لا ينطبق عليّ….فكما تعلمين أبناء القرية جميعهم يكنّونني أبا خديجة، ولا أريد ترسيخ هذه الكنية، وعندما يرزقنا الله بابن ذكر سأسمّيه “طاهر” على اسم أبي، فوالدي -أطال الله بقاءه- من خيرة الرّجال خَلْقًا وخُلٌقّا، لكنّ الحاسدين يكنّونني أبا خديجة نكاية بأبي، ولأنّ والدتي امرأة قويّة…وعلى والدتي أن تتقبّل رأيي.

–       نسأل الله أن يطيل عمر عمّي طاهر حتى يرى حفيده، بل ويشارك في زفافه، ويرى أبناءه، فعمّي رجل فاضل، ويستحق الخير كلّه.

استأذن عبّاس من سعديّة كي يعود إلى مجالسة والده وحماته والدّاية كاترينا…كانت فرحتهم كبيرة وهم يرون بنات وأبناء عاملي البيّارة سعيد وفايز يتقافزون بين الورود، ويختبئون خلف أشجار البرتقال في البيّارة…فهذه هي المرّة الأولى التي يمارسون شقاوتهم فيها أمام بيت سيّد البيت والبيّارة، وربّ نعمة والديهما….حاول فايز أن يزجر الأطفال كي لا يزعجوا ربّ البيت الكبير، لكنّ أبا عبّاس قال له:

اترك الأطفال يلهون ويلعبون كما يشاؤون يا فايز، فهذه الّليلة من أسعد ليالي العمر. فالبيوت بدون أطفال تكون خرابا.

–       نسأل الله أن يعمّر بيتك بالصّبايا والبنات يا أبا عبّاس، والمولودة الجديدة هي فاتحة العقد، وسيتبعها – باذن الله- عدد من الصّبيان.

–       ربّنا كريم…والآن تعال يا سعيد أنت وفايز….اتركا الموقد والشّواء وتعالا.

وقفا أمامه وكلّ منهما يشبك أصابع يديه، وقالا بصوت واحد: ماذا تأمرنا؟

–       الأمر لله… هذا جنيه لكل واحد من بناتكم وأبنائكم، وجنيهان لزوجة كلّ واحد منكما…اشتروا بها ملابس للزّوجات وللأبناء…واعتبارا من مساء غد سنقيم احتفالات رقص وغناء وطرب احتفالا بأميرة بنت عبّاس….فحضّروا القدور، وانحروا الجزور، وغدا سأدعو الأقارب والأصدقاء ليشاركونا فرحتنا.

–       نسأل الله أن يزيدك من نعيمه.

سعديّة التي كانت تسترق السّمع، غمرها الفرح بما تسمع وباسم أميرة لابنتها، التفتت إلى طفلتها، فرأت شعرها نسيجا من خيوط الشمس الذهبيّة ساعة الأصيل، وهو المنظر الذي كانت تحبّ مراقبته من على سطح البيت، عندما كانت الشّمس تتوارى خلف الأفق البعيد فوق البحر، إلى أن يبتلعها، فتستحمّ به لتعود مع خيوط الفجر القادم بنشاط جديد، ورأت وجهها قمرا بدرا يشعّ نورا، فيملأ البيت سعادة وسرورا، فشكرت ربّها وصلّت على أنبيائه، وقرأت المعوذّتين لتبعد عيون الحاسدين عن البيت وساكنيه.

عبّاس يحمل صحن شواء ويذهب به ليقدّمه لوالدته في غرفتها….التقى بها في منتصف الدّرج الموصل إلى الطّابق الثّاني…طرح عليها تحيّة المساء، وقال لها:

هذا عشاء لك يا أمّاه.

لم تردّ عليه التّحيّة بمثلها، وقالت: عد من حيث أتيت يا ولد…لقد ذهب الصّداع وأنا ذاهبة إلى حفلة السّمر…قالتها باستهزاء بائن….وصلت المجلس وفمها مغطى بشالها الحريريّ، لم تطرح تحيّة المساء، جلست بجانب زوجها طاهر عابسة، فقال لها:

مباركة حفيدتك يا خديجة.

–       مباركة على أهلها.

–       وأنتِ من أهلها.

–       لست من أهلها، هذه بنت سعديّة وأمّها.

استأذنت الدّاية كاترينا بالانصراف فحملها عبّاس في سيّارته ليوصلها بيتها في حيّ العجمي في يافا، في حين استأذنت الحاجّة زليخة والدة سعديّة، وانصرفت إلى غرفة ابنتها، وكأنّها لم تسمع كلام خديجة حماة ابنتها.

ابتعد بها أبو عبّاس كي لا يسمع الخدم كلامهما، وجلس بصحبتها في البرندة أمام الطابق السفليّ وسألها:

ما بك يا امرأة؟ هل ينقصك شيء؟ هل أغضبك أحد؟ لماذا لا تتركي مناسبة سعيدة لنا دون تنكيد؟

–       وأين المناسبة السّعيدة التي تتكلّم عنها؟

–       ألم تسمعي بولادة حفيدتك الجديدة؟

–       هذه ليست حفيدتي..هذه حفيدة زليخة.

–       نعم إنّها حفيدتك وحفيدة زليخة.

–       لا بل هي حفيدة زليخة وحدها.

–       وكيف لا تكون حفيدتك؟ أليس عبّاس ابنك؟

–       لو كان ابني بحقّ لاختار اسمي لمولودته…لكن “الله يجازي اولاد الحرام”.

–       ماذا تقصدين يا امرأة؟ ومن هم اولاد الحرام؟

–       أقصد زليخة وابنتها سعديّة…فهما من حرّضتا عبّاس على عدم تسمية ابنته على اسمي.

–       وكيف عرفت أنّهما حرّضتاه؟

–       القضيّة لا تحتاج إلى كثير من الذّكاء.

–       الذّكاء بينك وبينه بحور لا حدود لها يا امرأة، فدعيك من هذا الهراء، وعودي إلى رشدك، ففي ذلك مصلحة لك ولنا، وقد أمرت بإقامة الفرح ثلاث ليال متتالية، اعتبارا من الّليلة القادمة، احتفاء بهذه المناسبة السّعيدة، وإذا لم تلتزمي حدودك، ولم تشاركي في هذا الفرح فلن تبقي لي زوجة…وقد احتملت شرورك كثيرا، حتى لم تعد بي طاقة للاحتمال أكثر…هل تفهمين؟

لم تردّ…ولاذا بالصّمت…حتى عاد عبّاس…طرح السّلام فردّ الأب، ولم تتكلّم الأمّ. سأله أبوه: كيف اخترت اسم أميرة لابنتك يا عبّاس؟

–       إنّه اسم جميل فاخترته لابنتي كونها أميرة قلبي.

–       هل استشرت أحدا عند اختيارك لهذا الاسم؟

–       من تقصد؟ لم أستشر أحدا…وهل هناك شريك لي بابنتي؟

–       نعم هناك شركاء لك، فزوجتك شريكة لك، وأنا وأمّك وحماواك وشقيقاتك وأشقّاء وشقيقات زوجتك سعديّة شركاؤك، و”ما أغلى من الابن إلّا ابن الابن” وابنتك غالية على قلبي يا بنيّ. فهل استشرت أحدا منهم؟

–       لا لم أستشر أحدا.

–       حتى سعديّة لم تستشرها.

–       نعم لم أستشرها…فأنا أعرف رأيها مسبقا، وقد خالفته.

–       وماذا كان رأيها؟

–       كان رأيها أن أسمّيها خديجة على اسم أمّي!

–       وماذا كان رأي والدتها زليخة؟

–       لم أسألها ولم أستشرها، ولا أعرف رأيها إن كان لها رأي في هذا الموضوع.

وهنا قالت والدته غاضبة: أنت كاذب يا ولد، وأنت أهبل ونذل وجبان، وقد رضخت لرأييهما، فهما لا تحبّانني، وهما من أطلقتا الاسم على المولودة.

–       سامحك الله يا أمّي، ووالله العظيم أنّني لم أسمع منهما طيلة حياتي كلاما يسيء لك، ولم أشعر يوما أنّهما تكرهانك، مع أنّك دائمة الإساءة لهما، ولو سمعتً أيّا منهما تسيء لك، لما قبلتُ ذلك، ولا سكتُّ عليه.

–       لا تقسم بالله كذبا حتى لا يميت أميرتك.

استشاط أبو عبّاس غضبا وقال:

اخرسي يا امرأة، لقد تطاولت كثيرا، وانصرفي من هنا، ولا تنسي واجباتك غدا…ولولا احترامي لوالدك في قبره ولأبنائك لما بقيت على ذمّتي.

وهنا تدخّل عبّاس وقال:

صلّوا على النّبي يا جماعة، لقد اعتقدت أنّ قدوم هذه الطفلة سيكون سببا في سعادة هذا البيت، لكن يبدو أنّ العكس هو الصحيح.

فقال أبوه: لا تغضب يا ولدي، فابنتك أدخلت الفرحة إلى قلبي، وسعادتي بها كبيرة جدّا، وغدا من الًصّباح أريدك أن تدعو عمّاتك وشقيقاتك وأسرهنّ، وأنسباءك أهل سعديّة، وأصدقاءك وعائلاتهم، وسأدعو عددا من أصدقائي، لنحتفل ونقيم”الأفراح والّليالي الملاح” احتفالا بأميرة الأميرة، والآن افتح لي طريقا على غرفة زوجتك، لأهنّئها بالسّلامة وأبارك لها بالأميرة.

–       لا تحتاج إلى إذن يا أبي فسعديّة مثل ابنتك.

–       صحيح يا ولدي، لكنّ والدتها موجودة في الغرفة معها.

دخل أبو عبّاس الغرفة باسما…واستقبلته سعديّة بابتسامة عريضة، حاولت الجلوس، لكنّه منعها وطلب منها أن تبقى ممدّدة على سريرها، قبّل جبينها، وقبّلت يده اليمنى وهو يردّد: الحمد لله على سلامتك يا ابنتي، ومباركة ابنتك الأميرة، وهديّتي لك قلادة ذهب، والآن، أعطوني الأميرة كي أؤذّن في أذنها…حملتها جدّتها زليخة وهي تبسمل وتصلّي على النّبيّ، ووضعتها في حجر جدّها، نظر إليها وقبّل جبينها وهو يبسمل ويحمد الله ويصلّي على نبيّه، وانحدرت دمعة فرح من عينيه، ولمّا انتهى من الأذان بصوت منخفض ومسموع  رأى أميرة تبتسم له، أو هكذا خُيّل إليه، لكنه يؤكّد بأنّه رآها تبتسم له.

خيوط السّعادة تطوّق سعديّة، فعادت ذاكرتها إلى سنوات خلت، عندما كانت تمرّ من جانب بيّارة وقصر أبي عبّاس، وتمنّت مرّات كثيرة أن تدخل هذا القصر، وتكتشف دواخله، صحيح أنّها ابنة أسرة ثريّة، وولدت وعاشت في بيت واسع جميل، إلّا أنّ قصر أبي عبّاس له ميّزاته عن بقيّة البيوت، فهو بيت توارثه أبو عبّاس عن أبيه وأجداده، بني في أواخر القرن الثامن عشر، وسط بيّارة مساحتها ثمانون دونما، مكتوب فوق مدخله الرئيس”هذا من فضل ربّي 1778م” القصر عبارة عن طابقين، مساحة كل طابق حوالي أربعمائة متر مربع، واجهته الشرقيّة وفيها مدخله الرئيس، يتقدّمها برندة على طول الواجهة بعرض ثلاثة أمتار، تقوم على أعمدة حجريّة ورديّة اللون، أحضروها من منطقة الصليّب في رأس بيت جالا، وتعلوها أقواس حجريّة مزيّنة بطلّاقات خماسيّة الأضلاع الدائريّة، وحجارته من سفوح جبل الكرمل الغربيّة، وفي زوايا البيت الخارجيّة عند عقد الطّابق الأوّل وأخرى عند الثّاني هناك أقنان حجريّة صمّمت لتكون أعشاشا للحمام وللعصافير، وفي الجانب الغربيّ للبيت برندة بطول أربعة وعرض ثلاثة أمتار، في منتصف البيت لكلّ طابق، محاذية لغرفة النّوم الرّئيسة، لتكون متنفسّا لسيّدة البيت. وفي كلّ طابق صالونان للضّيافة، واحد بمساحة 60 مترا، مفروشا فراشا عربيّا فاخرا، تعلوه البسط الصوفيّة المنسوجة يدويّا، والمحلّاة بدلّات القهوة، ورسومات الخيول الأصيلة، وركواته من رِحال البُعران. والثّاني مساحته 40 مترا فيه أرائك خشبها مزيّن برسومات حفر يدويّ، الموجودة في الطّابق الأوّل من صناعة الشّام، وفي الطّابق الثّاني من صناعة القاهرة، وعمرها يزيد على المائة عام، ولا تزال كأنّها صنعت هذا اليوم، وتحت الأرائك سجّاد عجميّ، من نسيج بلاد فارس،  أمّا البلاط فمن القيشان القديم المزيّن برسومات وورود مختلفة، ومع أنّ عمره يزيد على المائتي عام، إلّا أنّه لا يزال يبهر ناظريه بجماله وندرته.

استحضرت سعديّة شكل البيت الخارجيّ عندما كانت تنظره من بعد، أو تمرّ من جانبه، وكانت تتمنّى دخوله لاستكشاف ما فيه، ومنظره في الّليل كان لافتا لمن يمرّ في القرية، أو يراه عن بعد، فإضاءته مهندسة بطريق تظهر البيت وكأنّه جوهرة كبيرة متلألئة، فثريّات الكريستال القاهريّة والمذهّبة قواعدها تبدو شموسا تضيء ظلمة الّليل…وها هي تعيش في هذا البيت منذ عام ونصف، من يوم زفافها لعبّاس…وهي ترى أنّها ستكون ذات يوم سيّدة البيت الأولى…خصوصا بعد ولادتها لأميرة، التي سيكون لها أشقّاء وشقيقات آخرون.

كان زواجها من عبّاس حلما يراودها هي وكلّ بنات القرية، فعبّاس شابّ خلوق متعلم، أنهى المترك سنة زواجهما، وهو يجيد الانجليزيّة بطلاقة، ووالده طاهر المحمود من وجاهات المنطقة، رجل طيّب الخلق، كريم النفس، شهم ومعطاء، وهو وحيد والديه تماما مثلما كأن أبوه وجدّه وحيدي والديهما أيضا من الأبناء الذكور، وقد ورث القصر والبيّارة عن والده، في حين تقاسمت شقيقاته الأربعة بقيّة الأراضي، وسعديّة تحلم بأن تكسر قاعدة وحدانيّة الأبناء الذّكور التي توارثتها الأسرة، وتتمنّى أن تنجب خمسة أبناء ذكور، ليكونوا سندا لها ولوالدهم ولجدّهم، وهذه أميرة فاتحة خير عليهم، وستكون اسما على مسمّى إذا ما كانت الأنثى الوحيدة بين خمسة أشقّاء ذكور….ورأت سعديّة نفسها ملكة زمانها وهي أمّ لخمسة أبناء ذكور، وشقيقتهم الأميرة أميرة، وهذا حلم ليس بعيدا عن الله تحقيقه، وهو أمنية كلّ انسان. وهي تقطع منذ الآن عهدا على نفسها بأنّها ستكون حماة طيّبة مع زوجات أبنائها، وستكون الأمّ الرؤوم لكلّ واحدة منهنّ، ولن تكرّر شخصيّة حماتها خديجة.

كان زواج سعديّة من عبّاس محض صدفة، عندما جاء والده طاهر المحمود إلى بيت والديها لتقديم واجب العزاء بوفاة جدّها المرحوم محمود عيّاش، ورأى سعديّة وهي تملأ الأواني بماء البئر الواقع بجانب البيت، وبعد أسبوع رأتها خديجة أمّ عبّاس وهي بصحبة والدتها، يوزعن التّمور والحلوى عن روح الفقيد في مقام الشيخ محمّد الزّواوي، فأعجبت بجمالها وخلقها، أمّا عبّاس فكان يراها وهو يجوب شوارع القرية على ظهر حصانه الأصيل…وهو يعرفها منذ كانا طفلين، فهو يكبرها بأربع سنوات، وعرفها أثناء دراستها في المدرسة، وعندما كان يمرّ على ظهر حصانه، كانت تتوقف وصويحباتها؛ وينظرن الحصان وفارسه ببراءة طفوليّة، وتذكّر عندما مرّ بمجموعة من الصّبايا وهي في العاشرة من عمرها عندما استوقفته، وطلبت منه أن يردفها خلفه على الحصان، فابتسم وقال لها:

عندما تكبرين سأعلّمك الفروسية وسأعطيك الحصان.

تذكرّ ذلك عندما قال له والده: حان وقت زواجك يا عبّاس، فعمرك الآن ثماني عشرة سنة…اختر الفتاة التي تريد، وأنا سأطلبها لك.

فكّر عبّاس قليلا وقال: ما رأيكم بسعديّة بنت عمر محمود عيّاش؟

ابتسم أبو عبّاس وقال: لقد رأيتها يوم العزاء بجدّها…ووضعت عينيّ عليها؛ لتكون زوجة لك، بعد مرور 40 يوما على وفاة جدّها سأطلبها لك، فهي سليلة عائلة كريمة، ويتشرّف المرء بمصاهرتهم.

وقالت أمّ عبّاس: سبحان الله” القلوب عند بعضها” وأنا رأيتها مع والدتها في مقام الشّيخ الزّواوي، وما شاء الله جمال وأدب وأخلاق ونسب رفيع.

يوم زفاف عبّاس وسعديّة كان يوما مشهودا…عندما حضر المأذون لكتابة عقد الزّواج في بيت والدي سعديّة، سأل كم عمر العروس؟

فأجاب والدها: عندما أعدم الانجليز الشهداء الثلاثة محمد جمجوم، عطا الزّير وفؤاد حجازي كان عمرها ثلاثة أيّام.

فقال الشيخ رحمهم الله فقد لاقوا وجه ربّهم في 17 حزيران-يونيو- 1930 ، واليوم 20 حزيران 1944 هذا يعني أنّ عمرها الآن أربعة عشر عاما وستّة أيّام.

سعديّة تسبح بذكرياتها الجميلة، وتستذكر غيرة بنات جيلها منها لفوزها بعبّاس زوجا…وينشرح صدرها وهي تعود بذاكرتها عندما ألبسوها ثوبا حريريّا طرّزته لها عمّتها فاطمة بيديها، وغنّت النّساء لها:

خيتا يا سعديّة يا ذهب روباصي

طِلْعِت من الدار مَنوِة راسي

نومِس يا ابوها وارفع لها الرّاسِ

خيتا يا سعديّة يا ذهب عتيقِ

وطلعت من الدار مَنوِة كلّ صديقِ

خيتا يا سعديّة يا ذهب عثملي

طلعت من الدار مَنوِة الكلِّ

****

قومي اركبي يا بنت ابو بلّوطه

والشيخ واقف والفرس مربوطه

قومي اركبي قومي اركبي من يمّك

واحنا جينا ع صيت ابوك وعمّك

قومي اركبي قومي اركبي من حالك

واحنا جينا ع صيت ابوك وخالك

قومي اركبي يا سعديّة والخيل تنقّط عَرَقْ

خلعة بيّك جبناها ذهب ما هي ورق

قومي اركبي يا سعديّة والخيل توكل عدس

خلعة خالك جبناها محمله ع فرس

جبنا الفرس يا مدلله من شانك

قومي اركبي بحياة ابوك وخالك

*************

قومي اركبي يا سعديّه

والحنتور اجا من بعيدْ

بيك ابن عيله مش ع ظنّي يزيدْ

قومي اركبي يا سعديّه والحنتور اجا يلمعْ

بيّك ابن عيله مش ع ظنّي يطمعْ

قومي اركبي يا بيضا يا مربوعهْ

شعرك رطايب شكر لربّي ع هالصورهْ

****

وهاهت والدة سعديّة:

وهاي يا ناس صلّوا ع النّبي

وهاي بدل الصّلاة صلاتين

وهاي وللي ما فرحت لسعديّة

وهاي ربنا يعمي عينيها الثنتين

وانطلقت عدّة زغريد، لكن أمّ عبّاس أعادت المهاهاة، واستبدلت اسم سعديّة باسم عبّاس، فزغردت النّساء وهنّ يضحكن.

وخرجت سعديّة وهي ترتدي ثوبها الحريريّ المطرّز، وتغطّي وجهها بالطّرحة الحريريّة الشّفّافة، لتركب حنتورا يجرّه حصانان أصيلان، وعبّاس يجلس على جانبها الأيمن، ووالدتها على جانبها الأيسر، بينما يمتطي والدها حصانا على يمين الحنتور، وطاهر والد عبّاس يمتطي فرسا أصيلا على الجانب الأيسر…والرجال يغنّون ويدبكون ويهزجون في مقدّمة الفاردة، والنّساء خلف العروسين، طافوا طرقات البلدة وسط الأهازيج والغناء والرّقص، ولم يطلقوا الرّصاص لأن الانجليز ما كانوا يسمحون للعرب باقتناء الأسلحة، فبقي مسدّسا والدي العروسين في مخبئهما.

وغنّت لها النّساء:

مَشّي رجالك قدّامك يا امّ السّبعه

هاي رجالي قدّامي ع الضّيعه

مَشّي رجالك قدّامك يا امّ الحطّة

هاي رجالي قدّامي على عكا

مشي رجالك قدّامك يا امّ الكبوت

هاي رجالي قدّامي ع بيروت

مشي رجالك قدّامك يا امّ المنديل

هاي رجالي قدّامي على الخليل

مشي رجالك قدّامك يا امّ اسواره

هاي رجالي قدّامي باب الحاره

سعديّة فرحتها تملأ الفضاء، فهي الفتاة الأولى من بنات البلدة التي تركب الحنتور يوم زفافها، بينما الأخريات كنّ يركبن فرسا أو جملا، وعندما وصلوا ساحة بيت أبي عبّاس، نزلت من الحنتور بدلال واضح وهي تتمايل بغنج على كتف عبّاس الذي أمسك بيدها اليمنى، نزل والدها عن ظهر حصانه، وأمسك بيدها اليسرى، وعند مدخل القصر قال لعبّاس ووالده:

هذه أمانة كانت بين أيدينا ونحن الآن ننقلها لكم، و”النّساء وديعة الأجاويد”.

فردّ عليه أبو عبّاس: ونحن أهل للأمانة، وستكون مثل بناتي بإذن الله.

فقال والدها: بارك الله لكم بها، وإن شاء الله ستنجب لكم ذرّيّة صالحة، وتركهم يأخذونها إلى الطّابق الثّاني، وجلس مع الرّجال في ساحة القصر، فرحة سعديّة حلّقت نسيما عليلا في الفضاء، فأحلامها صارت حقيقة مؤكّدة، فها هي تدوس جنبات القصر الّذي كانت ترهق نفسها وهي تتخيّل ما بداخله. وتحت أشجار البرتقال….وفي السّاحة نُصبت حلقات الدّبكة والضّرب على الدّفوف.

وغنّت قريبات عبّاس:

صارت لينا صارت من عيالنا

صار الحمام يدرج عَ بوابنا

صارت لينا صارت من أهل السّاحل

صار الحمام يدرج عَ المكاحل

صارت لينا صارت من اهل الدَيره

صار الحمام يدرج ع الحصيره

صارت لينا صارت من اهل الحاره

صار الحمام يدرج ع السّيّاره

التفتت الحاجّة زليخة إلى ابنتها سعديّة وسألت:

أراك وكأنّك تتحدّثين مع نفسك يا سعديّة، مرّة تبتسمين وأخرى تشيرين بيديك…لماذا لا تنامين يا بنيّتي؟

أستعيد ذكريات جميلة يا أمّي…ففرحتي كبيرة بابنتي.

–       هنيئا لك بابنتك…وعقبى للصّبيان يا ربّ…لكن عليك أن تستريحي؛ لتستعدّي ليوم غد.

طلبت من والدتها أن تطفئ الضّوء وقالت: تصبحين على خير.

غفت قليلا ورأت في نومها ليلة دخلتها…فاستيقظت ضاحكة على صراخ طفلتها…أرضعتها وعادت إلى أحلامها الجميلة.

بدأت الاحتفالات بقدوم أميرة منذ ساعات عصر اليوم الثّاني لميلادها، المدعوّون من أبناء القرية يجلسون على كراسي خشبيّة في محيط ساحة القصر الخارجيّة المحاطة بالورود، وبعضهم يستظلّ بأشجار البرتقال، بينما وجاهات القرية والمدعوّون من خارجها يجلس الرّجال منهم على كنبات في برندة الطّابق الأوّل، والنّساء جميعهنّ يجلسن ويرقصن ويغنّين في برندة الطّابق الثّاني، كلّ منهنّ تلبس أفخر ثيابها، وتتزيّن بما تيسّر لها من مصاغات ذهبيّة، وبنات الميسورين لا يُفَوِّتن الفرصة بعمل مكياج عند صالون خاشو الأرمنيّ على شاطئ بحر يافا قريبا من الميناء، خشخشة أساور الذّهب لافتة للانتباه، عندما ترفع إحداهن يدها وهي ترقص، فينحسر ردنها وكأنّها تعرض ما لديها من جواهر؛ لتغيظ بها الأخريات، في حين تضع يدها الأخرى على خاصرتها بدلال. هكذا مناسبات فرصة للشّباب والشّابات لرؤية بعضهم البعض، تماما مثلما يحصل في المواسم الدينيّة وهي كثيرة، مثل مواسم النّبيّ موسى، النّبيّ صالح، النّبيّ أيّوب، النّبيّ شعيب وغيرها، فتكون مبارزة غير معلن عنها؛  لتتسابق الشّابّات لعرض مهاراتهنّ في الرّقص والدّبكة، وكأنّ كلّ واحدة منهنّ تقول أنا الأجمل، وأنا جاهزة للزّواج، وتتنقّل عيون أمّهات من هم في سنّ الزّواج بين الفتيات، لتختار من ترغب بها لتكون عروس المستقبل لابنها. وكذا الشّباب يحاولون لفت انتباه الفتيات لهم؛ لذا فإنّهم يرهقون أنفسهم في الدّبكات الشعبيّة وهم يقفزون بخطوات وحركات محسوبة؛ مشكّلين لوحات تعبيريّة ساحرة، وقائد الدّبكة الذي يتغيّر بين وصلة وأخرى يلوّح بسيف، وكأنّه في ساحة الوغى…الفتيات يسترقن النّظر على الدّبّيكة من خلف النّساء المسنّات…. والمسنّون والمسنّات لهم شأنهم هم الآخرون، فكلّ منهم ينظر إلى قرينة كان يتمنّاها في شبابه، أو كانت عشيقة له، ولم يظفر بالزّواج منها لسبب ما، وهنّ يفعلن الشيء نفسه، يتحسرّون ويتحسّرن على ماض تستحيل عودته، وكلّ منهم ومنهنّ يبلع حسرته ويتظاهر بالعفّة والورع، والزّهد في الحياة.

عندما وصل حنّا اندراوس صديق أبي عبّاس من وادي النّسناس في حيفا، لفت انتباه الحاضرين ببدلته الأنيقة، ولباس زوجته الأوروبّيّ الفاخر، وتسريحة شعرها، وسيّارته المارسيدس السّوداء الحديثة، والعود الذي يحمله بيده اليسرى، وقفوا لاستقباله، وصافح هو وزوجته المتواجدين في البرندة…أوسعوا له مكانا للجلوس، وعندما جلست زوجته بجانبه، اقترب منها أبو عبّاس وهمس بأذنها:

تفضّلي عند النّساء لو سمحتِ يا ابنتي.

فقامت باسمة دون نقاش، وعند مدخل الطّابق الثّاني كانت أمّ عبّاس، وبناتها، وسعديّة في استقبالها، وأجلسنها في مكان يطلّ على السّاحة حيث الرّجال.

عرّف طاهر المحمود الحاضرين على ضيفه بقوله: الأستاذ حنّا أندراوس، من واد النّسناس في حيفا، صديق للعائلة أبا عن جدّ، ووالده كان من كبار التّجار في حيفا، وهو الآن من كبار المحامين في البلاد.

أمّا  اسحاق مردخاي، ويعقوب عوباديا فقد جاءا في سيّارة واحدة، وهما تاجرا حليب من سكّان حيّ المونتوفيوري قريبا من باب الخليل في القدس. وهما طيلة حياتهما يرتديان القمباز المخطّط بالّلونين الأبيض والأزرق، وتحته سروال طويل، ويضع كلّ منهما طربوشا على رأسه.

بعد وجبة العشاء حمل حنّا اندراوس عوده وشرع يعزف، ولمّا نطق العود ترك الشّباب الدّبكة والتفّوا حوله، وحتى النّساء من الطّابق الثّاني أوقفن الغناء وأنصتن للعزف، وبذكاء منه؛ ولكي يرضي الجميع، فقد حمل عوده وجلس على كرسيّ خشبيّ وسط السّاحة، فأصبح مرئيّا للنّساء أيضا، وعندما شرع بغناء قصيدة أحمد شوقي التي لحّنها وغنّاها الموسيقار محمد عبد الوهّاب ” يا جارة الوادي”

يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلامَ من ذكراكِ

مثّلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى والذكرياتُ صدى السنين الحاكي

ولقد مررتُ على الرياضِ بربوةٍ غنّاءَ كنتُ حيالها ألقاكِ

لم أدرِ ما طيبُ العناقِ على الهوى حتى ترفق ساعدي فطواكِ

وتأوّدت أعطافُ بانِكِ في يدي واحمرّ من خضريهما خدّاكِ

ودخلتُ في ليلينِ فرعَكِ والدجى ولثمتُ كالصبحِ المنوّر فاكِ

وتعطّلت لغة الكلامِ وخاطبت عينيّ في لغةِ الهوى عيناكِ

لا أمس من عمر الزمانِ ولا غدٌ جُمِعَ الزمانُ فكانَ يومَ لقاكِ

صمت الحضور طربا و”كأنّ على رؤوسهم الطّير” وأخذت النّساء يتمايلن طربا، في حين شعرت زوجته جورجيت بأنّها سيّدة الموقف، حتّى الأطفال التفّوا حوله أيضا مستمتعين بعزفه وبغنائه، وعندما أنهى الأغنية حمل عوده، وعاد إلى الجلوس في البرندة حيث كان، والشّباب يصفّقون ويصفّرون ويهتفون يريدون حنّا أن يتحفهم بالمزيد من العزف والغناء. وانضمّت النّساء إليهم أيضا.

ابتسمت جورجيت زوجة حنّا اندراوس للنساء وقالت لزينب شقيقة عبّاس:

إذا كنتن راغبات في الاستماع للعزف على العود، أحضرنه لي من حنّا، فأسرعت نادية وهبطت الدّرج مسرعة، وأشارت إلى شقيقها عبّاس، فأحضر لها العود، احتضنت جورجيت العود، وشرعت تداعب أوتاره بأصابع يدها اليمنى، وقالت سأغنّي لكنّ واحدة من أغنيات اسمهان، فقد تعلقت بها منذ أن زارت فلسطين هي والفنّانة أمينة البردي قبل سنوات في العام 1938، وغنّت في القدس ويافا… وانطلقت تغنّي لأسمهان:

عليك صلاة الله وسلامه .. شفاعة يا جد الحسنين

ده محملك رجعت أيامه .. هنية واتملت به العين

***

كرامة لله يا قاصد مكة ونيتك بالكعبة تطوف

تبوسلي فيها تراب السكة أمانة من مؤمن ملهوف

سالت دموعه وطال دعاه في يوم خشوعه ينول مناه

دي قبلتك يا نبي قدامه.. عليك صلاة الله وسلامه

ضاع صوت جورجيت أمام زغاريد النّساء، وارتفاع أصواتهن طربا، وهن يتدافعن راقصات…استمرّت في العزف لهنّ دون غناء، وعلا صراخ الشّباب وصفيرهم مطالبين بتكملة الأغنية…فلبّت جورجيت طلبهم وواصلت الغناء:

وإمتى عيني تشوف منظركم يا مدنتين فوق الحرمين

واطول مقام الحجاج اتباركم وشربوا من زمزم بقين

وفي المدينة نالوا القبول بنور نبينا طه الرسول

يا بخت زواره بإكرامه.. عليك صلاة الله وسلامه

***

يا مسعد اللي يقف ويكبر على منى وعرفات لله

ويحدف الجمرات ويعبر سايب له متمني هداه

غفر ذنوبه مدى الحياة وعاش ينوبه سواه بتقاه

في جاه نبي الهدى ومقامه.. عليك صلاة الله وسلامه

غنّت بصوت منخفض؛ سحرت النّساء بصوتها العذب، وتطاولت رقاب الشّباب من السّاحة؛ يحاولون أن يروها وأن يسمعوها، فاقترب منهم عبّاس وقال:

عيب يا شباب.

ولمّا انتهت من أغنيتها، قالت لها أمّ عبّاس:

ليتك تغنّين لنا أغنية أخرى. فردّت بصوت ناعس:

أنا لست مطربة ولا مغنيّة، وكذلك زوجي، فزوجي محام، وأنا طبيبة، لكنّنا نحبّ الغناء والموسيقى، والآن سأعزف لكنّ معزوفات راقصة بدون غناء، فارقصن كما تردن…فألهبت حماسهن وتسابقن إلى الرّقص.

وفي الطّابق الأوّل من القصر طلب عارف الكريم زوج نبيهة بنت الحاج طاهر المحمود من الشباب أن يتوقّفوا عن الغناء قليلا، وقال للحضور صلّوا على النّبيّ يا اخوان، ووجّه حديثه إلى صهره أبي عبّاس قائلا:

بعد الاتّكال على الله فإنّنا نطلب يد ابنتكم أميرة لابني خالد!

–       حيّاك الله يا أبا خالد…هذا طلب يجيب عليه والدها عبّاس.

فقال عبّاس: لا جواب عندي يا أبي وأنت موجود، فأنت أبو الجميع.

–       الله يرضى عليك…والتفت إلى صهره عبّاس وقال:

“البنت أجتكم هديّه ما من وراها جزيّه فالعريس ابننا والعروس ابنتنا”. ولنقرأ الفاتحة…وبدأت التّبريكات لذوي العروسين. لم يهضم حنّا اندراوس ما سمع فسأل مذهولا: كم عمر العريس؟

ثلاث سنوات أجاب والده.

–       وكيف تتمّ خطبة عروسين طفلين لا يعرفان ما يدور حولهما، ولا يعني لهما الزّواج شيئا؟

فأجاب أبو عبّاس: هذه عادات توارثناها.

–       وإذا لم يقبل أحد العروسين بالآخر عندما يكبران؟

–       هذا مستحيل فهما يتربيّان على قبول ذلك، وقد سبقهما كثيرون إلى ذلك.

تنهّد حنّا وقال: أستغفر الله العظيم…مبارك إن شاء الله. والتمام على خير.

استمرّت السّهرة حتى السّاعات الأولى من الفجر، وانصرف المدعوّون إلى بيوتهم، بينما بقيت بنات وشقيقات أبي عبّاس، وكذلك أصرّ أبو عبّاس على بقاء صديقه حنّا اندراوس وزوجته، فحيفا بعيدة، وجهّزوا لهما غرفة في الطّابق الثّاني بجانب غرفة نومه هو وزوجته.

أثناء التّحضير لسهرة الّليلة الثّانية حصل ما لم يكن بالحسبان، فقد تواردت الأنباء عن أنّ البوليس البريطاني قد أطلق النّار على المصليّن العرب ظهر هذا اليوم 2-11-1945  قرب جامع حسن بيك في يافا، عندما خرجوا يتظاهرون بعد صلاة الظّهر، وانضمّ اليهم آخرون في ذكرى وعد بلفور، واحتجاجا على استمرار تسهيل الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين، وسقط من بينهم ستّة شهداء، وأصيب العشرات، وكان من بين الشّهداء حمدان عبد الكريم ابن بيت دجن، وشقيق عارف زوج نبيهة بنت أبي عبّاس، فقرّروا الغاء الاحتفال، وتوجّهوا جميعهم إلى بيت عائلة الشّهيد، ومن هناك صلّوا عليه في مقام سعد الأنصاري، وواروه التّراب وسط غضب الجموع الحاشدة والغاضبة. وشارك حنّا اندراوس في تشييع الجثمان، وألقى كلمة مؤثّرة عند قبر الشّهيد محذّرا من مغبّة التّهاون مع الهجرات اليهودية، وكاشفا بأنّ بوليس الانتداب البريطانيّ شريك في عمليّات تهريب المهاجرين اليهود، وجزء من المهاجرين اليهود ممّن حاربوا مع جيوش الحلفاء في الحرب الكونيّة الثّانية، أيّ أنّهم مدرّبون على استعمال السّلاح، ممّا يؤكد أنّنا مقدمون على حرب طاحنة، وأكّد بأنه قد رأى بعينيه قوارب بريطانيّة تنقل المهاجرين من بواخر تتوقف في عرض البحر قبالة شواطئ حيفا، وتنزلهم قوارب صغيرة على الشّاطئ بعيدا عن الميناء، ومن هناك تنقلهم سيّارات إلى الكيبوتسات اليهوديّة تحت حماية البوليس البريطانيّ الذي يغلق الشّوارع التي يعبرونها أمام المواطنين العرب. ودعا المواطنين إلى التمسّك بأرضهم، وإلى اليقظة من المخطّطات البريطانيّة التي تحاك ضدّهم، من أجل تنفيذ وعد بلفور، واقامة وطن قوميّ لليهود على الأرض الفلسطينيّة.

وبعد الانتهاء من الدّفن أقسم الحاج عبّاس على غداء الحضور جميعهم في بيته، فلبّت عائلة عبد الكريم الدّعوة، وحضر معهم عدد من وجاهات العائلات الأخرى، وهكذا كانت الّليلة الثّالثة لميلاد أميرة، فأصبح المكان للبكاء والعزاء بدل الرّقص والغناء…فالتزمت سعديّة غرفتها تعتني بطفلتها، وتسأل الله أن لا يكون حظّها عاثرا.

2

صباح اليوم التّالي أذاع القسم العربيّ في هيئة الإذاعة البريطانيّة أنّ منشورين وزّعا في المدن الفلسطينيّة، واحد باسم الهيئة العربيّة العليا في فلسطين، والثّاني باسم عصبة التحرّر الوطني في فلسطين،  وهذا اسم لم يسمع به أحد من قبل، وركّزت الإذاعة على أنّ منشور عصبة التّحرّر يحمل أفكارا جديدة غير مألوفة في منشورات وبيانات الهيئة العربيّة العليا، حتّى أنّ صياغته جاءت بلغة سليمة، وذات دلالات، ويعتقد المراقبون بأنّ من يقف خلف هذا البيان هم مجموعة من الشّباب الذين أنهوا تعليمهم الجامعيّ في بيروت، والقاهرة، وعدد من العواصم الأوروبيّة، وواضح أنّهم يعرفون ما يريدون، حيث ركّزوا على دور المنتدبين البريطانيّين في العمل على تنفيذ وعد بلفور؛ لإقامة وطن قوميّ لليهود في فلسطين، وحذّروا الاقطاعيّين العرب من مغبّة بيع أراضيهم للمهاجرين اليهود.

وقع منشور عصبة التّحرّر كما الصّاعقة على رؤوس قيادة الهيئة العربيّة العليا، وتحسّبوا من بروز قيادة بديلة لقيادة كفاح الشّعب الفلسطينيّ، خصوصا وأنّ توقيع البيان يحمل توقيع”عصبة التّحرّر” أيّ أنّ هناك حزبا قد تشكّل، وهنا مكمن الخطورة، فبثّت عيونها للتحرّي عن الأشخاص الذين صاغوا ووزّعوا هذا البيان اللافت، في حين بدأ البوليس والمخابرات البريطانيّة بمراقبة خرّيجي الجامعات، ومباغتتهم وتفتيش بيوتهم بدقّة، واعتقالهم للتّحقيق معهم.

عندما وصل حنّا اندراوس وزوجته بيتهما، وجد استدعاء له لمقابلة البوليس البريطانيّ فورا، وذلك بعد أن فتّشوا بيته وبيت والديه ومكتبه بدقّة أثناء غيابه، وفي مركز التّحقيق قدّموا له نسخة من بيان عصبة التّحرّر، واتّهموه بالمشاركة في صياغته، فأنكر ذلك، موضحا أنّه كان في اليومين الماضيين في بيت دجن، للمشاركة في احتفالات أسرة طاهر المحمود الصّديقة بمولودتهم الجديدة”أميرة”. فهزّ المحقّق رأسه وقال:

هذا يعني أنّك شاركت في جنازة حمدان الكريم…نحن نعلم ذلك…ونعلم أنّك قد ألقيت كلمة تحريضيّة في الجنازة…وهذا اخلال بالأمن، وتحريض على التّعايش المشترك في هذه البلاد.

فردّ حنّا: طبعا شاركت في جنازة الشّهيد، وألقيت كلمة تأبينيّة، ليس فيها تحريض كما تدّعون، وإنّما كشْف لحقائق تقومون بها أنتم لتخريب الحياة في هذه البلاد.

المحقّق: ألم تحرّض على اليهود؟

لا لم أحرّض… بل على العكس كان يهوديّان فلسطينيّان في سهرتنا قبل المجزرة التي ارتكبتموها في يافا بساعات، ومشكلتنا ليست مع اليهود ولا مع اليهوديّة، وإنّما مع الصّهيونيّة التي تهجّر اليهود بمساعدتكم إلى بلادنا لاقتلاعنا منها.

–       اليهود ضحايا للنّازيّة ويجب أن تتعاطف معهم الشّعوب.

–       نحن نتعاطف مع الضّحايا كلّهم، ولسنا مسؤولين عن النّازيّة، ولم نضطهد اليهود يوما، وإذا كنتم ترغبون عن التّكفير عن مذابح النّازية فاعطوا اليهود وطنا في بلدانكم.

–       أنت تعلم أنّ المملكة المتحدّة كانت رأس الحربة في محاربة النازيّة.

–       وأعلم أنّها قد أعطت لليهود وعدا باقامة دولة لهم في فلسطين قبل أن تولد النازيّة.

–       ماذا تقصد؟

–       اقصد أنّكم البريطانيّون متآمرون على شعبنا وعلى وطننا.

–       ما تقوله ورد في بيان ما يسمّى عصبة التحرّر التحريضيّ.

–       قلت لك بأن لا علاقة لي بالبيان.

–       اسمعني جيّدا…لم آتِ بك هنا للنّقاش، ولكنّني أحذّرك من مغبّة المشاركة في اصدار البيانات التحريضيّة، كما أحذّرك من الانجرار خلف الأفكار الشّيوعيّة التي يحاول الاتحاد السوفييتي نشرها في المنطقة…واعلم أنّك مراقب، ونحن لسنا غافلين عمّا يجري على السّاحة المحليّة…وإذا ما أمسكنا بك متلبسا فسيكون عقابك شديدا…ولا وقت لديّ لأقضيه معك…انصرف الآن وآمل أن لا ألتقيك ثانية في هذا المكان.

وفي يافا كان طاهر المحمود وابنه عبّاس في التحقيق أيضا…تفاجأ طاهر المحمود بأن المحقّق البريطانيّ كان من معارفه، وممّن زاروه في بيته، وتناولوا فيه الطّعام أكثر من مرّة…أحضر له المحقّق فنجان قهوة وقال:

أنت انسان طيّب يا أبا عبّاس، ولست بحاجة إلى الآخرين، ويجب أن لا تنفق الأموال التي رزقك بها الله على تكريم أناس مشاغبين، أو ممّن يعتدون على قوّاتنا، ويلقون حتفهم….فكيف تقيم وليمة فاخرة لذوي المغدور حمدان عبد الكريم؟ وكيف تشارك في جنازة انسان يعادينا؟ وكيف تجمع المشاغبين في قصرك؟

–       الشهيد حمدان عبد الكريم قريبي وابن بلدتي، وهو انسان مسالم لم يعتد على أحد، والعادات والواجب تلزمني بالمشاركة في جنازته، وعمل وليمة لذويه.

–       لكن في ذلك تشجيع للمناوئين لنا.

–       ألا تعلم أن الشّعب كلّه يعادي وجودكم في بلادنا، ويستعجل الخلاص منكم.

–       نحن لسنا قوّة استعماريّة، وإنّما ناشرو حضارة وتقدّم، ولا أطماع لنا في بلادكم، ووجودنا عندكم هو لمساعدتكم…ألم نحارب من أجل تخليصكم من العثمانيّين وظلمهم، وفتحنا لكم مدارس ومستشفيات، وقمنا بتشغيلكم، وأخرجناكم من مجاعة عشتموها في أواخر عهد العثمانيّين.

–       لكنّ العثمانيّين لم يأتونا بالمهاجرين اليهود لاقتلاعنا من وطننا، واحلالهم مكاننا.

–       أنا لست مهتما بالسّياسة وما يهمّني هو الأمن.

–       وأنا لا أهدّد أمن أحد.

–       ولا أريدك مساعدة من يهدّدون أمننا، وحنّا اندراوس الذي كان في بيتك يحمل أفكارا هدّامة لنا ولكم، فأريدكم أن تتجنّبوه.

–       حنّا اندراوس شابّ متعلّم ومحام معروف، وابن تاجر ثريّ ومعروف.

–       صحيح… لكنّ المتعلّمين من أبنائكم يحملون أفكارا غريبة.

–       على العكس فهم قمّة في الأخلاق والتّهذيب.

–       أريدك أن تحافظ على ابنك وأسرتك، فالأوضاع لا تنذر بخير في هذه البلاد.

–       وهل أنا بحاجة إلى نصائح للحفاظ على أسرتي؟

–       أقصد أن تبعد ابنك عن المخلّين بالأمن….والآن بامكانك أن تنصرف أنت وابنك، وأتمنّى لكما السّلامة.

عاد طاهر المحمود إلى بيته وهو “يضرب أخماسا في أسداس” فالأوضاع غير مستقرّة، وهي في توتّر متصاعد، ولا بوادر للانفراج…ومع أنّ السّياسة لا تعنيه، إلّا أنّه غير مطمئن لما يجري، فالقلاقل تسود معظم المدن والقرى، والانجليز يدّعون الحياد وهم منحازون لصالح اليهود في تصرّفاتهم جميعها، ويسمحون لهم باقتناء السّلاح والتّدرّب عليه، بينما يشنقون العربيّ إذا ما وجدوا بحوزته سكّينا، أو رصاصة فارغة…فالتفت إلى ابنه عبّاس وسأله:

كيف ترى الأمور يا عبّاس؟

–       لا أدري ماذا سأقول لك.

–       ألا تتابع الأخبار والأحداث؟

–       أتابعها…والواقع لا يبشّر بخير.

–       وما العمل؟

–       الله أعلم.

–       نسأل الله أن تكون العاقبة خيرا.

–       آمين….قالها وخرج إلى غرفة نومه….احتضن طفلته أميرة…قبّلها على وجنتيها…أعادها إلى سريرها وخرج…سألته زوجته:

إلى أين يا عبّاس؟ فلم يلتفت إليها ولم يجبها…استقل سيّارته وسار على غير هدى  يبحث عن شمس رآها غزالة تطاردها الوحوش.

3

للمرّة الأولى شعر طاهر المحمود بقلق أرّقه…خرج من غرفة نومه…جلس على كرسيّ في إحدى شرفات القصر…روحه تجوب البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن غربها إلى شرقها….استعاد زمن العثمانيّين وترحّم عليه…صحيح أن عساكرهم طغت وتجبّرت، لكنّهم لم يأتونا بأغراب لاقتلاعنا من بلادنا…انتظر ابنه عبّاس حتى عاد في ساعات الفجر، سأله:

أين أمضيت ليلك يا عبّاس؟

–       عند شقيقتى زهرة في الرّملة.

–       وكيف حالها وحال أبنائها وزوجها؟

–       بخير.

–       ألا تلاحظ يا ولدي أنّ الأوضاع غير مستقرّة، وأن الطّرقات لم تعد آمنة؟

–       هكذا هو حال بلادنا دائما.

–       أعرف يا ولدي…ولكنّ الحذر مطلوب.

–       “المكتوب ع الجبين بتشوفه العين”.

–       أنا لا أعترض على قدر الله وقضائه…وأضاف بلهجة حزينة باكية:

لكن لا تنسّ أنّك ابننا الوحيد، وإذا ما حصل لك مكروه –لا سمح الله- فإنّنا سنضيع، ولن يعود أحد يذكر أباك وجدّك…فارحمني يا ولدي…وارحم طفلتك الرّضيعة.

احتجّ عبّاس على ما يقوله والده وتساءل غاضبا:

لماذا تقول ذلك يا أبي؟ ولماذا كلّ هذا الخوف؟ وحياتنا ليست أغلى من حياة الآخرين.

–       أقول ذلك يا ولدي لأنّني أرى الشّباب يتساقطون يوميّا…وأعداد الضّحايا تزداد يوما بعد يوم…بسبب وبدون سبب….وحرصا منّي عليك فإنّني أقترح أن نبيع مصنع البلاط في يافا…فعندنا خيرات تكفينا لجيلين قادمين، والبيّارة تكفينا.

–       مصنع البلاط يا أبي ورثتَه عن جدّي- رحمه الله- وانتاجه من البلاط القاشاني فريد من نوعه ورائج، والتفريط به ليس في مصلحتنا… وليتنا نستطيع تطويره، وزيادة الانتاج فيه لتلبية طلبات السّوق.

–       لكنّ حياتك يا ولدي أغلى من المصنع، ومن الفلوس.

–       وهل حياتي مرتبطة بوجود مصنع البلاط أو عدمه؟ قالها مستنكرا.

–       ما قصدته أنّ يافا مستهدفة أكثر من غيرها…فعساكر الجنود كثيرون فيها بسبب الميناء، وهي قريبة من التّجمّعات اليهوديّة في حيّ تلّ الرّبيع.

–       لا شأن لي بهم، فأنا أجلس في مكتبي في المصنع…ولا أتجوّل في شوارع المدينة إلّا لقضاء حاجات ضروريّة.

كانت خديجة أمّ عبّاس تسترق السمع لحديثهما من مخدعها، فخرجت تطارد النّعاس من عينيها وقالت:

لا نريد مصنع الطّوب ولا غيره…بِعْهُ غدا يا طاهر…وعبّاس من الآن يبقى في البيت… يراقب البيّارة، ويكون تحت عيوننا، وإذا ما احتجنا شيئا من يافا، فستذهب أنت يا طاهر لاحضاره….وسنبقى على هذا الحال حتّى يفرجها ربّنا.

ابتسم أبو عبّاس وسأل زوجته مازحا:

هل تحرصين على عبّاس وتفرّطين بي يا خديجة؟

–       فردّت عليه ضاحكة: أنت عشت ما فيه الكفاية…وعبّاس لا يزال في بداية حياته التي هي أغلى من حياتك وحياتي وحيوات النّاس جميعهم.

فقال عبّاس: ربّنا يحفظكم، وسلامتكما عندي تعادل سلامتي وأكثر…والآن دعونا ننام ونأخذ قسطا من الرّاحة…تصبحون على خير.

في غرفة نومهما كانت سعديّة تجلس على سريرها…قلبها يشتعل حسرة، وعيناها نبع ماء يتساقط دررا تنساب على وجنتيها…ارتبك عبّاس عندما رآها جالسة تبكي فسألها: لماذا أنت مستيقظة وتبكين؟

تحشرجت حنجرتها ولم تتكلّم….اقترب منها ومدّ يديه ليحضنها يريد تقبيلها…مدّت يدها اليمنى وأبعدته عنها….تمدّدت على الفراش وتدثّرت وقد أدارت ظهرها له…التصق بها ووضع يده على شعرها وهو يسأل:

ماذا جرى لك يا حبيبتي؟ هل أغضبك أحد؟

فردّت باكية: خروجك مساء بهذه الطّريقة أغضبني، وعدم اخبارك لي عن المكان الذي ذهبت اليه زادني غضبا.

–       ولو عرفت المكان فماذا سيفيدك ذلك؟

–       إذا كانت معرفتي بمكان حبيبي وزوجي لا يفيدني، فما الذي سيفيدني؟ قالتها غانجة…ضمّها إلى صدره وأشبعها تقبيلا…حلّقا في عالم النشوة…وضعت رأسها على صدره…وقالت له بدلال:

كيف ترى الأوضاع في هذه البلاد يا حبيبي؟

–       على كفّ عفريت.

–       وهل سنبقى متفرّجين؟

–       وما الذي نستطيع فعله؟

–       الرّجال يبيعون مصاغات نسائهم؛ ليشتري كلّ منهم بندقية؛ ليدافعوا بها عن وطنهم وشعبهم…ونحن الحمد لله بألف خير…فلماذا لا نشتري بندقيّة؟

–       أنت تعلمين أنّ الانجليز يعدمون الفلسطينيّ على رصاصة فارغة، فما بالك إذا ما أمسكوا به مع بندقية؟

–       الانجليز يا حبيبي أساس مصائبنا…وإذا ما اشترينا بندقيّة فلن تكون للزّينة والاستعراض، بل سنقاتلهم بها.

–       ومن سيقاتلهم؟

–       أنا وأنت.

نزلت كلماتها على عبّاس كما الصّاعقة، فانخرس مشدوها ممّا سمع….وقالت له وهي تعبث بالشّعر النّامي على صدره:

هل أغضبك كلامي يا حبيبي؟

–       لا…لم يغضبني، لكنّه فاجأني….فنحن لا نعرف من أين سنشتري السّلاح، ولا نجيد استعماله.

–       هل للسّرّ عندك مكان؟ قالتها همسا.

–       وهل ترينني ثرثارا يا امرأة؟

–       أنا أعرف من يأتينا بالسّلاح ويدرّبنا عليه إذا قرّرنا شراءه.

–       أنتِ؟ وكيف يكون ذلك وأنتِ لا تخرجين من البيت؟

–       إذا وافقتَ سأخبرك بكلّ شيء.

–       أنا موافق من هذه الّلحظة.

–       عندما أخذت ابنتنا أميرة لمباركتها في مقام سيدنا سعد الأنصاريّ، اختلت بي سيّدة يافاويّة بعد أن عرفت من أنا، وشرحت لي عن الأحوال السّيّئة في البلاد، وقالت بأنّنا على أبواب حرب طاحنة، وإذا لم نستعدّ لها فسنهلك بسهولة. وقالت بأنّها تستطيع تأمين السّلاح لمن يريده ويدفع ثمنه، كما أنّها تجمع تبرعات لشراء السّلاح لمن لا يملك ثمنه من الثّوار، وقد أعطيتها خمسة جنيهات تبرّعا.

–       وما يدريك أنّ هذه المرأة جاسوسة للانجليز، وأنّها مدسوسة عليك لتخريب بيوتنا؟

–       يستحيل ذلك، فهي على علاقة بجماعة الجهاد المقدّس التي يرأسها عبد القادر الحسيني، كما أنّها رئيسة “جمعيّة زهرة الأقحوان” في يافا.

–       هل تقصدين مهيبة خورشيد؟

–       نعم…وكيف عرفتها؟

–       سبق وأن جاءتني في مصنع الطّوب وطلبت تبرعات لدعم الثّورة….وهي فتاة متعلّمة، وزميلاتها متعلّمات أيضا.

تململ قليلا وقال: “خلّينا نخوض الميّة بغيرنا”؟

–       كيف؟

–       سعيد وفايز الّلذان يعملان عندنا في البيّارة شخصان رائعان ومؤتمنان، ويحفظان الأسرار…سأرسل واحدا منهما لشراء بندقيّة والتدرّب عليها.

–       وأنا من سيدرّبني؟ هل أذهب إلى مهيبة؟

–       تريّثي…بعد أن أتدرّب أنا سأدرّبك.  والآن دعينا ننام قليلا.

–       تصبح على خير…قالتها وهي تتوسّد ذراعه الأيسر، وعقلها يناجي قلبه.

*****

طاهر المحمود يقضي يومه في مصنع البلاط، وابنه عبّاس يشارك العمّال عملهم في البيّارة، يستقلّ سيّارته ويزور شقيقاته وعمّاته، ويسامر أصدقاءه من أبناء البلدة…طلب من فايز العامل في البيّارة أن يرافقه لزيارة القدس، وتأدية صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، فسبقتهم قلوبهم تهفو إلى المدينة المقدّسة، تجوّلوا في حاراتها وأزقّتها وأسواقها…دخلوا كنيسة القيامة وزاروا كنيسة العذراء…أدهشهم البلاط الذي في الكنيسة، فهو رخام كما المرآة المصقولة، تمعّن فيه عبّاس، وتمنى لو أنّه يستطيع تصنيع مثله في مصنع البلاط في يافا…مرّوا بباب النبيّ داود في الجهة الجنوبيّة من سور المدينة التّاريخيّ، وواصلوا مسيرهم باتجاه باب المغاربة؛ ليدخلوا المسجد الأقصى من هناك…هلّلوا وكبّروا وحمدوا وشكروا الله كثيرا عندما اكتحلت عيونهم بمنظر الأقصى المهيب، وزخرفة مسجد الصّخرة المشرّفة، وصلّوا على خاتم النّبيّين وهم يتذكّرون عروجه إلى السماوات العليا من هذه البقعة المقدّسة…صلّوا ركعتي تحيّة المسجد في رواق قبّة الصّخرة، ثم استظلّوا بأحدى القباب، ودخلوا المسجد القبليّ ليؤدّوا الصّلاة، وهناك استمعوا لخطبة الصّلاة من الشّيخ ياسين البكري، والذي أكّد فيها على أنّ الأقصى جزء من العقيدة، فهو قبلة المسلمين الأولى، ومعراج الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأحد المساجد الثلاث التي تشدّ اليها الرّحال، وأنّ ثواب الصّلاة فيه بخمسمائة صلاة، وأنّ حائط البراق جزء لا يتجزّأ من هذا المسجد، وحذّر من ازدياد خطورة الهجرات اليهوديّة إلى البلاد، برعاية البريطانيّين، الذين يعملون على تنفيذ وعد بلفور، باقامة دولة لليهود في فلسطين، وقال بأنّ ساعة الحسم قد اقتربت، وأنّ الدّفاع عن الأرض ومقدّساتها فرض عين على كل مواطن.

استمع عبّاس وفايز للخطبة بانتباه شديد، أدّيا صلاة الجمعة، وبعدها أخذ بعض المصلّين ينصرفون، في حين بقي البعض انتظارا لصلاة العصر، وحينما خرج الشّيخ ياسين من المبنى القديم، لحق به فايز، وصافحه بحرارة، وانتحيا جانبا لبضع دقائق…وافترقا ليعود فايز ويجلس بجانب عبّاس، الذي سأله بدوره:

من أين تعرف هذا الشّيخ؟

–       عرفته من خلال صلاتي في المسجد الأقصى أيّام العطلة القليلة التي نأخذها من عملنا في البيّارة، كما أنّه زارنا عدّة مرّات في البلدة في بيت دجن، وأمّ بنا الصّلاة أكثر من مرّة في مقامي سعد الأنصاريّ والشيخ محمد الزّواوي…كما أنّ له عدّة أصدقاء في البلدة.

–       يبدو أنّ هذا الرّجل مسلم حقيقيّ تقيّ نقيّ ويكره الانتداب…ويخاف كثيرا على المسجد الأقصى.

–       بل يخاف على البلاد كلّها….ولماذا أنت مهتمّ به؟

–       لأنّني أيضا  خائف على مصير هذه البلاد…وأحبّ من يخافون عليها، ويدافعون عنها.

–       لكنّك مشغول بالبيّارة وبمصنع البلاط…ولا ينقصك أيّ شيء.

–       وهل في ذلك عيب؟

–       أعوذ بالله…بل هو واجب، لكن يجب الانتباه بأنّ هذه الخيرات لن تدوم لأحد إذا لم نحمِ البلاد من الطّامعين بها.

نزلت كلماته عاصفة هزّت كيان عبّاس، فتنهّد وسأل:

وكيف نحمي البلاد؟

–       بالدّفاع عنها….وأنت تعلم بأنّ هناك ثوّارا يهاجمون القوّات البريطانيّة المستعمرة، وتجمّعات المهاجرين اليهود، والشّهداء يسقطون يوميّا…ويلحقون الخسائر بالبريطانيّين الذين يخطّطون للرّحيل عن البلاد بعد تسليمها لليهود.

–       وأين يتواجد هؤلاء الثّوّار؟

–       إنّهم من أبناء البلاد، ومنهم من جاء من مناطق بعيدة…أمثال الشيخ الشّهيد عزّ الدّين القسّام رحمه الله…فقد جاء من سوريا للدّفاع عن فلسطين، واستشهد فيها…وغيره جاؤوا من شرق الأردنّ، ومن مصر ولبنان وحتى من المغرب العربيّ.

–       ومن أين لك هذه المعلومات؟

–       من النّاس.

–       ولماذا لم أسمع بها أنا؟

–       لأنّك مشغول بحياة الّلهو والتّرف…ووالدك ربّاك على هذه الحياة…صحيح أنّه رجل طيّب وكريم، لكنّه مشغول بالدّنيا عن الآخرة.

–       وأنت ما الذي يشغلك؟

–       تشغلني الدّنيا والآخرة معا…قالها ضاحكا.

خرجا من بناء المسجد القبليّ…جلسا تحت شجرة زيتون في ساحات المسجد يزيد عمرها على الألفي عام، تحسّس عبّاس ساق الشجرة الضّخم وقال في نفسه:

لن أكون إلّا شجرة زيتون في هذا الوطن…والتفت إلى فايز وسأل:

كيف نستطيع الوصول إلى الثّوّار؟

–       لماذا؟

–       لأشتري سلاحا وأقاتل معهم.

–       لن يقبلوك…قالها فايز وهو يضحك قهقهة.

–       ويحك….ولماذا؟ قالها عبّاس والشّرر يقدح من عينيه.

–       لا تغضب يا عبّاس…في الثّورة قانون لا يسمح لوحيد والديه بالمشاركة في الأعمال الفدائية….لأنّ الثّورة رحيمة بأبناء شعبها، ولا تريد أن تترك مآسي لا تمحى.

–       لكنّني لست وحيدا، فلي أربع شقيقات.

–       لكنّك الابن الذّكر الوحيد.

–       وما أدراك بقانون الثّورة هذا؟

–       اسمعني جيّدا يا عبّاس…هل أنت على قناعة تامّة بضرورة المشاركة في الثّورة؟

–       وهل تشكّ في ذلك؟

–       أكثر ما أخشاه أن يكون  قرارك عاطفيّا بعد سماعك خطبة الجمعة؟

–       قراري ليس عاطفيّا، وليس ابن هذا اليوم…وأنت هل لك علاقة بالثّورة؟

–       نعم أنا عضو في الجهاد المقدس.

–       منذ متى؟

–       منذ سنوات.

–       أريد أن أكون معكم.

–       لن تستطيع …فأنت وحيد والديك…والثّورة لا ينقصها رجال، وإنّما ينقصها المال والسّلاح…وبامكانك أن تتبرّع لهم بالمال ليشتروا به سلاحا لمن لا يملك ثمن سلاحه، ولمساعدة عائلات الشهداء.

أخرج عبّاس من جيبه عشرة جنيهات وقال لفايز:

خذ هذه للثّورة، وسأدفع مبالغ أخرى لاحقا.

ابتسم فايز وقال: ردّها إلى جيبك، فأنا لست العنوان لجمع التبرّعات.

–       وما العمل معك يا فايز؟ هل تمازحني أم تكذب عليّ؟

–       لا أمازحك ولا أكذب عليك…انتظر حتى صلاة العصر…وإن كنت على عجلة من أمرك…تعال معي.

–       هيّا بنا.

خرجا معا وسارا باتّجاه باب العامود عبر طريق الواد…طلب فايز من عبّاس أن ينتظره في المقهى…وعاد إلى سوق “خان الزّيت” غاب حوالي عشر دقائق، ورجع بصحبة الشيخ ياسين…جلسا بجانب عبّاس، احتسوا القهوة…ودفع عبّاس عشر جنيهات للشيخ ياسين..وانفضّت الجلسة.

في طريق عودتهما إلى بيت دجن، شعر عبّاس أنّ القدس تحتضنه بحنان الأمّ الرؤوم، تملأ جسده دفئا، وتشحنه بالقوّة، ولمّا أطلّ على السّاحل رأى يافا تصفّق له باسمة، وتمدّ ذراعيها لتطوّق بلدته بيت دجن بجناحيها، فهي ثغر البلاد الذي تنطلق منه السفن المحمّلة بالحمضيات، لتحطّ في البلدان الأوربيّة، وتعود محمّلة بمنتوجات صناعيّة من تلك البلدان…التفت إلى فايز وقال:

–       اسمعني جيّدا يا فايز…أريد أن أتدرّب على استعمال السّلاح، وسأشتري بندقيّة، فقد يأتي يوم أحتاجها فيه.

–       قلت لك بأنّك وحيد والديك.

فقال فايز مستنكرا: وهل وحيد والديه محروم من العدالة؟ يبدو أنّ الثّورة تفكّر مثل أبي، فهو دائما يقول لي: أنت وحيدي، ولا أتخيّل يوما أنّني سأفقدك… وان حصل ذلك –لا سمح الله- فسألحق بك في نفس السّاعة.

ردّ عليه فايز بهدوء: ومن عدالة الثّورة أنّها حريصة على أبناء شعبها، تماما مثل والديهم، وهي حريصة على حياتك وحياة والديك أيضا.

سأل عبّاس بأسى: وما المانع بأن يكون عندي بندقيّة للدّفاع عن النّفس…فإذا وقعت الواقعة فإنّ العدوّ لن يرحم أحدا.

فايز: السّلاح ليس للغواية يا عبّاس.

–       لا أريد بندقيّة للغواية، بل للدّفاع عن النّفس عند الضّرورة…وإذا ما اشتريت بندقيّة فلن يراها أحد.

–       سأنقل وجهة نظرك لمسؤولي الثّورة.

عبّاس: قل لي يا فايز…هل لديك بندقيّة؟

–       وماذا يفيدك إن كانت لديّ بندقيّة أو لم تكن؟

–       لأنّني سأدفع لك لتشتري واحدة، إن لم تكن عندك.

–       نعم عندي بندقيّة…منذ أكثر من خمس سنوات بعت مصاغ زوجتي بعشرين جنيها واشتريت بندقيّة.

–       وهل وافقت زوجتك على بيع مصاغها؟

–       نعم وعن طيب خاطر.

بكى عبّاس متأثّرا بما سمع وقال:

لا امرأة تستحق مصاغا أكثر من زوجتك… وعند وصولنا إلى البيت سأعطيك عشرين جنيها لتشتري لها مصاغا…لكن قل لي أين تخبّئ بندقيّتك؟

–       لها مخبأ آمن في باطن الأرض في البيّارة…أخرجها عند الاستعمال…وأعيدها إلى مكانها بعد ذلك.

–       ومتى تستعملها؟

–       عند تكليفي بمهمّة في الّليل.

–       وهل يملك زميلك سعيد بندقيّة؟

–       كلّا… فهو لا يملك ثمنها…وزوجته لا مصاغ لها…لكنّنا نحن الاثنين نستعمل نفس البندقيّة.

–       اذن سأتبرع له بثمن واحدة.

افترقا عندما وصلا البيّارة، كلّ منهما ذهب إلى مخدعه، فايز مشى مختالا، وفي جيبه حبّات “حامض حلو” وزّعها على أطفاله، وأعطى زوجته قالب حلاوة يزن كيلو غرام. كانت تقف أمام بيتها شامخة…ناهدة الصدر وهي تهمّ بحمل صحن العجين؛ لتخبز في الطّابون…طرح عليها السّلام وسألها:

خير يا أمّ محمّد هل من جديد؟

ردّت عليه باسمة: لا جديد لكنّني وقفت لاستقبالك بعد أن رأيتك تنزل من سيّارة عبّاس.

–       إن شاء الله ربّنا ما يحرمني من هذه الطّلّة البهيّة.

–       استأذنته لتخبز العجين، كي تعدّ العشاء قبل الغروب.

عند باب القصر مشى عبّاس متكاسلا عابسا كمن يحمل هموم الدنيا كلّها على كتفيه…جلس على كرسيّ في البرندة…وهواجس كثيرة ترهق دماغة…تمنّى لو أنه وُلد في أسرة فقيرة؛ ليكسب راحة البال والطمأنينة، فيبدو أنّ المال يجلب التّعاسة لصاحبه…وما الحياة الا رحلة قصيرة شاقّة وممتعة في نفس الوقت…ومحظوظ من يترك ذكرى طيّبة بعد رحيله عنها…تحامل على نفسه وذهب إلى غرفة نومه…صدرت  “مناغاة” من طفلته أميرة عندما رأته يدخل الباب…حرّكت يديها ورجليها وتململت في سريرها، وكأنّها تريد أن تقفز منه لاستقبال والدها…حملها على صدره وقبّل وجنتيها…التفت إلى سعديّة التي كانت تتمدّد على سرير النوم وهي ترتدي ثوب نوم ناعم وشفّاف…مسحوب بغير انتظام إلى منتصف فخذيها…تسند كتفيها بوسادتين…شعرها متناثر على الجانبين…تتشابك أصابع يديها على صدرها بين ثدييها، وقال لها: سلامتك يا سعديّة…يبدو أنّك مريضة.

ردّت بصوت هادئ غنوج: لست مريضة ولكنّني تعبانة.

–       وما الذي أتعبك؟

–       تقيّأت كثيرا…ولا شهيّة لي للطّعام…وهذه بوادر الوحام، فأنا حامل.

–       حامل…حامل! فالأميرة عمرها الآن ثلاثة أشهر…قالها مندهشا وهو يقفز فرحا..فسماع هذا الخبر أشعل في قلبه نار الفرح…ودبّ النّشاط في جسده…أعاد أميرة إلى سريرها..وقفز إلى جانبها على السّرير، ثنى ساقه على ساقها وقبّلها وهو يردّد:

الحمد لله…سيأتينا طاهر الصّغير.

فردّت عليه بدلال: وما يدريك أن ينعم الله علينا بسعديّة الصّغيرة؟

–       ما يرزقنا الله به سنفرح به كثيرا…وان كان بنتا فيكفينا الله شرّ تسميتها بسعديّة.

–       وما لها سعديّة؟ هل هي لا تعجبك؟ أم أنّ اسمها لا يعجبك؟

فردّ عليها غاضبا: ماذا جرى لك يا سعديّة؟ هل جُننتِ؟ فالنّاس لا يسمّون البنات على أسماء أمّهاتهن إلّا إذا ماتت الأمّ ساعة المخاض، وهذا ما لا أريده ولا أتمنّاه…ولا يسمّون الأبناء الذّكور على أسماء آبائهم إلا إذا مات الأب في فترة الحمل.

علت بسمة عريضة وجهها وقالت: أعرف ذلك يا حبيبي…ولم أقصده…وأتمنى أن يكون الجنين ذكرا، وإذا ما كان أنثى فهي ستكون شبيهتي…و”طبّ الجرّة على ثمها بتطلع البنت لأمّها” وسنختار لها اسما جميلا.

فقال عبّاس: عندنا أميرة وإذا كان الجنين أنثى فسنسمّيها مليكة.

قالها وانفرطا ضاحكين…ثمّ استدرك عبّاس:

ما رأيك أن أحضر لك طبيبا، أو الدّاية كاترينا لنطمئن عليكِ؟

–       لا داعي يا حبيبي…فأعراض الوحام معروفة للنّساء.

4

أزيز رصاص يلعلع في محيط مقام الشّيخ محمّد الزّواوي قبل صلاة الفجر بقليل، جنود بريطانيّون يطوّقون البلدة، وبصحبتهم كلاب بوليسيّة، نادوا بمنع التّجوّل بمكبّر صوت من على سيّارة عسكريّة، استيقظ فايز على صوت الرّصاص…قال لزوجته: الأولاد وديعة عند الله وعندك يا أمّ محمّد…تلثّم بكوفيّته وركض إلى زاوية البيّارة، نبش عن بندقيّته، حملها وغادر مسرعا…ونظرات زوجته تلاحقه، ودعواتها بالسّلامة تشقّ عنان السّماء….تمترس خلف شجرة بلّوط على رصيف الطّريق المؤدّية إلى مقام الشّيخ الزواوي…أطلق رصاصتين على جنديّين كانا يقفان عند زاوية الطريق فتجندلا…برشاقة حمل بندقيتيهما وقنبلتين يدويّتين كانتا مع أحدهما….وعاد مسرعا إلى حظيرة الخيول في البيّارة…امتطى الفرس السّحوب وقال لزوجته:

ان لم أعد، بعد ثلاثة أيام أخبري سعيدا أن الأمانة عند شجرة الجمّيز قرب دير الّلطرون…تسلّل من بين الحقول، وانطلق شرقا يسابق الرّيح…علّق البندقيتيّن على شجرة الجمّيز….أطلق الفرس فعادت تركض غربا إلى حظيرتها، فالأصيلة لا تضلّ طريقها، ولا تقطع فارسها…انتظر حتى ساعات الصّباح…أخفى بندقيّته والقنبلتين بين الأعشاب عند حافة الوادي قرب عرب أبو كشك… وعند الضّحى توجّه إلى بيت الشّيخ محمد أو كشك…فرحّب به الشيخ وسأله:

ما الذي يجري في بيت دجن، فقد كان الرّصاص كثيفا؟

–       متى.

–       منذ ساعات الفجر الأولى.

–       ماذا تقول يا رجل؟ فأنا لا أعلم ذلك…لقد نمت هذه الّليلة في عمواس.

–       ربّنا يستر.

وفي بيت دجن وعند ساعات الصّباح نادى الجنود بمكبّرات الصّوت: على كلّ الرجال من سنّ 14 وما فوق التجمّع في ساحة مدرسة الذّكور، وكلّ من يخالف سيعاقب بقسوة.

وبينما كانت سيّارات الاسعاف تنقل جثامين قتلى العسكر، أطلق الجنود كلابا بوليسيّة تشمّ الرّجال…لم تتوقّف عند أيّ منهم…التفت الضّابط إلى جنوده وقال:

ربّما يكون المسلّحون من خارج البلدة….سنأخذ خمسة من الوجهاء ليتعرّفوا على جثث القتلى السّتة عند مقام الشّيخ الزّواوي…وهناك مرّوا بجانب الجثث، وادّعوا بعدم معرفتهم…طاهر المحمود شعر بغصّة عندما رأى صهره عارف عبد الكريم زوج ابنته نبيهة مخضّبا بدمائه…لكنّه كتم لوعته وواصل سيره….سألهم الضابط:

من هؤلاء؟ من منكم يعرف أيّا منهم؟

لم يسمع جوابا من أحد…تنحنح مطلق شتيوي وقال:

ربّما يكونون من خارج البلدة، أو من المتطوّعين الذين يأتون من مصر والأردن.

قال الضّابط البريطانيّ: هذه عاداتكم!…من علّمكم أن تنكروا معرفة ابنائكم القتلى؟ ألا تحزنون على قتلاكم؟ هؤلاء شباب طائش يموتون، ويلحقون الأذى بنا وبكم…وأمر أحد مساعديه: أثناء تفتيش البيوت أحضروا عددا من النّساء لعلهنّ يتعرفن على القتلى.

ترك الجنود جثامين الشهداء أمام مقام الشّيخ الزّواوي…عادوا مع الضّابط إلى ملعب المدرسة… حيث قيّد الجنود من هم دون الخمسين من أبناء البلدة، وأيديهم خلف ظهورهم وأشبعوهم ضربا، ووضعوهم في زاوية الملعب الجنوبيّة، اقترب الضّابط من المسنّين وصاح بهم والمترجم يترجم لهم بعربية هادئة:

تزعمون أنّكم عقلاء البلدة ووجهاؤها، وتتركون أبناءكم ألعوبة بيد الخارجين عن القانون، وتسمحون للمسلّحين الغرباء أن يدخلوا بلدتكم، بل تستضيفونهم في بيوتكم، وتقدّمون لهم الطّعام…وتتركون المساجد مفتوحة ليل نهار، لتكون وكرا للارهابيّين،

وهذا انكار للجميل، أتنسون أنّنا من بنى لكم مدرسة الذكور هذه، ومدرسة أخرى للبنات، ونحن لن نتساهل مع المخلّين بالأمن، ولا مع من يمدّون لهم يد المساعدة.

Fucken Arabs قالها وانصرف. ولم يترجمها المترجم.

تنهّد أبو عبّاس ونفخ شررا ضاق به صدره، وكتم غيظه…وخاطب الضابط بالانجليزية: لو سمحت يا كولونيل.

التفت الضّابط وسأل غاضبا: ماذا تريد؟

–       ما ذنب أبنائنا جنودك يضربونهم دون ذنب اقترفوه؟

–       أنتم مسؤولون عن الأمن في بلدتكم…وواحد منكم هو من قتل جنديّين من جنودنا.

–       نحن لم نقتل أحدا…وأبناؤنا كانوا نياما عندما اقتحمتم البلدة….وربما يكون القاتل من الأشخاص الذين قتلتموهم…ونحن لا نعرفهم.

–       لم آتِ هنا للنّقاش…وسنتعرف على القتلة الآن.

دخلت ملعب المدرسة سيّارة عسكريّة ترجّل منها ضابط برتبة سيرجنت وقال للكولونيل:

سيّدي…لقد أحضرنا عشرين امرأة مسنّة، وأجبرناهنّ على المرور أمام جثث القتلى، ولم يتعرّفن عليهم.

–       هل شاهدتم الحزن على وجوههنّ؟

–       نعم كنّ حزينات ومرتبكات وباكيات وخائفات وهنّ في بيوتهنّ، وفي الطّريق أيضا.

–       أقصد هل ارتبكن أو واحدة منهنّ عندما رأين جثامين القتلى.

–       لم نلاحظ ذلك.

ولم ينتبه الجنود إلى أنّ النّساء لم ينظرن الشهداء، ولم تحاول واحدة منهنّ الالتفات إلى جهتهم، وعندما سألهنّ الضّابط عمّن يعرفن منهم قالت الحاجّة صبحة:

كان الله في عون أمّهاتهم. وعندما ترجموا للضّابط ما قالت سألها:

ومن هنّ أمّهاتهم؟

ردّت باكية: النّساء الّلواتي أنجبنهم.

فصاح غاضبا: أعرف أنّ نساء أنجبنهنّ أيّتها الغبيّة…لكنّني أريد معرفة أسماءهن.

فردّت بلا مبالاة: ومن أين لي أن أعرفهنّ؟

فقال: You are a bitch old woman “أنت عاهرة مسنّة” وأدار ظهره وهو يقول: دعوهن ينصرفن إلى بيوتهنّ.

تحدّثت النّساء من خلال شبابيك البيوت، وقرّرن عدم الالتزام بمنع التّجوّل؛ وأن يذهبن جماعة بصحبة أطفالهنّ إلى ملعب المدرسة، والحاجّة حليمة تقول لهنّ:

هيّا بنا…لن نتركهم يفتكون برجالنا.

سرن باتّجاه الملعب وهنّ يردّدن بصوت عال: فلسطين عربيّة. وعملن طوقا على المدرسة، وبعضهنّ رجمن الجنود بالحجارة…فقالت الحاجّة حليمة لهنّ تريّثن قليلا، فإن لم يطلقوا سراح الرّجال، عندها يطيب الموت!

طلب الضّابط أربعة من المسنّين وإمام المسجد وقال لهم:

تعالوا لتدفنوا جثامين قتلاكم.

فردّ عليه طاهر المحمود:

نريد عشرة شباب ليحفروا القبور.

وقال إمام المسجد بنباهة وهو يتصنّع البراءة:

لماذا لا تتعرّفون على مكان سكناهم وتسلمونهم لذويهم لدفنهم؟

التفت الضّابط إلى جنوده وقال:

الآن تأكّدت أنّهم ليسوا من هذه البلدة…اصطحبوا معكم عشرة من شبابهم، واطلقوا سراح الآخرين…فتصعيد الموقف ليس في مصلحتنا…ومجنون ذلك السّباح الذي يركب أمواج بحر هائج…هيّا بنا.

استقلّوا سيّاراتهم العسكريّة وغادروا بسرعة.

انطلق الرّجال والنّساء إلى مقام الشّيخ الزّواوي. تعرّفوا على الشهداء وهم: عبد الرّحمن فادي، سليم أو شاويش، محمّد صابر، عبد القادر عبد الرّحيم، سليمان داود، عارف عبد الكريم، وجميعهم من أبناء البلدة، بدأ الصّراخ والعويل، وكثير من أمّهاتهم وزوجاتهم، وشقيقاتهم أغمي عليهنّ، نثرن الشّعور، وقددن الجيوب، ولطمن الخدود، لكنّ حليمة غمست رأس اصبعها الشّاهد بنقطة دم من كلّ شهيد، ومسحت بها جبهتها ووجنتيها، وأرنبة أنفها ولحيتها. وهذه دعوة للثّأر، أبعدهنّ الرّجال عن الجثامين، جمعوا جثامين الشهداء…أداروا وجوههم إلى القبلة…غطّوهم بالبطّانيات…تركوا وجوههم مكشوفة، وقال الإمام: :” بسم الله الرحمن الرحيم، وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ”صدق الله العظيم.

الأخوات والاخوة الكرام: المصاب جلل، ووالله إنّ العين لتدمع، وأنّ القلب ليخشع، ولا حول ولا قوّة الا بالله، واكرام الميّت دفنه، فلا نعرف ما تخبّئه لنا السّاعات القادمة، فالقوا النّظرة الأخيرة على الشّهداء، ودعونا نصلّي عليهم ونواريهم التّراب بسرعة.

فصاح أحد الشّباب: وأين سنغسلهم ونكفّنهم؟

فردّ الامام بهدوء: الشهداء لا يغسّلون ولا يكّفنون، لقد اغتسلوا بدمائهم الطّاهرة التي تفوح منها رائحة المسك، ويدفنون بملابسهم المخضّبة بدمائهم الزّكيّة.

ظهر فايز فجأة بين الرّجال..ألقى نظرة على الشّهداء…قبّل جبين كلّ واحد منهم وهو يبكي بصمت….سأله طاهر المحمود:

أين كنت يا فايز؟

فردّ متصنّعا الّلامبالاة: عندما نادوا بمنع التّجوّل وتجميع الرّجال في ملعب المدرسة، تسلقت شجرة الخرّوب التي أمام القصر، واختبأت بين أغصانها الكثيفة.

فقال عبّاس متصنّعا البراءة:

والله إنّك أكثر نباهة منّي…على الأقلّ نجوت من الضّرب المبرح.

وهنا حضرت ثلاث نساء من جمعيّة زهرة الأقحوان في يافا، تتقدّمهن مهيبة خورشيد، كانت ترتدي بنطالا وقميصا، وشعرها مربوط خلف رأسها، طرحن السّلام… سألن عمّا جرى، وعانقن أمّهات الشّهداء وزوجاتهم…واتجهن إلى قبور الشّهداء، وضعن وردة على كلّ قبر، وقرأن الفاتحة…ومهيبة تقول:

هذه الدّماء لن تذهب هدرا.

تشاور ذوو الشّهداء ووجهاؤها حول المكان الذي سيتقبّلون فيه العزاء بالشّهداء…فتقدّمت الحاجة حليمة وقالت: لا عزاء فيمن قُتِل غيلة! وإذا عدمنا الرّجال، فالنّساء جاهزات… نظرت إليها مهيبة، وابتسمت رغم جلال الموقف، فقال إمام المسجد:

“قطعت جهينة قول كلّ خطيب”.

قلب الرّجال كوفيّاتهم، وعادوا جميعهم إلى بيوتهم…ارتدت النّساء الملابس السّوداء، واصطحب الحاجّ طاهر المحمود ابنته نبيهة، أرملة الشّهيد عارف عبد الكريم وأطفالها، بعد أن استأذن من حميها وأسلافها، فألقى حموها عباءته عليها وهو يبكي؛ وهذه إشارة بأنّه يطلب يدها لشقيق زوجها الشّهيد بعد انتهاء فترة العدّة الشرعيّة.

عند المساء جلس الحاجّ طاهر المحمود مع أسرته، وليصرفهم عن أحزانهم؛ شرع يحدّثهم عن اضراب العام 1936 الشّهير، وكيف لجأ الفلسطينيّون إلى اضراب طويل استمرّ ستة شهور، كان أشبه ما يكون بالعصيان المدنيّ، بل كان عصيانا حيث أنهم امتنعوا عن دفع الضرائب، شارك فيه أبناء الشعب كافّة، ولمّا كان الفلّاحون مستهدفين من القوّات البريطانيّة، ويعتقلون من يدخل منهم المدن؛ لأنّ القرى كانت حصن الثّوّار، والفلّاحون وقودها، فقد اتفق أعيان المدن، وقرّروا خلع الطّرابيش، واعتمار الكوفيّات، كي لا يميّز العسكر ابن القرية من ابن المدينة، وكان عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس، أوّل من اعتمر الكوفيّة، ويتنقل بين القرى على ظهر بغلة أسماها ” الدّبّابة ” لسرعتها، وقدرتها على حمل الأثقال، ومن طرائف الثّوّار أنّهم ألبسوا طربوشا لحمار في مدينة عكّا، وطافوا به شوارع المدينة وهم يهتفون :

“حطّة وعقال بخمس قروش

والحمار لابس طربوش”.

وهنا سألت سعديّة: وهل كان الطّربوش حكرا على أبناء المدن؟

فردّ أبو عبّاس بهدوء العارف ببواطن الأمور:

وَضْع الطّربوش على الرّأس دخيل على بلاد الشام، ودخلها مع حملة ابراهيم باشا،  فالطّربوش من تراث أشقائنا المصريّين. أمّا نحن في بلاد الشّام، فغطاء الرأس للرّجال عندنا هو الكوفيّة والعقال.

الحاجّة خديجة “أمّ عبّاس” بانفعال: ومتى كان ذلك؟

أبو عبّاس: منذ أكثر من مائة عام، وتحديدا في العام 1831، وجّه والي مصر محمّد علي باشا، حملة إلى بلاد الشام بقيادة ابنه ابراهيم، فاكتسح المنطقة وأخضعها لسلطانه، ومنذ ذلك التّاريخ قلّد الاقطاعيّون والتّجار وكبار الموظفين في فلسطين المصريّين، وصاروا يضعون الطّرابيش على رؤوسهم بدل الكوفيّات.

وهنا سألت سعديّة: وماذا فعل ابراهيم باشا في بلاد الشّام؟

لقد أخضعها لسلطان والده، وكان حاكما نبيها، لم يقبل بمظالم العثمانيّين، ولولا أنّ والده كبح جماحه لسيطر على الآستانة أيضا، ومن الفرمانات التي أصدرها في فلسطين واحد أعفى فيه الكنائس والأديرة في القدس ونابلس من الضرائب مهما كانت تسمياتها، وأصدر فرمانا آخر سمح بموجبه للمواطنين المسيحيّين بترميم كنائسهم وأديرتهم، وبناء الكنائس التي يريدونها. وهذا ما فعله مع أقباط مصر عندما استلم الحكم بعد أبيه في العام 1849.

سعديّة: وماذا كان يقصد من وراء ذلك؟

أبو عبّاس: قصده كان العدل بين المواطنين، فمسيحيّو البلاد مواطنون كاملو الحقوق مثل غيرهم من المواطنين، ومظالم العثمانيّين عمّت البلاد، ولم تقتصر على المسيحيّين العرب وحدهم، بل تعدّتهم إلى المسلمين أيضا. خصوصا بعد أن خطّط العثمانيون لتطبيق سياسة التّتريك. وهذا خروج عن مبادئ دولة الخلافة.

عبّاس: يبدو أنّ بعض المقرّبين من الخلفاء العثمانيّين، قد تأثرّوا بالمدّ القومي الذي اجتاح أوروبا في تلك المرحلة.

أبو عبّاس: هذه مرحلة مضت، ودعونا نعود إلى موضوعنا، وإلى مظالم الانجليز علينا وعلى بلادنا، فقد اعتقلوا الآلاف من شعبنا في ثورة العام 1936 بدون تهمة أو محاكمة. “وسرعان ما انطلقت العمليّات المسلّحة مترافقة مع الإضراب، ومن أبرز عمليات الثّوار في القدس، في المرحلة الأولى من الثورة معركة باب الواد على طريق القدس- يافا، والهجوم على سينما أديسون في القدس، والهجوم على سيّارة مفتش البوليس البريطانيّ في المدينة، وعلى اثنين من ضباط الطيران البريطانيّين”.

وكادت الأمور تفلت من أيدي الانجليز، فاستعانوا بالملوك العرب، وما خاب ظنّهم، فقد استجابوا لطلب الانجليز، ووجّهوا نداء للشّعب الفلسطينيّ دعوه فيه إلى انهاء الاضراب، معتمدين على حسن نوايا ” الصّديقة ” بريطانيا، بانهاء الانتداب على فلسطين، ووقف الهجرات اليهوديّة.

تململ عبّاس على كنبته وسأل والده على استحياء: هل لك علاقة بالثّورة يا أبي؟

فردّ أبو عبّاس بلهجة غاضبة: لماذا تسأل يا ولد؟

–       لا لشيء، فقط من باب حبّ الاستطلاع.

–       اسمع يا بنيّ…لم أكن يوما ضدّ الثّورة…لكن مصالحنا تقتضي أن نداري زماننا…فجدّك – رحمه الله – كان يؤمن بالمثل القائل” اطعم الفم تستحي العين” وهذا ما قرّبه من  “القمندار” و”الخازندار” العثمانيّين،  فبنى معهما علاقة طيّبة، وهذه العلاقة هي سبب ارسالي مبعوثا إلى الآستانة، حيث أنهيت المدرسة فيها، وهذا أمر ما كان يحظى به سوى المقرّبين من كبار الموظّفين العثمانيّين، وبالطّبع لم يكن بلا مقابل، فقد كان جدّك سخيّا معهم، فكان يكرمهم ويقدّم لهم الهدايا الثّمينة، وبالتّالي كانوا يتهاونون معنا في الضّرائب، وقدّموا لنا اعفاءات كبيرة، وطوّبوا لنا مساحات شاسعة من الأراضي. وعندما هُزموا في الحرب العالميّة الأولى، لم نأسف عليهم لأنّ ظلمهم بلغ حدودا يصعب احتمالها…وبعد دخول الانجليز قلنا: “اللي يتزوج أمّي هو عمّي” وكنت أشارك في استقبال المندوب السّامي البريطانيّ، وأقمت الحفلات الصّاخبة للضّبّاط الانجليز، في بيتي وفي مطاعم وحانات يافا أيضا. واتّسعت أعمالنا، ولم تقتصر على الزّراعة فقط، بل بنينا مصنع البلاط في يافا،  لكن الانجليز يساعدون في هجرة اليهود إلى بلادنا، ويخطّطون لاقتلاعنا من أرضنا، واقامة دولة لليهود عليها.

–       وهل كان العثمانيّون يسهّلون هجرة اليهود إلى فلسطين؟

–       لم أسمع بذلك.

–       لكنّك لم تقل لي هل لك علاقة بالثّورة؟

–       يا بنيّ، مصلحتنا تتطلّب أن نكون مع الواقف.

–       لم أفهم عليك يا أبي.

–       أنا لست ثائرا، ولا أحبّ الثّورات، لكنّني ومن باب الاحتياط أتبرّع ببعض المال للثّوّار، وما يدريك؟ فإذا ما انتصروا فسيكون لنا موطئ قدم عندهم، ومن يموت منهم يموت شهيدا، ونحن نعيش بعده سعداء!

شعر عبّاس بالضّيق من حديث والده، فسأل بلهجة ساخرة: وإذا لم ينتصروا يا أبي؟

–       سيموتون شهداء، وسنترحّم عليهم.

–       لكنّنا سنخسر كلّ شيء، وسنتمنّى الموت كثيرا إذا لم ينتصروا يا أبي، لأنّ الموت سيكون وقتئذٍ أرحم بكثير من حياة الذّلّ التي سنعيشها.

–       ماذا تعني يا ولد؟ ومن أدخل هذا الكلام في رأسك؟ تساءل أبو عبّاس غاضبا.

–       لا أعني شيئا يا أبي…لكنّني على يقين بأنّ مستقبلنا سيكون حالك السّواد، إذا تمكنّ اليهود بمساعدة الانجليز من اقامة دولتهم على أرضنا. وأسأل الله النّصر لثورتنا.

–       اسمع يا ولد: “عند مخالفة الدّول الشّاطر اللي يخبّي راسه” فهل تعتقد أنّ من يحمل بندقية ويملك عشر رصاصات سيستطيع هزيمة بريطانيا العظمى؟ هذا جنون، وأنت ترى وتسمع عن شباب يتساقطون كورق الشجر في الخريف، وآلاف الأشخاص يودعون في السّجون، دون مقابل، فإيّاك أن تنجرّ معهم.

انتفض عبّاس وقال وهو يهمّ بالنّهوض مغادرا الجلسة:

والله إنّهم أشرف منّا في الحياة الدّنيا وفي الآخرة….فهم يعيشون شرفاء ويموتون شرفاء، ولا يراؤون أحدا…فصاح أبو عبّاس: على مهلك يا ولد.

إلى أين أنت ذاهب؟

–       أنا مرهق وأريد أن أنام.

غادر عبّاس الجلسة…تمشّى في البيّارة…أسند ظهره على ساق شجرة الخرّوب العظيم….تحسّس لسعات كرابيج العسكر التي ارتسمت على جسده خيوطا حمراء…بكى الشّهداء وترحّم عليهم…لفحته رائحة البرتقال فانتعش قليلا…نظر إلى السّماء يستجدي الفرج…عادت به الذّاكرة إلى شريط حياته، وكيف عاش مرفّها على عكس الكثيرين من أبناء بلدته وأبناء شعبه…وتساءل عن الأسباب التي تدعو الفقراء إلى الموت في سبيل الوطن، بينما الاقطاعيّون وكبار التّجار والموظفين يرتضون القعود، ويبحثون عن الملذّات؟ جلس فوق الحشائش ساندا ظهره إلى ساق شجرة ليمون…بحث عن الأسباب التي تجعل شخصين مثل عاملي البيّارة سعيد وفايز دائمي الابتسامة، راضيين بما تيسّر لهما من رزق…ويشاركان في الثّورة بصمت، وهما وأمثالهما لم يتذيّلا لحاكم أو لمسؤول، بينما والده يفتخر بعلاقته مع الضّباط الانجليز، وعلاقة أبيه وجدّه مع المسؤولين الأتراك…وفكّر بما قاله والده بأن الثّوّار إذا ما قُتلوا سيموتون شهداء، وسنعيش بعدهم سعداء…فهل سعادتنا على حساب دماء الآخرين؟

صدمه السؤال ولم يجد له جوابا. تمنّى لو أنّ بحر يافا يبتلعه ليرتاح من هذه الحياة التي فرضت عليه القعود…فالمال فتنة والثّراء ملهاة لا تدوم…والعدوّ لا يفرّق بين قاعد وثائر، والكرامة لا تباع ولا تشترى، فالفلّاحون يقاتلون دفاعا عن كرامتهم وحرّيتهم، بينما بعض الاقطاعيّين يرون في الوطن منجما لجمع المال، وإذا ما تعرّضوا لهزّة بسيطة يبيعون الأرض ويهاجرون، وكأنّ الوطن محطّة عبور، فما هذه الحياة يا ربّ؟

سالت دموعه على وجنتيه تغسل مرارة مخزونة متراكمة، اتكأ على كوعه الأيمن والنّعاس يهرب من عينيه…رأى والده يخرج من القصر بكامل أناقته…اختبأ خلف الشجرة كي لا يراه الوالد وأخذ يراقب…مشى الحاجّ طاهر بخفّة، وكأنه لا يريد الاثقال على تراب الأرض…اتّجه شرقا…تسلق سور البيّارة وخرج وهو يتلفّت خلفه، وكأنّه يراقب أحدا، أو يخشى من مراقبة أحد له! هوى على ركبتيه وكفّي يديه…نفض غبار  التّراب العالق بكفّيه، ثم نفض الغبار عن جزء بنطاله السفليّ ومشى…وعبّاس يتبعه برشاقة وحذر…انتشى عبّاس عندما راودته فكرة بأنّ والده على علاقة سرّيّة بالثّوار، وحسب بأنّ والده يخفي عنه وعن غيره هذا الأمر، وهو لا يريد أن يكون ابنه مثله، فامتداد الأسرة يجب أن يستمر، وتساءل عن مدى مشاركة والده في الثّورة وهو في هذا العمر؟ فهل يعقل أنّه قادر على المشاركة في القتال، ويجيد الكرّ والفرّ؟ أم أنّه يلتقي الثّوّار ويشاركهم الرأي، ويتبرع لهم بالمال لشراء الأسلحة؟ وليقطع الشّكّ باليقين تبع والده ليعرف سبب خروجه في هذه السّاعة المتأخّرة من الّليل…لفت انتباهه أنّ الوالد يبتعد عن طُرق القرية ودروبها، ويحني ظهره عندما يمرّ بمحاذاة بيت أحدهم…إلى أن وصل بيت الشّهيد أبي منير الذي استشهد في العام 1939، تاركا أرملة شابة حاملا بطفل ذكر، وعندما رأى الحياة أطلقوا عليه اسم منير على اسم والده الرّاحل…وقف بجانب شبّاك الغرفة الذي يبعد مترا ونصف المتر عن باب البيت، فُتح الباب بهدوء تام…دخل البيت كما المتسلّلين وهو يتلفت خلفه…لم يُضأ البيت….تقدّم عبّاس وهو يمشي على رؤوس قدميه حتى لا يشعر به أحد…اقترب عبّاس من الشّباك يسترق السّمع، وهو يحدّث نفسه بأن والده يساعد أسر الشهداء سرّا، وهو بذلك يحصد ثوابا عظيما، ويحمي نفسه أمنيّا من الانجليز…سمع كلاما خافتا لم يفهم كنهه…انتبه لنفسه عندما سمع صوت والده يطلب من أرملة الشّهيد أن تتأكّد بأنّ طفلها نائم، وأن تغلق باب الغرفة عليه بهدوء…كما طلب منها أن تضيء لامبة الكاز؛ لأنّه لا يقوى على عدم رؤية جسدها الجميل كما وصفه….ولمّا تقدّمت منه بعد أن أشعلت الّلامبة، رأى عبّاس والده يركع على ركبتيه أمامها، يحيط ساقيها بيديه….يشرع بتقبيل ساقيها وهي ترفع ثوبها قليلا قليلا بناء على طلبه وبتدرّج…كان وجهها عابسا يبدو عليه التقزّز، ولأوّل مرّة في حياته رأى عبّاس والده كلبا يلهث تحت ساقي امرأة….كانت صدمته كبيرة…ولم يستوعب فعلة والده، عاد إلى بيته باكيا تتصارع في رأسه أفكار كثيرة…ويملأ قلبه حقد على والده…بل إنّ وساوس راودته حول ما إذا كان والده عميلا للانجليز؟ وأنّ كلّ هذه الثّروة المتوارثة حرام في حرام!

استلقى على سريره بجانب سعديّة دون أن يضيء الغرفة، ودون أن يستبدل ملابسه بمنامته كما اعتاد…مدّت سعدية يدها على صدره وسألته:

ما بك يا حبيبي؟

لا شيء أجابها بلهجة باكية.

–       هل أنت حزين إلى هذه الدرجة؟ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون، وهذا قدر شعبنا…وطبيعة الحياة يموت ناس ويولد آخرون، وعجلة الحياة تدور، والسعيد من يفوز بالآخرة.

فردّ بلهجة غاضبة: والتعيس من يفوز بالدّنيا وينسى الآخرة.

فسألت محتارة: ماذا تقصد يا عبّاس؟

–       لا أقصد شيئا…واتركيني أنام.

أمضى عبّاس ليلته يتقلّب على الفراش…يبكي…يتنهّد…زفيره لهيب نار، وسعديّة تحاول معرفة ما به، لكنّه لا يجيبها.

في ساعات الصّباح الأولى خرج يتمشّى في البيّارة…شاهد فايز يعلف الخيل…طرح عليه تحيّة الصّباح ومشى بجانبه…دعاه فايز لشرب قهوة الصّباح…جلسا تحت شجرة قرب مسكن فايز…تنحنح فايز وسأل على استحياء وهو يبتسم:

ما بك يا عبّاس؟

–       أريد أن أسألك: ماذا تعرف عن والدي؟

–       ماذا تعني؟

–       أعني، هل له علاقة بالثّوّار؟

تنهّد فايز ولم يجب…فسأل عبّاس: هل يتبرّع أبي للثّورة؟

–       لا أعتقد ذلك؟

–       حسب ما تسمع، هل أهالي البلدة يحترمون والدي أم يخافونه؟

–       لا هذه ولا تلك، وإنّما يدارونه كثريّ من أبناء البلدة!

–       وماذا يقولون عنه؟

–       يقولون أنّه يحاول التّظاهر بالطّيبة داخل البلدة، بينما خارجها يدور على ملذّاته؟

–       ماذا تقصد بالملذّات؟

–       يقولون عنه بأنّه على علاقة طيّبة بالانجليز…وأنّه كثيرا ما يشارك الضّباط الانجليز في حفلات حمراء…يعاقرون الخمور ويجالسون الغانيات.

–       لكنّ أبي في البيت وفي البلدة يبدو تقيّا يصلّي في المسجد، ويصوم ويكرم ضيوفه ويساعد الفقراء.

–       هكذا يبدو ولكنّ حقيقته مختلفة جدّا…والمال يغطّي على سيئاته.

–       كيف؟

–       ألا تلاحظ أنّ علاقته بأمّك ليست على ما يرام؟

–       ألاحظ ذلك واعتقد أنّه بسبب طول العشرة.

–       هناك ما هو أبعد من العشرة.

–       ماذا تقصد؟

–       اسأل والدتك؟

–       أنا أسألك أنت؟

–       هل تحتفظ بالأسرار؟

–       طبعا ولك عهد عليّ بأن لا أبوح بكلمة واحدة مما تقول، لكنّني أريد معرفة الحقيقة؟

تململ فايز وقال بحياء زائد:

اسمع يا عبّاس، قبل أكثر من خمسة عشر عاما…فاجأت أمّك أباك وهو يعاشر احدى نساء البلدة في الغرفة التي تنام وزوجتك فيها…وهجمت عليهما وهما عاريان، وفزعنا لصراخها…وأنا وسعيد من فرّقنا بينهم…ومنذ ذلك التاريخ وعلاقتهما ليست سويّة.

–       هل يعني هذا أنّ والدتي لم تكن شرّيرة وعدوانيّة قبل تلك الحادثة؟

–       نعم…كانت زوجة مطيعة بشوشة.

–       ما اسم تلك المرأة التي اختلى بها أبي؟

–       ربّنا طلب السّتر يا رجل…وهذه قضيّة انتهت.

–       وهل لديك معلومات بعلاقات نسويّة أخرى لوالدي؟

–       هنا أم في يافا؟

–       هنا وفي يافا.

–       الله أعلم…هناك اشاعات كثيرة حوله، ولا أعلم إن كانت حقيقة أم اشاعات، فأنا كما ترى لا أغادر البيّارة إلّا قليلا.

–       ولماذا لا يواجهه الآخرون بحقيقته؟

–       ألم تسمع بالمثل القائل:”موت الفقير وتعريس الغني ما حدا يتكلم فيهن”؟

–       أشهد أن لا إله إلّا الله.

–       محمّد رسول الله.

–       هل تعتقد أنّ أبي جاسوس للانجليز؟

–       ليس إلى هذه الدّرجة…ولكنّه وأمثاله دائما مع الواقف…ويزعمون أنّ مصالحهم الماليّة تتطلب ذلك. فقد كان جدّك عبّاس الّذي تحمل اسمه متذيّلا للأتراك، ووالدك عمل نفس الشّيء مع الانجليز…لكنّني لا اعتقد أن علاقته بهم وصلت إلى درجة العمالة.

ازداد عبّاس ألما على آلامه، فأن تُصدم بأقرب النّاس إليك ليس بالأمر الهيّن…فما بالك إذا كانت الصّدمة بأبيك؟ عاد عبّاس إلى غرفة نومه يجرجر ذيول خيبته…قرّر أن يكون له موقف…لكنّه لا يعرف كنه هذا الموقف، فمعاناته كبيرة، وحيرته أكبر…لكنّه سرعان ما قرّر أن يكون موقفه من والده سلبيا….ففي البداية سيبتعد عنه، وسيعمل ما وسعه لعدم الالتقاء به، فهو لم يعد قادرا حتى على رؤية وجهه، أو سماع صوته.

وقفت ابنته أميرة على حافة سريرها وهشّت وبشّت له…التفت إليها وابتسم…لكنّه لم يحضنها كما هي العادة…ناغته بصوت عصافيري ملائكي، فأرغمته على النّهوض من سريره…حملها على صدره…قبّل وجنتيها وهو يقول: نعم يا روح بابا….رفعت يدها اليمنى وبابهامها وسبّابتها حاولت الامساك بشاربيه، وهي تصدر أصواتا كتغريد كنّار أليف… فقال لها مبتسما:

هل أميرتي فرحة بشاربيّ أم تريد نتفهما؟

ازدادت حركة أميرة ومناغاتها فقالت سعديّة ضاحكة:

الحمد لله أنّ أميرة استطاعت أن تعيد إليك البسمة.

فردّ ضاحكا: الأبناء زينة الحياة الدّنيا وليس المال.

فسألته: مالك غاضب من المال؟

فأجاب: المال وسيلة للحياة الرّغيدة. ثمّ تنهّد وقال: وقد يكون سببا للتّعاسة في الدّنيا والآخرة إن لم نحسن استعماله.

ابتسمت سعديّة وقالت: حبيبي عبّاس…الفقر ذلّ في النّهار ومسكنة في الليل…ونسأل الله أن لا يكون في بلادنا فقير واحد…والغنى هو غنى النّفس…وإذا ما اجتمع غنى المال وغنى النّفس فهذه هي السّعادة…وأضافت وهي تتحسّس بطنها: وعندما سيأتي طاهر الصّغير سيكون سعيدا لأنّه سيجد المال الوفير وسنربّيه على عزّة النّفس.

فردّ عبّاس متباطئا: لن أسميه طاهرا…سأختار له اسما يليق به.

دُهشت سعديّة وتساءلت: ماذا جرى لك يا عبّاس؟ وهل سنجد اسما أفضل من اسم عمّي طاهر؟

–       كلّ الأسماء أفضل من اسم طاهر واسم عبّاس.

–       وحّد الله يا رجل؟ ماذا تقول؟

–       لا أريد هذين الاسمين.

5

حصل ما لم يخطر على بال أحد، فقد اقتحم عدد من شرطة الانجليز مصنع البلاط في يافا…فتّشوا المكتب…قيّدوا يدي الحاجّ طاهر المحمود خلف ظهره…اقتادوه عنوة إلى إحدى سيّاراتهم، ولمّا حاول الاستفسار عن أسباب ذلك صفعه أحدهم على وجهه…فسقط عقاله على الأرض…داسه الجنديّ ودفع بأبي عبّاس إلى السّيّارة…اتجهوا به شمالا…وفي سجن عكّا أودعوه بعد أن أخبره أحدهم بأنّه موقوف ستّة أشهر إداريا حسب قانون الطّوارئ…لم يسألوه شيئا…ولم يعرف هو سبب اعتقاله.

اتصل العمّال بعبّاس وأخبروه عمّا جرى…لم يفهم هو الآخر سببا لذلك…واحتار في الأمر…راودته ظنون كثيرة…وتساءل إذا ما كان لوالده نشاطات لا يعلمها؟ أو أنّ اعتقاله تمثيلية تستمر ساعات للتّغطية على أمر ما؟ أم أن هناك شكوى معيّنة ضدّه، ولم يَرْسُ عل ظنّ معين، فقرّر أن ينتظر يومين كاملين على أمل معرفة الحقيقة….فإن لم يفرجوا عنه سيتّصل بصديق العائلة المحامي حنّا أندراوس ليدافع عن والده…وهذا ما حصل… وكان ردّ المحامي بأنّ الشّرطة قد أخبرته بأنّه تمّ توقيف موكّله لمدة ستّة أشهر دون أن توجّه له أيّ تهمة، وأنّ هناك مئات المعتقلين من مختلف المناطق وبنفس الطّريقة دون أيّ تهمة…وفي اليوم التّالي التقى المحامي موكّله في سجن عكّا…وجده هو الآخر حائرا في أسباب ما جرى له…بل إنّه أخبر المحامي بأنّ علاقته طيّبة مع الضّباط الانجليز في منطقة يافا.

لم تُبْدِ أمّ عبّاس أيّ انزعاج من اعتقال زوجها…بل تلقّت الخبر وكأنّ الأمر لا يعنيها…على عكس كنّته سعديّة، فقد أطلقت سيلا من الشّتائم على الانجليز، وعلى اليوم الذي دخلوا فيه هذه البلاد…ممّا اضطرّ عبّاس أن يطلب منها الهدوء، وأن ترعى طفلتهما أميرة، وأن تحافظ على جنينها الذي في أحشائها.

وذات مساء سأل عبّاس والدته إن كانت تعلم عن نشاطات لوالده مناوئة للانتداب البريطانيّ؟ فلوت فمها استهزاء ولم تجب…ولمّا ألحّ عليها بالسؤال قالت:

“المكتوب ع الجبين تشوفه العين”.

فسألها: وماذا ترى عيناك يا أمّاه؟

ردّت بلا اكتراث: انتبه لنفسك ولبيتك…وحافظ على البيّارة ومصنع البلاط…واتركك من غيرك.

–       لكنّه أبي يا أمّي…وهو زوجك أيضا.

–       لا تخف عليه…سيفرجون عنه…والسّجون لا تغلق أبوابها على نزلائها إلى الأبد. وحرّيّة والدك ليست أغلى من حرّيّة الآخرين، ولا أغلى من دماء الشّهداء.

وعندما طلب منها عبّاس أن ترافقه في زيارة أبيه رفضت وقالت ساخرة:

عندما أشتاقه سأزوره.

اقترب منها عبّاس وسألها: لماذا تتعاملين مع أبي بهذا الجفاء.

–       وكيف تريدني أن أتعامل معه؟

–       كبقية الأزواج بالرّحمة والسّكينة.

–       لم يعاملني برحمة وسكينة حتى أعامله بالمثل.

–       هل هناك أسرار بينك وبينه لا أعرفها.

–       دعك من هذا الكلام يا بنيّ واتركني وشأني.

ازدادت حيرة عبّاس في فهم والده…فهل هو جاسوس للانجليز…ولو كان كذلك لِمَ اعتقلوه…فارتاح لذلك.

*****

عصر اليوم الأخير من عام 1946 شعرت سعديّة بآلام المخاض…لم يكن عبّاس في البيت، فقد ذهب منذ الصّباح برفقة صديقين له للاستحمام في حمّام الوزير في الّلد، ولم يعودا…ركضت أمّ عبّاس إلى فايز، وطلبت منه أن يحضر الدّاية كاترينا من يافا بالسّرعة الممكنة، وطلبت من زوجته أن تركض إلى بيت زليخة والدة سعدية لاحضارها هي الأخرى لمساعدة ابنتها في الولادة…وعادت مسرعة إلى البيت…هدّأت من روع سعديّة…امتطى فايز الفرس السّحوب…سابق الرّيح إلى بيت الدّاية كاترينا في يافا…طلب منها أن تستأجر سيّارة، وأن تحضر بسرعة فائقة إلى بيت طاهر المحمود في بيت دجن لتوليد سعديّة…مرّ على شاطئ البحر، فلا يُعقل لزائر يافا أن لا يرى بحرها ويتمشّى على رمال شاطئها، تبخترت السّحوب على رمال الشّاطئ كما العروس…لفتت انتباه المستجمّين…تقدّمت منها حسناء يافعة…مدّت يدها على جبين السّحوب وقالت:

ما شاء الله…هل تبيع هذه الأصيلة؟

–         الأصايل لسن للبيع ولا للشّراء.

–         سأعطيك الثمن الذي تطلبه.

–         قلت لك ليست للبيع.

ثنى رأس الأصيلة…التفت إلى سفينة تجارية تحمل على ظهرها أطنان الحمضيات…عاد من حيث أتى…وصل البيت قبل الدّاية…أخبر أمّ عبّاس أنّ الدّاية في الطّريق…وإذا بالدّاية تصل…حملت صندوقها “الطّبيّ” الصّغير…أسرعت إلى غرفة سعديّة…فحصتها وقالت بعد أن أعطتها حقنة مهدئة:

تحتاجين إلى ساعات قليلة حتى يفرجها ربّنا…وينزل المولود…فلا تقلقي يا بنيّتي… احتضنت أميرة…قبّلتها وهي تردّد:

ما شاء الله.

وضعتها في حضنها وأخذت تتسامر مع الحاجّة خديجة والحاجة زليخة، وزوجتي عاملي البيّارة فايز وسعيد…وسعديّة تطلق صيحات الألم…فتقفز والدتها تمسح العرق عن جبينها… تحوقل وتطلب الفرج العاجل من الله…فتضحك أمّ عبّاس وتقول:

وحّدن الله يا بنات النّاس، فقد جرّبتما الولادة.

مرّت ساعات…سعديّة تصرخ ألما، ولمّا اشتدّ الطّلق عليها…اقتربت منها الدّاية…كشفت عليها…مسّدت على بطنها وقالت:

دقائق وسينزل المولود…وصراخ سعديّة يزداد…ارتعبت أميرة من صراخ والدتها وواصلت صراخها هي الأخرى…فحملتها زوجة فايز وأخذت تهدهدها وتهدئ من روعها…وإذا بصراخ المولود الجديد الذّكر يملأ الغرفة…تلقفته الدّاية…نظرت إلى ساعتها وأطلقت زغرودة مدوّية وهي تقول:

الساعة الثانية عشرة ودقيقة واحدة بعد منتصف الليل…الآن بداية العام 1947 وهذه ذكرى مولد السّيّد المسيح – عليه وعلى والدته صلوات الله وسلامه-…سيكون هذا المولود مباركا باذن الله…يا إلهي هذه المرّة الأولى في حياتي التي أشاهد فيها ولادة مولود جديد في هذه السّاعة وهذا اليوم! قطعت سرّته… مسحت جسده…لفّته بمنشفة…وقبّلته وقالت:

اعتنوا بهذا الطفل جيّدا وبإذن الله سيكون ذا شأن. ماذا ستسمّونه؟

فقالت جدّته لأبيه: اسألي أمّه….الحكم هذه الأيّام للنّساء.

فقالت سعديّة مستاءة: عندما يعود والده سيختار له اسما.

أمّا الدّاية فقد اقترحت أن يسمّوه عيسى تيمّنا بالرّسول عيسى بن مريم -عليهما السّلام-.

فقالت سعديّة: إذا سمع منّي أبوه، سنسمّيه “طاهر” على اسم جدّه…قالتها وغفت فقد كانت مرهقة.

خيّم الصّمت حتّى الصّباح…فقامت زليخة والدة سعديّة وغلت ابريقَ البابونج…فانتبهت أمّ عبّاس وخرجت من الغرفة…نادت فايز بصوت عالٍ، ولمّا وصلها طلبت منه أن يذهب إلى دكّان البلدة، وأن يحضر ما تيسّر من السّكاكر احتفالا بالمولود الجديد، حتى يحضر عبّاس ويأتي بالحلويّات الفاخرة من يافا.

التقى عبّاس عند ساعات الضّحى، وهو في طريقه إلى الدّكان بفايز…أوقف عبّاس سيّارته بجانبه…وقبل أن يفتح فمه قال له فايز:

أين كنت يا رجل؟ مبارك وليّ العهد يا عبّاس.

دهش عبّاس وسأل:

هل أنجبت سعديّة؟

–       نعم… أنعم الله عليكما بمولود ذكر…وأنا ذاهب إلى الدّكان لأشتري الحلوى…ضحك عبّاس وطلب من فايز أن يركب معه في السيّارة، بعد أن نزل منها زميلاه وهما يباركان بالمولود الجديد… وقال:

لقد نمنا ليلتنا عند أحد الأصدقاء في الّلد…وسبحان علّام الغيوب…لو علمت بأنّ سعديّة ستلد لما خرجت من البيت…لكن لا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ذهبا إلى حلويّات طنّوس في يافا…مرّا بين أهرامات البقلاوة، الغريبة، الهريسة، الزلابية، المشبّك، المعمول والمعجّنات، واشترى عشرين كغم بقلاوة، ومثلها غريّبة وكلغم هريسة خصيصا لأميرة؛ لأنّها تحبّها دون غيرها، وطلب من صاحب المحلّ أن يعدّ له ثلاث صواني كنافة كبيرة، سيعود لأخذها عندما تجهز بعد الظّهر. ثمّ انتقل إلى محلات أبو العافية واشترى الكثير من السّكاكر كالملبّس على لوز والحامض حلو والشوكولاتة.

عندما نزل عبّاس من السّيارة أمام القصر قالت له حماته زليخة باسمة:

مبارك العريس يا أبا طاهر!

–       الله يبارك فيك…كيف سعديّة؟

–       الحمد لله سعديّة والمولود بخير.

الجوّ عاصف والأمطار تتساقط…وقف عبّاس باب الغرفة…شقشقت عينا سعديّة وابتسمت عندما رأت عبّاس، ثمّ غفت بدلال. باركت له النّسوة، فطلب منهنّ أن يتركنها تستريح، وأن يتبعنه إلى الصّالون المجاور….وضع أمامهنّ مختلف أنواع الحلويات.

التفتت إليه الدّاية كاترينا وقالت له:

وليّ عهدك وُلِد مع ولادة السّيد المسيح عليه السّلام، واقترح عليكم أن تسمّوه عيسى تيمّنا بالمسيح.

ضحك عبّاس وقال: سأسمّيه “محمّد عيسى”، فسألت حماته زليخة:

ولماذا لا تسمّيه طاهر على اسم أبيك؟

فردّت أمّ عباس: أسماء الأنبياء أفضل من اسم أبيه وأسماء أجداده، والتفتت إلى ابنها باسمة وهي تردّد:

ألف مبروك.

ثمّ تناولت حفيدتها أميرة من جدّتها لأمّها…ضمّتها إلى صدرها بحنان زائد، وقبّلت وجنتيها ورأسها ورقبتها ويديها وحتى قدميها…قبّلتها بطريقة لافتة كأنّها تراها للمرّة الأولى…وما كان الحضور يعلمون أنّه لو سمّى عبّاس ابنه طاهرا على اسم أبيه، لما انفجر نبع حنان والدته لابنته، لأنّه لم يسمّها على اسمها كما جرت العادة…فقد اقتنعت أنّ عبّاس ليس منحازا لأبيه ضدّها، وهو لا يريد تكرار أسماء الآباء والأجداد في أبنائه…خرجت من الغرفة إلى البرندة تحتضن حفيدتها أميرة رغم الأجواء الباردة، وأخذت تهاهي بأعلى صوتها:

هاي يا مرحبا يا اعزازي

هاي يا مية حمرا تزازي

هاي وللي ما فرحت لابن عبّاس

هاي تنكسر كسر الكزاز

ثمّ أطلقت زغرودتين متتاليتين….حتى كاد نفسها ينقطع…وسط صراخ أميرة التي ارتعبت من صوت جدّتها، لحقت بها زليخة والدة سعديّة…أمسكت أميرة وضمّتها إلى صدرها…وسألتها مستنكرة فرحها الزّائد وزوجها سجين.

فقال عبّاس سنقيم احتفالا لـ “محمّد عيسى” كما فعلنا عندما رزقنا الله بشقيقته أميرة…وعلا صوت سعديّة تنادي عبّاسا…ذهب إليها وقبّلها بعمق مهنّئا بالسّلامة وبالمولود الجديد وهو يردّد:

حمدا لله على سلامتك يا حبيبتي.

– الله يسلمك حبيبي، لكن لا داعي للأغاني والزغاريد…فالفرح في القلوب، وعمّي طاهر في السّجن…والأحداث تتزايد يوما بعد يوم… والشّهداء يتساقطون.

– الحياة يجب أن تستمر يا سعديّة…ناس يولدون، وناس يستشهدون ويموتون…وآخرون يعتقلون. وهذه طبيعة الحياة في بلادنا.

–       هل وافقت على تسمية الولد على اسم أبيك؟

–       لقد استقرّيت على اسم ” محمّد عيسى” ولن أغيّره…ومن يغضب الآن سيرضى لاحقا…وليس من حقّ أحد أن يشاركني في تسمية ابني..

توافد المهنّئون لأكثر من أسبوع…وعبّاس ينحر يوميّا عدّة خراف اكراما لهم، النّساء يغنّين ويرقصن في الطّابق الثاني، بعد أن أخلين الطّابق الأوّل للرّجال، حتى سعديّة أغلقت غرفة نومها، وانتقلت معهنّ، فالسمّاء مطّارة، ولا تسمح باقامة حلقات الدّبكات الشعبيّة، كما حصل في الاحتفالات بمولد أميرة. فقط رابعة عمّة عبّاس قاطعت الاحتفالات، مع أنّها كانت فرحة بالمولود الجديد، إلّا أنها ترى أن اقامة احتفالات بالحفيد والجدّ مغيب في السّجون لا يليق بالعائلة. لكنّ هذا لم يؤثّر على موقف عبّاس الذي قرّر أن يؤجّل ختان المولود حتى يخرج والده من السّجن، إلّا أن أمّ عبّاس رفضت ذلك بشدّة، وقالت:

ختان المواليد الذّكور مبّكرا أفضل.

وبقيت تلحّ على عبّاس حتى أحضر حلّاق البلد الذي يختن أطفال البلدة الذّكور…توسّطت  أمّ عبّاس النّساء…رقصت وهي تلوّح بمنديل أبيض وتغنّي، وهنّ يردّدن خلفها:

في القنّيه يا زارعات الورد في القنيه يا ميمتي يمّه

في العليّه يا مطهّر الصّبيان في العليّه يا ميمتي يمّه

في القناني يا زارعات الورد في القناني يا ميمتي يمّه

في العلالي يا مطهّر الصّبيان في العلالي يا ميمتي يمّه

ثمّ رقصت زليخة جدّته لأمّه، وغنّت وهنّ يردّدن خلفها:

لا تطهروا ها الولد لما يجين خالاته

يِجِبْن الذّهب والّلولو وِيْقَطبن على جيباته

* * *

غيره ما بريد، طهروا لي الولد غيره ما بريد

يا دمعة عيونه، يا نخل الجريد، يا دمعة عيونه

غيره ما بدّي، طهروا لي الولد غيره ما بدّي

يا نخل الورد، يا دمعة عينه، يا نخل الـــــــورد

* * *

ع المينا وعلى المينا يا مراكب ودّينا

ع المينا وعلى المينا يا مراكب القدس

لولا طهورك يا ولد ما لبسنا هالّلبس

ع المينا وعلى المينا يا مراكب عمّان

لولا طهورك يا ولد ما لبسنا هالذّهبان

ع المينا وعلى المينا يا مراكب الكويت

لولا طهورك يا ولد ما لبسنا هالجاكيت.

بعد شهرين من ولادة “محمّد عيسى” اصطحب عبّاس زوجته سعديّة، وطفليه وشقيقته نبيهة لزيارة والده في سجن عكّا…مرّوا بيافا…سافروا شمالا عبر الطّريق السّاحليّ…بيارات البرتقال على يمينهم والبحر على يسارهم…سعديّة ونبيهة مأخوذتان بجمال الطّبيعة، بينما عبّاس يشغله التّفكير بأسباب اعتقال والده…لم يقلقه الاعتقال بمقدار ما يقلقه معرفة حقيقة والده، فهناك أسئلة لم يجد لها جوابا شافيا…هل له ارتباطات بالانجليز؟ أم ماذا؟ وصلوا عكّا حوالي العاشرة صباحا…نزل من السيّارة متثاقلا…في غرفة الزّيارة سلّموا عليه جميعهم…قبّلوا يده اليمنى وقبّل وجناتهم…احتضن أبو عبّاس حفيده وهو يسأل:

ولد أم بنت؟

فقال عبّاس: ولد وأسميناه “محمّد عيسى” لأنه ولد في الساعة نفسها التي ولد فيها السّيّد المسيح –عليه السّلام- كما أخبرتنا الدّاية كاترينا.

لم يبد أبو عبّاس اعتراضا على الاسم وان كان في داخله يرغب بأن يحمل حفيده اسمه…وقال:

مبارك لنا جميعنا هذا المولود، وأسأل الله أن تكون حياته حياة فرح وسعادة، وأفضل ممّا نحن فيه. وأضاف تسمية المولود بهذا الاسم مباركة باذن الله، فهذه البلاد لأتباع محمّد وعيسى عليهما الصّلاة والسّلام.

ابتسم عبّاس وقال: وهذا ما قصدته بهذا الاسم.

احتضن أبو عبّاس حفيدته أميرة وقال: اسمعوا يا أبنائي، وتحديدا أنت يا عبّاس: أوصيكم بأن تقيموا احتفالا كبيرا، تنحرون فيه الجزور، وتدقّون الطّبول، وتوزّعون الحلويات، وتحسنون ضيافة من يأتيكم مباركا بالمولود الجديد، أريده احتفالا كما الاحتفال الذي عملناه يوم ولدت شقيقته أميرة، أو يزيد. كما أريدك يا عبّاس أن تحافظ على الأرض، وعلى مصنع البلاط، فهي مستهدفة وهي سبب وجودي هنا في السّجن، وهذا ما اكتشفته قبل ثلاثة أيّام. فقاطع عبّاس ونبيهة حديثه سائلين:

وكيف اكتشفته؟

–       قبل اعتقالي بشهر كنت في احتفال دعاني إليه الكولونيل البريطانيّ روبرت، قائد شرطة يافا، وكان الحضور خليطا من العرب ومن اليهود ومن الانجليز، كانوا رجالا ونساء، بعضهم أعرفه وبعضهم رأيته للمرّة الأولى، قدّموا أطايب الطّعام، ورفعوا الكؤوس…رقصوا بصخب، أجلسوني على طاولة الكولونيل…مع عربيّ لهجته بيروتية قالوا لي بأنّ اسمه محمود، ويهودي اسمه حاييم، لم أره من قبل…رجل في الأربعينات من عمره، يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء جلس قبالتي، دخل قاعة الحفل بصحبة ثلاث نساء جميلات، جلست واحدة منهنّ على يميني والثانية على يساري…والثالثة على يمين حاييم، في حين جلس الكولونيل على رأس الطّاولة…طلبن منّي أن أراقصهنّ لكنّني رفضت، فقد شعرت أنّ الأمر ليس طبيعيّا…فعندما عرّفني الكولونيل على حاييم قال وهو يشير إليه:

الخواجا حاييم…رجل ثريّ يريد استثمار أمواله في البلاد لصالح العرب واليهود.وأشار إليّ قائلا:

هذا الحاج طاهر المحمود رجل أعمال، وملّاك أراض زراعيّة، وصاحب معمل بلاط فاخر في يافا.

ابتسم حاييم ومدّ يده مصافحا مرّة أخرى، وهو يقدم النّساء الحسناوات اللواتي برفقته…وبعد تناول الطعام، عرضت النّساء عليّ أن أراقصهنّ…لكنّني اعتذرت بحجة أنّني مرهق…وبعد حوالي ساعتين سألني محمود إن كنت أملك أراضي للبيع، أو أعرف من يريد أن يبيع أرضه؟ وأشار إلى حاييم قائلا:

الخواجا حاييم مليونير، ويريد شراء أراض ليقيم عليها مصانع، ومشاريع اسكانية للعرب ولليهود.

فأجبته بأنّه لا يوجد عندي أرض للبيع، ولا أعرف من يريد بيع أرضه.

فقال حاييم: إن كنت ترغب ببيع معمل البلاط سأدفع لك مبلغا ترضى به؟

ولمّا أجبته بالنّفي، قال:

وإن أردت شريكا فأنا جاهز أيضا وبالمبلغ الذي تطلبه، فأجبته بالنّفي أيضا. وبعد يومين من ذلك الحفل المشؤوم زارني الكولونيل روبرت وبصحبته محمود وحاييم…تجوّلوا في معمل البلاط…وأعاد حاييم عرضه بشراء المعمل أو الشّراكة فيه، ولمّا رأوا اصراري على الرّفض، شربوا قهوتهم وانصرفوا.

ثمّ حاولوا نفس المحاولة أكثر من مرّة في مكتب الكولونيل روبرت. وحسبت أنّ موضوعهم قد انتهى…لكن قبل ثلاثة أيّام استدعاني مدير السّجن، وكان في مكتبه شابّ بلباس مدنيّ…رحّب بي وسألني:

هل أنت مرتاح في السّجن يا حاج طاهر؟

فأجبته مستنكرا: وهل في السّجن راحة؟

ثمّ سأل: هل تعرف لماذا أنت هنا في السّجن؟

فأجبته: ليتني أعرف، فقد أودعوني السّجن دون سؤال أو جواب.

أشعل سيجارة وقال: أنت خطير يا حاج طاهر…فأنت ترفض التعايش بين العرب واليهود في هذه البلاد، ورفضك هذا يعني أنّك تحرّض على العنف.

فقلت له: هذا كلام غير صحيح…فأنا لا تعنيني السّياسة، ولي أصدقاء يهود أعرفهم منذ سنوات طويلة. ولا خلافات بيني وبينهم.

فقال الرجل ممتعضا: كلامك غير صحيح، وأنت تكره اليهود وتكره الانجليز أيضا، ولديّ معلومات حول ذلك.

فسألته غاضبا: وما هي معلوماتك؟

ابتسم الرّجل وقال: هذا لا يهمّ، وأنا جئت هنا لأساعدك، طبعا إذا ساعدتَ نفسك.

فسألته: وكيف سأساعد نفسي؟

–       بابداء حسن النّوايا… والقيام بعمل يثبت لي أنّك مواطن صالح!

فأجبته بأنّني لا أفهمه. فقال:

إذا وافقتني على ما سأقوله لك، ستخرج من السّجن الآن، وسأوصلك بسيّارتي إلى بيتك معزّزا مكرّما.

–       وماذا ستقول لي؟

–       لإثبات أنك مواطن صالح، عليك أن تبيع معمل البلاط للخواجا حاييم، وسيدفع لك المبلغ الذي ستطلبه، والخواجا حاييم مستثمر يخدم العرب قبل اليهود، وإذا ما بعته المعمل فانّه سيطوّره، وسيبقى العمّال العرب العاملون فيه هم أنفسهم، بل سيزيد عددهم وسيزيد أجورهم أيضا، وأنا أضمن لك ذلك.

–       فقلت له: أنا لا أبيع أرضا أو عقارا ورثته عن آبائي وأجدادي.

فقال: ألم أقل لك بأنّك تحرّض على القلاقل بين العرب واليهود؟

فحسمت الأمر معه عندما قلت له بأنّ معمل البلاط ليس للبيع لا لليهود ولا للعرب.

فخرج من الغرفة وهو يقول: عندما ستغيّر رأيك وتنفّذ ما قلته لك، أخبِرْ مدير السّجن، وسأحرّرك في نفس اليوم.

وهذا ما حصل معي يا أبنائي…يعني أنا موجود في السّجن للضغط عليّ كي أبيع الأرض لليهود، لكنّني لو بقيت هنا حتى آخر يوم في حياتي، فلن أبيع لهم شبرا واحدا من الأرض، وهذا ما أوصيكم به…حافظوا على الأرض مهما كان الثّمن، واعتنوا جيّدا بالبيّارة، وأريدك يا عبّاس أن تقف للمصنع، وتشرف على العمل فيه، وإن انشغلت في أمر ما فارسل “فايز” نيابة عنك، فهو رجل ثقة ومؤتمن، ووالده من قبله كان كذلك.

ذهل عبّاس ممّا سمع، وغمره فرح كبير بموقف والده…فسقطت دمعات فرح من عينيه وهو يقبل يدي والده شكرا وامتنانا…وانتهت الزّيارة.

قادهم عبّاس للتّجوال على شاطئ عكّا…رأى الأطفال يتقافزون في مياه البحر كطيور النّورس…ضحكاتهم تتساوق مع خرير مياه الأمواج النّاعمة التي تتكسّر على شاطئ البحر…أميرة تحاول الافلات من حضن والدها لتشاركهم الّلعب…تمشي قليلا فتتعثر بالرّمال…ولا تلبث أن تعود إلى حضن والدتها…بعدها انتقلوا إلى مطعم وأكلوا السّمك البحريّ الطّازج.

في طريق عودتهم…مرّوا بحيفا…صعدوا جبل الكرمل…توقفوا فوق معبد البهائيين…حيفا تمدّد ساقيها على شاطئ البحر…تمتدّ عبر السّاحل في بيوت متناثرة لتصل عكّا…واصلوا صعود الجبل…مرّوا بشركة “كرمان” لصناعة السّجائر…انحدروا على السّفوح الغربيّة للكرمل…الأشجار الحرجيّة تكسو الجبل…البحر تحتهم يمتدّ جنوبا إلى يافا…عند كعب الجبل تربض قرية الفريديس…ساروا على الشّارع بمحإذاة البحر…النّسيم العليل يعبث بشعر أميرة…فيتطاير خيوطا ذهبيّة على وجه والدتها.

*****

لم يعد الاهتمام بأميرة كما كان قبل ولادة شقيقها “محمّد عيسى” ممّا أثار غيرتها، وكانت كلّما اقتربت من أمّهما وهي ترضعه، تبعدها عنه بالّلين وبكلمات جميلة، وقلب رؤوف يخفق لها…أمّا جدّتاها فكانتا تقولان للمولود الصّغير:

إن شاء الله ستكبر وستقبرها بيديك!

لم يكن الشقيقان الصّغيران يفهمان ما يدور حولهما، لكنّ أميرة كانت تفهم أن الّلغة زاجرة، فتتراجع إلى الخلف خائبة مكسورة الجناح.

وامعانا في حبّ الابن الذّكر فقد كانت الأمّ سعديّة والجدّتان زليخة وخديجة يهدهدن “محمّد عيسى” معتدّات بذكورته، فيغنّين له وهنّ يكشفن عن عضوه:

والزّبرة زبرة عطــــــــــا نايمة تحت الغطـــــا

ولا تحسدي يا حاســـــــده وهذا ربّي اللي عطـى

والزّبرة زباريــــــــــــــها والرّحمن امباريهــــا

والدّار الّلي هي فيها بتطبّ البركة فيهـا

ويبالغن في المفاخرة بذكورته، ويقلّلن من شأن الأنوثة فيغنّين له خصوصا عندما تمتلئ مثانته بالبول وتضغط على عضوه الصغير فينتصب:

والزّبرة زبرة قنفد

بتخزق الحيط وبتنفد

والزّنبور لا شاف سرور

يطلع صاغ ويرجع مقعور

6

تواردت الأنباء عن أنّ “محكمة الثّورة” انعقدت في براري القدس، وقرّرت اعدام منصور حمدان الفالح بتهمة العمالة للانجليز، والوشاية بالثّوّار، بناء على شكوى قدّمها ضدّه اثنان من أبناء عمومته، بعد أن اختطفوه بالخديعة بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، قالوا له بأنّهم رتّبوا له مقابلة مع قادة في الجهاد المقدّس للبحث في كيفية الدّفاع عن بيت دجن ويافا عندما تحين الواقعة…في الطّريق ما بين القدس وأريحا وتحديدا عند الخان الأحمر، انحرفوا به جنوبا…ساروا عبر الجبال والوديان…مناطق جرداء إلا من نباتات صحراوية تعتاش عليها قطعان المواشي…بيوت البدو المنسوجة من شعر الماعز قائمة في مناطق معينة، قرب آبار المياه…وصلوا خربة جنجس…عدد من الثّوار ظهروا من بين الانحدارات الصخريّة والكهوف…انتحى أبناء عمّه محمود وأحمد خلف الفالح باثنين منهم جانبا …أمسكوا بمنصور…لم يسألوه شيئا، بصقوا عليه وضربوه… وهم يردّدون:

أنت جاسوس للانجليز.

أشبعوه ضربا واقتادوه مكبّلا بالقيود أمام الحاجّ محمّد “قاضي الثّورة” فصاح متوسّلا:

أقسم بالله العظيم أنّني ما خنت شعبي ووطني في أيّ وقت من الأوقات، ولم أكلّم في حياتي أيّ انجليزي كائنا من كان، فأنا أعمل في أرضي لأعيل أسرتي التي لا معيل لها غيري، وهناك من أقاربي من يطمعون في أرضي، ويريدون الخلاص منّي ليستولوا عليها، فاتّقوا الله  بي يا اخوان ولا تظلموني.

ابتسم الحاجّ محمّد “قاضي الثّورة” وقال له:

اسمع يا ابني: يقول تعإلى(وَلَكُمْ فِي الْقصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة (179) فباسم الله، وباسم الشعب والوطن، وبعد أن ثبت بشهادة الشّهود عمالتك للانجليز، وما يترتب على ذلك من ضرر للعباد وللبلاد، ولقطع دابر العمالة، وتحقيقا للعدالة، فقد قرّرنا الحكم عليك بالاعدام رميا بالرّصاص.

فصاح منصور الفالح باكيا: الله أكبر…اتّقوا الله يا ناس، وابقوني رهينة عندكم، حتّى تسألوا أبناء بلدتي عنّي، فهم يعرفونني جيّدا…وأنا سأرضى بما سيقولونه عنّي.

الحاجّ محمّد: لقد شهد عليك أقرب النّاس اليك.

منصور الفالح: أنا أعرفهم…إنّهما أحمد ومحمود أبناء خلف الفالح، أبناء عمومتي…وهما من يناصبانني العداء، بعد أن رفضت شقيقتاي الزّواج منهما، وطمعا في أرضي، فلا تقبلوا شهادتيهما عليّ، وأقبل شهادة أيّ شخص آخر.

الحاجّ محمّد: اسمع يا بنيّ، لقد قرّرنا اعدامك…وانتهى الأمر…فإن كنت بريئا ومظلوما فإنّك ستذهب إلى الجنّة، وإن كنت جاسوسا فقد أقمنا عليك الحدّ في الدّنيا، وسيغفر الله لك في الآخرة، وأنت الرّابح في كلتا الحالتين. فما هو آخر طلب لك قبل أن تودّع الدنيا.

فقال وهو يرتجف ويبكي: طلبي أن تحقّقوا العدالة…فوالله إنّني بريء.

التفت الحاجّ محمّد إلى من حوله من الثّوّار وقال لهم: خذوه ونفّذوا الحكم.

جرّوه وهو يصرخ: دمي في رقابكم إلى يوم الدّين.

أشبعوه ركلا وضربا على مختلف أنحاء جسده… أدخلوه عنوة في جحر يعلو انحدارا صخريا في مجرى واد عميق، وأطلق أحدهم رصاصة على رأسه، وتركوه لتنهش جسده الغربان والطّيور والجارحة والحيوانات المفترسة، وغادروا المكان يبتسمون.

وفي صباح اليوم التّالي، وعندما توجّه المصلّون إلى مقام الشّيخ الزّواوي، ومقام سعد الأنصاريّ، وجدا قرار “محكمة الثّورة” باعدام منصور الفالح مكتوبا بخط اليد، ومعنونا باسم”الجهاد المقدّس” معلقّا على بابي المقامين المقدّسين، قرأ إمام كل مقام البيان، وضرب كفّا على كفّ، وتعوّذ بالله من الشيطان الرّجيم، وحوقل، وفي صلاة الفجر قرأ كلّ منهما جهرا بعد فاتحة الركعة الأولى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”. وبعد الانتهاء من الصّلاة، خطب امام مقام سعد الأنصاريّ في المصلّين، بعد أن حمد الله وصلّى على نبيّه، وممّا جاء في خطبته ” رحم الله منصور الفالح، ونحتسبه عند الله شهيدا، ولا نزكّي عند الله أحدا، لكن وكما تعلمون أيّها الأخوة المؤمنون، ويشهد الله علينا، أنّنا لم نرّ منه إلا كلّ خير، فقد كان تقيّا نقيّا، بارّا بوالديه، عطوفا على شقيقاته وزوجته وأطفاله، يعمل في أرضه، ويعتاش منها، لا يؤذي أحدا، وحسب ما نسمع، فإنّ الوشاية الناتجة عن العداوات والأطماع الشّخصيّة قد أعمت بصيرة البعض، وكثرت الوشايات الكاذبة التي تكون نتائجها ازهاق أرواح بريئة حرّم الله قتلها، ومن تسبّب في قتل بريء فهو قاتل أيضا، ومن قتل انسانا بغير حقّ فكأنما قتل النّاس جميعا، فاتقوا الله يا اخوتي، وابتعدوا عن الغيبة والنّميمة، وابتعدوا عن الوشايات الكاذبة، وأسأل الله لي ولكم الهداية.

غادر المصلّون المقامين إلى بيوتهم،  بعضهم يبكي والبعض الآخر حزينا على مصير منصور الفالح، ولمّا سمعت والدته وشقيقاته وزوجته بالخبر، علا صراخهن، فشققن الجيوب ولطمن الخدود، فخرج أحمد ومحمود ابنا خلف الفالح من بيتيهما المجاورين، يستفسران عن سبب الصّراخ، وكأنّهما لا يعلمان شيئا، فاقتربت منهما الحاجّة زكيّة والدة المغدور منصور، وهوت على رأس أحمد بفأس وهي تردّد:

كلّ ما جرى منكم يا اولاد الحرام، فسقط مغشيا عليه ومضرجا بدمائه، ولولا أنّها كانت ضعيفة البنية- فقد كانت في آواخر السبعينات من عمرها- لقتلته، ورفعت الفأس لتهوي بها على رأس شقيقه محمود، غير أنّه انتبه لها، وأمسك  بالفأس منها، وهجمت ابنتاها وكنّتها معها…ولولا أنّ الجيران الآخرين وصلوا وفصلوا بينهم لكانت العواقب وخيمة…أعادوا “محمود” إلى بيته، وقدّموا الاسعافات لشقيقه أحمد، كانت الحاجّة زكية هائجة…تلهث وسيل من الشّتائم ينطلق من فمها على الشّقيقين أحمد ومحمود، أدخلوها بيتها وحاولوا تهدئتها، وهي تردّد:

لن أسامحهم بدم فالح.

كانت إصابة أحمد بالغة، لكنّها غير مميتة، وقد عانى منها كثيرا، فقد أورثته شللا في يده اليمنى، وغباء مستديما.

غالبيّة أبناء البلدة كانوا فرحين بردّة فعل الحاجّة زكيّة، وتجمّعوا حول بيتها، بينما تصنّع شقيقه محمود العقلانيّة، واعتبر نفسه وليّا للمغدور فالح، وأقسم أغلظ الأيمان بأنّه وشقيقه أحمد لا يعلمان شيئا ممّا جرى لفالح، ومن موقع المسؤوليّة العائلية المزعومة أعلن أمام الجميع بأنّ من وشى بمنصور لن ينجو من العقاب! وأنّه يعفو عن الحاجّة زكيّة على ما فعلته بشقيقه أحمد! كما أعلن عن فتح بيته لتقبّل العزاء بوفاة ابن عمّه، ولخيبته فإنّ أحدا من أبناء البلدة لم يدخل بيته معزيّا، بل تجمّعوا حول بيت منصور يواسون والدته وشقيقاته وأرملته.

أمّا فايز فبعد صلاة العشاء فقد ذهب إلى بيت محمود الفالح…لم يطرح التحيّة، ولم يصافح أحدا، مع أنّ صاحب البيت استقبله عند الباب مرحّبا…لم يقدّم التّعازي، ولم يحتسِ القهوة المرّة كما جرت العادة، فسأله محمود:

ما بك يا رجل؟

هزّ فايز “محمود” من كتفه وسأله: هل سمعت بالّذي يقتل القتيل، ويمشي في جنازته؟

– ماذا تقصد؟

– أنت تعلم ما ومن أقصد.

– اتّق الله يا رجل…فمنصور ابن عمّنا، وهو عزيز على قلوبنا…وغدا ستظهر الحقيقة، وسنقتصّ ممّن وشى به.

– لا تتظاهر بالبراءة…ولا تتذاكى كثيرا…فجميع أهالي البلدة يعرفون نذالتك أنت وشقيقك أحمد، وطمعكما بالزواج من شقيقتي منصور والاستيلاء على أرضه، لكنّكما لن تحصلا على شيء، بل ستخسران كلّ شيء، ولن تنجوا من العقاب.

– لا حول ولا قوّة الا بالله العلي العظيم، كيف سأثبت لكم براءتنا؟ هل ستكذبوننا، وتصدّقون أمّ منصور العجوز الخرِفَة؟ أنا أقدّر حزنها على ابنها…وأغفر لها ما عملته بأخي أحمد، فهي في مقام والدتنا…وحزننا على منصور لا يقلّ عن حزنها، وكان الله في عونها وعوننا جميعنا على هذا المصاب الجلل.

– اسمع يا محمود، لم آتِ اليك لأعاتبك، أو لأصدّق ما تقوله، وإنّما جئت لتحذيرك وتحذير من لفّ لفّك من مغبّة المسّ بأمّ منصور، أو بناتها، أو أرملة الفقيد أو أطفاله، أو أرضه، والويل لمن يحاول إيذاءهم، فتكفيهم المصيبة التي وقعت على رؤوسهم بسببك وسبب أخيك أحمد…قال ذلك وخرج دون استئذان.

بعد حوالي أسبوعين وجد المصلّون بيانا على بوّابتي المقامين يحملان نفس النّصّ، وقد جاء فيهما بعد البسملة والحمدلة:

“وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ”سورة آل عمران-169-170. صدق الله العظيم. تنعى قيادة الجهاد المقدّس الشّهيد – باذن الله تعإلى- منصور حمدان الفالح، وتتعهّد بالاقتصاص ممّن تسبّبوا بقتله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

عندما قرأ المصلّون البيان انفرجت أساريرهم، ولعنوا الحاسدين والطّامعين والواشين. واتجه إمام المسجد يصحبه حوالي عشرة أشخاص من بينهم فايز وعبّاس إلى بيت الفقيد، فتكلّم الشيخ عن فحوى بيان الجهاد المقدّس، الذي اعتبر منصور حمدان الفالح شهيدا…تنهدّت أمّ منصور وقالت بلوعة:

وهل سيعيد إلينا هذا البيان “منصور”؟ ومن سيعتني بأطفاله وأرضه بعده؟

فقال الإمام: ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ”سورة هود-6- فالله سبحانه وتعإلى كفيل بهم.

تمتمت الحاجّة زكيّة وقالت”حسبي الله على الظّلّام واولاد الحرام”. وبكت وبكى الحضور معها عندما جلس في حجرها الابن الأصغر للمغدور منصور، وسألها – وهو يتلفّت في وجوه الرّجال:

ستّي وين بابا؟

7

بعد مرور أربعين يوما على اعدام منصور حمدان الفالح…غادر أحمد خلف الفالح ابن عمّه المستشفى الحكوميّ في يافا بعاهة مستديمة، جرّاء ضَرْبِ أمّ منصور له بالفأس على رأسه، لم يستطع الأطباء انقاذه منها، وهي شلل في اليد اليمنى، وغباء مستديم….فالرجل خرج معتوها بشكل واضح…لا يفهم الكلام…لعابه يسيل على ذقنه وصدره…ويردّد دائما:

سأتزوج عائشة بنت عمّي حمدان، رغما عن أنفها وأنف شقيقها منصور، ووالدتها زكيّة.

حاول شقيقه محمود أن يثنيه عن هذا الكلام، لكنّه لم يستوعب النّهي، بل كانت أوضاعه تزداد سوءا…وذات يوم مرّ بفايز وقال له الكلام نفسه، فسأله فايز:

وإذا لم تقبل بك زوجا ماذا ستفعل؟

– ساقتل شقيقها.

– وكيف ستقتله.

– ستقتله الثّورة.

وغادر وهو يردّد ذلك.

احتار محمود خلف الفالح بأمر شقيقه…فهو يجلب المتاعب لهم، والأطباء يؤكدّون بأنّه لن يتعافى، وسيمضي بقيّة حياته معتوها لا يعي ما يقول، وأهل البلدة يتغامزون عمّا يردّده عن أنّ الثورة ستقتل”منصور”. ففكّر محمود بقتل شقيقه كي يخلص منه ومن كلامه…فكّر كثيرا في الموضوع…فتارة يشفق عليه، وأخرى يرى فيه خطرا مؤكّدا، ويجب الخلاص منه، لكنّه في النّهاية قرّر بأن يترك شقيقه، ورأى  أن يتزوّج عائشة شقيقة المغدور منصور، وبالتّالي سينسى أحمد القصّة…وقال في نفسه…سأصبر ثلاثة أشهر على وفاة منصور، وبعدها سأعلن أنّ الحداد كلّ هذه الفترة حرام، ولا يجوز أن تبقى أرض منصور مهملة هكذا، ومن منطلقات عائلية، وتحت ذريعة الحفاظ على الأرض، وإعالة أطفال منصور فإنّه لا خيارات أمامي سوى الزّواج من واحدة من بنات عمّي، وهذ يتطلّب منّي تحسين علاقتي معهنّ ومع والدتهن الحاجة زكيّة…سأبقي ذقني طليقة، وكوفيّتي مقلوبة حدادا على منصور، والذي في القلب سيبقى دفينا في القلب، والنّاس لهم الظّاهر.

وفي الصّباح أخذ بغلته…ربط عليها سكّة الحراثة، وشرع يحرث في بيّارة منصور…فانطلقت إليه الحاجّة زكيّة- أمّ منصور- وقذفته حجرا وهي تسأل:

ماذا تفعل يا نجس؟

فأجاب متصنّعا الحياء: يسعد صباحك يا حاجّة…كما ترين فأنا أحرث أرضكم مساعدة لكم، و”الدّم ما يصير ميّة” وسنحافظ على الأرض حتى يكبر أطفال المرحوم.

فنهرته بلهجة زاجرة: خسئت يا نذل يا جبان…اخرج من الأرض قبل أن أجمع أهل البلدة عليك…فأنت نجس، وتنجّس التّراب الذي تدوسه.

فقال لها متوسّلا: وحدّي الله يا أمّ منصور…فنحن أهل.

فقالت: لا إله الا الله…متى صرت تعرف الله؟ انصرف من الأرض بالحسنى وإلّا…وبدأت تقذفه بالحجارة…فولّى هاربا…ذهب إلى إمام المسجد يطلب وساطته مع أمّ منصور…تكلّم باستعطاف مبديا حزنه على حال أسرة منصور، وأنّه لا يريد حمدا ولا شكورا…فقط يريد مساعدة أسرة عمّه المنكوبة…أشاح الامام وجهه عنه وهو يقول:

هذه أمور عائلية لا دخل لي بها.

شعر بأنّ الدّنيا تضيق عليه…كأنّه يختنق…يحاول أن يتصنّع عدم المبالاة…لكنّ ذلك لم يعد خافيا على من يعرفونه…لم يتصوّر أنّ ردود الفعل على اعدام منصور ستكون بهذه الطريقة…ولم يخطر على باله أنّه وشقيقه أحمد سيكونان المتّهمين بالوشاية عليه…وكان ساخطا على أهل بلدته…فكيف يتّهمون أقرب النّاس لمنصور. ولماذا لم يتّهموا آخرين؟ في قرارة نفسه أبدى ندما شديدا على ما فعله وشقيقه أحمد بمنصور…فقد جاءت النتائج معكوسة…وشقيقه أحمد نال جزاءه سريعا…وتمنّى لو أنّ الضربة جاءت في رأسه وليس في رأس أحمد…فأن يعيش معتوها لا يعي الأمور أفضل من هذا العذاب الذي أوقع نفسه فيه…ولم يعد ليله ليلا ولا نهاره نهارا…فكّر بحيلة توصله إلى الزّواج من واحدة من شقيقتي منصور…وليس أمامه سوى التّقرّب منها. ورأى بأنّ عائشة فتاة حييّة، تستحي من طول الّلسان…ومسالمة تبتعد عنّ الشّرّ…انتظرها قريبا من بئر الماء…وعندما جاءت لتملأ جرّتها خرج اليها…طرح عليها التّحيّة فنظرته بازدراء وسألته:

ماذا تريد؟

– عطشان يا ابنة العمّ.

ناولته دلو الماء دون أن تتكلم…شرب…وقال مبتسما: سلمت يداك.

لم تجبه…فقال لها:

طمئنيني، كيف حالكم؟

– وماذا يعنيك حالنا؟ قالتها بلهجة غاضبة.

– ألسنا أبناء عمومة؟ فوالله لو مات شقيقي أحمد لكان أهون عليّ ممّا جرى لمنصور

– رحمه الله- وهناك مغرضون يحاولون التفريق بيننا. فلا تستمعوا إليهم يا ابنة العمّ.

– لست ابن عمّنا، ولو كنتم أبناء عمّنا حقّا لما وشيتم بمنصور وشاية كاذبة أودت بحياته.

لطم على رأسه نافيا هذه التّهمة…حملت جرّتها على رأسها وهي تقول له:

انصرف…لا أريد أن أرى وجهك مرّة ثانية.

شعر أنّ كلامها سكّين ثلم يحزّ عنقة…لطم على وجهه…تمنّى لو أنّ الأرض تنشقّ وتبتلعه…فهذا أهون من حياة بلا كرامة…عاد إلى بيته…استلقى على ظهره وغفا…لم تفارقه الكوابيس…صحا على أذان صلاة الظّهر…توضّأ وذهب إلى مقام سعد الأنصاري ليصلّي…صلّى ركعتي تحية المسجد، وركعتي السّنة…وأسند ظهره على الحائط في انتظار إقامة الصّلاة…رأى كيف يبتعد المصلّون عنه…وبعد صلاة الفرض رفع يديه إلى السّماء حتى بان ابطاه يدعو ربّه…بكى وهو يدعو الله بأنّ يفرّج الكرب…وعندما دعا الله بصوت عالٍ قائلا:

استغفر الله العظيم وأتوب اليه.

التفت اليه فتحي الردّاد وسأله ساخرا:

عن أيّ ذنوب تتوب؟

– عن الذنوب كلّها مهما صغرت أو كبرت.

– وما هي الكبائر التي ارتكبتها وتدعو الله أن يغفرها لك؟

– لا حول ولا قوّة الا بالله…ماذا جرى لهذه البلدة…حتى من يستغفر الله يهزأون منه.

– أنا لا استهزئ بأحد…وأسألك جادّا…فلا تتهرب من السّؤال.

– وهل أنت ربّي وتريد محاسبتي؟

– استغفر الله لكنّ الله لا يغفر حقوق النّاس إن لم يتنازلوا عنها.

– لم آكل حقوق أحد.

– هذه بلاد مقدّسة ولا يخفى فيها شيء، فكيف سيتقبل الله توبتك وأنت تكذب أيضا؟

– يا رجل نحن في بيت الله نطلب الغفران، وأراك تطلب الشّرّ – والعياذ بالله- قالها بلهجة غاضبة…وخرج.

8

كانت سعديّة تداعب طفليها في برندة الطّابق السّفلي، أميرة تقذف طابتها، فتتدحرج الطّابة إلى مدخل ساحة المنزل الخارجيّة، يضحك شقيقها “محمّد عيسى” يحاول الحبو لالتقاط الطّابة، فتمسك به والدته خوفا عليه من السّقوط عن درجتي البرندة إلى السّاحة، وإذا بسيّارة المحامي حنّا أندراوس تدخل من باب البيّارة…لحقت سعديّة بابنتها…أمسكت بيدها وجرّتها وهي تضمّ طفلها إلى صدرها…دخلت غرفتها مسرعة…فقد كانت في قميص النّوم…نظرت من خلف زجاج النّافذة…رأت المحامي ينزل من سيّارته بسرعة…ويفتح بابها الأماميّ الأيسر، ليترجّل الحاجّ طاهر المحمود منها…فقد انتهت مدّة توقيفه، أو بالأحرى أفرجوا عنه قبل يوم من انتهاء توقيفه، لأنّ إدارة السّجن تعطّل كلّ يوم أحد، ومن ينتهي توقيفه يوم الأحد فإنّهم يفرجون عنه يوم السّبت، لأنه إذا جرى له أمر مؤسف جرّاء مبيته ليلة اضافيّة، فتلك مسؤولية ستتحمّلها إدارة السّجن. وعندما أبلغوه باطلاق سراحه سمحوا له بالاتصال بمحاميه، ليخبره بذلك، وليطلب منه أن يأتي لاصطحابه معه إلى بيته.

أمسك المحامي يد أبي عبّاس…ساعده على الخروج من السّيّارة…تلفّت أبو عبّاس إلى الجهات كلّها…سحره جمال القصر والبيّارة…كأنّه يراها للمرّة الأولى…أسرعت سعديّة في تغيير ملابسها…وخرجت مسرعة … تتبعها ابنتها أميرة باكية…قبّلت يد حميها أبي أبي عبّاس…وقبّلت وجنتيه أيضا مهنّئة بالسّلامة…صافحت المحامي…فتحت باب صالون الطّابق الأرضيّ…وهي تردّد:

تفضّلوا إلى الصّالون.

فقال المحامي: ما رأيك يا أبا عبّاس أن نبقى هنا في البرندة فالطّقس جميل؟

–         على راحتك يا بنيّ…فالبيت بيتك.

أحضرت سعديّة زجاجة ماء بارد…وضعت ابريق القهوة على بابور الكاز…سارعت لتخبر حماتها بعودة أبي عبّاس. كانت ردّة فعل أمّ عبّاس أقلّ من عاديّة…غطّت رأسها ونزلت بتثاقل…بينما أنزل أبو عبّاس حفيدته أميرة من حضنه…دخل الغرفة على صوت صراخ حفيده “محمّد عيسى” احتضنه وقبّله…حمله وخرج به…استأنس الطّفل بجدّه…ابتسم له…ولمّا حاولت سعديّة أن تأخذه منه…طلب منها أن تبقيه…جلس به على الكنبة قرب المحامي…ابتسم المحامي للطّفل…مدّ يده إلى وجنته مداعبا، غير أنّ الطّفل احتمى بصدر جدّه…فضحك المحامي وقال:

يبدو أنّ الطّفل يميّز رائحة أهله.

فردّ أبو عبّاس قائلا: وأنت من أهله أيضا…فأنت عندي بمقام عبّاس.

سلّمت الحاجّة خديجة على زوجها…قبّلت يده وقالت: الحمد لله على السّلامة.

صافحت المحامي ورحّبت به وابتسامة عريضة على وجهها…أدارت ظهرها لهما وهي تقول:

سأعدّ القهوة وسنحضّر الغداء.

سأل الحاجّ طاهر عن عبّاس، فردّت سعديّة: سيحضر الآن…لقد اتّصلت به.

– وكيف اتصلت به.

– بالتّليفون…فقد مددنا خطّا هاتفيا إلى القصر أثناء غيابك.

حضر فايز وسعيد العاملان في البيّارة…صافحا الحاجّ طاهر وأخذاه بالأحضان…فطلب الحاجّ من سعيد أن يركب الفرس السّحوب، وأن يذهب لإخبار شقيقات وبنات أبي عبّاس بأنّه قد تمّ الافراج عنه وعاد إلى البيت سالما.

بينما ذهب فايز إلى حظيرة الغنم…نحر كبشا على وجه السّرعة لإعداد وجبة الغداء…وهنا وصل عبّاس محمّلا بعشرات الكيلوات من شتّى أنواع الحلوى…احتضن والده، ووالده احتضنه أيضا…كما عانق المحامي حنّا أندراوس.

في الطّريق كلّما مرّ سعيد بشخص ما أخبره بأنّ أبي عبّاس موجود في بيته الآن، فقد تمّ الافراج عنه.

تناول أبو عبّاس غداءه بعد صلاة العصر في برندة البيت، بصحبة عبّاس والمحامي حنّا اندراوس…بينما النّساء تناولن الطّعام منفردات في غرفة الطّعام.

عند المساء جاء أبناء البلدة مهنئين بسلامة أبي عبّاس…بعضهم حضر بعد صلاة المغرب مباشرة، والبعض الآخر بعد صلاة العشاء…جلس كبار السّنّ في برندة القصر قريبا من أبي عبّاس، في حين جلس الشّباب في السّاحة الخارجيّة أمامه.

همس عدنان شتيوي بأذن هاشم عبد المعطي سائلا:

–       كيف تفسّر قدوم غالبيّة رجال البلدة للسّلام على أبي عبّاس، في حين أنّهم لم يفعلوا ذلك من قبل مع من تحرّروا من الأسرى؟

فأنشده هاشم عبد المعطي مقطعا من رائيّة عروة بن الورد أمير الصّعاليك في الجاهليّة:

دعـيني للغنى أسعـى فـإنّي        رأيت النّاس شرّهـم الفقيـرُ

وأبعـدهم وأهـونهم عليهم           وإن أمسى له حسبٌ وخيـرُ

ويُلفى ذو الغنى وله جلالٌ         يكــاد فـؤاد صـاحبه يـطيــر

قليلُ ذنبُه والذّنبُ جمٌّ              ولكن للغِنى ربٌّ غفورُ

فقال عدنان شتيوي: لم أفهم عليك.

فردّ هاشم ضاحكا: يروى أنّ فقيرا اسمه حمدان العلي، استهتر به أهل بلدته لفقره، ولقّبوه بالعالول لضخامة جسمه، وما عادوا يخاطبونه إلا بلقبه، وكأن لا اسم له إلا هذا الّلقب، والعالول كما تعلم هو لقب للثّور السّمين الجامح…وعمل حمّالا في ميناء يافا…وفي عمله تعرّف على ربّان سفينة أجنبيّة، فاصطحبه معه عاملا على ظهر السّفينة، وفي إحدى موانئ دولة غنيّة، نزل حمدان العليّ واستقرّ في تلك الدولة…وتزوّج وأنجب أبناء هناك… وعندما جمع مالا كثيرا، عاد إلى بلدته، ورأى أقاربه وأبناء بلدته مظاهر الثّراء عليه، فهرعوا جميعهم لاستقباله والسّلام عليه، ولمّا بنى بيتا كبيرا وجميلا…أصبح ذا مهابة، وصاروا يسهرون عنده…ونسوا لقبه وصاروا ينادونه بكنيته أبي محمّد، وذات سهرة كان كلّ واحد منهم بعد أن يطرح تحيّة المساء يقول له:

كيف صحتك يا أبا محمّد؟

فدخل واحد من مجايليه، وكان يستاء من النّفاق وسأله:

كيف صحّة أموالك يا عالول؟

فضحك البعض واستاء آخرون…أمّا حمدان العلي فقال له:

والله إنّي أرى فيك الصّديق الصّدوق يا أبا خليل.

فضحك عدنان شتيوي من الحكاية، ممّا لفت انتباه الآخرين، ولمّا سألهم الآخرون عن سبب ضحكهم…أجابهم هاشم عبد المعطي ساخرا:

نضحك فرحا بالافراج عن أبي عبّاس.

أمّا أبو عبّاس فقد تصدّر الحديث عن أجواء السّجن، وعن معتقلين زاملهم في السّجن، والحضور ينصتون مستمعين باهتمام وبدأ حديثه قائلا:

هل تعلمون يا اخوان أنّ الانجليز متآمرون بشكل جدّيّ مع اليهود لإقامة دولة لهم في بلادنا؟

فقال المحامي حنّا اندراوس: هذا أمر معروف منذ عشرات السّنين، فوعد بلفور صدر في الثّاني من تشرين الثاني 1917، أيّ قبل انتهاء الحرب العالميّة الأولى، وقبل أن تجف دماء العرب الذين حاربوا مع البريطانيّين من أجل الخلاص من العثمانيّين وظلمهم.

فقال أبو عبّاس: هذا تاريخ مكتوب في الكتب، لكنّ الثّوّار الذين قابلتهم في السّجن متأكّدون من ذلك، ويقولون بأنّهم يشاهدونه على أرض الواقع، فالانجليز يسهّلون الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين بطرق شتّى، ويسلّحونهم، ويدرّبونهم على السّلاح، ويسرّبون أراضي شاسعة لهم، في حين يعدمون العربيّ الفلسطينيّ على رصاصة فارغة أو سكّين يحملها. كما أنّهم يعتقلون آلاف الفلسطينيّين، ومن يشعرون بخطر منه فإنّهم يلفّقون له تهمة ويعدمونه…وقد شاهدت في سجن عكّا عشرات حالات اعدام لفلسطينيّين، فهناك في السّاحة الرئيسيّة في السّجن مشنقة منصوبة، يعلّقون فيها رقاب شباب مثل الورود مع ساعات الفجر الأولى من صباح كلّ يوم ثلاثاء…والغريب أنّ غالبيّة الشّباب الّذين يُعدمون يسيرون إلى المشنقة وهم مقيّدون بخطى ثابتة…يهلّلون ويكبّرون، ويهتفون بعروبة فلسطين. وكنّا نكبّر من الغرف المغلقة علينا عندما نرى من النّوافذ شابّا يقتادونه مقيّدا، ورأسه مغطّى بقناع أحمر، ويرتدي بدلة حمراء. وممّا أثار دهشتي وآلمني أنّ شابّا أزاحوا القناع عن رأسه تحت عود المشنقة، كانت يداه مقيّدتان خلف ظهره، ورجلاه مقيّدتان أيضا، أجلسوه عنوة على الأرض، واقترب منه ضابط بريطانيّ، ويبدو أنّه سأله عن آخر طلب له قبل موته! فما كان من الشّاب إلا أن ارتكز على يديه، ورفع رجليه راكلا الضاّبط في وجهه، بعد أن بصق عليه، وهو يردّد بصوت عال:

طلبي الأخير أن تخرجوا من بلادنا يا أبناء العاهرات. فانهالوا عليه ضربا وشنقوه، وهو يهلّل ويكبّر ويهتف باسم فلسطين.

صمت أبو عبّاس قليلا، فسأله هاشم عبد المعطي:

وما التّهمة الّتي وجّهوها لك يا أبا عبّاس؟

تنحنح أبو عبّاس وقال: قد تستغربون أنّهم لم يوجّهوا لي أيّ تهمة! ولم يحقّقوا معي حول أيّ شيء…لكنّهم بعد ذلك ساوموني كي أبيع لمليونير يهوديّ معمل البلاط الذي في يافا، وعرضوا عليّ المبلغ الّذي أطلبه، ولمّا تيقّنوا من اصراري على عدم البيع، عرضوا عليّ مشاركة ذلك اليهوديّ في المعمل، بحجّة تطوير المعمل، وزيادة عدد العاملين فيه، فرفضت ذلك بشدّة.

فقال المحامي حنّا أندراوس بلهجة العارف ببواطن الأمور: الانجليز معنيّون بتجريد الفلسطينيّين من أرضهم، وبيعها للمهاجرين اليهود، تمهيدا لاقامة دولة اسرائيل، وصراعنا مع المهاجرين اليهود إلى بلادنا يتمحور على الأرض، وبيع العرب أراضيهم لغير العرب ليس بيع قطعة أرض بطريقة مجرّدة، إنّه بيع وطن…والهدف منه اقتلاع شعبنا من وطننا، واحلال غرباء ليبنوا دولة لهم مكاننا…وهذا ما يجب الانتباه له.

فايز يقول بلهجة حادّة: سمعنا أن الاقطاعيّين قد باعوا مرج ابن عامر للمستوطنين اليهود.

المحامي: هذا صحيح…لكن هؤلاء الاقطاعيّين ليسوا فلسطينيّين، بل ليسوا عربا.

فايز: وكيف تملّكوا الأرض إن لم يكونوا فلسطينيّين ولا عربا؟

المحامي: لا تنسوا أن بلاد العرب كانت مفتوحة لكلّ مواطنيها، فلم تكن هناك أقاليم لها حدود…خصوصا بلاد الشّام، وجرى تقسيمها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بين بريطانيا وفرنسا تنفيذا لاتفاقية سايكس بيكو. وقد سمعنا من آبائنا أنّهم كانوا يتناولون طعام فطورهم في يافا أو حيفا أو غيرهما، ويتناولون طعام الغداء في دمشق أو في بيروت. يبيعون بضاعتهم هناك، أو يشترون بضائعهم من هناك أيضا.

فايز: ولماذا باعوا الأرض للمهاجرين اليهود؟ فمرج ابن عامر من أخصب الأراضي الفلسطينيّة، وهو غنيّ بمصادره المائيّة، وبدون يمين لقد رأيت فيه بطّيخا تزن البطّيخة الواحدة منه أكثر من عشرين كلغم.

المحامي: الاقطاعيّون جبناء ولا يهمّهم إلا مصالحهم…لقد باعوا الأرض بمبالغ كبيرة تفوق سعرها منذ بدايات الانتداب، وهربوا من البلاد، لأنّهم أدركوا الخطر القادم…وكانوا متذيّلين للبريطانيّين الذين أخبروهم بأنّ المهاجرين اليهود سيبنون دولة لهم باسم اسرائيل، وبدعم بريطانيّ وأوروبيّ وأمريكيّ رغم أنوف الفلسطينيّين والعرب جميعهم.

فايز: ومن هو بائع مرج ابن عامر؟

المحامي: عائلة سرسق ذات الجذور البيزنطيّة. والرّجل الأول من العائلة وصل لبنان عام 1740 ويدعى جبور سرسق. سكن بداية في بلدة البربارة شمالي لبنان، ثم توجه بعدها أفراد عائلته إلى بيروت، واستقروا في حيّ السراسقة في الأشرفية. وقد أقاموا في قصور ومنازل فخمة. والعائلة جمعت ثروتها في القرن التاسع عشر من الزّراعة، والصّيرفة وثم من الصّناعة، فملكوا عددا من المصارف والشركات. وامتلكت أراضي تمتدّ من تركيا وصولا إلى مصر، ومرورا بلبنان وفلسطين. هذا الثّراء أفسح المجال أمام العائلة لنسج علاقات مع دول، بدءا من السّلطنة العثمانية ومرورا بسلطة الانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ ومصر وروسيا. وقد باعت هذه العائلة أراضيها للمهاجرين اليهود منذ بداية الانتداب البريطاني على البلاد…. كانت تملك الكثير من الأراضي في عهد الدولة العثمانيّة، وحينما جاء الانتداب البريطانيّ إلى فلسطين كانت تملك عائلة سرسق 400 ألف هكتار من الأراضي الخصبة، تضم ما يقارب 77 قرية في مرج بن عامر شمال فلسطين، كانت تلك الأراضي تمثّل ما يقارب 3 % من مساحة فلسطين. وباعتها عائلة سرسق بسبعة ملايين فرنك، وهُدمت منازل القرى والمدن العربية، وطرد السكان أمام جحافل من الجنود البريطانيين، وتمّ تسليم الأراضي للمهاجرين اليهود، فدمّروا القرى العربيّة، بما فيها أكثر من 65 مسجدا، وهناك بنى اليهود المستعمرات في عام 1921. وفي العام 1922 باعت العائلة عشرات الآلاف من الفدادين الواقعة على الساحل الّلبناني للصّهاينة، وهاجروا إلى فرنسا.

فايز: ومن باعهم الأراضي منذ البداية ما داموا ليسوا عربا؟

–       لقد ملّكهم إيّاها العثمانيّون.

فايز: لا حول ولا قوّة إلا بالله.

أبو عبّاس: اسمع يا حنّا يا ابني…العثمانيّون لم يبيعوا أرضا لليهود.

المحامي حنّا أندراوس: وأنا لم أقل أنّهم باعوا أرضا لليهود…وإنّما ملّكوا أراضي شاسعة لعائلة سرسق وهي عائلة أرثوذكسيّة تنحدر من أصول بيزنطية، أي أنّهم ليسوا عربا. كما أنّ الانجليز يُملّكون المهاجرين اليهود مساحات شاسعة من أراضي الدّولة. وهناك اقطاعيّون عرب مسلمون باعوا أراضيم للمهاجرين اليهود وهربوا إلى بلدانهم.

تنحنح أبو عبّاس وقال: في السّجن شاهدت معتقلين هدّدوا باعة الأرض لليهود، ومنهم من أعدموه لأنّه قتل بائعي الأرض. وهل تصدّقون أنّني قابلت معتقلين من مختلف المدن والقرى، لأنّهم متّهمون بمساعدة الثّوار.

فايز: وكيف علم الانجليز بمن يساعد الثّوّار؟

أبو عبّاس: هناك عملاء للانجليز….ينقلون إليهم الأخبار أوّلا باوّل…وهناك من يثرثرون بما يحصل معهم…وتنتقل الأخبار من شخص إلى آخر حتى تصل الانجليز عن طريق عملائهم. وقد التقيت في السّجن أحد شيوخ القبائل البدويّة، وهو رجل شهم وكريم طيّب النّفس…وتهمته أنّ مجموعة من الثّوّار مرّوا عليه في بيته قرب بيسان، فذبح لهم كبشا وأكرم وفادتهم. وفي السّجن كان الرجل يتصرّف مثل الملوك، تصوّروا أنّه كان يضع كل ما يملك تحت تصرّف الآخرين، وعندما كان يشتري شيئا من مقصف السّجن كان يضعه أمام الآخرين؛ كي يأخذوا حاجتهم منه قبله هو نفسه. وكان يعود من زيارة الأهل إلى القسم في السّجن حزينا…فحسبت ذلك شوقا منه لذويه…لكنّه قال لي: أنّه يحزن عندما يرى الفقر على وجوه  الزائرين من ذوي المعتقلين، حتى أنّ بعض أطفالهم كانوا حفاة…وعندما كان يراهم يقتادون شخصا إلى المقصلة لاعدامه، كان الشيخ يزأر كما الأسد…يبتلع همومه ويسكت. وذات يوم أخذوه إلى التّحقيق، فعاد باسما…ولمّا سألته عن سبب ابتسامته أجاب:

الانجليز وجوههم حمراء كالحة…دمهم بارد…لا يستحون ولا يغضبون…يضحكون بسبب وبدون سبب، سألني المحقّق بعربيّة فيها لكنة:

هل استضفت “الأشقياء” في بيتك؟

– ماذا تقصد بالأشقياء؟

– من تسمّونهم الثّوّار.

– نعم.

– وهل نحرت لهم الخراف؟

– نعم.

– لماذا؟

– لأنّهم ضيوفي…وعاداتنا أن نكرم ضيوفنا.

– لكنّ هؤلاء مطاردون من الشرطة ومطلوبون لها.

– وما شأني بذلك؟

– أنت شيخ قبيلة معروف…ولك سلطة على منطقتك، واحترام عند الآخرين. ويجب أن تكون عونا للدّولة لا عليها.

– عنّ أيّ دولة تتكلم؟

– عن سلطة الانتداب البريطاني.

– هؤلاء محتلّون لبلادنا وليسوا دولة.

– لكنّ الانتداب البريطانيّ هو من يحكم البلاد.

– وأهل البلاد لا يريدونه، فارحلوا عن بلادنا.

– اسمع يا أبا متعب…أنت شيخ عاقل…ولا نريدك أن تبقى في السّجن…فقبيلتك في انتظارك…أنتم تملكون أراضي شاسعة، وكلّها مسجلة باسمك في سجلّ الأراضي كونك شيخ القبيلة…وأنا أقترح عليك أن تبيعها…وسنعطيك ذهبا كثيرا…إن لم تعجبك الجنيهات…بع وخذ مستحقاتك، وعد من حيث هاجرتم إلى جزيرة العرب، فهذه البلاد ليست لكم.

– إذا لم تكن هذه البلاد لنا فهل هي لكم؟ صحيح “اللي يستحون ماتوا” هذه البلاد لنا أبا عن جدّ، وسنورثها لأبنائنا كما ورثناها عن آبائنا وأجدادنا؟

– هذه البلاد ليست لك وليست لنا أيضا…إنّها لليهود…لقد وعدهم بها الرّب… وها هم يعودون إليها!

– استغفر الله العظيم…عن أيّ ربّ تتكلم يا رجل؟

– عن الرّبّ الذي نعبده نحن وأنتم واليهود أيضا.

– تبارك وتعإلى الرّبّ عمّا تكذبون…اسمع يا هذا…الأرض ليست للبيع أو المساومة…والمهاجرون اليهود لا حقوق لهم عندنا…وهم يدخلون بلادنا بمساعدتكم تهريبا، ودون إذن منّا، ولن نقبل بهم ولا بكم…فاختصر كلامك ولا تتكلّم في هذا الموضوع ثانية.

– هذا يعني أنّك ستبقى في السّجن حتى تموت.

– بل حتّى تموتون أنتم أو ترحلون عن بلادنا.

عندها طلب المحقّق من الحرّاس أن يعيدوا الشّيخ أبا متعب إلى مكانه داخل السّجن. ولمّا سمع الشّباب ما قاله الشّيخ أبو متعب أنشدوا:

يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ       إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا

ليسَ بعدَ الليل إلا          فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى

إيـهِ يا دارَ الفخـارِ       يا مـقـرَّ المُخلِصينا

قدْ هبطْناكِ شَـبَاباً    لا يهـابـونَ المنونا

و تَـعَاهدنا جَـميعا     يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا

لنْ نخونَ العهدَ يوما   واتخذنا الصدقَ دِيـنَا

أيّها الحُرّاسُ رِفـقـا    واسمَعوا مِنّا الكَلاما

مـتّعُـونا بِـهَـواء      منعُـهُ كَـانَ حَرَاما

لـسـتُ والله نَسـيّا     ما تقاسِـيه بِـلادِي

فاشْـهَدَنْ يا نَجمُ إنّي     ذو وفــاءٍ وَوِدادِ

يا رنينَ القـيدِ زدني    نغمةً تُشـجي فُؤادي

إنَّ في صَـوتِكَ مَعنى   للأسـى والاضطهادِ

لم أكن يومًا أثيمًا     لم أخن يومًا نظاما

إنّما حبّ بلادي     في فؤادي قد أقاما

وكانت سهرة حماسيّة، أكّدت للشّيخ أبي متعب صحّة موقفه.

وهنا سأل فايز: وهل كان معكم شاعر سجين كتب هذه القصيدة؟

أبو عباس: لا لم يكن معنا شاعر بالفصحى، بل كان عدد من الزّجالين الشعبيّين، لكنّ المعتقلين يحفظون هذه القصيدة التي لا أعلم من هو قائلها؟

فقال المحامي حنّا اندراوس: هذه قصيدة نظمها الصّحفي السّوري نجيب الريّس في عام 1922 عندما كان سجينًا في سجن جزيرة أرواد على الساحل السوريّ (بالقرب من طرطوس) وكان الريّس من المعارضين للانتداب الفرنسي على سوريا. وذاعت وانتشرت بين العرب.

وأضاف أبو عبّاس أنّ المعتقلين كانوا يغنّون لأبي جلدة والعرميط الّلذين أعدمهما المحتلّون البريطانيّون في العام 1933 في سجن المسكوبيّة في القدس:

قال أبو جـلـده وأنا الطّموني … كـلّ الأعادي ما بهمّوني

قال أبو جلده وانتا العرميطي .. وأنا إن متت بكفيني صيتي

قال أبو جلده يا خويا صالح . اضرب لا تخطي والعمر رايح

قال أبو جلده وأنا العرميطي … والله من حكم الدولة لفظي

وأبو جلده ماشي لحاله.. والعرميط راس ماله

وأبو جلده والعرميط .. ياما كـسروا برانيط

فسأل فايز: سمعنا كثيرا عن هذين الرّجلين فمن هما؟

أبو عبّاس: هما من منطقة نابلس، لكنّ المعتقلين كانوا معجبين بهما، وأنا لا أعرف عنهما الكثير.

المحامي حنّا أندراوس: أبو جلدة والعرميط فلّاحان فلسطينيّان أسّسا نواة خليّة ثوريّة لمقاومة الإنتداب البريطانيّ في فلسطين. وتعود جذور أحمد المحمود “أبو جلدة” إلى بلدة طمّون شرقيّ نابلس، فرّ من الخدمة العسكريّة في الجيش العثمانيّ، وعمل عتّالا في ميناء حيفا، وهناك استمع إلى خطب الشّيخ عزّ الدّين القسّام وتعرّف عليه، وكان نحيلا قصير القامة، بينما رفيقه أبو العرميط من قرية بيتا جنوب نابلس. وقد ولد صالح أحمد مصطفى العرميط في بلدة بيتا نهاية الحكم العثمانيّ لفلسطين، وكان وحيدا لوالديه، وعُرف بنشاطه وحيويته وجرأته مُنذ الصغر، وكان يُعدّ الأقوى بين أبناء جيله وأقرانه.

عبّاس: هناك روايات مختلفة عن أبي جلدة والعرميط، فالبعض يقول بأنّهما كانا قاطعي طريق، والبعض الآخر يقول بأنّهما ثائران، فما الصّحيح؟

أبو عبّاس: سمعت في السّجن من أشخاص يعرفونهما حقّ المعرفة بأنّهما لم يكونا قاطعي طريق ولا سارقين، لكنّ أبا جلدة كانت له فلسفته الخاصّة في الثّورة، فقد ارتأى فيمن اغتنوا زمن الأتراك على حساب قوت الفلاحين الفقراء عدوّا كما الانجليز والصّهاينة، فكان يسطوا عليهم، وينهب أموالهم ويعيد توزيعها على الفقراء، وكان يقتل من يبيعون أرضهم لليهود، كما كان يتربّص وصديقه العرميط لقوافل تموين الجيش البريطانيّ، فيقتلان منهم، وينهبان التّموين ويوزّعانه على الفقراء، خصوصا في  طريق حيفا- مرج بن عامر، وطريق رام الله – نابلس بين عين سينيا وترمسعيّا، وهما الطّريقان الّلذان اختارهما أبو جلدة لانطلاق أعماله الفدائيّة، مستغلاً جبال المنطقة بكهوفها ومغاورها، وموقعها الاسترايتجيّ لمباغتة القوات البريطانيّة والاستيلاء على أسلحتها، وقد أطلق البريطانيّون على كلّ منهما اسم “طريق الحراميّة” وذلك لتحريض الفلّاحين على أبي جلدة والعرميط، بعد أن رأوا التفافهم حولهم، وقد نجحوا في ذلك، حتّى أنّ أحد أقارب العرميط وشى بهما للانجليز، وحدّد المغارة الّتي كانوا يختبئون فيها.

فايز: الاشاعات في بلادنا كثيرة.

المحامي حنّا اندراوس: الانجليز ينشرون إشاعات كاذبة كثيرة، لخلط الأوراق، وبثّ الفوضى؛ كي يستغلّوا الموقف لصالح مخطّطاتهم الجهنّميّة.

أبو عبّاس: ومن القصص التي سمعتها في السّجن، أنّ حرّاس السجن كانوا يختارون عددا من السّجناء الشّباب قويّي البنية، ليشغّلونهم سخرة في توسيع السّجن، وكانوا يضعون حارسا مسلّحا على كلّ أربعة أشخاص، فراقب أربعة معتقلين من قرى القدس الوضع لمدّة ثلاثة أيام؛ ليقرّروا كيفيّة هروبهم، وبعد نقاش طويل بينهم، اقتنعوا باقتراح أحدهم ويدعى مصطفى محمّد، بعد أن حدّدوا الثّغرة الّتي سيهربون منها، خصوصا وقد اطمأنّ الحرّاس لهم، فشغّلوهم خارج جدران السّجن بقليل، لاعتقادهم بأنّهم لا يعرفون المنطقة كونهم من قرى القدس البعيدة، وكان الاقتراح بأن يستغفل مصطفى المذكور الحارس، ويلقي في وجهه دلوا من رمل البحر المستعمل في باطون البناء، ويهربون بسرعة في الوقت الذي ينشغل الحارس فيه بتنظيف عينيه، واشترط على زملائه أن لا يخطفوا بندقيّة الحارس، لأنّ اختطافها سيكون سببا كافيا كي يطاردهم العسكر إلى ما لا نهاية لاسترداد البندقيّة، وفعلا نفّذوا خطّتهم بعد صلاة العصر، قبل انتهاء العمل بدقائق…وذلك كي يكون الّليل قريبا، فذلك يسهّل مهمّتهم، ويعقّدها على مطارديهم…كانت قلوبهم يزداد خفقانها، لكن اصرارهم على الحرّيّة كان كافيا لاستجماع قواهم…والهرب شمالا بدل الهروب شرقا أو جنوبا، وذلك لتضليل العسكر الّذين سيطاردونهم لقتلهم أو لالقاء القبض عليهم…ونجحت الخطّة…وهربوا باتجاه الشرق حتى اختفوا بين البيوت…ثمّ التفّوا شمالا، وفي الدّقيقة الأولى انتبه حرّاس أبراج السّجن إلى صراخ زميلهم، فأطلقوا النّار على الهاربين، واخترقت رصاصة خاصرة مصطفى محمّد من الخلف، وخرجت من الأمام…شعر بوخزة خفيفة لكنّه واصل العدو كما الغزال…ولم يتأكّد من اصابته إلا بعد أن وصل نزف دمائه إلى حذائه…مرّوا بامرأة بعد أن غابوا عن عيون الحرّاس خلف البيوت، فخلعت غطاء رأسها، وأعطته لمصطفى كي يضمّد جرحه بها وهي تقول:

خذ يا اخوي…اربط على جرحك…الله يحميكم.

لفّ مصطفى المنديل على خاصرته فوق الجرح…ومشوا بطريقة عاديّة، وكأنّهم من أبناء المنطقة…وبعد الغروب مرّت بهم سيّارة خاصّة…أشاروا بأيديهم لسائقها فتوقّف…اقترب مصطفى منه وقال له:

نحن من كفر كنّا…هل تعمل معنا معروفا وتقلّنا معك، فقد جئنا للعمل هنا ولم نوفّق، ولا فلوس معنا.

فقال لهم: أنا من دير الأسد…حيّاكم الله.

أنزلهم سائق السّيارة عند مدخل كفر كنّا، بناء على طلبهم وواصل طريقه.

ضحك مصطفى وقال: لن نبقى في كفر كنّا…فالانجليز سيعلنون عن مكافأة لمن يدلّ علينا…ونحن لا نعرف شيئا عن صاحب السّيّارة التي أقلّتنا، وقد انتبه إلى أنّ لهجتنا ليست كلهجة أبناء كفر كنّا، وعندما سيسمع بهروب أربعة سجناء فإنّه سيقرن الأمور، وسيشكّ بنا، ولا أحد يستطيع معرفة ما يتصرّفه بعد ذلك…والحذر مطلوب…وأشار عليهم بأن يصعدوا إلى بطن الجبل…بعيدا عن الشارع…ويسيرون عبر حقول أشجار التّين والرّمان شرقا إلى دير الأسد…وهناك سيتدبّرون أمرهم…وهذا ما فعلوه…وعندما وصلوا دير الأسد من أعلاها…قرّروا أن يطرق أحدهم باب البيت المنفرد في أعلى القرية…ويطلب ماء وطعاما من صاحب البيت…فاقترح مصطفى عليهم أن يتوجّه هو إلى البيت، على أن يراقبوا هم الوضع من بين القلاع القريبة من الحاجب الصخريّ الذي يلفّ السلسلة الجبليّة، فإن كان الوضع مريحا ومطمئنا فإنّه سيصفر لهم ثلاث صفرات متتالية، فينزلون إليه، وإن صفر صفرة واحدة، فعليهم أن يهربوا وأن يتدبّروا أمرهم.

طرق مصطفى باب البيت…فخرج إليه رجل في أواخر الأربعينات من عمره…ربع القامة…أسمر البشرة…فوق شفته العليا شارب منتظم…وابتسامة هادئة مرسومة على وجهه…رحّب به قائلا:

أهلا بك…تفضّل.

تردّد مصطفى قليلا ثمّ خطا خطوة إلى الأمام… وقال بصوت ضعيف:

أنا ظمآن،أريد ماء.

–         أهلا بك…تفضّل يا رجل…فالبيت بيتك.

دخل مصطفى على استحياء…جلس على كرسيّ خشبيّ…أحضر الرّجل ماء…مدّ يده بابريق الماء إلى مصطفى، وعندما وضع مصطفى ابريق الماء على فمه، انتبه الرّجل إلى الدّماء التي تنزف من مصطفى…فسحب ابريق الماء منه وقال:

هوّن عليك يا أخي؛ فأنت جريح وأخشى عليك الآن من شرب الماء…لا تخف…”عليك أمان الله، والخائن يخونه الله”…أنا حسين الأسدي مختار القرية…اعتبر نفسك في بيتك…سنسعفك أوّلا، ومن ثمّ ستشرب وستأكل…وستبقى في ضيافتنا إلى أن تتعافى…وسنوصلك إلى المكان الذيّ تريده باذن الله.

شعر مصطفى بصدق الرّجل فقال له:

معي ثلاثة رجال…لا أستطيع أن أتركهم وحدهم. يجب أن أعود إليهم بالماء والطّعام.

– حيّاك الله وحيّا زملاءك…أرني أين هم وسأحضرهم هنا؟

– اتفقت معهم أن أصفر لهم ثلاث صفرات متتالية، وعندما يسمعونها سينزلون هم إلى البيت.

– هذه بسيطة…أنا سأصفر لهم…خرج خلف البيت وصفر ثلاث صفرات…سمعوها ونزلوا إلى البيت…استقبلهم المختار بالأحضان…أجلسهم في البيت. لم يسألهم عن أيّ شيء، أتى بفرشة قطنيّة وطلب من مصطفى أن يتمدّد عليها، وأن يكشف عن مكان الاصابة…وعندما رأى الجرح كان الدّم ينزف قليلا…لم يعرف الرّجل إن كانت الاصابة بليغة أم لا…أو إذا اخترقت الرصاصة أحد أعضاء الجسم الدّاخليّة…فذلك يتطلب مستشفى، والانجليز يراقبون المستشفيات، بل هناك أطبّاء وممرضون وممرضات منهم، عرض عليهم أن يذهب لاحضار طبيب موثوق من كفر ياسيف…لكنّ مصطفى قال:

لا داعي للطّبيب…فأنا لا أشعر بأيّ ألم…وهذا دلالة على أن الرّصاصة لم تخترق أيّ عضو داخليّ…لكنّني أشعر بضعف وببرد.

تحسّس المختار جبينه وقال:

يبدو أنّك مصاب بالحمّى، والضّعف بسبب النّزيف…الآن سنعقّم الجرح…وسنرى الوضع كيف سيكون في صباح الغد…طلب من زوجته أن تسرع في اعداد الطّعام، وأتى بقطعة قماش سوداء…أشعل طرفها بالنّار…ولم يسمح بشعلتها أن تطول…لمسها بيده لتشتعل ببطء كما السّيجارة…وقرّبها من الجرحين وهو يبسمل ويدعو الله بالشّفاء…وضع الرّماد على فتحتي الجرحين، ومصطفى يشعر بحرارتها ولا يتكلّم، ثمّ أحضر كوفيّة نظيفة….غطّى بها فتحتي الجرحين…وشدّها على وسط مصطفى… فجاءت والدة المختار العجوز بكأس مريميّة يغلي…أسندت رأس مصطفى إلى حجرها وقالت:

اشرب يا بنيّ على مهل…فهذه المريميّة ستفيدك، ولا تقلق فستتعافى باذن الله، وشرعت تقرأ المعوذّتين، وتدعو الله بالشّفاء …استرخى مصطفى وغفا، متأثرا بحنان تلك الأمّ.

تناولوا طعام العشاء ممّا تيسّر، ثمّ اصطحبهم المختار إلى غرفة جانبيّة مخصّصة لوالدته، أحضر لكلّ واحد منهم قمبازا، سروالا، قميصا، كوفيّة وعقالا…طلب منهم أن يغيّروا ملابس السّجن، وقال لهم استريحوا هذه الّليلة، وغدا صباحا سنتدبّر الأمر…تسامروا وضحكوا وكأنّ شيئا لم يكن، نام المختار معهم في نفس الغرفة، وعند أذان الفجر صلّوا جماعة…تناولوا فطورهم فقال المختار:

أخبروني وجهتكم إلى أين كي أتدبّر أمر إيصالكم إليها، فنحن لا نستطيع أن نبقى هنا كثيرا…فبيتي يقصده كثيرون من مناطق مختلفة ولأسباب عديدة، فقال مصطفى:

نريد الوصول إلى القدس أو رام الله.

فكّر المختار قليلا وقال: هذا يتطلّب منّا أن ننتظر حتى يوم الجمعة القادم…حيث سنذهب”فاردة” لاحضار عروس ابن أختي من الرّملة، وستسافرون مع الفاردة في الباص، ومن هناك سنتدبّر الأمر.

نظروا في وجوه بعضهم البعض…أعجبتهم الفكرة…ولمّا رأى المختار موافقتهم، أحضر جرابا فيه خبز طابون، علبة زيتون مكبوس كبيرة وقربة ماء وقال:

الحذر واجب…سيبقى أخونا الجريح هنا لنعتني به…أمّا أنتم فانظروا إلى ذلك الحاجب الصّخري في قمّة الجبل…هناك عدّة كهوف…وأشار إلى مكان بعينه وقال: فوق تلك الصّخور ووسط الحاجب هناك كهف مرتفع، لا يصله أحد إلا من أراد ذلك…اذهبوا إليه واحذروا الخروج منه إلا للضّرورة…هذا طعامكم وماؤكم ليوم…وهذه بطّانيّة لكل واحد منكم…وعند صلاة الفجر ينزل واحد منكم ويحمل الطّعام والماء إليكم.

حملوا أغراضهم وغادروا المكان…وفي ساعات ما بعد العصر…حضر شاب أنيق…يحمل في جيبه دواء…نظر إليه مصطفى وإذا به الشّخص الّذي أقلّهم بسيارته من عكّا يوم أمس…دهش كلاهما عندما رأى الآخر، فقال المختار:

هذا ابن أخي إنّه ممرّض يعمل في مستشفى صفد، وقد طلبنا منه أن يأتيك بدواء كي لا يتسمّم جرحك…كشف الممرّض على الجرحين…عقّمهما بمادة طبّيّة…وضع عليهما شاشا طبّيا معقّما، وغطاهما بلفافات طبيّة تحيط بالخصر…أعطاه حبّتي دواء وقال:

بالتأكيد أنّ الرّصاصة لم تصب أيّ عضو داخليّ…ولو أصابت لوجدنا بطنه منفوخا من كثرة النّزيف الدّاخلي، ولكانت آلامه لا تحتمل…ليتناول حبّتي دواء من هذا ثلاث مرّات يوميا، وسنغيّر له الشّاشات على الجراح صباح مساء…وبإذن الله سيتعافى سريعا…شربوا القهوة سويّة وانصرف الممرّض.

بعد الظّهر أحضرت والدة المختار وجبة الغداء…فقد أعدّت بيديها ديكين بلديّين…شوتهما في الطّابون…وضعتهما أمام مصطفى وقالت وهي تمسك بيده:

قم يا ولدي وتناول غداءك…عليك أن تأكل كلّ ما في الصّحن؛ كي تعوّض الدّماء التي نزفتها…هل تستطيع تناول الطّعام وحدك أم أساعدك في ذلك؟

ابتسم مصطفى وقال باستحياء: بوركت يا أمّاه…فمشاهدتك بلسم يشفي الجراح…لكنّ هذا طعام كثير لا أقوى على التهامه كلّه.

فقالت: صحتين وعافية يمّه…كل قدر ما تستطيع وسنحتفظ بالباقي بجانبك حتى تجوع.

سعادة غامرة ملأت قلب مصطفى…شعر أنّ والدته التي أنجبته من أحشائها تجلس بجانبه…ألحّ عليها أن تأكل معه، لكنّها رفضت بشدّة…وعندما أقسم بأن لا يذوق الطّعام إن لم تشاركه في تناوله، ابتسمت وقالت:

حاضر يا ابني…أمسكت قطعة خبز…وأخذت تغمس لقمتها بالزّيت…ولمّا مدّ إليها صدر الدّيك قالت:

والله لن أذوقها…فهذا لك…لقد نزفت كثيرا يا فلذة كبدي…قالتها ونزلت دموعها على وجنتيها وهي تردّد:

حسبي الله على الظّلّام واولاد الحرام.

فانتبه وقال:

أين المختار؟

–         لا تخف يا ولدي…إنّه يتناول غداءه مع زوجته وأبنائه.

عند ساعات المساء جاء عدد من وجاهات عائلات دير الأسد إلى بيت المختار؛ للتّداول في بعض القضايا التي تهمّ القرية…استقبلهم المختار وأكرم وفادتهم…في حين بقيت والدة المختار تسهر مع مصطفى في غرفتها…عندما تعبت مدّت فراشها قرب باب الغرفة… وقالت لمصطفى:

نم يا ولدي…وإذا ما احتجت شيئا ما…فلا تخجل…قل لي وسأحضره لك فورا فنومي”غزلاني”.

استيقظ مصطفى مع أذان الفجر…شعر أنّه معافى تماما، فجراحه بدأت تلتئم بشكل مرضٍ.

فجر الجمعة اجتمع مصطفى وزملاؤه في بيت المختار حسين الأسدي بناء على طلبه، ارتدوا ملابسهم، تناولوا فطورهم…الصّباح نديّ…أشعّة الشمس تتهادى على سفح الجبل…الجبل يخلع رداءه الليليّ من قمته…ينزلق الظّلام هاربا من أشّعة الشمس التي تطارده…بدا بيت المختار منارة تبعث النّور ورودا على بيوت القرية التي انبعثت الحياة فيها، بعد ليلة صدحت فيها زغاريد النّسوة، وأصوات الزجّالين في ليلة “الحنّاء”… والدة المختار تجلس على عتبة البيت تداعب سبحتها…قلبها خاشع ينزف حبّا وحنانا…تدعو الله أن يمرّ هذا اليوم بسلام…مصطفى وصحبه تفاءلوا خيرا بدعوات الأمّ…ارتدوا ملابسهم مبكّرا…تناولوا فطورهم…  وعند السّاعة العاشرة  نزلوا مع أهل البيت إلى بيت العريس، ليشاركوا في “الفاردة” التي ستجلب العروس من مدينة الرّملة…جلس المختار وزوجته ووالدته في الكرسيّ الخلفي لسيّارة الممرّض ابراهيم ابن شقيق المختار، التي زيّنوها لاحضار العروس، وأجلس مصطفى بجانب صاحب السّيّارة الذي يقودها، وأوصاه بأن يقول بأنّه العريس إذا ما تعرّضوا إلى تفتيش طارئ في الطّريق من قبل العسكر البريطانيّين، في حين استقلّ الثلاثة الآخرون الباص مع بقيّة الرّجال والنّساء، حيث عرّف عليهم بأنّهم أصدقاؤه من الّلد جاؤوا لحضور حفل الزّواج، وأوصاهم بأن يغنّوا ويرقصوا جميعهم بشكل صاخب إذا ما صادفهم حاجز تفتيش كي لا يؤخّرهم العسكر. المختار حسين الأسدي كان الأكثر قلقا…دارت في رأسه أفكار مزعجة…دعا الله كثيرا…وقرأ ما يحفظ من آيات الذّكر الحكيم وكرّر:” وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” عشرات المرّات.

وصلوا مدينة الرّملة بسلام…لم يعترض طريقهم أحد…المختار حسين الأسدي يكاد يطير فرحا…فقد نجا من استجاروا به…أعطاهم نصف جنيه، وسمح لهم بالانصراف بعد أن أكّدوا له بأنّهم يعرفون الطّريق إلى بيوتهم… احتضنتهم والدته بحنان…قبّلت وجناتهم…وقبّلوا يدها اليمنى…ودموعها تتساقط على وجنتيها…ودعواتها تطاردهم…اتفقوا أن ينقسموا إلى قسمين…كلّ اثنين يسيران سويّة…ويسيران عبر الجبال يفصل بين الفريقين مسافة تزيد عن الخمسماية متر.

وصلوا قرية عمواس مع غروب الشّمس…شربوا من ماء نبعها…ملأوا قربتهم ماء…واصلوا السّير إلى بيت سيرا…ومن هناك صعدوا الجبل إلى بيت عنان… قطنّة وبدّو…توجّهوا إلى بيت اكسا…ومن هناك قطعوا الوادي إلى لفتا…ناموا هناك…وفي اليوم التّالي التقوا زعيم الجهاد المقدّس عبد القادرالحسيني في براري حزما…حيث حيّاهم واحتقل بهم…ولمّا سمع قصّتهم أثنى على المختار حسين الأسدي وأرسل إليه رسالة شكر مع عباءة وقمباز ومعطف من الصّوف الفاخر.

انفضّ من جاؤوا للسّلام على أبي عبّاس مهنّئين بمناسبة اطلاق سراحه من السّجن…لم يفرحوا جميعهم بذلك…تماما مثلما هم ليسوا مشتاقين له، فالبعض جاء بحكم القرابة…وما تفرضه المتطلّبات المترتّبة على كلّ فرد في العائلات الممتدّة…البعض جاء بحكم المصاهرة…والبعض جاء بحكم العادات السّائدة في المجتمعات القرويّة…والباقون جاؤوا على رأي المثل” ع شان عين تكرم مرج عيون”…انفضّوا وكلّ جماعة تحمل انطباعا مختلفا…أمّا أبو عبّاس فقد شعر برضا عن نفسه لم يشعر به قبل ذلك…صعد الدّرج إلى الطّابق الثّاني…تنحنح وهو يدخل غرفة النّوم… زوجته أمّ عبّاس نائمة أو تتظاهر بالنّوم على جانبها الأيسر…استبدل ملابسه… جلس أمامها على حافّة السرير…مدّ يده يتحسّس وجهها…أزاحت يده وقالت:

ابتعد عنّي ونَمْ في مكانك.

قال لها بلهجة نادمة وصوت منخفض:

اسمعيني يا خديجة…لقد أمضينا سنوات من عمرنا في الجهل…وقد تعلّمت دروسا كثيرة في ستّة الشهور التي قضيتها في السّجن…وأعلن أمام الله وأمامك أنّني أتوب إلى الله توبة نصوحة عن كلّ فعل حرام…وستجدين فيّ انسانا مختلفا…وما دام الله يقبل توبة التائبين، فإنّني أطمع بعفوك عنّي…ودعينا نبدأ حياة جديدة، فالعمر يهرب منّا…ولا أحد يعلم متى تحين ساعته…وأسأل الله حسن الخاتمة…قالها وبكى كطفل رضيع.

دار شريط الحياة أمام ناظري خديجة…وكم تحمّلت من هذا الزّوج الذي لا يفهم الحياة إلّا من خلال المال…يتظاهر بالتّقوى…ويتصرّف مثل الشّياطين…والنّاس لا يجرؤون على مواجهته حتى “تفرعن” أسندت رأسها…التفتت إليه وقالت له:

“ذنب الكلب اعوج دائما” ولولا الخوف على ابني وبناتي لتركت بيتك منذ سنوات طويلة…ومن يضمن لي بأنّك صادق في توبتك؟

– يشهد الله على ما أقول.

– سأجرّب للمرّة الأخيرة…وإن لم تحترم توبتك فستكون “فضيحتك بجلاجل” قالتها وتمدّدت على السّرير…غابا تحت الغطاء وعلا لهاثهما.

9

انقلبت العلاقة بين أبي عبّاس وزوجته رأسا على عقب…فقد أصبحا كطائري الحبّ…كلّ منهما يغرّد للأخر…عادا وكأنّهما عروسان جديدان…يأكلان من صحن واحد…يجلسان متجاورين…يضحكان في اللحظة نفسها…انعكس ذلك على الأسرة جميعها…وكان الرّابح الأوّل من هذه العلاقة الجديدة هي الحفيدة أميرة…فهي تتنقّل من حضن إلى آخر…حتى سعديّة استغربت هذه العلاقة الجديدة التي لم تألفها منهما منذ زواجها من ابنهما عبّاس، فقالت لعبّاس مازحة:

ليت عمّي طاهر سُجن من سنين عديدة.

استغرب عبّاس كلامها وسأل:

ما هذه الأمنية القبيحة يا سعديّة؟

فأجابت ضاحكة: ألا تلاحظ العلاقة الجديدة بين والديك؟ فمنذ اطلاق سراح عمّي من السّجن عادت علاقة حبّ متينة بينه وبين خالتي أمّ عبّاس…يبدو أن السّجن يغسل القلوب…أو كما قال المثل:”ابعد تحلى” فغيابه ستّة أشهر بعث الحبّ في قلبيهما.

ابتسم عبّاس وقال:

أسأل الله أن تستمرّ هذه العلاقة الطّيبة، فقد مللنا الخصومات داخل الأسرة.

خرج عبّاس إلى البرندة وشاهد والديه يمشيان داخل البيّارة…صوت ضحكهما وصل مسامعه…وأميرة تدرج خلفهما كما طائر الشّنّار…طلب من سعديّة أن تلحق بهما لاحضار أميرة. فردّت عليه:

لا تخف على أميرة وهي مع جدّيها.

فقال ضاحكا: أنا لست خائفا على أميرة…وإنّما على جدّيها منها…فقد تسرق أحدهما من الآخر. فضحكا معا. وعندما عاد الجدّان إلى البيت…اقترب عبّاس من أميرة يريد أن يحملها…إلّا أنّها استنجدت بجدّها لتبقى معه…فقال الجدّ مازحا:

دعوا الطفلة…فإنّها تعرف الصدر الذي يخفق قلبه لها.

حملت أمّ عبّاس أميرة…وصعدت بصحبة زوجها الدّرج إلى الطّابق العلوي…جلسا قليلا على البرندة…غفت أميرة في حضن جدّتها…حملتها بهدوء وأنزلتها إلى سريرها في غرفة والديها في الطّابق الأوّل…وعادت أدراجها حيث دخلت هي وأبو عبّاس غرفة نومهما…أغلقت الباب بالمزلاج وأسدلت ستائر النّوافذ.

صعدت سعديّة الدّرج إلى الطّابق الثّاني…طرقت باب غرفة حمويها وقالت:

طعام الغداء جاهز.

فردّت أمّ عبّاس من مخدعها: كلي أنت وزوجك…وأنا سأحضّر الطّعام لي ولأبي عبّاس بيدي عندما نجوع.

ابتسمت سعديّة وقالت لعبّاس:

تعال لنتناول طعامنا…فالعروسان مشغولان.

وقبل أن ينهيا طعاميهما نزلت أمّ عبّاس…الحمرة تعلو وجهها…عيناها مكحّلتان…وتتمايل كما الصّبايا…كتمت سعديّة وعبّاس ابتسامات منعا نفسيهما من اطلاقها…أشارت سعديّة إلى حماتها قائلة:

طعامكما جاهز.

ردّت أمّ عبّاس: من هنا فصاعدا لا تحسبي حسابنا في الطّعام…فأنا سأقوم بنفسي باعداد الطّعام لأبي عبّاس كما يشتهي…ولا أحد يعرف الطّعام الذي يريده أبو عبّاس…ولا طريقة طبخه غيري أنا.

فقال عبّاس: “ربنا يوفق سعد وسعيده”.

مضى شهر العسل بين طاهر المحمود وزوجته خديجة…عاد إلى عمله في مصنع البلاط في يافا… ابنه عبّاس يرسل سيّارات الخضار إلى سوق الحسبة في القدس والخليل ورام الله ونابلس وغزة وخانيونس…فسعرها هناك أعلى منه في يافا…يصطحب معه فايز…وهناك يلتقيان بقيادة الجهاد المقدس.

وذات يوم عاد أبو عبّاس إلى بيته بعد صلاة العصر…دخل غرفة نوم عبّاس وسعديّة ليرى حفيديه…وجد حفيدته أميرة جالسة في سرير شقيقها…لم تلتفت إليه كما هي العادة، فقد كانت غاضبة…اقترب منها وحملها، فكانت المفاجأة…لقد وضعت وسادة على وجه شقيقها وجلست عليها…تريد كتم أنفاسه…فوالدتها دائما مشغولة به عنها…ذعر أبو عبّاس عندما رأى حفيده بهذه الحالة…وضع أميرة على الأرض…حمل حفيده الذي يئن…عادت الحياة إلى الطفل…حمد أبو عبّاس الله على سلامة الحفيد، وعلى أنّه جاء في الوقت المناسب على غير العادة…استدعى سعديّة التي كانت تعدّ الطّعام في المطبخ…أخبرها بالذي رآه وطلب منها أن تعطي الرّعاية الكافية لأميرة…ذهلت سعديّة ممّا سمعت…توقف نفسها وكادت أن تقع مغمى عليها…استرجعت أنفاسها وصرخت خوفا على ابنها…ركضت باتجاه أميرة تريد معاقبتها…الصغيرة احتمت بجدّها الذي حملها بين يديه…ضمّها إلى صدره، قبّلها وهو يقول: أنت الأغلى يا حبيبتي…حملها معه إلى الطّابق الثّاني…وعندما أخبر أمّ عبّاس بالموضوع أصيبت بالهلع…أمسكت بخدّ أميرة وقالت:

لو كنت تعلمين عواقب فعلتك لقتلتك يا مجرمة!

لم تفهم أميرة ما يدور حولها لكنّها قالت:

أنا أشطر منه.

فضحك الجدّان وقالا بصوت واحد: نعم أنت الأشطر وتسابقا لاحتضانها.

غفا أبو عبّاس على سريره…صحا على طرقات سعديّة لباب غرفة النّوم…سألها عمّا تريد فقالت:

هناك سيّارات عسكريّة تجوب البلدة.

خرج أبو عبّاس من غرفته…وقف في البرندة…رأى سيّارات عسكريّة تتمركز في مناطق محدّدة…وعددا من الجنود يتجوّلون في أطلال قصر الخليفة الأمويّ هشام بن عبد الملك…سمع أصوات طلقات ناريّة من بعيد…فقال:

استر يا ربّ.

سأل عن عبّاس فأخبروه أنّه في القدس…جلس في البرندة مرتبكا.

دبّ خلاف حادّ بين عبّاس وفايز، بعد لقائهما بالشّيخ ياسين في القدس، وبعبد القادر الحسيني في براري المدينة، ففايز متأثّر جدّا برفض الشّيخ والحسيني لقرار التقسيم الصّادر عن الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، ويعتبرانه مؤامرة دولية تستهدف تقسيم فلسطين، وإقامة دولة يجتمع فيها اليهود من أصقاع الأرض، بينما عبّاس متأثّر برأي صديق العائلة المحامي حنّا اندراوس، الذي يؤيد قرار التّقسيم؛ “لأنّه أهون الشّرور التي تحيق بالبلاد”…جلسا في شرفة القصر مع أبي عبّاس…فقال فايز بانفعال شديد:

تأييد ما يسمّى قرار التّقسيم خيانة كبرى.

فردّ عبّاس: الظّروف ليست في صالحنا، وإن لم نقبل بخازوق التّقسيم، سنخسر البلاد من النّهر إلى البحر…فالعالم الغربي يجمع على تأسيس وطن قوميّ لليهود في بلادنا.

فايز: عن أيّ عالم تتكلم يا رجل؟ فهذه البلاد أرض وقف اسلاميّ، والتّنازل عن أيّ شبر منها كفر وخيانة.

عبّاس: السّياسة فنّ الممكن…وماذا يمكننا فعله مع بريطانيا العظمى التي تحتلّ بلادنا، وتسهّل هجرات اليهود إليها…وتدرّبهم وتسلّحهم…في حين تعدم من يحمل رصاصة فارغة من شبابنا؟

فايز: أنتم وعصبة التحرّر معكم متأثّرون بسياسة الاتّحاد السوفييتيّ الذي اتّفق مع اليهود على تحقيق حلم الصّهيونيّة باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. والسوفييت مخدوعون بالكيبوتس الاسرائيليّ ويعتقدون أنّه اشتراكيّ…ولا يعلمون أنّ الكيبوتسات بؤر لتفريخ الفكر الصهيونيّ المرتبط بالامبرياليّة العالميّة.

عبّاس: العالم الغربيّ يريد تعويض اليهود عن جرائم النّازيّة، وهو يدعمهم لبناء دولة قوميّة لهم في بلادنا…ولا قدرة لنا على مواجهة هذه الهجمة الشّرسة.

فايز: أيّ قوميّة يا رجل؟ بربّك هل توجد قوميّة يهوديّة؟ ومتى كان الدّين قوميّة؟ وما علاقتنا بالنّازيّة؟ وهل نحن مسؤولون عن جرائمها بحقّ اليهود وغيرهم؟

عبّاس: لقد استطاعت الحركة الصّهيونيّة تجنيد العالم الغربيّ لصالح فكرتها…والجبهة المناصرة لهم قويّة جدّا.

فايز: يهود بلادنا عرب مثلنا، ديانتهم اليهوديّة…ونحن لسنا ضدّهم، ولا ضدّ اليهود في أيّ مكان في العالم…لكنّنا ضدّ الفكر الصهيونيّ…وضدّ تهجير اليهود إلى بلادنا…ومن يدخل بلادنا عنوة ليس من حقّه أن يبني دولة له فيها…وعليه أن يعود إلى حيث أتى.

عبّاس: الواقع شيء…والحقوق شيء آخر…والمؤامرة أكبر من قدراتنا في التّصدّي لها وافشالها.

فايز: ما هي مساحة الأراضي التي يملكها اليهود في فلسطين؟ وما عدد اليهود فيها…فكيف سنتنازل لهم عن أكثر من 50% من مساحة فلسطين؟

عبّاس: إذا تعاملنا بالعقل مع ما يجري على الأرض، فإنّ اسرائيل التي يطالبون بإقامتها ستذوب وسط محيطنا العربي، ولن تستطيع العيش…وإذا ما بقينا نفكر بطريقتك فسنخسر كلّ شيء.

فايز: هل هذا ما لقّنكم إيّاه الاتحاد السوفييتي…وهل السّياسة السّوفييتيّة مقدّسة ولا تخطئ؟

عبّاس: الاتحاد السّوفييتي دولة عظمى…انتصرت في الحرب العالميّة الثّانية…وهم الدّرع الذي يتصدّى للأطماع الاستعماريّة في العالم، ويناصرون حركات التحرّر أينما وجدت.

فايز: إذن عليهم دعمنا لأنّهاء الاحتلال البريطانيّ لبلادنا، ولوقف الخطر الصهيونيّ المحدق بنا.

عبّاس: وهم مع حقّ تقرير المصير للشّعوب.

فايز: أوليس من حقّ شعبنا أن يحقّق مصيره على أرض وطنه؟ وهل اليهود شعب واحد؟ لا يوجد شيء اسمه الشّعب اليهوديّ…اليهوديّة ديانة…واليهود جزء من الشّعوب التي يعيشون فيها. وهم في بلادنا أقلّ عددا ممّا هم في البلدان الأخرى…وإذا كانوا يريدون وطنا قوميّا لليهود، فليقيموه في بلاد أخرى مثل أمريكا أو الاتحاد السوفييتي فهما بلدان واسعان وفيهما ملايين اليهود.

وهنا تدخّل أبو عبّاس وقال: والله لم أعد أفهم شيئا…ولكنّني سأسافر إلى حيفا، وسأستمع لرأي المحامي حنّا اندراوس…فهو متعلّم ويفهم الأمور جيّدا…واتركونا من هذا الكلام الذي ينغّص الحياة…فالبلاد تقف على كفّ عفريت…والقتل يوميّ وفي كلّ مكان…ولم يعد مكان آمن، وربنا يستر من قادم الأيّام.

10

نزلت الحاجّة خديجة زوجة طاهر المحمود من السّفينة في ميناء صيدا كما المجنونة…شعرها منفوش، وخدودها تنزف دما بعد أن جرفتها بأظافر يديها…تقود حفيدتها أميرة بيدها…أميرة مصابة بحالة رعب شديدة…لا تدري ما يدور حولها…المحامي حنّا اندراوس أرخى ربطة عنقه…يحمل ابنته…في حين زوجته الدكتورة جورجيت تقود ابنهما…كلاهما يسير على غير هدى وسط الجموع البائسة التي ألقت بها السّفينة في الميناء…صراخ أطفال ونساء يتعالى…رجال مذهولون…اقترب حنّا من الحاجّة خديجة…طلب منها أن تبقى وحفيدتها بجانبهم ليتدبّروا أمرهم سويّة…الدّرك اللبناني يفتح لهم الطّريق للخروج من الميناء…جلسوا في ظلّ جدار بيت خارج الميناء…لم يسمح لهم الدّرك بالابتعاد…جاء مندوبو الصّليب الأحمر اللبناني…قدّموا لهم الماء…وقليلا من الطّعام…نقلوهم إلى أرض خالية في أطراف المدينة…أعطوهم خياما يأوون اليها…حنّا اندراوس بنى خيمة له ولزوجته وابنيه وللحاجّة خديجة وحفيدتها…فهو يعتبرهما جزءا من الأسرة…ويشعر بمسؤوليته عنهما…الصّراخ والعويل والبكاء لم ينقطع…بعضهم لم يعد قادرا على التّفكير…وغير مصدّق لما جرى…صاحت خديجة أمّ عبّاس بقوة وقالت وهي تلطم على وجهها:

ليتنا بقينا في بيت دجن ولم نسافر إلى حيفا…على الأقلّ لنجا أبو عبّاس.

باتوا ليلتهم السّابقة في بيت المحامي حنّا اندراوس في وادي النّسناس في حيفا…كانت ليلتهم رائعة…استعادوا فيها ذكريات الأيّام الخوالي…وفي صباح هذا اليوم التّعيس نزلوا يتمشّون على شاطئ البحر…الطّقس ربيعي والجوّ بديع…طيور النّورس تصطاد طعامها من سمك البحر…وتقف عند الشّاطئ لابتلاعه… أميرة تقترب من طيور النّورس فرحة، وفجأة بدأ الهجوم على حيفا من شمالها وجنوبها…ركضوا مع الرّاكضين ليعودوا إلى بيت المحامي في وادي النّسناس…القوّات البريطانيّة تغلق الشّوارع…تُوجِّه النّاس المفزوعين إلى الميناء كونه المكان الأكثر أمنا…عند مدخل الميناء رصاصة أصابت صدر الحاجّ طاهر…سقط مضرّجا بدمائه… احتضنته زوجته خديجة تريد انقاذه…لفظ أنفاسه الأخيرة سريعا…المحامي حنّا اندراوس أمسك يدها وجرّها خوفا عليها…فالعشرات يتساقطون…والكلّ يريد أن ينجو بنفسه…وفي الميناء أجبرهم عساكر الانجليز على الصّعود إلى السفينة…ظنّوا أنّهم سينقلونهم إلى عكّا حتى تهدأ الأمور…لكنّ السّفينة أبحرت إلى ميناء صيدا في لبنان…

وسط الذّهول والمرارة جاءهم من يخبرهم بأن عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس قد سقط شهيدا بمعركة في قرية القسطل غربيّ القدس…فزادت همومهم هموما…بكاه الرّجال والنّساء نصبن حلقات نواح على من فقدن من أحباب، وعلى القائد الشّهيد…اجتمع الرّجال بين الخيام التي يحيطها الدّرك من جميع الجهات…بعضهم قرّر العودة مشيا على الأقدام…والبعض ارتأى التّريّث حتى تنجلي الأمور.

عمّ الاضراب جميع المدن والبلدات الفلسطينيّة…هاجم الثّوار الكثير من المعسكرات البريطانيّة والتجمعات اليهوديّة…العصابات الصّهيونيّة المسلّحة تهاجم البلدات العربيّة…يركّزون هجماتهم على المناطق التي خصّصها قرار التقسيم لاقامة دولة اسرائيل، المندوب السّامي البريطانيّ يعلن أنّ بريطانيا ستسحب قوّاتها، وستعلن انهاء انتدابها على فلسطين في 15- أيار –مايو- 1948.

عمّت الفوضى البلاد…الجامعة العربيّة أعلنت أن القوّات العربيّة ستدخل فلسطين فور انسحاب القوّات البريطانيّة منها.

لم يعرف النّوم طريقا لعيون من ألقت بهم السّفن في ميناء صيدا… نقص في الماء وفي الطّعام وفي الأغطية…نسيم البحر لم يعد عليلا…يلفح الوجوه الملتاعة…ويصفعها في ليل تكاثرت فيه المصائب…بزغ فجرهم على أخبار مفزعة…فقد اقتحمت العصابات اليهوديّة قرية دير ياسين في القدس وقتلوا من فيها…وحملوا بعض نسائها في سيّارات…جابوا بهنّ الشّوارع كسبايا؛ ليبثّوا الرّعب في قلوب الآخرين…ألقوهنّ في باب العامود في القدس…ليحدّثن عمّا شاهدن…كي يهرب المواطنون العزّل من بيوتهم؛ ليتركوها للمستوطنين اليهود.

مهيبة خورشيد تجتمع بعضوات “جمعيّة زهرة الأقحوان” تشرح لهنّ صعوبة الموقف، وأنّ ساعة الحسم قد اقتربت…توزّع عليهن المهام لحماية يافا…تؤكّد بأنّ مجزرة دير ياسين هدفها إثارة الرّعب كي يترك الأهالي ديارهم بدون حرب.

النّساء في مختلف البلدات نصبن حلقات نواح وبكاء على القائد الشّهيد عبد القادر الحسيني، ففقدان قائد مجاهد صادق يعني أنّ كلّ بيت فقد ابنا، وأكثر من بكينه هنّ بنات قرى القدس حيث كان يقيم:

صار ع القسطل هجوم*** تلقى القتلى رجوم رجوم

اشاهد  فيها هالبطل*** عبد القادر انقتل

عبد القادر انقتل**** لرحمة الله انتقل

راح الخبر لاسرائيل*** هجموا ع دير ياسين

عملوا عمال الشياطين*** خصوصا قائدهم بيغين

سمعت سوريا والعراق*** دير ياسين تحت الهلاك

تشوف الجيش والدّبابات*** يا لطيف شو بخيفوا

********

والقسطل ريتك مردوم قتلت بيك العموم

ولشهداء فلسطين غنت نساؤها

يا لابسات التّبيت *** حدّين والبسن صيني

حدّين على الشهداء***** قتّالهم هالصّهيوني

فايز اجتمع مع عدد من الثّوّار…حذّر من أنّ الانجليز قد أعدّوا طبختهم جيّدا، وأنّهم يوزّعون أسلحتهم على اليهود…وأكّد بأن لا خيار أمامهم سوى الصّمود أو الشّهادة…طلب من عبّاس أن يرحل إلى رام الله أو أريحا بصحبة النّساء والأطفال…في حين يبقى هو وسعيد للدّفاع عن القصر والبيّارة…عبّاس رفض الفكرة وقال:

حياتنا ليست أغلى من حياة الآخرين.

البريطانيّون رحّلوا عائلاتهم…والأوامر صدرت لعساكرهم بالتمركز في معسكراتهم والدّفاع عنها…المسلّحون اليهود واصلوا هجومهم على حيفا…يحتلّون المدينة بيتا بيتا…تركوا ثغرات توصل إلى الميناء كي يهرب من يستطيع الهرب…السّفن البريطانيّة تقذف بآلاف المهجّرين في موانئ صيدا وبيروت وحتى طرابلس…استمرّ الهجوم…سيطروا على المدينة التي خلت من أهلها…لم يبق منهم  سوى عدد قليل في وادي النّسناس… الهجوم امتدّ إلى أطراف حيفا…ووصل في 22 أيّار قرية الطّنطورة إلى الجنوب من حيفا…وهناك جرت مذبحة للأهالي كالتي جرت في دير ياسين…سقط فيها 230 ضحيّة من مختلف الأعمار…حلّقت غربان في سماء القرية…نهشت الجثث… نعيقها وصل إلى البلدات الأخرى حاملا رائحة الدّم المسفوك.

عبّاس عاد من القدس بعد زيارته السّريعة إلى القدس بتكليف من فايز؛ للقاء الشّيخ ياسين والتّشاور معه حول المرحلة بعد استشهاد القائد الحسيني…صلّى تحية المسجد في الأقصى…انتظر الشّيخ ياسين حتى صلاة الظّهر…سمع أقاويل كثيرة في المسجد…أحدهم قال:

البيك عاد غاضبا من اجتماعه مع القيادة العربيّة في دمشق…ولم يحصل إلا على” نُصّ كيس رصاص” فدخل معركة القسطل ليحمي البوّابة الغربية للقدس.

وقال آخر: كان للبيك-الله يرحمه- مستشاران ألمانيان يرافقانه في معاركه…ويقال بأنّهما كانا مدسوسين عليه…وهما من قتلاه.

آخر: ما كان للبيك أن يدخل المعركة…فمن سيخلفه في القيادة؟

وقال رجل عجوز – يسند ظهره إلى أحد أعمدة المسجد- بصوت أنهكته الأيّام:

لا تصدّقوا أنّ عبد االقادر بيك قد استشهد! فالرّجل في رعاية وحماية الله…بالتّأكيد هو الآن في مكان آمن يقود المجاهدين.

وهنا دخل رجل طويل القامة ذو مهابة وقال:

إن استشهد عبد القادر الحسيني- رحمه الله- ففلسطين ليست عاقرا…ومن يحبّ القائد الشّهيد عليه أن يواصل طريقه، ولن ينفع البكاء شيئا…والقائد الشّهيد بعث قبل استشهاده بيوم رسالة إلى عبد الخالق حسّونة الأمين العامّ لجامعة الدّول العربيّة كتب فيها: :”إني أحمّلكم المسؤولية، بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح” أرسلها وخرج على رأس عدد من جنوده إلى القسطل، حيث نال الشهادة.

التفت عبّاس إلى الشّخص الذي بجانبه وسأل:

من هو هذا الرّجل.

–         هذا بهجت أبو غربيّة.

عاد عبّاس إلى بيت دجن دون أن يقابل الشّيخ ياسين…فالشّيخ لم يحضر ليؤمّ الصّلاة في الأقصى…حدّث فايز وصحبه عمّا سمعه في الأقصى عن استشهاد القائد الحسيني، وعمّا قاله بهجت أبو غربيّة.

فقال فايز: هذا الكلام ليس غريبا على بهجت أبو غربيّة.

عبّاس: ومن هو بهجت أبو غربيّة؟

فايز: ستتعرّف أنت وغيرك عليه لاحقا إن كتب الله له ولكم الحياة.

عبّاس: هل هو رجل مهم؟

فايز: نعم هو كذلك.

وبينما هم يتباحثون حول ما يمكنهم فعله للدّفاع عن البلدة، وصلهم صوت أزيز الرّصاص من كلّ الجهات…باستثناء الجهة الشرقيّة…فضّوا اجتماعهم…قسّموا بعضهم إلى مجموعات…كلّ مجموعة من اثنين ممّن يملكون بنادق وعددا من الرّصاصات…دبّ الذّعر بين الأهالي؛ فبدأوا يهربون شرقا…خوفا من أن يتعرّضوا إلى مذبحة كما حصل في دير ياسين…البعض هرب بملابسه التي يرتديها…لم يحمل معه شيئا…والبعض حمل قليلا من الطّحين والعدس والأرزّ طعاما لأطفاله…البعض واسى نفسه بأنّه سيعود بعد أيّام؛ لأنّ الجيوش العربيّة ستقهر العصابات الصّهيونية…النّساء يحملن أطفالهن ويبكين.

عبّاس المحمود وضع في صندوق السّيّارة الخلفيّ ما توفّر من طحين، سكّر وشاي، أرز، عدس…طالب زوجتي فايز وسعيد بأن تكونا جاهزتين هما وأطفالهما في دقائق قليلة استعدادا للرّحيل بناء على طلب زوجيهما…جلست سعديّة تحتضن طفلها بجانبه…المقعد الخلفيّ لم يتّسع للبقيّة…جلست فيه زوجة صبحة سعيد وأطفالها، وأطفال فايز بعد أن قالت فاطمة زوجة فايز بأنّها ستمتطي الفرس السّحوب…وستلحق بهم…اتّفقوا أن ينتظروها عند نبع عين عمواس في اللطرون… أسرجت فاطمة على الفرس السّحوب…امتطتها بكبرياء خيّال متمرّس…شدّت لجامها ونهرتها باتجاه الشّرق وهي تقول:

اتبعوني…وانتبهوا للأطفال.

أدار عبّاس محرّك السّيارة وتبعها يتصبّب عرقا من شدّة الخجل…فها هو يهرب كما النّساء والأطفال والعجزة…لكنّه وجد عزاء في غيره من الشّباب الهاربين أيضا…وعزاؤهم أنّهم لا يملكون سلاحا يدافعون به عن أنفسهم، فإمام المسجد قرأ عليهم:” وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” و”الكفّ لا يناطح المخرز” وما هذه إلا محنة يمتحنكم الله بها…وستزول باذن الله بعد أن تقضي الجيوش العربيّة على العصابات الصّهيونيّة. وصلوا مدينة الّلدّ… جزء منهم لجأ إلى مسجد دهمش في المدينة…والباقون واصلوا طريقهم إلى منطقة رام الله…عبّاس قاد السّيّارة ببطء شديد…فالشارع يعجّ بالمشاة الّذين تركوا بيوتهم، وصل عبّاس عين عمواس بعد فاطمة زوجة فايز ببضع ساعات…شربت من النّبع…غسلت وجهها…أوردت السّحوب الماء…اتكأت على ساق شجرة لوز تنتظر سيّارة عبّاس…وتركت السّحوب ترعى ممّا تنبت الأرض… وصل عبّاس مرهقا…بعض الأطفال ناموا بعدما تعبوا من كثرة البكاء في السّيارة…فهم مرعوبون رغم أنّهم لا يدركون ما يجري حولهم…استراحوا قليلا…شربوا ماء…

واصلوا طريقهم…مرّوا ببيت سيرا…وواصلوا عبر الطّريق التّرابي إلى بيت عور…وهناك استضافهم أوّل بيت في القرية…قدّم لهم الماء وخبز الطّابون والزّيت…فهو لا يملك شيئا غير ذلك…وصباح اليوم التّالي وصلوا قرية قلنديا، بجانب مطار القدس، بين القدس ورام الله.

عند غروب اليوم التّالي هاجمت قوّات “البلماخ” مدينة الّلدّ…أمعنوا قتلا بالأهالي، وهم يجوبون المدينة بسيّارات عسكريّة تطالب الأهالي بالخروج من مدينتهم؛ لينجو كلّ منهم بحياته…فهرب غالبيّتهم مرعوبين…بعضهم هرب بملابس النّوم… ومذبحة دير ياسين تحلّق في مخيّلته…مرّوا بمئات الجثث في شوارع وطرقات المدينة…صراخ الأطفال وعويل النّساء يملأ فضاء المدينة…وفي الصّباح كان عدد من كبار السّن يتوكّأون على عصيّهم متّجهين شرقا…اعترضتهم سيّارات عسكريّة…قادتهم إلى مسجد دهمش…طلبوا منهم تحت تهديد السّلاح، أن يدخلوا المسجد وأن يُخرجوا من فيه…هالهم المنظر…85 جثّة كلّهم رجال باستثناء امرأة واحدة تحضن طفلتين توأمين رضيعتين…أرغموهم على جمع بعض الأخشاب والأشواك…أشعلوا النّيران بالجثث باستثناء جثّة المرأة وطفلتيها؛ فقد شفع لهم أحد المهاجمين عندما تذكّر زوجته وطفليه، وتعهّد لزملائه بدفنهم…التفت المهاجمون إلى كبار السّنّ وأطلقوا عليهم النّيران…لم ينج منهم أحد سوى خليل بحر أبو محمود – وهو في الخامسة والسبعين من عمره- والذي أصيب بجراح غير قاتلة، فتمدّد بين الجثث كما الأموات…وعندما شعر بالأمان عند المساء، تحامل على آلامه وجراحه فقام واتجه شرقا… وهو يتمنّى لو أنّه قُتِل مع من قُتِلوا…كي لا يرى ما رأى…مشى طريقه على غير هدى والحزن يعصر قلبه، وما عادت عيناه قادرتين على ذرف الدّموع…وصل قرية عمواس…حيث قدّم له الأهالي الاسعافات ونقلوه على ظهر حمار إلى مستشفى رام الله.

المقاومون في بيت دجن قاتلوا حتى الرّصاصة الأخيرة…فمنهم من لقي وجه ربّه…ومنهم من انتظر الّليل لينسحب شرقا…فايز لم يكن يملك سوى عشر رصاصات…توارى بين أغصان شجرة الخرّوب الكثيفة في البيّارة…أطلقها رصاصة رصاصة على أهداف محدّدة…لم تخطئ واحدة منها الهدف…وفي الليل انسحب مع المنسحبين…مرّ بالقصر الأمويّ حيث كان يتمركز زميله سعيد وشخص آخر…وجدهما قد فارقا الحياة شهيدين…أدارهما إلى القِبلة…قبلّهما باكيا بعد أن قرأ الفاتحة على روحيهما…وواصل طريقه شرقا إلى القدس…صلّى في المسجد الأقصى…زار قبر قائده الشّهيد عبد القادر الحسيني…قرأ الفاتحة عن روحه، والتحق بفيلق بهجت أبو غربية للدّفاع عن القدس.

تشتّت الأهالي في رام الله وقراها… قليلون منهم  حلّوا  ضيوفا على بعض الأصدقاء والمعارف، والأغلبية استظلّوا بالأشجار وبجانب السّلاسل البشرية…عانوا من العطش والجوع…لم يصدّقوا ما جرى لهم…الكلّ يبكي الكلّ…ويبكي نفسه…والكلّ يبحث عن الكلّ فقد تشتّتوا…ولم يعودوا يعلمون من قُتل ومن نجا.

11

استأجر عبّاس بيتا في قرية قلنديا قرب مطار القدس…البيت قديم مكوّن من غرفتين…تحتهما مخزنان سطحهما يشكّل برندة مكشوفة للغرفتين اللتين تعلوانهما…بجانب البيت بئر ماء ومرحاض خارجيّ بابه كيس خيش…تحيط به قطعة أرض مزروعة بأشجار التّين واللوز والبرقوق والمشمش…وعدد من دوالي العنب…أعطى مخزنا لأسرة فايز والأخر لأسرة سعيد…فتّش جيوبه فوجد فيها ثمانين جنيها…امتطى الفرس السّحوب وذهب إلى رام الله…اشترى عددا من البطانيّات، قوالب حلاوة للأطفال، شوال أرز مصري زنة مائة كيلو جرام  وبابور كاز”بريموس”، كيس سكّر، كرتونة شاي، عددا من الطناجر والصّحون وأباريق الشّاي والكاسات…كما اشترى خمسة عشر ذراعا من قماش “الحَبَر” الأسود وما يلزمها من خيطان سوداء كما أوصته سعديّة، لتخيطها فاطمة زوجة فايز لباسا لهنّ…حمّلها في سيارة لتوصلها إلى قلنديا بعد أن وصف البيت للسّائق…وامتطى السّحوب ليصل البيت قبل السّيّارة…طلب من سعديّة وزوجتي فايز وسعيد أن يكنّ طاقما واحدا…يعددن الطعام للجميع…مرّ عدد من أبناء بيت دجن بقلنديا…عرفوا السّحوب…وسألوا عن عبّاس…عمّاته وأسرهنّ بقوا عنده عدّة أيّام…تكدّسوا في الغرف وتحت الشّجر…كانوا مذهولين مرعوبين…الرّجال يجلسون تحت الشّجر…والنّساء يجلسن على البرندة…وكلّ منهم يذكر أسماء من رآهم قتلى أو جرحى من أبناء البلدة…والبعض منهم لم يعد يصدّق أنّ من قتلوا قد ماتوا فعلا، وبقي على أمل أنّهم جرحى سيشفون.

سعديّة شعرت بحرارة عالية…انكمشت على نفسها…لم تعد لها شهيّة للطّعام…بقيت تحتفظ بمصاغها الذهبيّ ومائتي جنيه في حزام على وسطها…عبّاس لا يعلم أنّ سعديّة قد أحضرت مصاغها…قرّرت أن تقول له ذلك في الوقت المناسب إذا طالت بهم الاقامة بعيدا عن قصرهم في بيت دجن…انكمشت على نفسها…افتقدت ابنتها أميرة…نادت عبّاس وسألته باكية: أين أميرة يا عبّاس.

– أميرة لا خوف عليها فهي مع جدّيها…وسيحرصان عليها أكثر منّي ومنك.

– سمعنا أنّهم هاجموا حيفا وقتلوا وشرّدوا من فيها.

– ما يجري على الآخرين يجري عليها…وإن شاء الله ستكون بخير هي وجدّاها.

انطوت على نفسها…أصبحت مشدوهة حتى أنّها لم تعد تلتفت لطفلها…أعدّت لها زوجة فايز كأس شاي…طلبت منها أن تشربه رأفة بطفلها…لكنّها رفضت…عصبت لها رأسها واحتضنت الطّفل وهي تردّد:

لا حول ولا قوّة إلا بالله.

عندما وصلت أعداد كبيرة ممن نجوا من أهالي الّلدّ والرّملة ويافا والقرى المحيطة بها…أكّد عدد من النّساء ومن الرّجال أنّهم قد رأو بعيونهم آلاف الجثث في مدينة الّلد، وأنّه لم ينج من سكان الّلد أحد إلا طويلي العمر…فالقتلى بالآلاف…في حين أكّد محمّد عبد المعطي أنّه قد رأى جثث مئات الأطفال والشيوخ على الطرقات ميتين جوعا وعطشا ومن الحرّ…حتى أنّ عددا من الأمّهات تركن أطفالهن الموتى ملتاعات ليهربن بالأحياء منهم… وأضاف:

أقسم أنّني رأيت بعينيّ هاتين – وهو يشير باصبعي يديه السّبابة والوسطى- امرأة تركت طفلتها الرّضيعة على رصيف الشّارع بعد أن أنهكها التّعب، وحملت ابنها الذي لم يبلغ السنتين من عمره…فالحالة كما يوم القيامة ” يَومَ يَفرّ المَرء من أَخيه وَأمّه وَأَبيه وَصَاحبَته وَبَنيه لكلّ امرئ منهم يَومَئذ شَأنٌ يغنيه” ولولا امرأة مسنّة من أقاربها كانت تمشي خلفها احتضنت الطّفلة ومشت بها، لبقيت على الرّصيف لتلحق بغيرها من الأطفال الذين قضوا نحبهم.

تشكّلت لجان في مختلف المدن لإغاثة المنكوبين…السّنة جدباء…الفلّاحون خسروا بذورهم بسبب القحط…لم يكن هناك حصاد هذا العام…ومخزون الحبوب يكاد ينفذ…فصارت النّكبة نكبتين.

وكالة غوث اللاجئين التّابعة للأمم المتّحدة تفتح مكتبا رئيسا لها في القدس لإغاثة من أصبحوا لاجئين بين ليلة وضحاها…تقوم بتجميع المنكوبين في تجمّعات حول المدن الرئيسة التي لم تتعرض للاحتلال والتشريد…من جنين شمالا وحتى الخليل جنوبا وأريحا شرقا…وفيما بات يعرف باسم قطاع غزة. وكذلك في شرق الأردنّ، سوريا ولبنان.

الجيوش العربيّة التي دخلت فلسطين للدفاع عنها غالبية أسلحتها فاسدة…وصلت نقاطا معينة وتوقفت بناء على تعليمات قائدهها البريطاني السير جون باغوت غلوب

المعروف باسم غلوب باشا.Sir John Bagot Glubb

طلائع الجيش المصريّ حوصرت في الفالوجة…الجيش الأردنيّ استبسل في الدّفاع عن القدس القديمة…بعد أن صدّ المدافعون عنها بقيادة بهجت أبو غربية العصابات المسلحة المهاجمة في الجزء الغربي من المدينة…ورفض الانسحاب داخل أسوار المدينة بناء على رسالة وصلته من جيش الانقاذ…الجيش العراقيّ يحمي مدينة جنين…وصدرت إليه الأوامر بوقف القصف المدفعيّ على “كفار سابا” والعفولة، وعدم التّقدّم نحوهما.

الشّيخ ياسين، بهجت أبو غربية، أحمد علي العيساوي، الشّيخ عبد الفتّاح المزرعاوي وفايز يتباحثون في أمر هام قرب محراب المسجد الأقصى…اقترب منهم محمّد الشايب…طرح عليهم السّلام وقال غاضبا:

لا تستبشروا خيرا من الجيوش العربيّة.

الشّيخ ياسين: وحّد الله يا رجل…لا يحقّ لك أن تقول هذا الكلام.

– بل يحقّ لي قول أكثر ممّا قلت…تصوّروا أنّ عشرة جنود عرب تمركزوا عند نقطة

التّماس في قريتي…فرأيت من واجبي أن أكرمهم…فذبحت خروفا – وهو كلّ ما أملكه- طبخته وحملته لهم منسفا…وبعد أن أكلوا وشبعوا قال أحدهم بلهجة صحراويّة:

“وِدْنا حريم يا بوي…حريم فلسطين زينات”

صعقني كلامه…وغلت الدّماء في جسدي…فلطمته على وجهه وصحت به:

هل جئتم من بلادكم لحماية الأقصى، أم لتستبيحوا نساءنا؟ ولولا أن زملاءه فرّقوا بيننا لما تركته وفيه بقيّة من حياة…لكنّ واحدا منهم خفّف من حدّة الموقف عندما قبّل رأسي وهو يقول:

لا تواخذنا يا بوي بهذا الرّجل المعتوه. فبناتكم بناتنا ونساؤكم أخواتنا…وسنحاسب هذا المخبول على ما قاله.

سأل فايز غاضبا: لماذا لم تطلق النّار عليه وتقتله.

فقال الشّيخ ياسين: لا حول ولا قوّة إلا بالله.

أمّا بهجت أبو غربيّة فقد قال: بوركت يا أخي على إكرامك لهم…ولا داعي لكلّ هذا الغضب…فـ “لكلّ بيت مزبلة”. دافعوا عن دياركم حتى يفرجها ربّنا، وإيّاكم من الصّدام مع الجنود العرب، فهم أشقّاؤنا.

وهنا دخل عبّاس المسجد…ولمّا رأى فايز عانقه وهو يردّد:

أين أنت يا رجل؟ إنّنا قلقون جدّا عليك وعلى سعيد.

انحدرت من عينيه دمعتان وهو يقول لعبّاس: سعيد الله يرحمه…لقد استشهد.

امتقع وجه عبّاس…وسالت دموعه.

فقال فايز: الوقت ليس وقت بكاء…طمئنّي…أين أنتم الآن. وكيف حالكم.

عبّاس: استأجرنا بيتا في قرية قلنديا…ونعيش كأسرة واحدة…وجميعنا سالمون…لكنّ حالنا يسرّ الأعداء ويغيظ الأصدقاء.

بحث بهجت أبو غربيّة والشّيخ ياسين وفايز امكانيّة تشكيل لجان اغاثة للمنكوبين في المدينة وفي قراها كافّة…أثنى الشّيخ ياسين على الفكرة…لكنّه شرح رأيه قائلا:

شعبنا معطاء…ومن يضحّي بدمه لا يبخل بماله…لكنّكم تعلمون أنّ نكبة شعبنا هذا العام نكبتان…نكبة الحرب وما نتج عنها من تشريد مئات الآلاف من أبناء شعبنا…ونكبة القحط الذي عمّ البلاد هذا العام…ومع ذلك فإنّ أبناء شعبنا يتقاسمون رغيف الخبز إن وُجِد.

فقال بهجت أبو غربيّة:  لقد حضر مندوبون عن وكالة اغاثة اللاجئين التّابعة للأمم المتّحدة…ومع ذلك دعونا نطلق نداء استغاثة إلى الدّول والشعوب العربية، وإلّا فإنّ المجاعة ستفتك بالآلاف من شعبنا…فمن شُرّدوا من ديارهم تركوا كلّ أملاكهم خلفهم…بل إنّ بعضهم خرجوا بالملابس التي يرتدونها.

الشّيخ ياسين: الهيئة العربيّة العليا أصدرت صباح هذا اليوم نداء ناشدت فيه العرب والمسلمين دولا وشعوبا نصرة الشّعب الفلسطينيّ المنكوب…وحذّرت من أنّ أيّ تأخير في تقديم المساعدة قد يحصد أرواح الآلاف ممّن يعانون الجوع.

اقترب شابّ قويّ البنية متجهّم الوجه من بهجت أبو غربيّة وسلّمه ورقة….قرأ بهجت الرّسالة وقال:

الحمد لله…الجيش العراقيّ في جنين يقوم بتوزيع أطنان التّمور في منطقة جنين على المنكوبين، وعلى المحتاجين من المواطنين…والحكومة العراقيّة أعلنت وقف تصدير التّمور العراقيّة، وتحويلها إلى فلسطين لتوزيعها على المحتاجين…وأنّ مئات الشّاحنات المحمّلة بالتّمور في طريقها إلى ما تبقّى من البلاد…كما أنّ وكالة غوث اللاجئين أعلنت أن عشرة ألاف طنّ من الطّحين يجري تفريغها الآن في ميناء العقبة الأردنيّ، وأنّ الشاحنات تقوم بنقلها إلى المنكوبين في فلسطين.

الشّيخ ياسين انفرجت أساريره…حمد الله وبسمل وقرأ: “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ”.

بهجت أبو غربيّة قال بثقة: هذا ليس غريبا على أشقائنا العراقيّين، فهم يتحلّون بالشجاعة والمروءة، وهم أصيلون وكرماء…فأبناؤهم يتصدّون للقوّات المهاجمة في منطقة جنين…ودماء أبنائهم تختلط بدماء أبنائنا.

جلس عبّاس معهم على استحياء وسأل:

لا أعرف كيف تختار العصابات الصهيونيّة مكان ووقت هجماتها…فلماذا بدأوا بحيفا؟

ابتسم فايز وقال مازحا: يبدو أنّك لا تفهم الوطن، والحياة والموت إلا من خلال والديك وابنتك أميرة…فحياتهم ليست أغلى من حياة غيرهم، وما يجري على أهل حيفا سيجري عليهم.

ابتسم بهجت أبو غربيّة من جواب فايز وقال:

للصّهاينة خططهم الجاهزة…وخلفهم قوى دوليّة عالمية تزوّدهم بالسّلاح وتدرّبهم عليه، وتشاركهم التّخطيط من وراء الكواليس…بل إنّ الجيش البريطانيّ يخلي معسكراته ويسلّمها بأسلحتها لهم على رؤوس الأشهاد، ولوحظ في أكثر من مكان أنّهم يستعملون الدّبابات والمدفعيّة بمختلف أشكالها…بل ظهرت لديهم طائرات عسكريّة قامت بقصف الجيش المصريّ…ويبدو أنّهم يريدون السّيطرة أوّلا على المناطق التي أعطاهم إيّاها قرار التقسيم، الصّادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة؛ لإقامة دولتهم عليها. لذا فقد ركّزوا هجماتهم على حيفا وعلى طبريا وعلى غيرها…وهم يرتكبون مذابح في مناطق مختلفة لإثارة الرّعب بين النّاس؛ لإجبارهم على الهروب من ديارهم، وشعارهم “إقامة دولة لشعب لا أرض له على أرض لا شعب لها” فبعد دير ياسين تتواتر الأخبار عن مجزرة قرية الطنطورة جنوب حيفا، وقرية ناصر الدّين غرب طبريا والدّوايمة وغيرها.

الشّيخ ياسين عابسا وحزينا: يبدو أنّ مخطّطاتهم قد نجحت…فمئات الآلاف من أبناء شعبنا يتركون ديارهم ويهربون منها خوفا من ويلات الحرب والمذابح التي تنتظرهم…ويبدو أنّ المهاجمين لن يكتفوا بالسّيطرة على الأراضي التي خصصها لهم قرار التّقسيم…بل يتعدونها بكثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فايز: لن يستطيعوا الصّمود أمام الجيوش العربيّة.

بهجت أبو غربيّة: هم أكثر عددا وعدّة وتدريبا منّا ومن الجيوش العربيّة…وعلينا أن ننسّق مع الجيش العربيّ الأردنيّ للدّفاع عن القدس القديمة وحماية المقدّسات مهما بلغت التّضحيات.

12

عاد فايز مع عبّاس إلى قرية قلنديا بائسا حزينا مكسور الجناح…فالهزيمة هدّته…لم يصدّق ما جرى، بل هو غير مستعد لتصديقه… احتضن زوجته التي شهقت فرحا ونزلت دموعها عندما رأته…قبّل أطفاله وأطفال سعيد…صافح سعديّة مع ابتسامة حييّة…طأطأ رأسه عندما وقف أمام صبحة أرملة سعيد…ولمّا سألته عن زوجها أجابها بالدّموع…أدار ظهره لها وانتحى جانبا…بكى عبّاس وسعديّة وفاطمة زوجة فايز …ودخلوا البيت، فلم يعودوا قادرين على الوقوف أمام صبحة التي تجمّدت مكانها قليلا…عيناها جفّتا ولم تعودا قادرتين على ذرف الدّموع…جلست على الأرض تنتحب وتنعف التّراب على رأسها…قالت ملتاعة:

يا حسرة اطفالك يا سعيد.

التفت إليها فايز وقال باكيا: أولاد سعيد اولادي…ولن أتخلّى عنهم ما حييت…دخل إلى المخزن الذي دخلته زوجته فاطمة…قال لها:

اذهبي إلى صبحة وواسيها…فمصابها عظيم، خرجت فاطمة…أمسكت يد صبحة وقالت:

هيّا بنا إلى الغرفة…صبحة تجرّ ساقيها المتأرجحتين…دخلت مخزنها وانهارت أرضا…مدّدتها فاطمة وقالت لها:

هوّني عليك يا أختاه…فأطفالك بحاجتك.

نزلت سعديّة بناء على تعليمات زوجها عبّاس…أخذت تدلّك صدر صبحة…ودموعها تنهمر بصمت وقالت:

أنت أختنا يا صبحة…وأطفالك أطفالنا…وما يجري علينا يجري عليك…وسعيد حيّ يرزق عند ربّنا وبسملت وقرأت: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.” وسعيد لم يذهب عنك وحدك…بل ذهب عنّا جميعنا.

صبحة ردّت منتحبة: ” اللي إيده في النّار مش مثل اللي يتدفا عليها”.

فاطمة: وحدّي الله يا صبحة ولا ترعبي الأطفال…فالنّار أحرقتنا جميعنا.

لم يطق فايز البقاء في البيت…فالهموم تؤرّقه…خرج متّجها إلى خيام المشرّدين على الجانب الشّرقيّ من مطار القدس…وجدها كيوم الحشر…أطفال يصرخون…نساء يرتدين السّواد… رجال مذهولون…أفواه جائعة…اكتظاظ مرعب…نساء ورجال يتزاحمون، ويتدافعون كموج البحر حول مركز الاغاثة…كلّ يريد حصته من الغذاء المتوفّر فخلفهم أطفال جياع…رجل يصيح بأعلى صوته قائلا:

لن نستطيع توزيع شيء وسط هذا الزّحام…على كلّ شخص أن يسجّل اسمه وعدد أفراد أسرته…وكلّ شخص سيأخذ حاجته.

ساهم فايز في ترتيب الصّفوف بعد أن استنجد بعدد من الشّباب الذين يعرفهم…الشّخص الذي يسجّل اسمه وعدد أفراد عائلته، يُعطى قصاصة ورق تحمل اسمه وعدد الأفراد…يسمح له الحرّاس بالدّخول إلى ساحة التوزيع…يحمل “كفير” تمر عراقيّ…”كفران” التمور ثلاثة أحجام…يجتهد الموزّعون بتوزيعها حسب عدد الأفراد…وعلى رصيف الشّارع الرئيس يتدافعون حول ” تنك” المياه عطشى… هذه تحمل تنكة صدئة، وتلك تحمل قِرْبَة…وذاك يحمل علبة مهترئة يعلوها السّواد…وهناك أطفال عطشى يصرخون.

انتهى توزيع التّمور في ساعة متأخّرة من الليل…النّاس لا يجدون ما يأكلونه سوى التّمور…تقدّم فايز من أحد مسؤولي التّوزيع وسأل:

كيف أستطيع الحصول على خيمتين؟

– ولماذا خيمتان وليست واحدة؟

– واحدة لأسرتي والثانية لأرملة صديقي الشّهيد وأطفالها.

– أين هم؟

– في قرية قلنديا القريبة.

– احضروا غدا وستكون لكم خيمتان.

– شكرا لك أريدهما متجاورتين لأرعى أرملة الشّهيد وأطفاله.

– لك ذلك.

عاد فايز إلى قرية قلنديا في ساعة متأخّرة…لم يدخل المخزن حيث زوجته وأطفاله…جلس على التّراب مسندا ظهره إلى ساق شجرة تين…رأته زوجته فاطمة من شبّاك المخزن…هي لا تغلق الباب فلم يتبقّ ما تخاف عليه…خرجت إليه وقالت بصوت هادئ ناعس:

ادخل يا أبا محمّد…ففراشك موجود.

– اتركيني فما عاد سقف يؤويني.

– هل آتيك بما يتوفرّ من طعام؟

– لا شهيّة لديّ لطعام أو غيره.

– إذن هيّا معي إلى الفراش.

– قلت لك اتركيني هنا…فأنا مرهق.

جلست بجانبه…حزنت عندما رأته يميل رقبته إلى كتفه الأيمن ويغفو…أمالت جسده باتجاهها…وضعت رأسه في حجرها…تساقطت دموعها على وجهه…بلّلهما النّدى…وعندما انطلق أذان الفجر من المسجد استيقظ تعبا …رفع رأسه من حجر زوجته…هلّل وكبّر وقال وهو ينهض: أصبحنا وأصبح الملك لله…وانطلق. لم يذهب إلى المسجد كما اعتقدت زوجته…بل اتّجه شرقا إلى حيث لا تدري…عادت إلى فراشها تبكي…تساءلت في سرّها:

ماذا جرى لعقل فايز؟

عندما استيقظ عبّاس جلس في البرندة مهموما…وعندما خرج محمّد فايز من المخزن، سأله عبّاس: أين أبوك يا محمّد؟

– لا أعرف.

– ألم ينم عندكم الليلة؟

– لا.

وهنا خرجت فاطمة زوجة فايز…طرحت تحية الصّباح على عبّاس وقالت:

عاد بعد منتصف الليل حزينا…لم يدخل إلى المخزن…نام تحت شجرة التيّن تلك بدون غطاء أو فراش، وعند أذان الفجر استيقظ ومشى شرقا دون استئذان…حسبته ذاهبا إلى المسجد للصّلاة…لكنه ابتعد كثيرا ولا أعرف أين وجهته.

قال عبّاس: لا تخافي عليه…سوف يعود.

–         إن شاء الله…أسأل الله العون.

ركب عبّاس سيارته وقصد رام الله لشراء دواء لسعديّة، فالمرأة لا تقوم من فراشها إلّا لقضاء الحاجة، لا شهيّة لها للطّعام، ولا تنتبه لطفلها “محمّد عيسى” ولولا رعاية فاطمة وصبحة له لما وجد من يعتني به…وصبحة منذ أن تأكدت من أنّ زوجها سعيدا قد استشهد خارت قواها، وانطوت على نفسها، ولم تعد قادرة على العناية بنفسها وبأطفالها…فوقعت مسؤولياتهم كلّهم على كاهل فاطمة زوجة فايز.

لم يطل غياب فايز…عاد عصر اليوم التالي ومعه شابّان يمتطي كلّ واحد منهم فرسا، ويسوقون قطيعا من الخراف ومن البقر…أدخل خروفا وبقرة حلوبا إلى قطعة الأرض المحيطة بالبيت في قرية قلنديا حيث يسكنون…قال لزوجته:

اربطي البقرة وحافظي على الخروف حتى أعود.

واصلوا مسيرتهم إلى المخيّم القريب…قال لزميليه:

وزّعوا البقر الحلوب على الأسر التي لديها أطفال رضّع…وانحروا الخراف والعجول ووزّعوا لحومها على ساكني الخيام.

اقترب منهم عدد من الحرّاس وسألوا:

من أين لكم هذه المواشي؟

فأجاب فايز: رزق من الله.

الحارس: السّماء لا تمطر خرافا ولا بقرا…فمن أين أتيتم بها.

فايز: لا تخافوا يا إخوتي…فنحن لسنا لصوصا ولن نكون…هذه نهبناها ممّن نهبوا ديارنا وأراضينا.

قائد الحرس: لم أفهم عليك.

فايز: لقد اخترقنا صفوف العدوّ ونهبنا كيبوتسا زراعيا قرب الرّملة…ونحن نوزّع هذه الماشية على المنكوبين.

ابتسم الحرّاس واقترحوا أن يتمّ نحرها تحت اشراف لجنة الاغاثة، كي توزّعها حسب القوائم المسجّلة لديها…درءا للخلافات.

وافق فايز على الاقتراح بعد أن اشترط مشاركة زميليه على الاشراف على عمليات الذّبح وتوزيع اللحوم، وتوزيع البقر الحلوب على الأسر التي لديها أطفال رضّع…ولم تكن هناك معارضة على شرطه.

عاد فايز إلى البيت في قلنديا…حلب البقرة…طلب من زوجته أن تغلي الحليب، وأن تقدّمة لسعديّة ولصبحة وللأطفال، ثمّ ذبح الخروف وقطّعه…طلب من زوجته أن تطبخه، وأن تتقاسمه مع عبّاس وزوجته، وصبحة أرملة سعيد وأطفالها…إلّا أنّ زوجته اقترحت أن يجمعوا حطبا وأن يقوموا بشواء الخروف على صاج الخبز…وهذا ما حصل…اجتمعوا جميعهم حول الصّاج…وأكلوا الخروف كاملا…ناموا ليلتهم…في الصّباح استيقظ فايز مبكّرا…وخرج في طريقه إلى القدس.

13

دخل المدينة من باب العامود، فايز يخشع عندما يدخل القدس…فكلّ مكان في المدينة يراه مقدّسا…حتى شوارعها وطرقاتها وزقاقها مقدّسة…فلا مناص من أنّ صحابيّا جليلا أو عالما شهيرا، أو وليّا من أولياء الله قد مرّ منها، مشى في سوق خان الزّيت…شعر أنّ المدينة حزينة…فرغم اكتظاظ أسواقها بالمارّة إلا أنّهم لا يشترون شيئا من محلّاتها…تفحّص الوجوه واستنتج أنّ غالبية المارّة من المنكوبين الذين لا يملكون شيئا…وهم في طريقهم إلى دور العبادة للصّلاة…فلم يعد لديهم سوى الدّعاء…واصل طريقة…عبر سوق العطّارين…رائحة البهارات تعبق بأنوف المارّة…خرج من سوق العطّارين إلى باب السّلسلة في طريقه إلى الممسجد الأقصى…انتبه إلى صوت يناديه…إنّه الشّيخ ياسين البكري يجلس مع عدد من الأشخاص في مقهى الباشورة…قال أحدهم بأنّ حوشا في حارة الشّرف كانت تسكنه عائلات يهودية قد هربت منه…فطلب منه فايز أن يُريه البيت، فسأل الرجل بسذاجة:

ماذا تريد منه؟

– أريد أن أسكن فيه…فربما يهوديّ الآن يسكن بيتي في بيت دجن.

– لكنّ الأوقاف الاسلاميّة هي التي تملك العقار.

فقال فايز غاضبا: وهل سأحمل البيت على ظهري…قلت لك أنّني أريد أن أسكنه لا أكثر من ذلك.

– وإذا عاد ساكنوه اليهود إليه.

– لن يعودوا إلا إذا عاد منكوبو شعبنا إلى بيوتهم التي شرّدوا منها، وعندها لن تكون مشكلة.

ابتسم الشّيخ ياسين وقال لهما: يبدو أنّ قضيّتنا أصعب ممّا نتصوّر…ومن حقّ المنكوبين أن يسكنوا في بيوت الأوقاف الخالية.

فقال فايز باسما: حيّاك الله يا شيخنا.

قام الرّجل مع فايز ومشيا باتجاه حارة الشّرف… فايز مبهور بأبنية القدس، فهو لا يعرف المدينة جيّدا…هذه هي المرّة الأولى التي يدخل فيها هذه الحارة…وكلّ بناية فيها شاهد على تاريخ مضى…وحضارات تلد حضارات أخرى…هو يعرف ذلك…لكنّه الآن يشاهده بعينيه…وصلا الحوش المقصود…بابه الخشبيّ الواسع مغلق…بعارضة حديديّة يثبّتها قفل كبير الحجم…تفحّص فايز الباب وقال:

هذا أمر جيّد.

فسأل صاحبه الذي لا يعرفه: ما هو الجيّد؟

–         لا شيء…هيّا بنا.

عاد الرّجل إلى المقهى في حين ذهب سعيد إلى باب العامود…استقلّ شاحنة صغيرة إلى قلنديا…اختلى بعبّاس قليلا بعد أن طلب من زوجته ومن صبحة أرملة سعيد أن تستعدّا للرّحيل بسرعة…شرح الموقف لعبّاس وقال له:

سأعود إليك غدا بعد أن تستقر أمورنا في السّكن الجديد.

حاول عبّاس أن يثنيه عمّا يفكرّ به، إلا أنّه لم يأخذ بكلامه…أوصى فاطمة وصبحة بالانتباه إلى الأطفال خوفا من أن يسقطوا من صندوق الشّاحنة…جلس بجانب السّائق وعادوا إلى القدس…مشوا في طريقهم إلى حارة الشّرف…في سوق الّلحامين مرّ بحدّاد يبيع الفؤوس والمجارف…اشترى فأسا بقرشين، وأمام الحوش هوى بالفأس على قفل البوّابة الرّئيسة… فانخلع القفل ودخلوا…أغلق الباب خلفه وأحكمه بالمزلاج الدّاخليّ…في الصّيوان بئر ماء عليه دلو ماء…شربوا…ترك الأطفال يلعبون وذهب يتفقّد الحوش، هناك دَرَجان خارجيّان يوصلان إلى الطّابق الثّاني…وهذا يعني أنّ في الحوش أربع شقق…اثنتان في الطّابق الأوّل ومثلهما في الطّابق الثّاني…كلّ شقّة فيها غرفتا نوم واسعتان والمطبخ بنفس المساحة، أمّا الصّالون فكان بمساحة غرفة ونصف الغرفة…وهناك حمّام خارجي… نظر الغرف واحدة واحدة…وجد بعضها مغلقا والبعض الآخر مفتوحا…خلع الأبواب الموصدة، الغرف مؤثّثة أثاثا فاخرا…فيها أسِرّة معدنيّة وخزائن خشبيّة…أمّا الصّالونات ففيها كنبات دمشقيّة مزركشة… التفت إلى صبحة وقال لها:

اختاري المكان الذي تريدينه…لك شقّة ولنا مثلها…ومثلها أيضا لعبّاس وزوجته…وسنرى لمن سنعطي السّكنة الرابعة…اختار هو السّكنة القريبة من باب الحوش…فهو يرى نفسه حارس المكان منذ الآن…فقالت صبحة:

وأنا سأختار الشّقة التي تليكما.

تركهما وخرج…اشترى خبزا وألبانا…سلّمها لصبحة ولزوجته…وخرج ثانية قاصدا المسجد الأقصى…صلّى المغرب والعشاء…وعاد إلى مقهى الباشورة…وجد رهطا من النّاس يلتفون حول المذياع صامتين…استمع إلى رسائل صوتية لمن تشرّدوا في لبنان من محطة هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” سمع صوت نسائيا يقول:

أنا الدكتورة جورجيت أندراوس، زوجة المحامي حنّا اندراوس…نحن الآن في تجمع للاجئين في شاتيللا جنوب بيروت…أبعث سلامي لأمّي وإخوتي وأخواتي في واد النّسناس في حيفا، وأرجو أن يطمئنونا عنهم وعن مكان وجودهم…نحن بخير ولا تقلقوا علينا، وأبعث سلامي لصديقنا عبّاس طاهر المحمود وزوجته سعديّة من بيت دجن، وأخبرهم أن والدته الحاجّة خديجة وابنتهم أميرة معنا في نفس الخيمة، وهما بخير ولا ينقصهما سوى رؤيتكم، أمّا الحاجّ طاهر المحمود فالله يرحمه، لقد قتلوه عند بوّابة ميناء حيفا يوم 8 نيسان الماضي…طمئنونا عنكم، وأخبرونا عن مكان وجودكم، والرّجاء ممّن يسمع هذه الرّسالة أن يوصلها إلى أهلها.

سمع فايز الرّسالة وضرب كفّا على كفّ وهو يقول:

الله يرحمك يا أبا عبّاس…وكيف سأخبر عبّاس وسعديّة بالخبر؟

عاد إلى البيت في حارة الشرف…تفقّد الغرف واحدة واحدة…طلب من زوجته وصبحة مساعدته في ذلك وقال لهن:

أيّ أثر يهودي موجود في هذه الغرف أحضرنه لي…وقام بخلع القطعة المعدنيّة المثبتة على حلق باب كلّ غرفة من الخارج، وهي تحمل الوصايا اليهوديّة…يلمسها اليهود عندما يدخلون الغرفة ويقبلون رؤوس أصابعهم التي لمستها طلبا للبركة…قضى ليلته قلقا يفكّر بالطّريقة الأنسب لاخبار عبّاس وسعديّة برسالة جورجيت الصّوتيّة التي سمعها من المذياع.

لم يشعر عبّاس بالقلق والغربة كما شعرها يوم تركه فايز وأسرته، وأسرة الشهيد سعيد…فسعديّة منطوية على نفسها…غابت البسمة عن محيّاها…لم تعد تهتمّ بنفسها ولا بطفلها…صحيح أنّ حالتها تحسّنت قليلا…لكنّها لم تعد كما كانت…غفا قبل أذان الفجر بقليل…وصحا مع بزوغ الشّمس…خرج إلى البرندة كأنّه يبحث عن هواء نقيّ يتنفّسه…انتبه إلى أنّ الفرس السّحوب والبقرة الحلوب لم تعودا في مربطهما…لم يكترث بذلك…”إذا راحت الدّار فلا أسف على الخبايا”…نزل أمام البيت…أسند ظهره إلى ساق شجرة التّين تشغله أحزانه…وإذا بفايز يطرح عليه تحيّة الصّباح…ردّ التحيّة بتثاقل واعياء، اقترب منه فايز وسأل:

ما بك يا عبّاس؟ هل أنت مريض؟

– لا شيء…لست مريضا ولا أعلم ما بي.

– هل سعديّة وطفلها بخير؟ هل جرى لهما شيء؟

– لا تقلق…هما على حالهما.

– أين السّحوب والبقرة؟

– لا أعلم.

– كان الأجدر بك أن تنتبه أكثر…فالنّاس محتاجون، والجوع كافر…والجائع يسرق ليأكل.

– وهل سيأكلون الفرس؟

فردّ فايز الجائع يأكل ما يجده أمامه…وأظنّ أنّ البقرة قد أصبحت في بطون الجوعى…أمّا الفرس السّحوب فسنجدها ذات يوم. والأن دعنا من هذا الكلام…لقد وجدت لك شقّة مفروشة سترتاح بها…وسنعود جيرانا كما كنّا في سكن لائق إلى أن يفرجها ربّنا.

عبّاس محبطا: لم يعد أسف على الحياة؛ ففي مثل هكذا اوضاع تتساوى الحياة مع الموت…بل إنّ الموت أرحم.

فايز: هذا قدرنا…وإن شاء الله ستتغيّر الأحوال إلى الأحسن.

عبّاس بلهجة فيها حنين: هل تصدّق يا فايز أنّني أمضيت ليلي ألعب مع الأميرة…وكلّما غفوت تأتيني وتملأ قلبي فرحا…وعندما أصحو تهرب منّي…فيركبني الحزن.

فايز: لا تقلق فالأميرة بخير.

عبّاس: وما يدريك؟

فايز: الخوف ليس على أميرة بل على الحاجّ طاهر…فهو رجل مُسنّ…وقد لا يحتمل ما جرى.

عبّاس: إذا لم يحتمل فقد شبع من الحياة…وحياته ليست أغلى من حياة مَنْ سقطوا من مختلف الأعمار، ولن يموت أحد قبل انتهاء أجله.

فايز: هل أنت جادّ بما تقول؟

عبّاس: وماذا أستطيع فعله إن لم أكن جادّا؟

فايز: أقصد إذا جاءنا  خبر وفاة أبيك ماذا ستفعل؟

عبّاس: قلت لك لم يعد فرق بين الحياة والموت.

فايز: وإذا استشهد؟

عبّاس: يبدو أنّ لديك معلومات تخفيها عنّي.

فايز: لا أسرار تخفى عنك…فالحاجّ طاهر – رحمه الله- سقط شهيدا في حيفا.

قفز عبّاس من مكانه…أمسك بيديه فايز من صدره والدّموع تسيل من عينيه وصاح به سائلا:

ماذا تقول؟ وكيف علمت ذلك؟ وماذا جرى لأميرة ولأمّي؟

فايز: هوّن عليك…أميرة وأمّك بخير وهما في بيروت مع المحامي حنّا اندراوس وزوجته الدكتورة جورجيت…ووالدك -الله يرحمه-…قُتل على مدخل ميناء حيفا، وهذا ما سمعته بصوت الدكتورة جورجيت من هيئة الإذاعة البريطانيّة.

ارتمى عبّاس على الأرض…تمدّد كما المصلوب…نزلت دموعه بغزارة، فسأله فايز:

ألا تريد أن نحتسي القهوة؟

وإذا سعديّة تخرج حاملة ابريق شاي…طرحت التحيّة فنهض فايز وأخذ منها ابريق الشّاي والأكواب..فسألته عمّا بعبّاس. فأجابها: لا شيء.

عاد عبّاس إلى حالة الجلوس ساندا ظهره إلى ساق شجرة التّين…تنحنح وسأل فايز:

ما رأيك. هل سنخبر سعديّة أن أميرة موجودة في بيروت؟

فايز: اغتنم أيّ فرصة مناسبة…خبّرها بالتّدريج وليس مرّة واحدة…والآن هيّا بنا…جهّزوا أنفسكم للرّحيل إلى القدس.

عبّاس: أنا سأبقى هنا؛ فحياة المدن لا تناسبني.

فايز: القدس ليست كبقيّة المدن يا عبّاس…القدس جنّة الله في الأرض….هدوء…قداسة…عبادة…بيني وبينك القدس دين ودنيا.

عبّاس: لا بديل عن بيت دجن ويافا.

فايز: هذا صحيح لكن ” العين بصيرة واليد قصيرة ” وعندما نستطيع العودة إلى بيت دجن ويافا وغيرهما سنعود…والآن يتوفّر حوش مقدسيّ كامل في حارة الشّرف…فيه أربع شقق سنسكنها حتى يفرجها ربّنا.

عبّاس: لا أطيق العيش بدون أرض…فرائحة التّراب تنعش القلب، وتبعث السّعادة في النّفوس.

فايز: يا رجل سكننا في القدس مؤقّت حتى نعود إلى ديارنا.

عبّاس: لذا سأبقى هنا حتّى تتّضح الأمور.

فايز: لقد اتّضحت الأمور…لقد هزمنا وشرّدنا من ديارنا…وقد مضت سبعة أشهر على خروجنا من ديارنا…ووكالة غوث اللاجئين سجّلت المنكوبين…على أمل العودة…ولولا التّمور العراقية لمات النّاس جوعا…وما لنا إلا أن نتدبّر أمورنا؛ حتى تنفرج الأوضاع.

عبّاس: لن أرحل إلى القدس.

فايز: أريدك أن تذهب معي أنت وسعديّة…انظروا المكان، فإن لم يعجبكم عودوا من حيث أتيتم.

سكت عبّاس هنيهة وقال: فكرة جيّدة.

عندما أطلّوا على القدس من جبل المشارف، رفعت سعديّة رأسها…دبّت الحياة فيها عندما اكتحلت عيناها برؤية القدس…هلّلت وكبّرت…نزلوا واد الجوز…التفوا حول سور القدس باتّجاه باب المغاربة…دخلوا المدينة منه…سعديّة تريد التهام المكان بعينيها…أوقفوا السّيّارة…وقفوا عند باب الحوش الرئيس…قفزت فاطمة وصبحة لاستقبالهم…احتضنتا سعديّة وقبلّتاها…أطفالهما سعدوا برؤية طفلها”محمّد عيسى” جلسوا في الصّيوان…بدت سعديّة معافاة تماما…عادت البسمة إلى شفتيها…رأت المكان قريبا من السّماء…تجرّعت الفرحة دفعة واحدة…قامت تستطلع الحوش بعدما أشار عبّاس لها ولعبّاس إلى الطّابق الثّاني وقال:

تلكما شقّتان…اختارا التي تعجبكما منهما.

عادت سعديّة بذاكرتها إلى القصر في بيت دجن، فسقطت من عينيها دمعتان…خرجت لتواريهما…رأت درجا يوصل إلى السّطح…صعدته وفاطمة تمشي خلفها…التفتت إلى الجهات الأربع…ازداد خفقان قلبها عندما وقع نظرها على المسجد الأقصى بساحاته وقبابه ومساطبه…رأت قبّة الصخرة ترتفع لتلامس السّماء…استعادت قصة معراج خاتم النبيّين فصلّت عليه وعلى الأنبياء جميعهم…رأت عناق الهلال والصّليب على مآذن المساجد وأبراج الكنائس…فبسملت وحوقلت وقالت:

هذه مدينة يحرسها ويحميها الله…جلست على سطح الحوش لا تريد مغادرة المكان…فللقدس جاذبيّة لا يعلمها إلا أهلها…ونسائم الإيمان تنعش من يدخلها وتطيل عمر من يعيش فيها.

نادى فايز فاطمة كي تعدّ الطّعام؛ فأمسكت يد سعديّة تجرّها فهي تستمرئ جلسة السّطوح…نزلتا…جلست سعديّة في الصّيوان مع عبّاس وفايز…الأطفال يتقافزون ويلعبون…”محمّد عيسى” يتبعهم كطائر الشّنّار…وضحكته هادئة كخرير مياه جدول عذب…ابتسم فايز وقال:

“خذ فالها من اطفالها” ألا تريان فرحة “محمّد عيسى” فللقدس مذاق خاص.

فقالت سعديّة ضاحكة: فرحة “محمّد عيسى” لأنه يلعب مع أقرانه الذين افتقدهم، أمّا فرحة عناق القدس فلي أنا وحدي…فابتسم عبّاس وفايز…وأضافت:

يوم غد سأصلّي الفجر في المسجد الأقصى، وبعدها سأجوب حارات المدينة وأسواقها وأزقّتها…وشكرت فايز لأنّه أتى بهم إلى هنا.

قبيل الغروب بقليل التفت فايز إلى عبّاس وقال مازحا:

ألا تريدان العودة إلى قلنديا؟

فقالت سعديّة باسمة: هل تطردنا يا أبا محمّد؟

فايز: زوجك لم يُرد أن يرحل هنا…فهو يريد البقاء في قلنديا.

سعديّة تلتفت إلى عبّاس وتقول:

هل هناك انسان يرفض جوار المسجد الأقصى المبارك؟

عبّاس مستنكرا: وهل هناك مكان أفضل من بيت دجن ويافا وبحرها؟

سقطت دموع سعديّة وقالت: يا حسرتي على ما ضاع من البلاد، ومن سقط من العباد، ومسقط الرأس غالٍ… لكن “حسبي الله ع الظّلّام واولاد الحرام”.

التفت عبّاس إليها وقال: أيّ الشّقّتين اخترت يا سعديّة؟

سعديّة: الشّقة الشرقيّة لأرى المسجد الأقصى من شبابيكها.

عبّاس: أنا ذاهب لأستريح.

فايز: لا أحد ينام الآن في ساعات الغروب…هيّا بنا لنصلّي المغرب في الأقصى.

عبّاس ينهض كما عجوز أرهقته السّنون…يمشيان إلى الأقصى…ويسمعان أحاديث منكوبين عمّا جرى لهم…يصليّان العشاء ويخرجان…يعودان من طريق باب السلسة…يجلسان في مقهى الباشورة…يدخّنان الأرجيلة ويحتسيان القهوة…يأتي الشّيخ ياسين…يجلس معهما…يلتفت إليه فايز ويسأل:

مولانا هل بامكانك مساعدتنا للحصول على عمل؟

الشّيخ ياسين: هل تقبل أن تعمل مدرّسا يا عبّاس؟

عبّاس: نعم.

والتفت إلى فايز وسأله وأنت ما هو تحصيلك العلمي؟

فايز: ثالث ابتدائي.

الشيخ ياسين: مُرّا عليّ بعد صلاة ظهر يوم غد في المسجد الأقصى…وباذن الله أكون قد وجدت لكما عملا…واستأذنهما وخرج.

التفت فايز وعبّاس إلى امرأة مسنّة تنكسّ رأسها داخل المسجد الأقصى، وتمدّ يدها متسوّلة…قريبا من باب السلسلة…تمعّنها فايز…ركض إليها…أمسك يدها اليمنى وقبّلها…وسألها ودموعه تنحدر على وجنتيه:

أين ابنتاك يا أمّ منصور؟

–         وداد الله يرحمها هي ورابعة أرملة منصور…قتلوهما ونحن هاربون من بيت دجن…وعائشة مع أطفال منصور في الخيمة قرب قلنديا.

التفت فايز إلى عبّاس وقال له: اذهب للصّلاة وانتظرني في المسجد…أمسك يد الحاجة زكيّة…وقادها معه إلى الحوش.

طلب من زوجته أن تطعمها وأن تعتني بها…واستأذنها بأنّه ذاهب إلى المخيّم لاحضار ابنتها عائشة وطفلي ابنها منصور…فقالت:

حسبي الله على من وشوا بمنصور وكانوا سببا في قتله.

بحث عن عائشة حمدان الفالح في المخيّم حتى وجدها…برقت عيناها فرحا عندما رأته…شرح لها الموقف…طلب منها أن ترافقه هي وطفلا المرحوم شقيقها منصور حيث والدتها في انتظارها…عند مدخل المخيّم التقيا ابن عمّها محمود خلف الفالح…كان منطويا على نفسه ككلب هرم في قطيع كلاب ضالّة…التفت إلى فايز بانكسار وسأل:

إلى أين تقود عائشة يا فايز؟

فايز بلهجة غاضبة: لتلحق بأمّها.

محمود: لكنّها ابنة عمّي وأنا مسؤول عنها.

عائشة ساخرة: لا أنت ابن عمّي ولا أعرفك.

فايز يلتفت إلىعائشة ويقول: دعيك من هذا النّذل الجبان.

أوصلهم الحوش في حارة الشّرف…أسكنهم ووالدتها في الشّقة العلويّة بجانب عبّاس وسعديّة…وانصرف إلى المسجد الأقصى حيث ينتظره عبّاس…فقال له عبّاس:

الشّيخ ياسين غدا سيصطحبني معه لأعمل مدرّسا في دار الأيتام الاسلامية، في القدس القديمة، وقال بأنّه قد وجد لك عملا في مخازن وكالة غوث اللاجئين.

فايز: وما هي طبيعة العمل؟

عبّاس: تنزيل وتحميل المؤونات من طحين وسكّر وأرز وغيرها.

فايز: أمر جيّد…بارك الله بالشّيخ ياسين وجزاه عنّا خيرا…والآن ما رأيك أن نتجوّل في المدينة لنتعرف على حاراتها وأسواقها وزقاقها؟

نهض عبّاس وسارا إلى باب السّلسلة…واصلا طريقهما صعودا حتى وصلا ساحة باب الخليل…الباب مغلق بالطّوب…وما عاد الخروج أو الدخول منه ممكنا…فالعدوّ يسيطر على المنطقة الواقعة غربه خارج السّور…قلعة القشلة على يسارهم يشغلها جنود أردنيّون…بعضهم يعتلي سور المدينة، ومن طلاقاته يرقبون بمناظير تحرّكات الأعداء…مشى فايز وعبّاس شمالا…حتى وصلا الباب الجديد…فوجداه هو الآخر مغلقا بالطّوب وممنوع الاقتراب منه…انحرفا إلى الشّرق حتى وصلا باب العامود…وعلى بعد ثلاثين مترا من غرب مدخله رأوا جدارا عاليا من الباطون المسلّح يسير شمالا في محإذاة المحلات التّجارية في المصرارة…ليلتف إلى طريق نابلس…سارا شرقا …دخلا المدينة من باب السّاهرة…التفّا يمينا إلى حارة السّعدية…ليصلا باب العامود من الدّاخل دون قصد منهما…نزلا إلى سوق خان الزّيت…وفي نهايته وقبل دخول سوق العطّارين التفّا يمينا…ودخلا كنيسة القيامة…تجوّلا فيها…وخرجا إلى مسجد عمر…صلّيا فيه تحيّة المسجد…وخرجا منه غربا إلى حارة النصارى…ثمّ استدارا جنوبا وإذا بهما أمام سوق البازار في باب السلسلة…مشوا حتى مقهى الباشورة…فجلسا يحتسيان القهوة.

فقال عبّاس: هذه جولة سريعة في جزء من مدينة تاريخيّة…لا بدّ أن نخصّص أيّاما للتّجوال فيها حتى نعرف شيئا من حضارتها العريقة.

ركّز الشّيخ ياسين خطبة الجمعة على التكافل الاجتماعيّ بين أبناء الشّعب الواحد، واستذكر الهجرة النبويّة، وكيف تآخى المهاجرون والأنصار…ودعا الميسورين من المواطنين بضرورة تقديم يد العون لاخوانهم المنكوبين، كما دعا إلى ستر بنات المسلمين، والزواج من أرامل الشّهداء، لسترهن وإعالتهن هنّ وأطفالهنّ، وضرورة الرّضا بما تيسّر من مهر، فالقحط يعمّ البلاد، وجاء تشريد مئات الآلاف من أبناء شعبنا لتزداد الأوضاع سوءا.

14

بعد الانتهاء من الصّلاة التقى عبّاس وفايز بالشّابّ سميح شتيوي ابن بيت دجن…عانقهما…كان البؤس ظاهرا عليه – رغم أنّه في العشرين من عمره-…فذقنه غير المكتملة ليست حليقة…وملابسه متّسخة…سأله فايز:

كيف حال وحال أهلك؟

عبس الشّاب …طأطأ رأسه…اختنق بدموعه وهو يقول:

الله يرحمهم.

هاج عبّاس وسأل: ماذا تقصد يا رجل؟ هل ماتوا جميعهم؟

سميح باكيا: بل قتلوا.

فايز: أين؟ وكيف؟

سميح: احتمينا بمسجد دهمش في الّلد وهجموا علينا وقتلوا من في المسجد…ونجوت أنا عندما قفزت من نافذة المسجد الخلفيّة وسط الصّراخ والعويل وأزيز الرّصاص…وركضت شرقا.

فايز: وأين تعيش الآن؟

في مخيم الأمعري بجانب رام الله.

– مع من؟

– أعيش في خيمة وحدي…لا عمل ولا دخل…ولولا التّمور العراقيّة لمتنا جوعا.

– لا حول ولا قوّة إلا بالله…هيّا معنا…وإن شاء الله ستهون الأمور.

وصلوا الحوش في حارة الشّرف…جلسوا في الصّيوان…لا أحد هناك…فالنّساء اصطحبن أطفالهن للصّلاة في المسجد الأقصى ولم يعدن بعد.

في المساء جلست النّساء عند الحاجّة زكيّة، والرّجال في الصّيوان… تركّز حديثهم على خطبة الشّيخ ياسين في صلاة الجمعة…فقال عبّاس:

هذا الشّيخ حكيم في خطبه…فهو دائم التّركيز على هموم النّاس، والبحث عن حلول لها. فقبل النّكبة كان يحذّر ممّا يتربّص بالبلاد، ويحذّر من الانجليز الذين يسهّلون الهجرات اليهوديّة إلى البلاد لاقامة دولة لهم…ويدعو إلى مقاومتهم…ومنذ النّكبة وهو يدعو إلى رصّ الصّفوف والعمل على إعادة المنكوبين إلى ديارهم…ويدعو إلى مساعدتهم، وها هو يثير قضية هامّة وهي السّتر على أرامل الشّهداء ورعاية أطفالهن.

فايز: هذا ليس غريبا على الشّيخ ياسين، فهو مجاهد قولا وفعلا…والتفت إلى عبّاس وأضاف: أتذكر يا عبّاس عندما كان يأتي إلى مساجد بيت دجن؟ فهي ليست أكثر قداسة من المسجد الأقصى…لكنّه كان يأتينا بالسّلاح…وهو واحد من قادة الثّورة.

عبّاس: بارك الله به…والآن ما رأيكم بما طرحه عن الزّواج بأرامل الشّهداء لرعاية أطفالهنّ؟

فايز يقول باسما: منذ النّكبة والرّجال يعزفون عن زوجاتهم وهنّ يبتعدن عنهم.

عبّاس: هي محنة ستمرّ والحياة لا تتوقّف.

فايز يلتفت إلى سميح ويسأله:

هل تعرف الحاجّة زكيّة أرملة حمدان الفالح وابنتها عائشة؟

سميح: طبعا أعرفهما وهما تعرفانني…ألم تشاهدهما يصافحنني عندما رأينني؟ بل إنّ الحاجّة زكيّة احتضنتني وقبّلتني كأنّني ابنها.

فايز: ما رأيك بالزّواج من ابنتها عائشة؟

سميح يردّ بحياء شديد: كيف سأتزوّج وأنا لا أملك طعام يومي.

عبّاس: هذه ليست مشكلة…فالبيت موجود…وأشار إلى الشّقة التي تسكنها الحاجّة زكيّة وابنتها فاطمة…وستأكل ممّا نأكل حتى نجد لك عملا…وأنا أتكفّل لكما بخاتمي الخطوبة وبلباس جديد لكلّ منكما.

سميح: وهل تريدني أن أتوسّل خاتم خطوبتي؟

عبّاس: استغفر الله العظيم…فنحن إخوة… ونكبتنا واحدة، ومطلوب منّا أن نتعاضد مع بعضنا البعض…ألم تسمع خطبة الشّيخ ياسين.

فايز: ما قاله عبّاس صحيح…وهذا ما يحصل…فقط نريد سؤالك إن كنت موافقا على الزّواج من عائشة حمدان الفالح أم لا؟ وطبعا سنأخذ رأيها هي الأخرى.

طأطأ سميح رأسه…علت وجهه حمرة الحياء ولم يجب. فقال فايز:

السّكوت علامة الرّضا…وعلى الله توكّلنا.

ذهب فايز إلى صالون الحاجّة زكيّة… طلب من زوجته ومن سعديّة ومن صبحة أن تأخذ كلّ واحدة منهنّ أطفالها ويذهبن؛ لأنّه يريد الحديث مع الحاجة زكيّة في أمر هامّ…ولمّا خرجن طلب من الحاجّة زكيّة يد ابنتها عائشة لسميح شتيوي… فردّت الحاجّة زكيّة وهي تعبث بمسبحتها وابتسامة تعلو محيّاها:

الله يستر على ولاياك…ما تراه مناسبا نقبل به.

فايز: نريد رأي عائشة.

نكّست عائشة رأسها واحمرّ وجهها حياء…فقال:

السّكوت علامة الرّضا…وغدا بعدما نعود من العمل سنعقد قرانهما…وسنزوّجهما.

أعدّ فايز فراشا في صالونه لسميح وقال له:

نم الليلة وغدا ستكون في عشّ الزوجيّة يا عريس.

عندما اختلى فايز بزوجته فاطمة سألته وهو على فراش الزّوجيّة:

هل استمعت لخطبة امام الأقصى؟

– طبعا استمعت لها.

– ما رأيك بها.

– رائعة وبناء عليها غدا سنزوّج سميح شتيوي وعائشة حمدان الفالح…وسيسكنان مع الحاجّة زكيّة في نفس الشّقة في الحوش.

ابتسمت فاطمة وسألت بدهاء: وماذا بعد؟

– لا شيء.

– كيف تقول لا شيء؟ هل ترى مصلحة الآخرين وما يترتّب عليهم وتنسى نفسك؟ ما هذا عهدي بك.

– ماذا تقصدين يا امرأة؟

– أقصد أنّ عليك الزّواج من صبحة أرملة صديقك الشّهيد سعيد لترعاها وترعى أطفالها، فلا يمكن أن تبقى الأمور هكذا.

– لكنّها مثل أختي…هكذا تعاملت معها طيلة حياتي.

– أنت تعرف أنّها ليست أختك…والعفّة لا تعني الأخوّة…والآن هي أرملة شهيد…ولكي ترعاها وترعى أطفالها يجب أن تتزوجها، وأنا من سيطلبها زوجة لك.

– هل جننت يا امرأة؟ هذه أوّل مرّة أسمع فيها امرأة تطلب ضرّة لها.

– التّضحية يا فايز مطلوبة…ووفاء لروح صديقك الشّهيد يجب أن تتزوّج أرملته لترعى أطفاله.

– لم أفكّر بهذا الموضوع مطلقا.

– أعلم ذلك…لكن عليك التفكير به الآن، وأقترح أن نزفّكما غدا مع زفاف سميح وعائشة.

عندما اختلى عبّاس بسعديّة في غرفة النّوم قالت له:

لقد حزنت على سميح شتيوي لفقدانه أهله…لكنّني فرحت له لأنّه بقي على قيد الحياة، وباستطاعته أن يبدأ حياة جديدة…ويا حسرتي على ابنتنا أميرة…فهي فقدت والديها مع أنّهما على قيد الحياة…وأسأل الله أن تكون هي الأخرى قد بقيت على قيد الحياة…حتى ولو كانت بعيدة عنّا.

عبّاس: نعم أميرة على قيد الحياة، لكنّها بعيدة عنّا.

قفزت سعديّة من فراشها وسألت بصوت عالٍ:

هل أنت جادّ فيما تقول؟

– نعم أنا جادّ.

– من أين عرفت ذلك؟ وأين هي؟

فقال ودموعه تتساقط على وجنتيه: هي وجدّتها الحاجّة خديجة في بيروت، مع المحامي حنّا اندراوس وزوجته الدكتورة جورجيت…وقصّ عليها ما سمعه فايز من راديو هيئة الإذاعة البريطانيّة بصوت الدكتورة جورجيت.

ذهلت سعديّة صمتت قليلا وسألت باكية: وعمّي أبو عبّاس هل هو معهم.

– عمّك -الله يرحمه- قتل في حيفا.

– الله يرحمه…ويا حسرتي عليك يا أميرة…كيف ستعيشين كالأيتام ووالداك على قيد الحياة.

عبّاس مواسيا ومتصنّعا الصّبر: لن تعيش أميرة يتيمة فحنّا وجورجيت سيعوّضانها حناننا بحنانهما…فهم صديقان وفيّان…وستبقى معهما إلى أن نتدبّر أمرنا ونحضرها.

لم يمرّ ذلك الليل بهدوء…فسميح بقي يتقلّب في فراشه…يستذكر من رحلوا من أهله…ويستذكر بيتهم وأرضهم في بيت دجن…ويفكّر بمستقبل لا تبدو ملامحه…وبزواج لم يخطر له على بال…وفايز أقضّ مضجعه ما طرحته عليه زوجته بالزّواج من صبحة…وسعديّة أنهكها البكاء على ابنتها أميرة…وعبّاس يفكّر بحياة التّرف التي عاشها في بيت دجن ويافا، وضاعت بين ليلة وضحاها…والحاجّة زكيّة وابنتها عائشة لم تناما هما أيضا لانشغالهما بأمر آخر…فالحاجّة زكيّة أمضت ليلها تدعو الله بالسّلامة والتوفيق لفايز، ورأت فيه ابنها منصور الذي قتل ظلما…وتمنّت أن يكون سميح الفالح ابنها البديل وزوجا صالحا لابنتها عائشة…في حين كانت تغمر الفرحة عائشة…بأن خلّصها الله من جور ابن عمّها محمود خلف الفالح…وبعث الله لها سميح شتيوي ليكون زوجها.

عند صلاة الفجر قفز سميح من فراشه ليذهب مع فايز باحثا عن عمل…وعبّاس ارتدى بنطالا وقميصا نظيفين وخرج في طريقه إلى مدرسة دار الأيتام ليعمل فيها مدرّسا.

وصل فايز وسميح مخازن وكالة غوث اللاجئين في الشّيخ جرّاح قبل السّادسة صباحا…انتظرا عند الباب، فالحارس لم يسمح لهما بالدّخول، والموظّفون لم يصل أحد منهم بعد…وعندما وصل المدير أشار لهما الحارس إليه فاقترب منه فايز…طرح عليه تحيّة الصّباح وقال له:

نحن من تكلّم معك عنّا الشّيخ ياسين.

فقال المدير: الشّيخ ياسين تكلّم معي عن واحد اسمه فايز…فمن منكم فايز؟

فايز: أنا…التفت إلى سميح وقال له:

الرّزق على الله.

فقال المدير: ما دام هو الآخر من طرف الشّيخ ياسين فليدخل.

اصطحبهما إلى مكتبه ليأخذ تفاصيلهما…لم يكن معهما ما يثبت شخصيّتهما سوى ورقة التّسجيل في المخيم…التفت إلى سميح وسأله:

كيف ستستطيع الوصول إلى هنا ما دمت تسكن في مخيم الأمعري؟

– أنا أسكن في حارة الشّرف في القدس القديمة.

– ما يهمنّي هو الالتزام بالعمل والحضور في الوقت المحدّد دون تأخير.

– توكّل على الله.

في مدرسة  دار الأيتام الاسلامية لم يسعد المدير بمقابلة عبّاس…فعندما قال عبّاس بأنّه حاصل على شهادة المترك…امتعض المدير؛ لأن المدير نفسه لم يكمل الصّف الأوّل الثانويّ -السّابع- لكنّه مع ذلك سأله:

في أيّ سنة تخرّجت.

– عام 1945.

– هل مارست التدريس من قبل؟

– لا.

– لماذا؟

– كانت لنا أعمالنا الحرّة التي تغنينا عن العمل الوظيفيّ.

– هل تستطيع تعليم الّلغة العربيّة للصّفين الخامس والسّادس؟

– أعتقد ذلك.

– أتمنّى لك التّوفيق…وعليك أن تعلم أن لا مزاح في التّعليم…فهؤلاء الأطفال أمانة في أعناقنا.

– أسأل الله التّوفيق.

– انقل برنامجك من غرفة نائب المدير ودعه يريك الصّفوف التي ستعلّمها.

– بارك الله بك…وشكرا لك.

سعديّة وفاطمة زوجة فايز وصبحة اصطحبن عائشة حمدان الفالح منذ السّاعة الثّامنة صباحا؛ ليشترين لها كسوة بناء على تعليمات عبّاس وفايز…في حين رفضت الحاجّة زكيّة الخروج معهنّ …اشترين لها خمسة أذرع من قماش “الحَبَرِ الأسود”، كما اشترين مثله للحاجّة زكية، ولصبحة التي قبلت تحت اصرار سعديّة وفاطمة زوجة فايز، وبعد أن  وصف لهنّ بائع القماش بيت خيّاطة في سوق الحصر القريب…ثمّ ذهبن إلى سوق العطّارين المجاور…اشترين قماشا ناعما ليفصّلنه ملابس داخلية لصاحبات الثّياب الجديدة، واشترين منديلا أبيض اللون لكل واحدة منهن…وصلن الخيّاطة وطلبن منها أن تنجز خياطة الأثواب الثّلاثة قبل العصر، خصوصا وأنّها لا تحتاج إلى تطريز…فقط خِياطة على الماكينة، فوعدت الخيّاطة بذلك مستعينة ببناتها بعد أن وعدتها سعدية بثلاثة قروش زيادة…أخذت قياس عائشة وصبحة…وقالت عائشة بأنّ مقاسها ومقاس والدتها واحد…عدن إلى الحوش مسرعات…طلبن من عائشة حمدان الفالح أن تذهب لتستحمّ وتجهّز نفسها للزّفاف…وجلسن في الصّيوان…فالتفتت فاطمة زوجة فايز إلى صبحة وقالت لها:

يعلم الله يا أختي صبحة كم أنت وأطفالك عزيزون على قلوبنا…وزوجك الشّهيد – رحمه الله – كان مثل أخينا…ووفاء له في ترابه وحبّا لك ولأطفالك فإننا نطلب يدك زوجة لفايز…كي نبقى أسرة واحدة…ارتجفت صبحة من هول المفاجأة وارتخى جسمها على الكرسيّ…فبادرتها سعديّة سائلة:

ما هو ردّك يا صبحة؟ وفايز رجل شهم كما تعرفينه…وفاطمة امرأة عاقلة، وستكونان كما الأختين لا ضرّتين…وها هي تطلب يدك لزوجها بنفسها، وربّنا حلّل تعدّد الزّوجات…وقد سمعت ما قاله الشيخ ياسين يوم أمس في خطبة الجمعة.

صبحة كما المصدومة: لكنّكما فاجأتماني بهذا الطّلب الّذي لم يكن في الحسبان.

فاطمة ضاحكة: لكنّها مفاجأة سارّة…اذهبي الآن واستحمّي وجهّزي نفسك للزّفاف هذه الليلة…وهنا سمعن صوت الحاجّة زكيّة على سطح الحوش تُرَوِّدُ:

يا مهاجرين الوطن انا بالوطن خلّيت** يا دمع الحزينة ع الخدود هلّيت

وانت يا حبيبي لو سابع سما وعلّيت*** لازم ترجع لارض الوطن

يا قاطعه شرقا علامك تبكين*** على هجر الوطن والحباب تبكين

لك يا بنيّه لا بدّ الدّهر ما يلين*** وترجع بيت دجن لاهلها واصحابها

صعدت إليها سعديّة وفاطمة  ووجدتاها تنظر غربا وتبكي، فقالتا  لها:

وحدّي الله يا حاجّة زكيّة اليوم فرح بنتك…فلا تنكّدي على البنت…هيّا بنا لنجهّز العرايس.

الحاجة زكيّة: وهل هناك عرايس غير ابنتي عائشة؟

سعديّة: نعم صبحة سنزفّها أيضا لفايز.

الحاجة زكيّة: وهل جننتم. أين سيذهب أطفالها؟

فاطمة: أطفالها في عيوننا وهم كأبنائنا.

نزلن إلى الصّيوان…طلبن منها أن تجهّز العروسين…استأذنتاها للذّهاب إلى سوق الّلحامين لشراء خاروف كامل وليمة للعرس.

عاد فايز وسميح في الثّالثة عصرا…مرّا بسوق الباشورة…اشتريا لفايز قميصين وبنطالين من سوق البالة وحذاء…وعادا إلى الحوش…طلب فايز من سميح أن يستحمّ وأن يغيّر ملابسه المتّسخة…وانتظره في الصّالون ليأخذ دوره هو الآخر…فاطمة وسعديّة تعدّان الطّعام…والحاجّة زكيّة تمشط شعور العروسين، وتضع الكحل في عيونهما، وإذا بالشّيخ ياسين يحضر بصحبة عبّاس…بارك الزّواج وعقد قران سميح على عائشة حمدان الفالح بعد أن ارتضى أن يكون وليّ أمرها،  ووليّ أمر صبحة في عقد قران فايز عليها…وقال بأنّه سيدفع رسوم المحكمة الشّرعية من جيبه اكراما للعرسان…انطلقت زغرودتان واحدة من فاطمة زوجة فايز، والثّانية من الحاجّة زكيّة والدة عائشة الفالح…واستأذنهم الشّيخ بالانصراف، إلا أنّهم أصرّوا عليه بمشاركتهم وليمة الزّفاف.

أمّ محمّد زوجة فايز احتضنت أطفال صبحة في شقّتها…وأخذت تقصّ عليهم وعلى أطفالها حكايات جميلة عن الزّواج الذي يبني بيتا سعيدا…وقالت لهم وهي تقدّم لهم طبقا من الحلقوم:

الآن أصبح فايز أباكم جميعكم، وأصبح لكم أمّين…أنا وصبحة، وهذه ميزة لكم عن بقيّة الأطفال، وإذا ما غابت إحدانا فإنّ الثّانية سترعاكم… فالتفتت إليها بثينة بنت سعيد البكر وسألت:

لكن متى سيعود أبي؟

–         يا حبيبتي أبوك سعيد رحل إلى جنّات الخلود…وسنلتقيه في الجنّة.

–         ولكنّني أريده الآن.

–         يا حبيبتي أبوك حيّ يرزق في مكان آخر، وذكراه لن تغيب عنكم ولا عنّا، وقد أنعم الله عليك بأب جديد هو فايز وأمّ جديدة هي أنا، وأصبح لكم بيتان، ألا تقبليننا؟

سكتت الطفلة بعد أن أشغلتها فاطمة بحكاية “جبينة”.

عندما أغلق فايز باب الشّقّة عليه وعلى صبحة تمدّد في غرفة الصّالون… بينما كانت صبحة تجلس على حافة سرير النّوم بملابسها، كلّ منهما يستذكر سعيدا ويبكيه بصمت، فهما في موقف لم يخطر لهما على بال من قبل…تساءلت مع نفسها إن كانت خانت عهدها مع سعيد…لكنّها ترحمّت عليه واقتنعت أن من حقها الزّواج بعد وفاته، وهذه مصلحة شخصيّة لها ولأطفالها…وكذلك فايز فقد اقتنع بأنّه ليس من حقّه أن يحرّم على نفسه ما حلّله الله له ولغيره…بل إن زواجه هذا شهامة ومروءة، فهو يستر أرملة صديق شهيد ويرعى أطفاله…وأبدى اعجابه بحنكة وحكمة وتضحية زوجته الأولى فاطمة…وهذا بفضل خطبة الشّيخ ياسين…بقي كلّ منهما يتقلّب مكانه…ولم يجرؤ أيّ منهما على الاقتراب من الآخر.

بعد منتصف الليل بقليل قامت صبحة…مشت على رؤوس أصابع قدميها…نظرت فايز من جانب الباب المطلّ على الصّالون…رأته ممدّدا على كنبة وثانيا يده اليمنى على عينيه…اقتربت منه ظنّا منها أنّه نائم، فرفع يده عن عينيه عندما أحسّ بها…ابتسم لها…جلست بجانبه وسألته:

ما رأيك أن أذهب إلى فاطمة وأحضر الأطفال؟

ردّ عليها ناعسا: الأطفال شبعوا نوما الآن…لا داعي لازعاجهم.

مدّت يدها تتحسّس جبينه وسألته: هل أنت مريض؟

–         لا لست مريضا.

–         إذا قم إلى السّرير كي تنام…وأمسكت يده تساعده على النّهوض…قام معها…تمدّد على السّرير بملابسه.

جلست على حافّة السّرير بجانبه بعد أن أطفأت النّور بناء على طلبه وسألته:

هل أنت نادم على الزّواج منّي يا فايز؟

–         ولماذا أندم؟

–         إذن هل تكرهني؟

–         وحّدي الله يا امرأة….قالها لها وهو يمدّ يده ليثنيها بجانبه…قبّلها وغابا تحت الغطاء…تصوّرته سعيدا…بينما هو يتخيّل سعيدا يطلّ عليه من سقف الغرفة.

سعديّة لم تفوّت الفرصة…كحّلت عينيها…تعطّرت…ارتدت قميص نومها الشّفاف…أنامت طفلها…أرخت شعرها على كتفيها…تركت خصلتين منه تتدليان على صدرها…أعدّت فنجاني قهوة لها ولعبّاس…جلست قريبة منه…رفعت رجلها فوق الكنبة…ظهر ساقها لامعا كأيقونة فضيّة…ابتسمت لعبّاس وسألته:

كيف رأيت زواج فايز وسميح؟

–         زفاف مبارك إن شاء الله.

–         هل تذكر زفافنا؟ عندما ركبنا الحنتور وزفّنا أهل البلدة جميعهم؟ كان حديث البلدة والمناطق المجاورة لأكثر من سنة…لم ينقطع النّاس عن حديث الاعجاب به إلا بعد أن رأوا احتفالاتنا بمولد الأميرة.

–         نعم أذكره…وكيف أنساه؟

–         حسب رأيك هل فايز بحاجة إلى زوجتين؟

–         للضّرورة أحكام.

–         ألا تنوي الزّواج من أخرى مثل فايز؟

–         ماذا يدور في رأسك يا امرأة؟

–         أنا محتارة من هجرك لي منذ خرجنا من بيت دجن! هل أغضبتك في شيء دون أن أدري؟ فإن لم أعد مثار اهتمامك، فتزوج من أخرى.

–         لا بديل لك يا سعديّة…لكن منذ خروجنا من بيت دجن لم يعد لي رغبة بالنّساء…لا أنت ولا غيرك، بل لم يعد للحياة طعم.

–         كلّنا مصدومون من بعدنا عن ديارنا يا عبّاس…و”الموت مع الجماعة فرج” وما أصابنا أصاب مئات الآلاف من شعبنا. وإذا لم تعد لك رغبة بالنّساء فلماذا تهجر فراشنا وتنام وحدك؟ فهل هانت عليك العشرة؟

صمت ولم يجد جوابا…اقتربت منه…لوت يدها اليمنى على رقبته تلعق رحيق شفتيه بشفتيها، وتداعب شعر صدره بيسراها…ثنت ساقها اليسرى على ساقه…قادته إلى السّرير…خلعت ملابسه…وغابا في بحر الغرام. وبعدها قالت له ضاحكة:

هذه الّليلة شبيهة بليلة دخلتنا لكنّنا تبادلنا الأدوار!

في السّادسة صباحا كان فايز ينتظر “سميح” في الصّيوان، حضّرت فاطمة زوجة فايز لهما القهوة…قدّمتها لفايز وهي تقول باسمة:

مبارك عرسك يا أبا محمّد.

التفت إليها ولم يتكلّم…وعندما حضر سميح كانت الحاجّة زكيّة تتبعه بالقهوة، فقالت لها أمّ محمّد:

سبقناك باعداد القهوة يا أمّ منصور.

أمّ منصور: والله أنتم سبّاقون لعمل الخير دائما…الله لا يحرمنا منكم.

احتسوا القهوة…خرج سميح وفايز إلى العمل…كانت في انتظارهما سيّارات شحن لتحميلها طحينا لتوزيعه في المخيّمات…معهم ستّة عمال آخرون…مرّ بهما أبو نزار الموظّف المسؤول، طرح عليهم تحيّة الصّباح وقال لهما مازحا:

أراكما تأتون مبكّرين…ألا تنامون؟

فايز: إذا أردت الحقيقة فنحن لم ننم هذه الليلة؟

–         لماذا؟

فايز: نحن عريسان…الليلة الماضية دخلتنا.

–         ماذا تقول؟

–         لقد سمعتَ ما قلتُ.

أبو نزار: تعال معي إلى المكتب يا فايز.

في المكتب طلب أبو نزار قهوة له ولفايز…وأرسل مع المراسل فنجانا لسميح، وقال لفايز: لقد أخبرني الشّيخ ياسين عنك الكثير…وأنا أقدّر لك مروءتك وتضحياتك، ولا نملك شيئا نقدّمه لك…لكن أنت منذ الآن مسؤول على الحمّالين…وزّعهم على العمل…وسيكون لك مكتب بجانب مكتبي مع راتب شهريّ…أمّا الآن فأنت وصاحبك سميح في اجازة مدفوعة الأجر لمدة اسبوع…اذهبا واقضيا اجازتكما مع عروسيكما كما تشاءان.

شكره فايز وقال: شكرا لك يا أبا نزار وللشّيخ ياسين.

عندما وصلا الحوش كان عبّاس يهمّ بالخروج إلى عمله…ولمّا رآهما سأل:

ماذا جرى معكما؟ هل طردتم من العمل على وجه العروسين؟

ردّ عليه فايز: وجها العروسين علينا بشائر خير وبركة.

جلسا في الصّيوان بصحبة النّساء…كنّ قلقات من سبب عودتهما، ولمّا شرح لهنّ فايز ما حصل معهما انفرجت أساريرهنّ؛ فحمدت أمّ منصور الله، ودعت الله أن يحفظهما ويحفظ الشّيخ ياسين، والتفتت إلى فايز وقالت له:

اسمع يا ابني…والله إنّك تستحق كلّ خير…فالله سبحانه وتعإلى يعلم كلّ صغيرة وكبيرة، ولولا كَرَمُ أخلاقك لضعنا وضاع غيرنا…ومن كان الله معه فلا خوف عليه.

سميح يوجّه حديثه لأمّ منصور ويقول: أبو محمّد لم يقل لكنّ كلّ ما حصل معنا اليوم.

فقاطعت حديثه أمّ محمّد زوجة فايز وسألت ملهوفة: وماذا حصل أيضا؟

سميح: هوّني عليك…ما حصل خير …لقد تمّ تعيين فايز مراقبا على الحمّالين براتب شهريّ…أي أنّه لن يعمل حمّالا بعد اليوم.

أمّ منصور: والله إنّه يستحقّ كلّ خير.

أمّ محمّد ضاحكة: هذا فضل من الله كي يستطيع القيام بواجبات زوجتين، وهذا رزق جديد من أجل أطفال سعيد -الله يرحمه-.

15

سمعوا طرقا على باب الحوش الرّئيس، قفز سميح ليرى من الطّارق، وإذا شرطيّان يدخلان، طرحا السّلام…النّساء أخلين المكان…فقال شرطيّ:

نحن مكلّفان بتبليغكم الحضور إلى حارس أملاك الغائبين…وأريد تسجيل تفاصيل من يسكنون هذا الحوش!

فايز: من هو حارس أملاك الغائبين هذا؟ وأيّ غائبين تقصد؟

الشّرطيّ: يا أخي ما نحن سوى ناقلي رسالة، وحارس أملاك الغائبين مكتبه موجود في بناية المتصرّف في واد الجوز. فما هي أسماؤكم؟

فايز مندهشا: هذا الحوش ملك للأوقاف الاسلاميّة، وهي موجودة وغير غائبة.

الشّرطيّ: بامكانك أن تقول ما تشاء في مكتب حارس أملاك الغائبين.

فايز: نحن هنا ثلاث أسر…ومعنا أطفال شهيد وامرأة أرملة…سجّل عندك:  فايز محمود الطّري، عبّاس طاهر المحمود وسميح محمد شتيوي…هل تريد اسم الأرملة وأسماء أطفال الشّهيد؟

الشرطيّ يعبئ نماذج طلبات حضور باسم كلّ واحد منهم ويقول:

لا داعي لتسجيل أسماء الأرملة وأطفال الشّهيد.

سلّمهم طلبات الحضور ليوم بعد غد…وانصرف الشّرطيّان بعد أن أخذا توقيع فايز وسميح بأنّهما استلما التباليغ.

خرجت النّساء إلى الصّيوان بعد انصراف الشرطيّين، وكنّ يستمعن للحديث…الحاجّة زكيّة تضرب كفّا على كفّ وتقول:

“أجت الحزينة تفرح ما لقت لها مطرح” هل سيطردوننا من هنا أيضا؟

فايز: وحّدي الله يا أمّ منصور…لن نخرج من هنا إلا لبيت دجن أو على جثاميننا.

أمّ محمّد: كفانا الله الشّرّ…إن شاء الله ستحلّ الأمور بهدوء.

سميح: لقد مضى على تشريدنا عامان…ولم تحلّ مشكلتنا…وأينما ذهبنا فنحن ملاحقون.

فايز: هوّن عليك…المشكلة بسيطة وحلّها بسيط…وأضاف: هيّا بنا يا سميح إلى المسجد الأقصى لنصلّي الظهر ونبحث عن حلّ.

سعديّة: خذوا عبّاس معكم.

أمّ منصور: مع السّلامة…في كلّ خطوة سلامة يا ربّ.

في الأقصى وجدا الشّيخ ياسين يجلس مع بهجت أبو غربيّة وأبو طارق العيساوي والشيخ عبد الفتاح المزرعاوي الذي يقول للآخرين:

لقد أهلكتنا الهزيمة…لم أعد قادرا على العيش في هذه البلاد…سأهاجر إلى البرازيل.

الشّيخ ياسين: اتّق الله يا رجل…فلديك زوجتان وأطفال، وعندك أرض بامكانك أن تفلحها وتعتاش من خيراتها، ووضعك أفضل من وضع المنكوبين الذين خسروا كلّ شيء.

الشّيخ عبد الفتّاح: لم أعد أطيق الأوضاع…فهزيمتنا أصبحت هزائم…والمحل أهلكنا…حتى الأمطار لم تنزل منذ عامين…ولولا التّمور العراقية لمتنا جوعا.

أبو طارق: ما بعد الضّيق إلّا الفرج ولا داعي لكلّ هذا القلق…والتفت إلى فايز سائلا:

ما هي أخباركم يا أبا محمّد؟

فايز مهموما: أوضاعنا كلمّا انفرجت قليلا من جانب…ضاقت من جانب آخر…فنحن نسكن في حوش للأوقاف الاسلاميّة  في حارة الشّرف، كان يسكنه يهود وهربوا في الحرب غربا…واليوم جاءنا تبليغ ممّا يسمّى حارس أملاك الغائبين…ويبدو أنّهم يريدون طردنا من الحوش.

الشّيخ ياسين: متى ستذهبون لمقابلة حارس أملاك الغائبين.

فايز: بعد غد إن بقينا أحياء.

الشّيخ ياسين: الأعمار بيد الله يا أخي…لا تقلق…غدا تعالوا إلى دائرة الأوقاف عند المجلس الاسلامي الأعلى، وإن شاء الله سنساعدكم في عمل عقد ايجار للعقار بمبلغ رمزيّ…وبعد غد تذهبون ومعكم العقد لحارس أملاك الغائبين.

فقال أبو طارق وأبو سامي: في الثّامنة صباح غدا سنكون وإيّاكم في دائرة الأوقاف.

انفرجت أسارير فايز وسميح…شكروا الجميع وقاموا للصّلاة بعد سماع الأذان.

صحيح أنّ للقدس جاذبيّتها وقدسيّتها، لكن لا مكان يغني ساكني الحوش في حارة الشّرف عن بيت دجن…فسعديّة عندما تتذكّر القصر الذي تزوّجت وأنجبت طفليها فيه، تثور أعصابها…وتحلّق روحها فوق المكان…نسيم عبير البيّارة يجدّد الحياة فيها…يبعث الدفء في جسدها…يقودها الحنين الجارف إلى التّقوقع على نفسها…وكأنّ كابوسا يخنقها…تكتم مشاعرها خوفا على زوجها عبّاس الذي ولد وعاش في ذلك القصر…تأخذها الذّاكرة إلى الطّيور التي كانت تعشّش في جنبات القصر، وفي الأقنان التي على زواياه…ذكر الحمام كان يرقص لزوجته على رجل واحدة…يميل إلى الجهة الأخرى…يحوم حول أنثاه…تبدو الأنثى سعيدة وذكرها يغازلها…جمال الطّبيعة ووفرة الغذاء تزيد شبق الطّيور…تجثو أنثى الطّير على بطنها لذكرها…يعلوها الذّكر مادّا رأسه إلى رأسها…يهمس في أذنها قصيدة الحياة…تثني رأسها إلى الخلف…يقترب منقارهما من بعضهما البعض…يطبعان قبلة متواصلة.

بحر يافا يغسل قدمي المدينة…يتسلّل الموج إلى شاطئها…يداعبها ويعود إلى الخلف في لعبة لا تنتهي…من يراقب بحر يافا…يرى أنّ مياهه تجذب الزائرين وهي تتكسّر على طرف المدينة…حضور حفلة غنائية لمحمّد عبد الوهّاب وأمّ كلثوم في سينما الحمراء في يافا…أنزل دموع سعديّة عندما تذكّرته…وعشاء السّمك البحريّ الطّازج في مطعم على شاطئ يافا ذكّرها بأنّها لم تذق طعم السّمك منذ غادرت بيت دجن…هي أمور تحتفظ بها لنفسها…لا تتحدّث بها مع الأخرين؛ كي لا تفتح مواجعهم.

أمّ منصور تنزل إلى الصّيوان باكية…تنادي بأعلى صوتها:

يا سعديّة…يا أمّ محمد …يا صبحة…يا عائشة… خرجن اليها مسرعات…صوتها ضيّع على سعديّة أحلام يقظتها….هيّا يا بنات إليّ.

نزلن اليها…وقلن بصوت واحد: خير يا أمّ منصور، ما بك؟

–         هل تعلمن أنّ كلّ ليلة أقضيها خارج بيت دجن تنقص من عمري الكثير…ما الذي لنا في القدس؟ المسجد الأقصى نستطيع الوصول إليه للصّلاة فيه متى نريد ذلك…وهذا البيت ليس لنا…بيتنا في بيت دجن.

قاطعتها أمّ محمّد وقالت: لم نخرج من بيت دجن بخاطرنا…وسنعود إليها إن شاء الله…وعلينا أن ننأقلم مع هذا الواقع حتى يفرجها ربنا.

التفتت أمّ منصور إلى ابنتها عائشة وقالت لها:

اسمعي يا بنيتي…هذا مفتاح بيتنا في بيت دجن معلق في رقبتي…وأمانة في رقبتك لا تفرطّي به بعدي….وإياك من التّفريط بالأرض يا ابنتي…فأنت وأبناء منصور ورثتها بعد أن قتل الخائنون شقيقك…وقتل الأعداء شقيقتك وأرملة منصور…والله راس فجل من أرضنا في بيت دجن أفضل من خضار وفواكه القدس والتمور العراقيّة كلّها…ونسيم بحر يافا يحيي الأموات…ونحن مخنوقون في هذا الحوش…ومع ذلك يأتي من يلاحقنا به.

صبحة: أطال الله عمرك يا أمّ منصور وحتما ستعودين إلى بيتك وأرضك في بيت دجن، ولا داعي لكلّ هذا الحزن.

دموع سعديّة تنزل بصمت…فقد تأكّد لها أنّها لا تنفرد بمشاعرها…ويبدو أنّ أمّ منصور لم تعد تحتمل ما تخبّئه في صدرها، فانفجرت تبوح بما هو في دواخلها.

دخل فايز وعبّاس وسميح والشّيخ عبد الفتاح المزرعاوي إلى مكتب حارس أملاك الغائبين بعد أن فردوا أمامه طلبات الاستدعاء…نظر الطلبات…سحب ملفّا من رفّ خلفه…قلّب صفحاته…أشعل سيجارة…أتاه المراسل بفنجان قهوة…التفت إليهم وسأل:

هل تعلمون لماذا أنتم هنا؟

فايز: أنت من استدعيتنا وجئنا لنعرف السّبب.

–         أين تسكنون؟

فايز: وما شأنك بمكان سكننا؟

–         أجب على السّؤال أوّلا.

عبّاس: في حارة الشّرف، في القدس القديمة.

–         هل البيت ملك لكم؟

فايز: البيت تحت تصرّفنا.

–         ومن وضعه تحت تصرّفكم؟

فايز: مالك العقار.

–         لكنّ مالك العقار غير موجود.

فايز: بل هو موجود…من قال لك أنه غير موجود؟

–         مسجّل عندي أنّه غير موجود.

فايز يلتفت بثقة إلى زملائه ويطلب منهم عقود الايجار…يضعها مرتّبة فوق عقده ويقدّمها اليه.

ينظر حارس أملاك الغائبين إلى عقود الايجار…يتفحّصها…ويسأل:

وكيف تؤجّركم الأوقاف عقارا مؤجّرا؟

عبّاس: أليسوا أحرارا بالتّصرّف بعقاراتهم؟

–         هناك قوانين تحمي المستأجر، ومستأجرو العقار محميّون حسب القانون؛ فهم يستأجرونه منذ أكثر من أربعين عاما…منذ العهد العثمانيّ.

فايز: ولكنّهم تركوه ورحلوا منه.

–         رحلوا قبل عامين بسبب الحرب.

عبّاس: ونحن رحلنا من قصور وبيارات ومصانع بسبب الحرب أيضا…وربّما من رحلوا من حارة الشّرف الآن يسكنون قصورنا.

–         على كلّ لا أستطيع عمل شيء معكم…فمستنداتكم صحيحة وقانونيّة.

الشّيخ عبد الفتاح: وهل هناك في الطّرف الآخر حارس لأملاك الغائبين مثلك؟

–         لا شأن لنا بغيرنا.

فايز: هل تريد منّا شيئا آخر؟

–         لا…رافقتكم السّلامة.

خرجوا من عنده…شكروا الشّيخ عبد الفتاح ودعوه ليكون ضيفهم…شكرهم وقال بأنّه مدعوّ في بيت أبي طارق العيساويّ وسيبيت عنده…

فسأله فايز: ما هي أوضاع أبي طارق الآن؟ وماذا يعمل؟

الشّيخ عبد الفتّاح: أبو طارق أوضاعه جيّدة…وهو موظف في البنك العربيّ.

انتبه فايز عندما سمع اسم البنك العربيّ فسأل الشّيخ عبد الفتّاح:

أيمكنني مقابلته بمعيّتك؟

–         طبعا فالرّجل مضياف.

عبّاس: أين يسكن؟

فايز: الرّجل من العيسوية وقد كان من قادة الثّورة.

عبّاس: أين تقع العيسوية؟

فايز: إلى الشّرق من أسوار القدس…لكنّني لم أدخلها من قبل.

ابتسم الشّيخ عبد الفتّاح وقال: إن كنتم تبغون زيارة الرّجل، فستذهبان بصحبتي، إن لم يكن عندكم مانع.

فايز: صحبتك تشرّفنا…هيّا بنا؟

–         أنا مشغول الآن…وبعد صلاة العصر سنلتقي عند باب العامود.

فايز: إن شاء الله.

16

ضاقت الدّنيا على اتساعها في وجه الحاجّة خديجة- أمّ عبّاس- فمنذ خروجها من البلاد وهي تهذي بالحاج طاهر، ابنها عبّاس، بناتها نبيهة، زهرة، زينب وردة وأحفادها خصوصا”محمّد عيسى” بن عبّاس…تنوح على أبي عبّاس الذي تركته خلفها على مدخل ميناء حيفا مخضّبا بدمائه…تبكي بيت دجن ويافا بكاء امرأة ثاكل…وتبكي عبّاس وابنه وتتمنّى أن يكونا على قيد الحياة…بل تتمنّى أن تسمع خبرا عنهما…يحاول حنّا وجورجيت أن يكبتا حزنهما، وأن يخفّفا عنها…لكنّهما لم ينجحا في ذلك…أميرة تلعب مع إميل بن حنا وجورجيت…لا تدري ما يدور حولها…بكاء جدّتها يعذّب براءتها…تمسح دموع جدّتها بيديها الصّغيرتين…تنام في حضنها…تستحمّ بدموعها…والجدّة لم ترحم نفسها ولم ترحم حفيدتها…الأمور ليست بيدها؛ فهي غير قادرة على استيعاب ما جرى…عندما بنت لهما وكالة الغوث خشّبيات من الزّينكو…لطمت على وجهها وهي تقول: من بعد حياة القصور أصبحنا بين صفائح الزّينكو التي لم نكن نرتضيها حظائر لخيولنا وأغنامنا…تمسك بجورجيت وتسألها:

متى سنعود إلى ديارنا؟

جورجيت لا تملك جوابا إلا البكاء هي الأخرى…حنّا وجورجيت يبحثان عن عمل دون جدوى…فلبنان لا يسمح بعمل الفلسطينيّين…حنّا يدخل مكاتب المحامين في بيروت باحثا عن عمل…المحامي محمّد علي يتعاطف مع حنّا ومع مأساة الفلسطينيين المنكوبين. حنّا يقبل اقتراحا منه، وهو أن يدرس ملفّات القضايا التي يستلمها المحامي محمّد علي ويكتب رأيه فيها، والنّقاط التي يجب التّركيز عليها كي يكسب القضيّة، وسيدفع له مقابل ذلك شرط أن يبقى ذلك سرّا بينهما؛ كي لا يلحق ضرر بهما…فكلاهما مخالف للقانون…ارتضى حنّا اندراوس ذلك؛ لأنه لا خيار آخر أمامه.

أمّ عبّاس واصلت نواحها عامين إلى أن ذابت كما الشمعة المشتعلة…خارت قواها…ارتفعت حرارة جسمها…حملها حنّا وجورجيت إلى الطّبيب…ماتت بين يديه…بكاها حنّا وجورجيت كأنّها أمّهما…طلب حنّا من صديقه المحامي محمّد علي المساعدة في دفنها في مقبرة اسلاميّة بعد الصّلاة عليها حسب الشّريعة الاسلاميّة…وضع حنّا شاهدا على قبرها منقوش عليه اسمها الحاجّة خديجة أرملة المرحوم الحاج طاهر المحمود من بيت دجن قضاء يافا…15-4-1950.

أمّ منصور، سعديّة، أمّ محمد، صبحة وفاطمة زوجة سميح يستمعن لراديو بيروت…فيروز تغني ” أجراس العودة ”  تنتهي الأغنيّة ويبدأ برنامج “سلّم لي عليهم” يصغين للرّسائل الصّوتيّة…وإذا صوت “أنا الدّكتورة جورجيت أندراوس، في مخيم شاتيلا قرب بيروت، أبعث بسلامي لأمّي واخوتي وأخواتي في واد النّسناس في حيفا، طمئنونا عنكم…أين أنتم الآن؟ أنا وزوجي حنّا واطفالنا بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدتكم واللقاء بكم، كما أبعث بسلامنا إلى الصّديق عبّاس طاهر المحمود وزوجته سعديّة من بيت دجن قضاء يافا…طمئنونا عنكم، الحاجّة خديجة – الله يرحمها- ماتت ودفنّاها…أميرة تعيش معنا مثل أبنائنا، وهي بخير والحمد لله وسنسجّلها في المدرسة بداية العام الدّراسي القادم، وهي معي الآن استمعوا إليها…سقطت سعديّة من على الكرسيّ وهي تسمع صوتا طفوليّا متقطّعا: أنا أميرة عبّاس من بيت دجن…مبسوطة مع بابا حنّا وماما جورجيت وبدّي ماما سعديّة وبابا عبّاس”.

صرخت سعديّة من أعماق قلبها : يمّه يا أميرة، وسقطت مغشيّا عليها.

هجمن عليها باكيات…أمّ منصور جلست على الأرض…وضعت رأس سعديّة في حضنها…شرعت في تدليك صدرها وجبينها…أمّ محمّد أحضرت كوب ماء ورشّته على وجهها…أفاقت لاهثة تتنفّس بصعوبة…طلبت أمّ منصور من ابنتها عائشة أن تحضر كأس شاي لسعديّة…ساعدنها على الوصول إلى سريرها…جلست أمّ منصور بجانبها…وطلبت من الأخريات أن ينصرفن ليتركنها ترتاح.

أخذن ابريق الشّاي إلى الصّيوان…جلسن يتحدّثن عن الأيّام الخوالي…سمعن طرقا على باب الحوش…فتحت الباب عائشة الفالح…امرأة في الخمسينات من عمرها…طرحت السّلام…دخلت دون استئذان…صببن لها كأس شاي…فقالت أنّها تريد قهوة…قالت لها أمّ محمّد:

اشربي الشّاي وسنعدّ لك القهوة أيضا.

–         بارك الله بكنّ…واضح أنّكن بنات حلال…أنا منذ الصّباح وأنا أبحث عنكنّ…لقد رأيتكنّ في الحلم.

انطلق صوت أمّ منصور من شقّة عباس قبل أن تنهي حديثها:

مع من تتحدثن يا بنات؟ لا تدخلن غريبا إلى الحوش…فاولاد الحرام والمحتالون كثيرون هذه الأيّام.

فردّت ابنتها عائشة: هذه امرأة ضيفة يا أمّي.

انكمشت المرأة على نفسها…تظاهرت بالغضب وقالت:

الحمد لله أنّني لم أذق شايكم حتى الآن…عن اذنكنّ فقد سمعت شتيمتي بأذنيّ.

أمّ محمّد باستحياء: لا تؤاخذينا يا خالتي…حقّك علينا، هذه امرأة مسنّة، ولا تعرف ما تقول…وكما تعلمين” اولاد الحرام ما خلّوا لاولاد الحلال مطرح” ولا يمكن أن تذهبي قبل أن تشربي الشّاي والقهوة…وحتى “يكون بيننا عيش وملح”.

–         بارك الله بك…ومن أجل خاطرك سأسامح تلك العجوز.

استعادت سعديّة عافيتها وخرجت مع أمّ منصور إلى الصّيوان…كانت حزينة تمشي متثاقلة…طرحت أمّ منصور السّلام…صافحت المرأة “الضّيفة” وجلست…نظرت كلّ منهما الأخرى بريبة.

صبحة سألت المرأة: وكيف رأيتينا يا خالتي؟

–         خير إن شاء الله…لكن عندما مررت من أمام هذا الحوش ألهمني الله بأنّكنّ فيه، وقلت يجب توصيل الأمانة.

–         أمّ محمّد: أيّ أمانة؟

–         الأمانة التي رأيتها في المنام.

–         أمّ محمّد: وماذا رأيتِ؟

–         قلتن بأنّكنّ ستعملن لنا قهوة…والأمانة سأراها في فنجان القهوة.

أمّ منصور تأمر ابنتها عائشة بغلي القهوة…المرأة الضيفة تلتفت إلى سعديّة وتقول لها:

لا تحزني يا ابنتي…فما تعانين منه ستجدين له حلّا قريبا باذن الله.

سعديّة: وما أدراك أنّني حزينة، وأنّ عندي مشكلة؟

–         كلّه رأيته في المنام.

بعدما احتسين القهوة أخذت فنجان سعديّة…حركته بشكل دائريّ لتلتصق الحثالة بجوانبه…نظرت فيه وقالت: يا لطيف…وسكتت.

عائشة الفالح مرتعبة: ماذا رأيتِ؟

كانت أمّ منصور تعبة ناعسة…رأسها مائل نحو كتفها الأيسر…لا تعي ما يدور حولها. التفتت إليها المرأة وقالت:

هذه المرأة أرهقتها السنون والهموم…كان الله في عونها.

ازداد رعب عائشة الفالح فنادت بصوت مرتفع متهدّج: يمّه.

استندت أمّ منصور وسألت: ما بك يا عائشة؟

عائشةة: لا تنامي يمّه.

أمّ محمّد: ماذا رأيت في فنجان سعديّة يا امرأة؟

–         لن أقول قبل أن تبيّض كفّي.

–         وكيف تبيضّه؟

–         تضع فيه خمسة قروش.

نهضت سعديّة وذهب لاحضار مبلغ ماليّ…وفي هذه الأثناء أخذت المرأة فنجان عائشة الفالح…حرّكته بشكل دائريّ وقالت:

لا حول ولا قوّة إلا بالله.

استندت أمّ منصور وسألت: ماذا رأيت في فنجان البنت يا امرأة؟

–         أرى طفلا يراقب من بعيد…تعالي وانظريه بعينيك.

–         ماذا يعني هذا؟

–         يعني أنّها لن ترى الصّبيان بسهولة.

–         وما العمل؟

–         بيّضي كفّي وسأعطيك الحلول.

–         وكم يحتاج كفّك ليبيضّ؟

–         يحتاج دينارا.

–         هذا مبلغ كبير من أين سنأتي به؟

–         “بيت السّبع لا يخلو من العظام” وطفل تنجبه ابنتك خير من مال الدّنيا كلّها.

–         لكنّنا لا نملك دينارا.

–         هذا لا يعنيني.

–         هل تقبلين خاتمي الذهبيّ بدلا من الدّينار؟

–         لأنّك امرأة فاضلة سأقبله منك.

أخذت الخاتم وضعته في اصبعها …نظرت الفنجان مرّة أخرى وقالت:

حسبي الله ونعم الوكيل…”الله يجازي اولاد الحرام”.

أمّ منصور: ماذا رأيت يا امرأة؟

–         هناك سحر لهذه البنت المسكينة…لن تنجب ما لم يتمّ حلّه!

–         ومن التي عملت هذا السّحر؟

لا أستطيع الافصاح عن اسمها؛ فأنا لا أحبّ المشاكل بين النّاس….لكنّني سأذكر أوصافها.

–         تفضلي يا أختي.

–         امرأة لا طويلة ولا قصيرة…هادئة…قليلة الكلام…نحيفة…في وجهها شامة…تتظاهر بالهدوء…لكن” يا ما تحت السّواهي دواهي”.

التفتن إلى صبحة…فهذه أوصافها…انكمشت صبحة على نفسها…لم تستطع الدّفاع عن نفسها…قامت وعادت إلى بيتها حيث يلعب أطفالها…جلست تبكي حظّها العاثر…أمّ منصور سألت:

وهل هناك من يبطل هذا السّحر؟

–         نعم…أنا و”العياذ بالله من كلمة أنا”.

–         أمّ منصور: دخيلك يا اختي.

–         هذا يكلّف خمسة دنانير.

–         هل تقبلين هذه الاسوارة بدلا منها.

–         نعم من أجل خاطرك.

أخذت الاسوارة ووضعتها في جيبها وقالت: هذه الليلة سأعمل المندل…وأحرق البّخور…وسيأتيني الأتباع بالسّحر…وسآتيكنّ به غدا…وسنبطله أمامكن.

سعدية وأمّ محمّد وعائشة الفالح يرتجفن رعبا.

نقدتها سعديّة نصف دينار لعدم وجود خمسة قروش…وقالت:

خذي خمسة قروش وقولي لي ماذا رأيتِ في فنجاني؟

–         رأيت أمرا يؤرّقك ويقضّ مضجعك.

–         يا ساتر…ما هو؟

–         أنت امرأة طيّبة، وبنت دلال…ولا يجوز الحديث فيه أمام الآخرين.

–         سعديّة ملهوفة: هيّا بنا إلى البيت سنكون وحدنا.

جلست سعديّة في الصّالون، فقالت المرأة:

يبدو أنّك عشت في نعيم.

سعديّة: نعم…الله يرحم أيّام العزّ في بيت دجن.

نادى المؤذّن لصلاة الظّهر…فقالت المرأة:

اسمحي لي يا بنيّتي كي أتوضأ وأصلّي… وهنا دخلت أمّ محمّد…صاحت بها المرأة طالبة منها الخروج…فسألتها فاطمة:

لماذا؟

–         لا يجوز لك الاطلاع على أسرار الآخرين!

أمّ محمّد: أيّ أسرار يا امرأة؟ فنحن أسرة واحدة ولا أسرار بيننا…ولماذا تريدين الانفراد بهذه المرأة؟

فصاحت المرأة بصوت عال:

اطرديها يا سعديّة وإلّا سأخرج.

فصاحت بها فاطمة:

هيا انصرفي، لكنّك لن تخرجي من هنا قبل أن تعيدي الخاتم والاسوارة ونصف الدّينار.

المرأة: أعوذ بالله منك أيّتها الشّرّيرة.

وهنا دخل فايز وسميح…ركضا باتجاه الصّوت…سأل فايز:

لِمَ هذا الصّوت؟

شرحت له فاطمة ما جرى فقال :

خذي طفلك يا سعديّة واخرجا من هنا مع فاطمة…انتظراني في شقّتنا.

أغلق الباب خلفهما وسأل المرأة:

من أنت؟ ومن أين؟ ولماذا تحتالين على النّاس؟

–         وحّد الله يا رجل…ما شأنك بي؟ اتركني فأنا لا أريد إيذاءك.

–         من أين تعرفين الله أيّتها المحتالة؟ أخرجي ما في جيوبك وضعيه على الطّاولة وإلا…

–         هل تهدّدني…أتباعي يسمعونك…ولست مسؤولة إذا آذوك؟

–         نعم…أهدّدك وإن لم تنفّذي ما طلبته منك سنفعل بك ما يفعله الرّجال مع زوجاتهم.

–         وهل ستغتصب امرأة مثل أمّك؟

–         خسئت أن تكوني مثل أمّي – رحمها الله-.

أشار فايز إلى سميح قائلا:

عدّ إلى الثلاثة…وإن لم تخرج ما في جيوبها…اخلع ملابسها واغتصبها.

المرأة: اسمع يا هذا…إن كنتما تريدان مضاجعتي فلا بأس..سأسمح لكما بارادتي، لكن شرط أن تدفعا مقابل ذلك!

فايز: إذن أنت لست محتالة فقط بل عاهرة أيضا…لن تخرجي من هنا قبل أن تتركي الخاتم والاسوارة ونصف الدّينار…وإلّا اذهب يا سميح واحضر لي كرباج الخيل. وعندما سمعت لهجته الحازمة أخرجت الاسوارة ونصف الدّينار من جيبها، وسحبت الخاتم من اصبعها رمتها أمامه وخرجت باكية وهي تردّد:

لا بارك الله بك.

ركل مؤخّرتها بقدمه…فولّت هاربة وهي تقول:

يا ابن الزّانية…حاول الّلحاق بها ليضربها لكنّ سميح أمسك به.

صاح فايز ينادي زوجتيه وسعديّة وأمّ منصور وابنتها فاطمة…جئن اليه والأطفال يسبقونهنّ…سأل:

هل ضحكت عليكنّ عاهرة محتالة؟…لماذا سمحتنّ لها بدخول الحوش.

فقالت أمّ منصور بانكسار: هداك الله يا ابني يا فايز…هذه امرأة فاضلة…ولها أتباع…بسم الله الرّحمن الرّحيم…لماذا تصرّفت معها هكذا …فمن سيحمينا من أتباعها؟

فايز: هذه عاهرة محتالة ولا علاقة لها بالفضيلة…وإيّاكن أن تسمحن لأحد لا تعرفنه بالدّخول إلى الحوش…وأغلقن الباب الخارجي بالمزلاج دائما…وإذا ما خرجتنّ فاغلقنه بالقفل الكبير…والتفت إلى أمّ منصور ووضع خاتمها واسورتها في يدها وهو يقول: احذري هؤلاء المحتالات ولا تتورّطي معهنّ مرّة أخرى.

وأعطى سعديّة نصف الدّينار وقال لها:

حسبتك أذكى ممّا بدا منك! واحمدي ربّك أنّنا عدنا في الوقت المناسب وإلا كانت سرقت مصاغك وكلّ ثمين في بيتك.

17

في بيت أبي طارق في العيسويّة طلب عبّاس المشورة في كيفيّة حصوله على حساب والده في البنك العربيّ في يافا. فقال له أبو طارق:

احضر من المحكمة الشرعيّة حصر ارث لوالدك….تململ عبّاس وقال:

والدي قتل قبل عامين في حيفا…وأمّي توفيّت في مخيّم شاتيلا في لبنان قبل أسابيع قليلة كما علمنا من أحد الأصدقاء عبر أثير هيئة الإذاعة البريطانية، ولي أربع شقيقات لا أعلم هل هن أحياء أم أموات منذ النكبة…فكيف سأعمل حصر ارث؟

فكّر أبو طارق قليلا وقال: هذه مشكلة لا أعرف لها حلّا!

فقال فايز: اقترح أن نذهب إلى المحكمة الشرعية، وأن أشهد أنا وسميح بأنّ المرحومين طاهر المحمود وزوجته خديجة قد انتقلا إلى رحمة الله تعإلى، وأنّ ارثهما قد انحصر في ابنهما عبّاس، وأن لا وريث لهما غيره، وإذا ما تمّ اعتماد ذلك، فعبّاس رجل أمين…سيحتفظ بحقّ شقيقاته أمانة عنده، وإذا ما تبيّن أنّهن أو أبناءهن على قيد الحياة، فإنّ حقهن سيصلهنّ كاملا غير منقوص.

أبو طارق: هذه أمور لا دخل لي بها…لكنّ البنك يصرف حساب المرحوم للورثة حسب حصر الارث الصّادر عن محكمة شرعيّة.

ذهبت نساء الحوش إلى صلاة الجمعة في المسجد الأقصى بصحبة  أطفالهنّ…فللمسجد الأقصى رونق وبهاء قلّ مثيله…القداسة ترخي أذيالها على المكان…الفنّ المعماري الأصيل يشي بتاريخ مجيد…اتساع السّاحات والباحات متنفّس للنّساء والأطفال الذين أعياهم الحشر خلف الأبواب المغلقة…دخلوا المسجد العظيم من باب السّلسلة…الأطفال يتراكضون فرحين… يتهادى النّدى عن قبّتي المسجد القبليّ والصّخرة المشرّفة هاربا من أشعة الشّمس…النّساء يمشين ببطء وبدلال وكأنّهنّ يردن التهام المكان…لا يقطع تأمّلهنّ إلا صياح احداهن على أطفالها الذي يتسابقون في السّاحات، وكأنّهم يريدون الشّبع من المكان…التفتن إلى الخلف عندما سمعن صوتا نسائيا يصرخ:

يمّه يا سعديّة.

سقطت سعديّة على ركبتيها عندما سمعت الصّوت هي الأخرى وقالت ملهوفة:

يمّه يا حبيبتي.

الحاجّة زليخة تجلس مستندة على رواق المسجد على بعد أمتار من باب السّلسلة…لم تقوَ على النّهوض…عدن إليها…هجمت سعديّة عليها تحضنها…تقبّل رأسها ووجنتيها ويديها…أمسكت بكلتا يديها رأس سعديّة…ضمّته إلى صدرها…وأشبعته تقبيلا…والأخريات قبّلن يدها اليمنى وأحطن بها…كلّهنّ يبكين…طلبت أمّ محمّد من عائشة الفالح أن تلحق بالأطفال وأن تأتي بهم…قدّمت سعديّة ابنها محمّد عيسى لوالدتها وهي تقول:

هذا ابني يمّه.

احتضنته الجدّة…تقبّله وتشمّ رائحته وتبسمل وتحمدل …الولد يبكي…يهرب من جدّته إلى حضن أمّه…ينظر إلى جدّته بريبة ويسأل والدته:

من هذه يمّه.

– هذي ستّك يا حبيبي.

– شو يعني ستّي.

– هذه أمّي يا حبيبي.

الطّفل لم يعرف جدّته لأمّه فقد افترقا وعمره عام ونصف العام…الجدّة تقول لسعديّة:

أخوكِ شاكر-الله يرضى عليه- معي، تركني هنا وذهب ليتوضّأ. وتسأل:

أين أنتم يا ابنتي؟ أين تسكنون؟ وكيف هي أحوالكم؟

سعديّة: نحن نسكن قريبا من هنا…الآن سنذهب إلى البيت. وأنتم أين حلّت بكم الرّحال.

–         نحن يا ابنتي في مخيّم الوحدات جنوب عمّان.

مفاجأة غير متوقعة لشاكر…وهو يجفّف وجهه بمحرمته عندما احتضنته سعديّة تقبّله وتقول: أخي حبيبي.

ذهل الرّجل ولم يعد قادرا على الكلام.

قالت سعديّة:

بيتنا قريب من هنا…هيّا بنا إلى البيت.

بعد محاورة قصيرة حول العودة إلى البيت الآن أو بعد انتهاء صلاة الجمعة، حسمت الحاجّة زليخة الموقف وقالت:

سنعود إلى بيت سعديّة ما دام قريبا…وسنصلي فيه فالقدس جميعها مسجد.

وقالت صبحة: سنعود جميعنا…فهذه فرحة تمنيّناها كثيرا.

في الحوش لطمت الحجّة زليخة على رأسها عندما سمعت من سعديّة أنّ أميرة في بيروت، مع حنا اندراوس وزوجته، بعد وفاة جدّيها لأبيها…شرحت للنّساء مسيرة الّلجوء من بيت دجن حتى تمّ تجميعهم في مخيّم الوحدات جنوب عمّان…تحدّثت عمّن قتلوا، وعمّن ماتوا قهرا، وعمّن عانوا الجوع والعطش، وعمّن تشتّتوا وتقطّعت بهم السّبل.

عاد عبّاس وفايز وسميح بعد الصّلاة إلى الحوش…فاجأهم وجود الحاجّة زليخة وابنها شاكر…كانت مفاجأة سارّة…بعد المصافحة والبكاء قالت الحاجّة زليخة لعبّاس:

يمّة يا عبّاس شقيقتاك نبيهة وزهرة جارتانا في المخيّم، وهما وزوجاهما وأطفالهما بخير ودائمتا البكاء على فراقكم، ولا تعرفان عنكم شيئا، وقد سمعنا في الرّاديو أن شقيقتيك زينب ووردة في مخيم جباليا في قطاع غزة…طلب عبّاس من فايز أن يأتي بذبيحة من سوق اللحامين غداء للضيفين، وقال بأنّه سيسافر إلى مخيّم الوحدات لرؤية شقيقتيه…لكنّه خضع لاقتراح من الحاجةّ زليخة قالت فيه:

هوّن عليك يمّه…اليوم سنقضيه سويّا…وغدا صباحا نرسل “شاكر” ليأتي بنبهية وزهرة وزوجيهما وأطفالهما…وبعدها سنسافر سويا إلى المخيّم لتتعرّفوا على مكان اقامتنا.

فايز قلق يريد لقاء شقيقتيه والاطمئنان عليهما بالسرعة الممكنة…وسعيد بأنّه سيلقاهما…لكنّه حزين على بُعد زينب ووردة.

في البنك العربيّ في القدس القديمة وقف عبّاس ومعه شقيقتاه نبيهة وزهرة يحملون حصر ارث لوالديهما من المحكمة الشرعية، وأن لا وارث لهما غيرهم…وأنّ للذّكر مثل حظّ الأنثيين…وجدوا في حسابه في فرع البنك في يافا ستة آلاف جنيه، حولّها البنك إلى دنانير أردنيّة…فتح عبّاس حسابا له أودع فيه ثلاثة آلاف دينار هي نصيبه من الميراث، وسحبت البنتان نصيبهما وهو 1500 دينار لكلّ واحدة منهما، بعد أن خرجتا من البنك أعطت كلّ منهما 500  دينار لعبّاس حسب الاتفاق المسبق ليوصل لشقيقتيه زينب ووردة نصيبهما وهو ألف دينار لكلّ منهما.

اشترى عبّاس جبلا تزيد مساحته على المائتي دونم جنوب رام الله بمائتي دينار، اقتطع منه قطعتين لفايز ولسميح تزيد مساحة الواحدة منها على خمس دونمات…واشترى بيارة في أريحا بمئة دينار…استخرج جواز سفر أردنيّ…سافر إلى القاهرة ومن هناك إلى قطاع غزة…التقى شقيقتيه زينب ووردة…نقد كلا منهما ألف دينار نصيبهما من الميراث…التقاهما بالدّموع وودّعهما بالدّموع…وسافر إلى بيروت ليأتي بابنته أميرة بعد تنسيق شاقّ ومضن مع الصّليب الأحمر، وبعد أن أدخلها معه في جواز سفره الأردنيّ…في بيروت كان الّلقاء مع صديقيه حنا اندراوس وزوجته جورجيت حميميا…وجدهما قد اشتريا بيتا سجّلاه باسم صديق لهما لبنانيّ…وقد تبقّى من ثمن البيت مائة دينار دفعها عنهما…زار قبر والدته…قرأ على روحها الفاتحة.

في مطار بيروت…انتزع أميرة من بين يدي جورجيت…أميرة تتمسّك بجورجيت وتصرخ:

ماما…ماما…وتنادي حنّا بابا…بابا والطفل إميل يمسك بأميرة ويبكي…كلّهم يبكون وأميرة غير مقتنعة بأنّ لها والدين غير حنّا وجورجيت، ولا شقيق لها سوى إميل…أصبح عبّاس داخل  الطّائرة حاملا أميرة فيما صراخها  خلفها يملأ فضاء بيروت…………

انتهى

5-5-2014

اصدارات الكاتب جميل السلحوت

–         شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.

–         صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.

–         مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.

–         القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

–         المخاض – مجموعة قصصية للأطفال .منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين- القدس.1989.

–         حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.

–         أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.

–         معاناة الأطفال المقدسيين تحت الاحتلال مشترك مع ايمان مصاروة، منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية – القدس آب 2002.

–         عش الدبابير رواية للفتيات والفتيان ،منشورات دار الهدى – كفر قرع،تموز 2007

–         الغول –  قصة للأطفال منشورات مركز ثقافة الطفل الفلسطيني- رام الله2007.

– كلب البراري-مجموعة قصصية للاطفال، منشورات غدير -القدس في اواخر كانون اول 2009.

– ظلام النهار-رواية، دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –ايلول 2010.

– جنة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.

– هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.

– كنت هناك- من أدب الرحلات- منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية-رام الله-فلسطين-تشرين أول-اكتوبر-2012.

– برد الصيف- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع –القدس- إذار-مارس- 2013.

– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014.

أعدّ وحرّر الكتب التسجيلية لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

–         يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.

–         ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.

–         قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.

–         في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.

–     الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.

– أدب السجون.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.

–  نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-إذار-مارس-2012.

– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.

–  حارسة نارنا المقدسة-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- أيار 2012.

– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس –حزيران 2012.

– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- نيسان 2013.

– نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس – نيسان 2013.

– مدينة الوديان- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات