عذارى في وجه العاصفة-رواية

ع

منشورات مكتبة كل شيء-حيفا
2017

ملاحظة: الأسماء الواردة في هذه الرّواية خياليّة، مع أنّ أحداثها واقعيّة، وإن وجد تشابه في الأسماء على أرض الواقع فهو محض صدفة.

في يديها سلّتان مليئتان بموادّ غذائيّة تكفيهم لثلاثة أيّام على الأقلّ، على رأسها صرّة فيها ملابس قليلة، بطنها منفوخ أمامها، فهي حامل في شهرها السّادس، زوجها يسير أمامها حاملا على ظهره ما لا يقلّ عن خمسة عشر كيلوغرام طحين، وفي يده قربة ماء، يسيران وسط أناس كثيرين مذعورين وهما يتوجّهان شرقا تجاه الأراضي السّوريّة، تاركين خلفهما بيتهما في قرية حطّين قضاء طبريّا، صراخ الأطفال وعويل النّساء يعلو كلّما سمعوا أزيز الرّصاص، الذي ينطلق من الشّمال والجنوب والغرب، الرّجال يطأطئون رؤوسهم وهم يسيرون وسط الجموع، هاربين من ويلات حرب لا خيار لهم فيها، الكلّ يمنّون النّفس بأنّ الغيبة لن تطول، فما هي إلّا أيّام قليلة حتّى يعود جنون الحرب إلى هدوئه بعد دحر العدوّ، وسيعودون إلى بيوتهم وأرضهم بهدوء.
رحاب تبكي بهدوء، دموعها تنساب على وجنتيها، لا وقت لديها لمسح تلك الدّموع، بل إنّها لا تستطيع ذلك، فيداها مشغولتان بما تحملان، وجنينها يجوب بطنها بحركة غير معهودة، كأنّه يحتجّ على ما يدور حوله، تسير لاهثة من شدّة التّعب، مع ذلك فهي دائمة الالتفات إلى الخلف، وكلّما التفتت تزداد عيناها سخاء بذرف الدّموع، صاح بها زوجها:
أسرعي يا رحاب كي ننجو مع النّاجين.
تكظم غيظها وحزنها دون أن تتكلّم شيئا، تواصل سيرها المتعثّر.
صاح بها زوجها أكثر من مرّة:
أسرعي يا امرأة، لماذا أنت دائمة الالتفات إلى الخلف؟ هل أصبت بالجنون؟
لم تجبه أيضا، وواصلت المسير، تنهدّت طويلا كأنّ رئتيها تلتهمان الأكسجين، أو أنّ الأكسجين يحترق بسرعة احتراق كبدها الذي يذوب حنينا، فتريد تعويضه بطريقة لا إراديّة.
ما أن دخلوا الحدود السّوريّة على الجانب الشّرقيّ لبحيرة طبريّا، حتّى جلست على الأرض مرغمة، قدماها ما عادا قادرتين على حملها، افترشت جانب الطّريق، أخذت تمسح عرقها المتصبّب، تحسّست بطنها وكأنّها تطمئنّ على جنينها، التفت زوجها يبحث عنها، فلم يتبيّن ملامحها وسط آلاف البشر، رفعت يدها عاليا وهي تنظر إليه كي يراها، عاد إليها وقال بلهجة غاضبة:
دعينا نمشي حتى نعلو المرتفعات قبل مغيب الشّمس، فهناك أمن أكثر من هنا، سنستريح وننام ليلتنا.
عضّت على شفتها السّفلى تستجمع قواها، نهضت وهي تئنّ، وقالت:
انتظرني قليلا.
ذهبتْ إلى جدول ماء ينساب من المرتفعات السّوريّة، ويصبّ في البحيرة، غسلت يديها وقدميها، مسحت رقبتها وصدرها بالماء، انحنت تشرب الماء غبّا، رفعت رأسها جافلة من صوت زخّات رصاص سلاح أوتوماتيكيّ، ينطلق من الضّفّة الغربيّة للبحيرة، صراخ الأطفال والأمّهات يملأ المكان، انتعلت حذاءها، لحقت بزوجها فزعة، رأت كيف اختلط غبار الطّحين بعرقه المتصبّب من وجهه، فبدا وجهه مغطّى كمن يتخفّى بقناع ممزّق، كتمت ابتسامة قهر لم تجرؤ على الانطلاق من شفتيها، فقال لها:
انتظريني قليلا حتّى أغسل يديّ ووجهي، وأملأ قربة الماء من الجدول، انتبهي لأغراضنا كي لا يأخذها أحدهم.
– أسرع يا خالد فلعلعة الرّصاص تقترب منّا.
لم يلتفت إليها ولم يأخذ برأيها.
على بعد أمتار منها سمعت رجلا عجوزا ممدّدا يتّكئ على يده اليمنى، ووجهه إلى الجنوب، يقول:
– أحكموا السّيطرة على جهات ثلاث من كلّ قرية ومدينة، قتلوا أناسا في كلّ مكان؛ ليبثّوا الرّعب في قلوب الآخرين، تركوا الجهة الشّرقيّة؛ ليهرب منها النّاس؛ فهم يريدون أرضا خالية، لن يقتربوا من هذه المنطقة، هم يطلقون الرّصاص؛ كي لا يفكّر أحد بالعودة إلى بيته، ومن يعود سيقتلونه حتما.
فكّرت بما قاله العجوز، لم تستوعب منه شيئا، فوجّهت كلامها للعجوز وقالت:
– لن يصمدوا أمام الجيوش العربيّة، وسيهرب من ينجو منهم بالسّفن عبر البحر عائدا إلى بلاده التي هاجر منها.
العجوز: عن أيّ جيوش تتكلّمين يا بنيّتي؟
قبل أن تجيبه جاء زوجها، حمل الطّحين على ظهره وهو يقول لها:
– هيّا بنا يا امرأة.
حملت سلّتيها ومشت، عاد الطفل في أحشائها يتحرّك، كأنّه ينبئها بأنّه لا يزال حيّا، فرحت بحركته، حبست دموعها وهي تلتفت إلى الخلف، جرّت جسدها المتعب وسط جموع حائرة تمشي إلى المجهول، لا تعي منه سوى وعود تناقلتها الألسن عن قيادات بعيدة، مرّت بجانبها مسنّة درداء تحمل حفيدها على ظهرها، تسرع الخطو؛ لتنجو به، قالت العجوز ورذاذ لعابها يتطاير من فمها، وشدقاها يعلوهما زبد أبيض:
– لعن الله من كان السّبب، لو بقينا في بيوتنا ومتنا فيها خير لنا من هذا العذاب.
فقال شاب ملتح:
– “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت”
تعالت أصوات صراخ في قمّة المرتفعات، تجمّع حشد من النّاس، بعضهم يقول:
وحّدوا الله…هذا نصيبها.
أناس آخرون يواصلون سيرهم حائرين.
سأل خالد: ما خطبكم يا قوم؟
– الله يرحمها سقطت فجأة، ووجدوها ميّتة، قال أحد الشّباب.
– ماذا نستطيع فعله؟
– ندفنها هنا قال أحدهم.
– هل ندفنها دون تغسيل ودون كفن بعيدا عن مقابر المسلمين؟
– للضّرورة أحكام قال آخر.
مرّ محراث “تراكتور” لفلّاح سوريّ يجرّ صندوقا محملّا بصناديق التّفاح، توقّف عند الجموع، صدمته حالة الرّعب والجوع التي يعيشها الفلسطينيّون الهائمون على وجوههم، هربا من ويلات حرب استهدفت اقتلاعهم من أرضهم، وزّع حمولته عليهم، حمل المرأة المتوفّاة وزوجها وأطفالها الثّلاثة في صندوق النّاقلة، وهو يقول:
هيّا بنا، سندفنها في مقبرة قريتنا قبل الغروب.
قال توفيق الخضر زوج المرأة المتوفّاة:
– أنا توفيق الخضر من سخنين، ما اسم قريتك يا وجه الخير؟
– انا من قرية السّلوقيّة، اسمي محمد معروف.
– بوركت يا أخ العرب.
اقتربت منه رحاب وخاطبته بانكسار:
– هل تسمح لي أنا وزوجي بأن نركب معك؟
– على الرّحب والسّعة يا أختاه، وأنتم ضيوفي هذه الليلة:
– بارك الله بك، وأطال عمرك.
في صندوق “التراكتور” وضع طفل ابن عامين رأسه على صدر أمّه المتوفّاة وغفا، حاول والده احتضانه، لكنّ الطّفل لم يقبل بديلا عن صدر أمّه، تركوه يستنشق رائحة أمّه وعيونهم تذرف دموعا حارّة.
مزّق الألم قلوبهم، فهم يسيرون على غير هدى، أهوال مذبحة دير ياسين والطّنطورة لا تفارق ذاكرتهم، تركوا بيوتهم، بيّاراتهم، حقولهم، تركوها خلفهم للمجهول، غالبيّتهم يأملون بالعودة بعد أيّام قليلة، فلا يمكن أن تُهزم جيوش نظاميّة أمام عصابات جاءت من أصقاع العالم تحت غيبيّات ووعود بالمنّ والسلوى، إلى أرض زعموا أن لا شعب فيها.
من زاوية الصّندوق الذي يقلّهم قال شيخ لفحته سنوات الشّقاء بسمرتها:
أكثر ما أخشاه أن تتكرّر وعود بريطانيا للملوك العرب، والتي أجهضت ثورة عام 1936، وأنهت أطول اضراب عرفه العالم.
فسألته شابّة تجلس بجانبه:
– ماذا تعني بذلك يا عمّ؟
– أعني يا بنيّتي أنّه لن تنتصر جيوش قادتُها جنرالات أجانب، من الدّول الاستعماريّة التي تقاسمت المنطقة.
وأضاف بعد تنهيدة طويلة:
– ضاعت البلاد، وتشرّد العباد.
ثمّ ضرب كفّا على كفّ وهو يقول:
– واولداه! “العين بصيرة واليد قصيرة”.
بيت محمّد معروف في قرية السّلوقيّة غرفتان مبنيّتان من حجارة سوداء محروقة، مثل بقيّة بيوت القرية والقرى المجاورة، فصخور تلك المنطقة من بقايا الصّخور، التي قذفتها حمم البراكين في العصور الغابرة، تحيط بالبيت شجرات تفّاح على أرض تزيد مساحتها على خمسة دونمات، الأعشاب الخضراء تتسلّل بين الأشجار، فترسم سجّادة طبيعيّة لافتة.
أنزلوا جثمان المرأة المتوفّاة في بيت محمّد معروف، وهم يكبّرون، تجمّعت النّساء من البيوت المجاورة يولولن ويبكين، زوج محمّد معروف لم تعد قادرة على الوقوف من هول المفاجأة، سألت باكية:
من هذه المرأة يا محمّد؟
– هذه أخت فلسطينيّة توفيّت في الطّريق…غسّلنها، سأذهب لاحضار كفن لها من المسجد، حافظن على أطفالها حتّى نعود، حمل مجرفة وفأسا وقال لزوجها ولخالد:
– هيّا معي؛ لنحفر لها قبرا في مقبرة القرية بجانب المسجد، فاكرام الميّت دفنه.
هرع العشرات إلى بيت محمّد معروف يهلّلون ويكبّرون، غسلتها النّساء وكفّنّها حسب الشّريعة، حملها الرّجال إلى المسجد، صلّوا عليها، دفنوها، انصرف كلّ منهم إلى بيته، بقي توفيق زوجها، خالد، والشّيخ المسنّ الذي كان معهم في “التّراكتور”، جلسوا قريبا من عتبة المسجد، دعاهم إمام المسجد إلى بيته، غير أنّ محمّد معروف قال له:
– هؤلاء ضيوفي.
– التفت إليهم وقال: هيّا بنا يا اخوان.
مشوا معه وذلّ التّشرّد يطرق سندان رؤوسهم بشدّة، عند بيته قال لهم:
– أهلا بكم يا اخوان، البيت بيتكم، سنترك البيت للنّساء والأطفال، فهو لا يتّسع لنا جميعنا، سنقضي ليلتنا تحت هذه الشّجرات، النّساء الآن يعددن طعام العشاء لهنّ ولنا، والتفت إلى الشّيخ المسنّ سائلا:
ما اسمك يا عمّ؟
– اسمي الشّيخ فايز فلاح من قرية عين حوض.
سأله خالد: أين زوجتك وأولادك؟
– لا أعرف…عدت إلى البيت ولم أجدهم، ولم أجد من يعرف طريقهم.
– أين كنت غائبا عنهم.
تنهّد الرّجل وقال: كنت حيث يجب أن أكون!
كنت مع من تبقى من القسّاميّين نقاتل في حيفا، ولمّا نفدت ذخيرة من بقوا منّا أحياء، انسحبنا وعاد كلّ منّا إلى بيته، فلم أجد أهلي، فسرت شرقا مع الهاربين من ويلات الحرب، رأيت شاحنات مكدّسة بالنّاس، تنقلهم شرقا، لتلقي بهم خلف الحدود، فحملتني واحدة منها.
أمضوا ليلتهم تحت أشجار التّفّاح، فوق أعشاب يبلّلها النّدى، نسيم بارد مشبع ببرودة جبل الشّيخ يمرّ بهم، يلسع وجوههم، ويواصل طريقه شرقا.
توزّعت آلاف الأسر الفلسطينيّة على مساحة هضبة الجولان السّوريّة المحاذية لفلسطين، لا تكاد قرية من قرى الجولان البالغ عددها مائة وإحدى وثلاثون قرية تخلو من مئات الفلسطينيّين، حتّى مدينة القنيطرة استضافت الآلاف منهم، عندما وصلوها بالشّاحنات، لم يفرض الفلسطينيّون أنفسهم على أحد، لكنّ السوريّين دعوهم إلى بيوتهم وأكرموا وفادتهم.
آلاف من الآخرين استظلّوا بالأشجار على جنبات جداول المياه، خصوصا على ضفاف نهر بانياس، افترشوا الأعشاب الخضراء وعيونهم باتّجاه الغرب إلى بيوتهم وأراضيهم، النّسيم الذي يهبّ من الغرب يحمل رائحة الدّيار، جبل الشّيخ يتربّع في الجهة الشّماليّة باعثا سهام برودته دون استئذان.
سيّارات الصّليب الأحمر تجوب المنطقة، تقدّم خدمات لمن أصبحوا مشرّدين بين ليلة وضحاها، وكالة غوث اللاجئين توزّع الخيام وموادّ تموينيّة كالطّحين، الأرزّ، السّكّر وحليب الأطفال. بعض اللاجئين لم يقتربوا من سيّارات الاغاثة، فلديهم ما يكفيهم لبضعة أيّام، وهم على قناعة بأنّهم سيعودون إلى ديارهم قبل أن تنفد مؤونتهم.
قوى الأمن السّوريّة تعمل حاجزا يحول دون دخول الفلسطينيّين شرق القنيطرة، تعمل على تجميعهم في مناطق محدّدة، بحجّة أنّهم سيعودون إلى ديارهم بعد بضعة أيّام، ولتسهيل عمليّة إغاثتهم.
*****************
جلست رحاب حزينة قبالة نوال والدة محمّد معروف وزوجته عائشة، وضعتا العشاء أمامها، تحلّقن حول طبق الطّعام، قالت أمّ محمّد لرحاب:
تفضّلي يا بنيّتي.
مدّت رحاب يدها، غمست لقمة خبز باللبن، ابتلعتها بصعوبة، شربت بعدها قليلا من الماء، وقالت:
كثّر الله خيركم، لا شهيّة لي.
قالت لها أمّ محمّد: لا تحزني يا بنيّتي، شدّة ستزول باذن الله، عليك أن تتناولي طعامك، إن لم يكن لأجلك، فمن أجل الجنين الذي في بطنك.
– شكرا لك يا خالة، لا رغبة لي بالطّعام، ولا أستطيع تناولة.
رغم إلحاح أمّ محمّد وكنّتها عليها، إلا أنّها لم تأكل غير اللقمة الأولى، فقالت عائشة:
إن كنت لا تحبّين اللبن، سآتيك بعسل وجبن، فخير الله كثير.
– والله يا أختي لا شهيّة عندي، ولا رغبة لي في طعام مهما يكن.
أسندت رحاب ظهرها إلى الحائط، لم تستطع حبس دموعها، مرّ من أمامها سلطان بن محمّد معروف صاحب البيت، وهو طفل في الثّالثة من عمره، أمسكت به، وضعته في حضنها، قبّلته وهي تبكي، هرب الطّفل منها، تابعته بناظريها باكية، وهي تردّد:
ما شاء الله عليك، ليحفظك الله لوالديك، فتحت يديها أمام وجهها، جحظت عينيها إلى الأعلى وقالت:
يا لله يا مجيب الدّعاء، لا تحرم أمّا من أبنائها.
سألتها أمّ محمّد:
دون مؤاخذة يا بنيّتي، هل أنجبت أطفالا؟ وهل فقدت أحدا منهم؟
ردّت بانكسار: نعم يا خالة، أنجبت طفلا هو الآن في الثّالثة من عمره، ولم أره منذ عامين ونصف.
– هل توفّاه الله؟
– ليته مات، لكنت نسيته مع مرّ الزّمن.
– لا حول ولا قوّة إلا بالله، أين هو الآن.
– عند أبيه.
– من هو أبوه؟ هل كنت متزوّجة من رجل آخر قبل زوجك هذا؟
تنهدّت رحاب تنهيدة عميقة وقالت:
الدّنيا حظوظ يا خالة، وأنا لا حظّ لي! أصلي أنا من يافا، والدي يعمل صيّاد سمك، يصطاد السّمك ويبيعه لتاجر من مدينة الرّملة، ذات يوم دعا والدي ذلك التّاجر؛ لتناول طعام الغداء في بيتنا، رآني ذلك التّاجر الذي يكبر أبي عمرا، فسأل والدي:
– كم عمر ابنتك؟
فردّ والدي: ستّة عشر عاما.
– ما شاء الله، إنّها عروس، اسمح لي أن أطلب يدها لابني، فهو شابّ مثل غصن الرّيحان، عمره عشرون عاما، درس حتّى الصّفّ السّادس، وأخرجته من المدرسة، درّبته على الأعمال التّجاريّة، فتحت له بقالة من كبريات البقّالات في الرّملة، وبيتنا واسع والحمد لله، خير الله كثير.
ردّ عليه والدي: إذا رأيتها مناسبة لابنك فتوكّل على الله.
فردّ الرّجل باستعلاء: غدا أو بعد غد سأحضر الولد؛ ليرى البنت، فإن أعجبته سنتشرّف بمصاهرتكم.
– على بركة الله.
لم أعترض أنا أو أمّي على ذلك، فكما تعلمين، لا رأي للنّساء – حسب رأي أبي-! وأبي لم يسأل أحدا منّا.
بعد يومين حضر الرّجل برفقة زوجته وابنه، قدّمت لهم القهوة وجلست في غرفة الضّيوف معهم، بحضور والديّ وشقيقي الذي يصغرني بعامين، لم أتكلّم شيئا -حسب تعليمات والدتي-، ركّز الشّابّ نظره عليّ، فطأطأت رأسي حياء، بدأت والدته التي تجلس دون اكتراث بالموجودين تسألني عدّة أسئلة، كأنّها تختبرني، سألتني أسئلة بسيطة مثل:
كيف حالك يا بنتي؟ هل تعلّمت في المدارس؟ أين تقضين يومك؟ هل تجيدين الطّبخ؟ من يخيط لك ملابسك؟
أجبت على أسئلتها باختصار شديد، خرجت وأخذت أسترق السّمع من الممرّ الذي يؤدّي إلى صالون البيت، سمعت والدتي تقول:
لا تؤاخذونا يا اخوان، البنت خرجت حياء، فهي لا تزال صغيرة، لكنّها يا أختي أمّ طارق تجيد الطّبخ ورعاية البيت، وأنا أعتمد عليها في ذلك منذ سنوات.
ردّت عليها أمّ طارق: ما شاء الله عليها، مزيونة ومرتّبة.
قال طارق: فيها مواصفات الفتاة التي أحلم بأن تكون زوجة لي.
ضحكوا جميعهم عند سماع ذلك، وبعدها قال أبو طارق:
ما دمت معجبا بالبنت، وأمّك موافقة عليها، فسنطلبها لك.
وجّه كلامه لأبي:
كما ترى يا أبا سعد، أنا موافق، وطارق وأمّه موافقان، وننتظر موافقتك أنت وزوجتك وبنتك.
ردّ أبي: أهلا بكم، ونتشرّف بمصاهرتكم، لا رأي للنّساء في هكذا أمور! فأنا سيّد البيت، وأنا من أقرّر.
عندها انصرفت إلى سريري باكية، ولا أعلم هل بكيت يومئذ فرحا بفارس الأحلام، أم حزنا على حالي وحال أمّي؟ تساءلت بيني وبين نفسي عن موقف أبي بعدم أخذ رأيي ورأي أمّي، خصوصا وأنّ أبا طارق سمع رأي زوجته وابنه؟ ولم أعلم وقتئذ إن كان الآباء جميعهم يتصرّفون كأبي عندما يزوّجون بناتهم، أم هي ميّزة لأبي دون غيره.
استمعت أمّ محمّد وكنّتها لما قالته رحاب باكية بانتباه شديد، وهنا قالت أمّ محمّد:
– كثيرون يا بنيّتي من يتصرّفون كوالدك، ووالدي –رحمه الله- كان يردّد دائما، النّساء لا يستشرن، ويقول ضاحكا لأشقّائي:
“شاوروهن، واخلفوا شورهن”.
وأنا يا بنيّتي عندما تزوّجت، لم أرَ أبا محمّد- رحمه الله-، ولم يرني إلا ليلة الدّخلة. وهذا حال الدّنيا.
وهنا قالت أمّ سلطان وهي تبكي:
– حسبي الله ونعم الوكيل، أكملي قصّتك يا أختي رحاب.
قالت رحاب: انصرف طارق ووالداه بعد أن اتّفقوا مع أبي أن تكون الخطبة وعقد القران بعد أسبوع، والزّفاف بعد أسبوعين، ناداني أبي وقال بحضور والدتي:
يبدو أنّك مولودة ليلة القدر، فنصيبك جاء مع ابن أسرة ثريّة، بيتهم كقصور الملوك، أملاكهم كثيرة ودخلهم عالٍ، ستعيشين سعيدة في كنفهم. عريسك شابّ وسيم تتمنّاه البنات كلّهن.
تكلّم أبي ولم ينتظر جوابا، فهو صاحب القرار، ولا يجرؤ أحد على مناقشته بمن في ذلك والدتي، -هكذا تربّينا منذ ولادتنا-.
وتمّ الزّواج وليتني متّ قبل أن يتمّ، قالت ذلك وقد تحشرج صوتها بدموعها.
ربتت أمّ محمّد على ظهرها وقالت:
كلّ شيء قسمة ونصيب يا بنيّتي، وعلينا أن نرضى بنصيبنا الذي قسمه الله لنا…ثمّ أمرت كنّتها قائلة:
حضّري لنا ابريق شاي يا أمّ سلطان.
التفتت إلى رحاب وقالت:
أكملي قصّتك يا بنيّتي.
رحاب تتكلّم وقلبها يعتصره الألم، فنكبتها مضاعفة، تنهّدت وقالت:
في صباح ليلة الدّخلة نهضت مع ساعات الفجر الأولى، ذهبت إلى المطبخ لإعداد القهوة لي ولطارق، مررت بحماويّ فطرحت عليهما تحيّة الصّباح، فردّت عليّ حماتي:
أين أنت ذاهبة با ابنة الصّياد؟
صدمني كلامها، لكنّني تجاهلت ذلك، وسألتها هي وزوجها:
هل أعدّ لكما قهوة أم شايا؟
لم تردّ وهي ترمقني بازدراء، بينما قال أبو طارق دون أن يلتفت نحوي:
لا بأس يا رحاب حضّري لنا فنجاني قهوة.
دخلت المطبخ، وفيه انهمرت دموعي غزيرة دون أن يحسّ بي أحد، تساءلت بيني وبين نفسي:
هل صيد السّمك حرام أم عيب؟
ومنذ ذلك اليوم وحماتي تعاملني كجارية، عليها أن تنفّذ الأوامر دون نقاش، وعندما تبيّن أنّني حامل منذ ليلة الدّخلة، وظهرت عليّ بوادر الوحام، كنت أتقيّأ وانهارت قواي، كنت أتصوّر أنّها ستفرح بذلك، وستغيّر معاملتها لي، خصوصا أنّ طارق ابنها البكر، ومن سأنجبه سيكون حفيدها الأوّل، لكنّها لم ترحمني، ولم يردعها زوجها ولا ابنها الذي هو زوجي، وليتها توقّفت عند هذا الحدّ، فقد كانت تتساءل أمام صديقاتها على سَمْعي:
كيف سيكون خال حفيدي صيّاد سمك؟
أكثر من واحدة من صديقاتها قالت لها:
والله “كنّتك” ما شاء الله عليها كاملة الأوصاف! جمال، أدب وأخلاق.
فتردّ على ذلك بكبرياء زائف، يحمل في ثناياه سمّ الأفاعي:
سنترك طارق يتسلّى عليها حتّى ينضج! وسنختار له فتاة بنت ناس وثراء، ورحاب هذه “ثوبها ليس من ثوبنا”.
كنت أسمع الإهانة بأذنيّ هاتين، وأتجاهل الموضوع طلبا للسّتر، لعلّها تعود إلى رشدها، لكنّها كانت تزداد شراسة.
ذات يوم جاءت إحدى صديقاتها لتزورها، لم تكن في البيت، استقبلتُ المرأة بحفاوة بالغة، سألتني:
أين حماتك يا ابنتي؟
أجبتها: لا أعلم يا خالة، فهي تخرج وتعود دون أن تخبر أحدا…لا أعلم إن كانت تستأذن زوجها قبل ذلك أم لا.
تنهّدت المرأة التي تبدو الطّيبة على محيّاها وقالت:
لا حول ولا قوّة إلا بالله.
عدت للتّرحيب مرّة أخرى بالضّيفة الزّائرة، ظنّا منّي أنّها تشعر بالضّيق لعدم وجود حماتي….استأذنتها لإعداد القهوة…جلست وإيّاها نحتسي القهوة سويّة، استأنست بها، شممت من كلامها رائحة أمّي بطيبتها وحُسن كلامها.
التفتت المرأة يمينا وشمالا كأنّها تخشى وجود أحد يتنصّت عليها، أو يراقبها، رشفت رشفة من فنجان القهوة، وقالت:
سلمت يداك يا ابنتي، قهوتك لذيذة المذاق. وأضافت:
سبحان مغيّر الأحوال، لا أعلم لماذا ترى أمّ طارق نفسها أفضل من الآخرين؟ هل نسيت أصلها؟
لم أتفوّة بأيّ كلام، فمنذ دخلت ذلك البيت وأنا أعيش حالة رعب، أخاف من النّاس جميعهم، فوجدت أنّ السّكوت فضيلة أحتمي بها، وما يدريني أنّ هذه المرأة جاءت باتّفاق مع أمّ طارق للايقاع بي؟
لكنّ المرأة عادت تسأل:
– ماذا تعرفين يا رحاب عن حماتك؟
انكمشت على نفسي خائفة من عواقب السّؤال، وقلت:
– لا أعرف عنها إلّا كلّ خير.
ضحكت المرأة وقالت: مِن أين سيأتيها الخير؟ هذه المرأة ولدت في أسرة مهمّشة فقيرة، أنهكها العوز والحاجة، والفقر ليس عيبا يا ابنتي، أبوها كان عتّالا في ميناء حيفا، زوّجها أبوها لشابّ منحرف، عائلته متبرّئة منه لسوء أخلاقه، ولكثرة المشاكل التي يعملها، كان معروفا بتعاطيه للمخدّرات والاتّجار بها، جمع ثروة من تجارة المخدّرات، بعد زواجها بستّة شهور توفيّ بجرعة مخدّرات زائدة، فاستولت على أمواله.
صمتت قليلا، تنهّدت وقالت: أبو طارق هو الآخر من أسرة فقيرة كريمة المنبت، أوقعته سعاد بحبالها وتزوّجته تحت إغراء المال. فاشتغل بالتّجارة، اشترى الأطيان، لكنّه بقي تحت سلطتها، لا يقوى على معارضتها. منذ وفاة زوجها الأوّل، أفرغت كلّ عُقدها وأحقادها على الآخرين، أصبحت تقلّد تصرّفات “الأكابر” الذين كانت تسهر معهم في حانات يافا قبل أن تتزوّج أبا طارق، نسيت كلّ ماضيها، حتّى أنّها لم تعد تتعرّف على والديها، أو بالأحرى هم تبرّأوا منها. وتحاول أن تثأر لماضيها التّعيس بالتّعالي على الآخرين.
صعقني ما سمعته من المرأة الضّيفة، التي عرفتني على نفسها بأنّها أمّ خالد، لكنّني لم أقل إلا ” لا حول ولا قوّة إلا بالله، ربنا يستر على خلقه”. وبيني وبين نفسي فهمت من كلام المرأة أنّني واقعة تحت سطوة امرأة، ليست كباقي النّساء، صرت أخاف على نفسي وعلى جنيني منها. فكّرت كثيرا بالهروب من هذا البيت الجحيم، لكنّني قرّرت التّحمّل حفاظا على جنيني الذي في أحشائي.
شكوتها لزوجها أكثر من مرّة فكان يقول لي:
عليك أن تتحمّلي فالحماوات كلّهنّ هكذا!
أمّا طارق زوجي فكان يقول: لا ترفعي صوتك كي لا تسمعك، فإذا سمعتك سيزداد غضبها عليك!
فسألته: لماذا هي غاضبة منّي؟ ليتني أعرف كي أتجنّب غضبها.
لكنّه لم يجبني واكتفى بقوله:
– اصبري فالصّبر مفتاح الفرج.
كانت لمياء شقيقة زوجي هي الوحيدة التي تعاطفت معي، لم تكن راضية عن تصرّفات أمّها، لكنّها مغلوبة هي الأخرى على أمرها، ولا تملك شيئا من أمرها، عندما كانت تزورنا صحبة زوجها، كنت أشعر بسعادة لوجودهما، همست لي لمياء ذات يوم بعد زواجنا بشهر:
إنّها تمنعني من الاحتكاك بك أو الحديث معك.
فسألتها عن أسباب معاملة والدتها لي بهذه الطّريقة، فلم أسمع منها سوى قولها:
– هكذا اعتادت ولم تجد من يردعها.
عندما جاء والديّ لزيارتي، تعاملتْ معهما بشكل فوقيّ، وكأنّهما خادمان عندها، اختليت بوالدتي دقائق قليلة، شرحت لها معاناتي، فحذّرتني من مغبّة معرفة أبي بالموضوع، فإذا سمع بذلك فإنّه سيضربني كما قالت، ولم أعلم سببا لقولها هذا.
بعد خمسة شهور من زواجنا ألححت على زوجي كي نزور أهلي، فوافق بعد رجائي له لمدّة أسبوع، حملني معه في سيّارته، كان صامتا غير راغب بالكلام، حاولت ممازحته أكثر من مرّة، فيلتفت إليّ بنظرات حزينة ويلوي وجهه إلى الجهة الأخرى، أوصلني باب بيت أهلي وقال لي:
اذهبي إلى أهلك…سألحق بك بعد أن أنهي بعض أعمالي.
في اليوم التّالي جاءنا مراسل من محكمة يافا الشّرعيّة، سلّم والدي وثيقة طلاقي وهو يقول:
إذا أردتم حقوق ابنتكم يمكنكم رفع دعوى قضائيّة في المحكمة.
صعقني خبر الطّلاق كما صعق والديّ، تحسّست الجنين في أحشائي، تسمّرت مكاني، بكيت حظّي العاثر، لكنّ أبي باشر التّحقيق معي عن أسباب الطّلاق، لم يقتنع بأنّني لم أفعل شيئا يغضب طارق أو والديه، أو شقيقته الذين خدمتهم بعيوني…لم أجد وسيلة تقنع أبي بأنّني ضحيّة لأمور لا أعرفها، ولا يد لي بها…كان يسألني بكلام يخرج من فيه كصليات الرّصاص:
ماذا عملتِ يا ابنة وداد؟
هل ركلتِ النّعمة التي لم يحظ بها أبوك وأمّك؟
هل تطاولتِ على أيّ منهم؟
هل قمتِ بواجباتكِ الزّوجيّة؟
هل تصرّفت معهم “كزوجة “عائلة أم كسيّدة بيت؟
هل أسأتِ لحمويكِ؟
رصاص كلماته يخترق قلبي فيدميه، ويهشّم دماغي، فلم أجد جوابا يشفي غليله، وكلّ ما قلته وسط دموعي:
والله لم أعمل شيئا يغضب أيّا منهم، لقد تعاملوا معي من صباحيّة زفافي كجارية بنت جواري، لم يحترموا إنسانيّتي، بل كانوا يعاملون كلبهم أفضل من معاملتهم لي، عيّروني بأنّني ابنة صيّاد سمك! فكظمت غيظي طلبا للسّتر، جئت إليكم مع طارق زائرة، وتركني باب البيت بعد أن وعدني بأنّه سيلحق بي عندما ينهي بعض أعماله.
كلّما تكلّمت كان أبي يرغي ويزبد ويصرخ:
أنت كذّابة بنت كذّابة!
التفتُّ لأمّي، فوجدتها تتكوّم على نفسها، تبكي بصمت كأنّها بكماء، فهي مغلوبة على أمرها.
في اليوم التّالي عاد أبي يحمل ملابسي ومصاغي الذّهبيّ معه…رماه أمامي وهو يقول:
أتاني به أبو طارق، وقال:
هذا لابنتكم لا حاجة لنا به.
ولمّا سألته: لماذا طلّق طارقٌ رحاب؟
أجاب: هذا نصيبها! قالها وانصرف.
فلحقت به وقلت له: لكنّ البنت حامل.
قال: لن نتخلّى عن ابننا…عندما تنجبه سنأخذه.
أبي هادئ هذه المرّة على غير عادته، لم يصرخ، لم يشتم، بدا مهموما، استدار وذهب إلى صالون البيت، أعددت ثلاثة فناجين قهوة، لي ولأمّي -التي لحقت به- وله. وجدته ساندا ظهره على الكنبة، البؤس باد على وجهه، أشفقت عليه، فهو انسان طيّب رغم قساوته، لا يظهر ودّه لأحد مع أنّ في صدره قلب عصفور، وضعت فنجان القهوة أمامه، قال لي:
الله يرضى عليكِ.
قالها بلهجة حانية قليلا ما كنت أسمعها منه، ترقرت عيناه بالدّموع وهو يلتفت إليّ ويقول:
سامحيني يا بنتي.
هزّني كلامه، كما هزّ أمّي، فأنا لم أرَ أبي بهذا الضّعف من قبل، احتسى القهوة ودموعه تنساب على وجنتيه، وعاد يقول:
سامحيني يا بنتي يا رحاب، لقد ظلمتك، وأسأل الله المغفرة.
لم يعطني فرصة للحديث؛ كي أقول له بأنّني أطلب رضاه، فهو أبي.
واصل حديثه:
سامحيني فقد ظلمتك عندما زوّجتك من ابن تلك “المستورة”. خدعني ثراء أبي طارق، وما قصدت من مصاهرته إلا تحقيق حياة كريمة لك، فالعائلات الثّريّة يتوفّر لها كلّ ما تحتاجه، نساؤها يعشن مدللات مرفّهات، وانطبق عليّ المثل القائل:” يا ماخذ القرد ع ماله، يروح المال ويبقى القرد ع حاله”
واليوم فقط علمت أنّ ثراء هذه العائلة لم يكن مشروعا ولا طبيعيّا، وأنّ أمّ طارق لم تكن إلا من روّاد حانات حيفا ويافا.
سألني اليوم أحد معارفي عندما رآها في سيّارة زوجها، وأنا أتبعه متسائلا عن سبب طلاق رحاب، رآها تنظر لي ضاحكة، فسألني وهو يشير إليها:
هل تعرف تلك المرأة؟
فأجبته: ليتني لم أعرفها ولم أرها في حياتي.
فقال: هذه المرأة تبدو ناعمة، لكنّها أفعى على شكل إنسان؟
سألته: ماذا تقصد؟
أجاب: ابتعد عنها، فمعرفتها لا تشرّف أحدا.
هنا انتبهت لحديثه فعدت أسأله ما بها؟
فقال: هذه ممّن ذاع صيتهنّ في حانات حيفا ويافا، كانت متزوّجة من رجل عصابات تتاجر بالمخدّرات، في ذلك الزّواج لم تخالط سوى المجرمين والمنحرفين. بعد وفاته استولت على ماله الحرام، واشترت زوجها الحاليّ بالمال، فكيف سيكون التّعامل مع هكذا امرأة، وهكذا زوج؟
حكى عنها كلاما أخاف الله من ترديده، وعلى كلّ “ربّنا يستر عليها وعلى كلّ الولايا” وحسن أنّنا تخلّصنا منها ومن معرفتها.
نظرت إلى أمّي، فقد حدّثتها صباح هذا اليوم بما سبق وقالته تلك المرأة المسمّاه أمّ خالد عنها، كانت تبكي بصمت دون أن تتكلّم شيئا، لم أعرف إذا كانت تبكي على نفسها، أم عليّ، أو على كلتينا، بدت وكأنّها مصابة بانفصام، ولا غرابة في ذلك، فقد أمضت حياتها مقموعة من والدها وأشقّائها، وبعد زواجها قمعت من زوجها الذي هو والدي.
لم أتكلّم أنا أيضا، أو بالأحرى لم أجرؤ على الكلام. نظر أبي إلينا وقال بلهجة حزينة:
زواج رحاب وطلاقها درس قاس ومؤلم، صدمني خصوصا وأنّني أكتشفت بأنّني أمضيت حياتي كالمضبوع الذي يقوده الضّبع إلى وِجاره؛ ليفترسه، فيمشي طائعا مختارا، ولا يصحو على نفسه إلا عندما يصطدم رأسه بالصّخر عند مدخل الوِجار، تنزل دماؤه ويعود إلى وعيه، فيقاوم الضّبع وينجو بنفسه، من اليوم لن أقهر ابنة أو ابنا، سأستمع لآرائهم، سأتركهم يختارون أزواجهم ويقرّرون مصيرهم كما يشاؤون.
سألته يقتلني الأسى وأنا أطأطئ رأسي:
بعد ماذا يا أبي؟ أحمد الله على نصيبي، وأسأل الله أن تكون مأساتي سببا في خلاص شقيقتيّ وشقيقيّ من قهر لا مبرّر له.
اقترب منّي كطفل رضيع يحبو إلى حضن والدته وقال متوسّلا:
أريد أن أسمع منك كيف كانوا يعاملونك؟ وكيف احتملتِ شرورهم وسوءاتهم يا بنيّتي؟
قلت له: لا عليك يا أبي، فهذا نصيبي، حدّثته باختصار شديد؛ كي لا أزيد أحزانه، وتعنيفه لنفسه، فوالدي رغم قسوته طيّب القلب.
استمعت أمّ محمّد وكنّتها عائشة لي وهما تبكيان، فمأساتي أدمت قلبيهما، قالت عائشة:
ليسامح الله أهالينا كم يظلمون بناتهم!
لكنّ أمّ محمّد سألت والليل يقترب من منتصفه:
ماذا جرى بالجنين؟
قبل أن أجيبها سمعنا أصوات صراخ لرجال ونساء، وضجيج شاحنات، فقفز الرّجال من أمام البيت وهم يردّدون:
يا ساتر يا ربّ! ما الذي يجري.
ركضنا خلفهم وإذا الشّاحنات مكدّسة بنساء، أطفال ورجال، نزلوا منها بجانب مسجد القرية، الهلع يسيطر على قلوبهم، التفّ حولهم جمع غفير من أهالي السّلوقيّة، ومن جموع الفلسطينيّين الذين وصلوا المكان في الأيّام القليلة الماضية، قال أحدهم:
هاجمنا “أولاد اليتيمة” وأمعنوا فينا قتلا، لم يستثنوا أحدا، حتّى من احتموا بمسجد طبريا من أهالي حطّين ولوبيا قتلوا، ليس عندنا سلاح ندافع به عن أنفسنا، فتركنا قتلانا وهربنا؛ لننجو بأنفسنا.
صاح إمام المسجد: واذلّاه! أين العرب؟ أين المسلمون يا ناس؟
قال الشّيخ فايز فلاح: رحمة الله على الشّيخ عزّ الدّين القسام، الذي جاءنا من حلب، وقاتل معنا حتى استشهد.
أمّا محمّد معروف فقد قال:
لم يعد وقت للبكاء والعويل، من لديه سلاح فليتبعني، كانت بيده بندقية صيد”خرطوش” حملها وركض باتّجاه الغرب، وهو يقول:
نسأل الله الثّبات والنّصر.
مضى في طريقه كأنّه جيش قائم بذاته، في طريقه صادف بضعة شباب يحمل بعضّهم بنادق قديمة، بعضهم يحمل مسدّسات، والأكثرية يحملون سيوفا وعصيّا.
ركض الشّيخ فايز فلاح خلفهم وهو يصيح:
يا شباب هذه حرب وليست طوشة، نظّموا الصّفوف.
كان كلامه مجرّد صرخة في وادٍ عميق.
عندما هدأت ضوضاء الليل قليلا، كان النّسيم العليل يتسلّل من فوق بحيرة طبريّا حاملا رائحة الموت، غراب الجوع يفرد جناحيه على جموع اللاجئين، جمعيّات خيريّة سوريّة تشتري الخبز من الأفران؛ لتوزّعه على اللاجئين، نادى أئمّة المساجد من على المآذن:
من يؤمن بالله واليوم الآخر فليقدّم الطّعام والمأوى لأخوتنا الفلسطينيّين، مشايخ بني معروف فعلوا الشّيء نفسه في خلواتهم.
صاحت رحاب قائلة:
حسرتي عليك يا عليّ!
سألتها عائشة زوجة محمّد معروف مندهشة:
من هو عليّ هذا؟ وماذا جرى له؟
ردّت رحاب باكية مكسورة الجناح:
عليّ ابني من زوجي الأوّل الذي حدّثتكنّ عنه، لم أره منذ عامين ونصف، تركته مرغمة يا لوعتي وعمره ستّة أشهر.
عائشة: كان الله في عونك، لا تخافي يا أختي، فالله سيرعاه لك.
رحاب باكية: يا لوعة القلب، ما أصعب الفراق!
******
عبر آلاف اللاجئين حدود مدينة القنيطرة شرقا، بعضهم مرّ بدمشق مرّا عابرا، واصلوا طريقهم شرقا، منهم من وصل مدن حلب، حماة، حمص، ومنهم من اتّجه جنوبا إلى درعا، في حين بقي البعض في محيط دمشق.
وصل خالد وزوجته رحاب مع بضعة آلاف إلى جرمانا قرب دمشق، استظلّا مع مئات من اللاجئين بشجرة تفّاح في سهل يمتد مدى النّظر، استلمت كلّ أسرة خيمة، و”بطّانيّة” لكلّ فرد من وكالة غوث اللاجئين الدّوليّة، التي أحصت اللاجئين، ومنحت كلّ أسرة بطاقة تموين خاصّة، بنوا خيامهم في أرض خالية خصّصها لهم الأمن السّوريّ.
اضطجعت رحاب في خيمتها بطرف المخيّم حزينة منهكة خائفة على جنينها، لكنّ خوفها على ابنها عليّ أكثر، فما عادت تعرف مكانا له، خوفها يشتدّ عندما يدور في خلدها أنّه ربّما قُتل.
الهزيمة أصبحت حقيقة بائنة، جيش الانقاذ تقهقر، الجيوش العربيّة انكفأت على أعقابها، فيا ديار العزّ ها نحن نعيش في خيام، ويا وطن الكرامة نحن مشرّدون، ما عادت تحتمل هذا الصّخب الذي يؤرّقها، سألت زوجها بانكسار:
هل تستطيع تحضير طعام لنا يا خالد؟
خالد: سأبحث عن محلّ أشتري منه بابور كاز “بريموس”، طنجرة وابريق شاي. فلا تخرجي من الخيمة حتّى أعود.
عند صلاة العصر، تباحث المصلّون في مسجد جرمانا حول ما يستطيعون تقديمه للاجئين الفلسطينيّين، ناشد مختار القرية الأهالي بمساعدة اللاجئين في السّكن والماء والطّعام، كما طالبهم بتشغيلهم معهم. أمّا إمام المسجد فقد أكّد بأنّ عودة اللاجئين إلى ديارهم ستكون قريبة، فلن يسكت المسلمون عن الظّلم اللاحق بإخوانهم اللاجئين. في حين قال الشّيخ فايز ابن عين حوض الذي أسند ظهره في زاوية المسجد الخلفيّة:
الله يرحمك يا شيخ عزّ الدّين القسّام، فقد أدركت ما يجري منذ سنوات طويلة.
فسأله أحد المصلّين بجواره:
ومن هو هذا الشّيخ؟ وماذا فعل؟
الشّيخ فايز: “عزّ الدّين القسّام، عالم، داعية، مجاهد، وقائد، ولد في بلدة جَبَلة من أعمال اللاذقية سنة 1883م ، درس في الجامع، قاوم الاحتلال الفرنسي لسوريّا، فطاردوه، وغادرها إلى حيفا في فلسطين، حيث تولّى فيها إمامة جامع الاستقلال وخطابته. استطاع القسّام في حيفا تكوين جماعة سرّيّة عُرفت باسم العُصبة القسّاميّة، وفي عام 1935م شدّدت السّلطات البريطانيّة الرّقابة على تحرّكات القسّام في حيفا، فقرّر الانتقال إلى الرّيف، حيث يعرفه أهله منذ أن كان مأذونا شرعيّا وخطيبا، يجوب القرى ويحرّض ضدّ الانتداب البريطانيّ، فأقام في قضاء جنين؛ ليبدأ عمليّاته المسلّحة من هناك. إلا أنّ القوّات البريطانيّة كشفت أمر القسّام، فتحصّن هو وبعض أتباعه بقرية الشّيخ زيد، فلحقت القوات البريطانيّة بهم وطوّقتهم يوم 20-11-1935، فاشتبك معهم حتّى استشهد هو وثلاثة من أصحابه.
في طريق عودته إلى الخيمة مشى خالد كمن يمشي على وجهه، ما عادت الاتّجاهات تعني له شيئا، تماما مثلما هي الحياة، غفت رحاب في الخيمة مغلوبة على أمرها، استيقظت مذعورة، تحاملت على نفسها، جلست عند باب الخيمة تنتظر عودة زوجها، مرّت بها زوجة مختار جرمانا تحمل ماء للعطشى، عرضت عليها الماء، فشربت لاهثة، قالت لها زوجة المختار:
لا عليك يا أختاه، شدّة وستزول.
في هذه الأثناء وصل خالد، قالت لهما زوجة المختار:
ما رأيكما أن تسكنا في بيت أبي، فبيته مكوّن من غرفتين يسكنهما أبي وأمّي المسنّان، تحتهما غرفتان فارغتان، وحول البيت عدد من الأشجار المثمرة، وهناك بئر ماء، أبي هو من عرض ذلك، وهو يتبرّع بهما لسكن أسرة من اللاجئين الفلسطينيّين، حتّى يفرجها ربّنا عليهم.
وافقت رحاب وخالد بعد أن نظر كلّ منهما إلى الآخر.
لم يكن البيت بعيدا عن الخيمة التي كانت في الطرف الشّرقيّ للمخيّم، حملا البطّانيتين وأغراضهما القليلة، سارا مع زوجة المختار ينكّسان رأسيهما، حملت زوجة المختار البطّانيّتين الّلتين حملتهما رحاب وهي تقول:
لا عليك يا أختي، فأنت حامل ومتعبة، ربّنا كريم سيفرجها عليكم.
استقبل صاحبا البيت المسنّين خالد ورحاب بترحاب شديد، طلب ربّ البيت من ابنته أن تعدّ طعاما للضّيفين، قامت رحاب لتساعدها، لكنّ فاطمة أقسمت أغلظ الأيمان أن لا تسمح لها بذلك؛ لأنّها ضيفة، جلس صاحب البيت معهما وقال:
لا تحزنا يا أبنائي، لم يرزقني الله بأبناء غير فاطمة التي تزوّجها المختار، ولعلّ الله يعوّضني بكما كابنين لي، ففاطمة مشغولة بأبنائها وزوجها وبيتها.
فرشت فاطمة فرشتي صوف متجاورتين لخالد ورحاب، وضعت على كلّ فرشة لحافا ووسادتين من الصّوف.
بعد العشاء سأل خالد أبا فاطمة:
أين يمكنني أن أجد عملا يا عمّ؟
أبو فاطمة: لا تستعجل الأمور يا ولدي.
خالد: نحن لا نملك شيئا يا عمّ، لقد تركنا كلّ ما نملك في البلاد، ونريد العيش بكرامة، حتّى نعود لوطننا.
أبو فاطمة: لا عليك يا ولدي، فلن تحتاجا شيئا بإذن الله.
خالد: لم نأتِ هنا لنتسوّل يا عمّ، وأنا لا أستطيع العيش بدون عمل.
أبو فاطمة: اسمع يا ولدي، أنا أملك أرضا شاسعة في القرية، جزء منها مزروع بالأشجار المثمرة، والجزء الثّاني نزرعه خضروات صيفيّة، وما تبقّى نزرعه حبوبا، وأنا كما ترى في عمر لا أقوى فيه على العمل، ابنتي فاطمة وزوجها لهما أرض شاسعة أيضا، فما رأيك أن تستلم أرضي، تعتني بها، ونتقاسم أنا وأنت غلالها؟
خالد: بارك الله بك يا عمّ، أنا موافق.
أبو فاطمة: غدا سأريك الأرض، والأرض يا بنيّ تخدم من يخدمها، وأنتم الفلسطينيّون تعرفون الزّراعة وتمارسونها.
رحاب: حفظك الله يا عمّ وأطال عمرك، ولن ننسى فضلك ما حيينا.
قبل أن ينتهي العشاء، شعرت رحاب بحركة متسارعة للجنين، يصاحبها آلام في أسفل البطن، لم تستطع مواصلة الجلوس، وقفت تتحسّس بطنها، امتقع لون وجهها، سألتها فاطمة:
ما بك يا أختاه؟
رحاب: لا شيء، آلام في أسفل البطن، وحركة سريعة للجنين.
فاطمة: لعلّها حالة مخاض؟
صرخت رحاب ألَما، جلست على الأرض مرهقة، العرق يتصبّب من جبينها.
طلبت منها فاطمة أن تتمدّد على الأرض، وضعت تحت رأسها وسادة وهي تقول: توكّلي على الله يا أختاه، لا تخافي، إنّه المخاض، ركضت تستدعي “خالد” وقالت له:
اجلس بجانب زوجتك، امسح عَرقَها المتصبّب على جبينها ورقبتها، وأنا ذاهبة؛ لأستدعي الحاجّة ربيحة داية القرية.
قالت أمّ فاطمة: نسأل الله أن يعينك وييسّر ولادتك يا بنيّتي، ليتني أقوى على مساعدتك.
خالد: الله يعطيك الصّحّة والعافية يا خالة.
صراخ رحاب يتعالى، زوجها يدعو الله سرّا وعلانية بأن يفرّج الكرب، عند باب البيت التقت فاطمة بابنها إبراهيم الذي جاء يسألها عن سبب تأخّرها، طلبت منه أن يركض ليستدعي الحاجّة ربيحة، عادت مسرعة؛ لتساعد رحاب على الولادة، خرج خالد يحوقل، ويدعو الله بالفرج العاجل.
أبو فاطمة يدعو الله هو الآخر أن يسهّل ولادة رحاب، صلّى ركعتين، رفع يديه إلى السّماء وقال:
” يا مسهّل الشّديد ويا مليّن الحديد أخرج هذه المرأة من حلقة الضّيق إلى أوسع الطّريق، بك يُدفع ما يطاق وما لا يُطاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. اللهمّ أرنا من كرمك ورحمتك، وأخرج المولود سالما سليما عافيا متعافيا، لا شرّ فيه ولا ضرّ.”
بعد ساعتين ووسط دعوات أمّ فاطمة والحاجّة ربيحة أنجبت رحاب مولودا ذكرا، لم تجد فاطمة ما تلفّه به بعد أن قطعت سرّته سوى قميص لوالدتها، وقالت:
غدا سآتيه بملابس.
ابتسمت رحاب عندما سمعت الصّرخة الأولى لابنها، وصوت فاطمة يلعلع ضاحكا فرحا:
مبارك…إنّه ولد.
وضعته فاطمة على صدر أمّه، نظرت رحاب إلى استدارة وجهه، تمعنّت بلون عينيه العسليّتين وبشعره الفاحم، ابتسمت ونزلت دموعها، اعتبرت الحاجّة ربيحة وفاطمة دموعها تعبيرا عن الفرح، لم تعلما أنّها تذكّرت ابنها “عليّ” فبينهما شبه كبير.
قالت فاطمة: افرحي يا أختي بهذا المولود الجميل، وإن شاء الله سيتربّى في دياركم في فلسطين، ثمّ سألتها:
لماذا نزلت دموعك يا رحاب؟
– مولودي هذا يشبه خاله “راتب” الذي لا أعرف عنه هو وبقيّة الأحباب شيئا.
الحاجّة ربيحة: “كادت المرأة تلد أخاها أو أباها.”
فاطمة: إن شاء ربنا سيفرجها على الجميع، وسيلتم شمل الشّعب الفلسطينيّ.
تذكّرت رحاب ابنها عليّ، فعضّت على شفتها السّفلى ألما، تمنّت لو أنّ أمّها موجودة بجانبها، وبكت حظّها العاثر.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهي خالد وأبي فاطمة، عندما حملت لهما فاطمة بشرى قدوم المولود الجديد.
التفت أبو فاطمة إلى خالد وقال:
مبارك ابنك يا ولدي، وجعله الله من أبناء السّلامة.
ذهب خالد إلى زوجته، قبّل جبينها وهو يقول:
نحمد الله على سلامتك يا حبيبتي، سنسمّيه “كمال.”
بكت فاطمة وهي تقول: مبارك، وجعله الله من أبناء السّلامة.
لم يفهم خالد ورحاب لماذا بكت فاطمة، التفت كلّ منهما إلى الآخر بنظرات تشي بالتّساؤل عن سبب بكائها، انتبهت لذلك الدّاية الحاجّة ربيحة فقالت لهما:
لا تستغربا بكاءها، فهو بكاء فرح، فكمال هو اسم أبيها الذي أمضى عمره يحلم بأن يرزقه الله ولدا؛ لينجب طفلا يحمل اسم جدّه، وها هو الطّفل يأتي في بيته ويحمل اسمه.
خالد: الحمد لله الذي ألهمني هذا الاسم، فوالله ما كنت أعلم أن كمال هو اسم العمّ أبي فاطمة.
الحاجّة ربيحة: ” صدفة خير من ميعاد” مبارك هذا الولد.
بكى الحاجّ كمال عندما سمع أنّ خالد اختار اسم كمال لابنه وهو يقول: سمّوا ابنكما كما تريدان يا ولدي، ونسأل الله أن يحفظكم وإيّاه. نادى على ابنته فاطمة وقال لها:
غدا صباحا يا بنيّتي اذهبي إلى دمشق، واشتري ملابس للمولود الجديد ولوالدته، واشتري حلويّات وزّعيها على بيوت الحارة جميعها، فهذا المولود أنجبته والدته في بيتي، وحقّه وحقّ والديه عليّ، وأشعر أنّهما أبنائي.
*****
ضاقت الأرض على الفلسطينيّين بما رحبت، فتشتّتوا في بلدان كثيرة، جزء منهم امتطى سفن البحر لا يعلم المكان الذي سترسو فيه، وآخرون اتّجهوا شرقا يبحثون عن ملاذ آمن، في مناطق الجليل الأعلى اتّجهوا شمالا إلى لبنان، والدا رحاب اعتلوا هم وأبناؤهم وآخرون سفينة في ميناء يافا، ألقت بهم في ميناء طرابلس اللبنانيّ. أبو طارق وأسرته هربوا شرقا باتّجاه رام الله.
عليّ بن طارق ورحاب يعيش في كنف الأسرة منبوذا، زوجة أبيه هيفاء لم تلتفت إليه، بل إنّها لم تعتن به مطلقا، منذ اختطافه من حضن والدته المطلّقة، ازدادت كراهيتها له بعد أن أنجبت ابنها البكر، عرّفوه عليها بأنّها والدته، ولا يعرف غير ذلك، فقد سلّموه لها وعمره ستّة أشهر.
لم تعد أمّ طارق تلك المرأة التي تركل الدّنيا بحذائها، فقد خسرت كلّ شيء، حتى مصاغها ألقت به تحت تهديد السّلاح لمسلّحي “الهجاناة” على أطراف مدينة الرّملة. ظهرت كعجوز شمطاء لا شيء فيها يشتهى، جلست في خيمتها على أطراف رام الله الجنوبيّة ذليلة منطوية على نفسها. أبو طارق يقف على عتبات مكاتب وكالة الغوث، ينتظر ما يوزّعونه من طحين، فأحيانا لا يكون في البيت طعام سوى التّمور العراقيّة، التي توزّع مجّانا على اللاجئين. طارق يدور في شوارع رام الله باحثا عن أيّ عمل مهما كان، معاناة الطفل عليّ كانت كبيرة، زوجة أبيه التي أقنعوه أنّها أمّه اعتنت بابنها توفيق، وما عادت تسأل عنه، بل إنّها تضربه أو تصرخ به كلّما اقترب منها. جدّته سعاد ما عادت تسأل حتّى عن نفسها، منذ فقدت أموالها وهي مذهولة، تفكّر بما كانت عليه، وأين رمت بها الأقدار؟ تمضي يومها ببكاء لا ينقطع، وإن جفّت عيناها من الدّموع، إلا أنّ قلبها يبكي أيضا، من يراها ولا يعرفها يحسب أنّها تفتقد فردوسها المفقود، لكنّها حقيقة كانت تبكي أموالها وجواهرها التي خسرتها بسبب سوء تصرّفها، في الليل تغفو قليلا تحت وطأة السّهر والتّعب، ولا تلبث أن تصحو وهي تصرخ مذعورة. ابنتها لمياء كانت تشفق على عليّ، لاحظت مدى الظّلم اللاحق به، أخبرت طارق وأباه عن أوضاعه، لكنّهما لم يفعلا شيئا.
دائرة التّعاسة اكتملت على اللاجئين في فصل الشّتاء، الطبيعة كشّرت عن أنيابها عندما ضمّت أجنحتها؛ لتطلق موجات الرّياح العاتية، مصاحبة لهطول أمطار لم ترحم ساكني الخيام، الرّعد يطلق قذائفه الصّوتيّة المرعبة، يتكوّر ساكنو الخيام على أنفسهم، طلبا لدفء بات الشّعور به بعيدا، أرواحهم ترفرف فوق ديار تركوها مرغمين، صراخ الأطفال ينطلق من الخيام باحثا عن قلوب رحيمة دون جدوى، عليّ لم يجد مأوى له سوى حضن جدّه، الذي ما عاد هو الآخر قادرا على فعل شيء.
بعد عدّة أشهر عمل طارق موظّفا في مكاتب وكالة الغوث في رام الله، تحسّنت أوضاع الأسرة قليلا.
استلمت الأسرة من وكالة الغوث غرفتين من الطّوب تعلوهما ألواح الزّينكو، في الطّرق بين بيوت المخيّم قناة صغيرة تنساب فيها مياه المجاري، البعّوض والحشرات تجوب المنطقة، الذّباب يستطيب العيش على مآقي وأشداق الأطفال، عيادة المخيّم التّابعة لوكالة الغوث يعمل فيها طبيب واحد، تساعده ممرّضة، قليلة هي الأدوية الموجودة في العيادة، نسبة الوفيات بين الأطفال والمسنّين ترتفع بشكل ملحوظ.
أصيب توفيق بن طارق بإسهال شديد وهو في الثّانية من عمره، أعياه المرض، تمنّت والدته لو أنّ المرض أصاب عليّا بدل توفيق، اقترب عليّ من أخيه توفيق باسما، ضربته “والدته” هيفاء وهي تقول:
انصرف من هنا، لو كان فيك خير ما رأيتك.
صاح بها أبو طارق قائلا:
حرام عليك، ما ذنب هذا الطّفل؟
لم تلتفت إليه، كأنّها لم تسمع ما قال.
قالت جدّته سعاد: لو تركناه لأمّه لكان خيرا له ولنا، لكنّ أحدا لا يعلم ما في الغيب.
تجرّأ أبو طارق وقال لها:
أنتِ المسؤول الأوّل والأخير عن كلّ ما جرى لهذا الطفل.
ردّت عليه بفم ملتوٍ يتطاير منه رذاذ البصاق، وصوت كنعيق الغراب:
لو كنتَ رجلا ما كانت أمورنا كما هي عليه الآن.
امتعض من كلامها وقال: لا تزيدي من قاذورات بالوعك، فما مضى لن يتكرّر، وستعرفين حدودك جيّدا.
لم تأخذ كلامه على محمل الجدّ وقالت ساخرة:
“مليح اللي صار للخرا مره ويحلف عليها بالطلاق.”
تنهّد أبو طارق وقال: لا حول ولا قوّة إلا بالله، “ذنب الكلب دايما أعوج.”
التفت عليّ إلى جدّيه غير مدرك لما يسمعه، لكنّه لم يجرؤ على السّؤال.
قالت الجدّة سعاد: صدق من قال: “موت الحمير فرج للكلاب”.
طأطأ أبو طارق رأسه وهو يتمتم: يجب تصحيح الأوضاع، فهذه المرأة دمرّتنا بسطوتها الماليّة، الحمد لله أنّها ما عادت الآن تملك شيئا، وأصبحت ككلب هرم لا يقوى على شيء غير النّباح.
حمل أبو طارق “عليّ” وملابسه القليلة، قصد بيت ابنته لمياء في مخيّم الجلزون شمال رام الله، لم يخبر أحدا بوجهته، حتّى أنّ زوجته سعاد عندما سألته:
أين المسير؟
أجابها غاضبا: إلى جهنّم.
فقالت على مسامعه: إن شاء الله ستُحرق في جهنّم الدّنيا والآخرة.
لم يلتفت إليها، وواصل طريقه وهو يشتمها في سرّه، ويشتم اليوم الذي رآها فيه.
في بيت لمياء رحّب بهما زوجها عدنان، قال أبو طارق بلهجة كئيبة، والدّموع تنساب من عينيه:
اسمحوا لي يا أبنائي أن أعيش أنا وهذا الطفل البائس معكم، فما عادت زوجة أبيه تطيق رؤيته، وجدّته سعاد أصبحت خرِفة بعد أن فقدت كلّ شيء، لم تعد سعاد التي تعرفونها، لم يبق منها سوى لسانها الذي لا يعرف إلا بذيء الكلام، وأنا لم أعد قادرا على فعل شيء.
قال عدنان زوج لمياء: أهلا بك يا عمّ، فالبيت بيتك.
قالت لمياء: أمّي – سامحها الله- لا أعرف ماذا أقول بحقّها، أسأل الله أن يحسن خاتمتها، أنت وعليّ يا أبي في عيوننا، لن أسمح بمزيد من الحرمان والاضطهاد لعليّ، فهذا الطّفل ضحيّة منذ ولادته، وأسأل الله أن يعينني على رعايته.
قال عدنان: إذا طال بنا الزّمان وجار علينا بعدم العودة إلى بيوتنا وأرضنا، سأشتري أرضا خلال الصّيف القادم، سأبني عليها بيتا، سيكون لك ولعليّ فيه نصيب، أرجوكم أن لا يخبر أحد منكم سعاد أو طارق بأنّكما في ضيافتنا؛ كي لا تعرف أمّ طارق وحتّى طارق وزوجته بذلك، فهذه المرأة لا أطيق رؤيتها، مع احترامي لك يا عمّ واحترامي لابنتها زوجتي لمياء.
تنهّدت لمياء ولم تنبس ببنت شفة، فهي تعرف والدتها، وتعرف تصرّفاتها القبيحة، وطول لسانها الذي لا يعرف خطّا أحمر لبذيء الكلام.
قال أبو طارق: بوركت يا بنيّ، من جهتي هذا ما أريده، فما عدت قادرا على احتمال حماقاتها، وطارق إنسان محطّم، دمّرَتْ شخصيّته – مع الأسف- وأنا أسأت تربيته لعدم قدرتي على مواجهة سطوة والدته، التي سلبتني أنا الآخر رجولتي وشهامتي.
انتبه أبو طارق إلى ما قاله عدنان حول نيّته شراء أرض وبناء بيت؛ إن لم تتحقّق العودة إلى الدّيار، تساءل في نفسه عن مصدر الأموال التي سيشتري بها أرضا ويبني بيتا؟ صحيح أنّ والده كان ثريّا، لكن هل استطاع نَقْل أمواله في “الهجيج”؟ وكيف؟ قرّر بينه وبين نفسه أن يسأل ابنته لمياء عندما تسنح له الفرصة ذلك في غياب زوجها، لكن عدنان سأله:
أين تركتم أموالكم يا عمّ؟ لماذا لم تحضروها معكم؟
تنهّد أبو طارق وقال: لم تكن لي أموال يا عدنان، فسعاد هي التي كانت تملك كلّ شيء، حتّى المحلّ التجاريّ كانت تأخذ أرباحه من طارق أوّلا بأوّل، فهي تتحكّم بكلّ شيء، أنفاسنا كانت تعدّها علينا، كانت مولعة بالجواهر والحليّ، عندما خرجنا تحت أزيز الرّصاص، كانت يداها مليئتان بالأساور الذّهبيّة، وعقود الذّهب تتدلّى على صدرها، قلت لها:
الطرق ما عادت آمنة يا سعاد، ولا ندري إلى أين نحن ذاهبون، لا داعي لهذه الجواهر، خبئيها في حقيبة أو وسط قليل من الملابس حتّى لا تظهر للآخرين، التفتت إليّ باستهتار وقالت:
هذا مصاغي وأنا حرّة به.
كظمت غيظي وسكتّ، على الطّرف الشّرقيّ من مدينة الرّملة خرج لنا مقاتلو “الهجاناة” اختاروها من بين النّساء جميعهنّ عندما رأوا الجواهر التي تزيّن جيدها وصدرها، أجبروها على خلع كلّ جواهرها، حتى حلق أذنيها لم يتركوه لها، فتحوا حقيبة متوسّطة الحجم كانت تحملها، كانت مليئة بالجنيهات وبعض القطع الذّهبية، أخذوا كلّ شيء، ركلها أحدهم في مؤخّرتها وهو يقهقه، فمشت ككلب جريح نهشته كلاب ضالّة، وطردونا تحت تهديد السّلاح.
عدنان: ألم تفتحوا حسابا بأحد البنوك؟
أبو طارق: لم تكن سعاد تثق بالبنوك.
عدنان: “ما بُني على باطل فهو باطل” و”المال اللي بتجيبه الرّيح تاخذه الزّوابع.” عندما خرجنا من بيتنا لم يكن معنا سوى سبعة جنيهات، فمدّخراتنا كانت في البنك العربيّ، جزء باسم الوالد وجزء باسمي وجزء باسم أخي الأكبر عامر، ووضعتُ مصاغ لمياء في منديل لففتُه على بطنها. ولهذا فإنّنا نسحب ما نحتاجه من فرع البنك في القدس، وأبي اشترى لنا بيتا واسعا في قلب رام الله، يسكنه هو والوالدة والأخ عامر وأسرته، تحته محلّ تجاريّ يديره عامر، لم أسكن معهم لقناعتي بأنّ العودة إلى الدّيار لن تطول.
يجلس أبو طارق في صالون بيت ابنته لمياء، يستعيد أيّام العزّ في الرّملة وفي مناطق الفردوس المفقود كافّة، يبكي أحيانا بصمت، لا يريد أن يرى دموعه أو يسمع نشيجه أحد، فالرّجل يؤنّبه ضميره على ما أفناه من عمره ذليلا تحت سطوة سعاد، التي أخضعته لشهواتها، لم يعجبها فيه شيء سوى وسامته وفحولته، فهي لم تبحث يوما عن رجل تعيش معه كأيّ زوجين متحابّين، فطموحها محصور في ذَكَرٍ يشبع غرائزها وساديّتها. ومسلكيّاتها هذه انعكست على ابنيها لمياء وطارق بصورة معاكسة، فهما منذ طفولتهما المبكّرة عاشا في كنف عمّتهما آمنة العانس، ولم يعلما سبب عنوستها إلا عندما شبّا في كنفها، علما ذلك من أبيهما بعد وفاتها، فقد تركها خطيبها بسبب زواج أخيها محمّد محمود “أبو طارق” من سعاد، تركها وبرّر ذلك بقوله:
كيف أكون صهرا لشخص تزوّج من غانية كانت زوجا لمدمن وتاجر مخدّرات، تبرّأ أهلها منها، واشترت بمالها هذا النّذل زوجا لها؟
كتمت آمنة لوعتها، وحرمانها من الزّواج بسبب ذنب لا يد لها فيه، كظمت غيظها وقبلت بنصيبها، عاشت في غرفتين ملحقتين ببيت شقيقها محمّد، لم تكن ترى سعاد إلا لماما، حتّى أنّ سعاد عندما كانت تخرج من بيتها بشكل شبه يوميّ، لأسباب لا يعرفها أحد من أهل البيت، كانت ترسل إليها طفليها مع زوجها وهي تقول له بلهجة مستهزئة آمرة:
خذهما عند المزيونة أختك.
شبّت لمياء وطارق في حضن عمّتهما التي لم تخن الأمانة، فربّتهما على الأخلاق الحميدة، شعرا بحنان الأمومة في حضنها، خصوصا وأنّها غرست فيهما حبّ الخير والاستقامة، لكنّهما لم يشعرا يوما بحنان والدتهما سعاد، فقد كانت تتعامل معهما بالأوامر والنّواهي، ولا يعصيان لها أمرا، تماما مثلما هو والدهما. لم تحاول العمّة يوما أن تحرّضهما على والديهما، كانت تقول لهما دائما:
“رضا الوالدين من رضا الله” واسألا الله أن يهديهما.
عندما ماتت العّمة آمنة كانت لمياء في الثّامنة عشرة من عمرها، وطارق في السّادسة عشرة. بكياها بحزن شديد، وشعرا باليتم لفراقها.
تغمر السّعادة عليّا في بيت عمّته لمياء، يحوم حول جدّه الذي كان حريصا أن يبقيه في حضنه، غير أنّ “عليّ” كان يحبّ النّوم مع أبناء عمّته الأطفال، فابنها ماهر في الخامسة من عمره، وابنتها زهرة من جيل عليّ ثلاث سنوات وبضعة أشهر.
أعدّت لمياء القهوة لها ولوالدها، غلت شايا لعليّ الذي كان يحوم حول جدّه في الصّالون، حيث ينام الجدّ والأحفاد، ماهر وزهرة لا يزالان نائمين، سمعت لمياء “عليّ” يسأل:
لماذا تبكي يا سيدي؟
اهتزّ جسدها من سؤال عليّ، أنصتت لكنّها لم تسمع جواب الجدّ الذي حاول اخفاء دموعه، عندما سمع وقع خطوات ابنته لمياء، التي قدّمت له القهوة، وجلست بجانبه بعد أن أمسكت عليّا، أجلسته في حضنها وهي تقول:
اجلس يا حبيبي حتّى تشرب الشّاي.
التفتت إلى أبيها وقالت: لا تقلق على عليّ يا أبي، فأنت وهو في عينيّ.
ردّ عليها: الله يرضى عليك يا بنتي.
عادت تسأل: هل يقلقك شيء يا أبي؟
– لا يوجد ما يريح النّفس يا بنيّتي.
– توكّل على الله يا أبي، و” ما بعد الضّيق إلا الفرج.”
– ربنا يفرجها على خلقه أجمعين.
استيقظ ابنا لمياء، حضّرت افطارا، إبريق شاي، خبزا وزيتا.
أكلوا وحمدوا الله على هذه النّعمة، سمحت للأبناء أن يلعبوا مع أطفال الجيران في الفسحة الضّيقة الواقعة بين البيتين.
التفتت إلى أبيها وقالت:
أراك مهموما أكثر ممّا يجب يا أبي، فهل هناك ما ينغّص عيشك؟ أبناء شعبنا جميعهم يعيشون الآن محنة لا ندري متى ستنتهي، ومع ذلك فهم يتأقلمون مع أوضاعهم الجديدة رغم شظف العيش.
أبو طارق: مأساتي يا لمياء مضاعفة، نكبتي الأولى سببها زواجي من أمّك، فهي لم تكن يوما زوجا صالحة، لكنّ الزّواج “قسمة ونصيب”.
لمياء: والله لا أدري ماذا سأقول لك يا أبي، وعلى كلّ أسأل الله أن يهديها ويحسن خاتمتها. وأن يغفر لنا جميعنا، فلم أشعر يوما أنّها أمّي، ولم أقبل تصرّفاتها منذ وعيت على هذه الدّنيا، وأسأل الله الرّحمة لعمتي آمنة، فقد كانت هي الأمّ والمربّية لي ولأخي طارق. هل تصدّق أنّها لم تذكر يوما والدتي بسوء أمامنا، وكانت تحضّنا دائما على برّ الوالدين وطاعتهما، بينما والدتي لم تذكرها بخير يوما أمامنا.
أبو طارق: رحمها الله شقيقتي آمنة، فقد كانت امرأة عفيفة شريفة فاضلة، وقد جنيت عليها بزواجي من أمّك، وهذا سبب فسخ خطبتها من محمّد أبو الوفا، الذي عارض زواجي من أمّك بشدّة، وليتني سمعت نصيحته.
لمياء: سأبوح لك يا والدي بسرّ خاصّ بي، أرجو أن لا يغضبك.
– تفضّلي يا ابنتي.
– عندما تعرّفت على عدنان قال لي:
اسمعي يا لمياء، لقد أحببتك لشخصك، وسأتزوّجك لخصالك الحميدة التي أعرفها، وأعرف أنّك تربية عمّتك آمنة، وشرطي عليك إن قبلت بي زوجا لك أن تقبلي موقفي من أمّك، فأنا لا أطيق سماع اسمها، وبالتّالي لا أريدها أن تدخل بيتي، ولن أحترمها يوما، سأتركها بحالها، وعليها أن تتركني بحالي، ولن أمنعك من زيارتها وبرّها، لكنّني أحذّرك من مغبّة سماع كلامها، أو التّاثّر بها.
ورغم أنّني خجلت من حديثه بهذه الطّريقة عن أمّي إلا أنّني قبلت شرطه، لعلمي المسبق بسمعة أمّي، ومعرفتي أيضا بأنّها لا تسأل عن ابن أو ابنة أو زوج، فهي لا تسأل إلا عن نفسها، وآلمني جدّا موقفها من رحاب زوجة طارق الأولى، فهي وابنها عليّ ضحايا لمزاجيّة وتقلّبات شخصيّة أمّي، تدخّلت أنا وزوجي عدنان مع طارق، كي يرفض سماع كلامها، وأن يبقي على زوجته وابنه، لكنّه كان نذلا غبيّا بما فيه الكفاية، ولم يكن قادرا على اتّخاذ قرار، أعتقد أنّ الظّلم الذي لحق برحاب وابنها عليّ، وحتّى بطارق نفسه ستكون عواقبه وخيمة على أمّي وعلينا جميعنا.
قطع صراخ زهرة حديثهما عندما دفعها شقيقها ماهر على حائط بيت الجيران، تحسّست رأسها متألّمة، قفزت ميسون ابنة الجيران راكضة على صراخ زهرة، فتاة هيفاء ممشوقة القامة، وجنتاها متورّدتان كتفّاح الشّام، ترتدي ثوبا مطرّزا يشي بأنّها من سَلَمَة قرب يافا، اندفعت بصدر ناهد كصدر فرس أصيلة جموح تستعدّ للسّباق، احتضنت زهرة، قبّلتها، تحسّست رأسها وهي تضحك قائلة:
لا تخافي يا صغيرتي.
أشارت زهرة إلى شقيقها ماهر وقالت:
دفعني ماهر على الحائط.
عادت ميسون تضحك وتقول:
إنّه شقيقك يا صغيرتي، وهو يلعب معك.
عندما وصلت لمياء سألت ابنها ماهر:
لماذا دفعت شقيقتك يا ماهر؟
– لم أدفعها بل هي وقعت لوحدها.
قال عليّ بلهجة غاضبة: بل أنت دفعتها يا ماهر.
ضحكت لمياء وميسون من حديث الأطفال، شكرت لمياءُ ميسون وقالت لها:
شكرا لك يا جارة الرّضا، تفضّلي إلى بيتنا؛ لنحتسي القهوة سويّة.
ابتسمت ميسون وقالت: “يبدو أنّ عمرك أطول من عمري” فقد سبقتني في الكلام لأدعوك لاحتساء القهوة في بيتنا.
قالت لمياء: نشرب القهوة هذه المرّة في بيتنا، وفرصة كي تتعرّفي على أبي فهو موجود عندنا.
دخلتا بيت لمياء وميسون لا تزال تحتضن زهرة، التي صاحت بدورها عند الباب:
أريد أن ألعب مع ماهر وعليّ، فأطلقتها ميسون؛ لتعود ضاحكة لمواصلة اللعب مع شقيقها ومع عليّ ابن خالها طارق.
رحّب أبو طارق بميسون التي صافحته وجلست قبالته، سألها:
من أين أنت يا ابنتي؟
ميسون: من سَلَمَة.
– أنعِم وأكرِم.
– بارك الله بك يا عمّ.
– وزوجك من أين؟ هل هو من سلمة أيضا؟
ابتسمت ميسون بسمة حييّة وقالت:
أنا مخطوبة، عقد قراني مكتوب، ولم أتزوّج بعد، لو لم نتشرّد لتزوّجنا، وخطيبي من حيّ العجمي في يافا.
– لا تؤاخذيني يا ابنتي، حسبتك متزوّجة، أين خطيبك الآن؟
– خطيبي وأسرته بقوا في يافا.
ضرب أبو طارق كفّا على كفّ وقال:
حبّذا لو بقينا في البلاد ومتنا فيها، لكان أفضل لنا من حياة التّعاسة والتّشرّد التي نعيشها.
– إن شاء الله ستنفرج الأمور، وسنعود إلى بيوتنا وأملاكنا.
– كيف عرفتِ أنّهم بقوا في يافا؟
– سمعنا منهم رسالة صوتيّة بثتها هيئة الإذاعة البريطانيّة باللغة العربيّة.
– كان الله في عون شعبنا.
عندما أحضرت لمياء القهوة، قالت لأبيها وهي تشير إلى ميسون:
لو تأجّلت حرب النّكبة أسبوعا يا أبي لكانت ميسون الآن مع زوجها.
– ستُفرج بإذن الله، وستعود المياه إلى مجاريها.
شعرت ميسون بأنّ نكبتها مضاعفة، فهي تعاني من الرّحيل عن الدّيار، وتشتّت الأهل والأحباب، والعوز والفقر، والنّكبة الأخرى أنّها أصبحت قريبة بعيدة عن خطيبها، هما زوجان عِقْد زواجهما مكتوب، كانا يحضّران للزّفاف عندما تمّ التّشريد، عريسها بقي في يافا، وهي الآن في رام الله، تعزلهما حدود من يقترب منها قد يلقى حتفه.
تنهّد أبو طارق وقال: من يرى مصائب النّاس تهون عليه مصيبته.
سألته لمياء: ماذا تقصد يا أبي؟
أبو طارق: ما جرى لشعبنا يشيب من هوله الولدان، فهناك من قُتلوا، وهناك من تركوا أطفالا رضّعا في البيوت، ومن تشرّدوا من بيوتهم بثيابهم، تركوا كلّ شيء خلفهم مرغمين، وهناك أُسر انقسمت قسمين، تفصل بينهما حدود الموت، وما ذنب هذه الفتاة الحسناء لتعيش بعيدة عن زوجها، كأنّها في بلاد أخرى؟
التفت إلى ميسون وسأل:
– كم عمرك يا عمّاه؟
ميسون: 19 عاما.
– كان الله في عونك.
ميسون: كان الله في عون الجميع.
عادت ميسون إلى بيتها، كلام أبي طارق فتح عليها مواجع كانت تتجنّب التّفكير بها، يقتلها الشّوق لزوجها الذي لم يدخل بها، النّكبة دمّرت حياتها الخاصّة، فهي عزباء ومتزوّجة في آن معا، متزوّجة على الورق، في الواقع “لا مطلّقة ولا معلّقة”! بل هي معلّقة في ذمّة رجل لا يراها ولا تراه، بينهما حدود يصعب اختراقها، فهل ستطول هذه القطيعة؟ وما الذي يمنع ناصر أمين من الزّواج بأخرى ما دام زواجه بها لم يتحقّق؟ وربّما لن يتحقّق، هي ترتدي الثّياب المطرّزة، تتزيّن كبقيّة العرائس، فهي ترى نفسها عروسا؟ لكن أين العريس؟ لم تجد إجابات على تساؤلاتها، فقرّرت أن تبتعد عن الزّينة وعن كلّ جميل، حتّى تنجلي الأمور، فالكلّ متخوّفون من غدر الزّمان، صحيح أنّهم يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي هُجّروا منها، لكن المؤشّرات كلّها تشير أنّ هذه العودة لن تتحقّق قريبا.
قبل نهاية الأسبوع عاد عدنان إلى البيت في ساعات الضّحى على غير العادة، طرح السّلام وغذّ الخطى إلى غرفة النّوم بعد أن غمز بعينه لزوجته كي تلحق به، قال لها على استحياء:
البقيّة بحياتك.
ردّت عليه ببرود: ماذا تقصد؟ هل مات أحد؟
– نعم ماتت والدتك تحت حوافر بغل.
– هل تمزح؟
– لا مزاح في الموت يا بنت النّاس.
– وكيف عرفت؟ من قال لك؟
– طارق أخبر أبي وأخي عامر بذلك.
– ومتى كان ذلك؟
– صباح هذا اليوم.
امتقع وجه لمياء، نزلت دموعها وهي تقول:
لا حول ولا قوّة إلّا بالله، تعال نخبر والدي، ودعنا نذهب الآن لحضور الجنازة.
وقف عدنان أمام صهره أبي طارق متظاهرا بالحزن وقال:
أمّ طارق أعطتك عمرها يا عمّ.
لم يصدّق أبو طارق ما سمعته أذناه فقال دون اكتراث:
هذه المرأة يا عمّ مثل القطط بسبع أرواح.
قال عدنان حائرا: يا عمّ أقول لك الصّدق، لقد ماتت أمّ طارق تحت حوافر بغل شموس، كان هاربا من صاحبه واعترضت طريقه فداسها بحوافره.
أبو طارق: الرّحمة لا تجوز عليها.
تدخّلت ابنته لمياء وقالت:
صلّ على النّبيّ، الميّت لا يجوز عليه إلّا الرحمة يا أبي، فدعنا نذهب الآن لحضور جنازتها، لا يمكن أن تترك طارق وحده في هكذا ظروف.
تعوّذ أبو طارق بالله من الشّيطان الرّجيم وقال:
أين ستتركين الأطفال يا لمياء؟
لمياء: سأتركهم عند جارتنا ميسون.
أبو طارق: وهل ستقبل؟
لمياء: النّاس لبعض يا أبي، وميسون امرأة رائعة.
أبو طارق: إذن هيّا بنا.
وجدوا طارق قد أحضر الكفن، تجمّع عدد من النّساء، غسّلن المرحومة، قالت إحدى المسنّات:
حافر البغل داس مؤخّرة جمجمتها وهذا ما قتلها.
جاء عدد من رجالات المنطقة؛ ليأخذوا “عطوة” باسم صاحب البغل من ذوي الفقيدة، الشّرطة اقتادت صاحب البغل للتّحقيق.
قال لهم أبو طارق: “لله ما أعطى وما أخذ” ولا اعتراض على إرادة الله، هذا نصيبها وقدرها، والأمر لا يستحقّ محاسبة إنسان على فعلة بغل، شكرا لكم، ونحن نسامح بأيّ حقوق لنا بهذا الخصوص.
حمد الحضور تسامحه ومروءته وهم يترحّمون على الفقيدة، وقال أحدهم:
” إنّ الله عنده علم السّاعة، وينزّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأيّ أرض تموت، إنّ الله عليم خبير.”
دفنوها في المقبرة القريبة، وعادوا إلى بيوتهم.
قال أحدهم: سبحان الله كيف دارت بها الأيّام، تركت بيتها في مدينة الرّملة؛ لتموت وتدفن هنا في رام الله.
انفضّ النّاس بعد صلاة العشاء، فقال أبو طارق لابنته لمياء ولزوجها عدنان:
هيّا بنا، لا يجوز ترك الأطفال حتّى هذه الوقت.
ردّت عليه لمياء: سنذهب أنا وعدنان، وابق أنت هنا يا أبي لبضعة أيّام.
قال أبو طارق: وعليّ لمن أتركه؟
ردّت لمياء بلهجة حاسمة: عليّ في عينيّ يا أبي، فهو مثل ابني.
ابتسم أبو طارق وقال: سلمت عيناك يا بنيّتي.
أمضى أبو طارق ليلته يستعيد ذكرياته مع زوجته الرّاحلة سعاد، قرّع نفسه كثيرا لأنّه تزوّجها، لعن المال ومن يعبدونه، شعر أنّ رجولته منقوصة منذ قبل الزّواج منها، فغالبيّة أصدقائه انفضوا من حوله بعد زواجه، كدّوا ونجحوا في حياتهم، بنوا أنفسهم بعرق الجبين، على عكسه هو، فمنذ زواجه منها تخلّى عن مروءته وشهامته، وارتضى أن يكون عبدا عندها، لم يجرؤ على إغضابها يوما، ولم تتورّع هي عن إهانته دوما بسبب وبدون سبب، بكى حزنا على نفسه وهو يشكر الله ويحمده على وفاة هذه الزّوجة، كان ممتنّا للبغل ولصاحبه؛ لأنّ البغل داس هذه المرأة بحوافره، واعتبر ذلك قدرا من الله نزل عليها كعقاب إلهي لها في الحياة الدّنيا.
*****
في جرمانا وفّرت فاطمة رعاية فائقة لرحاب، وتعاطف زوجها المختار كثيرا معها، فقال لزوجته فاطمة:
اعتبري هذه المرأة الفلسطينيَة مثل أختك الصّغيرة يا أمّ إبراهيم، لا تبخلي عليها وعلى مولودها بشيء، كان الله في عون إخوتنا الفلسطينيّين، فمأساتهم كبيرة، وهي جزء من مآسينا.
قالت فاطمة: بارك الله بك يا أبا إبراهيم، فوالدي لم يبخل عليها بشيء، وأنا أرعاها تماما مثل أختي كما قلت.
شعرت رحاب بالضّيق، شعرت بأنّها أثقلت على فاطمة وعلى والديها، أرادت أن تخدم نفسها بنفسها، لكنّ فاطمة زجرتها بمودّة وهي تقول لها:
أنت مثل أختي يا رحاب، وأنت كما كلّ النّساء في مرحلة النّفاس، تحتاجين راحة تامّة؛ لتستعيدي عافيتك. أنا سأقوم باحتياجاتك كلّها، وهذا أقلّ واجب تقوم به أخت تجاه أختها.
رحاب: أنا بخير وعافية يا أختي، وأنت عندك التزامات تجاه زوجك وأبنائك وبيتك، ولا أريد أن أتسبّب لك بمشاكل.
ضحكت فاطمة وقالت: زوجي وأبنائي لا ينقصهم شيء، وأنا هنا بمعرفة وموافقة زوجي؛ لأخدم والديّ الهرِمين وأخدمك، بل إنّ زوجي أوصاني بك خيرا، وطلب منّي أن أوفّر لك ولطفلك كلّ ما تحتاجانه.
رحاب: بارك الله بك وبزوجك، وحفظ الله أبناءكما وزاد من نعمه عليكم.
حمدت رحاب الله على وصولها هي وزوجها إلى جرمانا، أكثرت من شكرها لله الذي سخّر لهما هذه الأسرة الطّيبة، التي تعاملت معهما كأبناء وليس كضيوف.
عند ساعات العصر جلست رحاب وفاطمة مع العمّ كمال والد فاطمة تستمع للمذياع، أبو فاطمة مغرم بهيئة الإذاعة البريطانيّة “B.B.C” بالعربيّة، فلا يحرّك مؤشّر المذياع عنها، بعد نشرة أخبار السّاعة الثّالثة بتوقيت غرينتش، بدأوا ببثّ رسائل صوتيّة للاجئين فلسطينيّين في مخيّم البدّاوي شمال مدينة طرابلس، وإذا بهم يسمعون:
“أنا سعد علي ربيع سعد من مدينة يافا، أسأل عن شقيقتي رحاب زوجة خالد عودة، وأطمئنهم عنّا جميعنا، أنا والوالد والوالدة وشقيقي راتب وشقيقتاي مروة وصفاء بخير، نعيش الآن في مخيّم البدّاوي شمال مدينة طرابلس، الرّجاء ممّن يسمع هذه الرّسالة أن يبلّغها للشّقيقة رحاب أو لزوجها، كي نطمئن عليهما، ونعرف أين رست بهما سفن الغربة.”
شهقت رحاب عندما سمعت صوت شقيقها، صرخت بصوت عال دون أن تقصد ذلك، قالت باكية:
“يا حسرة راسك يا رحاب” وسقطت مغشيّا عليها.
قفز أبو فاطمة من فراشه يسأل:
ماذا جرى لهذه المرأة؟
في حين أخذت فاطمة تدلك صدر رحاب وترشّ عليها ماء وتسأل:
ماذا جرى لك يا أختاه؟
عندما أفاقت رحاب من إغمائها كانت تلهث تعبة، تحاملت على نفسها لتعود إلى فراشها داخل غرفتها، ساعدتها فاطمة بذلك، وسألتها:
ماذا جرى لك يا أختاه؟
– أخي يا أمّ إبراهيم.
– ماذا جرى لأخيك؟ أين هو؟
– أخي من تكلّم في المذياع وقال بأنّهم الآن في مخيّم البدّاوي شمال طرابلس في لبنان، يسألون عنّي وعن زوجي، يريدون معرفة ما حلّ بنا، فلا تؤاخذيني يا أختي.
– إن شاء الله ستهون، وسيلتمّ شمل الفلسطينيّين جميعهم. وما عليك إلا الصّبر.
– لا حول ولا قوّة إلا بالله.
حمد أبو فاطمة الله على سلامة رحاب وقال لها:
لا تحزني يا بنيّتي، متى أردت الذّهاب لوالديك نستطيع إيصالك إليهم.
رحاب مكسوفة: ليس لدينا جوازات سفر يا عمّ.
ابتسم أبو فاطمة وقال بلغة الواثق:
هذه بسيطة، نستطيع دخول لبنان بدون جوازات سفر، فسوريّا ولبنان بلد واحد، لن تدخلي لبنان من نقطة المصنع الحدوديّة، بل من خلال قرى حدوديّة أخرى، يدخلها آلاف السوريّين واللبنانيّين يوميّا في كلا الاتّجاهين.
أصغت رحاب لكلام أبي فاطمة باهتمام شديد، ولم تقل شيئا سوى أنّها شكرته.
يخرج خالد من البيت إلى العمل مع شروق الشّمس، يمتطي البغل ويسير إلى أرض أبي فاطمة، يقطف الثّمار، يحرث، يحصد، حسب توجيهات العمّ كمال. عندما يجلس لاحتساء كأس شاي، أو تناول الطّعام يمدّ ناظريه في السّهول الخصبة، حيث الأشجار المثمرة، حقول القمح، مروج الخضار، يسبّح بحمد الله ويستذكر بأنّ فلسطين امتداد لسوريّا، لكنّ شوقه للدّيار يجعله يرى أنّ طعم الفواكه والخضار في فلسطين لها مذاق خاصّ، لا يضاهيه أيّ مذاق آخر، امتداد السّهول التي تمتدّ من جرمانا، تستقبل أشعّة الشّمس الذّهبيّة صباحا، فتنعكس على ما تنبت الأرض، ترسم لوحة تشكيليّة يصعب على فنّان مزج ألوانها مهما كانت قدراته وخبرته، فالطّبيعة هي الأجمل دائما. من بعيد يرى جبال قاسيون، فيتذكّر الجبال التي تحتضن طبريّا من جهات ثلاث، تاركة الجهة الجنوبيّة لترافق نهر الأردنّ عبر الغور إلى البحر الميّت.
عند مساء كلّ يوم يجلس خالد مع العمّ كمال، يستمع لنصائحه وإرشاداته بخصوص العمل اليوميّ، في حين يلحق به العمّ كمال ضحى كلّ يوم ممتطيا حماره، يتفقّد الأرض طولا وعرضا، يجلس تحت شجرة مورقة قريبا من عمل خالد، يغلي خالد إبريق شاي على الحطب، يجلس بجانب العمّ كمال، يحتسي كأسا بصحبته ويقوم لمواصلة عمله، يغفو العمّ كمال وهو يحتسي الشّاي، وأحيانا وهو متّكئ على ساق الشّجرة، يقترب منه خالد، يفرش كيس خيش على أرض مستوية، يضع حجرا أملس بدل الوسادة، ويقول له بصوت منخض:
ما رأيك يا عمّ أن تتمدّد هنا وترتاح.
يردّ العمّ كمال بصوت وقور:
الله يرضى عليك يا ابني، رائحة التّراب تبعث الدّفء في القلب، والنّشوة في الرّوح، وتطيل العمر.
يمدّ خالد يده إليه؛ ليساعده على الوقوف، فيستجيب أحيانا وينهض معه، ويرفض أحيانا أخرى.
منذ اليوم الأوّل لبدء خالد العمل في أرض العمّ كمال، رأى الرّجل جموع اللاجئين في المخيّم الذي أقيم لهم على تخوم قريته جرمانا، كان موسم قطف بعض الثّمار كالبرقوق، الدّراق والتّفّاح، رأى جموع الأطفال من أبناء المخيّم يجوبون القرية بحثا عن طعام يسدّ رمقهم، فاحتار بما يتوجّب عليه فعله، قلبه مع الأطفال، لكن لا حول ولا قوّة له، فهو لا يملك شيئا، غمرته السّعادة عندما سمح العمّ كمال لمن اقترب منهم من أرضه أن يقطف حاجته وحاجة أسرته، قال لهم:
اقطفوا ما شئتم، كلوا ما استطعتم، احملوا من الثّمار لذويكم، لكن لا تلقوا الثّمار على الأرض، لا تتعاركوا، ولا تكسروا أغصان الأشجار.
قال لخالد: المال الذي لا نصيب للمحتاجين فيه يا خالد لا يدوم، وقد جار الزّمان هذا العام على اخوتنا الفلسطينيّين، مساعدتهم حقّ واجب علينا، وثمار هذا الموسم لن تكون للبيع، والحمد لله خير الله كثير.
خالد: شكرا لك يا عمّ.
قال العمّ كمال بهدوء: نصيبك في المحصول بأمان يا خالد.
خالد: لم أعمل شيئا حتّى يكون لي فيه نصيب.
– أنت في ضيافتي، ومثل ابني تماما، ونصيبك محفوظ يا ولدي.
عندما رأى العمّ كمال الأطفال يبتلعون الثّمار بشراهة، بكى حزنا وهو يقول:
إنّهم جياع يا حسرة القلب.
لمّا شبعوا ابتسم، حمد الله، ولعن من كانوا سببا في نكبة الشّعب الفلسطينيّ.
في هذه الأثناء مرّ خمسة شباب يسألون عن عمل. سألهم العمّ أبو كمال:
من أين أنتم يا اخوان؟
– نحن فلسطينيّون يا عمّ.
– أهلا بكم، خذوا حاجتكم من خير الله الموجود في أرضي هذه، وتعالوا للعمل صباح غد، أشار لخالد وقال لهم:
ابني هذا سيريكم غدا ما تفعلون.
شكروه وانصرفوا بعد أن أكلوا وحملوا ما استطاعوا من البرقوق، الدّراق والتّفاح، ثنى كلّ واحد منهم طرف قمبازه، وملأه بالثّمار، باستثناء أحدهم الذي كان يرتدي بنطالا وقميصا، فقد وضع الفاكهة على بطنه، فبدا منظره مضحكا، مازحه أحد زملائه قائلا:
بطنك يشبه بطن المرأة الحامل في شهرها التّاسع، فمتى ستنجب؟
عند المساء نقد العمّ أبو فاطمة خالد مئة ليرة سوريّة وقال له:
هذه جزء من نصيبك في محصول هذا العام يا ولدي، ومن هنا فصاعدا اعتبر نفسك ابني –إن كنت تقبل ذلك-، يعني سنأكل سويّة نفس الطّعام، ها نحن ننام في نفس البيت، وهذه عشر ليرات اشترِ بها أغراضا للبيت، ونادى على ابنته فاطمة وقال لها:
دلّي أخاك خالد من أين يشتري أغراض البيت.
تفاجأ خالد بما سمعه، احتار فيما يفعله، تنحنح وقال:
يشرّفني أن أكون ابنك يا عمّ.
قالها وسكت وهو يتصبّب عرقا من شدّة الحياء، لم يتناول الفلوس إلا بعد إلحاح شديد من العمّ كمال.
عندما اختلى خالد بزوجته رحاب في غرفة النّوم، روى لها ما حصل من العمّ كمال، وروت له ما حصل معها من فاطمة، بعد أن أخبرته عن سماعها لصوت أخيها سعد من محطة B.B.C ، تداولوا فيما بينهما حول طيبة مضيفيهما، وقال خالد:
واضح أنّ العمّ كمال وزوجته وابنته فاطمة وزوجها المختار من خيرة خلق الله، وأنّ حظّ كمال الصّغير هو من ساقنا إلى هذه القرية الطّيّب أهلها، والعمّ كمال ابن أصل وفصل.
فقالت رحاب: أشعر أنّ فاطمة مثل أختي الكبرى، ووالديها – رغم هرمهما- مثل والديّ، وبيني وبينك هما أكثر حنانا من والديّ.
ضحك خالد وقال: بل العمّ كمال وزوجته وابنته أكثر حنانا وطيبة من والديّ ومن والديك.
رحاب: أعتقد أنّه أمضى عمره يحلم بأن يكون له ولد ذكر، لكنّ الله رزقه بفاطمة، وحرمه الذّكور، وهو يعطف علينا لأنّه يرى فيك ابنه الذي لم ينجبه.
خالد: ابنته فاطمة أفضل من عشرة أبناء ذكور، الرجل طيّب المنبت، الرجال معادن، العمّ أبو كمال أغلى من الذّهب، فسمعته الطيّبة على لسان أبناء قريته كلّهم، الرّجل لا يعطف علينا كما تقولين، لكنّه يقوم بواجب يرى نفسه ملزما به، والأهمّ أنّه صادق ومقتنع بما يفعله.
صباح اليوم التّالي حرص العمّ كمال أن يذهب إلى الأرض صحبة خالد بعد صلاة الصّبح مباشرة، في ذهنه أن يرتّب العمّال الجدد الذين سيبدأون عملهم في نفس اليوم، العمّ كمال استعاد دم الشّباب وعنفوانهم، ما أن وصل الأرض حتّى التفّ حوله أكثر من عشرة أشخاص من أبناء المخيّم يبحثون عن عمل، أخذ منهم ستّة أشخاص؛ ليعملوا في أرضه تحت إدارة خالد، واصطحب الآخرين معه؛ ليعملوا في أرض ابن عمّه القريبة.
قال أحدهم: ما أصعب فراق الوطن!
*****
بعض من تشرّدوا من ديارهم لم يستسلموا لما حلّ بهم، بعضهم يتسلّل من أرض اللجوء، يحمل ما خفّ حمله وغلا ثمنه من بيته المهجور، ويعود متسلّلا من حيث أتى، لا يمرّ يوم دون أن تعلن”دار الإذاعة الإسرائيليّة” على لسان ناطق عسكريّ إسرائيليّ، عن مقتل عدد من “المتسلّلين” عبر الحدود اللبنانيّة أو الأردنيّة أو السّوريّة أو المصريّة.
الشّرطة الإسرائيليّة والعسس يجوبون مناطق من تبقّى من الفلسطينيّين في ديارهم بحثا عن متسلّلين، تنشر الرّعب، من يُتّهم بتسهيل عبور أو إيواء متسلّل، حتّى لو كان ابنه أو أباه أو حتّى زوجها، يتعرّض للتّعذيب ويسجن. الحكم العسكريّ مفروض على كلّ قرية أو تجمّع سكّانيّ، بموجبه لا يجوز لأيّ شخص الخروج من مكان سكنه دون تصريح من الحاكم العسكريّ.
من تبقّوا يعيشون حالة رعب لا يمكن وصفها، بعد أن أصبحوا بين ليلة وضحاها أقلّيّة في ديارهم، آلة البطش تحصي أنفاسهم، المذابح التي جرت تشكّل كوابيس تطاردهم حتّى في نومهم.
بعض المتسلّلين الشّباب الذين ضاقت بهم سبل العيش في الغربة، كانوا يتسلّلون إلى “الكيبوتسات” الزّراعيّة” ينهبون ما فيها من بقر وأغنام، يعودون بها حيث يقيمون، يبيعون بعضا ممّا نهبوا بأبخس الأثمان، أو يوزّعونه في مخيّمات اللاجئين الذين يتمرّغون بتراب الفقر والعوز والحرمان. عبور الحدود لم يكن بهذه السّهولة، فهو مراقب من طرفي الحدود، وكثير من المتسلّلين قتلوا بنيران عسكريّة “صديقة”! لكنّ هذا لم يردع من لم يعد لهم شيء يخسرونه، ولم تعد الفوارق كبيرة بين الحياة والموت لديهم.
من كانوا ينجحون في التسلّل سبب نجاحهم هو معرفتهم بالطّرق التّرابيّة بين الجبال الوعرة، والسّهول الخالية، وما كان باستطاعة غرباء على الأرض معرفة خباياها، كما يعرفها من ولدوا وترعرعوا ورووا ترابها بعرقهم.
زياد الفالح الذي كان يعمل بقسم تخليص البضائع في ميناء حيفا، صعد مع من صعدوا إلى سفينة بريطانيّة، عندما تعرّض الميناء إلى هجوم من العصابات الصّهيونيّة بتغطية من القوّات البريطانيّة، ألقت به الأيّام السّوداء في ميناء صيدا اللبنانيّ، ثم انتقل إلى مخيّم الرّشيديّة القريب من رأس النّاقورة، بعد هجرته بخمسة شهور شرع يتسلّل مساء كلّ خميس إلى بيته في عكّا القديمة، حيث ترك زوجته وأطفاله الثلاثة، كبيرهم في الرّابعة من عمره، وصغيرهم تركه وهو لم يكمل شهره الأوّل، لا يعرف بوجوده سوى زوجته، ووالديها وأشقّائها، لم تهاجر زوجته بناء على نصيحة والدها، الذي كان يردّد دائما:
الموت في الدّيار أشرف من حياة الغربة والتّشرّد.
زياد يعرف المنطقة الحدوديّة جيّدا، وإن كان يصعب عليه أحيانا معرفة الحدود التي تصل إليها إسرائيل. لذا فإنّه استعان نهارا بالفلاحين اللبنانيّين في المناطق الحدوديّة أكثر من مرّة لمعرفة المنطقة التي صاروا يطلقون عليها “الحدوديّة”، يجتاز الحدود الجبليّة بثقة متناهيّة، يسمع أحيانا صليات رصاص تنطلق عشوائيّة من بنادق أوتوماتيكيّة، لكنّه اعتاد عليها، أحيانا كان يضحك عندما يسمعها؛ لإيمانه بأنّ الجنود يطلقون الرّصاص؛ ليخرجوا أنفسهم من دائرة الخوف التي يعيشونها، لكنّه يستفيد منها بتحديده لموقع الجنود فيبتعد عنهم، تمنّى مرّات كثيرة لو أنّه يملك سلاحا ليهاجمهم. يجتاز المنطقة الجبليّة التي تكسوها أشجار الغابات، أو الحقول المزروعة بالتّفاح أو اللوزيّات.
لزياد مزاج خاص في اختيار طريقه، فمرّات يختار ساحل البحر ليمشي بمحاذاته، ومرّات أخرى يمشي في البرّ متجاوزا التّجمّعات السّكنيّة، عندما يصل عكّا ينظر سورها وشوارعها الخالية من المارّة، فيبتسم وهو يقول “عكّا لا تخاف هدير البحر”، يتذكّر حملة نابليون التي توقّفت عند كعب عكّا، فيوقن أنّ الليل الذي باتت تعيشه هذه المدينة لا بدّ سينتهي.
عاشت زوجته مريم مع أطفالها برعاية أهلها، حذّروه من عواقب تسلّله، فإن لم يخسر حياته، فسيجلب لهم الويلات إن علموا أنّه كان يصل بيته، ويتستّرون عليه، كان يردّد:
السّاتر والحافظ ربّنا.
لكنّه يحرص دائما أن لا يراه أحد من مواطني عكّا، يتسلّل إلى بيته بخفّة ورشاقة، بعد أن يرصد خلوّ الطّريق من المارّة، يمشي عبر زقاق المدينة برشاقة غزال، يصل البيت، يجلس مع زوجته وأطفاله في العتمة دون ضوء، فلا يريد أن يثير شكوك أحد من الجيران أو المتطفّلين إذا ما رأى صالة البيت مضاءة.
ذات يوم قال صلاح بن زياد الفالح البكر لوليد بن الجيران الذي كان يلعب مع والده في برندة البيت:
البارحة لعبت مع أبي في بيتنا.
ابتسم له أبو وليد وقال له:
إن شاء الله ستنفرج الأوضاع، وسيعود لكم أبوكم يا عمّاه، وستلعب معه، وحتّى يعود أبوك بإمكانك أن تلعب معي.
صلاح: أبي كان في البيت الليلة الماضية ولعبت معه.
كانت أمّ صلاح تجلس مع جارتها أمّ وليد في صالة بيت الأخيرة، استمعتا لما قاله صلاح، فقالت له تتصنّع ابتسامة:
حبيبي صلاح، إن شاء الله سيعود أبوك قريبا يا بنيّ، وستلعب معه مثلما لعبت مع خالك شوقي الليلة الماضية.
فقال صلاح ببراءة الطّفولة:
أنا لعبت مع أبي زياد، وخالي شوقي لم أره.
أمّ صلاح: يا حسرة القلب لم يعد الولد يميّز بين خاله وأبيه.
أمّ وليد: لا حول ولا قوّة إلا بالله، ما حلّ بنا ليس سهلا.
أمسكت أمّ صلاح يد ابنها، عادت به إلى البيت، وهناك سألها ابنها:
ماما أين خالي شوقي؟
– في بيته.
– لِمَ قلتِ أنّه كان عندنا؟
لم تجبه على سؤاله، ضمّته إلى صدرها في محاولة منها أن تسكته:
ماما لماذا أنكرتِ وجود أبي؟
لم تجد ما تجيب ابنها به، فغمرها الحزن ونزلت دموعها غزيرة، مسح طفلها صلاح بظاهر يده دموعها، وسأل:
لماذا تبكين يا أمّي؟
ردّت بنشيج قائلة: ضرسي يؤلمني يا صلاح.
وضع يده على رقبتها وقال:
افتحي فمك يا أمّاه كي أفحص أسنانك.
فتحت فمها وهي تضحك ودموعها تنزل وقالت:
تفضّل يا صلاح افحص فمي.
نظر صلاح في فم أمّه، أدخل سبّابة يده اليمنى في فمها، نقله من ضرس إلى آخر، وقال:
أسنانك بيضاء نظيفة يا أمّي، ولا تسوّس فيها.
سألته مازحة: وكيف تعرف الأسنان المتسوّسة يا صلاح؟
أجاب ضاحكا: الأسنان المتسوّسة تكون سوداء مهترئة مثل أسنان جارنا وليد.
ضحكت أمّه وقالت له: أنت طبيب ماهر يا صلاح، بعد أن مررت بإصبعك على أسناني، شفيت واختفت الأوجاع.
ابتسم صلاح فرحا بما قالته والدته وعاد يسأل:
ماما أين اختفى أبي؟
قبل أن تجيبه سمعت والدها يطرق الباب بعصاه ويقول:
افتحي الباب يا مريم.
سبقها صلاح وفتح الباب لجدّه، احتضنه جدّه، قبّل وجنتيه، أجلسه في حضنه، صافحت أمّ صلاح والدها، قبّلت يده اليمنى، وسألته عن حاله وحال أمّها، لكن صلاح التفت إلى جدّه وقال:
أبي كان الليلة الماضية عندنا يا جدّي.
قبل أن يتكلّم الجدّ، غمزت مريم بعينها لأبيها وقالت:
صلاح يفتقد أباه، قال لجارنا أبي وليد أنّ أباه كان في البيت الليلة الماضية، لم يصدّق أنّ خاله شوقي هو الذي زارنا، ولاعب الأطفال.
قال صلاح بلهجة التّحدّي: خالي شوقي لم يكن عندنا، أبي الذي كان، أجلسني في حضنه، لعب معي حتّى نمت، وعندما استيقظت لم أجده.
أمّ صلاح: كنت تحلم يا بنيّ.
صلاح: لا تكذبي يا أمّي، أبي كان هنا.
جاء جمال شقيق صلاح الذي سيكمل عامه الثّالث بعد شهرين، جلس في حضن والدته وسألها:
ماما أين بابا؟
غضبت مريم من طفليها وقالت:
أستغفر الله العظيم، اسكتوا ما عدت قادرة على الاحتمال.
تنهّد الجدّ وقال: لا حول ولا قوّة إلا بالله، وربنا يفرجها.
بعد أن غفا الأطفال، سألها أبوها:
هل صحيح ما تقوله أمّك يا مريم؟
– ماذا تقول؟
– تقول أنّك حامل!
– نعم صحيح.
تنهّد الوالد، اختلفت ملامح وجهه، ضرب كفّا على كفّ وقال:
يا سواد ليلك يا رشيد الفرحان، ماذا سنقول للنّاس؟
– أنا سأقول بأنّني حملت من زوجي.
– لكنّ زوجك لم يعد موجودا في البلاد، وسيتقوّل المتقوّلون، سيتّهمونك بشرفك يا بنيّتي.
– من يتّهمني بشرفي سأقصّ لسانه.
– وماذا سنقول لأبناء الحرام الذين يبطشون بنا؟
– لا شأن لهم بنا.
– كيف سيكون ذلك وهم يعدّون علينا أنفاسنا؟ سيوجّهون لك تهمة إيواء متسلل إن علموا أنّك حامل من زوجك.
– وقتئذ سيحلّها ربّنا.
– وكيف ستخفين حملك عن النّاس، إذا ما رأوا بطنك ينتفخ فسيظنّون بك الظّنون؟
– لا تحمل همّ ذلك يا أبي، أنا سأتحمّل مسؤوليّة ذلك وحدي، وربّما سيعود اللاجئون قبل أن ألد.
– اللهمّ إنّا نسألك الفرج يا الله، أخشى أن يعملوا كمينا لزياد ويقتلوه، إذا ما عاد مرّة أخرى يا بنيّتي، قولي له أن يوقف التّسلل حتى يفرجها ربنا.
– “المكتوب على الجبين تشوفه العين.”
فكّر رشيد الفرحان قليلا وسأل:
ما رأيك يا ابنتي أن نعمل لك ولأطفالك تصريحا للخروج من عكّا، واللحاق بزوجك، فهذا أسلم لك وله ولنا؟
– بعد أن سمعت من زياد ما يعانيه اللاجئون في الغربة، لن أغادر وأطفالي عكا إلا إلى القبر.
– كلّ الدّلائل تشير يا ابنتي أنّهم يُحكمون مراقبة الحدود ويزرعونها بالألغام، لن يستطيع زياد أو غيره الاستمرار في التّسلل، فإن لم يقتلوه، سيعيش خلف الحدود، وستبقين أنت بلا زوج، لا مطلّقة ولا أرملة، وسيعيش أطفالك كاليتامى.
– توكّل على الله يا أبي،” قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.”
تظاهرت مريم بعدم الاكتراث أمام والدها، لكن حقيقتها عكس ذلك تماما، فقد ازدادت خفقات قلبها، شرعت تتحسّس بطنها، تخشى بروزه مع نموّ جنينها، قرّرت أن تلبس ثوبا فضفاضا يخفي حملها، وأن تتجنّب الخروج من البيت قدر استطاعتها، حتّى مجالسة الجارات لا بدّ من الابتعاد عنها، فالنّساء ينتبهن للنّساء أكثر من الرّجال؟ هم ينظرون لوجوه النّساء وقاماتهنّ، لا ينتبهون للمرأة إن كانت حاملا أم لا، ينظرون جمالهنّ ومفاتنهنّ وهذا ما يعنيهم، لكنّ المرأة تتفحصّ جسد الأخرى، تنظر لبطنها ومدى انتفاخه، تعرف المرأة الحامل من النّظرة الأولى.
ابتسمت مريم رغم ثقل همومها عندما تذكّرت يوما كانت تمشي فيه مع والدتها على شاطئ بحر عكا، مرّ فوج صبايا عائدات من المدرسة بمراييلهنّ المعهودة، قالت واحدة من النّساء اللواتي كنّ يراقبن انكسار الموج عند ارتطامه بصخور الشّاطئ:
أستغفرك يا ربّي، اقترب يوم القيامة.
ضحكت زميلاتها وسألتها إحداهن ساخرة:
كيف عرفت ذلك يا أمّ عمر؟
أجابتها وهي تشير إلى إحدى الطالبات:
أخاف الله أنّ تلك الصّبيّة حامل!
انتفضت إحداهنّ غاضبة وقالت:
اتّقي الله يا أمّ عمر، لا يجوز لك أن تنهشي أعراض النّاس، فهذه طالبة مدرسة.
أمّ عمر: أراهن أنّها حامل رغم كونها طالبة مدرسة.
عندها لم تجد مريم مناصا من مناداة البنت المعنيّة باسمها قائلة:
– نوال، تعالي قليلا.
اقتربت منها نوال باسمة، عانقتها ضاحكة وسألتها:
كيفك؟ يبدو أنّك حامل؟
ابتسمت نوال وأجابت: نعم أنا حامل في شهري الرّابع.
التفتت مريم إلى النّساء وقالت:
يا أمّ عمر، القيامة لم تقم، أنت لم تخطئي بكلامك، هذه نوال بنت الحاجّ كامل فرحان زوجة الأستاذ غانم السّعدي، هي حامل في شهرها الرّابع، ولا تزال طالبة في المدرسة.
ضحكت بقيّة النّساء وقلن وهنّ يلتفتن إلى الحاجّة أمّ عمر:
يبدو أنّك طبيبة يا أمّ عمر.
قالت أمّ عمر بلهجة الواثقة من معلوماتها لهنّ:
هل يعقل بعد خمسة وثلاثين عاما من الزّواج، وانجاب تسعة بطون أن لا أعرف المرأة الحامل من غيرها؟
ضحكت إحداهنّ وقالت: يا عمّي” اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب.”
ودّعت مريمُ نوالَ وهي تقول لها:
بلّغي سلامي لوالدتك، وحافظي على جنينك.
ضحكت نوال وغادرت رافعة يدها تودّعهنّ.
تذكّرت مريم حملها وبعد زياد عنها فقالت:
ما أصعب الفراق!
*****
بعد عام من اللجوء في المخيّمات، بقيت قلوب غالبيّة اللاجئين معلّقة بديارهم، جزء بسيط منهم أدرك حجم المؤامرة التي استهدفت اقتلاعهم لإحلال آخرين مكانهم، البعض استسلم لقدره، ولم يعد قادرا على تفسير ما يجري.
الصّدمة كانت كبيرة على ميسون عندما جاءها من يطلب يدها، كانت تجلس مع جارتها لمياء ووالدها أبي طارق في بيتهم بمخيّم الجلزون، عندما سمعوا صوتا جهوريّا يقول:
يا ساتر.
ركضت لمياء تفتح الباب وتقول:
أهلا بكم.
كانا رجلين ملتحيين في السّتينات من عمرهما، يرتدي كلّ منهما الملابس التقليديّة “سروال طويل، قمباز، عباءة، ويعتمر كوفيّة وعقالا”، سألها أحدهما:
أين بيت عمر عطالله يا عمّي؟
أشارت لهما لمياء إلى البيت المجاور، بينما قفزت ميسون تتقدّمهم، سبقتهم إلى البيت وقالت لوالديها:
جاءنا ضيوف.
أسرعت والدتها تغطّي شعرها، استند والدها، وضع كوفيّته وعقاله على رأسه، وقف لاستقبال الضّيوف وهو يقول:
افتحي لهم الباب يا ميسون، أهلا بكم تفضّلوا يا وجوه الخير.
دخل الرّجلان، صافحا صاحب البيت وجلسا.
التفت أحدهم إلى المضيف وقال:
مسّاك الله بالخير يا أبو..و..و… ما اسم المحروس؟
– إسماعيل.
– عاشت الأسماء…محسوبك الحاجّ خليل الحمدان “أبو رفعت”، وزميلي ناجي الحلو”أبو عبدالله” من بيتونيا.
– أهلا وسهلا بكما.
أحضرت أمّ إسماعيل ثلاثة فناجين قهوة، وضعتها أمامهم وهي ترحّب بهم، وعادت إلى الغرفة الأخرى، قال لهما أبو إسماعيل:
تفضّلا اشربا قهوتكما.
تناول كلّ واحد منهما فنجانا، وضعه أمامه، قال أبو رفعت:
قبل أن نشرب القهوة لدينا عندكم طلب.
أبو إسماعيل: حيّاكم الله، طلبكم مجاب إن كنت أقدر على تحقيقه.
أبو رفعت: طلبنا بسيط، وتحقيقه سهل جدّا.
استند أبو إسماعيل وأصغى بانتباه بعد أن قال:
تفضّل قل ما طلبكم.
أبو رفعت: أخوك أبو عبدالله، رجل من خيرة الرّجال، توفيّت زوجته قبل أسبوعين -الله يرحمها- وأبناؤه الثّلاثة، وبناته الخمس كلّهم متزّوجون، والرّجل بقي في البيت لوحده مثل “سعدان الجباليّة”، وخير الله كثير، الرّجل ربنا أنعم عليه، ومثلما تعرف، لا يستطيع الرّجل أن يبقى بدون زوجة. وسمعنا من أجاويد -مثل حضرتك- أنّ لديك ابنة اسمها ميسون، وإن شاء الله ستكون من نصيب أخي أبي عبدالله بعد إذن حضرتك.
سمعت ميسون ووالدتها من الغرفة الثّانية ما قاله الرّجل، شهقت ميسون من هول المفاجأة، التفتت إلى والدتها وقالت:
اللهمّ إنّني أسألك الصّبر.
في حين قال أبو إسماعيل بصوت رزين:
بنتي ميسون متزوّجة من شخص اسمه ناصر أمين، وعقدهما مكتوب، وإن شاء الله سنزفّهما عندما تنفرج الأمور.
أبو رفعت: نعرف ذلك، والأمور لن تنفرج، لن يعود لاجئ إلى بيته، إسرائيل دولة قويّة، وتقف وراءها دول عظمى.
أبو إسماعيل: قلت لكم إنّ البنت متزوّجة.
أبو رفعت: سمعنا ما قلته، ولدينا حلّ له، تذهب أنت وابنتك للقاضي الشّرعيّ، وترفع البنت دعوى طلاق، بحجّة غياب الزّوج الذي لم يدخل بها لمدّة زادت على العام، وهو مجهول مكان الإقامة الآن، ستحصل على طلاق، ولن يكون عليها عدّة المطلّقة؛ لأنّ العريس لم يدخل بها، وسيتكفّل أخي أبو عبدالله بكلّ المصاريف.
أبو إسماعيل: وحّدوا الله يا اخوان، كيف ستطلّقون امرأة من زوجها؟ ومن قال لكم أنّ البنت تريد خلْع زوجها؟
أبو عبدالله: ألم تفهم يا رجل ما شرحه لك أبو رفعت؟
قبل أن يفتح أبو إسماعيل فمه للكلام، خرجت عليهم ميسون، وقالت:
انتهى الكلام، اشربا قهوتكما وانصرفا، من شكا لكما أنّني أريد الزّواج أصلا، حتّى تأتيني برجل خَرِف، لا تضطرّاني لنداء شباب المخيّم ليطردوكما.
سأل أبو عبدالله: عن أيّ رجل خَرِف تتكلّم هذه المرأة؟
خلعت ميسون حذاءها ورفعته مهدّدة:
لا يوجد خَرِف غيرك، انصرف ومن معك قبل أن أضربك بهذا الحذاء.
خرج الرّجلان غاضبين يهدّدان ويتوعّدان، شتائم ميسون تطاردهما كرصاص سلاح أوتوماتيكي، عند خروجهما اصطدما بعدنان زوج لمياء عائدا من عمله، فسألهما:
ما الأمر يا رجال؟
لم يجيبا وانصرفا على غير هدى.
عادت ميسون إلى فراشها الفقير، تمدّدت ووجهها إلى الحائط بعد أن تدثّرت ببطّانيّة من توزيعات وكالة الغوث في المخيّمات، بكت دموعا ساخنة وهي تستعيد ذكرياتها في سَلَمَة، عندما خطبها ناصر أمين اليافاويّ، رأته جميلا كشاطئ يافا، بشرته برونزيّة لامعة كقرميد سطوح المدينة، عضلاته مفتولة كأنّه بطل في ساحة النّزال، حييّ كما العذارى، رأت فيه رجال الكرة الأرضيّة جميعهم. عندما كانت تسير بجانبه على شاطئ يافا ترى نفسها ملكة الكون، وتراه امبراطور قلبها.
كادت تختنق بدموعها وهي تتذكّر ذلك المسنّ الخرف الذي جاءها خاطبا هذا اليوم، تساءلت عمّا حلّ بها وبشعبها، ألا يكفي ما حصل؟ ألا يكفي أنّنا انتقلنا من سكن القصور إلى سكن الخيام وأكواخ الطّوب، التي لا تحمي ساكنيها من برد أو حرّ؟ من جاءنا بهذا العجوز المعتوه خاطبا؟ وهل يتعامل المرضى النّفسانيّون معنا بعد اللجوء كسبايا؟
التفتت إلى والدتها التي تجلس بحانبها مواسية وسألت:
ما الذي أتى بهذا العجوز الغبيّ ليأتينا خاطبا؟ من أين يعرفنا؟ من الذي أبلغه اسمي واسم أبي؟ من قال له بأنّ خطيبي بقي في يافا، وأنّ عقد زواجي مكتوب؟ وكيف عرف مكان سكننا في المخيّم؟
قالت أمّ إسماعيل التي تبكي صامتة بجانب ابنتها:
– والله لا أعرف شيئا يا ابنتي.
– لا بدّ أن يكون واحدا من أبناء المخيّم، ويسكن قربنا، لأنّ أبناء المنطقة لا يعرفوننا ولا نعرفهم، وحتّى لا نعرف إلا أعدادا قليلة من أبناء المخّيّم.
– الله أعلم يا بنيّتي.
– فكّري معي؛ لنعرف هذا اللعين.
قالت أمّ إسماعيل لابنتها ميسون بكلمات دامعة:
الله يرضى عليك يا ميسون، اتركي هذه الوسواس، وانسي الموضوع، فالله خلق البنات؛ ليكبرن ويطلبهنّ الرّجال ويتزوّجوهنّ.
– لكنّني متزوّجة يا أمّي، صحيح أن لا تواصل بيني وبين زوجي، لكنّني لا أزال على ذمّته، و”خطّاب” اليوم يكبرون أبي عمرا ويعرفون ذلك، كما اتّضح من كلامهم.
– هداك الله يا ابنتي، لقد انصرفوا في حال سبيلهم، و”الزّواج قسمة ونصيب.”
– هذا شيخ هرم قليل حياء، يريد أن يشتري فتاة بماله، لتكون خادمة له، تحت غطاء الزّوجيّة بعد وفاة زوجته.
طلب أبو إسماعيل من ابنته ميسون أن تغلي له فنجان قهوة، جلست بجانب أبيها بناء على طلبه، بينما جلست والدتها قبالتهما، رشف أبو إسماعيل رشفة من فنجان القهوة كأنّه يتذوّقها، التفت إلى ميسون وقال بصوت هادئ:
استمعت لكلامك أنت وأمّك وقلبي يتمزّق ألما، لكن “ما باليد حيلة” لا تقلقي يا ابنتي، ولا تحسبي حسابا لأحد، هناك أناس قليلو حياء ومروءة، يريدون استغلال مأساة اللاجئين بطرق مختلفة، ومنها الزّواج من بنات اللاجئين كما تيسّر، ومع الأسف هناك من زوّجوا بناتهم تحت ظروف الفاقة والحرمان؛ لأنّهم لم يستطيعوا إعالتهنّ.
ميسون غاضبة مزمجرة: لو كنت أعلم أنّهم يقصدون ما قلته يا أبي، لحملت عصا غليظة، وانهلت بها على رأس عريس الغفلة، الذي جاءنا اليوم طالبا حتّى أدميه.
– يا بنيّتي لم نأت هنا لتربية النّاس، سنعيش بهدوء حتّى نعود لبلادنا.
جاء عدنان وزوجته لمياء يستطلعان الأمر بعد أن سمعا صراخ ميسون، قال عدنان:
لو عرفت الموضوع لبصقت على وجهيهما عندما صادفتهما باب البيت.
أبو إسماعيل: الله يرضى عليك يا عدنان، لا شأن لنا بهما، انصرفا وانتهى الأمر.
عدنان: كيف يجرؤ عجوز على طلب يد فتاة متزوّجة، ومن جيل حفيداته؟ هل يطمعون ببناتنا وأعراضنا؛ لأنّنا أصبحنا لاجئين؟
أبو إسماعيل: طلب وصرفناه، وانتهى. “لا تعملوا من الحبّة قبّة.”
عدنان: بسيطة…إن عادا مرّة أخرى سأعرف كيف أتعامل معهما.
أرادت لمياء أن تجامل ميسون فقالت:
ميسون ستّ البنات، جمال وأخلاق وما شاء الله عليها، كلّ الشّباب يتمنّونها.
التفت زوجها عدنان إليها وقال:
دعيك من هذا الكلام يا لمياء، ميسون متزوّجة، وإن شاء الله ستنفرج الأمور، وستزفّ لعريسها الذي أحبّها وأحبّته.
ابتسمت ميسون فرحة عندما سمعت كلام عدنان، بينما قالت والدتها:
الله يرضى عليك يا ابني، وربنا يسمع كلامك.
لمياء: والله ميسون تستحقّ الخير كلّه، ربنا يسعدها ويحقّق لها أمانيها كلّها.
*****
بقي أبو طارق وحفيده عليّ في بيت ابنته لمياء وزوجها عدنان، لمياء أعطت رعاية خاصّة لعليّ، اعتنت به كما تعتني بأبنائها، ممّا جعل “عليّ” لا يفتقد والديه مطلقا.
طارق من جانب آخر لم يسأل عن أبيه، ولا عن ابنه عليّ، يذهب إلى عمله في وكالة الغوث في ساعات الصّباح، يعود بعد العصر بقليل، عندما يقبض راتبه آخر كلّ شهر يسلّمه لزوجته ويقول لها:
تدبّري شؤون البيت كما تريدين، حاولي توفير شيء قدر استطاعتك؛ كي نشتري أرضا، ونبني بيتا إذا طالت بنا الغربة.
فتردّ عليه بعنجهيّة ولهجة شامتة: الله يرحم أيّام العزّ، يوم كانت أمّك تدوس الدّنانير بحذائها، كنت أنت وأبوك تؤدّيان التّحيّة لها.
يسألها باستغراب: ما الدّاعي لهذا الكلام؟
فتردّ ساخرة: سبحان مغيّر الأحوال، أريد أن أسألك:
لماذا لا تسأل عن أبيك، وعن المسخوط عليّ؟
– ماذا تريدين منهما؟ ألا يكفيك ما كنت تعملينه بعليّ؟
– أيوه، هذا ما كان ينقصني؟ ماذا كنت أعمل بعليّ؟ كلّ النّساء يحببن أبناءهنّ أكثر من أبناء الغير، وشكرا للمياء التي أراحتنا من رعايته.
– بل الشّكر لعدنان زوج لمياء الذي سمح لأبي ولعليّ أن يقيما في بيته؛ لترعاهما زوجته.
– لا تنس أنّ زوجته لمياء تعتني بأبيها وبابن شقيقها، صحيح أنّني لا أريد أن أرى”عليّ”، لكن مِمَّ أبوك غاضب؟ لِمَ لا يعود للعيش معنا، وحتّى متى سيتحمّله عدنان؟
– أبي لا يريد أن يترك “عليّ” وحده.
– عليّ ليس وحده، فهو برعاية عمّته لمياء.
– قصدي أنّ أباك رجل في أواخر عمره، وإذا مات في بيت عدنان، سيتقوّل النّاس علينا، ولن يجدوا لنا مبرّرا.
– شوقي لأبي ولعليّ كبير جدّا، فما أصعب الفراق!
*****
عاشت رحاب في جرمانا معزّزة مكرّمة، ترسّخت لديها قناعة بأنّ العمّ كمال وزوجته يعاملانها هي وزوجها كما يعاملان ابنتهما فاطمة، وبالتّالي فإنّها كانت تقوم بأعمال البيت بطيبة خاطر، لم يسمحا لها بالعمل في الأرض كما كانت تخطّط هي وزوجها، سألهما العمّ كمال ذات مساء بوجود ابنته فاطمة وزوجها المختار “أبو إبراهيم”:
من الذي سيعتني بطفلكما إذا ذهبتما كلاكما للعمل؟
رحاب: أتركه عند أختي فاطمة أمّ إبراهيم.
ابتسم العمّ كمال وقال:
أختك فاطمة لديها زوجها وأبناؤها وبيتها.
خالد: ستبقين في البيت، تعتنين بابنك وبالعمّ “أبو فاطمة” وزوجته.
أبو فاطمة: الله يرضى عليك يا خالد، إذا احتجت لمساعدة فالعمال كثيرون.
تُرضع رحاب ابنها كمال، وقلبها معلّق بابنها عليّ، الكلمات المكتومة في صدرها عن عليّ تحرق كبدها الملتاع، تتعمّد عدم الكلام عن عليّ في محاولة منها للهروب من قلبها، الذي يختزن حبّا وشوقا له، وللهروب من ذكرى حياة الذّل التي عاشتها في بيت طارق ووالديه، لا تريد أن تتذكّر بؤس تلك المرحلة، ولا تريد أن تتكلّم عنها كي لا تجرح مشاعر زوجها الثّاني خالد الذي ملأ قلبها حبّا، وأنجبت منه طفلها كمال الذي يملأ بيت أبي فاطمة في قرية جرمانا السّوريّة حركة وحيويّة، عندما يحبو تجاه العمّ كمال الذي حمل اسمه، يبتسم له العمّ ويشير إليه كي يتقدّم نحوه قائلا:
تعال يا ولدي الحبيب.
يضحك كمال الصّغير ضحكة عذبة كخرير مياه جدول صغير، يبتسم للعمّ كمال ويقول له: بابا.
يردّ العمّ أبو كمال: نعم يا روح سيده.
كمال الصّغير يخاطب الرّجال كلّهم بكلمة بابا، والنّساء كلّهنّ بكلمة ماما، هو لا يرى نساء كثيرات، يرى والدته، وفاطمة ووالدتها، يطيب له أن يقترب من أمّ فاطمة التي لا تغادر فراشها إلا عند الضّرورة، يحبو إليها، يهبشها بيده وهو يردّد ماما…ماما، تفرح بقدومه، تجمع قواها، تتناوله بإحدى يديها، تضعه في حضنها وتقول له:
أهلا تيتا
فيعود ويقول لها وهو يرفع يده على وجهها: ماما.
تبتسم له تقبّل وجنتيه وتقول: ماما كما تريد يا كمال، وربنا يحفظ لك أمّك.
عندما بلغ كمال الصّغير عاما من عمره، كان يمشي متكئا على الحائط، وعند الضّرورة يترك الحائط ويحبو بسرعة؛ ليصل إلى ما يريده.
ذات يوم تركت رحاب طفلها كمال في رعاية فاطمة، ذهبت لتوصل خالد طعام الغداء حيث يعمل في الأرض، في الطّريق تعرّض لها شابّان، غنّى أحدهما قاصدا إيّاها:
يا ظريف الطول يا ابو الميجانا
يا ابو عيون السّود شو بحبّك أنا
لم تلفت إليهما، وواصلت طريقها، لحقا بها، تعمّد أحدهما لكزها بخاصرتها وهو يقول:
تؤبريني “تقبريني” شو حلوة.
وضعت صينيّة الطّعام التي كانت تحملها على رأسها فوق السّلسة الحجريّة المجاورة، تناولت حجرا من السّلسلة، قذفته باتّجاه رأسه وهي تقول غاضبة:
إن شاء الله نقبرك أنت وأمّك التي لم تعرف كيف تربّيك يا سافل.
أصاب الحجر رأسه، سقط الشّاب على الأرض مغشيّا عليه، دماؤه تنزف على صدره، حملت صينيّة الطّعام، عادت إلى البيت كالبركان الثّائر، أخبرت العمّ كمال وابنته فاطمة بما حصل معها، فقالت فاطمة خائفة:
يا ويلي، مصيبة إذا مات.
ابتسم العمّ كمال وقال: لا تخافي يا أمّ كمال، لا ردّه الله، الآن سأذهب وسأرى ما حلّ به، وقال لفاطمة: اذهبي وقولي لزوجك كي يأتيني هنا.
قالت رحاب عابسة الوجه:
أنا حامل في شهري الثّالث، وأشعر بألم في أسفل بطني.
قال العمّ كمال: خذيها يا فاطمة الآن إلى عيادة وكالة الغوث في المخيّم، وإذا كان هناك ضرورة لنقلها إلى المستشفى سننقلها.
سأبعث الآن أحد الصّبية لينادي المختار، وليحضر خالد من الأرض.
في طريقه إلى بيت العمّ كمال، رأى أبو إبراهيم مختار القرية وهو على ظهر فرسه بضعة شباب مسلّحين بالعصيّ والسّكانين يتجمّعون ويتهامسون، فسألهم:
ما الأمر يا شباب؟
ردّ أحدهم: سنضرب خالد الفلسطينيّ الذي يعمل في أرض العمّ “أبو فاطمة” ضربا مبرحا.
المختار: يا ساتر! ما السّبب؟
أجاب أحدهم: زوجته طبشت رأس عصام أبو فاشوش.
– لولا أنّه عمل ما يستحق طبشه لما طبشته، فهي سيّدة عاقلة، عودوا إلى بيوتكم وأنا سأحلّ المشكلة.
– لن نعود، قالوا للمختار، وساروا باتّجاه الأرض حيث يعمل خالد.
– لكز المختار حصانه ولحق بهم، وصل مكان عمل خالد قبلهم.
نادى “خالد” قائلا: تعال يا خالد.
جاء خالد يحمل في يده مجرفة يعمل بها، قبل أن يسمع شيئا من المختار هجم عليه شابّان ولكماه بقبضتيهما، ضرب كلّ واحد منهما بعصا المجرفة على كتفه وهو يسأل:
ماذا جرى لكما؟ هل جننتما؟
بينما انهال المختار عليهما بكرباج الفرس، فولّيا هاربين.
في بيت العمّ كمال استمع خالد والمختار لما حدث كما روته رحاب، ارتجف جسده غضبا، ونزلت من عينيه الدّموع.
سأله المختار: ما بك يا خالد؟ لماذا أنت غاضب؟ زوجتك قامت بالواجب وأنت أكملت عليهم، وأنا عرفت الشّابّ الذي تحرّش برحاب، وعقابه عليّ، سأجعله عبرة لأبناء القرية كلّهم.
قال خالد: أبكي من الذلّ الذي لحق بنا، ليتنا متنا في ديارنا وما خرجنا منها، والآن أستأذنكم كي ألحق برحاب لأرى ما بها.
في هذه الأثناء عادت فاطمة إلى البيت وقالت:
سينقلون رحاب بسيّارة الإسعاف إلى المستشفى في دمشق، وينتظرون موافقة زوجها.
انطلق خالد كالسّهم إلى عيادة الوكالة في المخيّم، رافق زوجته إلى المستشفى، هناك أعطت إفادة للطّبيب بأنّ شابّا دفعها من خاصرتها، حضر شرطيّ إلى المستشفى، استمع لأقوالها، وفي المخفر أرسل الضّابط المسؤول شرطيّين للبحث عن الشّابّ المعتدي واقتياده للتّحقيق.
فحص طبيب مختصّ رحاب، وقال:
ضعوها تحت المراقبة لمدّة ساعتين، لا شيء عندها يتعلّق بالحمل، إنّها تعاني من صدمة خفيفة، ستزول بسرعة.
في جرمانا قال المختار للشّرطة أنّه يتعهّد بحلّ المشكلة من جذورها، وأن لا داعي لتدخّلهم.
جمع العمّ كمال في بيته وجاهات القرية باستثناء عائلة الفاشوش، قال لهم بحضور أبناء عائلته بمن فيهم المختار أبو إبراهيم وقال:
اعتداء ابن الفاشوش على خالد الفلسطينيّ في أرضي، والاعتداء على زوجته وهما يعيشان في بيتي، اعتداء عليّ وعلى عرضي، ولا يمكن السّكوت عليه.
انتفض أبناء عائلته وقال أحدهم:
من يستطيع المسّ بك يا عمّ لم يولد بعد، نحن رهن إشارة منك، فقط اطلب ونحن ننفّذ.
قال المختار أبو إبراهيم: وحدّوا الله يا إخوان، أنا أتكفّل بحلّ المشكلة، وحقّ الفلسطينيّ سيصله في بيتك مضاعفا يا عمّ كمال.
عاد خالد وزوجته رحاب إلى البيت مهمومين، استقلا سيّارة أجرة من باب المستشفى إلى باب البيت، فوجئا بالرّجال الذين يتجمّعون حول بيت العمّ كمال، ذهبت رحاب إلى الغرفة العلويّة حيث تجلس فاطمة ووالدتها وكمال الصّغير معهما.
وجّه المختار أبو إبراهيم حديثه لخالد:
طمئنّا عن زوجتك يا “أبو كمال”.
– الحمد لله، الطّبيب كتب لها دواء، وأوصاها بالرّاحة.
هنا جاء حامد الفاشوش وخمسة من وجهاء عائلته، جلسوا في صدر البيت كما هي العادة في استقبال الضّيوف، قال حامد:
جئنا لنخبركم أنّ الفلسطينيّة التي في بيتك يا أبا فاطمة طبشت رأس ابني عصام؟
المختار: ماذا قال لك المحروس عصام؟
– قال أنّه كان يمشي في الطّريق، وتنحنح بطريقة عفويّة، فانهالت عليه بالحجارة، ولم يردّ عليها لأنّها امرأة.
– وهل قال لك ابنك الثّاني أنّه هجم وأربعة من أبناء عمومته على خالد الفلسطينيّ الذي يعمل في أرض العمّ “أبو فاطمة”؟
– نعم قالوا أنّهم ذهبوا إليه؛ ليؤدّبوه؛ لأنّه لم يؤدّب زوجته.
نظر خالد إلى وجه “أبو عصام” ومن معه، تفحّصهم جيّدا، وقف لينصرف، لكنّ المختار أقسم عليه أن يجلس.
خالد: لا أستطيع أن أسمع هكذا حماقات.
غضب أبو عصام وقال: من هذا الولد؟ وماذا يقصد بالحماقات؟
قال العمّ كمال: هذا ابني، وهو ليس ولدا، ويعرف ما يقول، ومعه الحقّ فيما قال، لا تتطاول على أحد في بيتي يا “أبو عصام”. يكفي ما فعله ابنك وأبناء اخوتك.
التفت المختار إلى العمّ كمال وقال:
لا تغضب يا عمّ، يبدو أنّ الرّجل لا يعرف حقيقة ما جرى، سنسرده له الآن، وبعدها سيعرف ما يتوجّب عليه.
استمع أبو عصام من المختار لما جرى حقيقة، فقام أبو عصام وقال:
أنا جاهز لتقبيل رأس العمّ كمال، ورأسك يا مختار، ورأس الفلسطينيّ، وجاهز لما تطلبونه حتّى ترضوا، وابني وأبناء اخوتي نعرف كيف سنربّيهم، فنحن لا نسمح بالاعتداء على أعراض النّاس ولا على أموالهم.
المختار: ستدفع الآن أجرة المستشفى وثمن دواء الفلسطينيّة، وأجرة السّيارة التي أقلّتهم من دمشق حتّى هنا.
كم ليرة المطلوب؟
المختار: 30 ليرة.
أخرج أبو عصام المبلغ من جيبه، يبدو أنّه لا يوجد معه غيرها، وقال:
هذا الولد عصام خرّب بيتي، سيكون حسابه عسيرا.
المختار: ما تبقى من حقوق سنجلس بشأنها غدا؛ لنتداول في الموضوع، تشاور أنت مع جماعتك؛ لتروا ما يترتّب عليكم جزاء حماقات أبنائكم.
أمضت رحاب ليلتها مهمومة قلقة، قالت لنفسها أنّها لم ترتكب خطأ حتى يحصل معها ما حصل، سألت فاطمة:
هل أخطأت يا أمّ إبراهيم عندما رجمت ذلك الشّاب الطّائش بالحجارة؟
– لا لم تخطئي، ولا تفكّري كثيرا بالموضوع.
– لكنّني تسبّبت بمشكلة في البلدة.
– لماذا تقرّعين نفسك بهذه الطّريقة؟ أنت لست السّبب، الدّفاع عن النّفس ليس سببا في المشاكل.
– لو كنت أعلم بأنّ العمّ كمال سيقلق بهذه الطّريقة، لتحمّلت جهل ذلك الشّاب الأحمق، وما رجمته بالحجارة، وللأمانة ما قصدت رأسه بالحجر، فقط كنت أريده أن يخاف ويبتعد عن طريقي.
– لا تلومي نفسك، فالوالد معتاد على المشاكل التي تحصل في البلدة.
بعد أن انصرف وجهاء عائلة الفاشوش، وبقيّة الرّجال من بيت العمّ كمال، لم يبق إلا المختار “أبو إبراهيم” سأل العمُّ كمال خالدَ:
اطلب ما يرضيك يا خالد، وما جرى معك ومع زوجتك اعتداء عليّ قبل أن يكون اعتداء عليك.
قال خالد على استحياء: أشكرك يا عمّ، وأشكر المختار خاصّة وجميع رجالكما، أنا لا أريد شيئا، وأعتذر أنّني وزوجتي تسبّبنا لكم بإزعاج لم نقصده، بل فرض علينا.
العمّ كمال: بالعكس يا ولدي أنتما لستما سببا، وهذه طبيعة الحياة.
المختار: بوركت يا خالد، لكن ما حصل يجب أن لا يمرّ دون عقاب.
خالد: شكرا لكما، لكنّني أقول بأنّني غريب عن هذه القرية، و”الغريب دائما أديب” ولا أريد أن أكون سببا في خسارة أحد، ما جرى سيردع ذلك الشّابّ الطّائش وسيردع غيره، وهذا يكفيني.
العمّ كمال: الفلسطينيّون ليسوا غرباء عندنا، فنحن شعب واحد، قبل المصائب التي جلبها لنا الانجليز والفرنسيّون كنّا نجوب فلسطين، نبيع فيها، نشتري منها، ننام فيها، ولا يسألنا أحد. اخواننا الفلسطينيّون أيضا كانوا يأتون بلادنا ويغادرونها معزّزين مكرّمين، ستنتهي زوبعة تشريد الشّعب الفلسطينيّ، وسيعود اللاجئون إلى ديارهم، وأنت يا خالد وزوجتك في بيتي مثل أبنائي، وآمل أن تتقبّلا ذلك.
خالد: شكرا لكم يا عمّ والله ما رأينا منكم إلا كلّ خير، وأستأذن منكما الآن.
بعد أن غادر خالد المجلس قال المختار للعمّ كمال:
خالد شابّ رائع وشجاع، تصوّر أنّه دافع عن نفسه بعصا المجرفة عندما هجم عليه أبناء الفاشوش، ولم يتعمّد الضّرب على رؤوسهم، وفي تقديري أنّهم لو تغلّبوا عليه لما هاب ضربهم بحديد المجرفة.
العمّ كمال: نعم، أعرف أنّه رجل شهم معطاء، كريم النّفس وفيّ.
في ساعات صباح اليوم التّالي، بعد صلاة الفجر مباشرة، مرّت امرأة من أمام بيت العمّ كمال، حيث كان يتمشّى في ساحة البيت، طرحت تحيّة الصّباح وسألت:
أين خالد يا عمّ.
– ماذا تريدين منه؟
– أنا قريبته.
سمع خالد ما قالت فخرج من غرفته وقال:
أنا خالد. ماذا تريدين يا أختي؟
– أنا فليحة محمود العيسى ابنة بلدتك، أعيش في المخيّم قريبا منكم.
– أهلا بك، ما حاجتك؟
– قصّتي طويلة، هل يمكنك سماعها أنت وهذا الرّجل الطّيّب.
رحّب بها هو والعمّ كمال الذي قال لها:
تفضّلي يا بنتي.
جلست معهم في غرفة العمّ كمال، بدأت تسرد قصّتها، جاءت رحاب بقهوة الصّباح، وجلست معهم، قالت فليحة:
أنا فليحة محمود العيسى، ابنة حطّين قريتك يا خالد، إن لم تعرفني فبالتّأكيد فإنّك تعرف أبي وإخواني.
خالد: أهلا بك يا أختي، نعم أعرف أباك وإخوتك.
واصلت فليحة حديثها قائلة: ربّما تعرف زوجي حمدان سميح العلي.
– نعم أعرفه.
– تزوّجنا قبل ثماني سنوات، وعندنا ولدان وبنت.
– ربنا يحفظهم لكما.
– منذ خروجنا من البلاد، وهو يضربني دون سبب، وكأنّني أنا المسؤولة عن ضياع البلاد، قبل أسبوع طلّقني بالثّلاث، جرّني من شعري إلى خارج البيت، أقسم أغلظ الأيمان بأنّه سيقتلني إن دخلت البيت ثانية، تدخّل الجيران وحاولوا اصلاح ذات البين، لكنّه رفض بشدّة، وكما تعرف فإنّني لا أعرف أين رمت الأقدار أبي وأمّي وإخواني، لم أجد من يحميني أو يؤويني في بيته، أشفق عليّ طبيب في عيادة الوكالة في المخيّم، سمح لي بالنّوم في عيادة الوكالة. في ساعات الدّوام أقوم بتنظيف العيادة، دون مقابل، ويطعمني الطّبيب والممرّض ممّا يأكلان، يوم أمس عندما لحقتَ بزوجتك في العيادة، عرفتُك وقلت لنفسي، لا ملجأ لي غير خالد فهو ابن بلدتي “وما بحنّ ع العود إلا قشره” وسألت عنك فأشار لي الممرّض أنّك تسكن في هذا البيت، وتعمل عند رجل سوريّ طيّب.
بكى العمّ كمال وهو يسمع قصّتها، قال لها:
أهلا بك يا ابنتي، اعتبريني مثل أبيك، واعتبري خالد وزوجته أخويك، بامكانك أن تبقي معنا حتّى يفرجها ربنا عليك وعلينا، لكن لديّ سؤال لك.
– تفضّل يا عمّ.
– إذا استطعت اقناع زوجك بالصّلح معك، هل تقبلين العودة إليه؟
– لقد طلّقني يا عمّ، ولم يقبل وساطة الجيران.
العمّ كمال: إن كانت مشكلته بسبب ضيق اليد، وعدم وجود عمل له، فخير الله كثير يا بنيّتي، سنعطيه عملا مع خالد في أرضنا، وطلاق الاغلاق باطل، وإذا ما وافقت أنت وهو على الصّلح، فسنستفتي القاضي الشّرعي في المحكمة الشّرعية في دمشق.
فليحة تقول باكية: منذ تشرّدنا من ديارنا أصبحت الحياة معه جحيما يا عمّاه، أبنائي هم من كسروا رقبتي، وجعلوني أتحمّله.
خالد: أهلا بك يا أختي، بإمكانك البقاء مع زوجتي رحاب، والعمّ كمال، وأنا ذاهب لعملي.
العمّ كمال: رتّب العمّال يا خالد، وقل لهم ما يجب عليهم إنجازه، وعد إلينا؛ لتذهب معي؛ لنرى زوج هذه المرأة، لعلّ الله يصلح ما بينهما.
عند ساعات الضّحى امتطى العمّ كمال حماره، اتّجه بصحبة خالد إلى المخيّم، عند بيت خالد لم يجدا مكانا يربطان الحمار فيه، فالبيوت متراصّة، الطرقات ضيّقة تنساب فيها مياه المجاري، أنزل خالد العمّ كمال، وعاد بالحمار إلى البيت، رجع مسرعا، فوجد حمدان العلي قد فتح الباب للعمّ كمال، صافحه وجلس بجانب العمّ كمال، الأطفال يصرخون جوعا، وشوقا لوالدتهم، أبوهم يصرخ بهم ليسكتهم.
قال خالد لحمدان:
هذا العمّ كمال من وجاهات جرمانا، ومن رجالاتها الخيّرين.
حمدان: أهلا به وبك.
العمّ كمال: جئت أنا وابن قريتك خالد لإصلاح ذات البين بينك وبين زوجتك.
– لم تعد لي علاقة بها، فقد طلّقتها وارتحت منها.
– اتّق الله يا رجل، فكلّ زوجين يتخاصمان، والطّلاق أبغض الحلال عند الله. وطلاق الغضب باطل لا يقع.
– إن كان طلاق الغضب باطلا، فأنا أقولها أمامكم وأنا راض تماما أنّ فليحة بنت محمود العيسى طالق…طالق…طالق.
خالد غاضبا: اخجل يا رجل، عيب أن تقول هذا الكلام السّخيف بوجودنا.
حمدان: احترم نفسك يا خالد، زوجتي وأنا حرّ بها، لقد طلّقتها.
العمّ كمال: صلّ على النّبيّ يا حمدان، “لكلّ داء دواء”، قل لنا ما مشكلتك معها، وبإذن الله سنجد لها حلّا.
حمدان: لا مشكلة لي معها، لم أعد أرغب بها أو بغيرها، والله الذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق.
خالد: راجع نفسك يا حمدان، فلا أحد يعلم مكان أهلها، فأين سترمي بها يا رجل؟
حمدان: لا ردّها الله، فلتذهب إلى جهنّم.
العمّ كمال: إن كانت مشكلتك ماليّة، أو ضاقت بك السّبل، ولم تجد عملا، فهذه قضيّة اعتبرها محلولة.
حمدان: لا أريد مالا ولا عملا.
العمّ كمال: ليهديك الله يا بنيّ، فكّر قليلا قبل أن تخرّب بيتك بيديك.
حمدان: فكّرت كثيرا وانتهى الأمر.
فكّر العمّ كمال بورقة ضغط عليه، كي يتراجع عن طلاق زوجته، فقال له:
إن طلّقتها ستأخذ الأطفال منك، وستحرمك من رؤيتهم.
حمدان يضحك ساخرا ويقول: لا ردّهم الله ولا ردّها.
نظر العمّ كمال إلى وجه خالد وقال:
يبدو أن لا حلول مع هذا الرّجل.
صمتوا قليلا، بعدها قال العمّ كمال لحمدان:
هل ستعطينا الأطفال لأمّهم بالحسنى أم أنّك تريد أن تأخذهم الشّرطة بالقوّة.
حمدان خذوا الأولاد وما شئتم واتركوني.
العمّ كمال: بيتي هناك، إذا عاد عقلك إليك، زوجتك وأبناؤك عندي.
طلب خالد من الأطفال أن يخرجوا معهما، كبيرهم في السّابعة من عمره، وصغيرهم عمره سنتان حمله خالد.
خرج الأطفال معهما حفاة وأشباه عراة.
بعد أن ابتعدوا عن بيت حمدان قال العمّ كمال:
مسكين هذا الرّجل، يبدو أنّه فقد عقله، فما جرى له ولشعبه ليس هيّنا.
خالد: الله يعينه.
العمّ كمال: هل له أقارب في المخيّم يا خالد؟
– حسب معرفتي لا يوجد له أقارب هنا.
– سنرعى زوجته وأطفاله، وحقّه عليك يا خالد، ما رأيك أن تأخذه لطبيب أمراض نفسيّة؟
– لا أعرف أطبّاء هنا، ولا أعرف دمشق.
– سأطلب من المختار “أبو إبراهيم” أن يأخذه، فقط عرّفه عليه يا خالد.
عندما رأت فليحة أطفالها مع العمّ كمال وخالد، ركضت إليهم فرحة ملهوفة، مع أنّها أمضت يومها منذ الصّباح باكية، تناولت ابنها الصّغير من حضن خالد، دعت للعمّ كمال ولخالد بالتوّفيق والنّجاح.
نادى العمّ كمال ابنته فاطمة، قال لها:
هؤلاء الأطفال جائعون، أطعموهم بسرعة، جهّزي لهم ولوالدتهم أحد المخازن؛ ليناموا فيها، واشتري لهم ملابس وأحذية.
أطفال فليحة وحمدان يعيشون حالة رعب يشعر بها من يرونهم دون عناء، وهم يعانون جوعا يبدو أنّه مزمن، بكت رحاب والعمّ كمال وخالد عندما رأوهم يأكلون بشراهة، كأنّهم في حلبة سباق، قالت والدتهم وهي تبكي: يا حسرة قلبي عليهم يبدو أنّهم لم يأكلوا شيئا منذ تركتهم. سألت ابنها البكر عبد المجيد على مسمع رحاب وفاطمة:
ماذا أكلتم اليوم يا ولدي؟
– لم نأكل شيئا.
– وماذا أكلتم البارحة؟
– أكلنا العدس المجروش الذي وزّعته وكالة الغوث؟
– من طبخه لكم؟
– لا أحد، أكلناه دون طبخ.
– أين كان أبوكم؟
– كان في الغرفة الثّانية يبكي ويصرخ وحده.
– هل رآكم وأنتم تأكلون العدس دون طبخ؟
– لا أعتقد.
– وماذا أكل أخوك الصّغير حسين؟
– أطلّت جارتنا مديحة على صراخه من النّافذة، ناولته لها بناء على طلبها، أطعمته، حمّمته وأعادته من النّافذة.
– أين كان أبوك عندما أخذته؟
– أغلق الباب علينا بالمفتاح وخرج، وعندما كان يخرج كانت الجارة مديحة ترمي لنا رغيفي خبز من النّافذة.
قالت فاطمة لفليحة بعد أن سمعت حديث الطفل:
يبدو أنّ زوجك مريض يا أمّ العبد.
– أنا كنت أشكّ بسلامته العقليّة، فقد قلب حياتنا جحيما، لكنّني لا أستطيع عمل شيء له، فأنا غريبة في هذا المخيّم ولا أعرف أحدا.
تنهّدت رحاب وقالت:
سمعت العمّ كمال -حفظه الله- يقول لخالد بأنّه سيطلب من المختار “أبو إبراهيم” أن يأخذا حمدان لطبيب أمراض نفسيّة في دمشق.
قالت فليحة: حسبي الله ونعم الوكيل، “العين بصيرة واليد قصيرة” تشتّتنا ولم نعد نعرف ما نعمله.
سألتها فاطمة: أين استقرّ أهلك يا فليحة؟
– والله لا أعلم عنهم شيئا، ولا أعلم إن كانوا أحياء أو أمواتا.
– رحاب: الله ينتقم ممّن تسبّبوا بنكبتنا.
في اليوم التّالي ذهب المختار أبو إبراهيم برفقة خالد؛ ليأخذا حمدان إلى طبيب أمراض نفسيّة، بحثا عنه فلم يجداه، سألا عنه الجيران ولم يسمعا جوابا يفيدهما، قال صبيّ لا يتجاوز العاشرة من عمره، أنّه رآه مساء الأمس يركض خارجا من المخيّم من جهة الشّرق.
بعد يومين ضجّت القرية صباح يوم على صراخ امرأة تعمل في أرضها، كانت تصرخ وتقول:
رجل ميّت معلّق على شجرة.
هرع الأهالي إلى المكان، فوجدوا رجلا مشنوقا على شجرة.
قال أحدهم بعد أن نظر للجثمان:
إنّه ليس من أبناء القرية.
عندما وصل خالد، نزلت الدّموع من عينيه وهو يقول:
لا حول ولا قوّة إلا بالله، هذا حمدان سميح العلي من المخيّم.
قطعوا الحبل عن رقبته، حملوه وعادوا به إلى عيادة المخيّم. حضر قائد المخفر، استجوب المرأة التي رأته للمرّة الأولى، استمع لشهادة خالد وسأل:
أين زوجته؟ يجب احضارها للتّحقيق.
قال خالد: زوجته وأطفاله في بيت العمّ كمال، الرّجل لم يحتمل الضّغوطات جراء النّكبة والتّشرّد، ويبدو أنّه انتحر.
عاين الطبيب الجثمان وقال:
مؤكّد أنّها عمليّة انتحار، فلا يوجد على الجثمان أيّة آثار للعنف.
جاء المختار أبو إبراهيم والعمّ كمال، قال المختار:
إكرام الميّت دفنه.
فقال العمّ كمال: اذهبوا يا شباب واحفروا قبرا له، أعطى ابن أخيه ليرتين ليشتري له كفنا.
عندما علمت فليحة بالخبر، ذهلت، نزلت دموعها، لطمت وجهها وقالت:
الله يرحمه، رزق أطفاله على الله الذي لا ينسى من فضله أحدا.
نامت فليحة ليلتها تحتضن أطفالها وتبكي، فنكبتها أصبحت نكبات، لا زوج، لا أهل، لا مصدر رزق، وثلاثة أطفال لا حول لهم ولا قوّة. تذكّرت أيّام العزّ التي قضتها مع حمدان في الدّيار، خصوصا عندما حملت بإبنها البكر عبد المجيد، فعندما أنجبته احتفى بها وبالمولود، بعد أسبوع دعا أبناء البلدة لحضور حفل ختان المولود، أقام سهرات امتدّت ثلاثة أيّام، نحر في كلّ ليلة منها عجلا، وزّع الحلوى على أطفال القرية جميعهم. يوم الختان أحضر الحلاق من طبريّا؛ ليختن الولد في البيت، تحدّثت حطّين كلّها عن حفل ختان عبد المجيد، تذكّرت البيت الذي سكنوه في حطين، فلطمت وجهها بكفّيها وصرخت تسأل:
أين كنّا؟ وأين أصبحنا؟
قفز خالد من فراشه على صراخها، تلحق به زوجته رحاب، نظر الغرفة التي تنام فيها فليحة وأطفالها، وجداها معتمة لا نور فيها، بسمل خالد وحوقل، طلب من زوجته أن تسأل فليحة إن كان الصّراخ منها أم من مصدر آخر.
فتحت فليحة الباب عندما سمعت صوتيهما، كانت تبكي نشيجا، تكاد تختنق بدموعها، سألتها رحاب:
ما بك يا أختاه؟
أجابت بكلمات متقطعة تخنقها الدّموع:
لِمَ قتل حمدان نفسه؟ حمدان لا يستحق ما جرى له، من سيعيل أطفاله؟
خالد: توكّلي على الله، فالرّزق على الله، ولن تحتاجي شيئا يا أختي.
حمدان لم يحتمل ما جرى في النّكبة، فطار عقله، واختار الموت على حياة الذّلّ والفقر.
فليحة: يا سواد ليلنا، ما أصعب الفراق!
*********
بقي علي ربيع سعد وزوجته وداد وأبناؤهما في مناطق الايواء التي وضعهم فيها الدّرك اللبناني، يأكلون هم وبقيّة اللاجئين ممّا تقدّمه لهم وكالة غوث اللاجئين، وبعض الجمعيّات الخيريّة المحلّيّة والأجنبيّة، والتّمور التي قدّمها العراق لتجمّعات اللاجئين دون مقابل، لم يسمحوا لهم بالخروج للعمل ولا حتّى للنّزهة، وضعوهم في مكان إيواء أشبه ما يكون بمعسكرات الاعتقال.
جاء الفرج عام 1949 من قبل جمعيّات الصّليب الأحمر، عندما أقامت مخيّما للاجئين في نهر البارد، بالقرب من ميناء طرابلس، على بعد 16 كم من طرابلس، بالقرب من الطّريق السّاحلي.
الانتقال من معسكرات الايواء إلى المخيّمات شكّل متنفّسا معقولا للاجئين، رغم معاناتهم التي لا يمكن حصرها.
حصل علي إبراهيم سعد وأسرته على غرفتين على شكل زاوية في مخيّم نهر البارد، مسقوفتين بألواح الزّينكو، بجانبهما مرحاض كما البقيّة يقذف ما يدخله من فضلات إلى الطّريق المجاورة، الذي لا يتجاوز عرضها مترين، يميل إلى الوسط ليشكّل قناة تمرّ فيها مياه الأمطار والمياه السّائبة. استوطن البعوض، الذّباب، الفئران، الجرذان، الأفاعي والحشرات الضّارة في المخيّم.
قالت أمّ سعد لزوجها عليّ:
يبدو أنّ الأوضاع ستنفرج علينا بانتقالنا إلى هذا المخيّم يا أبا سعد.
ردّ عليها وكأنّ كابوسا يحبس أنفاسه:
بناء المخيّمات مخيف.
– كيف يا أبا سعد، لقد شارفنا على الهلاك في الخيام؟
– بناء المخيّمات تعني أنّ العودة إلى الدّيار باتت بعيدة.
– لا بديل عن العودة، فرائحة بحر يافا تبعث الدّفء في القلوب.
– الأمر ليس بيدي ولا بيدك، فنحن لم نعد نملك من أمرنا شيئا، ليتنا نعرف أين حطّت الرّحال بابنتنا رحاب، ويبدو أنّ هذه أمنية بعيدة المنال.
تساقطت دموع أمّ سعد دون رغبة منها وقالت:
يا حسرتي عليك يا رحاب، كتبت عليك التّعاسة من بداية حياتك، عندما زوّجناك لطارق بن قليلة الشّرف والأصل، والله أعلم ماذا جرى لطفلك عليّ يا لوعة قلبي؟
أبو سعد: عندما جاء مراسل راديو لندن لتسجيل رسائل اللاجئين، سجّل سعد رسالة بصوته يسأل فيها عن مكان رحاب، والله أعلم إن سمعتها أو سمعها من يعرفها وبلّغها بها، لكن من أين لهم مذياع كي يسمعوا رسائل أو غيرها؟
أمّ سعد: إن بقيت رحاب وزوجها على قيد الحياة، فربّما هربا مع من هربوا إلى سوريّا، فالحدود السّوريّة ليست بعيدة عن مكان سكنهم في حطّين.
مدّت يديها إلى السّماء ودعت الله قائلة:
ربنا يطمئننا عنك وعن زوجك وابنك يا حبيبتي رحاب، “جبل على جبل ما بلتقي، وانسان ع انسان بلتقي.”
التفتت أمّ سعد إلى زوجها وقالت:
رحاب كانت حاملا يا عليّ.
– ربنا يحميها ويعوّضها عن ابنها الأوّل، لعلّها تنساه.
– لا يوجد امرأة تنسى ضناها يا أبا سعد.
– إن شاء الله رحمة ربنا تنسى طارق وأمّه وأباه.
– لا تخف، ربنا يمهل ولا يمهل.
– المهم الآن أن نطمئن عن رحاب.
حاول أبو سعد وولداه سعد وراتب البحث عن عمل دون جدوى، اشترى سعد قطف موز وصندوق برتقال، فتح “بسطة” عند مدخل المخيّم، علّه يربح بضعة قروش، لكنّ ساكني المخيّم لا يملكون فلوسا يشترون بها، فعدل عن الفكرة في اليوم التّالي.
قال أبو سعد: نحن عائلة كتب الله لنا رزقنا في البحر، فالبحر يحوي كنوزا وخيرات لا يعرفها كثيرون.
سألت أمّ سعد: وهل تقبلنا بحار غير بحر يافا؟
أبو سعد: البحار لا آخر لها يا وداد.
سأل أبو سعد عن صائدي السّمك في طرابلس حتّى اهتدى إليهم، اقترب من واحد منهم يبدو ذا مهابة، رجل طويل القامة، مفتول العضلات، يبرم شاربيه كمنقار صقر، يرتدي سروالا أسود اللون وقميصا أبيض، يقف أمام الآخرين كضابط يخاطب جنوده، طرح أبو سعد التّحيّة وقال:
يا إخوان، أنا صيّاد سمك في بحر يافا قبل أن يجور علينا الزّمان، وأبحث الآن عن صيّاد ماهر؛ لأعمل مساعدا له.
التفت إليه الصّياد المهيب وسأله:
– ما اسمك يا رجل؟
– علي ربيع سعد.
– كم عمرك؟
– اثنان وخمسون عاما.
– كم عاما مارست صيد السّمك؟
– منذ طفولتي.
– هل تعرف قيادة قوارب الصّيد؟
– نعم، بل وكنت أصنعها.
– هل تجيد العوم والتّجذيف؟
ضحك أبو سعد وسأل: وهل هناك صيّادو سمك لا يجيدون العوم والتّجذيف؟
– إذن اذهب إلى ذلك المقهى، اشرب شايا وانتظرني قليلا.
في المقهى القريب أشار أبو سعد للرّجل المهيب، سأل صاحب المقهى:
من ذلك الرجل؟ وماذا يعمل؟
– ذاك الرّجل هو كارلوس طنّوس، رئيس الصّيادين كلّهم، فهو يملك أسطولا من قوارب الصّيد، وصاحب أكبر محلّ لبيع السّمك في طرابلس.
– لماذا تسأل عنه؟
– طلب منّي أن أنتظره هنا؛ ليعطيني عملا.
– ما عليك الرّجل جدّيّ وإذا قال فعل.
بعد حوالي نصف ساعة، جاء كارلوس طنّوس إلى المقهى، رحّب به صاحب المقهى قائلا:
أهلا “أبو اسكندر”.
جلس أبو اسكندر على الطاولة التي يجلس عليها أبو سعد، طلب من النّادل أن يأتيه بفنجاني قهوة، وفطورا لاثنين، قال لأبي سعد:
أهلا بك يا أخي بعد القهوة والفطور سنتكلّم.
– شكرا لك.
بعد أن تناولا الفطور سأل أبو اسكندر أبا سعد:
قلت أنّك صيّاد سمك وتجيد صناعة قوارب الصّيد، أليس كذلك؟
– نعم هذه صنعة ورثتها أبا عن جدّ.
– هل ألقيت نظرة على قوارب الصّيد عندنا؟
– نعم، رأيتها من نفس المكان الذي وقفت فيه أثناء حديثي معك قبل قليل.
– ما رأيك بها؟
– لا أستطيع أن أعطي رأيي بها قبل أن أجرّبها وأن أراها عن قرب.
– لك ذلك، أسئلتي لك هي من أجل أن نستفيد من خبرتك في صناعة القوارب إن كنت تجيدها.
– صناعة القوارب بالنّسبة لي سهلة جدّا، إذا أحضرت لي الأخشاب والموادّ المطلوبة؛ سأصنع لك قاربا يتميّز عن كلّ القوارب التي رأيتها.
– إذا هيّا بنا.
– إلى أين؟
– لدينا مشغل لصنع القوارب، ليس بعيدا من هنا، تعال معي؛ لتراه، وبعدها سأسمع رأيك واقتراحاتك.
استقلا سيّارة كارلوس طنّوس، مشغل القوارب ليس بعيدا من ميناء الصّيّادين.
هناك تجوّل أبو سعد في المشغل، تفحّص بعض الأخشاب والموادّ التي تستعمل في صناعة القوارب، تفحّص قاربا في مرحلة التّشطيبات النّهائيّة وقال لأبي اسكندر.
– مشغلكم جيّد، بقليل من الموادّ الاضافيّة ستصنعون قوارب أكثر جودة من الموجودة.
أبو اسكندر: إن كنت تستطيع صناعة قوارب أفضل جودة، سأحضر لك الأخشاب والموادّ التي تطلبها.
طلب أبو سعد ورقة، كتب عليها موادّ جديدة، ناولها لكارلوس طنّوس وقال:
– إذا توفّرت هذه الموادّ سترى ماذا أستطيع فعله.
أبو اسكندر: سأحضرها هذا اليوم، وبامكانك مباشرة العمل غدا.
– حسن، لكن، لي طلب عندك.
– تفضّل.
– أنا لا أستطيع الابتعاد عن البحر، منذ تشريدنا من يافا لم أشاهد البحر إلا هذا اليوم، هل ستتاح لي الفرصة للمشاركة في رحلات الصّيد، ومصارعة أمواج البحر؟
– لك ذلك، لكن دعنا نبدأ بصناعة القوارب أوّلا.
– سنباشر من يوم غد، لي ابنان أحدهما في الثّامنة عشرة، والثّاني في السّادسة عشرة، هل يوجد لديك عمل لهما.
– أحضرهما معك صباح غد، سيعملان معك هنا في مشغل القوارب، وقد يشاركان في صيد السّمك، إن كانا يرغبان بذلك.
صباح اليوم التّالي طرح أبو سعد وابناه تحيّة الصّباح على العاملين في صناعة القوارب، استبدلوا ملابسهم بملابس البحر، قفزوا فيه، غاب أبو سعد تحت الماء حتّى ظنّ البعض أنّه غرق.
عندما وصل أبو اسكندر سأل عن “أبو سعد” وولديه، فأخبروه أنّهم في البحر منذ ما يزيد على ساعة، لمّا عادوا سألهم:
أين كنتم يا أبا سعد؟
– كنّا نشحن أجسامنا بالقوّة التي ستعطي مردودها عملا متميّزا.
– كيف تشحنون أجسادكم؟
– يا أبا اسكندر، لا مدن تعرف البحر أكثر من يافا التي تنام في حضنه، فيغسل قدميها، ويطيّب هواءها مع عبق البرتقال والليمون، حتّى سمك بحر يافا يختلف عن بقيّة السّمك في البحار الأخرى.
أبو اسكندر مازحا: وهل أهل يافا يختلفون عن بقيّة البشر؟
– نعم، فهم عشّاق للبحر، والبحر يعشقهم أيضا، فإذا ما اعتلى أحدهم قارب صيد، فإنّ البحر يسوق له أطيب أنواع السّمك، يجمعها ويعود بسرعة.
أبو اسكندر: ما يهمّني هو العمل، أمّا عشقكم للبحر فهذا شأنكم، لقد أحضرت لك كلّ ما طلبته، وسأرى ماذا ستصنع يداك.
أبو سعد: سترى ما يدهشك.
أبو اسكندر: المهمّ الالتزام بالعمل، فلا تجعلوا البحر يرمي عصاه السّحريّة علينا، فنختلف قبل أن نبدأ.
أبو سعد: كي تكون مطمئنا، لا أريد منك أجرة قبل أن ترى ما ننجزه، وإذا لم يعجبك فلا تدفع لنا شيئا.
أبو اسكندر ضاحكا: باشروا العمل، وسنرى.
*****
في شهر حملها التّاسع انتقلت مريم للعيش في بيت والدها رشيد الفرحان، بناء على نصيحة والدتها التي قالت لها:
تعالي عندنا يا ابنتي أنت وأطفالك، فإذا جاءك المخاض لن تستطيعي فعل شيء، ولن تجدي من يساعدك.
مريم: فكرة جيّدة، لكنّني أخاف أن يأتي زياد ذات ليلة، ولن يجد أحدا في البيت، وإذا ما اشتدّ طرقه على الباب، فإنّ الجيران سيستيقظون، وعندها لا أحد يعلم ماذا سيحصل؟
– السّاتر ربّنا يا بنتي.
– سآتي اليوم، أخبري أخي شوقي كي يساعدنا في الرّحيل.
– لن ترحلي يا ابنتي، احملي شيئا من ملابسك وملابس أطفالك فقط.
في يوم الانتقال إلى العيش في بيت والديها، جلست مريم ووالداها وشقيقها شوقي، وتباحثوا في مكان الولادة، قالت الأمّ:
سنتركها تلد في البيت، سأساعدها أنا على الولادة، لن ندع أحدا يعلم بأنّها أنجبت.
الوالد: حتّام نخفي المولود الجديد؟ في النّهاية سينكشف الأمر.
شوقي: ما رأيكم أن ننسب المولود لأخي شاكر، سنقنع زوجته كي تقول أنّها هي من أنجبته، ونتركه لمريم لتربّيه كابن لها بالتّبنّي. ونسأل الله أن تنحلّ الأمور قبل أن تلد مريم.
أبو شاكر: في النّهاية سينكشف الأمر، وأفضل حلّ لأيّة مشكلة هو مواجهتها.
مريم: صدقت يا أبي، المواجهة هي الحلّ الصّحيح، سأنجب في المستشفى، سأنسب المولود لأبيه، وسأتحمّل تبعات عواقب ذلك وحدي.
أم شاكر متذمّرة: رحماك يا ربّ، والله الخوف من ألسنة النّاس أكثر من الخوف من هؤلاء الظّالمين.
شوقي: من يتجرّأ على المسّ بشرف شقيقتي مريم، سأقصّ لسانه.
أبو شاكر: لا نريد قصّ لسان أو اظفر أيّ شخص، لكنّني أقترح منذ الآن نشْر الخبر بين الأقارب والمعارف والجيران؟
شوقي غاضبا: كيف ننشره؟ هل نضع لهم اعلانا في الصّحف؟
أبو شاكر: منذ الصّباح اذهب يا شوقي مع شقيقتك لبيتها، احمل معها بعض الأغراض، وأنت يا مريم، ودّعي جاراتك جميعهنّ، وقولي لهنّ سأذهب لمدّة شهرين عند أهلي، سألد عندهم؛ لأنّني حامل، فزوجي كان يتسلّل أسبوعيّا، ينام عندنا ليلتين في الأسبوع، ووالداي واخواني يعلمون ذلك، وأنت يا أمّ شاكر اعملي الشّيء نفسه مع الجارات هنا، وأنت يا شوقي واخوتك اعملوا الشّيء نفسه في أعمالكم، ولا تسألوا عن أحد و”اللي بطيح من السّما بتتلقّاه الأرض.”
ضحكت مريم وقالت:
حفظك الله يا أبي ورعاك، وهذا كان رأي زياد أيضا، عندما تسلّل قبل أسبوع.
أم شاكر وقد جفّ ريقها:
يا فضيحتك يا أمّ شاكر.
أبو شاكر: “الملافظ سعد” فضيحة ماذا يا امرأة؟ لا أريد أن أسمع هكذا كلام مرّة أخرى، لا تتردّدوا في الحديث عن حمل مريم، تكلّموا وأنتم تضحكون فرحا، حتّى لا يتشّككوا بصحّة كلامكم، مريم لم ترتكب حراما ولا عيبا حتّى تتحرّجون منه، فالنّساء كلّهنّ يحملن من أزواجهنّ.
أمّ شاكر تثقل كاهلها الهموم:
النّساء يعشن مع أزواجهنّ.
أبو شاكر غاضبا: ومريم عاشت مع زوجها وعاشرته وحملت منه، وأكثر ما أخشاه أنّ المصائب لن تأتينا إلا منك يا أمّ شاكر.
– أنا سأغلق فمي، لن أتكلّم شيئا، فكلامي لا يعجبك دائما.
– خيرا تفعلين، لا تتكلّمي شيئا.
صباح اليوم الثّاني ذهبت مريم مع شقيقها شوقي لبيتها كي تحضر بعض الملابس لها ولأطفالها، ذهبت لتودّع جارتها أمّ وليد، وجدتها تجلس مع أربع جارات أخريات، صافحتهن ضاحكة وهي تقول:
-” صدفة خير من ميعاد” لقد أرحتنّي من جولة على بيت كلّ واحدة منكنّ.
أمّ وليد: أهلا وسهلا بك، خير ما المناسبة؟
مريم: جئت لأودّعكنّ؛ لأنّني سأنتقل لبيت والديّ لمدّة شهرين، حتّى أنجب من في بطني، وبعدها سنعود أنا وأطفالي.
نظرن إلى وجوه بعضهن بعضا، تغامزن وابتسمن.
سألت مريم: لماذا تضحكن؟
أمّ وليد: كلنّا نعلم أنّ زياد كان يتسلّل ويعود إلى بيته، وقد لاحظنا عوارض الحمل عليك منذ شهور.
– ولماذا لم تتكلّمن في الموضوع؟
– نتكلّم عن ماذا؟ هل تريديننا أن نفضح تسلّل زياد؟ ما يدرينا أن ينفضح أمره، فيكمنون له ويقتلونه -لا سمح الله-.
ضحكت مريم فرحا بما سمعت من جاراتها، سألتهنّ:
– هل يعرف رجالكنّ ما تعرفنه؟
أمّ وليد: كلّهم يعرفون ويتكتّمون.
– الحمد لله. ما هذا الزّمن الذي وصلنا فيه أن يتسلّل الرّجل خلسة إلى بيته، وتخاف المرأة من حملها من زوجها؟ لعن الله من كان سببا فيما حصل لشعبنا؟ ونسأل الله الفرج القريب.
شوقي يستمع لأحاديث النّساء بمتعة فائقة، فقد سمع ما لم يكن يتوقّعه. فما دامت الحارة التي تعيش فيها مريم تعرف الحقيقة، فلا ضير من الآخرين.
عاد شوقي بصحبة شقيقته مريم إلى بيت والديه فرحا مرفوع الرّأس، أمّا مريم فقلبها يزغرد فرحا، احتضنت طفلها الصّغير، تحسّست الجنين الذي في رحمها، فقد ازدادت حركته؛ كأنّه يعلم ما دار ويدور حوله.
سأل أبو شاكر ابنته مريم: هل أخبرت جاراتك كما اتفقنا يا أمّ صلاح؟
– نعم أخبرتهنّ.
– وماذا كانت ردّات فعلهنّ؟
– اسأل شوقي فقد سمع كلّ شيء.
شوقي: المفاجأة يا أبي أنّهنّ وأزواجهنّ يعرفون عن تسلّل زياد إلى بيته، كانوا يرونه ويتكّتمون على ذلك خوفا عليه، وخوفا على أنفسهم، كانوا يعلمون عن حمل مريم، ولا يتكلّمون في الموضوع للسّبب نفسه.
أمّ شاكر: وكيف علموا بحمل مريم؟
أبو شاكر ساخرا: كما علمت أنت!
– أنا علمت لأنّ مريم أخبرتني بذلك.
– وهنّ علمن لأنّهنّ يحملن ويلدن، ومن تحمل وتلد لا تخفى عليها المرأة الحامل.
– والله هذه غابت عنّي.
ضحكوا جميعا عندما قال لها أبو شاكر مازحا:
يبدو أنّك ما عدت تعرفين شيئا عن النّساء بعد أن وصلتِ سنّ اليأس.
قالت أمّ شاكر مفاخرة:
الحمد لله حملت وولدت وربّي أعطاني أكثر من غيري.
يوم الجمعة ذهب أبو شاكر منذ الصّباح لآداء صلاة الجمعة في مسجد أحمد باشا الجزّار، في الطّريق ذهب إلى بيت إمام المسجد، شرح له قصّة ابنته، طلب منه أن يتكلّم بالموضوع مع المصلّين، كي لا يتفاجأ أحد عندما تلد.
ابتسم إمام المسجد وقال: توكّل على الله، فمن تبقّوا في المدينة يعلمون أنّ زياد يتسلّل أسبوعيّا إلى بيته.
وهل أنت تعلم يا مولانا؟
ضحك الإمام وقال متسائلا:
– ألست واحدا منكم؟
– بلى، وأنت من خيارنا.
– سأزيدك معلومة هي أنّ آخرين غير صهرك يتسلّلون أيضا، وأنّ حمْل ابنتك ليس الوحيد، فهناك أخريات أيضا حملن من أزواجهنّ المتسلّلين.
– ما قصدك من ذلك؟
– لا شيء، لكن لا داعي للحديث مع المصلّين في خطبة الجمعة، ومن لا يعرف الآن سيعرف لاحقا، فلا تستعجل الأمور.
ذات مساء من شهر كانون أوّل –ديسمبر- 1950 جاء المخاض مريم، نقلها والداها إلى المستشفى، لم تعان كثيرا فقد أنجبت طفلا في أقلّ من ساعتين، وضعته الممرّضة على صدرها وهي تقول:
مبارك إنّه ولد.
شعرت مريم بفرحة غامرة وطفلها يتحرّك على صدرها، قالت لوالدتها عندما دخلت الغرفة عليها:
الحمد لله رزقنا الله ولدا مثل البدر.
أمّ شاكر: والله إنّني خائفة من هذا الولد كما لم أخف من قبل.
عندما دخل أبوها قال: الحمد لله أنّه ولد كي يخلف أباه.
ردّت مريم: سلامته وسلامة “أبوه” أيضا، كيف سيخلف أباه وهو حيّ؟
ضحك أبو شاكر وقال: دائما نتمنّى السّلامة لزياد ولأبنائه ولزوجته أيضا.
حمل شاكر بطاقة هويّة شقيقته مريم، ذهب إلى مكتب التّسجيل في المستشفى، فدون ذلك لا يمكن الحصول على شهادة ميلاد للطّفل، وبالتّالي فإنّه لن يستطيع دخول المدارس أو العمل عندما يكبر.
بدأت الموظّفة تسجيل تفصيلات الوالدين، قالت:
مبارك، ماذا ستسمّونه؟
– عيسى.
– عيسى بن مريم؟
– بل عيسى بن زياد ومريم.
– أين بطاقة هويّة الوالد؟
– غير موجودة.
– أحضروها غدا.
– لن نستطيع.
– ما اسمه؟
– زياد محمد الفالح.
– إذا كان في العمل سجّل رقم هويّته وأحضرها غدا.
– هو غير موجود أصلا!
– لماذا؟ هل هو متوفّى؟
– أبدا، إنّه حيّ يرزق، ومهجّر إلى لبنان.
– منذ متى؟
– منذ نيسان 1948.
شهقت الموظّفة وسألت:
– ما صلة القربى بينك وبين الولّادة مريم؟
– شقيقتي.
– شكرا لك، سآخذ التّفاصيل منها.
– اسألي ما تريدين، فالتّفاصيل كلّها أعرفها.
– قلت لك: شكرا لك، مع السّلامة.
ذهبت الموظّفة تحمل سجّلها إلى غرفة مريم، وجدتها ترضع مولودها، تجلس والدتها وزوجة شقيقها شاكر بجانبها، قالت لها:
– مبارك العريس يا ستّ مريم.
– شكرا لك.
طلبت من الزّوّار مغادرة الغرفة، وسألت مريم:
– متى حملت بهذا الولد؟
– قبل تسعة شهور.
– متى هاجر زوجك إلى لبنان؟
– في نيسان 1948
– هل تعلمين كم شهرا بيننا وبين نيسان 1948؟
– نعم، سنتان وثمانية شهور.
اسمعيني جيّدا يا مريم، أنا مهاجرة من يهود العراق، وأعرف العادات العربيّة جيّدا، وأنت امرأة مثلك مثلي، ولا أريد أن أتسبّب لك بأذى.
– شكرا لك، ما المطلوب؟
– لمن تريدين أن ينتسب طفلك؟ نستطيع أن نسجّله باسمك بدون والد، فالقانون يسمح بذلك، وإذا كان عشيقك الذي حملت منه يعترف بذلك سنسجّله أبا للطّفل، شرط أن تأتي به هنا؛ ليوقّع على الأوراق المطلوبة. أو فكّري أنت بطريقة تنجيك من غضب أهلك، فالعرب يقتلون المرأة التي تحمل سفاحا. أو إذا أردت ترك الطّفل في المستشفى فهناك مؤسّسات تعنى باللقطاء.
صاحت مريم بها غاضبة:
– ما الذي تقولينه يا امرأة؟ أنا حامل من زوجي زياد محمد الفالح، ولا داعي لكلّ ما تقولينه.
– ألم تقولي أنّ زوجك مهاجر إلى لبنان؟
– نعم قلت ولا أزال أقول.
– كيف حملت منه وهو في بلاد وأنت في بلاد أخرى؟
– هذا ليس شأنك.
– لا أستطيع تسجيل ابنك بدون أن أسجّل رقم هويّة أبيه.
– من أين سنأتي لأبيه برقم هويّة؟
– إذن قولي الصّحيح وأنا سأساعدك.
– الصحّيح أنّني حامل من زوجي زياد محمّد الفالح المهجّر إلى لبنان.
– كيف يكون ذلك؟
– منذ هجرة زياد، وهو يتسلّل إلى البيت كلّ أسبوع، ويمكث عندنا ليلتين، وحملت منه.
قالت الموظّفة باستغراب: يتسلّل؟ يعني يدخل البلاد بطريق غير مشروعة، هذا أمر خطير جدّا، سأخبر الشرطة بذلك؛ كي نعرف ما العمل.
– اعملي ما يحلو لك.
في اليوم التّالي جاءت ممرّضة تطلب مريم لمقابلة “شخصيّة مهمّة” -كما وصفتها-، لأمر يتعلّق بتسجيل مولودها الجديد، في المكتب الذي أشارت إليه الممرّضة، طرقت مريم الباب ودخلت، وجدت أمامها شخصا ربع القامة، في الأربعينات من عمره، بدأ الشّيب يغزو رأسه، ملامحه شرقيّة، قال لها وهو يقلب أوراقا في ملفّ أمامه ويتظاهر بأنّه مشغول:
– أنا اسمي روني، ضابط كبير في الشّرطة، هل أنت مريم؟
– نعم.
– أعطيني هويّتك؟
فتح الهويّة وسأل: مريم رشيد محمد الفالح، ما اسم عائلتك السّابق؟
– الفرحان.
– وكيف صار الفالح؟
– الفالح اسم عائلة زوجي.
– ما اسم زوجك؟
– زياد.
– أين هو؟
– في لبنان.
– وكيف حملت منه وأنت في عكّا وهو في لبنان؟
– يعود زياد إلى بيته متى يشاء.
سأل ساخرا: أبهذه السّهولة يعود متى يشاء؟
– ما الغريب في الموضوع؟
– زياد ليس مواطنا في دولة إسرائيل، وإذا ما اخترق حدود الدّولة فهذا خرق للقانون، وقد يكلّفه ذلك حياته.
– زياد مواطن فلسطينيّ يعود إلى بيته في عكّا.
– عكّا مدينة إسرائيليّة.
– وزياد مواطن فلسطينيّ مولود في عكّا أبا عن جدّ، ويعيش فيها قبل أن تكون هناك دولة اسمها إسرائيل.
– لا أريد أن أدخل معك في نقاشات، أنا جئت لأساعدك، إن استجبت لما سأقوله لك فقد ارتحت وأرحتِني، وإلا “ذنبك على جنبك” كما يقولون.
– ماذا تريد؟
– إذا أردت تسجيل مولودك الجديد باسم زوجك، وتريدين زوجك أن يعيش معك بسلام، يجب أن تعرفي مصلحتك جيّدا.
– طبعا أعرف مصلحتي.
– ممتاز هكذا اتفقنا.
– لم أفهم عليك، ماذا تقصد بقولك اتفقنا؟
– أقصد أنّ الحياة تقوم على المصالح، وتبادلها بين البشر.
– اختصر لو سمحت فلا وقت لديّ لكثرة الكلام، وهذا وقت رضاعة ابني.
– لا بأس، أنت تعلمين أنّنا نعرف كلّ شيء عنك وعن زياد، وإذا أردت أن تعيشي معه ما تبقّى لكما من عمر بسلام، فهذا يتطلّب منك ومنه أن تتبادلا المصلحة معنا.
– لم أفهم عليك!
– لا….أعلم أنّك ذكيّة، لا نريد منكما شيئا، فقط أن ترصدا لنا تحرّكات النّاس في منطقتكم، خصوصا حركة المتسللين، ومن يؤويهم؟ وماذا يريدون؟
– اسمعني جيّدا، أنا غير مستعدّة لسماع كلام وقح كهذا، اعمل ما تريد، ولست مستعدة لسماع المزيد من كلامك، فابني ينتظرني؛ ليرضع، قالتها وهي واقفة تريد المغادرة.
قال لها: فكّري بما قلته لك، أحسن لك ولغيرك.
– هذه قضايا لا تحتاج تفكيرا.
– أنت حرّة وانتظري ما سيقوله النّاس عن ابن السِّفاح الذي أنجبتِه.
التفتت إليه غاضبة وقالت له بحدّة:
– أنت وأمّك وأبناؤك أبناء سفاح.
تحرّرت مريم من المستشفى في اليوم نفسه، وجدت في معاملة تحريرها من المستشفى ورقة فيها تسجيل طفلها كما أرادت.
اسم الطّفل: عيسى.
اسم الأب: زياد محمّد الفالح.
اسم الأمّ: مريم رشيد.
فرحت كثيرا عندما رأت ذلك، فبموجب هذه التّسجيل تستطيع الحصول على شهادة ميلاد لابنها، جلست مع والديها وأشقّائها يستمعون لنشرة الأخبار المسائيّة من راديو إسرائيل، وممّا جاء فيها:
“تحقّق الشرطية الإسرائيليّة في قضيّة امرأة عربيّة من عكّا، أنجبت طفلا في المستشفى قبل يومين، وتزعم أنّها حملت من زوجها الذي غادر البلاد قبل ما يقارب ثلاث سنوات، ممّا يعني- إن صدقت روايتها- أنّ زوجها كان يتسلّل عبر الحدود خارقا القانون، وأنّ هناك من يتعاونون مع المتسلّلين ويؤونهم ويتستّرون عليهم، مع ما يشكّلونه من تهديد لأمن الدّولة.”
بعد سماع الخبر قالت أمّ شاكر:
الله يسلّ مصارينكم ومصارين اليوم اللي شفناكم فيه.”
ضحك أبو شاكر وقال: هذه بالونات فارغة يريدون تخويف النّاس بها.
قالت مريم: “اللي بطيح من السّما بتتلقّاه الأرض”.
قال شوقي: ” أكثر من قرد ما سخط ربنا” ماذا يستطيعون فعله بعد كلّ ما فعلوه؟
أمّا شاكر فقد قال: أكثر ما أخشاه أن لا يكون زياد قد سمع الخبر، وإذا ما تسلّل مرّة أخرى فإنّ العيون مفتوحة عليه، وقد يقتلونه.
مريم: زياد يقول لي كلّ مرّة أنّهم في مخيّمات اللجوء يسمعون الأخبار بشكل دائم، على أمل أن يسمعوا خبرا عن انفراج الأزمة وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
أبو شاكر: لا بدّ أن يأتي الفرج.
انتشر خبر ولادة مريم بين النّاس انتشار النّار في الهشيم. حتّى أنّ المصلّين كانوا يتحدّثون بالموضوع داخل المساجد، فالحاجّة زليخة التي تلتفّ النّساء حولها في مصلّى النّساء في جامع الجزّار، قالت وهي تسند ظهرها إلى حائط المسجد، تمدّ رجليها لعدم قدرتها على ثنيهما بسبب الشّيخوخة، وتحرّك خرزات مسبحتها:
الله يستر على خلقه، دنيا آخر وقت، هل سمعتنّ ما قاله الرّاديو عن المرأة التي حملت وولدت وزوجها موجود في لبنان منذ حوالي ثلاث سنوات؟
رقيّة: أستغفرك وأتوب إليك يا ربّ، الكلام – والعلم عند الله- عن مريم بنت أبي شاكر رشيد الفرحان.
نائلة: لا هذا مستحيل، فمريم بنت أبي شاكر ستّ مؤدّبة ومستورة هي وأمّها قبلها.
حنان: “ياما تحت السّواهي دواهي”. نحن “ولايا” ونخاف الله.
حلوة: ماذا تقلن؟ عيب عليكن أن تنهشن أعراض النّاس، الكلّ يعرف أنّ زوجها كان يتسلّل بشكل دائم، وينام في بيته.
هيام: نحن جئنا نصلّي طلبا للغفران، وليس لأكل لحوم البشر، لكن يبدو أنّ الجلوس معكنّ يسيّره الشّيطان، ما تقولنّه عيب وحرام، وهناك رجال كثيرون يتسلّلون إلى بيوتهم، ألا يكفينا ما حلّ بنا؟ أنا عائدة إلى بيتي وسأصلّي فيه.
الحاجّة زليخة: ماذا قلتُ حتّى تعملن كلّ هذه الضّجّة؟
حلوة: لم تقولي شيئا سوى أنّك أشعلت نارا حارقة، وإذا ما وصل كلامك لأبي شاكر وأبنائه سيقطعون لسانك.
– أيوه! هل تريدين أن تلبسيني تهمة؟ وأنا ماذا أستفيد من اللواتي يحملن من أزواجهنّ أو من غيرهم؟ إن شاء الله عمرهن لا يحملن ولا يلدن.
ارتفع صوت خطيب الجمعة، بعد أن بسمل وحمد الله وصلّى على رسوله قائلا: “والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون”.
حلوة : اسمعن، يبدو أنّ إمام المسجد سمع كلامكنّ وسيخطب عنه.
الحاجّة زليخة: هذا الكلام لم يعد سرّا، فقد أذاعوه في الأخبار، وكتبت عنه الصّحف.
لم يغب خبر ولادة مريم على زياد، فقد سمعه من دار الإذاعة الإسرائيليّة، وقرأه في الصّحف اللبنانيّة، – مع أنّهم لم يذكروا اسمها صراحة- سخر من الخبر ومن التّهديدات، لكنّه كما قال لأصدقائه: الحذر مطلوب، هو لا يخاف اجتياز الحدود، ولا يحسب لذلك حسابا، لأنّه يعرف الأرض الحدوديّة أكثر ممّا يعرفها الجنود الذين يحرسونها، لكنّ خوفه الشّديد هو على مريم والأبناء، فبالتّأكيد سيراقبون البيت الذي أصبح مصيدة يسهل اصطياده فيه.
التّطوّرات الأخيرة دعته كي يفكّر كثيرا بالعرض الذي قدّمه له صديقه نبيه حسين اللبنانيّ الرّجل الطّيّب، الذي شغّله معه في زراعة الدّخان، حيث قال له:
لا تخاطر بنفسك، يبدو أنّ الأمور تسير على غير ما نتمنّاه، وعودة اللاجئين احتمال ضئيل، ومن كذبوا على الشّعوب وقالوا بأنّهم سيحاربون كاذبون، بل هم شركاء فيما جرى.
مع أنّ زياد على قناعة تامّة بحبّ مريم له، وحبّه لها أصبح حديث النّاس، فهو يخاطر بحياته عندما يجتاز الحدود من أجل أن يلتقيها، وهو يتفهّم جيّدا رفضها اللحاق به، وعودته للعيش معها باتت مستحيلة، فإلى متى سيبقى يعيش على الأوهام؟ تشاور مع قريبه إبراهيم الفرحان بخصوص زواجهما، فهما يعملان معا، وينامان في بيت واحد، لكنّ إبراهيم أعزب، وأهله بقوا في عكّا، بينما هو ترك زوجة وأربعة أطفال بعد ولادة ابنه عيسى، أمّا والداه وأخوته فيعيشون في برج البراجنة جنوب بيروت، لكنّه على خلاف معهم، بعد أن حذّره والده كثيرا من مغامرة اجتياز الحدود، وقال له:
إذا كنت تتسلّل من أجل مريم فالنّساء كثيرات.
ومن يومها وهو يقول للآخرين بأنّ والديه واخوانه بقوا في عكّا.
حسم زياد وقريبه إبراهيم أمرهما، قرّرا الزّواج من شقيقتي نبيه حسين، الكبرى رقيّة سيطلبانها لزياد، والصّغرى زينب سيطلبانها لإبراهيم.
جلس زياد وإبراهيم مع نبيه في الأرض حيث يعملون، احتسى كلّ واحد منهما كأس شاي في ذلك اليوم شديد البرودة، قال زياد لنبيه:
سأتكلّم معك يا نبيه في قضيّة مهمّة، وآمل أن تتفهّمني جيّدا، صحيح أنّه من المفروض أن نتكلّم بها في بيتكم مع الوالد، لكن ظروفنا أنت تعلمها جيّدا.
نبيه: تكلّم يا رجل لقد أقلقتني، ما هي قضيّتك؟
– أريد أن أتقدّم لأبيك طالبا يد شقيقتك رقيّة لي، وشقيقتك زينب لقريبي إبراهيم على سنّة الله ورسوله، وأريدك أن تجسّ النّبض لنا قبل أن نتكلّم مع العمّ أبو نبيه، فإن كان هناك إيجاب فهذا ما نتمنّاه، وإن لم يكن هناك نصيب، فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
نبيه: لقد فاجأتني بطلبك هذا يا زياد، وأنتما أخوان عزيزان على قلبي، ونتشرّف بمصاهرتكما، لكنّ الزّواج “قسمة ونصيب”، سأتكلّم مع والديّ وشقيقتيّ في الموضوع، وإن شاء الله سيكون خيرا.
عرض نبيه حسين الأمر على والديه وعلى شقيقتيه، ولم يجد معارضة منهم، فهم يعرفون زياد وإبراهيم كونهما يعملان مع نبيه، وسبق له أن دعاهما إلى بيته أكثر من مرّة.
*****
اشترى إسماعيل العارف عشرة دونمات في منطقة “الماصيون” في رام الله بخمسين دينارا، سجّلها باسم ابنيه عامر وعدنان، كما اشترى لابنتيه رحمة وحمدة ستّة دونمات مجاورة لأرض شقيقيهما، وسجّلها باسميهما.
تشاور مع ولديه بضرورة بناء بيت لكلّ منهما في الأرض المشتراة، لكن عدنان قال:
كيف سنبني بيوتا في رام الله وبيوتنا تنتظرنا في الرّملة؟
أبو عامر: الله يرضى عليك يا ابني، لقد مرّ على نكبتنا أكثر من ثماني سنوات، والأمور تزداد سوءا، وأخشى أن نبقى ننتظر دون جدوى.
عدنان: أنا سأبقى في مخيّم الجلزون، لن أغادره إلا إلى الرّملة.
عامر: إذا بنينا في رام الله وتملّكنا فلا يعني هذا أنّنا نسينا الرّملة.
أبو عامر: إذا عدنا إلى الرّملة وعادت إلينا، بإمكاننا أن نبيع أملاكنا في رام الله، أو يبقى أحد منّا فيها، فرام الله ليست بعيدة عن الرّملة.
عدنان: أنا لن أغادر المخيّم كما قلت لكم.
أبو عامر: سأبني بيتا لكلّ واحد منكما، لأنّني أريد الاطمئنان عليكما وعلى أبنائكما.
عدنان: إذا بنيتم بيتا جديدا فلن أنتقل إليه.
أبو عامر: بعد أن ننتهي من البيت سيفرجها ربّنا.
عندما عاد عدنان إلى بيته، أخبر زوجته لمياء ووالدها “أبو طارق” عن الأرض التي اشتراها والده في “الماصيون” وعن نيّته بناء بيتين فيها لابنيه عامر وعدنان.
كادت لمياء ترقص فرحا للخبر وقالت:
اللهم احفظ عمّي “أبو عامر” فهو حكيم بعيد النّظر دائما.
أمّا أبو طارق فقد قال: وفّقكم الله، خيرا ما فعلتم، فالعقارات لا تبور، وأسعارها تزداد دائما.
عدنان: لكنّ السّكن خارج المخيّمات قد ينسي اللاجئ بيته وديارة.
ابتسم أبو طارق وتساءل: وهل يُنسى مسقط الرّأس يا ولدي؟
أمّا لمياء فقد قالت: ما المانع في أن يكون لنا بيتان، واحد في الرّملة وواحد في رام الله، فالبلاد بلادنا؟
دخل تساؤل لمياء عقل عدنان كالقدر المكتوب، التفت إليها وابتسم دون كلام.
وبينما هم يحتسون القهوة ويتداولون الحديث، داهمهم طارق دون أيّ انذار مسبق، رحّب به عدنان ولمياء، صافحهما وصافح والده، قال له أبوه:
كيف صحتك يا طارق، وكيف زوجتك وأطفالك؟
طارق: الحمد لله كلّنا بخير.
لمياء: كيف عملك؟
– الحمد لله، تمام.
– طارق: لماذا لا تزوروننا؟
لمياء: وأين سنترك الأطفال؟
التفت طارق إلى والده وسأل: لماذا لا تعود إلى البيت يا أبي؟
– لأنّ زوجتك لا تقبل “عليّ”.
لمياء: عليّ سيبقى في رعايتي أنا وعدنان، فهو غال علينا مثل أبنائنا.
طارق: أين عليّ؟
لمياء: في المدرسة هو وماهر، وهما في الصّفّ الرّابع الآن، أبناؤك في أيّ صفّ الآن؟
طأطأ طارق رأسه وأجاب بانكسار:
توفيق في الأوّل، ومحمد سيدخل المدرسة العام القادم.
لمياء: هل ستبقى في المخيّم يا طارق؟
– لقد اشتريت قطعة أرض في أمّ الشّرايط بعشرة دنانير، سأبني فيها بيتا.
عدنان: أمّ الشّرايط منطقة براري يا رجل.
عدنان: سعر أراضيها يناسبنا، فنحن لا نملك ثمن الأراضي في المناطق الحيّة.
غلت لمياء القهوة، واستأذنت قائلة:
اشربوا قهوتكم حتّى أجهّز الغداء قبل أن يعود الأولاد من المدرسة.
قال طارق: أنا أمام خيارات صعبة، ولم أعد قادرا على احتمال هيفاء، لكنّني لا أستطيع الضّغط عليها، فإن “حردت” وتركت الأطفال، فأين سأذهب بهم؟ ومن سيرعاهم؟ لكنّ أبي إذا عاد معي إلى البيت فسيتدبّر أموره معها، وعندما أنتهي من بناء البيت سيكون جناح فيه خاصّ لأبي ولعليّ.
ابتسم عدنان ابتسامة ساخرة، ولم يقل شيئا، في حين التزم أبو طارق الصّمت.
عاد ماهر وعليّ وزهرة من المدرسة يركضون، دخلوا البيت مسرعين إلى المطبخ فهم جائعون، طرح عليّ السّلام دون أن يتبيّن شخصيّة الضّيف.
نادى طارق بصوت مرتفع: عليّ…تعال يا بابا.
جاء عليّ وركض ليجلس في حضن جدّه، مدّ طارق يده ليسحب عليّا إليه، أمسك عليّ بجدّه، قال له الجدّ:
هذا طارق…أبوك يا عليّ.
مشى عليّ تجاه أبيه على استحياء، أجلسه أبوه في حضنه، قبّل وجنتيه، شمّ رائحة رأسه ودموعه تنساب بهدوء على وجهه.
طارق يشعر بجرح كبير يدمي قلبه؛ بسبب عدم رعايته لابنه البكر عليّ، استعاد بذاكرته طيبة رحاب زوجته الأولى والدة عليّ، بكى عندما مرّ شريط الظّلم الذي لحق بها من والدته، حسبوه يبكي عليّا، فقالت له لمياء، لا تحزن يا طارق على عليّ فهو بألف خير.
نظر طارق إلى أبيه كأنّه يستجدي شيئا، أو يطلب السّماح، لكنّ نظراته تحمل أعاصير من اللوم لسكوته على ظلم والدته لرحاب، صحيح أنّهم جميعهم كانوا واقعين تحت سطوتها، وقد تربّى طارق وشقيقته لمياء على يدي عمّتهما آمنة، لكنّ السّؤال الذي يؤرّقه دائما هو:
لماذا قبل والده ذلك الخضوع المذلّ؟
رحاب خدمتهم جميعهم، أحبّت زوجها طارق، اشتكت له من اعتداءات والدته عليها دون سبب، فلم يحرّك ساكنا، ومع ذلك تحمّلت، كانت تشير إلى الجنين الذي في أحشائها لعلّ غريزة الأبوّة تصحو من سباتها عند زوجها، لم تكن على اطّلاع على معادلة العيش في ذلك البيت، استعاد تلك اللحظات التي نفّذ فيها خطّة والدته، بأن يصطحب رحاب معه بحجة زيارة أهلها، ويتركها هناك على وعد بأنّه سيلحق بها مساء بعد قضاء بعض الأعمال، لم تسع الدّنيا فرحة رحاب عندما طلب منها أن تستعدّ لزيارة أهلها، ضمّته إلى صدرها قبّلته وهي تقول:
حبيبي ربنا يسعدك ويجعل لك في كلّ خطوة سلامة.
لم ينم طارق في الليلة الماضية عندما دارت في ذاكرته يوم أتى أبوه بابنه عليّ وهو ابن ستّة شهور، أتى به عن طريق “بلطجيّة” استأجرتهم والدته سعاد بالمال، تصوّر رحاب وهم يختطفون طفلها الرّضيع من حضنها، وهي لا تستطيع الدّفاع عن نفسها وعن طفلها، ولم تستطع أسرتها أيضا أن تحميها وتحمي طفلها.
أمضى عليّ ليالي وهو يبكي باحثا عن صدر أمّه، لم يتقبّل حليب البقر الذي اشترته له جدّته لأبيه إلا بعد أن أعياه الجوع.
أبعدت لمياء الأطفال عن غرفة “الصّالون” فلم ترد أن يروا – خصوصا عليّ- طارق وهو يبكي، عندما استعاد أنفاسه من البكاء قالت له شقيقته لمياء:
لا تبكِ على عليّ يا طارق فهو بخير، ومعاملة زوجتك هيفاء السّيئة له أمر طبيعي من زوجة الأب عندما تنجب أطفالا.
طارق: حياتنا مسلسل أخطاء.
عدنان: البشر خطّاؤون و”خير الخطّائين التّوّابون”.
دموع أبي طارق تنساب على وجنتيه بهدوء، يمسحها بطرف كوفيّته، يتجنّب النّظر إلى وجوه الآخرين، فهو يدرك تماما أنّه هو نفسه المخطئ الأوّل، وطارق هو أوّل ضحاياه، لكنّ المأساة الكبرى فيما جرى لرحاب وابنها عليّ.
قالت لمياء لشقيقها طارق: قم اغسل وجهك، وتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم، حتّى نتناول طعام غدائنا.
طارق: لا شهيّة عندي.
عدنان: “ما صعب إلا أوّل لقمة” سنتغدّى سويّة.
قال أبو طارق: تناولوا طعامكم، وأنا سأتوضّأ وسأصلّي.
عدنان مستنكرا ما قاله أبو طارق:
كيف سنتغدّى دونك؟ سننتظرك حتّى تصلّي.
– لا تنتظروني فأنا لا أستطيع ابتلاع لقمة واحدة.
قالت لمياء: سنأكل طعامنا، وسأترك لأبي طعامه.
سألها عدنان: هل أكل الأولاد؟
– نعم أكلوا منذ عادوا.
توضّأ أبو طارق، حمل عصاه وخرج، لحقت به لمياء تسأله:
إلى أين المسير يا أبي؟
– إلى المسجد. سأصلّي العصر قبل دخول المغرب، وسأصلي المغرب والعشاء في المسجد.
لم تضغط عليه لمياء، فهي تعي تماما أنّه لم يعد قادرا على احتمال منظر طارق، وهو يبكي كما النّساء الثّواكل.
غادر طارق بيت لمياء وعدنان مهموما، عاد أبو طارق من المسجد محموما، تمدّد على فراشه متعبا، سألته لمياء:
– ما بك يا أبي؟ هل أنت مريض؟
– الحمد لله يا ابنتي أنا بخير، لكنّني متعب، سأنام وأرتاح.
في الصّباح استيقظ أبو طارق يئنّ، يسعل ويتصبّب عرَقا من شدّة الحرارة، رآه عدنان فهرع إليه، تحسّس جبينه، قال لزوجته:
العمّ أبو طارق مريض، سأنقله إلى المستشفى الآن، ساعديه على ارتداء ملابس نظيفة.
أبو طارق: لا داعي للمستشفى يا أبا ماهر، فلا يؤلمني شيء يا ولدي، فقط سعال وحرارة ستزول.
عدنان: سنذهب إلى المستشفى للاطمئنان عليك يا عمّ.
عند الطّريق الموصل إلى رام الله مرّت شاحنة صغيرة قادمة من قرية جفنا المجاورة، أشار عدنان لسائقها بيده فتوقّف، سألهما:
إلى أين؟
عدنان: إلى مستشفى رام الله.
– ستدفعون خمسة قروش.
– حيّاك الله.
في غرفة طوارئ المستشفى، جلس أبو طارق على كرسيّ ينتظر الطّبيب المناوب أكثر من ساعتين، قاست ممرّضة حرارته، نبضه وضغطه، سجلت ذلك على ورقة، قالت له:
لا تخف يا عمّ، مجرّد ارتفاع بسيط بدرجة الحرارة، أمسكت بيده وقادته ليتمدّد على سرير في العيادة، لحق بها عدنان يسأل، فقالت له:
حرارته مرتفعة 40.3 درجة. وضغطه منخفض، يجب أن يراه الطّبيب، الآن سأتّصل بالأقسام؛ ليأتي طبيب يعاينة.
عندما جاء الطّبيب، فحصه، طلب عمل تخطيط للقلب، وصورة أشعّة للرّئتين، فتبينّ للطّبيب ما كان يشكّ به، فقد وجده مصابا بالتهاب رئويّ، فكتب له بأن يرقد في المستشفى؛ ليتلقّى العلاج.
عاد عدنان إلى البيت، أخبر لمياء بما قاله الطّبيب عن حالة والدها، فقالت:
لو لم يأت طارق البارحة إلينا، لما حصل للوالد ما حصل، فرؤيته لطارق زرعت في قلبه غصّة، نسأل الله أن يشفيه منها.
عدنان: “المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.”
لمياء تسأل عدنان: هل أخبرت طارق عن مرض أبيه؟
عدنان: لا لم أخبره.
– لماذا؟
– هكذا بدون سبب، أخبريه أنت.
صباح اليوم التّالي خرجت لمياء مع زوجها عدنان لزيارة والدها، وجداه قد تحسّن قليلا، فقد انخفضت حرارته، لكنّه لا يزال يعاني، جلس عدنان قليلا ثمّ استأذن كي يذهب إلى العمل مع شقيقه عامر في المحلّ التّجاريّ في رام الله، وقال لزوجته:
لا تتأخّري على الأطفال يا لمياء.
بعد مغادرة عدنان ذهبت لمياء إلى مكتب القسم حيث يرقد والدها، استأذنت من الممرّضة كي تتّصل بأخيها طارق، حيث يعمل في مكاتب وكالة الغوث في رام الله؛ لتخبره عن وجود أبيه في المستشفى.
استجابت الممرّضة لطلب لمياء، جاءها صوت طارق يسأل:
ماذا جرى له؟ ومِمَّ يعاني؟
– وضعه ليس على ما يرام، إن أحببت أن تزوره.
– سأحضر بعد انتهاء الدّوام.
– كيفما تريد.
عندما عادت لمياء إلى بيتها سألها عليّ وأبناؤها:
– أين جدّي؟
– مريض في المستشفى.
امتعض عليّ، انزوى في زاوية الغرفة، وسأل:
– أين المستشفى يا عمّتي؟
– في رام الله، لماذا تسأل؟
– أريد أن أزوره، وأن أبقى بجانبه حتّى يشفى.
– والمدرسة؟
– سلامة جدّي أكثر أهمّيّة من المدرسة.
ضمّته لمياء إلى صدرها وقبّلته وهي تقول:
يسلم لي صاحب القلب الحنون.
بعد أسبوع تمّ تحرير أبي طارق من المستشفى، على أن يستمر على دوائه لأسبوع آخر.
عندما انتهى أبو عامر من بناء بيتين لولديه، اشترى عدنان سيّارة جديدة، سأل زوجته وصهره أبا طارق:
ما رأيكما أن نفتتح السّيّارة الجديدة بزيارة بيتنا الجديد؟
لمياء: هذه قضيّة مفروغ منها ولا تحتاج مشورة، هيّا بنا.
امتلأت صدورهم سعادة وهو يتجوّلون في غرف البيت الجديد، التفتت لمياء إلى زوجها وسألت:
ألا تزال مصرّا على عدم مغادرة المخيّم إلا إلى الرّملة؟
ضحك عدنان وقال: من يمكنه العيش في هكذا بيت، هل يعود للعيش في أكواخ الزّينكو في المخيّمات ما دامت الرّملة ممنوعة علينا؟
ابتسم أبو طارق وقال: أتمنى لكم حياة سعيدة في هذا البيت، فأنتم تستحقّون كلّ جميل.
عدنان: لك الخيار يا عمّ بالعيش في أيّ غرفة تريدها.
– شكرا لك يا ولدي، لكن إن كنت تعرف الأرض التي بنى عليها طارق، خذنا إليها – لو سمحت-.
– نعم أعرفها يا عمّ، هيّا بنا.
من أمام البيت رأوا المنطقة التي تخلو من الأبنية، جزء من الأرض مزروع بالحبوب، وغالبيّتها بور، لم تجد من يفلحها بعد سفر أهلها إلى أمريكا.
عندما وصلوا بيت طارق الجديد، كان في مرحلة التّشطيب، نزل أبو طارق من السّيّارة متثاقلا وهو يقول:
هذه منطقة براري، لا حياة فيها، نظر البيت من جوانبه الأربعة، عندما وصل العتبة لدخوله، وضع يده اليمنى على الجانب الأيسر من صدره، سحب شهيقا عميقا، وسقط أرضا. صرخت لمياء، صرخ الأطفال على صراخها، استعان عدنان بالعمّال، نقله إلى مستشفى رام الله، على أمل أن يكون في حالة إغماء سيشفى بعدها، في المستشفى أكّد الأطبّاء وفاته.
اتّصل عدنان بطارق وقال له: عظّم الله أجركم، انتقل أبوك لرحمة الله، نحن في انتظارك في مستشفى رام الله، عاد بسرعة، حمل لمياء والأولاد إلى بيت طارق وهو يقول:
لا حول ولا قوّة إلا بالله، سأذهب لشراء كفن، وسأرسل من يحفرون القبر، فإكرام الميّت دفنه.
لم يجرؤ عليّ على الاقتراب من زوجة أبيه، ابتسم لأخيه توفيق من بعيد، وبقي ملتصقا بعمّته لمياء خائفا.
دفنوه بحضور عدد قليل من سكّان المخيّم، أوصل عدنان لمياء والأطفال إلى البيت في الجلزون، وعاد ليقف بجانب طارق في هذه السّاعات الحرجة.
افتقد عليّ جدّه أكثر من الآخرين، لم يجرؤ على النّوم في نفس زاوية الغرفة التي كان جدّه ينام فيها، أقنع ماهر أن يناما في الزّاوية الأخرى دون أن يقول له سببا لذلك، أمضى ليله يبكي بصمت، سألته زهرة وماهر عن سبب بكائه، لكنّه لم يجبهما.
فكّر ماهر أنّ عليّا مريض، يبكي من الألم، دخل إلى الغرفة الأخرى حيث تنام والدته؛ ليخبرها حول شكوكه بمرض عليّ، فوجدها تبكي هي الأخرى، استوعب أنّ والدته تبكي حزنا على وفاة أبيها، لكنّه لم يجد سببا مقنعا لبكاء عليّ، فلا يعقل أنّه يبكي جدّه أبا طارق، فقال لعليّ:
إن كنت تبكي الجدّ أبا طارق فهو جدّي وجدّك وجدّ زهرة أيضا، ولسنا حزينين عليه مثل حزنك، فالرّجل عجوز ومريض والله يرحمه.
قال عليّ: اتركني وحدي فأنا لا أعرف لماذا أبكي؟ ربّما أبكي على حالي.
في الصّباح نهضت لمياء لتجهيز الأولاد؛ كي يذهبوا إلى المدرسة، رأت عليّا مرهقا، عيناه منتفختان من شدّة البكاء، قالت له:
يبدو أنّك مريض يا عليّ، ابق في البيت هذا اليوم.
سمع عليّ كلامها، ولم يخرج مع ماهر، مثلما اعتادا كلّ يوم، جلست بجانبه وقالت له:
لا تحزن يا ولدي، فأنت ستبقى معي معزّزا مكرّما مثل أبنائي.
تجرّأ وسألها بانكسار:
عمّتي لمياء، هل تعرفين أمّي؟
ضمّته إلى صدرها وقالت له: نعم أعرفها.
– ما اسمها؟
– رحاب علي ربيع سعد من مدينة يافا.
– أين هي الآن؟
– لا أعرف، لكنّني أعتقد أنّها الآن مع زوجها الثّاني لاجئان في سوريّا، لأنّ زوجها من قرية حطّين بجانب طبريّا، قريبا من الحدود السوريّة.
– ما اسم زوجها؟
– اسمه خالد محمّد عودة كما سمعت.
قطع عليّ ورقة من دفتر في حقيبته، كتب اسم والدته واسم زوجها، ووضع الورقة في جيبه.
سألته عمته لمياء: ماذا كتبت في الورقة؟
– كتبت اسم أمّي واسم زوجها.
– لِمَ وضعت الورقة في جيبك؟
– كي لا أنسى اسم أمّي.
سقطت من عينيها دمعتان وهي تقول له: اعتبرني أمّك يا عليّ.
نظر إليها مع ابتسامة حييّة ولم يتكلّم.
عند ساعات الضّحى جاءت الجارة ميسون لتقديم التّعازي بوفاة أبي طارق، بعد أن عزّت لمياء حضنت عليّا وقالت له:
أنت أولى شخص بتقبّل العزاء بالمرحوم جدّك، فأنت مثلي، أنا وأنت نفتقد الغوالي.
عليّ: من مات لك؟ هل مات جدّك مثلما مات جدّي.
ميسون ضاحكة: جدّي مات منذ سنوات، لكنّني أفتقد الغالي.
– من هو الغالي؟
– زوجي الحبيب.
– أين زوجك؟
– في يافا.
– لِمَ لمْ يأتِ معك؟
– لا أعرف، وأخشى أن يكون لقائي بزوجي مستحيلا كاستحالة عودة جدّك المتوفّى.
لم يفهم عليّ ما قالته، لكنّه قال لها ببراءة تامّة: تزوّجي غيره.
لم تحبّ سماع تلك الكلمة التي سمعتها من آخرين أكثر من مرّة، لكنّ صدورها من طفل بريء جعلتها تفكّر بها كثيرا، خصوصا وأنّها سمعت من أكثر من شخص أنّ زوجها ناصر أمين، الذي فرّقتهما النّكبة قبل دخوله بها قد تزوّج من غيرها وأنجب.
قالت للمياء: لن أخلع ناصر حتّى لو تزوّج من أربع نساء، وخلّف منهنّ، سأنتظره حتّى تحلّ القضيّة، سأعود إليه مرفوعة الرّأس، وسأبقى أنا الزّوجة الأولى.
لمياء: الرّجال يا ميسون لا أمان لهم، ولا يستطيع الواحد منهم أن يعيش بدون زوجة.
ميسون: أحبّ ناصر حبّا جنونيّا، وقلبي لن يدقّ لغيره، عرض أبي وأشقّائي علَيَّ أكثر من مرّة أن أخلعه، وألقى نصيبي عند غيره، لكنّني أرفض ذلك تماما.
لمياء: أنت حرّة، لكن ما يدريك أن تموتي عزباء، ما دمت لم تغيّري ما برأسك؟
ميسون: الزّواج ليس سباقا ولا غنيمة، ملايين النّساء عشن ومتن عزباوات، وأنا لست خيرا منهنّ.
خرجت ميسون من عند لمياء مكتئبة، فقد طال انتظار الزّوج، وطال انتظار العودة، هي تعرف تماما رغبتها الجامحة في أن تكون أمّا، وتدرك أنّ العيش في كنف الأبناء عند الشّيخوخة لا بديل له، فمثلا أبو طارق لولا ابنته لمياء لضاع في شيخوخته، لكنّها حقيقة لا تستوعب أن تكون خليلة لغير زوجها ناصر أمين.
التزم عليّ الصّمت لا يكلّم أحدا، ولا يرغب شيئا، انطوى على نفسه، ولكثرة اهتمام عمّته لمياء به، فإنّها تقتحم خلوته مع نفسه دون انذار، حمل نفسه وجلس في ظلّ الحائط الشّرقيّ للبيت، عمّته لمياء تراقبه من خلف النّافذة قلقة عليه، ميسون هي الأخرى تراه وتشفق عليه، قالت له:
لماذا تجلس عندك يا عليّ؟
– هكذا دون سبب.
– تعال عندي هنا.
قام ذاهبا إليها، عند الباب سألها:
هل تريدين منّي شيئا؟
– نعم، أريدك أنت.
– ماذا تريدين أن أجلب لك؟
– أريد أن أتحدّث معك فقط، فالوحدة قاتلة.
دخل إلى البيت وجلس قبالتها، قالت له:
سأعدّ لنا كأسي شاي يا عليّ.
وهما يحتسيان الشّاي سألها:
– هل تعرفين أمّي يا ميسون؟
– لا، لا أعرفها.
– هل قالت لك عمّتي لمياء شيئا عن سبب طلاق أبي لأمّي؟
– نعم قالت.
– هل تحدّثينني بذلك؟
– تلك قصّة طويلة، أعدك بأنّني سأحكيها لك عندما تكبر، سأقول لك شيئا واحدا فقط، هو أنّ أمّك امرأة فاضلة، وقعت هي وأبوك وجدّك ضحايا لحماقات جدّتك سعاد.
– هل تعلمين لماذا أخبروني أنّ هيفاء زوجة أبي هي أمّي؟
– طبعا فزوجة الأب مثل الأمّ، ويفترض أن ترعاك كما ترعى الأمّ ابنها.
سحب شهيقا طويلا، أخرج الهواء من رئتيه بطريقة تشي أنّه يحمل هموما أكبر من عمره بكثير وقال:
لكنّها لم تكتف بعدم حبّها لي، فهي تكرهني وتضربني بقسوة.
– أعلم ذلك، وهذا ما دفع جدّك أبا طارق أن يهرب بك إلى بيت عمّتك لمياء.
– وأبي لماذا لا يحبّني؟
– أبوك يحبّك، لكنّه إنسان بائس مدمّر، لا يملك من أمور نفسه شيئا.
– شكرا لك يا ميسون، فأنت امرأة فاضلة.
– وأنت صبيّ رائع، سأحضّر غداء لي ولك، فوالداي موجودان في بيت أخي حمدان.
– لا رغبة لي في طعام أو شراب.
– لن تخرج من هنا إلا بعد الغداء، خذ هذه ثلاثة قروش أحضر لنا بها علبة سردين من الدّكّان.
ركض عليّ؛ عاد سريعا، ألقى علبة السّردين من الباب وفرّ هاربا، حاولت ميسون اللحاق به؛ ليأكل معها، غير أنّها لم تستطع.
سألتها لمياء عمّا فعله عليّ ويهرب منه، فقالت لها:
خذي علبة السّردين هذه، كي يأكلها عندما يعود، هذا الولد يفتقد أمّه بطريقة جنونيّة، ويشعر بالفقد بعد وفاة جدّه.
لم يعد عليّ إلى البيت، عند المساء افتقدوه، بحثوا عنه في الأماكن التي يلعب فيها، سألوا أقرانه عنه، ذهب عدنان ليلا لبيت طارق على أمل أن يجد عليّا عنده، لكنّ أحدا لم يقل أنّه رآه.
خرج عليّ لا يدري إلى أين المسير، قرّر عدم العودة إلى بيت عمّته لمياء، أبوه لم يعد يسأل عنه، زوجة أبيه ترميه بسهام حقدها، لم يعد به رغبة في الحياة، لولا فسحة الأمل التي من خلالها يتخيّل والدته، يراها تحتضنه كما تفعل الأمّهات كلّهنّ مع أطفالهن.
مشى في الشّارع الرّئيسي باتّجاه الشّرق، اجتاز قرية دير دبوان إلى طريق “المعرّجات” الموصلة إلى أريحا، طريق وعرة غير معبّدة تخترق البراري التي تجوبها الذّئاب، الضّباع والثّعالب، وبعض قطعان الغنم، عند الغروب مرّت به شاحنة، أشفق عليه سائقها عندما رأى ضبعا يتعقّبه، توقّف وسأله:
– إلى أين أنت ذاهب يا ولد؟
– لا أدري.
– أين أهلك؟
– لا أهل لي.
– أين كنت؟
– لا أعرف.
– أين تنام؟
– في الأمكنة جميعها.
– هل معك نقود؟
– لا.
– أين كنت تعمل؟
– لم أعمل شيئا.
– من كان يزوّدك بالطّعام؟
– عمّتي لمياء.
– أين تسكن عمّتك؟
– في مخيّم الجلزون.
– أين أمّك؟
– لا أعرف، لكنّهم يقولون أنّها مع زوجها الثّاني لاجئين في سوريّا.
– هل أنت يتيم الأب؟
-لا لست يتيما، لكنّ أمّي مطلّقة.
– أنا ذاهب إلى حسبة عمّان، هل ترافقني؟
– نعم.
وصلا حسبة عمّان ليلا، أمسك السّائق بعليّ وقال له:
– تعال نم هنا، ربّما تجد عملا في هذه الحسبة.
دخل السّائق إلى محلّ التّاجر الذي ينقل له البضاعة، تكلّم معه بخصوص هذا الطّفل المجهول، فقال الرّجل:
دعه يأكل ما يشاء من الخضار والفواكه، ولينم هنا حتّى الصّباح، فلي قريب يملك “كراجا” لتصليح السّيّارات، سآخذه معي إليه، لعله يتعلّم الصّنعة كي يعيش بقيّة حياته، فالولد كما يبدو من ضحايا النّكبة.
*******
قال حسين جعفر رضا لزوجته وأبنائه:
حسب اعتقادي هذان الشّابّان العكّاويّان زياد الفالح وقريبه إبراهيم الفرحان، عريسان مناسبان لرقيّة وزينب.
رقيّة: زياد – كما قلتم- متزوّج وله أبناء.
شقيقها نبيه: نعم هذا صحيح، فهو رجل شهم وصادق، لكنّه الآن في حكم الأرمل.
أمّ نبيه: لن تبقى هذه الأحوال كما هي، ولن تطول غيبة الفلسطينيّين عن ديارهم، وسيعود زياد لزوجته وأبنائه.
أبو نبيه: نسأل الله أن يستجيب لما تقولينه، عندها سيعود زياد ورقيّة بجانبه، وعكّا ليست بعيدة عنّا.
نبيه: هل أفهم من كلامكم أنّكم موافقون على مصاهرتهم.؟ هل أخبرهم بذلك؟
أمّ نبيه: بداية أخبرهم أنّنا مسلمون شيعة والحمد لله، ولا فرق بين السّنّة والشّيعة، وفلسطين كما تعرفون لا شيعة فيها، ونحن لا نفرّق بين طائفة وأخرى، فجدّتك لأبيك مسيحيّة.
أبو نبيه: الفلسطينيّون ليسوا طائفيّين، ولا يفرّقون بين النّاس طائفيّا، ففي بلادهم عاش المسلمون، المسيحيّون واليهود والدّروز كأبناء شعب واحد، لكنّ اليهود اختاروا الوقوف مع الحركة الصّهيونيّة ضد شعبهم وأمّتهم.
نبيه: زياد وإبراهيم لا يعرفان الطّائفيّة مطلقا.
أبو نبيه: إذن توكّلوا على الله.
عندما جاء زياد وإبراهيم قال لهما أبو نبيه:
أعرف معاناة اخوتنا الفلسطينيّين وما حلّ بهم، لذا سأعتبركما أبنائي مثلما هما رقيّة وزينب ابنتاي ونبيه ابني. مهر رقيّة وزينب خاتم الخطوبة فقط، وما تبقّى عليّ أنا، سأقيم لكما حفل زواج ستتكلّم المنطقة كلّها عنه.
زياد: شكرا لك يا عمّ، رقيّة ستكون عينيّ التي أرى بهما الطّريق.
وقبل أن يكمل قاطعه إبراهيم وقال: وزينب ستكون رئتي! التي أتنفّس بهما.
فردّ أبو نبيه مازحا: راحت عليك يا أمّ نبيه، فأنا لا أعرف كلام الغرام الذي يعرفه الشّباب في هذه الأيّام.
ردّت أمّ نبيه على استحياء: سقى الله أيّام الصّبا، لن نأخذ وقتنا ووقت غيرنا.
نبيه مازحا: ما رأيكما يا أبي وأمّي أن نزفّكما مع العرسان الجدد.
أبو نبيه: إذا هرم الجسد، واكتسى الرّأس بغبار الحياة؛ فإنّ النّفس البشريّة لا تهرم.
زياد: لن ننسى كرمكم يا عمّ، ونسأل الله أن نكون عند حسن ظنّكم.
لم يرغب زياد وإبراهيم بإقامة حفلات زفاف لأكثر من سبب، منها عدم وجود الأهل والأقارب، النّكبة التي شتّت الشّعب، وضيق ذات اليد، فقد تركا ما يملكان في الدّيار التي شُرّدا منها، وهما لا يريدان استغلال وطيبة هذه الأسرة اللبنانيّة التي أكرمتهم، وقدّمت لهما الكثير، ولا يريدان تكليفها ماديّا.
قال أبو نبيه: واجبكم أنتم الفلسطينيّين علينا كبير، ومن حقّي أن أحتفل بابنتيّ، وسأقيم لهما ولكما حفلا كبيرا.
بعد عام من الزّواج أنجبت كلّ من رقيّة وزينب ولدا، تشاورت رقيّة مع زياد زوجها على اسم الولد، واتّفقا على اسم بكر، بينما اتفقت زينب وإبراهيم على عمر.
قال نبيه مازحا: بقي علينا عثمان لنبني “خلافة راشدة”.
ردّ إبراهيم ضاحكا: ما قصدنا ذلك يا نبيه.
مرّ زياد بمخيّم الرّشيديّة، وجد هناك سيّارة لهيئة الاذاعة اللبنانيّة، أنزلوا منها مسجّلا عليه شريط طويل كما شرائط أفلام السّينما، يريدون تسجيل رسائل صوتيّة من اللاجئين الفلسطينيّين إلى ذويهم، وجدها زياد فرصته؛ ليطمئنّ على زوجته الأولى مريم وعلى أطفاله، فسجّل:
“أنا زياد محمّد الفالح من عكّا، أبعث سلامي وتحيّاتي لزوجتي الحبيبة مريم في عكّا، ولأبنائي الأحبّاء صلاح، فريال، جمال وعيسى، وسلامي للعمّ “أبو شاكر” والعمّة أمّ شاكر، ولأبنائهما وبناتهما كلّ باسمه، وأعلمكم أنّني بخير، وقد تزوّجت امرأة من عائلة لبنانيّة كريمة اسمها رقيّة حسين جعفر رضا من قرية قانا، ورزقنا الله قبل شهر مولودا أسميناه”بكر”، وإبراهيم الفرحان تزوّج من زينب شقيقة رقيّة، وأنجبا طفلا هما الأخريان أسمياه عمر، والعمّ حسين والد رقيّة وزينب يعرف العمّ أبو شاكر ويهديه السّلام”.
سمعت مريم رسالة زياد في بيت والديها، كانت تجلس مع والديها، فقال أبوها:
الله…الله كم هي الدّنيا صغيرة! الله يسلمك يا أبو نبيه.
أمّ شاكر: من أبو نبيه هذا؟ وهل مات؟
أبو شاكر بلهجة غاضبة: أستغفر الله العظيم، يا امرأة أنت مثل قانون “الحاضر الغائب” الذي جاؤونا به في آخر زماننا.
التفتت إلى ابنتها مريم وسألت مذهولة:
ماذا يقول؟ والله لم أفهم عليه شيئا.
مريم: أبو نبيه الذي تسألين عنه هو حمو زياد.
– أيّ زياد؟
– أبو صلاح زوجي.
– ومتى صار أبو شاكر اسمه أبو نبيه؟
– هذا حمٌ جديد يا أمّي. زياد تزوّج امرأة أخرى في لبنان.
– غير معقول، من قال لك هذا؟
– سمعنا صوت زياد في راديو لبنان.
– متى؟
ردّت مريم غاضبة وساخرة: عندما كنت مسافرة!
بعد لحظة صمت وأمّ شاكر تقلّب يديها وقسمات وجهها، قالت مريم ضاحكة، في مشهد تمثيليّ لا يعبّر عن النّار التي تشتعل في داخلها: الحمد لله أن زياد تزوّج؛ كي يبقى في لبنان حتّى تحلّ القضيّة، فلا يضطرّ للتسلّل، فربّما يقتلونه.
أبو شاكر: صهر زياد الجديد رجل شيعيّ طيّب كريم النّفس؟
مريم: منذ متى تعرّفت عليه يا أبي؟ وكيف؟
– يا بنتي والله قبل النّكبة كانت البلاد واحدة، لا حدود ولا غيرها، كنّا نتعشّى في بيروت، نشاهد فيلم سينما ونعود في نفس الليلة. وأبو نبيه هذا صهر زياد الجديد تاجر دخّان، كان يبيع دخّانه في صفد، عكّا، حيفا، ومرّات في القدس؛ كي يصلّي في المسجد الأقصى، وقد زارنا أكثر من مرّة في بيتنا وزرناه في بيته، و”بيننا وبينه عيش وملح.”
– أمّ شاكر: تقول شيعيّ، ماذا تعني؟
– الشّيعة مسلمون مثلي ومثلك.
مريم: سأخبر الأبناء أنّه أصبح لهم أخ جديد، وأمّ جديدة.
أمّ شاكر: هل أنتِ جادّة عندما قلت بأنّ زياد تزوّج امرأة أخرى.
– نعم يا أمّي.
– وهل أنت سعيدة بذلك؟
– نعم أنا فرحة بذلك، فأن يبقى زياد حيّا مع زوجة أخرى أفضل مليون مرّة من أن يحصل له سوء –لا سمح الله – أثناء تسلّله.
– “الضّرّه مُرّة” يا عبيطة.
أبو شاكر: لو كنت عاقلا فيما مضى من الأيّام؛ لتزوّجت امرأة أخرى، فهذه المرأة “مثل الغراب لا تنعق إلا بالخراب”.
ضحكت مريم ولم تتكلّم لكنّ أمّ شاكر سألت:
لماذا تضحكون؟
مريم باسمة: أبي يريد أن يتزوّج.
– والله لو يعملها لأضع له سمّ فئران.
قالت مريم: الله المستعان، اسمحوا لي، سأعود إلى بيتي.
في بيتها أنامت مريم أطفالها، لكنّها لم تنم، بقيت تتقلّب في فراشها، غاضبة من زياد الذي تزوّج عليها، لكنّها تفتقده، تذكّرت الليالي التي كان يتسلّل فيها إلى البيت ليلا، اشتعلت عواطفها، رأت حالها كتلك الأعرابيّة التي افتقدت زوجها المشارك في جيوش الفتح زمن خلافة عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- فأنشدت تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه…وطال عليّ أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا خشية الله وحده…لحُرّك من هذا السّرير جوانبه
استعاذت بالله من وساوس الشّيطان، وأقنعت نفسها أنّها ستنتظر زياد تحت كلّ الظّروف، وأنّ من حقّه أن يتزوجّ من أخرى ما دام الشّرع يحلّل له ذلك.
سمعت رقيّة رسالة زوجها زياد الصّوتيّة في المذياع لأسرته في عكّا، فشعرت بغصّة لم تشعر بها من قبل، جلست ترضع طفلها بكر، فكّرت بضرّتها مريم في عكّا، هي تعرف تماما أنّه يستحيل على زياد ومريم أن يلتقيا، لكنّها في داخلها لا تريد أن يتّسع قلب زياد لامرأة غيرها، سقطت دموع الغيرة من عينيها، فكيف يخاطب مريم بحبيبتي وهو بعيد عنها منذ حوالي تسع سنوات؟ فكلمة حبيبتي تسمعها منه كلّ يوم، فهل يعقل أنّه يقولها لكلّ امرأة يصادفها، أم هو يقولها لمريم فقط؛ كي ترعى أبناءه منها وفصلتهم النّكبة عن بعضهم بعضا؟
أرضعت “بكر”، وضعته في فراشه، تمدّدت بجانبه معصوبة الرّأس وغفت، لم تستيقظ إلا عندما دخل زياد البيت، رآها بهذه الحالة اقترب منها وسألها:
– كيفك حبيبتي؟ هل أنت مريضة؟
– حبيبتي، أهذا ما قلته؟
– نعم يا زوجتي الحبيبة.
– كم حبيبة لك؟
– لماذا تسألين؟ أعندك شكّ بصدقي؟
– نعم، ألم تبعث سلامك اليوم في المذياع لزوجتك الحبيبة مريم في عكّا؟
ضحك زياد قهقهة وسأل: ألا تعلمين قبل أن أتزوّجك بأنّ لي في عكّا زوجة وأربعة أبناء؟
– نعم أعلم.
– هل ممنوع عليّ أن أسأل عنهم؟
– أنا لم أقل ذلك.
– وأنا قلت لأبيك وأخيك نبيه بحضورك وحضور والدتك وشقيقتك زينب بأنّه عندما تُحلّ قضيتنا، سأعود أنا وأنت للعيش في عكّا.
– لا عليك يا حبيبي، يبدو أنّني فتحت لك جراحا لا تندمل.
احتضن زياد ابنه “بكر” قبّله وبكى، شريط ذكرياته يرسم خطوات أطفاله في عكّا أمامه، احترق قلبه عندما تذكّر أنّه لم يشاهد صغيره عيسى مطلقا.
غفا وهو يردّد في داخله:
ما أصعب الفراق!
******
عندما أنجبت رحاب ابنتها ماتت في تلك الليلة أمّ فاطمة، لم يحزنوا عليها كثيرا فقد شبعت من عمرها، المرض هدّها وأقعدها الفراش، حتّى أنّها أصبحت شبه عاجزة، وأصبح موتها أمنية رحمة بها، الوحيد الذي افتقدها وبكاها مع أنّه تظاهر عكس ما في داخله هو العمّ كمال، فمعالم الحزن ظاهرة على ملامح وجهه بشكل لم يعد خافيا. لم يطلقوا اسما على المولودة الجديدة، فقد انشغلوا بمراسم دفن أمّ فاطمة، بعد أن عادوا من المقبرة بعد الدّفن، اختلت رحاب بزوجها خالد وقالت له:
ما رأيك أن نسمّي المولودة على اسم المرحومة؟
التفت إليها مبتسما وقال: هل تصدّقين أنّ هذا ما كنت أفكّر به؟
– إذن اتفقنا، لكن ما هو اسم المرحومة؟ لم نعرف لها اسما سوى “أمّ فاطمة”.
– اسمها زمرّدة.
– كيف عرفت؟
– العمّ كمال قال لي ذلك.
– متى؟
– منذ أكثر من عام؟
– ما معنى زمرّدة؟
– “حجر كريم يمتاز بشفافيّته وشدّة خضرته”، هكذا قال العمّ كمال.
– اسم جميل يليق بالمرحومة، فقد كانت جميلة الشّكل نقيّة السّريرة.
– الله يرحمها.
– إن شاء الله ستكون ابنتنا مثلها.
– والعمّ كمال روى لي كيف تزوّجها؟ فزواجهما كان حديث النّاس وقتئذ.
عندما نكون في غرفتنا وحدنا سنتحدّث بذلك، فالوقت ليس مناسبا للحديث الآن، سأذهب للجلوس مع الرّجال.
توافد عدد من أقارب الفقيدة ومن أقارب العمّ أبو فاطمة، من أبناء قرية جرمانا، من مخيّمها، ومن القرى المجاورة أيضا؛ لتقديم العزاء للعمّ كمال. صحيح أنّ لا عزاء في النّساء، وأنّ من شارك في تشييع الجثمان لا يحضر لبيت العزاء-كما جرت العادة- لكنّ خصوصيّة العمّ كمال كسرت هذه العادة، فالرّجل من خيّري البلدة ووجاهاتها التي يجمع الأهالي على ذلك، وهو صاحب اليد الطّولى في مدّ يد العون لكلّ ملهوف، لا تعرف يسراه ما تدفع يمناه، يضاف إلى ذلك أنّ الرّجل لم ينجب أبناء ذكورا، أو للأمانة فإنّ أبناءه كانوا يموتون بعد بضع ساعات من ولادتهم، أنجبت المرحومة خمسة أبناء ذكور وستّ بنات، لم يعش منهنّ سوى فاطمة، وقد جرت عدّة تفسيرات لذلك، لكنّ أكثرها انتشارا هي التي تقول أنّ عينا حاسدة قد أصابت الزّوجين، خصوصا زمرّدة، لم يستمع أحد لما قاله طبيب ممّن درسوا في فرنسا، فقد قال بعد عدّة أسئلة وفحوصات للزّوجين أن سبب موت أبناء زمرّدة بعد ولادتهم بساعات، أنّ الجنين يعاني من تشوّهات خَلْقيّة، سببها قرابة الدّم بين الزّوجين، فزمرّدة بنت خال كمال، وهو ابن عمّتها. ضحكوا كثيرا ساخرين ممّا قاله الطّبيب، اتّهموه بالجهل، ولديهم براهينهم على ذلك، فزواج القربى منتشر كثيرا في القرية وفي بقيّة القرى والمدن، ومع ذلك لا يموت أطفالهم، كما يموت أطفال كمال وزمرّدة.
وقف خالد عند باب البيت يستقبل المعزّين، يحاول أن يصبّ القهوة المرّة “السّادة” ويقدّمها للمعزّين، فهو يعتبر نفسه ابنا للفقيدة ولزوجها العمّ كمال، وهذا ما أشعراه به منذ وطأت قدماه أرض جرمانا. لكنّ العمّ كمال والمختار “أبو إبراهيم” كان لهما رأي آخر، فقد قالا له:
أنت من أهل البيت يا خالد وأصغر منّا عمرا، قف عند الباب بجانب المختار لاستقبال النّاس، وصبّ القهوة وخدمة الضّيوف سيقوم بها أحفاد الفقيدة، أبناء بنتها فاطمة والمختار، وأبناء إخوة العمّ كمال.
بعد صلاة العشاء انفضّ غالبيّة المعزّين، بقي شقيق العمّ كمال، المختار، وأربعة مسنّين من مجايلي العمّ كمال، جلسوا متّكئين على الفراش، وراحوا يتسامرون ويتمازحون، فقال الحاجّ عبد الواحد:
سقى الله أيّام زمان كم كانت جميلة! دنيا فانية، لا يبقى إلا وجه الله والأعمال الطّيّبة، الله يرحمك يا زمرّدة كيف كنت كما يقولون:”اشتدّي يا دنيا ما عليك حدا قدّي.”
الحاجّ صيّاح: والله كانت زينة النّساء، لم يكن أجمل منها في المنطقة كلّها.
مرزوق: لطيب أصلها وجمالها استمات في سبيل الّزّواج منها خيرة رجالات البلدة، والقرى المجاورة.
الحاجّ عبد الواحد مع تنهيدة: “الزّواج قسمة ونصيب.”
ردّ الحاجّ صيّاح عليه مازحا: “قصر ذيل فيك يا أزعر.”
ضحك الحضور من كلامه، فقال المختار:
صلّوا على النّبيّ يا ناس. وأضاف قاصدا أن يُخرج العمّ كمال من شروده الذّهنيّ:
الله يرحمك يا أمّ فاطمة، لم يحظَ بقلبك إلا العمّ كمال، لأنّه كان زين الشّباب. والتفت إلى العمّ كمال وقال:
بالله عليك يا عمّ كيف قبلت أن تتزوّجها وهي تكبرك بثلاثة أعوام، وكان بامكانك كما سمعت من المرحوم أبي أن تتزوّج فتاة تصغرك بثلاثين عاما؟
ضحك الحاج صيّاح وقال: كيف سيكون ذلك يا مختار، وكمال عندما تزوّجها كان ابن سبعة عشر عاما، وهي بنت عشرين سنة؟
تنحنح أبو موسى شقيق العمّ كمال وقال:
الله يرحمها، خطبها محمّد مرعي -الله يرحمه- وتوفّي بعد ذلك بأسبوع، وبقي الخطّاب يتردّدون على بيت والدها، إلا أنّها لم توافق إلا على أخي كمال.
صيّاح مازحا: والله عرفت من تنتقي يا أبو فاطمة.
العمّ كمال: يا اخوان القضيّة ليست كما يفسّر كلّ منكم، المرحومة بنت خالي كما تعلمون، وكنّا نزورهم وكانوا يزوروننا، أي عشنا كأسرة واحدة، وهكذا كان أهل القرية جميعهم، عدد سكّان القرية كان قليلا، والكلّ يألف الكلّ ويحبّه، عندما خطب المرحوم محمّد مرعي زمرّدة كانا ابنيْ ثمانية عشر عاما، لكنّه مات بعد الخطبة بأسبوع، مات بلسعة نحلة صفراء، أخذوه للمستشفى بعد أن شارف على الهلاك، فمات في الطّريق قبل أن يصل المستشفى، وبعدها بدأ الخطّاب يتوافدون على بيت أبيها، فقد كان ذا عزّ وجاه، معروفا في المنطقة كلّها، والمرحومة كانت جميلة مثل القمر البدر، وأمّي -الله يرحمها- كانت صديقة لأمّها. وقالت لها:
لو كان كمال في عمر الزّواج لما ارتضينا له عروسا غير زمرّدة.
ومن يومها وعين الأمّ كانت عليّ تريدني زوجا لابنتها، فأنا طويل القامة وسيم كما ترونني، صحيح كان الزّواج المبكّر منتشرا، لكنّ أبي له موقف أخر، لأنّ جدّي -رحمه الله- زوّجه وهو في عمر الثّانية عشرة، وأمّي كانت في الحادية عشرة، وبعد أن بلغ سنّ الرّشد أقسم أن لا يزوّج أيّا من أبنائه قبل الثّامنة عشرة.
وبيني وبينكم أنا سمعت ما تحدّثت به والدتي مع زوجة خالي أمّ زمرّدة، وتمنّيت وقتها لو أنّهم يزوّجونني في حينه، فزمرّدة من جمالها كانت تقول للقمر” انزل لأجلس مكانك”. وعندما أنهيت السّادسة عشرة من عمري سألتني زمرّدة:
هل تحبّني يا كمال كما تقول أمّك؟
صحيح أنّها فاجأتني بالسّؤال، لكنّني تظاهرت بالقوّة والرّجولة ورددت عليها:
أحبّك لدرجة الجنون.
ضحكت من جوابي وقالت: لكنّني أريدك عاقلا.
فقلت لها: طبعا أنا عاقل في كلّ شيء يا زمرّدة، لكنّني أحبّك بجنون.
ضحكت وقالت: لكنّني أكبر منك عمرا بثلاث سنوات.
فقلت: أعرف، وأنا راض بذلك.
قالت بدلال: أخشى في المستقبل أن تتزوّج امرأة أخرى أصغر منّي عمرا.
فقلت: أعاهدك بأن لا أعرف امرأة كزوجة غيرك، وقد بررت بعهدي.
وانصرفنا وعدت إلى بيتي، وسألت أمّي متى سأتزوّج زمرّدة؟
فضحكت وقالت: الحمد لله.
وعندما عاد أبي إلى البيت قالت له أمّي فرحة:
كمال يطلب الزّواج.
التفت إليها وقال: لقد عانينا أنا وأنت من الزّواج المبكّر، وتعلمين أنّني أقسمت أن لا أوافق على زواج أبنائي قبل الثّامنة عشرة.
وتحت اصرار أمّي وافق أبي أن يخطب زمرّدة لي حينما أبلغ السّابعة عشرة.
وفي السّابعة عشرة خطبنا، وتزوّجنا بعد أن رآني أبي أمضي ليلي ونهاري في بيت خالي؛ كي لا أفارق زمرّدة، فقال:
سنزوّجهما ونسكت ألسن النّاس، وسأصوم ثلاثة أيّام كفّارة لليمين.
استمعت فاطمة بنت المرحومة زمرّدة، فليحة أرملة حمدان سميح العلي ورحاب لحديث الرّجال من غرفتهنّ المجاورة، قالت فليحة:
الله يرحمك يا أمّ فاطمة، كنت أجمل النّساء ولسانك يقطر عسلا.
فاطمة: رحمها الله لقد عانت كثيرا لأنّ أبناءها لم يعيشوا، كانت أمنيتها أن تنجب ابنا ذكرا، لكنّها لم تتحقّق، وقد أحبّت أبنائي الذّكور أكثر ممّا أحببتهم أنا.
فليحة: “ما أعزّ من الولد إلا ولد الولد.”
رحاب: أنت يا فاطمة أفضل من دزّينة ذكور، والعمّ كمال أحبّ الفقيدة وأحبّك حتّى الرّمق الأخير.
فاطمة: أسأل الله أن يطيل عمره، فقد وقف في وجه والديه وأقاربه، وهم يلحّون عليه؛ كي يتزوّج من أمرأة أخرى؛ لتنجب له ولدا ذكرا، لكنّه رفض بشدّة مع أنّه كان قادرا على إعالة عشرين أسرة.
حسم خالد ورحاب الأمر فسمّوا ابنتهم زمرّدة، قال أبو كمال لابنته فاطمة عندما سمع بذلك: أخشى أن يفكّر البعض أنّنا نفرض على خالد ورحاب أن يسمّيا أبناءهما كما نريد نحن!
سمعت رحاب حديثه فقالت: والله يا عمّ عندما سمّينا ابننا البكر كمال، لم نكن نعرف اسمك حينها، وقبل النّكبة كانوا يكنّون خالد “أبو كمال” حتّى قبل أن يتزوّج. والبنت سميّناها زمرّدة؛ لحبّنا للمرحومة التي اعتبرناها أمّنا، تيمنّا باسم المرحومة لعلّ الله يمنح طفلتنا جمال وعقل المرحومة، وهذا يشرّفنا، ولا تنس يا عمّ أنّك والمرحومة والدان بالنّسبة لي ولخالد.
فاطمة مازحة: يعني إذا أنجبتم طفلة أخرى هل ستسمّونها فاطمة؟
رحاب: مع أنّك تمزحين، إلّا أنّ اسم فاطمة يشرّفنا، فهي ابنة خير النّاس كلّهم، وأمّ الحسن والحسين.
فاطمة: الله يرحمك يا أمّي. ما أصعب الفراق!

*****
تعلّم عليّ بن طارق ورحاب تصليح السّيّارات المعطوبة، استغلّه صاحب”الكراج” بطريقة بشعة، فقد أمضى شهره الأوّل لا يتقاضى أجرا، فقط كانوا يطعمونه ممّا يأكلون، سمح له صاحب الكراج بالنّوم في مكان العمل، يغلق عليه باب “الكراج” حتّى يعود إليه صباح اليوم التّالي.
لم يكن صاحب “الكراج” أبو عبد الله يعمل بيديه، يجلس على كرسيّ يدخّن “الأرجيلة” يفاصل الزّبائن ويقبض منهم، يستقبل ويودّع أصدقاءه، يصرخ على عليّ كي يغلي القهوة، ويقدّمها لزائري “المعلّم”!
تعاطف أبو أسعد كبير العاملين في “الكراج”مع عليّ، فلا يعقل أن يسكت على استغلال طفل لا يجد من يحميه، اصطحب عليّا معه، أعطاه مخزنا تحت بيته، لينام ويستحمّ فيه، أوصى زوجته بأن ترعاه كما ترعى أبناءها، اشترى له ملابس جديدة، طلب منه أن يترك ملابس العمل في “الكراج” وأن يستبدلها بالملابس الجديدة عندما ينتهي الدّوام، أوصاه بأن يستحمّ كلّ يوم بعد العودة من العمل.
بعد انتهاء الشّهر الأوّل لعمل عليّ، جلس أبو أسعد مع “أبو عبدالله” وسأله؟
كم ستدفع أجرة لعليّ؟
– أي أجر يا رجل؟ ماذا يعمل حتّى نعطيه أجرا؟
– إنّه يعمل قدر استطاعته، وقدر ما نسمح له نحن أن يعمل.
– وحّد الله يا رجل، الولد لا يعمل شيئا؟
– يكفي أنّه خادم عندك، مع أنّه يعمل أشياء أخرى.
– والطّعام الذي يأكله، أليس له ثمن؟
– اتّق الله يا أبا عبدالله، كم ثمن طعامه؟ هو يأكل معنا، ونحن ندفع ثمن الطّعام، ونادرا ما يأكل معك، يعني ما يأكله معك لا يكلّف خمسة قروش في الشّهر.
– هل تريدني أن أعطيه عشرة قروش كصدقة كلّ شهر؟ هذه مقدور عليها.
– بل أريدك أن تدفع له عشرة قروش في اليوم قابلة للزّيادة كأجر، وليس كصدقة.
– ماذا جرى لك يا أبا أسعد؟ هل تريدني أن أبيع المحلّ حتّى يرضى هذا الولد؟
– بل أريدك أن لا تأكل حقوق هذا الولد.
– لا حول ولا قوّة إلا بالله، أنت تعمل عندي وتشتمني، وأنا لن أردّ عليك احتراما “للعيش والملح” الذي بيننا.
– إذن يعطيك العافية، سأترك العمل أنا وعليّ من هذه اللحظة، وداعا.
تعال معي يا عليّ.
لحق به أبو عبدالله يستعطفه ويرجوه أن يعود إلى العمل، فهو يعرف أنّ “الكراج” سيغلق بدونه؛ لأنّه الوحيد من بين خمسة عمّال عنده الذي يتقن تصليح السّيّارات المعطوبة.
قال أبو أسعد: لن أعود إلا بشروط جديدة.
– ما هي شروطك؟
– لن أقولها الآن فأنا على عجلة من أمري.
– ما الذي يرضيك يا رجل، سأدفع لهذا الولد مثلما طلبت، لن نعمل مشكلة من أجله.
– لا دخل لعليّ بالموضوع. والذي يحتاج الآخر يسأل عنه.
عاد أبو عبد الله إلى “الكراج”، ترك “الأرجيلة”، استقلّ سيّارته ولحق بأبي أسعد حتّى بيته، فقد خاف أن يذهب أبو أسعد إلى “كراج” آخر، فأصحاب الكراجات يتمنّون أن يعمل معهم حسب شروطه، وبالأجرة التي يحدّدها، ولو ترك العمل في “كراج” “أبو عبدالله” لما وجد له بديلا، وبالتّالي سيغلق “الكراج”.
أطلّت أمّ أسعد على صوت زامور سيّارة أمام بيتها في مخيّم الوحدات، قالت: أهلا وسهلا يا أبا عبدالله، تفضّل.
– أين أبو أسعد؟
– خرج إلى عمله منذ ساعات الصّباح، ألم يصل عمله؟
– وصل لكنّه خرج قبل عدّة دقائق غاضبا.
– لم يصل بعد.
لم يعد أبو أسعد إلى بيته مباشرة، ذهب ومعه عليّ إلى بناية حديثة قائمة على طريق المحطّة، لم يكتمل تشطيبها بعد، تحتها أربعة مخازن، سأل صاحب البناية عن امكانيّة تأجيره لتلك المخازن؟
ردّ الرّجل: ماذا تريد أن تعمل بها؟
أريد اثنين فقط لأفتح بهما “كراجا” لتصليح السّيّارات المعطوبة.
– المخازن كما تراها غير مقصورة.
– هذا المطلوب فلا حاجة لنا بالقصارة.
– سيكلفك كلّ باب ستّة دنانير في السّنة.
– حيّاك الله.
– الأجرة تدفع على قسطين سلفا.
– موافق، هذه خمسة دنانير، وسأعطيك الدّينار المتبقي من الدّفعة الأولى صباح غد.
– تعال نوقّع العقد وخذ المفاتيح من الآن، بامكانك أن تداوم منذ اليوم.
وقّع أبو أسعد عقد الايجار، استقلّ سيّارته وذهب يبحث لشراء المعدّات التي يحتاجها للعمل، اتّفق على سعرها، وقال:
سآتيكم بثمنها بعد ساعتين.
– سلامة خيرك، كلّها ثمانية دنانير.
استقلّ أبو أسعد سيّارته، عاد إلى البيت؛ ليحضر عشرة دنانير، سأل عليّا:
هل ستبقى معي أم تريد أن ترتاح في البيت؟
– معك يا عمّي.
ضمّه إلى صدره وقال: حاضر يا حبيب عمّك.
في البيت أخبرته زوجته أنّ أبا عبدالله جاء يسأل عنه، فردّ عليها بشتيمة لاذعة لأبي عبدالله.
أخذ المعدّات التي اشتراها ووضعها في المحلّ المستأجر على طريق المحطّة، اشترى علبة دهان وفرشاة، كتب على الجدار الأماميّ بين بوّابتي “الكراج” الجديد بخطّ عريض: “كراج السّعادة”، تنفّس الصّعداء واستنشق عبير النّصر، وقال لعليّ:
هذا “الكراج” سيكون لي ولك يا عليّ.
ابتسم عليّ ولم يتكلّم شيئا.
عند ساعات المساء طرق أبو عبدالله باب بيت أبي أسعد، دخل متظاهرا بالغضب، مرتديا ثوب كبريائه الزّائف وقال:
ما توقّعت منك أن تترك العمل بهذه الطّريقة منك يا أبا أسعد!
ردّ أبو أسعد بلهجة جافّة: وأنا ما توقّعت منك أيضا أن يصل بك الطّمع أن تأكل مال طفل لا حول له ولا قوّة.
انتفض أبو عبد الله غاضبا وقال:
أنت تشتمني في بيتك يا أبا أسعد، وبالتّالي أنا خارج قبل أن أشرب القهوة.
– مع السّلامة.
خرج أبو عبدالله تطارده قهقهة عليّ الطّفوليّة الشّامتة، في اليوم التّالي أخبر أبو عبدالله العمّال المتبقّين عمّا حصل بينه وبين أبي أسعد مع مبالغة كاذبة، لم تخلُ من شتائم مقذعة، وقال لأبي عارف:
اذهب إليه مساء، وحاول اقناعه بالعودة إلى عمله، وهذه ثلاثة دنانير أجرة لذلك المسخوط الذي سبّب لنا هذه المشاكل، أعطها له عن طريق أبي أسعد حتّى يزول غضبه، وقل لأبي أسعد أنّني قرّرت زيادة أجرته اليوميّة خمسة قروش، يعني ستصبح أجرته اليوميّة خمسة وخمسين قرشا، والعوض من الله.
عند المساء ضحك أبو عارف وأبو أسعد عندما التقت عيونهما أمام بيت الأخير، شرح أبو عارف بطريقة ساخرة حال أبي عبد الله، أخذ أبو أسعد أجرة عليّ من عارف وقال:
“شعره من قفا خنزير بركة”. التفت إلى عليّ وقال:
خذ أجرتك يا عليّ.
ابتسم عليّ وقال: خبّئها لي يا عمّ مع خالتي أمّ أسعد.
عندما أخبر أبو أسعد أبا عارف عن افتتاحه “كراجا” خاصّا له في طريق المحطّة، قفز أبو عارف فرحا وقال:
أحسن خبر سمعته، سنبقى مع أبي عبد الله حتّى نهاية الشّهر، سنقبض أجرتنا وسنقول له: دخّن “أرجيلتك” على مهلك. ولن يرانا بعدها، سنأتي للعمل معك، وسأرسل لك الزّبائن الذين يأتون إلى “الكراج”.
في اليوم الثّاني جاء رجل أنيق إلى “كراج السّعادة” لاصلاح عطب في سيّارته، جلس على كرسيّ يتصفّح جريدة “الدّفاع” أزاح الجريدة وأخذ ينظر إلى وجه عليّ بطريقة لافتة، وسأل:
– ما اسمك يا صبيّ؟
– عليّ.
– ما اسم أبيك؟
– طارق.
– تعال قليلا، انظر إلى هذه الصّورة، هل هي صورتك؟
لم يتكلّم عليّ وحاول الهروب، لكن أبا أسعد أمسك به وقال له:
لا تخف يا بنيّ. ماذا جرى؟
رأى أبو أسعد صورة عليّ في الصّحيفة وقرأ اعلانا جاء فيه:
” خرج الطّفل عليّ طارق محمّد محمود – 11 سنوات- من بيت عمّته في مخيّم الجلزون قرب رام الله، منذ خمسة وثلاثين يوما، ويرجو والده وعمّته ممّن يراه، أو يعلم عنه شيئا إخبار الشّرطة بذلك، أو إعادته إلى بيت والده طارق محمّد محمود في أمّ الشّرايط قرب رام الله. والله لا يضيّع أجر المحسنين.”
ابتسم أبو أسعد، وقال للرّجل:
شكرا لك أنا سأتابع الموضوع.
عندما غادر الرّجل “الكراج” قال أبو أسعد لعليّ وهما يحتسيان الشّاي، اسمعني يا عليّ، قل لي صدقا:
من أين أنت؟
– والله لن أقول لك إلّا الصّدق يا عمّ. أنا من الرّملة، ووالدي يعيش في مخيّم الأمعري قرب رام الله، وبنى بيتا جديدا في “أمّ الشّرايط”.
– من أمّك؟
– بكى عليّ وقال: ليتني أعرف، هل تصدّق أنّني لم أعرف اسم أمّي إلا قبل أقلّ من شهرين، قبل ذلك أوهموني أنّ زوجة أبي هي أمّي، مع أنّها أذاقتني صنوف العذاب، لم تشعرني يوما أنّها أمّي، عشت أنا وجدّي لأبي في كنف عمّتي لمياء التي تسكن في مخيّم الجلزون، وهي من أخبرتني أنّ أمّي اسمها “رحاب” علي ربيع سعد من يافا، وبعد طلاقها من أبي تزوّجت رجلا من حطّين قرب طبريّا اسمه خالد عودة، ولا تعرف عنها شيئا بعد ذلك.
– وأبوك ألم يكن يسأل عنك؟
– أبي لا يسأل عن أحد.
– لماذا هربت من بيت عمّتك في مخيّم الجلزون؟ هل كنت شخصا غير مرغوب به؟
– كلّا يا عمّ، فعمّتي وزوجها رائعان، ولم يميّزا بيني وبين أبنائهما، لكنّني شعرت بالاختناق بعد وفاة جدّي، وما عدت أحتمل نظرات الشّفقة من الآخرين، فقرّرت أن أبني نفسي بنفسي، وأن أبحث عن أمّي.
– أين ستبحث عن أمّك؟
– عمّتي لمياء قالت: من المنطق أن تكون أمّك وزوجها لاجئين في سوريّا، لقرب بلدتهم حطّين من الحدود السّوريّة، هذا إذا لم يقتلا في حرب النّكبة.
– أسأل الله أن يجمع شملك بوالدتك، وبالتّأكيد فهي تشتاقك أكثر ممّا تشتاقها أنت، لكن كيف ستبحث عنها في سوريّا؟
– سأعمل وسأوفّر نقودا حتّى أصبح رجلا، عندها سأستخرج جواز سفر وسأسافر إلى سوريّا،؛ لأبحث عنها في مخيّمات اللاجئين، فطيفها لا يفارقني، أحلم بها، وأراها أجمل النّساء، وأكثرهنّ حنانا.
– اسمع يا عليّ، ستكون مثل أبنائي، وقد يرزقنا الله ببراءتك وطيب نيّتك، وسأحاول السّؤال عن مكان وجود والدتك، علّنا نهتدي إليها، أمّا الآن فستعمل معي، سأعلّمك الصّنعة، وسيكون لك أجر عندي ونسبة من الأرباح، ولعلّ الله أرسلك لي كي أتخلّص من قبح ذلك الرّجل المكنّى بأبي عبد الله.
– شكرا لك يا عمّ.
عند بداية الشّهر، قبض عمّال أبي عبدالله أجرتهم عن الشّهر المنصرم، ولم يكملوا يومهم، قال له أبو عارف نيابة عن زملائه وبحضورهم:
بامكانك من هذه السّاعة أن تغلق “كراجك” أو أن تبحث عن عمّال آخرين، أمّا نحن فذاهبون للعمل في “كراج السّعادة” لصاحبه الموقّر “أبو أسعد” وشريكه الصّاعد عليّ بن طارق، قالها وانصرفوا دون أن يقول له أيّ منهم كلمة وداع، فالرّجل لم يتعامل معهم يوما كبشر.
تركوا خلفهم سيّارة مرفوعة على رافعة، وأخرى “موتورها” مفكّك، حاول أبو عبد الله اللحاق بهم؛ ليسترضيهم، لكنّ المفاجأة كبّلته.
في اليوم التّالي ذهب أبو عبدالله يبحث عن “كراج السّعادة” في طريق المحطّة، وقف أمامه صاغرا، طرح السّلام على العاملين، لم يسمع جوابا من أحد سوى أبي أسعد، أمّا عليّ فقد رفع له يده اليمنى وقال ضاحكا ساخرا بشماتة:
أهلا معلم أبو عبدالله.
قال أبو عبد الله لأبي أسعد: ماذا فعلت بي يا رجل؟
– سلامتك، لم أفعل شيئا.
– لماذا تركتني وأفسدت عليّ عمّالي؟
– قد لا تصدّق أنّني لم أطلب من أيّ واحد منهم أن يأتي للعمل معي، هم جاؤوا يطلبون عملا، وأنا وافقت على عملهم معي؛ لأنّني أحتاج عمّالا، فالحمد لله فتحها الله علينا بنيّة هذا الطّفل البريء، الذي جار عليه الزّمان، وقد نحتاج عمّالا إضافيّين.
– أيّ طفل؟
– عليّ.
همس عليّ في أذن أبي أسعد: لن أعمل له قهوة.
ضحك أبو أسعد وقال له: كما تشاء، أنا سأغلي قهوة للجميع.
عندما قام أبو أسعد لتحضير القهوة قال له أبو عبدالله وهو يشير إلى عليّ:
لماذا لا يحضّرها ذلك “المفعوص” عنك؟
فردّ عليّ: أنا لا أقدّم القهوة للصوص!
صاح أبو عبدالله: من اللصّ يا ولد؟
حاول أبو أسعد أن يُسكت عليّا، لكنّه قال:
أنت اللصّ الكبير. فقد حاولت سرقة تعبي شهرا كاملا لولا العمّ أبو أسعد.
غضب أبو عبدالله من عليّ ورفع صوته قائلا:
أنا أتعرّض للاهانة في محلّك يا أبا أسعد من طفل لقيط، وهذا لا يجوز السّكوت عليه.
ردّ أبو عارف: لقد أهنتنا كثيرا في محلّك يا أبا عبدالله، ولم تعرف يوما أنّنا بشر مثلك.
لكنّ عليّ صرخ غاضبا: من اللقيط يا ابن الحرام؟ أنا أمّي أشرف من أمّك ومن بناتك، وانصرف من هنا أحسن لك.
انزوى عليّ جانبا وبكى شوقا لأمّه وردّد قائلا:
ما أصعب الفراق!
*****
بدأ انتقال اللاجئين من مخيّم جرمانا إلى مخيّم اليرموك في الطّرف الجنوبيّ لدمشق، على بعد ثمانية كيلومترات منها، أقيم على مساحة تزيد عن 2 كيلومتر مربّع. المخيّم الجديد اختلف عن بقيّة المخيّمات من حيث البناء والتنظيم، فالنّاظر إليه لا يراه مختلفا عن بقيّة أحياء دمشق، حتّى أنّ وكالة غوث اللاجئين لم تصنّفه كمخيّم. انتقل كثيرون ممّن استطاعوا شراء بيوت من مخيّم جرمانا للسّكن في مخيّم اليرموك.
لم يفكّر خالد عودة وزوجته رحاب الانتقال من جرمانا، مع أنّهما كانا يملكان ثمن بيتين، وليس بيتا واحدا، أمّا الأرملة فليحة فإنّ نفسها لم تراودها على الرّحيل، كان باستطاعتها أن تتدبّر أمورها وتشتري بيتا، فقد كانت تدّخر ما تتقاضاه من أجر مقابل عملها في أرض العمّ كمال تحت اشراف خالد، لكنّها لم ترغب بذلك، فالسّكن عند العمّ كمال لا يمكن العثور على بديل له، وليس بالامكان العثور على عمل في مكان آخر، وإن وجد فلن تكون مالكة لحرّيتها كما هي عليه. وعين العمّ كمال وابنته فاطمة وزوجها المختار عليها وعلى أبنائها، وكأنّهم أبناؤهم، وجرمانا يعيش فيها مسلمون، مسيحيّون ودروز كأنّهم أخوة.
العمّ كمال في غاية السّعادة وهو يداعب أبناء فليحة ورحاب، وإن كان قلبه يميل لكمال وشقيقته زمرّدة، وشقيقه عودة، فكلّما مرّوا من أمامه يظهر وكأنّهم يشحنونه بطاقة جديدة، يمّر كمال أو زمرّدة من أمامه فيقول له:
السّلام عليكم يا جدّي، هل تريد شيئا لأحضره لك؟
يبتسم العمّ كمال ويقول: نعم يا جدّي، أريد أن أقبّل الوجنتين.
يتقدّم إلى العمّ كمال، فيقبّله وكلاهما سعيد.
العمّ كمال يفعل الشّيء نفسه مع أبناء فليحة، لكن ليس بنفس الحماس مع أبناء خالد ورحاب.
شعر العمّ كمال بوهن في جسده، فالشّيخوخة رسمت أخاديدها على وجهه، تعرّقت شرايين أطرافه، فبانت ظاهرة كغصون الياسمين التي تمتدّ على “عريش” عند مدخل غرفة نومه، هو يعرف أن لا انسان يضمن حياته ولو للحظة واحدة، فالموت يأتي مباغتا. رأى الرّجل أن لا بدّ من عمل صالح يتقرّب به إلى الله في خاتمة حياته، فطلب من خالد أن يأتيه ببنّاء جرمانا الشّهير قاسم عبده، الذي صمّم وبنى غالبيّة بيوت البلدة الحديثة، وعند المساء اجتمع به بحضور خالد فقال له:
أريدك أن تبني لي بيتا من طابقين في قطعة الأرض المجاورة على شارع القرية، كلّ طابق فيه ثلاث غرف، صالون، مطبخ، صالة، وحمّامان، وتحتهما أريد محلّين تجاريّين.
– بيتك يكفيك يا رجل، ولا حاجة لك ببناء جديد.
– بل أنا بحاجة، وما شأنك أنت، عليك العمل ومنّي الأجر.
– لا بأس يا أبا فاطمة كما تريد.
– شكرا لك وأرجو أن تسرع بالعمل قدر استطاعتك.
– لك ذلك يا أبا فاطمة، سيكون جاهزا للسّكن في أقلّ من شهرين.
– خذ، هذه ثلاثة آلاف ليرة تحت الحساب.
بعد الانتهاء من سقف الطّابق الأوّل في البناء الجديد، حمل العمّ كمال عصاه، جمع قواه واتّجه إلى بيت المختار أبي إبراهيم، لحق به كمال، زمرّدة وعبد المجيد بن فليحة، سأله كمال:
– إلى أين أنت ذاهب يا جدّي؟
– إلى بيت ابنتي فاطمة.
– هل تسمح لي بمرافقتك؟
– لماذا؟
– كي أساعدك إذا احتجت شيئا.
– شكرا لك يا جدّي، تعال معي.
عندما رأته ابنته فاطمة ركضت تستقبله وتقول:
– لماذا جئت يا والدي؟ أليس في ذلك إرهاق لك، لو أعلمتني لجئتك أنا؟
– أريد أن أمرّن جسدي بالحركة يا ابنتي.
– أين أبو إبراهيم؟
– سيأتي الآن.
رحّبت فاطمة بأبناء رحاب وفليحة، أجلستهم ووضعت لهما ما توفّر لديها من الفواكه المجفّفة، أجلست زمرّدة في حضنها قبّلتها وهي تقول:
أهلا بالأمّورة.
قفزت زمرّدة من حضن فاطمة التي أمسكت بها، لكنّ زمرّدة تملّصت منها وهربت باتّجاه العمّ كمال وهي تقول:
بدّي أقعد في حضن جدّي، فتح العمّ كمال ذراعيه، احتضنها، أجلسها في حضنة، وقبّل رأسها وهو يقول:
أهلا حبيبة جدّها.
وصل المختار أبو إبراهيم، فاستغرب وجود العمّ “أبو كمال” في بيته، فمنذ بضعة سنوات لا يخرج الرّجل من بيته، وإذا ما احتاج شخصا ما لسبب ما، فإنّه يبعث له مرسالا، ولا أحد يرفض له طلبا، ابتسم وقال:
أهلا بالعمّ، زارتنا البركة، صافح الأطفال وهو يقول:
أهلا بالغاليين.
قال العمّ كمال: تعال يا “أبو إبراهيم” أنت وأمّ إبراهيم، أريد رأيكما في قضيّة معيّنة؟
أبو إبراهيم: تفضل يا عمّ.
– تعلمون أنّ خالد ورحاب وأبناءهما، وفليحة وأبناءها، يعيشون تحت كنفي كأبنائي وأحفادي، أنا رعيتهم وهم رعوني أيضا، فنكبتهم آلمتني كثيرا.
– نعلم ذلك، ونسأل الله لك الصّحة والعافية وطول العمر حتى تواصل رعايتهم، لعلّ الله يفرجها عليهم ويعودون إلى ديارهم.
– الأعمار بيد الله يا ولدي، ومهما عاش الانسان فنهايته الموت، وأريد أن أقدّم شيئا ينفعني في الدّار الآخرة.
فاطمة: عشت عمرك غير طامع في متاع الدّنيا يا والدي، وقد قدّمت أشياء كثيرة في حياتك، ستكون في ميزان حسناتك بإذن الله.
– الحمد لله، لكنّني لا أزال قادرا على تقديم الكثير، وما أريد استشارتكم به هو أنّني أريد أن أقدّم شيئا لأبنائي الفلسطينيّين الذين يعيشون معي، فأنا أملك أراضي واسعة وكثيرة، أفكّر بأن أوصي لخالد ورحاب بالبيت الجديد والأرض المحيطة به، مساحتها ثمانية دونمات، وأن أوصي لفليحة وأطفالها بالبيت القديم وبالدّونمين اللذين يحيطان به، فما رأيكما؟
ضحكت فاطمة وقالت: “من حكم بماله ما ظلم” إن كانت استشارتك لنا خوفا من غضبنا لأنّني وريثتك – بعد عمر طويل-. فنحن والحمد لله أملاكنا كثيرة.
العمّ كمال: أعرف يا فاطمة ذلك، أنا لست خائفا منك ولا من زوجك ولا من أبنائك، خوفي من أخي ومن أبنائه، فهم طمّاعون ولا يشبعون، رغم أنّهم ملاكون كبار.
المختار: وما دخل أخيك وأبنائه بأرضك يا عمّ؟
– حسب الدّين يا ولدي، فاطمة ترث نصف ما سأترك، كونها بنت وحيدة لا إخوة ولا أخوات لها، والنّصف الآخر يرثه العصبة الذّكور.
المختار: لا أحد له دخل بما تريد عمله يا عمّ، لكنّني أقترح عليك، أن تسجّل ما تريد أن تهبه لضيوفك بأسمائهم كبيع، وأنّك قبضت ثمنه، كي لا يطعن أحد بالوصيّة، فأنا وأنت نعرف أخاك وأبناءه جيّدا.
– الله يرضى عليك يا ابني.
المختار: جهّز نفسك غدا، وسنطلب من خالد وفليحة أن يجهّزا وثائقهم ليرافقانا غدا إلى قسم “الطّابو” في دائرة الأراضي في دمشق.
انسحب الأطفال عائدين إلى بيوتهم، زمرّدة هي من بقيت فقط، غفت في حضن العمّ كمال، ولم يسمح لابنته فاطمة بحملها ووضعها على الفراش.
ركض كمال إلى والديه وقال لهما:
جدّي كمال قال بأنّه سيبيع البيت الجديد والأرض المحيطة به لنا، وهذا البيت والأرض المحيطة به لفليحة.
رحاب: من أين سنأتي بثمنها إذا كان كمال صادقا فيما يقول؟
كمال: والله ما قلت لكما إلا الصّدق فقد سمعته يقول ذلك لابنته فاطمة، ولزوجها المختار.
أبو كمال: ماذا سمعته يقول يا كمال؟ تكلّم بهدوء حتّى نفهم عليك.
– سمعته يقول: سأوصي بالبيت الجديد والأرض المحيطة به لخالد ورحاب وأولادهما، والبيت القديم والأرض المحيطة به سأوصي بها لفليحة وأبنائها، فقال له المختار:
– سجّلها بأسمائهم كبيع، وأنّك قبضت ثمنه.
التفت خالد إلى رحاب وقال:
لا أستبعد هكذا أمر عن العمّ كمال، فالرّجل أفنى عمره في عمل الخير.
رحاب: الحمد لله، لكن حتّى لو أعطانا جرمانا كلّها، فلن تغنينا عن العودة لبلادنا وديارنا.
خالد يجلس أمام البيت، رأى فاطمة تحمل زمرّدة، والدها العمّ كمال وزوجها المختار، إنّهم يتّجهون إلينا قال لزوجته.
جاءت فليحة تسأل: هل سمعتم ما يقوله الأولاد يا أبا كمال؟
– ماذا يقولون؟
– يقولون أنّ العمّ كمال سيعطينا الدّور والأرض.
– دعي هذا الكلام، لا تقوليه مطلقا لأيّ إنسان، فنحن لسنا ورثة العمّ كمال.
– لم أتحدّث مع أحد غيرك.
قبل أن يصلوا نادت رحاب:
اتركي زمرّدة تمشي لوحدها يا أختي فاطمة.
– زمرّدة نائمة يا رحاب.
عندها ركضت رحاب لتحملها، حاولت فاطمة أن لا تعطيها إيّاها، لكنّها رضخت تحت اصرار رحاب، وما أن وصلوا حتّى ساعد خالد العمَّ كمال على الجلوس، فقال المختار لخالد:
هات أوراقك الثّبوتيّة يا خالد، وقل لفليحة أيضا أن تحضر أوراقها الثّبوتيّة وشهادات ميلاد أبنائها.
خالد: ما الدّاعي لذلك يا “أبو إبراهيم”؟
– أبو فاطمة يريد أن يسجّل البيت الجديد والأرض التي بجانبه لك، وهذا البيت القديم وما حوله من أرض باسم الأيتام أبناء فليحة وزوجها المرحوم حمدان سميح العلي.
سكت خالد ولم يتكلّم شيئا، طأطأ رأسه، انشغلت أفكاره بأمور كثيرة، أقلّها بيته الذي تركه في حطّين. سأله المختار:
– ما بك يا أبا كمال؟
– لا أدري ماذا سأقول لكم، نحن غرقى بكرم وخير العمّ كمال، وعقاراته لا حقّ لنا بها، ونحن هربنا من ديارنا من ويلات الحرب، وجئنا هنا على أمل العودة إلى ديارنا بعد انتهاء الحرب، لكنّ قضيّتنا تعقّدت أكثر من قبل.
العمّ كمال: اسمع يا ولدي، أنا أعي جيّدا ما أريده، وأعرف ما يترتّب عليّ قبل أن أعرف ما يتوجّب لي، أنا سأسجّل العقارات باسمكم كما قالها المختار أبو إبراهيم كبيع؛ لأحمي حقّكم في المستقبل، وأنا أعتبركم أبنائي، وهذه ابنتي وزوجها يعلمان ما أريد، وسيكون المختار شاهدا على نقلي الأرض في دائرة الأراضي باسمكم.
خالد: يا عمّ لا أعرف ماذا سأقول لك، ماعملته معنا من خير سيذكره أحفاد أحفادنا من بعدنا، ونسأل الله أن يكون في ميزان حسناتك، لكنّنا لا نريد أن نتسبّب لك بمشاكل مع أقاربك.
– عن أيّ مشاكل تتكلّم يا خالد؟ الأرض أرضي ولا شراكة لأحد معي، ولست قاصرا حتى يكون عليّ وصيّ؛ ليمنعني من بيع جزء من أرضي.
العمّ كمال: أنا بعت لك الأرض يا خالد مع البيت الجديد بليرتين، وبعت البيت القديم، مع دونمي أرض حوله لأبناء فليحة بليرة واحدة، فادفعاها لي الآن؛ كي أقسم صادقا أنّني بعتها واستلمت ثمنها.
خالد: أفضالك علينا كثيرة يا أبا فاطمة، أنا أقبل ما قلته، وأشهد الله أمامكم أنّنا عندما نعود لديارنا، سأبيع الأرض وما عليها لأحفادك أبناء فاطمة والمختار بنفس الطّريقة التي بعتها لنا، وبنفس المبلغ.
المختار: نسأل الله أن يلمّ شتات الشّعب الفلسطيني، وأن يعيده إلى دياره، وهذه فرحتنا الكبرى، مع أنّ فراقكم سيعزّ علينا كثيرا.
خالد لن ننقطع عن بعضنا، سنتزاور، وسأعمل لكم حفلة تاريخيّة في حطّين.
أبو فاطمة: قبل أن أنسى، ادفع لي يا أبا كمال ليرتين، وقل لفليحة كي تدفع لي ليرة ثمن أرض أبنائها.
ابتسم خالد وضحك المختار وفاطمة.
استلم أبو فاطمة ليرتين من خالد، وليرة من فليحة، وضعها في جيبه وهو يقول: هذه هي تجارتي الرّابحة.
عندما دخلت زمرّدة إلى المجلس أجلسها في حضنه وأعطاها ليرة، ونادى شقيقها كمال وأعطاه ليرة أخرى، وأعطى ليرة أيضا لعبد المجيد بن فليحة، فجاء ابنها حسين وابنتها يريد كلّ واحد منهما ليرة مثل أخيه، فأعطاهما العمّ كمال ما طلباه وهو فرح كما الأطفال.
التفت خالد إلى المختار في نظرة ذات مغزى، فقال العمّ كمال:
حقّي وصلني، أنا بعت وقبضت الثّمن، ومن حقّي أن أتصرّف بمالي كما أشاء.
في الواقع أنّ خالد احتار بطيبة العمّ كمال، التي لم يشاهد مثلها في غيره، تذكّر ما قالته له زوجته رحاب في الليلة الماضية، وهو أنّه لو وجد في كلّ قرية عربيّة اثنان مثل العمّ كمال، لما بقي فقير أو محتاج في العالم العربيّ، ولما دفعت الفاقة شخصا مثل حمدان سميح العلي زوج فليحة إلى الانتحار، تاركا خلفه أرملة شابّة وثلاثة أطفال لا يقوون على شيء.
قال المختار: حضّروا يا خالد أنت وفليحة الوثائق المطلوبة منكم؛ لنذهب صباح غد لتسجيل العقارات باسميكما.
العمّ أبو فاطمة: وأنا سأحضر وثائقي أيضا.
سأل خالد بسذاجة: ما الوثائق المطلوبة من العمّ أبو فاطمة؟
المختار: مطلوب منه أن يحضر بطاقة هويّته، أو جواز سفره؛ لاثبات شخصيته، وأن يحضر شهادات تسجيل الأرض أيضا “الطابو”.
خالد: هذه غابت عنّي. فلم يسبق لي أن تعاملت ببيع وشراء الأراضي.
قال العمّ كمال: هذا البيت القديم وما حوله من أرض تبلغ مساحتها دونمين، سنسجّلها باسم أبناء فليحة، ونسجّل والدتهم وصيّة عليهم، حتّى يصبحوا رجالا، دون أن يكون لها حقّ البيع، وعليها أن تحضر معها شهادات ميلادهم.
فاطمة: لماذا يا أبي؟ أليست فليحة أمينة على أبنائها؟
– نعم يا ابنتي هي أمينة عليهم أكثر من أيّ شخص آخر، لكن هي الدّنيا وتقلّباتها.
– لم أفهم عليكَ شيئا.
– يا ابنتي فليحة لا تزال شابّة، وما يدريك أن تتزوّج من شخص آخر، وتنجب منه أيضا.
– وهل الزّواج ممنوع عليها يا أبي؟
– من قال لك هذا؟ طبعا من حقّها أن تتزوّج، لكنّني بعت البيت والأرض لهؤلاء الأطفال الأيتام الذين عرفتهم، وهم عرفوني أيضا، ولا أريد أحدا أن يشاركهم بها في المستقبل. هزّ المختار رأسه وقال:
– سبحان الله، هذه حكمة الشّيوخ، وتجارب سنوات طويلة.
سقطت دمعتان من عيني فليحة عندما سمعت كلام العمّ كمال وقالت:
الله يرحمك يا حمدان، ما أصعب الفراق.
******

تعيش ميسون في مخيّم الجلزون وحدها بعد وفاة والديها، حتّى جارتها لمياء أمّ ماهر، زوجة عدنان، وعمّة طارق رحلت إلى البيت الجديد منذ سنوات، استأجر بيتها رجل أرمل اسمه حسن حمدان، يعيش على بعد عشرات الأمتار من ولديه المتزوّجين.
لا تخرج ميسون من بيتها إلا لاستلام مخصّصات وكالة الغوث، أو لزيارة أشقّائها في نفس المخيّم بين الفينة والأخرى، سمعت رسالة صوتيّة من دار الاذاعة الإسرائيليّة بصوت ابنة خالتها يسرى العبّادي التي بقيت مع زوجها في يافا، حيث قالت:
“أنا يسرى العبّادي من حيّ العجميّة في يافا، أبعث سلامي لبنت خالتي ميسون عمر عطالله من سلمة سابقا، ومجهولة مكان الاقامة حاليّا، وأقول لها أنّني أنجبت أربع أبناء، ولدين وبنتين، وزوجي يعمل في مطعم سمك، وأخبرك يا ميسون أنّ خطيبك ناصر أمين تزوّج بعدك بسنة، وعنده الآن ثلاثة بنات وولد، سمّى ابنته البكر ميسون على اسمك، وسلامي لكلّ من يسأل عنّا بطرفكم.”
شهقت ميسون عندما سمعت الرّسالة الصّوتيّة، نزلت دموعها بغزارة، لطمت وجهها، أغلقت باب بيتها، تمدّدت على فراشها حزينة لا يرى دموعها إلا نجم يتلصّص عليها من النّافذة، فيرسل شعاعه الذي يتكسّر على أغصان الياسمينة التي زرعتها بجانب النّافذة.
أمضت ليلتها تبكي، لم تعرف عيناها النّوم في تلك الليلة، بقيت تتقلّب في فراشها حتّى بانت خيوط الفجر الأوّل، استيقظت توضّأت وصلّت، جلست على سجّادة الصّلاة تدعو، لكنّها لم تخرج من دائرة الاحباط التي تلبّستها، لقد انتظرته عشر سنوات بعد النّكبة، وسنة قبلها، تذكّرت ما قالته لها لمياء، بأنّ لا أمان للرّجال في علاقتهم مع النّساء، وأنّهم لا يستطيعون العيش بدون زوجات. لكنّ حبّها الجارف لناصر أمين لم يتزعزع، فكتبت له رسالة ستبعثها له مع الصّليب الأحمر إن صحّ ما قاله لها جارها حسن حمدان، بأنّ الصليب الأحمر الدّولي ينقل رسائل من فلسطينيّي الشّتات، إلى ذويهم في الدّاخل، فكتبت:
“مبارك لك يا حبيبي ناصر، مبارك الزّواج والأبناء، سعادتك هي التي تهمنّي، رغم أنّك طعنتني في القلب، إلا أنّني سأبقى وفيّة لك، سأنتظرك حتّى نعود لديارنا، عندها سنتزوّج كعاشقين كما يليق بنا، وإن لم تتحقّق العودة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، سأطوي جدائلي بيضاء حتّى آخر رمق، على أمل أن نلتقي في الدّار الآخرة، سأكون لك الحوريّة التي ستملك قلبك، ما يهمّني الآن هو أن أعرف حقيقة مشاعرك تجاهي، ألا تزال تحبّني؟ أم أنّني منكوبة بك، لتكون نكبتي نكبتين، في الأحوال كلّها قلبي لم يخفق إلا لك، ولن يخفق لغيرك، لن أنساك حتّى لو نسيتني.”
الوفيّة لك دوما
ميسون عمر عطالله
مخيّم الجلزون- رام الله
في ساعات الضّحى جاءت رباب زوجة أخيها إسماعيل لزيارتها، فقد سمعت هي الأخرى رسالة يسرى العبّادي الصّوتيّة، تعاطفت مع ميسون، لكن “اللي ايده في النّار، مش مثل اللي بتدفّا عليها”. ما أن دخلت البيت حتّى احتضنت ميسون وقبّلتها، قبل أن تجلس سألت:
– ما بك يا ميسون، أراك متعبة؟
– لا شيء يريح في هذه الحياة، والبشر كلّهم متعبون.
– لا أسف على هذه الحياة، بعد نكبتنا وتهجيرنا من ديارنا، لم تعد فروقات بين الحياة والموت.
– مثلما يقول المثل”يوم فوقها ولا سنة تحتها”.
– فوق مَنْ وتحت من يا بنت النّاس؟
– فوق الدّنيا، خبريني كيف زوجك وأولادك؟
– الحمد لله كلهم بخير. ليتك يا ميسون ترحلين؛ لتعيشي معنا في البيت.
– والله يا رباب الحياة صعبة، وبيتكم ضيّق، وكما قال المثل” العب وحدك تيجي راضي.”
– لا يا أختي، لو تقبلين العيش معنا، ستسعدين باللعب مع أطفالنا، وسترضين بذلك، ونسأل الله أن ييسر لك ابن الحلال الذي “ستعيشين معه بثبات ونبات، وتخلفين البنين والبنات.”
– ماذا تقولين يا رباب؟ ألا تعلمين أنّني على ذمّة رجل؟
– أعلم يا ميسون لكن “لا يبقى على ما هو إلّا هو.”
– ماذا تقصدين؟ هل تريدين القول بأنّ ناصر أمين قد تزوّج، وأنجب أبناء؟
سمعت ذلك، وأعرف الظروف التي يعيشها، مبارك زواجه، وهنيئا له بأبنائه، لكنّني سأبقى زوجته الوفيّة، ولن أقبل بديلا عنه.
تفاجأت رباب بما سمعته من ميسون، فقد وجدتها تعرف ما اعتقدت أنّها لا تعرفه، والمدهش أنّها لم تغيّر موقفها منه، فهل هي تكابر، أم تعني ما تقوله حقّا؟ سكتت قليلا وقالت:
والله يا أختي لمّا سمعت الخبر، توقف نفَسي، وقلت:
يا رب لطفك بميسون.
غضبت ميسون وقالت: شكرا لك، ميسون لا ينقصها شيء.
انصرفت رباب دون أن تسمع من ميسون ما يشير إلى ردّة فعل غاضبة منها تجاه خطيبها، بعد سماعها بأنّه متزوّج من غيرها.
خرج حسن حميدان يتمشّى أمام بيته، سألته ميسون.
– هل تعرف مقرّ الصّليب الأحمر؟
– نعم أعرفه.
– هل صحيح أنّه يحمل رسائل من أبناء المخيّمات إلى من تبقّى من ذويهم في البلاد؟
– نعم صحيح، وقد سبق أن بعثت رسائل بواسطته واستلمت ردودها أيضا.
– أين يقع مقرّه في رام الله؟
– لماذا تسألين؟
– أريد أن أرسل رسالة لزوجي.
– هل أنت متزوّجة؟ وأين زوجك؟
– نعم أنا مكتوب عقدي على شابّ من يافا، لكنّ النّكبة حالت دون زفافنا.
– ماذا تعرفين في رام الله، حتّى أصف لك عنوان المقرّ؟
– لا أعرف شيئا.
– متى تريدين ارسال الرّسالة؟
– اليوم إن أمكن.
– إذن سأرافقك إن لم يكن لديك مانع.
– يشرّفني أن أرافقك فأنت مثل أبي.
– إذن هيّا بنا.
سعادة حسن حمدان كبيرة برفقته لميسون، ما أن خرجا من البيت حتّى سألها:
– هل خطيبك لا يزال يعيش في يافا.
– نعم لا يزال.
– لم يكسبها من الفلسطينيّين إلا من بقي في بيته وأرضه، فالموت في الدّيار أشرف من حياة الذّلّ التي نعيشها في الشّتات.
– ليتنا متنا هناك لمتنا سعداء على الأقلّ.
عند مقرّ الصّليب الأحمر في رام الله سألت ميسون موظّفة عربيّة:
لو سمحتِ، كيف يمكنني أن أرسل رسالة إلى خطيبي في يافا؟
– أهلا بك، من هنا، أعطيني الرّسالة.
ناولتها ميسون الرّسالة وقالت، متى سيأتي الرّد؟
– إذا أتى ردّ سنوصله لك.
– شكرا لك.
خرجت ميسون رفقة حسن حمدان فقال لها:
– ما رأيك أن أدعوك لنتناول طعام الفطور سويّة؟
– شكرا لك، فأنا لست جائعة.
– أنا سأبقى في رام الله، هل تعرفين طريق العودة إلى البيت من هنا؟
– طبعا أعرفها.
– في طريق العودة مرّت ميسون ببيت شقيقها إسماعيل في المخيّم، رحّبت بها زوجته رباب وقالت:
– حسنا فعلت بمجيئك، لقد كنت قلقة عليك، حتّى قلت لإسماعيل، لا بدّ من زيارة ميسون؛ لنطمئنّ عليها بعد الرّسالة الصّوتيّة المشؤومة.
ميسون غاضبة: جئت لأطمئنّ عليكم وعلى أبنائكم، ولم آت لأسمع كلاما يسمّ البدن، فرجاء عدم الحديث في قضيّتي أنا وزوجي.
رباب: والله صدق من قال: “خير لا تعمل، شرّ ما تلقى.”
صاح شقيقها من الدّاخل: مع من تتكلّمين يا رباب؟
مع أختك ميسون.
خرج مسرعا وهو يقول: أهلا وسهلا، ضمّته إلى صدرها، قبّلت وجنتيه، جلس وإيّاها، قال لزوجته:
جهّزي الغداء بسرعة.
سألها عن موقفها من خطيبها، فقد أبلغته زوجته عن رسالة ابنة خالته الصّوتيّة، فردّت عليه:
الزّواج قسمة ونصيب، وقسمتي ونصيبي مع ناصر أمين، فإن عدنا إلى الدّيار تزوّجنا مثل بقيّة البشر، وإن لم نعد فالزّواج ليس غنيمة لنتسابق عليه.
فقال لها: كما تريدين يأ أختي.
عند حلول المساء عادت إلى بيتها، فقد رفضت المبيت في بيت إسماعيل أخيها رغم الحاحه والحاح زوجته عليها.
رغم قوّتها أمام الآخرين، حيث تظهر قويّة غير مبالية بالزّواج، إلا أنّ حقيقتها عكس ذلك، فقلبها رقيق هشّ كبيت العنكبوت عندما تتذكّر خطيبها ناصر، فقد سبق وأن سرق منها قبلة سريعة خلف شجرة برتقال في بيت أهلها في سَلَمَة، لا زال طعمها يلامس شغاف قلبها كلّما تذكّرتها، وتبدي ندمها لأنّها لم تقبض على شفتيه بشفتيها حتّى تعرف طعم الرّجال كيف يكون.
في صباح اليوم التّالي جاءها مندوب من الصّليب الأحمر على درّاجة ناريّة حاملا ردّ خطيبها على رسالتها، فضّت الرّسالة بسرعة وسط تزايد نبضات قلبها، وقرأت:
“غاليتي ميسون
تسلّمت رسالتك يوم أمس، فاكتوى قلبي بلوعة الفراق، لكن هذا قدر شعبنا، وما تعرّضنا له من ويلات.
تمنّيت كثيرا لو بقيت أسرتك في البلاد، أو لو أنّنا هاجرنا سويّة، لكنّ الأمنيات شيء والواقع شيء آخر.
بعد أن تغيّرت البلاد على غير ما نتمنّى، وأصبحت عودتكم أمرا محالا، فكّرت بواقعيّة الحياة، فكظمت حبّي لك مرغما، وتزوّجت ماجدة الفاروق زميلتك في الدّراسة، وأنجبت منها ثلاثة بنات وولد، سميت بنتي البكر ميسون؛ ليبقى هذا الاسم يرنّ صداه في جنبات بيتي، وزواجي جاء بعد تفكير عميق، فمن غير المعقول أن نبقى أنا وأنت عازبين ما دمنا مشتّتين، وبالتّالي فإنّني أعطيك الحقّ نفسه الذي أعطيته لنفسي، ولا أقبل أن تبقي على ذمّتي بلا زواج وبلا طلاق، ومن هنا فإنّني أعطيك حرّيّتك، وأقول لك:
أنت طالق، طالق، طالق.
وأتمنّى لك أن تحظي بزوج أفضل منّي، وأن تحقّقي أمنيتك بالأمومة.
المخلص
ناصر أمين- يافا
صدمتها الرّسالة، لكنّها قطعت حبل أحزانها وأشواقها لخطيبها، ضحكت قليلا، بكت كثيرا وهي تشتمه، وقالت:
ما أصعب الفراق!

******

لم يخب ظنّ أبي أسعد بعليّ بن طارق، فقد كان سريع الاستيعاب، يتعلّم بسرعة، ينتبه لكلّ شيء، حتّى أصبح ساعده الأيمن، أصبح “كراج السّعادة” عنوانا لكلّ من يريد تصليح سيّارته.
زبائن أبو عبدالله تحوّلوا جميعهم “لكراج السّعادة” ممّا اضطرّه لاغلاقه بعد أن لم يجد من يعمل معه، يدخّن “أرجيلته” ويتحدّث معها، يردّد بشكل مستمرّ : “كلّه من ملعون الولدين.” ممّا دفع زوجته لسؤاله:
أسمعك تقول “كلّه من ملعون الوالدين” دائما، تردّدها مهموما أكثر من مائة مرّة في اليوم، فمن تقصد بذلك؟
– ملعون الوالدين ولد “ابن حرام مصفّى” لا أعرف له أصلا من فصل، أشفقت عليه وشغّلته عندي في “الكراج” ومن يومها ما رأيت خيرا، فكأنّ شياطين الأرض جميعها دخلت معه، فناصبني العاملون العداء، تركوني وحدي، لم يقبل العمل معي أحد، فاضطررت إلى اغلاق “الكراج” لتوفير بعض الخسائر.
سألته مستغربة: وما شأن طفل بعلاقتك مع عمّالك؟
– أكثرهم حذاقة واتقانا للمهنة تضامن مع ذلك الطّفل، وترك العمل، وافتتح “كراجا”جديدا، لحق به العمّال الآخرون، وبقيت وحدي.
– تضامن معه على ماذا؟
– هل أنا في جلسة تحقيق يا امرأة؟
– معاذ الله، من أنا حتّى أحقّق معك؟ لكنّني قلقة عليك، أريد التّخفيف عنك، إذا عرفت ما يقلقك.
– قلت لك المصائب جميعها سقطت على رأسي منذ رأيت ذلك الولد المسخوط، فقد أطعمته وأسقيته، وتركته ينام في “الكراج”، وكان راضيا شاكرا الله؛ لأنّه سخّر له من يؤويه، وعند بداية الشّهر جاء أحد العمّال يطلب أجرا لذلك الولد المشرّد، ولمّا لم أستجب له، اصطحب الولد معه تاركا العمل، ولعدم امكانيّة الاستغناء عنه في العمل، استجبت لطلبه في اليوم التّالي، فأرسلت له مع زميله ثلاثة دنانير أجرة للولد، قرّرت زيادته هو نفسه خمسة قروش في اليوم، وفوجئت في اليوم التالي به يفتح “كراجا” أفضل من “كراجي” وعند نهاية الشّهر قبض العمّال الآخرون أجرتهم، فتركوا العمل والتحقوا به يعملون معه.
تنهّدت أمّ عبدالله وقالت: “الطّمع ضرّ وما نفع” يا رجل، وقد حذّرتك كثيرا من عواقب الطمع بحقوق العمّال، لكنّ ” لا يصلح العطّار ما أفسد الدّهر.”
لم يسمح لها بمواصلة حديثها، فصاح بها، شتمها بأقذع الشّتائم وهمّ بضربها لولا أنّ ابنهما عبدالله خرج على صراخه، فأمسك به، وأجلسه مكانه، ليواصل تدخين “أرجيلته”.
في “كراج السّعادة” تحسّن دخل العاملين فيه كلّهم، فبعد خمس سنوات، اشترى أبو أسعد البناية جميعها، تقاسمها مناصفة مع عليّ الذي أصبح عمره وقتها سبعة عشر عاما، قال له أبو أسعد هذه ثمار تعبك وجدّك واجتهادك يا عليّ. وفي العام القادم سنفرح بك، سنزوّجك الفتاة التي ستختارها.
عليّ: بوركت يا عمّ، ومعروفك معي على رأسي، لن أنساه ما حييت، وأحمد الله الذي هداني إليك، فلو لم أتعرّف عليك، ما كنت أدري أين حلّت بي الرّحال، وماذا كان من الممكن أن يجري لي.
– لم أقم إلا بواجبي يا عليّ، وأنت إنسان تستحق كلّ خير، ما رأيك أن تباشر تعلّم السّياقة؛ لتحصل على رخصة سياقة في الثّامنة عشرة من عمرك-حسب القانون-، وسنشتري لك سيّارة خاصّة.
عليّ: بوركت يا عمّ، فهذه القضيّة غابت عنّي، سأتعلّم السّياقة، سأشتري سيّارة، وسأجوب مخيّمات اللاجئين بحثا عن أمّي، التي يؤرّقني بعدها عنّي.
أبو أسعد: ستهتدي إليها باذن الله.
عليّ: ما أصعب الفراق يا عمّ!
******
في جرمانا مات العمّ أبو فاطمة عن عمر يناهز الخامسة والثّمانين، شيّعوه في جنازة مهيبة، بكاه خالد، زوجته رحاب، أبناؤهما، فليحة وأبناؤها أكثر ممّا بكته ابنته فاطمة وأحفاده.
بعد وفاة العمّ أبو فاطمة بخمس سنوات، توفّي خالد بمرض خبيث، عجز الأطبّاء عن علاجه، عانى سنتين من شدّة الألم، تنقّل من طبيب إلى طبيب، ومن مشفى إلى آخر، لكن دون فائدة، دفنوه في مقبرة جرمانا بجانب قبر العمّ كمال.
بعد وفاة خالد رأى ابنه كمال أنّه قد أصبح ربّ الأسرة، رفض العودة إلى المدرسة التي أنهى فيها المرحلة المتوسّطة، قالت له أمّه:
العلم سلاح يا ولدي.
فردّ عليها: ورعاية الأسرة جهاد يا أمّي.
قالت له: عملي في الأرض يكفي للانفاق عليكم يا ولدي ويزيد لتعليمكم.
ردّ عليها: سأعمل وسنعلّم زمرّدة، وليد وحسن.
عمل كمال في “كراج” سيّارات في طرف مخيّم اليرموك من جهة الشّرق، أتقن الصّنعة بشكل كبير، بعد سنوات ثلاثة، اشترى العدّة اللازمة وافتتح “كراجا” تحت البيت الذي “باعه” لهم العمّ كمال –رحمه الله-. عمل معه اثنان من أبناء جرمانا، أحدهم في الخمسينات من عمره، وأفنى عمره في تصليح السّيارات.
عندما أصبح الدّخل من “الكراج” مضمونا ومرتفعا، قال كمال لأمّه:
الآن جاء دورك للرّاحة يا أمّي، لدينا دخْل محترم، ويجب أن تتركي العمل في الأرض، فقد تعبت كثيرا، وحان الوقت لنردّ لك بعضا من أفضالك.
شعرت رحاب بسعادة غامرة وقالت:
الله يرضى عليك يا حبيبي، أنا مرتاحة، والعمل في الأرض مغروس بدمي، لا أستطيع الابتعاد عنه.
كمال: هناك فرق بين من يعمل لينتج ويربح، وبين من يعمل ليستمتع.
أمّ كمال: طبعا أنا أستمتع بالعمل في الأرض، ولا يمكن أن أتركها، فمن غير المعقول أن أترك أرضنا دون رعاية، وأنا أتعامل مع الأشجار فيها وكأنّها أبنائي، فلكلّ شجرة منها حكاية معي.
كمال: أنا لم أقل أنّنا سنترك أرضنا، قلت أنّ وقت راحتك قد حان، وسنضع عمّالا بالأجرة في الأرض كلّما احتجنا لهم.
أمّ كمال: اترك هذا الأمر لي.
– ماذا ستفعلين؟
– هناك امرأة أرملة من نساء المخيّم، تبحث عن عمل، وسأتّفق معها كي تعمل معنا في الأرض بشكل دائم.
– ممتاز. بهذا “نصطاد عصفورين بحجر واحد.” وقد حان الوقت لترتاحي يا أمّي.
نزلت الدّموع من عينيها، قبّل كمال رأسها وقال:
– عليك أن تفرحي، لا أن تبكي يا أمّي.
– كيف أفرح يا ولدي ونار أخيك عليّ تحرق كبدي، اختطفوه منّي رضيعا، ولا أعلم عنه شيئا يا لوعة قلبي.
– احتضنها كمال مواسيا وقال: توكّلي على الله سنبحث عنه يا أمّي.
– ما أصعب الفراق يا ولدي.
*****
ذهب عليّ إلى مكتب صحيفة الدّفاع في عمّان، استعان بالمحرّر لكتابة اعلان يبحث فيه عن أمّه، في الفاتح من كانون ألثّاني-يناير- 1964 ظهر الاعلان على الصفحة الثّالثة في الجريدة مرفقا بصورة عليّ وجاء فيه:
“أنا عليّ طارق محمّد محمود، أبحث عن والدتي رحاب علي ربيع سعد من يافا، المتزوّجة من السّيّد خالد عودة من قرية حطّين قرب مدينة طبريّا، وانقطعت أخبارهم عنّا منذ نكبة العام 1948.
الرّجاء ممّن يعرف عنهما أيّة معلومة أن يتّصل بي على “كراج السّعادة -طريق المحطة- عمّان. هاتف رقم 654382 وله مكافأة مجزية.”
اشترى عليّ مئة نسخة من عدد الصّحيفة في ذلك اليوم؛ كي يوزّعها على زبائن “الكراج” لافتا انتباههم إلى الاعلان خاصّته. في ذلك اليوم جاء سائق سيّارة عموميّة سوريّة، تعمل على خطّ دمشق –عمّان- القدس الدّوليّ، ليصلح دولاب سيّارته المعطوب، أعطاه عليّ الصّحيفة لافتا نظره إلى الاعلان، قرأ الرّجل الاعلان، تمعّن بصورة عليّ، نزل من سيّارته، ذهب إلى مكتب “الكراج” حيث يجلس عليّ، وقال له:
انتبه لي أيّها الشّاب.
– نعم، ماذا يمكنني أن أساعدك؟
– أنا من سيساعدك، أنا اسمي مرقص من قرية جرمانا قرب دمشق، منذ نكبة الشّعب الفلسطيني عام 1948 سكن في قريتنا زوجان فلسطينيّان شابّان، الزوج اسمه خالد وقد توفّي قبل حوالي ثلاث سنوات، والزوجة اسمها رحاب، وأنا لا أعرف اسم عائلتهما، أنجبوا في قريتنا ثلاثة أولاد وبنت، أسماؤهم “كمال، زمرّدة، وليد وحسن” هم جيراننا أعرفهم جيّدا، ابنهم البكر يشبهك كثيرا، وهو صاحب “كراج” مثلك. لا أعرف إن كانوا هم من تسأل عنهم أم لا.
قفز عليّ من شدّة الفرح، قبّل وجنتي الرّجل وشكره، طلب له وجبة غداء وسأله عن ساعة عودته إلى سوريّا، فقال له بأنّه سيعود إلى مكتب تكسيّات المدينة في العبدلي، وعندما تمتلئ سيّارته سيسافر قافلا إلى دمشق.
رجاه عليّ أن ينتظر حتّى يستحمّ ويستبدل ملابسه، وقال له:
سأدفع لك أجرة سفر الرّكّاب الأربعة، سأسافر وحدي معك، لن أقف إلا في جرمانا؛ لأرى رحاب التي قلت عنها، فلعلّها تكون أمّي.
سافرا معا، عليّ يريد أن يقطع المسافة برمشة عين، مرقص سائق السّيّارة يهدّئ من روعه، ويطمئنه بأنّهما سيصلان في أقل من ساعة ونصف، وقال له: ستكون ضيفي إن لم تكن رحاب أمّك.
فقال عليّ: وستكون أنت أخي حتّى آخر لحظة في حياتي.
وصلا “كراج” كمال في جرمانا عند ساعات العصر، نزلا من السّيّارة، سأل مرقصُ كمال:
– ما اسم عائلتك يا جار؟
– اسمها عودة.
– عدم المؤاخذة ما اسم جدّك لأمّك؟
نظر كمال إلى عليّ، اقترب منه وسأله: هل أنت عليّ؟
بكى عليّ وهما يتعانقان، بكى مرقص أيضا، قال كمال:
الوالدة في الشّقة التي فوقنا، اصعد إليها، سأنهي عملي بهذه السّيّارة سريعا وألحق بك.
قفز عليّ درج البيت، طرق الباب بقوّة، فتحت الباب فتاة حسناء سألها:
– أين السّيّدة رحاب؟
– من أنت؟
– ردّ بلهفة: أنا حبيبها!
صفعته على وجهه وهي تصرخ:
– انصرف يا سافل.
من الدّاخل صرخت والدتهما: من هذا يا زمرّدة، أطلّت برأسها وقالت: شبيه كمال، إنّه عليّ وسقطت مغشيّا عليها.
جاء كمال على الصّراخ، هجموا على والدته يسعفونها وكمال يقول:
هذا أخونا عليّ يا زمرّدة.
صعق عليّ من هول المفاجأة، لم يتحرّك من مكانه، بكى كما الأطفال.
لحق بهما مرقص، دهش عندما رأى عليّا متجمّدا مكانه وقال:
ما أصعب الفراق!


اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.

روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– “لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.

قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.

أبحاث في التّراث.
– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002

أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات