برد الصيف

ب

عندما أطلّ الأستاذ خليل على القدس القديمة من قمة جبل المكبر، رآها تتدثر بعباءة الهزيمة السوداء التي أوقعتها تحت الاحتلال، فجرافات الهدم أدمت خاصرتها الجنوبية الغربية،  واقتلعت أكثر من ألف بيت تاريخي، والمسجد الأقصى يئن من ضجيج الهدم الذي طال حائطه الغربي، في حين ارتعدت فرائص كنيسة القيامة ومآذنها تعانق مئذنة المسجد العمري الشامخ أمامها، وتصلي لربّها بأن يحفظ قرينها الأقصى، وتكيل لعناتها على من يتاجرون بالصليب في العالم الغربيّ، وساعدوا في إيقاع مدينتها تحت سيطرة الغرباء، وسور المدينة يبكي ماضيه، فلم تعد أبوابه قادرة على حماية المدينة، وبواباته التاريخية تتململ من الغرباء الذين يمتشقون أسلحتهم تحت أقواسها، وينكلون بالمؤمنين الذي يعبرونها لآداء الصلوات في أماكنها المقدسة.

وتساءل اذا ما كانت أبواب السماء قد أغلقت أبوابها، ولم تعد تقبل دعوات وصلوات المؤمنين؟ ودعا الله قائلا:- رحماك يا ربّ، فهذه المدينة عاتبة على أحبّائها، وحزينة على من سقط من أبنائها وأبناء أكنافها، وتبكي من غادروها إلى المجهول…فالمدينة ثكلى، يلفّها ثوب أسود من الغبار والرمال، وكأنها في حداد لن تستطيع  قطرات المطر الخفيفة التي تساقطت في تشرين الثاني غسلها….وهذا ما أكده كبار السّنّ،  فالمدينة لا يمكن أن تعود لطبيعتها الفرحة الباسمة ما لم تعد إلى سابق عهدها، كموسوعة حضارية لأجناس مختلفين تعاقبوا عليها، لكن قلب الأمّ لا يخطئ فهي تعرف أبناءها وفلذات كبدها، ولن يستطيع الغرباء إقناعها بأنهم أبناؤها، وهي لن تقبل بهم مهما حاولوا استرضاءها. تتلمس المدينة خاصرتها الجريحة، وتجثو في مهدها وهم يستبيحون أحشاءها ويستلّونها، وعينها إلى الشرق تنتظر من يضمّد جراحها النازفة….وبكت عندما رأت صلاح الدين يعلو بوّابة باب العمود متلفعا بعباءته  فوق السّور ومخفيا سيفه على غير العادة…كان متجهما وقد شقّق الدهر وجهه، فرأت أن الرجل حزين على أحفاده الذين ما حفظوا الأمانة التي تركها لهم…لكن قلب الأمّ لا يقسو على أبنائها، فطمأنته بأنّها باقية مكانها، وأنها ليست عاقرا.

رأى االمدينة تنتعش قليلا عندما رأت أبناءها يتجمعون  ويخرجون من الأقصى هاتفين باسمها، وارتعشت غضبا عندما رأت أبا سالم يجوب وسط الشباب بلباسه الجديد، ينظر في وجوههم وكأنه يتعرف عليهم، وعندما شاهد خليل يرفع يده ويرغي ويزبد…اقترب منه وقال:- يا ولد “عند مخالفة الدول الشاطر بخبّي راسه”….وأنت أكتع إذا ما أمسكوا بك سيكسرون يدك السليمة.

نظر إليه خليل حانقا وسأله:- ولماذا لا تخبّئ رأسك أنت؟

فردّ أبو سالم:- أنا أعرف ما أفعل.

فقال خليل ساخرا:- وأنا أعرف أيضا ماذا أفعل؟

أبو سالم متوددا:- أنا لا أريد لك ضرّا.

قال خليل وهو يبتعد عنه:- ومن أنت؟ وهل تملك الضرّ أو النفع؟

بعد صلاة المغرب اجتمع عدد من رجال البلدة في بيت المختار أبي سعيد، حضر أبو سالم يرتدي قمبازا وعباءة جديدين، نفخ كتفيه بينما في نظراته انكسار…طرح تحيّة المساء…فلم يرد بمثلها سوى صاحب البيت…في حين تلفت الآخرون بوجوه بعضهم البعض….خيّم السكون وانتشر دخان السجائر يجوب فضاء المضافة…أبو سالم يفتح عباءته قليلا كي يرى الآخرون ملابسه الجديدة…تنحنح وقال:-

سمعت أصواتكم عن بعد مئة متر…وأراكم سكتّم منذ دخولي…إن كنت غير مرغوب بي، أو كانت بينكم أسرار، فبإمكاني الانصراف.

فقال المختار أبو السعيد بصوت منخفض:- ليس من عاداتنا أن نطرد ضيوفنا يا أبا سالم.

أبو سالم بصوت متهدّج:- أنا لست ضيفا….أنا واحد منكم…ولولا الواجب لما خرجت من بيتي.

أيّ واجب؟  سأل أبو السعيد.

أبو سالم:- صليت الظهر في الأقصى وخرجت مظاهرة بمناسبة وعد بلفور، وشاركت فيها مرغما فقد حوصرت وسط المتظاهرين، وأنا في طريقي الى موقف الباصات، وشاهدت عددا من أبنائنا مع المتظاهرين، وفي مقدمتهم خليل الأكتع بن أبي كامل….وهذه دولة هزمت كل الدول العربية، ولا ترحم أحدا، وأخاف أن يضيع شبابنا وسط هذه المعمعة….وخليل ولد طائش لا يُقدر عواقب الأمور.

فسأله الحاج عبد الودود:- وأنت ما يقلقك في هذا؟

–         يقلقني الخوف على أبنائنا…والمثل يقول”اللي بيتجوز أمّي هو عمّي”.

فقال الأستاذ فؤاد:- ليعمي الله هكذا عمّ…والله لا يوجد همّ أكبر منه.

استند أبو سالم ووجه حديثه إلى الأستاذ داود وقال:- وحّد الله يا أستاذ…أنت رجل عاقل…وما توقعت كلامك هذا..خصوصا أمام الشباب.

تنحنح المختار وقال:- اتركونا من السيّاسة وأهلها…وتحدّثوا بأمور أخرى.

فقال أبو سالم:- يا جماعة اسرائيل دولة غنيّة، والعامل يتقاضى فيها أجرا أعلى من أجر مدير مدرسة قبل الاحتلال، وهذه “مشمشيه” ومن يعمل ويدّخر سيكسبها، فأجرة المهندسين في السعودية ودول الخليج أقلّ من أجرة العمال هنا.

ردّ الأستاذ داود بلهجة غاضبة:- بدلا من العمل مع الاسرائيليين لماذا لا نعمل كلّنا في أراضينا ونفلحها بدلا من تركها؟ ولينصرفوا من أرضنا.

أبو سالم:- أمضينا عمرنا نعمل في الأرض، ولم نشبع الخبز إلّا بشق الأنفس.

الأستاذ داود:- الأرض تطعم من يعتني بها.

الحاج عبد الودود:- يا إخوان نحن لم نأت بالاحتلال…بل نحن ضحايا لهذه الأوضاع..وأنا مع اقتراح أبي سالم بأن يعمل الجميع، كي نعيش…ونجمع نقودا لنبني بيوتا لأبنائنا…وهذه فرصة لن تتكرر.

أبو السعيد:- من يريد أن يعمل فلا أحد يستطيع منعه، لكن لدينا مشكلة أكثر أهميّة وهي: يجب أن نعيش حياتنا…فهناك شابات وشبان مخطوبون لبعضهم البعض فلماذا لا يتزوجون؟ وهناك بنات مخطوبات لشباب غادروا في الحرب إلى الأردن، ويجب علينا أن نتدبّر الأمور.

فقال أبو سالم:- والله هذا عين العقل وعلينا أن نستر بناتنا.

فسأل الأستاذ داود:- كيف؟ وماذا نستطيع فعله؟

المختار أبو السعيد:- البنات المخطوبات لمن هم في الأردن نجمعهن ونرسلهن مع أحد المسنين ليوصلهن إلى خاطبيهن، وهناك يتزوجن وينسترن، وبعدها يتسلل عبر النّهر عائدا و(يا بيت ما دخلك حدا)….والخاطبون هنا يجب أن يتزوجوا.

دارت أفكار تلفّ الغرفة مع دخان السجائر الذي يبحث عن طريق للهرب إلى الخارج، فمن يعلم؟ ربّما ستطول هذه المحنة، وربما ستغلق الحدود، والبنات المخطوبات لمن هم في الخارج سيصبحن لا هنّ متزوجات ولا هنّ مطلقات.

أبو سالم:- أنا أتبرع باصطحاب البنات وتسليمهن إلى أسر خاطبيهنّ، ولن أعود إلّا بعد أن يزفوا كلّ واحدة منهنّ إلى عريسها.

أبو صالح يجوب بأفكاره طرق التهريب بين فلسطين والأردن التي كانوا يسلكونها زمن الانتداب، فيحمل على ظهره شقاء سنوات عجاف، يستمطر السماء فيها لعنات على البريطانيين الذين جلبوا لنا المصائب التي أهلكت البلاد والعباد…تنحنح وهو ممدّد على جانبه الأيمن، ويتكئ على كوعه، ووجه حديثه إلى أبي سالم:-

وإذا  قتلك اليهود يا أبا سالم.

أبو سالم محتجا:- كفانا الله شرّك يا رجل…في الطريق إلى الأردن نذهب في الباصات حتى الجسر، فهم يسهّلون طريق المغادرين، لكنّها باتجاه واحد، فمن يغادر لن يسمحوا له بالعودة، واليهود لا يؤذون من لا يؤذيهم، وفي العودة سأتدبّر أمري، فأنا أعرف الطرق الآمنة جيدا.

تطاير الغضب شررا من عينيّ الأستاذ داود وهو يصيح بأبي سالم قائلا:- وهل قَتْلُ الناس وتشريدهم واحتلال وطنهم إيذاء لهم أم ماذا يا أبا سالم؟

ماذا تقصد ردّ أبو سالم غاضبا؟ أريد أن أعمل معكم معروفا، وأخاف أن تقابلوني باتهامي بأنني من أشعل الحرب، ومن أوقع البلاد تحت الاحتلال، وصدق من قال:”خير لا تعمل شرّ ما يجيك”.

المختار يهدئ الموقف فيقول:- وحّدوا الله يا ناس.

لم يوحّدوا الله ولم يصلّوا على نبيّه، بينما أشعل أبو سالم غليونه، وأشاح نظره إلى سقف الغرفة. خيّم صمت ثقيل قطعه الحاج عبد الودود بقوله:- دعونا نجمع آباء الفتيات ونتشاور معهم، وبعدها كل واحد منهم مسؤول عن ابنته، وهو أدرى بمصلحتها، وإذا ما قرروا إرسالهن فرادى أو جماعة أو عدم إرسالهن فهم أحرار.

فسأل أبو سالم:- ومتى ستجتمعون؟

عندما سنجتمع سنخبرك. ردّ المختار.

التفّ أبو سالم بعباءته وخرج…فتبعه الآخرون باستثناء الحاج عبد الودود الذي بقي مكانه بإشارة من عين المختار.

قال المختار:- لعنة الله على أبي سالم كم هو خبيث وقليل حياء….وحديثه ثقيل جدا…وقد أفنى عمره رخيصا لا يحترم نفسه، حتى الشباب الأصغر عمرا من أبنائه لا يحترمونه لأنه لا يحترم نفسه…وبالتأكيد فإن عرضه لاصطحاب الفتيات إلى عمّان ليس لوجه الله…فله مصلحة بذلك، والله أعلم ما هي؟

فقال الحاج عبد الودود والحيرة تعلو وجهه:- هذا أمر مؤكد، والله أعلم أنه يريد أن يقنص والد كل فتاة بعشرة دنانير.

–         المختار إن كان هذا هدفه فأمره بسيط…ولعلّها تكون سببا في خلاصنا منه، فقد يقتله اليهود وهو عائد متسللا ويريحوننا منه.

–         لا أعتقد ذلك فـ”كعكور الخرا ما ينكسر” قالها الحاج عبد الودود ضاحكا.

استيقظ أبو سالم مبكرا بعد ليل ركبته فيه الكوابيس…احتسى كأس شاي وخرج قاصدا المسكوبية مشيا على الأقدام، وعند قمّة جبل المكبر أطلّ على القدس القديمة، فرأى المدينة غولا يريد أن يبتلعه…رأى قبة الصّخرة المشرّفة الذهبيّة تتدثر بسواد لم يره من قبل….فرك عينيه وتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم، فجاءه صوت خفيّ يسأل:- وهل هناك شيطان غيرك أيّها الخسيس؟…لم يعبأ بذلك…تغلّب على صراعه الدّاخلي، وقرّر أنّ مصلحته تكمن مع الكابتن نمرود، وهذه فرصته التي يجب أن يستغلّها، واستذكر ما قاله له الكابتن بأن العرب لن يعودوا إلى هذه البلاد، فهي”أرض اسرائيل” واسرائيل دولة قويّة يدعمها العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا…ولن يستطيع أحد اكتشاف أمره، وبالتالي سيصول ويجول كما يحلو له، وإن اكتشفوه فماذا يستطيعون فعله؟  فهو محميّ من دولة قهرت دول المنطقة وشعوبها، وهذا قدر الله، ولو شاء الله لانتصر العرب…لكن مشيئته- سبحانه وتعالى- بجانب اليهود، وما داموا قبلوا بك يا أبا سالم فلماذا ترفضهم؟ وإن رفضتهم ستبقى فقيرا كما أمضيت ما مضى لك من عمر، وسأغتني جرّاء خدماتهم التي سأنفّذها حسب توجيهاتهم….وما الفرق بين اسرائيل أو أيّ دولة عربيّة أخرى؟ كلّها دول…والحاذق من يحقق مصالحه، ومصلحتي مع اسرائيل…انتبه لنفسه عندما وصل باب الخليل، وقف ينظر الى مئذنة المسجد التي ترتفع في مسجد القشلة بجانب مركز التوقيف الذي أمضى فيه خمسة عشر يوما، عندما اعتقلته الشرطة الأردنية، وضربوه ضربا مبرحا لسرقته خروفا من قطيع أغنام مرّ صاحبه بأطراف القرية، وهو في طريقه إلى الأغوار بحثا عن الماء والكلأ…واستذكر سخرية المعتقلين منه وهم يردّدون ما سأله أحدهم له:-

ألم تجد ما تسرقه سوى خروف يا شيخ العرب؟

وعندما ردّ عليهم بسؤاله لهم:- وعلى ماذا أنتم معتقلون؟

جاءته الإجابة بأن بعضهم معتقل لاتجّاره بالمخدرات أو لتعاطيها، في حين كان آخرون على سرقات لها قيمة…وتساءل عن المعاملة غير اللائقة لسارق خروف مثله، سرقه ليذبحه لأبنائه، فهل يتساوى السّرّاق واللصوص بغض النظر عن قيمة المسروقات؟ واصل طريقه وهو يؤكّد لنفسه بأنه لن يعود إلى السّرقة مرّة أخرى، ولن يحتاج إلى السّرقة في قادم الأيّام، لأنّ عمله مع المخابرات سيدرّ عليه مالا كثيرا…نعم أنا لست جاسوسا بل أنا موظف مع الحكومة، والعمل ليس عيبا أو حراما، وهذا ما أكّده لي الكابتن نمرود…فالحياة تقوم على المصالح…أنا أخدمهم وهم يخدمونني، صحيح بأنّ الكابتن وصفني بأنّني قد أصبحت كلبا لهم…لكنّه لم يكن جدّيّا بذلك، بل كان يمازحني، إنّه يختبر مدى ولائي لهم، عندما رأى خوفي وتردّدي في قبول العمل…وما كنت يوما جبانا…بل كنت أداري زمني، فقد سبق وأن وصفني بعض الوجهاء وبعض المتنفّذين بالنّذالة…وكنت متسامحا معهم فـ”الرّجال عند حاجاتهم نسوان” و”اليد اللي ما بتقدر تعضها بوسها وادعو عليها بالقطع” ومرّات كثيرة قبّلت فيها أيادٍ ودعوت عليها بالقطع، ولم أحصل على أيّ منفعة. نعم….نعم سأقبل أن أكون كلبا وفيّا للكابتن، ولن يعلم أحد بذلك…بل على العكس إنهم سيحترمونني عندما يرون أثر الثراء عليّ، فكلّ الناس عبيد للمال…نعم سأكون صادقا ووفيّا للكابتن نمرود، وسيلمس ذلك وعندها سيدفع لي أموالا كثيرة.

أفاق على نفسه عند الحاجز الشرطيّ أمام المسكوبية…لم يسمح له الشرطيّ بالدخول، أخبره همسا بأنّه يريد مقابلة الكابتن نمرود، غير أن الشرطيّ أصرّ على موقفه الرافض، ولمّا ألحّ أبو سالم بطلبه، نهره الشرطيّ قائلا:-

انصرف يا حمار، الكابتن لا يصل قبل الثامنة، هيا انصرف وإلّا……

ابتعد أبو سالم….عاد إلى الخلف يتصبّب عرقا، ويسبح في بحر إهانته….جلس أمام الكنيسة الجميلة المجاورة… قال لنفسه:- الكابتن اعتبرني كلبا…وهذا الشرطيّ اعتبرني حمارا….وليسترني الله من القادم….سأنتظر حتى الثامنه وعشر دقائق، وإن لم يصل الكابتن سأعود أدراجي، ولن أرجع مرّة أخرى.

قبل الثامنة بخمس دقائق وصلت سيّارة الكابتن، فصاح أبو سالم بأعلى صوته:-

يا كابتن نمرود.

داس رجل المخابرات على فرامل السّيّارة، والتفت إلى مصدر الصوت، كان أبو سالم يركض باتجاهه…عدد من الشباب المقدسيين المطلوبين للمخابرات ينتظرون الساعة الثامنة للدخول، القلق بادٍ على وجوههم…فهم لا يعرفون خطورة ما ينتظرهم في الداخل…لكنه بالتأكيد ليس في صالحهم…وربما سيتعرضون للضرب والإهانة أو الاعتقال…ذهلوا من رؤية ما حدث، وازدادت دهشتهم عندما رأوا رجل المخابرات يبتسم لأبي سالم، واحتاروا عندما رأوا أبا سالم يفتح باب السيارة، ويجلس بجانب رجل المخابرات، فهل يُعقل أن الرجل قد تعامل مع المحتلين بهذه السرعة؟ فالاحتلال لم يمض عليه خمسة شهور….فقال أحدهم:-

وماذا سيستفيدون من حمار كهذا إذا تعامل معهم؟

وهل يقبل التعامل مع محتلٍ سوى الحمير والأنذال والجبناء الجهلة؟ هكذا تساءل شاب في منتصف الثلاثينيات من عمره…قليل الكلام…كأنه يبحث عن أجوبة لأسئلة تؤرقه.

دخل أبو سالم سيّارة الكابتن وهو يزمجر على الشرطيّ الذي لم يسمح له بالدّخول، وكيف وصفه بالحمار….ابتسم الكابتن ولم يقل شيئا…وتحت إلحاح أبي سالم نهره الكابتن غاضبا، وطلب منه السّكوت.

فقال أبو سالم- هل يعني هذا أنكم لا تريدونني أن أعمل معكم.

الكابتن:- وهل تعلم بأنّك حمار بحق وحقيقة، وهل تريدنا أن نلغي إجراءاتنا الأمنية؟ الشرطيّ عند البوّابة وظيفته أن يمنع الناس من الدخول، ومن يدخل لعملٍ ما يجب إخضاعه لتفتيش دقيق….ولو كنت أعلم أنّك قادم إلينا لوضعت اسمك عند البوّابة كي يسمحوا لك بالدخول….ولماذا أنت قادم في هذا الصّباح الباكر؟

شعر أبو سالم كأنه ديك منتوف الرّيش…تململ قليلا وقال:- جئت أستشيرك في قضية.

–         ما هي؟

أبو سالم:-  أهل بلدتنا يتشاورون في إرسال البنات لخاطبيهن المقيمين في الأردن.

–         هذا عمل جيّد….كم عددهنّ؟

–         أعتقد أنهن تسع أو عشر بنات.

–         ممتاز نرتاح من تسعة قد ينجبن تسعين شخصا…أين المشكلة؟

–         المشكلة أنه يجب أن يرافقهن شخص من البلدة ليوصلهن بسلام، فهنّ لم يخرجن من القرية، ولا يعرفن كيف سيذهبن؟ ولا إلى أين؟

–         ومن سيذهب معهن؟

–         أنا إذا أعطيتني تصريحا للعودة بسلام.

–         وهل يأتمنك الأهالي على بناتهم؟

–         ولماذا لا يأتمنوني عليهن؟…فأنا واحد من شيوخ البلدة، وإحدى البنات ابنة شقيقي.

فكّر الكابتن قليلا وقال:- لا بأس في ذلك…سأعطيك تصريحا للعودة، وأريد منك أن تمكث هناك مدة لا تقل عن أسبوعين…تستفسر خلالها عمّن يعبرون النهر من الأردن متسللين؟ وماذا يحملون معهم؟ ومن منهم التحق بالمخربين؟ وأين تقع مواقع المخربين ومواقع تدريباتهم؟ وأية أخبار أخرى تراها مناسبة؟

–         عن أيّ مخربين تتحدث يا رجل؟

–         ألم تسمع بفتح؟

–         لا لم أسمع.

–         ليس غريبا على تيسٍ مثلك…ألا تسمع الأخبار؟

–         وهل بقيت أخبار للاستماع إليها…لقد انتصرتم في الحرب وهُزم العرب..فماذا تبقى بعد؟

–         الحرب ابتدأت الآن….وستكون طويلة ومكلفة.

–         هذه أمور لا تعنيني…مكوثي في الأردن يتطلب مصاريف لا أقوى عليها. فهل تريدني أن أسافر أم ماذا؟

–         أعرف ذلك…وأعرف أنك لن تنام في فندق، ولن تأكل في مطعم…ستنام عند أبناء بلدتكم، وستأكل من بيوتهم…ومع ذلك سأعطيك 200 دينار…لكن إياك أن تخبر أحدا عن التصريح…وإيّاك أن تخبر أحدا أنك جئت إلينا.

–         حاضر سيدي.

–         إذا تكلمت في شيء ستضرّ نفسك، ولن تضرّنا في شيء…أريد أن أشرب فنجان قهوة…هل تريد أنت أيضا؟

–         إذا لم يكن في ذلك إزعاج لحضرتك.

–         معناه إشرب قهوتك…وانصرف من هنا. فلدينا أعمال كثيرة.

–         أمرك سيدي.

خرج أبو سالم من مكتب الكابتن….اتجه إلى باب العمود…ذهب إلى مطعم في المصرارة…أكل صحن حمص…اتجه إلى الأقصى ليصلي هناك…شعر وكأن باب العمود سينهار على رأسه عندما دخل المدينة…فهل المدينة مسكونة بشياطين تطلقها عليه عندما ينظرها أو يدخلها؟ بسمل وحوقل ونظر إلى السّماء، فرأى سباقا بين غيوم  بيضاء وأخرى سوداء…ما تلبث أن تتداخل لتشكل جبالا من الغيوم لا تلبث أن تهرب شرقا تحت ضغط هبوب رياح غربيّة لم تكن قويّة…طأطأ رأسه وسار باتجاه طريق الواد…نظر إلى ساعته فوجدها لم تصل العاشرة صباحا…قرّر أن يجلس على المقهى المقابل للمستشفى الحكومي”الهوسبيس” ليدخّن نفس تمباك…فبينه وبين صلاة الظهر أكثر من ساعتين.

ما أن وصلته النارجيلة حتى رأى أبا صالح خارجا من بوّابة المستشفى…ولمّا طرح عليه السّلام…استفسر منه عمّن يكون في المستشفى؟ فأخبره بأن والدته لم تنم من شدّة الألم في الليلة الماضية…فأتى بها إلى المستشفى، وأمر الأطباء بإبقائها لعمل فحوصات بعد أن أعطوها دواء يُسكن آلامها.

الله يرحمها برحمته قال أبو سالم…فهي امرأة جاوزت الثمانين من عمرها…وقد شقيت كثيرا في زمانها…وليرحم الله والدك فقد قسا عليها كثيرا…إجلس واشرب كأس شاي وارتح قليلا.

–         لا أستطيع…سأذهب إلى السوق لشراء بعض الأغراض للوالدة.

–         اجلس يا رجل….لا يمكن أن تذهب قبل أن تحتسي شيئا…فأنت رجل عزيز على قلبي..ووالدك- رحمه الله- كان صديقا لوالدي.

–         لم يجلس أبو صالح فهو لا يطيق الرجل…ولم يكن بينهما علاقة…ووجد بوجود والدته في المستشفى عذرا مقبولا كي يتخلص منه…صحيح أن والديهما كانا صديقين…إلّا أنّ”النار تخلف رماد”…فقد كان والده رجلا فاضلا لكن-لا حول ولا قوّة إلّا بالله- فـ”لكل بيت مزبلة”.

*************************************

تململ  ساكنو قبور المدينة في قبورهم، فالصحابة والشهداء والأعيان والعلماء والعامّة الذين رووا تراب المدينة بدمائهم، يرتعد رفاتهم غضبا كلما داهم المدينة خطر، وهم يحتجون على قرار بلدية الاحتلال باستبدال اسم شارع “بور سعيد” باسم “شارع الزهراء” حتى أن روح الطيّار السوري جول جمّال رفرفت فوق مياه قناة السويس، التي ابتعلت مياهها ما تبقى من جثمانه الطاهر، عندما فجر طائرته في بارجة فرنسية في عدوان عام 1956، فالرجل ما عاد يطيق الأغراب الذين تتمترس قوّاتهم على ضفاف القنال الشرقية، ولم يكتفوا بذلك، بل غيّروا اسم شارع يحمل اسم بور سعيد التي دكّها الغزاة مرّات ومرّات، في حين ضحك عبد القادر الحسيني ساخرا من عقلية غزاة لا يتعظون من التاريخ، عندما قاموا بتغيير اسم مدرسة تحمل اسمه لتصبح “مدرسة سلوان الاعداديّة”، فإذا كان المنتصرون هم من يعيدون كتابة التاريخ، فإن ذاكرة الشعب أقوى من التاريخ الكاذب.

أنهى أبو سالم نفس التمباك على المقهى المقابل لمستشفى”الهوسبيس” ولم يذهب إلى الأقصى للصّلاة، فقد سمع كثيرا”إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر” وهو في حيرة من أمره حول ما يقوم به هل هو فحشاء ومنكر أم لا؟ وإذا كانت  الصّلاة في الأقصى بخمسمئة صلاة، فما مصير مرتكب الفحشاء والمنكر إذا ما دخل هذا المسجد العظيم؟ ولم يقتنع بأنه ارتكب فواحش ومنكرات، لذا ارتأى أن لا يذهب للصّلاة، ترك المقهى وقفل عائدا إلى باب العمود…وقبل الخروج من الباب التاريخي صعد الدرج إلى حارة السّعديّة…شعر الأرض تميد تحت قدميه عندما مرّ أمام مستشفى الأطفال…تذكر ابنته أميرة عندما رقدت وهي رضيعة في هذا المستشفى…وكيف عافاها الله، وقتئذ اعتبر شفاءها بسبب دعواته لها في المسجد الأقصى، لكنه الآن مقتنع بأن العلاج هو من شفاها…وطبعا بإرادة الله…لكنّ البشر جميعهم عيال الله…وأن المؤمنين كلّهم يصلون لله بغضّ النظر عن دينهم…ويبدو أنّ الله يحبّ اليهود أكثر من غيرهم…ولو لم يكن الأمر كذلك لما نصرهم…زوابع تدور في رأسه…تحسّس المئتي دينار التي قبضها من الكابتن نمرود…ابتسم وقال في نفسه:- لم أقبض في حياتي مبلغا كهذا…ابتسم ومنّى نفسه بمبالغ أكثر..تمنّى لو أنّ الله خلقه من أبوين يهوديين ليريحه من هذه الوساوس…حسم الأمر بأن شتم في سرّه آباء اليهود وآباء العرب..وواصل مسيره باتجاه باب السّاهرة…مشى في شارع صلاح الدين…لا يبغي هدفا…إنّه متضايق…يريد أن يضيع وقته..اتجه الى شارع “بور سعيد”…لم يفهم مغزى تغيير اسم الشارع، فالزهراء أو بور سعيد كلاهما اسمان لا يعنيان له شيئا، رأى نساء متبرجات كاسيات عاريات، بعضهن يتكلمن العربية بعجمة بائنة، ورأى ذكورا يرتدون ملابس نسائية… يضعون أحمر الشفاه…يحملون حقائب نسائية…يتكلمون بلغة المؤنث وكأنهم نساء… ورأى شبابا يترنحون سكارى، يمازحون تلك النساء…فتيقن أنّ المدينة لم تعد كما كانت، وهذا يثلج صدره، فـ”الموت مع الجماعة فرج” والكابتن نمرود يعمل على تغيير كلّ شيء…غالبية المحلات مغلقة فسأل شابا عن سبب ذلك؟

–         هذه المحلات تفتح من المساء حتى الصباح يا شيخ..أجاب الشاب ضاحكا…وإذا ما أردت أن تعدل رأسك، وأن تقضي ليلة حمراء فعد ليلا وسترى ما لم تحلم به، هكذا أجابه الشاب.

وفي هذه الأثناء ظهر عليان بن الحاج عبد الرؤوف…يتأبط ذراع مخنث يتشبه بالنساء…كلاهما يضحك بشكل هستيري…صاح بصوت متقطع ومتهدج:-

سامي …هذا …شيخنا…ماذا تريد…منه.

اتجه إلى أبي سالم وقال:- أهلا عمّي….ماذا تعمل هنا؟

–         مثلما تعمل أنت.

–         أنا لا أعمل شيئا…من هذا؟ هل هو رجل أم امرأة؟

–         هذا صاحبتي…هو رجل …لكنه يحبّ أن يكون امرأة…أسماه والداه جبريئيل..لكنه اختار أن يكون اسمه جيئولا.

–         ولماذا هو معك؟…وماذا يريد منك؟

ضحك عليان وقال:-إنه يريد أن يكون زوجتي.

وهل جننت يا ابن عبد الرؤوف حتى تتزوج ولدا مثلك؟ كم عمره؟

–         عمر جيئولا واحد وعشرون عاما…أنا لم أتزوجها، ولكنني أعاملها كزوجة…إنها أفضل من كلّ النساء…فهي تسهر معي… نأكل ونشرب وندخن…وهي تدفع وتعطيني نقودا أيضا…أرافقها الى بيتها، وننام في فراش واحد…جيئولا أفضل من النساء كلّهن.

–         ابتسم جبريئيل…ضمّ عليان الى صدره…قبّله على فمه وهو يردد:- خبيبي.

أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم قال أبو سالم.

لماذا تتعوذ بالله من الشيطان يا أبا سالم…هناك كثيرون أمثال جيئولا… ومنهم عرب…ما رأيك أن تذهب معنا الى بيت جيئولا؟ هناك ستسعد كثيرا.

–         وماذا سنفعل هناك؟

–         سنرتاح…وسنرفّه عن أنفسنا.

–         وإذا لم يعجبك الوضع سنعيدك بسيّارة جيئولا إلى المكان الذي تريده…وأشار إلى سيّارة فاخرة قائلا…تلك سيارتها…

في السيّارة أصرّ عليّان بأن يجلس أبو سالم بجانب جيئولا….سحب أبو سالم قليلا من كوفيته لتغطي جبينه، وكأنه يهرب من المارّة….عليان في المقعد الخلفي يسأل أبا سالم:- هل سبق وأن أحببت امرأة غير أمّ سالم يا عمّ؟

ضاعت الكلمات من بين شفتي أبي سالم….تنحنح…سحب تنهيدة تطاير لهيب زفيرها في الهواء رائحة كريهة.

أوقفت جيئولا سيّارتها أمام بيتها في حيّ رحافيا الفاخرة بيوته….البيت من طابقين يعلوهما قرميد أحمر…حديقته مزينة بورود مختلفة…يحيط به سور ارتفاع واجهته الأماميّة سبعون سنتمتر…ومن الخلف يزيد على المتر…فوق مدخل البيت مكتوب باللغة العربية”هذا من فضل ربّي…تم بناء هذا البيت عام 1789م لصاحبه محمد محمود جودة”…تحت البيت بئر ملأى بالمياه…تنهّد أبو سالم وسأل:-

هل صاحبك عربيّ يا عليان؟ فهذا بيت عربيّ.

ضحك عليان وقال:- لا يا عمّاه إنّه يهوديّ أصله من النّمسا….

بينما قال جبريئيل:- أنا يهوديّة..ولدت في فينّا…عندما قامت دولتنا كان عمري سنتين…وعدنا للبلاد وعمري خمسة شهور….الدولة أعطت هذا البيت لوالديّ…كلّ شيء كان موجودا فيه…الأثاث فاخر جدا…لا يزال على حاله…ندفع أجرة للدولة ثلاث ليرات في الشهر…أنا مبسوطه كثير ولا أنوي تغييره.

لكنّ هذا بيت عربيّ قال أبو سالم.

صحيح قال جبريئيل…ونحن نسمّيه”بيت عربي” وهناك بيوت كثيرة مثله…من قال لأصحابه كي يهربوا منه ويتركوه؟

لفّ أبو سالم سيجارة”هيشي” وقال وهو ينفث دخانها:- إنّها الحرب…هربوا من ويلات الحرب…على أن يعودوا بعد بضعة أيام…واستمرّ الحال سنين طويلة.

إلى أين سيعودون سأل جبريئيل؟ هل أنت مجنون؟ هذه بلاد اليهود….دعونا من هذا الكلام وتفضلّوا الى البيت…صعد بهم الى الطابق الثاني…رأس أبي سالم يدور الى كلّ الاتجاهات، وكأنه يستطلع كلّ شيء…جلس في الصالون…جبريئيل…استأذنهم بأخذ حمّام وتغيير ملابسه…قبّل عليّان على فمه وطلب منه أن يقدّم ضيافة لأبي سالم…أحضر عليّان زجاجتي بيرة واحدة له وأخرى قدّمها لأبي سالم وهو يقول:-

هذا ماء شعير مفيد للصّحة يا أبا سالم.

خرج جبريئيل من الحمّام بثوب نوم نسائيّ شفاف…ملابسه الداخلية ملابس نسائية…دخل الى غرفة النوم….تجمّل ووضع أحمر الشفاه، وباروكة شعر طويل على رأسه وخرج…جلس على يمين عليّان بدلال…طوّق عليان رقبته بيده اليمنى تحسس صدره… قبّله على فمه وهو يقول:-

جميلة جدا أنت يا جيئولا.

التفت أبو سالم إلى عليّان وسأله حائرا:- هل تعرف الكابتن نمرود يا عليّان؟

–         من يكون هذا؟

–         سألتك هل تعرفه؟

–         كلا …لا أعرفه.

–         إذا من عرّفك على هذا؟

–         تعرفت على جيئولا في الشارع الذي التقيناك فيه – شارع الزهراء-…فهذا الشارع عامر ليلا باليهود والعرب الباحثين عن المتعة…وإذا أردت أن تتعرّف على يهوديّة فهنّ كثيرات…وعلى حسب طلبك.

دخل عليّان وجيئولا غرفة النوم وأغلقا الباب خلفهما…..بينما بقي أبو سالم جالسا في الصالون يحتسي البيرة….أطنان من الصمت تجثو فوق صدره…وحرب تدور في رأسه… ثعابين الشهوة تطل برؤوسها من مسامات جسده، يشجعها الضحك والتأوّهات التي تتسلل من غرفة النوم….قال في نفسه:-

هذا عليّان بن الحاج عبد الرؤوف يصاحب شابا ارتضى أن يكون زوجة له…وعليّان هذا منحرف منذ بداياته…كلّ أهل البلد يعرفون ذلك…ووالده لا يكترث بذلك…بل إن أهل البلدة لا يجرؤون على المسّ بالوالد نتيجة سلوك الولد، حتى إن إمام المسجد “أفتاها” بقوله:”ولا تزر وازرة وزر أخرى” وأثنى المخاتير والوجهاء على ما قاله الإمام…لكن كلّها تبادل مصالح و”موت الفقير وتعريس الغني ما في حدا يهتم فيهن” وهذا ليس صحيحا، إنهم يهتمون ويتسترون على بعضهم البعض، فـ “الغني إذا ظرط قالوا له: يرحمكم الله…والفقير إذا عطس قالوا إنه ظرط” ولهذا يجب أن أكون غنيّا…وسأعمل ما أريد، ولن يخالفني أحد…وهذا عليّان يرتكب الموبقات منذ بداياته…كانت سيرته السيئة على كلّ لسان لبضعة شهور…ثمّ اعتاد الناس على ذلك، ولم يعد أحد يتحدث عنه شيئا.

خرج عليّان من غرفة النوم بسرواله الداخلي وابتسامة تعلو وجهه…بينما خرجت جيئولا تقهقه بسروالها النسائي الداخليّ و”صدرية” تغطي”ثدييها”…جلسا قبالة أبي سالم الذي تنحنح وقال:-

ربنا طلب الستر يا عمّي يا عليّان…لماذا لا تستران جسديكما؟

ردّت جيئولا غاضبة:- نحن في بيتنا…وليس من حقّ أحد أن يتدخّل بنا.

فسأل أبو سالم:- أأفهم من كلام هذا المخنّث أنّه يطردني يا عليّان؟

–         لا يا عمّ فجيئولا إنسانة طيّبة وكريمة.

أبو سالم يسأل مستاء وساخرا:- أين والداكِ يا جيئولا؟

إنهما في رحلة إلى مسقط رأسيهما في النّمسا.

–         وأين يسكنان؟ ومتى سيعودان؟

سيعودان بعد شهر…وهما يسكنان في الطابق الأوّل.

وهنا تدخل عليّان قائلا:- إنهما رجلان ثريّان وطيّبان…لا يتدخلان في شؤون أبنائهما…بل يعملان على توفير سبل الرّاحة لهما…لهما ابنة أخرى اسمها راحيل تعيش مع زوجها في تل أبيب…وهي أمّ لطفلين…تعرفت عليهما قبل سفرهما…قبل شهرين…وأحبّاني كثيرا لأنني صاحب جيئولا.

–         وهل ستنجب جيئولا مثل أختها يا عليّان؟

ابتسم عليّان وقال:- جيئولا لن تستطيع الإنجاب…وهذا ما حبّبني بها…إنها تعيش كامرأة تشبع غرائزها ولا تريد غير ذلك.

أبو سالم:- وماذا تعمل أنت يا عليّان الآن؟

–         لا أعمل شيئا…أرافق جيئولا …ونعيش حياتنا الخاصّة….جيئولا توفّر لي كلّ شيء.

وهل تركت والديك ورحلت عن البلدة؟

–         بالعكس…أعود لبيتنا مرتين أو ثلاثة أسبوعيّا، وأعطي أبي نقودا تكفي لسدّ احتياجات البيت وتزيد.

–         وهل يعرف أبوك مصدر هذه النقود؟

–         إنه يترضى عليّ…ولا يسأل عن مصدرها…ذات يوم سألني عمّا أعمل…فأجبته بأنني أعمل في فندق وأنام فيه…ولم يسأل بعدها.

******************************************

“الخيل تطارد في راسي”  هذا ما قاله المختار أبو السعيد لزوجته، عندما سألته عن سبب اضطرابه وقلقه، لكنّها لم تجرؤ أن تسأله عن أسباب ذلك، فالرجل لا يأتمن أحدا على أسراره، و”الرّجال لا يبوحون بأسرارهم للنساء” والنوم هرب من عينيه، فعندما تركب الهموم الإنسان فإن عقد الرّاحة ينفرط بين يديه،  فتتدحرج حبّاته تبحث عن مكان آمن لها بعيدا عنه، والخروج على المألوف كفر عواقبه نيران حارقة، لكن لا بُدّ من “تعليق الجرس” فـ”استمرار هذا الحال من المحال” وعجلة الحياة يجب أن تواصل دورانها، ولا أحد يعلم متى سينتهي هذا الاحتلال، وإذا ما بقي الناس على جمودهم فإنهم لن يضرّوا إلّا أنفسهم، وهذه بلاد كُتب على أهلها الرّباط والجهاد إلى يوم الدّين، صحيح أنّ كثيرين عملوا مع مقاولين وشركات بناء اسرائيلية سعيا وراء رغيف الخبز المرّ، وطمعا في جمع بعض المال، فالأجور مرتفعة قياسا بالمرحلة السّابقة، لكن النّاس قلقون على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، حلّق تفكيره عاليا بعد أن احتسى كوب شاي أعدّته له زوجته…قرّر-على غير العادة- أن يستشير زوجته فقال لها:- اسمعي يا امرأة.

–         نعم يا أبا سعيد.

–         سأتحدث معك في أمر لا أريد أن يسمع به أحد.

خير إن شاء الله قالت متخوفة..وواصلت بصوت مبحوح:”سرّك في بير” فما تعودت أن أفشي سرّا.

–         يجب أن نرسل البنات المخطوبات لأناس في الأردن…كي يتزوجن هناك وينسترن، فلا أحد يعلم متى سينتهي هذا الاحتلال…ولا أريد أن أكون سببا في قطع نصيبهنّ..

انفرجت أساريرها وقالت:-

والله”عين العقل” أدامك الله ذخرا لنا.

رشف قليلا من الشاي وقال:- المشكلة ليست هنا…فهناك مشكلة أخرى وهي تزويج الخاطبين هنا…وفتح الطريق أمام من يريد الزواج.

ابتسمت وقالت:- أمر جيّد…سنفرح بزفاف ابننا ماهر على خطيبته…فلو لم تندلع الحرب لتزوجا قبل ثلاثة شهور …في أيلول الماضي.

–         اسمعي قليلا يا امرأة…المشكلة في كيفية إقامة أعراس ودماء الشهداء لم تجفّ بعد…والناس تشتّتوا بعد أن نعق غراب البين فوق رؤوسهم.

فقالت على استحياء:- ما رأيك أن يتزوج الشباب بدون أغانٍ وبدون سهرة؟

–         والله إنّك أتيتِ بما غاب عنّي…سأذهب لوالد العروس وأعرض عليه الأمر…فإن وافق سأدعو بضعة أشخاص من أجل إشهار العرس، سنذبح خروفين لأسرة العروس والمدعوّين…ويتمّ الزواج بهدوء تام…بدون أغانٍ وبدون أيّ صوت…وآمل أن يكون ذلك سُنّة حسنة يقتدي بها الآخرون.

شعر المختار أبو السعيد براحة بعد ذلك…انفرجت أساريره…وغرّدت عصافير الحبّ على جبينه…غفا وعلا شخيره…ولم يستيقظ إلّا مع أذان الفجر…

أدّى الصلاة جماعة في المسجد…اختلى بالمختار أبي محمد وبالحاج عبد الرؤوف، والحاج عبد الحافظ، ومنصور…عرض عليهم فكرته همسا في زاوية المسجد قرب الباب الرئيس…استحسنوا الفكرة…توجهوا بعد الصّلاة إلى بيت أبي صالح والد العروس….ولمّا فتح باب بيته لهم، قال بصوت متحشرج:-

اللهمّ اجعل هذا الصباح  خيرا…ما الأمر يا جماعة؟

ابتسم أبو السعيد وقال:- لا تخف…لا يوجد إلّا الخير…عرض الموضوع على أبي صالح الذي استمع بانتباه شديد.

نظر أبو صالح إلى وجوه الآخرين وسأل:- ما رأيكم يا وجوه الخير؟

فردّ الحاج عبد الحافظ بلهجة بطيئة:- لو كان لنا رأي آخر ما أتينا إليك.

أهلا وسهلا بكم…قال أبو صالح…وأضاف:-

ما دام هذا رأيكم، فلا مانع لديّ…لكن متى تريدون العرس؟

أجاب أبو السعيد:- اليوم نشتري كسوة للعروس…وغدا الزواج.

أبو صالح:- البنت بنتكم و”اللي بيشتري رطل لحم ما بيفرط فيه” بنتنا لديها ملابس تكفيها…ولن تبخلوا عليها عندما ستنتقل إلى بيتكم…ومن يملك قرشا فليحتفظ به…فلا أحد يعلم ما تخبئه لنا الأيّام.

أبو السعيد:- بنتك مثل بنتي- والله على ما أقول شهيد-…وسنضعها في عيوننا..وسأشتري لها ما تريده دون نقاش.

أبو صالح:- بارك الله بك…وأنا متأكد من ذلك…ولن أتراجع عن كلامي…لن تكون كسوة خاصّة لابنتي، فلديها ملابس تكفيها لعامين…وبإمكانكم أن تقيموا عرسكم هذا اليوم…وقبل أن يسمع منهم ردّا قال:-

أستأذنكم كي أخبر البنت وأمّها.

دخل إلى غرفة النّوم حيث تجلس العروس مع أمّها…وما أن رأته زوجته حتى همست له:- لماذا أنت على عجلة من أمرك دائما؟ أعطنا وقتا حتى تجهز البنت نفسها.

فردّ عليها:- وهل هي ذاهبة إلى حرب كي تجهز نفسها؟…معكن وقت حتى صلاة العصر، فتجهزن كيفما تردن.

–         وماذا سأقول لخالاتها وصاحباتها؟

–         لا نريد دعوة أيّ شخص…وستتبعها بنات كثيرات وشباب كثيرون سيتزوجون بنفس الطريقة…فنتائج الحرب لم تترك للفرح مكانا.

تركهن وعاد الى صالون البيت حيث يجلس الرجال وقال:- مبارك عليكم يا أبا السعيد…إذا كنتم جاهزين فليكن العرس اليوم.

بارك الله بك أيها الرجل الطيبّب…قالوها جميعهم…التفت أبو السعيد إلى صالح وطلب منه أن يذهب ليستدعي العريس ماهر كي يحضر فورا…ولمّا حضر طلب منه أن يذهب فورا لدعوة الأساتذة؛ داود، فؤاد ومحمد، وأن يخبرهم بأن يكونوا في بيته بعد صلاة العصر مباشرة…وطلب من هأن يدعو أيضا أعمام العروس وأخوالها.

عاد أبو السعيد إلى بيته سريعا…طلب من زوجته أن تعجن وتخبز فعرس ماهر سيكون هذا اليوم…والمدعوّون لن يزيد عددهم على عشرة أشخاص، وأهل العروس لن يزيدوا عن هذا العدد.

لا يوجد أمام أمّ سعيد أيّة خيارات أخرى، وما عليها سوى تنفيذ الأوامر التي تصدر إليها…هي في عجلة من أمرها، تتعثّر بفرحتها…أيقظت كنّتها زوجة ابنها سعيد، واستدعت سلفتيها…اثنتان يعجنّ العجين، واثنتان يمرسن اللبن الجميد، وواحدة”تطبخ” طنجرة قهوة”سادة” بينما بدأ أبو السعيد يذبح خروفا…قرّر ذبح ثلاثة خراف سمينة، فخروفان لا يكفيان…هكذا حسبها …فما يدريك أن يحضر آخرون بدون دعوة وعلى حين غرّة؟

وصل ماهر…طلب منه أبوه أن يذبح خروفا آخر…وأن يذهب كي يقصّ شعره، وكي يشتري قميصا وبنطالا جديدين….بعد دقائق معدودة وصل الأساتذة…طرحوا تحية الصباح…جلسوا بجانب البيت على أكياس خيش يتحدثّون مع المختار أبي السعيد…فقال الأستاذ فؤاد:-

مباركة أفراحكم يا أبا السعيد.

–         بارك الله أعماركم.

داود:- قرار الزواج خطوة صائبة ومباركة….لكن لماذا لا تريدون إقامة احتفال كما هي العادة؟

أبو السعيد:- تعلمون يا إخوان الأوضاع بعد الحرب…فدماء الشهداء لم تجفّ بعد…واحتلال البلاد سرق الفرحة من القلوب…فهل سنرقص ونغني على أشلاء الضحايا وأحزان الوطن؟

داود:- نحن شعب يا مختار كبقيّة الشعوب…وبلادنا باقية مكانها، بغضّ النّظر عمّن يحكمها، وعن الدول التي تقوم عليها…لكنّها في النهاية لن تكون إلّا لنا…وعجلة الحياة مستمرّة…ويجب أن نمارس حياتنا كما هي…وهناك من يتزوجون، وهناك من يموتون…وهناك من يولدون…وهناك من يعملون…وهناك من يقاتلون…وهناك من يتضرّرون وهناك من يكسبون…وأكبر نصر للعدوّ إذا هزمنا من دواخلنا….واقتنعنا أنّنا مهزومون.

المختار أبو السعيد:- ما هذا الكلام يا أستاذ؟ وهل هناك من يستطيع الرّقص والغناء في هكذا ظروف؟

داود:- نعم يجب أن يقتنع الناس بممارسة حياتهم بشكل طبيعيّ، وهذا سيساعدهم على الصّمود في بيوتهم وعلى أرضهم.

أبو السعيد:- عجيب أمركم أيّها الأساتذة…إنّك تدعو إلى إقامة الأفراح مع أنّني لم أشاهدك يوما في سامر أو حلقة دبكة…كما أنّك لا تجيد العزف على النّاي أو الشّبّابة.

داود:- كلامك صحيح…لكن هذا لا يعني أنّني ضدّ الفرح…فالأغلبيّة يشاركون في الأفراح مع أنّهم لا يجيدون الغناء ولا الرقص ولا العزف…ومن حقّ الناس أن يفرحوا…فالأحزان والأفراح ليست قضاء بل نحن من نصنعها.

أبو السعيد:- أريد أن أسمع رأي الأستاذين الآخرين؟

فؤاد:- أنا مع رأي داود.

محمد:- رأيكما خاطئ ورأي المختار هو الصحيح….فليتزوج من يريد الزواج…لكن بدون مظاهر للفرح.

أبو السعيد:- هي مجرّد آراء يا إخوان…ونحن قررنا تزويج ابننا ماهر بدون أيّ احتفالات…فالزواج بحد ذاته فرحة…ومن يريد أن يحتفل بعرس ابنه فهو حرّ بما يفعل، ولا يحق لنا الاعتراض عليه.

وهنا حضر منصور وابنه الأستاذ خليل…رحبّ بهم أبو السعيد، وطلب من زوجته أن تستعجل في طبخ “المعاليق” حتى يقدمها لضيوفه…شرح أبو سعيد لمنصور رأي الأساتذة…فقال منصور:-

هي وجهات نظر لا تقدّم ولا تؤخّر…الآن أتمّوا هذا الزواج…وبعدها سيفرجها ربكم.

فقال خليل:- لا إنها ليست وجهات نظر….هذا أمر خطير…فلماذا أنتم على عجلة من أمركم؟ الاحتلال لن يبقى سوى بضعة شهور…وسيزول حتما…لأن الرأي العام العالمي لم يعد يقبل بالإحتلال، والإتحاد السوفييتي ودول عدم الانحياز ستجبر اسرائيل على الإنسحاب، والرئيس جمال عبد الناصر لن يهدأ له بال قبل كنس الإحتلال واستعادة كرامة الأمّة، فإن لم ينسحبوا بهدوء وبدون شروط، فإن الجيش المصري سيقضي عليهم، ألم يقل “ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلّا بالقوة”؟

المختار أبو السعيد بهدوء ساخر قال:- الله يعطيك العافية يا أستاذ خليل… عجلة الحياة تدور يا بنيّ…ولن نستسلم…سنعيش حياتنا كبقية البشر، ولا نعلم ما يخبّئ لنا الغيب؟

ونسأل الله أن ينتهي الإحتلال بأسرع وقت…وسيتزوج ماهر بدون عناء وبدون أيّ مظهر من مظاهر الإحتفالات والفرح.

خليل:- وهل حياتنا تسير بهذا الهدوء حتى يتزوج ماهر؟ وماذا سيخسر هو أو غيره لو تأجل العرس إلى الصيف القادم؟

الأستاذ داود:- تريث قليلا يا خليل…فزواج ماهر أو غيره لن يطيل في عمر الاحتلال يوما واحدا…والزواج لا يعني التعايش مع الاحتلال.

منصور يأمر ابنه خليل قائلا:- اسكت يا ولد ودعك من هذه الثرثرة الزائدة.

غضب خليل وانصرف دون استئذان….ضحك المختار وقال:-

أبناء هذا الزمان رؤوسهم حامية…ولا يقدرون عواقب الأمور.

في بيت أبي صالح كانت أمّ صالح تجهز ابنتها العروس… وطلب منها زوجها أن تلبسها الثوب الحريري الأسود المطرّز…وأن تكونا جاهزتين بعد صلاة العصر كي ينتقلوا إلى بيت العريس…فلا يوجد”فاردة” ولا غناء ولا ما يحزنون…ولا نريد أن نزعج أهل العريس فلديهم ما يشغلهم.

فقالت أمّ صالح:- يا فضيحتنا!…هل سنأخذ البنت نحن إليهم؟ ماذا سيقول النّاس عنّا؟

فردّ عليها أبو صالح قائلا:-“الملافظ سعد” يا امرأة…أين الفضيحة؟ وهل يُعاب من يستر ابنته؟

بعد تناول وجبة الإفطار في بيت أبي السعيد غادر الأساتذة على أمل العودة بعد العصر…توجّه الأستاذ داود إلى بيت أبي كامل لرؤية خليل…وهناك وجده غاضبا تدور شياطين الغضب في رأسه….فالفتى لم يستوعب عمليات الزواج والوطن يئن من ثقل بساطير المحتلين، ضحك الأستاذ داود عندما رأى الغضب يرتسم بؤسا وضيقا على وجه خليل، وما أن رآه خليل حتى تساءل حانقا:-

كيف توافقون على أمر كهذا؟ هل نسيتم أنّ الوطن محتل؟ وهل تخلّيتم عن دماء الشهداء؟ أيّهما أولى زفاف الشباب إلى الوطن أم إلى النساء؟

ردّ الأستاذ داود ضاحكا:- هوّن عليك يا خليل..(فما لله لله، وما لقيصر لقيصر)..فوقوع الوطن تحت الاحتلال لا يعني أن نخلق احتلالا ذاتيا لأنفسنا…فالزواج سنّة من سنن الحياة…وهذه طبيعة الشعوب الحيّة…والوطن يعمر بوجود أبنائه.

خليل:- الاحتلال سيزول خلال أسابيع أو أشهر قليلة…وبعدها من يريد الزواج فليتزوج…وليرقص وليغنِّ كيفما يشاء.

داود مستنكرا:- وإذا استمرّ سنوات ما العمل؟

خليل:- لن يستمر وسنشعل الأرض نارا تحت أقدام المحتلين، حتى يهربوا من أرضنا صاغرين.

داود:- الصّمود على الأرض والزواج والتكاثر مقاومة أيضا يا خليل…وماهر بن المختار أبي السعيد سيتزوج بدون غناء أو رقص.

خليل:- وهذا لا يجوز أيضا.

داود ساخرا:- ما رأيك أن نطلب من المتزوجين أن يطلقوا نساءهم لأن الوطن محتل؟

خليل:- ماذا جرى لعقلك حتى تقول هذا الكلام؟

داود:- إذا عد إلى عقلك…فزواج ماهر أو غيره أمر عاديّ لا يؤخّر ولا يقدّم شيئا في صراعنا مع المحتلّ.

ردّ خليل بهدوء:- وما المطلوب منّي؟

داود:- ليس مطلوب منك شيئا…أريدك أن تتريث في حكمك على الأمور…اعتراضك على زواج ماهر لم يكن في محلّه…ولهجتك كانت غاضبة في بيت المختار…ولا أريدك أن تظهر بمظهر غير لائق أمام الناس…وعلينا كسب ثقتهم، وتلمّس همومهم حتى نستطيع التعامل مع المرحلة الصعبة التي نعيشها.

–         وما العمل؟

–         المدعوّون لا يتجاوزون عدد أصابع اليد….جهز نفسك بعد صلاة العصر، كي نذهب سوية لبيت المختار…نبارك لهم زواج ماهر…و”يا دار ما خشّك حدا”.

خليل:- دعني أفكّر.

داود:- خذ وقتك.

تناول الحضور الطعام في بيت المختار، حوالي الثالثة عصرا…وبعد الصّلاة قال المختار سنذهب لإحضار العروس، لا داعي لذهاب الجميع معنا، سيذهب العريس والمختار أبو محمد والأستاذ داود في سيّارة الأستاذ…ستركب العروس وأمّها وأبوها والعريس في السيّارة…والآخرون سيأتون مشيا على الأقدام، فالمسافة قصيرة ولا تزيد عن بضعة مئات من الأمتار….رفّ حمام مرّ من فوق بيت المختار…فاعتبروه فألا حسنا…عصافير الدّوري تزقزق فوق جدران البيوت…وطائر هدهد يغازل أنثاه على شجرة التّوت أمام البيت…وبينما هم في الصّلاة انطلقت زغرودة من والدة العريس عندما رأت العروس ووالديها وأفراد أسرتها بصحبة أعمامها وأخوالها يقفون أمام بيت العريس…جاؤوا وحدهم..والدة العروس تحمل حقيبة ملابس العروس على رأسها…العروس ترتدي ثوبا حريريّا مطرّزا بـ”عِرْقِ الحبش” وتغطّي رأسها بـ”خرقة” بيضاء، تمشي على استحياء كأنّها عذراء مدعوّة لحضور زفاف صديقتها…وقف الأساتذة لاستقبال القادمين فهم لا يُصلّون…في حين كاد المختار أبو السعيد يقطع صلاته عندما سمع الزغرودة تنطلق من بيته.

استقبلت أمّ سعيد ضيفاتها بالأحضان، وأدخلتهن البيت وهي تحيط خاصرة العروس بيدها اليمنى وتشبعها تقبيلا….بينما جلس الرجال خارج البيت مسندين ظهورهم إلى الحائط، وأمامهم شجرة التوت التي تعرّت من أوراقها…

انتهت الصّلاة فرأى المصلّون أسرة العروس أمام بيتهم….تكشيرة تعلو وجه المختار احتجاجا على الزغرودة التي انطلقت من فم زوجته كاسرة قراره بعدم الغناء…غير أنّ ترحيبه بأسرة العروس قلب غضبه إلى ابتسامة عريضة…أطلّت عليه زوجته وقالت:-

لا تؤاخذني يا أبا السعيد…انطلقت الزغرودة من فمي غصبا عنّي عندما رأيت العروس أمام بيتنا.

لم يجبها أبو السعيد وبقي يرحبّ بضيوفه وممّا قاله:-

شهامتك هذه يا أبا صالح لن ننساها أبدا، وابنتك منذ الآن ابنتنا، بل هي الأعزّ والأغلى…ولن تلقى منّا غير الترحاب والمحبّة حتى “لو خلطت الطين بالعجين”، اسمها أميرة وستكون أميرة هذا البيت.

أبو صالح:- البنت بنتكم وإن شاء الله لن تروا منها إلّا ما يرضيكم، ونحن وأنتم أهل “ما فيه مقسوم بيننا إلّا المحرمات”.

المختار أبو محمد:- أشهد أنّ البنت أصيلة بنت أجاويد.

أبو صالح:- بارك الله بكم …هذا بعض مما عندكم.

جلست أميرة على كنبة…وبجانبها كنبة أخرى للعريس الذي لم يعد من القدس بعد…في حين جلست والدتها وحماتها على يسارها…فقالت أمّ سعيد:-

تزوجت أنا سنة 1942 …وأبو السعيد-أطال الله عمره- كان في عزّ الشّباب، ووقتها كان عمره سبعة عشر عاما، وأنا كنت أصغر منه بثلاث سنوات…لم يكن في وقتنا “إكليل” تلبسه العروس…ولبست “ثوب حَبَر” مطرز عليه “عِرْق السَّبَل”…وكنت الأجمل من بناتي جيلي…وأبو السعيد شيخ بن شيخ…..والمرحوم والده كان عنده مجموعة عباءات فاخرة….كلّها من السعودية…وقمبازه كان من قماش “الرّوزة” أبيض مثل الجبنة…وكنت أول عروس في البلدة انتعلت حذاء خاصا بها….فقد اشتروه لي من الخليل بسبعة قروش….أمّا الأخريات فكنّ يستعرن حذاء والدته…تنتعله العروس يوم زفافها، ويعيدونه في اليوم التالي مع علبة حلقوم… وأتوا بي من بيت أهلي”فاردة” أركبوني على ظهر فرس…الرجال يمشون أمامنا، يغنون”الهجيني” والنساء من خلف الفرس يغنّين…خالي يقود الفرس بي، واثنان من إخوتي واحد على يميني والثاني على يساري، وكانت النساء من بنات جيلي متعودات على ركوب الدّواب…فقد كنا نركب الحمير والبغال ونحن في طريقنا إلى الحقول للعمل فيها، أو العودة منها، وحظّك يا بنيّتي يا أميرة أفضل من حظّي…فأنت ترتدين الآن ثوب حرير مخملي مطرز، والحرير لم يكن في زماننا…وإن كان موجودا، فإنّنا لم نكن نعرفه.

ويوم عرسي ذبحوا نعجة واحدة، فالناس كانوا قليلي العدد، وعند المساء ذبحوا خروفا عشاء لي ولأقاربي….فكان حديث الناس؛ كونها ميّزة لم تحظ بها واحدة من بنات جيلي…وفي اليوم التالي للزفاف ذبحوا خروفا آخر لوالدتي…وحمّلوها نصفه إلى بيت أهلي…أيّام كانت أجمل وأحلى من هذه الأيّام…المحتلون الإنجليز وقتئذ كانوا يعدمون الرجل على رصاصة فارغة، أو على ىسكّين، لكن الله يرحم أيامهم قياسا بهذا الاحتلال، وإن شاء الله لن تدوم لهم.

عاد أبو سالم إلى بيته في سيارة جيئولا وبصحبة عليّان، يترنح تحت تأثير الكحول، ترجل من السّيّارة مطأطئ الرأس تتعثر قدماه ببعضهما البعض، التعب بادٍ على وجهه…رأته أمّ سالم…ركضت نحوه…أسندته على كتفها وهي تسأل:-

ماذا أصابك يا أبا سالم؟ هل أنت مريض؟

انخرس…كان يئن ويلهث…ارتمى على أرض الغرفة…حاولت سحبه إلى الفراش لكنّها لم تستطع….رأت ربيعها خريفا تتساقط أوراقه….فبكت اليوم الذي اقترنت به بهذا الرجل…فأيّامها معه سياط تجلدها…ورددت في داخلها بأن النساء يفاخرن بأزواجهن…أمّا هي فموضع سخرية بينهن عندما يذكرن زوجها…فتساقطت دموعها ترسم طريقها على وجنتيها.

تململ أبو سالم…تقيّأ وهو يتلوّى ويئن…شعرت بالقرف منه ومن الأيّام الخوالي التي قضتها معه…غلت له جعدة…فربما أصابه البرد….لكنه رفض احتساءها…تركته وانتقلت إلى غرفة ثانية وهي تردد:” ياشماتة العدوّات فيك يا أمّ سالم”.

انتعلت شريط ذكرياتها، فوجدته حافيا من الفرح منذ ارتضى والدها أن تكون حليلة لهذا النذل، ولولا أنّها حملت منه منذ ليلة الدّخلة، ورهنت نفسها لأبنائها لتابت عن الزواج-إذ ا ما كان الرجال من شاكلة هذا الزوج- هي على قناعة بأنّه حالة شاذّة، فوالده-رحمه الله- كان شهما كريما مضيافا، ووالدها وافق على زواجها من أبي سالم على سمعة أبيه الحسنة….وعندما قال بعض مجايليه من أبناء العائلة بأنّه نذل خسيس، اعتبر والدها ذلك نوعا من طيش الشباب، وغيرة لا مبرّر لها، فابن الأجاويد يردّه أصله الطيّب…فهل غاب عن ذهن الوالد أنّ “لكلّ بيت مزبلة”؟

في صباح اليوم التالي استيقظ أبو سالم بقذارته وقيئه ورائحته الكريهة….أمّا أمّ سالم فلم يعرف النّوم لعينيها طريقا في الليلة الماضية، كان الحزن رفيقها…وسيل دموعها يغسل رواسب البؤس من قلبها…تذكّرت كيف جاءها الخطّاب وهي في الثالثة عشرة من عمرها….وكيف رفضهم أبوها بحجّة أنّ البنت صغيرة…كلّهم أفضل من أبي سالم…زوّجوها قبل أن تبلغ الرابعة عشرة….فهل فاتها قطار الزّواج عندما ارتضوه لها…تعوذّت بالله من الشيطان الرّجيم وقالت “قسمة ونصيب” وما لبثت أن قالت” لو أنّ الله قطع النّصيب من هكذا زواج”…استغفرت ربّها عندما سمعت صوته من الغرفة الثانية.

سألها باستكانة:- متى عدتُ إلى البيت؟

–         قبل صلاة العشاء بقليل…قالتها مصحوبة بتنهيدة عميقة.

–         وكيف عدتُ؟

–         عدتَ في سيارة تقودها اسرائيلية قبيحة، وخلفها رجل لم أرَ ملامحه…ماذا دهاك يا رجل؟ هل أنت فاقد للذاكرة؟

استند قليلا وقال:- كنت مريضا…شربت دواء هدّني وأنامني.

–         وما هذه الروائح الكريهة التي تنبعث منك؟ إنّها أشبه برائحة التّيوس في موسم تزاوجها.

ردّ غاضبا:- اخرسي يا امرأة..ألم تجدي ما تشبّهينني به غير التّيوس؟

مدّ يده في جيبه…تحسّس المئتي دينار التي قبضها من الكابتن نمرود…نظر إليها …ابتسم عندما مرّت بخاطره فكرة بأنّ عليّان وجيئولا لو كانا يعلمان بها لأخذاها منه وهو في سكرته…وطلب من زوجته أن تُعدّ له فنجان قهوة “سادة”….بينما هو ذهب يستحم….شعر بنشوة وانتعاش والمياه تتساقط على جسده، تسحب ما تجمّع عليه من قيئ وأوساخ….وارتاح عندما تنشطت دورته الدمويّة، فأيقظت ذاكرته المخدّرة…

ارتدى ملابسه…احتسى القهوة …فسألته:-

أين كنت بالأمس؟

–         ومتى كانت النّساء يسألن بعولتهنّ عن أماكن تواجدهم؟

–         بالأمس تجمّع عدد من الرجال أمام بيت المختار أبي السعيد…وسمعنا زغرودة تنطلق من البيت…وبعض النّساء يقلن بأنّ أميرة بنت أبي صالح قد تزوّجت ماهر بن أبي السّعيد بزغرودة واحدة.

–         مَنْ تزوّج مَنْ يا امرأة؟

–         أميرة تزوّجت ماهر.

–         هي تزوّجته أم هو تزوّجها؟

–         هي من تزوّجته…فقد ذهبت مع أمّها وأبيها إلى بيت أهله، وقدّمت نفسها هديّة إليه!

لو كنتَ هنا لذهبتَ ورأيتَ ماذا جرى في بيت أبي السعيد.

–         لا حول ولا قوّة إلّا بالله…إذا كان ما تقولينه صحيحا فـ “على الدّنيا السّلام”.

–         لماذا؟ فالزواج ليس حراما ولا عيبا.

–         لكن العيب أن تهدي المرأة نفسها، فالرّجال لا يحترمون إلّا المرأة التي تحترم نفسها.

–         في كلّ الأحوال لقد خطبها ماهر قبل الحرب بشهرين…وإذا تزوجها الآن فهذا حقّ لهما…لكن الله أعلم بالّذي جرى.

ارتدى أبو سالم خيباته….وخرج من البيت…في الطريق مرّ بالأستاذ خليل وطرح عليه السّلام.

نظر إليه خليل نظرة ازدراء، ولم يردّ التّحيّة بمثلها…فسأله أبو سالم:-

هل صحيح ما سمعناه ياخليل؟

–         وماذا سمعتَ؟

سمعتُ أنّ أميرة بنت أبي صالح قد تزوّجت يوم أمس.

–         نعم صحيح.

هكذا تزوّجت بدون سهرة وبدون حفلة؟

–         ومن يحتفل في هكذا ظروف؟

هل حضر أحد الزواج غير أهل العروسين؟

–         نعم عدد من المدعوّين.

من هم؟

–         أنا على عجلة من أمري…اذهب إلى أهل العرس وحقّق معهم.

غضب أبو سالم وتمتم قائلا:- حتى هذا الأكتع الصدئ يحتقرني…جيل آخر زمن…لكن قسما لأجعلنّكم تركعون أمام قدميّ…غطّى رأسه بعباءته، ضمّ وسطها خلفه…مشى مطأطئ الرأس قاصدا بيت المختار أبي السّعيد.

عندما رأته أمّ سعيد من بعيد وهي تلقي القمامة…عادت وقالت لزوجها:-

أبو سالم قادم إلينا في هذا الصّباح.

فردّ عليها قائلا:- يا فتّاح يا عليم.

قال أبو سالم عندما رأى أبا السعيد:- مباركة أفراحكم يا مختار- مع أنّني غاضب منكم- لمذا لم تدعوني لحضور العرس؟ أم خفت أن تخسّرني دينارا نقوطا للعريس؟ خير الله كثير يا رجل.

–         أهلا وسهلا بك…لم ندعُ أحدا…جاء بضعة رجال صدفة…ولا مجال للفرح..ولم نأخذ نقوطا من أحد…وأنت لم تكن في القرية يوم أمس.

أبو سالم:- كنت مشغولا…ولو كنت أعلم بالعرس لأجّلت عملي.

ابو السعيد:- اتفقنا على العرس فجأة…لم نخطّط لذلك.

–         وهل تحسبني مغفلا حتى أصدّق ما تقول؟

–         صدّقت أم لم تصدّق هذا شأنك…وما قلتُ لك إلّا الصّدق.

–         في كلّ الأحوال مباركة أفراحكم…وعقبى للآخرين.

–         بارك الله بك…ويوم أمس اتفقنا أن نرسل البنات المخطوبات لخطابهنّ الموجودين في الأردنّ…ونأمل أن يتمّ ذلك في بداية الأسبوع القادم.

–         اعتدل أبو سالم في جلسته وسأل: ومن سيرافقهنّ؟

–         ألمْ تقل بأنّك على استعداد لذلك؟

–         بلى لقد قلت ذلك…إن لم يكن لديكم مانع….فأنا لا أبخل بشيء على أبناء بلدتي…فمن يريد أن يبعث ابنته معي، عليه أن يدفع لي خمسة وعشرين دينارا….أجرة طريق لي ولها…وما تبقّى أجرة لي…وأسأل الله السّلامة فقد يكلفني هذا العمل حياتي…فالحدود على نهر الأردنّ لم تعد آمنة…وإسرائيل دائمة السهر على أمنها.

–         لا بأس سنجمع آباء البنات ونحسم الأمر.

–         توكلنا على الله.

**********************************

بدأ أبو نايف يحفر أساسات لبناء بيت جديد….أساس لسكنتين كبيرتين بينهما بيت درج تمهيدا للطابق الثاني…..هو وأبناؤه الستة عملوا في شركة”سوليل بونيه” الإسرائيلية للبناء، فنايف يعمل بنّاء حجر، وعليّ معلم”طوبار” وسامي بنّاء طوب، كلّ واحد منهم يكسب خمسين ليرة يوميا…إنها تساوي خمسة دنانير أردنية، وبعد شهر أخذوا عمارة مقاولة….أكملوها في ثلاثة شهور …ربحوا آلاف الدّنانير…علّموا بقيّة إخوتهم فنون البناء…عملوا يدا واحدة.

كثيرون من أبناء البلدة لم يعملوا مع الإسرائيليين بعد، ومن عمل منهم فقد عمل بضعة أيّام في الشهر لتغطية مصاريف بيته.

أمّ نايف تقول:- هذه”مشمشيّه” وتحمد الله كثيرا وتسأل الله أن يطيل عمرها كي تفرح بزواج أبنائها جميعهم، وأن ترى أحفادها شبابا.

اجتمع آباء البنات المخطوبات لشباب في عمّان في بيت المختار أبي محمد…وبحضور الأساتذة “داود، محمد وفؤاد” وحضر الأستاذ خليل مع أبيه، فقال أبو صالح:- أبو نايف يحفر أساسات لبناء بيت كبير.

أبو كامل: نسأل الله له التوفيق…لكن من أين أتى بالمال؟

المختار أبو السعيد:- أبناؤه ستّة يعملون معه في المقاولات ويكسبون مبالغ كبيرة.

الأستاذ داود:- هذه أمور لن تدوم…وهي خطيرة… المال في الأرض لمن يبحث عن المال…اعملوا في أرضكم ولا تتركوها نهبا للمحتلين.

أبو سالم:- عملنا في الأرض سنوات طويلة، ولم نحصل على قوتنا سوى بشقّ الأنفس.

فؤاد:- الأرض تعطي من يعطيها.

أبو سالم:- وماذا نعطيها؟

فؤاد:- أحرثوها وازرعوها واعتنوا بمزروعاتكم، وهي بدورها ستعطيكم.

أبو سالم:- من يعمل مع اليهود سيكسب في الشهر أكثر من عمله في الأرض عاما كاملا.

فؤاد:- هذا غير صحيح، فاليهود يعملون في الأرض التي سيطروا عليها، ويُشغّلون معهم عمالا عربا…ولولا أنهم يكسبون من زراعتها لما زرعوها.

أبو سالم:- اليهود يستعملون الآلات في الحراثة، وفي الحصاد، ويستعملون الأسمدة…وهم لا يبذلون جهدا يدويّا كما نبذل.

فؤاد:- ولماذا لا يستعمل فلاحونا الآلات الزراعية والأسمدة هم أيضا.

أبو سالم ضاحكا:- ومن أين سيأتون بثمن الآلات؟

فؤاد:- ليشترك عدة مزارعين في شراء “تراكتور” حراثة مثلا…وهكذا

دواد:- المحتلون يريدون أن يصرفونا عن أرضنا كي يستولوا عليها فـ”الأرض لمن يفلحها” وصراعنا معهم على الأرض.

خليل:- الاحتلال لن يدوم، وسيرحل عن أرضنا رغما عن أنفه.

أبو سالم ساخرا: آه… الاحتلال سيرحل لأنه يخاف منك ومن أمثالك.

خليل غاضبا:- نعم إنّه يخاف منّي ومن أمثالي، وإذا طال عمر الاحتلال فلن يطول إلّا بوجود أمثالك.

أبو كامل:- ما لي أراك يا أبا سالم تستهدف خليلا؟

أبو سالم:- ومن هو خليل حتى أستهدفه؟

أبوكامل:- الأستاذ خليل الذي لم تعد تعرفه، يحظى باحترام بين النّاس أكثر منك، مع أنّ عمره أقلّ من ثلث عمرك.

المختار أبو محمد:- وحدّوا الله يا جماعة…هل جئتم إلى بيتي كي تتشاجروا؟

الأستاذ محمد:- كلام المختار أبي محمد صحيح…جئنا لبحث قضيّة إرسال البنات إلى الأردن.

أبو سالم:- لكنّكم رأيتم بعيونكم، وسمعتم بآذانكم كيف يتهجّم عليّ ابن أبي كامل…ووالده يفزع له مع أنّ الولد لا يترك أحدا من شرّه…ولا يحترم كبيرا أو صغيرا…تعاطفنا معه لأنّه أكتع، وصرنا نلقبه بـ”الأستاذ” ويبدو أنّه صدّق نفسه.

أبو كامل:- يد الأستاذ خليل ليست عارا عليه أو علينا…وهو أستاذ بفعله غصبا عن الراضي وعن الغاضب.

المختار أبو السعيد:- لا يجوز لأيّ أحد أن يرفع صوته في بيوت الآخرين فللبيوت حرمات، وللجلوس فيها أصول يجب أن تحترم…ومن لا يتقيّد بالأصول فليذهب إلى بيته باحترام وإلّا…..

أبو سالم:- هل تقصدني يا مختار؟

أبو السعيد:- أقصدك وأقصد غيرك….

الأستاذ داود:- فليتفضل أبو محمد ويتحدث في الموضوع الذي اجتمعنا من أجله.

أبو محمد:- أبو السعيد صاحب الفكرة، فلنستمع لرأيه.

أبو السعيد:- الأوضاع صعبة وخطيرة يا إخوان، ولا يعلم إلّا علّام الغيوب، إلى متى ستستمرّ هذه الغمّة، ففي العام 1948قال القادة العرب أن الأزمة ستنتهي خلال أيام، وسيعود المُهجّرون إلى ديارهم، ومرّت عشرون سنة، والأحوال تزداد سوءا…بل ليتنا بقينا كما نحن عليه، لقد عشتم وشاهدتم ما جرى في حزيران الماضي، وبدلا من التحرير وقعنا في احتلال جديد أشدّ قسوة وأكثر إيلاما، وعلينا أن نتدبّر أمورنا…بالأمس زوّجت ابني ماهر، كما رأيتم بدون أيّ مظهر من مظاهر الفرح، وتجاوب معنا صهرنا أبو صالح بطريقة نفخر ونقتدي بها، والمثل يقول:”دوّر لبنتك قبل ابنك” والمحظوظ من يستر ابنته، و”العرض لا يُحمى بالسّيف” وعدد من بناتنا مخطوبات لأبناء لنا، استقر بهم المطاف في الضّفة الشّرقيّة، وعلينا أن نتدبّر أمرنا بإرسال كلّ واحدة منهنّ إلى خطيبها، لتزفّ إليه في الأردن، وإذا ما تمّ تحصين الحدود فإنّ هذا الأمر سيغدو مستحيلا…وكلّ بنات البلدة بناتنا، ويعلم الله أنّني لا أفرّق بين ابنتي وبين أيّ بنت من بناتكم…و”همّ البنات للممات” فما رأيكم؟

المختار أبو محمد:- والله كلامك عين العقل يا أبا سعيد.

استحسن الآخرون الفكرة، ولم يتفاجأوا بها، فقد سبق وأن تناقشوا فيها أكثر من مرّة.

وعاد أبو السعيد وسأل:- من سيرافق البنات إلى الأردن؟

أمّا خليل فقد سأل:- وكيف ستعرفون أين حطّت الرّحال بالخطّاب وذويهم؟

أبو صالح:- محمد بن المرحوم أخي حمدان يعمل محاسبا في مصنع الإسمنت منذ عشر سنوات كما تعلمون، ويسكن في بيته الذي بناه في صويلح قرب الدّوّار الرئيسي، وبيته معروف…كثيرون من أبناء البلدة الذين سافروا إلى الأردنّ قبل الحرب زاروه فيه وأكرم وفادتهم…وبالتأكيد فإنّه يعرف عناوين الكثيرين من أبناء البلدة هناك، بل ستجدون عددا منهم في بيته….فبيته كبير مكوّن من أربع شقق.

أبو ناجي:- والله إنّه سبع بن سبع، فقد زرته قبل عامين في بيته في صويلح، فأكرمني، وشعرت في بيته كأنّني في بيت ابني.

المختار أبو محمد:- إذا سيكون هو العنوان…فمن سيرافق البنات؟

تدثّر الجميع بعباءة الصمت…بعضهم طأطأ رأسه، وكأنّ الأمر لا يعنيه…أو أنّ كلمة “لا” لم تعد تجد لها مكانا تخرج فيه من فمه….فالعودة عبر النهر تهريبا فيها مخاطر قد تكلف المرء حياته.

تنحنح أبو السّعيد ووجّه كلامه لأبي سالم قائلا:- ما رأيك يا أبا سالم؟ فقد سمعتك مرّة تقول بأنّك على استعداد لمرافقة البنات.

عضّ أبو سالم على غليونه، وهو يتكئ على جانبه الأيمن، ينفث دخانه في فضاء الغرفة وقال بلا مبالاة:-

غالبية كبار السّنّ يعرفون طرق البراري و”مخاضات” النّهر، من خلال عملهم في التّهريب بين الضّفّتين زمن الإنجليز، وأيّ واحد منهم يستطيع اصطحاب البنات، ومن هناك يعود طريقه.

أبو السعيد:- أنت واحد ممن يعرفون الطّرق…فهل أنت على استعداد لفعل ذلك؟

تظاهر أبو سالم بالحياء وقال:- إذا لم يتطوع شخص آخر لذلك، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله…فحياتي فداء للبلدة ولبناتها ولأبنائها.

انفجر خليل ضاحكا عندما سمع كلام أبي سالم، اغتاظ أبو سالم وصرخ في وجه خليل سائلا:-

لماذا تضحك يا ولد؟ ألا يعجبك كلامي؟ إذا كان لك اعتراض فلترافقهن أنت أو أبوك “أمّا قلّة حيا”.

قهقه خليل ساخرا وقال:- ما دام أبو سالم يعتبر مرافقة البنات عمليّة فدائيّة، فلن نفرّط به، لأنّه عملة نادرة، وأنا عندي اقتراح وهو أن الاحتلال يعطي تصاريح لأصحاب الشاحنات، بالسّفر ذهابا وإيّابا إلى الأردن عبر جسر دامية، فلماذا لا نرسلهنّ مع شخص ثقة من أصحاب الشّاحنات بدلا من التضحيّة بحياة أبي سالم!.

ابتسم الحضور إعجابا بجرأة خليل، بينما قال أبو سالم غاضبا:-

وهل سنرسل بناتنا مع غرباء يا ابن أبي كامل؟

فردّ خليل:- الغريب هو من يتحالف مع الشّيطان.

فصرخ أبو سالم ثانية:- ماذا تقصد ياولد؟ هل أنا حليف للشّيطان.

خليل:- حلفاء الشّيطان يعرفون أنفسهم.

اعتدل المختار أبو محمد في جلسته وقال:- لماذا كلّ هذا الحديث؟ دعونا نتفق على من سيرافق البنات.

أبو سالم:- بما أنّه لم يتطوّع أحد منكم لمرافقتهنّ، فإنّني من سيقوم بهذه المهمّة…بشرط أن يدفع والد كل بنت خمسة وعشرين دينارا، أجرة للسّيارات ومصاريف…وأجري على الله.

المختار أبو السعيد:- إذا جهّز نفسك بعد ثلاثة أيّام.

عندما سمعت صبحة العبدالله بالخبر طارت فرحا، فقد كان زفافها على خطيبها محمود الفايز في التاسع من حزيران الماضي، وقرّروا أن تبدأ سهرة العرس مساء الثلاثاء في السادس من نفس الشهر، إلّا أن الحرب اللعينة اندلعت قبل ذلك بيوم واحد، فانقلبت الأمور رأسا على عقب، وانتهى المطاف بالعريس وأسرته نازحين شرق النهر، ومنذ تلك الليلة وصبحة تبكي حظها العاثر، وتلعن الحروب ومشعليها، وتلعن الاحتلال، واليوم الذي رأت فيه هذا الاحتلال، لقد رأت في قرار تسفير الصبايا الى خطابّهن شرقي النهر فرصة لتحقيق حلمها بالزواج من محمود الفايز الذي أحبته وأحبها، صحيح أنه لم تربطهما قصة غرام، إلّا أن لقاءاتها القليلة معه في بيت والديها بعد خطبتهما، -وبحضور أكثر من شخص من المحرمين- كانت تبعث الفرحة والسعادة في قلبيهما، وكان نبض قلبها يتسارع عندما تنظر اليه خلسة، وتنام ليلتها وهي تحلم بأن تحتضنه، وتشبع منه ضمّا وتقبيلا، وعندما عرض عليها والدها الموضوع ليعرف رأيها، طأطأت رأسها حياء، وأجابته:-

مثلما ترى يا أبي.

في حين تظاهرت والدتها بالاعتراض على سؤال زوجها فتساءلت:- وهل يوجد لها أو لغيرها رأي وأنت موجود؟

فشعرالوالد بسعادة، وأبدى رضاه عن تربية زوجته للبنت.

أمّا فاطمة بنت أبي مخلوف وسعدية الحسن، فقد جنّ جنونهما، خصوصا فاطمة، فقد قالتها بالفم الملآن بأنها لن تسافر الى خطيبها في الأردن مهما كانت النتائج، وقالت بأنه لو كان يحبها، ويرغب بالزواج منها لما غادر البلاد، وحتى أنه مطالب بالعودة متسللا عبر النهر، وتساءلت قائلة:-

ماذا يوجد له في الأردن؟

حاول والداها تهدئتها، وشرح لها والدها بأن العنوسة أفضل بكثير من الرحيل عن أرض الوطن…..تركوها في الليلة الأولى مع أحزانها وتناوبوا على اقناعها في اليومين اللاحقين، مما وضعها أمام حائط صلب، ولم يعد لها أيّة خيارات، فكظمت غيظها وبكت حظها العاثر.

سعدية الحسن قصتها مختلفة تماما، فخطيبها يعمل مدرسا في السعودية، خطبوها له خطبة تقليدية بناء عبى رغبة الأسرتين، رأته يوم الخطبة في صيف العام 1966، وسافر في اليوم الثاني الى عمله على أمل الزواج في صيف العام 1967 بداية العطلة الصيفية، ووقعت الحرب ولم يعد، وبعد الحرب خفق قلبها لسرحان محمد الذي أكمل دراسة الهندسة في جامعة القاهرة، التقته صدفة في الطريق…نظراته كانت سهاما أيقظت قلبها من سباته، وعندما ابتسم لها سبّلت جفونها حياء، فقال لها:-

كيفك يا أميرة الصبايا؟

–         الحمد لله…قالتها بحياء شديد….وأسرعت في طريقها وكأنها تهرب من اللقاء…لكنها رأت نفسها تركب بساط الريح محلقة في سماء الحب، تصببت عرقا من جلال الموقف، لم تره بعد ذلك…لكنها بقيت تحلم باليوم الذي تفسخ خطبتها فيه، على أمل أن يتقدم سرحان لخطبتها…وثقت علاقتها بوالدة سرحان وشقيقته….كانت تقبّل يد الوالدة وتعانق الشقيقة كلمّا صادفتهما، أو صادفت إحداهما….وتفرح كما الأطفال عندما تدعو لها أمّ سرحان قائلة:(الله يستر عليك)…فستر المرأة بالزواج.

تحدثت سعدية مع والدتها عن فسخ خطبتها أكثر من مرّة منذ التقت سرحان صدفة في الطريق، فقد رأته فارس أحلامها…فهو شاب وسيم… أنيق…طويل القامة…قمحي البشرة، له ابتسامة حييّة ساحرة….غير أن أمّها كانت تنهرها عن مجرد التفكير بهكذا أمر، ومن مغبّة أن يسمع والدها بهكذا تفكير.

سعدية وجدت فرصتها بالإعلان عن رفضها السفر الى الأردن بحجة أنها لا تستطيع فراق الأهل والوطن، ولا تقوى على العيش في الغربة، غير أن رأيها ذرته الرياح عندما رفض والدها بحث الموضوع، وقال:-

جهزي نفسك واستعدي للسفر.

أمضت أيامها تبكي…ولم تستطع تغيير شيء.

الصبايا الأخريات لم يستشرهن أحد، بل لم يكن لهن رأي، ذووهن هم من يقررون وينفذون….. وسط دموع الفراق ودّع الأهالي بناتهم المسافرات إلى الأردن…فهم على قناعة بأن الاحتلال سيزول خلال أشهر قليلة، ولن تطول غربة الصبايا، وعندما قطعت الشاحنة بهن منطقة جسر دامية، لم يكن هناك جسر…النّهر يتسع عرضه في مكان معين…فتعبره الشّاحنات بسهولة…إلتفتن إلى الخلف…بدت فلسطين لهن عروسا ترخي جدائلها…حباها الله بجمال لم تحظ به أرض أخرى…فانفجرن باكيات يلطمن الخدود…فاطمة بنت أبي مخلوف حاولت القفز من صندوق الشّاحنة والعودة من حيث أتت…صرخت بأعلى صوتها:-

تبّا للزّواج ومن يتزوّجون…مجنونة من تترك ديارها لتلحق برجل تُزفّ إليه…أنا أحبّه…ولو كان يحبّني ويحبّ وطنه لعاد عبر النّهر متسلّلا…وتزوّجنا في البلاد…أمسكت بها زميلاتها في محاولة منهنّ لتهدئتها…لكنّ صراخها لم يتوقف….أبو سالم بجانب السائق لا يسمع ولا يرى شيئا…شرطيّ أردنيّ سمع صراخها….ورآها هائجة..ركب درّاجته النّاريّة ولحق بالشّاحنة…أوقفها…وقف بجانب صندوقها وسأل:-

ما أمر هذه الفتاة؟

نزل أبو سالم والسّائق يستطلعان الأمر… وفورا صاح بفاطمة قائلا:-

اخرسي يا ابنة أبي مخلوف…هل جُننتِ؟

نهره الشرطيّ …وطلب من الصّبايا أن يبتعدن عن فاطمة…فقفزت من مكانها باتجاه الشرطيّ وقالت:-

أنا “دخيلة” عليك يا سيّدي…ردّني إلى بلادي….استمع الشرطيّ إلى قصّتها وهو يبكي ذُلّ أمّته وقلّة حيلته…هدّأ من روعها وقال:-

هوّني عليك يا أختاه…وإن شاء الله ستعودين قريبا …فأرض المحشر والمنشر لا يُعمّر فيها ظالم…هدأت قليلا..واصلت الشاحنة سيرها وعيون الصّبايا على الوطن.

أن تغادر أسرتك وبيتك والمكان الّذي ولدت وترعرعت فيه…هذا يعني أنّك تغادر كرامتك وسعادتك…فمن لا وطن له، لا كرامة له…هذا ما فكّرت به الصّبايا اللواتي كنّ يبكين بصمت مستسلمات لقدرهنّ…كلّ واحدة منهنّ يدور شريط ذكرياتها…يتوقف لحظات عند مواقف صغيرة عاشتها صاحباتها لحظات فرحٍ وسعادة….جليلة بنت أبي ناجي…أكبرهنّ سنّا فهي ابنة عشرين ربيعا…رأت في نفسها مسؤولة عنهنّ…جمعت شجاعتها وقالت لهنّ عكس ما يجول في عقلها…قالت:-

لماذا كلّ هذا الحزن؟ كلّ واحدة منكن حلمت ولا تزال تحلم أن تكون عروسا…وعرسانكنّ ليسوا غرباء عن أيّ منّا، فكلّهم أبناء عمومتنا…وستعيش كلّ واحدة منّا في سعادة لن يعكّر صفوها أحد…ولا فرق بين الأردنّ وفلسطين…فكلاهما بلدنا ووطننا…ولن يهدأ بال العرب حتى تتحرّر فلسطين…وما هي إلّا بضعة شهور

حتى تعيد الدّول العربية بناء جيوشها…وسيحرّرون فلسطين، فلا يمكن أن يبقى الأقصى محتلا….ألم تسمعن ما قاله الرّئيس جمال عبد الناصر في مؤتمر الخرطوم…لقد قال(ما أخذ بالقوّة لن يستردّ إلّا بالقوّة)…و(لا صلح ولا مفاوضات مع اسرائيل) وها هو الجيش المصريّ يشنّ حرب استنزاف على طول قناة السويس…وهو يدعم المقاومة الفلسطينيّة…والفدائيون يشنّون هجمات يوميّة على مواقع العدوّ…وسينهكونه….وربما سيهرب من الأراضي التي احتلها تحت ضربات المقاومة….والعيش في الأردنّ قد يكون أكثر يسرا وسهولة من العيش في فلسطين، في هذه الظروف الصّعبة، ولنصبر حتّى يفرجها ربّنا…ولا أحد يعرف ماذا يخبّئ القدر لمن بقوا في بيوتهم وعلى أرضهم.

أصغت الصّبايا لكلام جليلة…وقالت فاطمة:-

مجنون من ينتظر الجيوش العربيّة حتى تُحرّر فلسطين….فهي لم تحارب…وهناك خيانات في قيادة الجيش المصريّ.

قطعت جليلة حديث فاطمة وقالت:-

الجيوش العربيّة لم تحارب لأنّها لم تكن مستعدّة للحرب…والقيادات اعتقدت بأنّ اسرائيل لن تجرؤ على البدء بالهجوم.

قالت فاطمة غاضبة:- لا يوجد مزاح أو حسن نوايا بين الدّول المتحاربة…وأنا شخصيّا مع أنّني لا أعرف في السّياسة ولا في العلوم العسكريّة، لو كنت مسؤولة…وحشدت اسرائيل جيوشها على الحدود مهدّدة بالحرب لهاجمتها قبل أن تهاجمنا.

فردّت أمينة المحمود ساخرة:- الحمد لله أنّك لست قائدة…..فضحكت الصّبايا.

*****************************

أبو نايف أحضر حفّارة”كمبريسة” لحفر أساسات البيت الجديد، وهذه هي الحفّارة الأولى التي تدخل القرية، وهي ملك لعفنان بن العفش…اشتراها من يهودي عمل معه…فقد تحول اليهوديّ من عامل “كمبريسة” يملكها إلى مقاول بناء…حركة عمرانيّة هائلة ولافتة باشر اليهود بها…فالبناء في حارة الشرف في القدس القديمة لم يكتمل بعد…ومئات مشاريع البناء تنتشر في الأراضي الخالية في القدس الغربية، وقريبا من المنطقة الحرام.

أبناء القرية يمرّون قرب أساسات بيت أبي نايف…ينظرون الآلة العجيبة التي تفتّت الصّخور…وتنجز عملا يوميا لا يقوى على فعله عشرة شبّان أقوياء…حتى بعض النّساء حاولن استكشاف هذه الآلة….الحاج عبد الودود قال عندما رأى الصخر يتشقّق تحت مسمار “الكمبريسة”:-

بالعلم تنهض الشّعوب…واستعمال الآلات في العمل يوفّر المال والوقت…سأل عن أجرتها اليومية؟ فأجابه عفنان:-

100 ليرة اسرائيلية في اليوم….حسبها الحاج في رأسه وقال لعفنان:-

عندما تنتهي من أبي نايف أريدك أن تحفر أساسات لغرفتين سألحقهما بالبيت.

فقال عفنان:- سأسجّل اسمك على القائمة فقد سبقك ثلاثة عشر شخصا يريدون حفر أساسات لبيوت جديدة.

فغر الحاج عبد الودود فمه وسأل:- ثلاثة عشر شخصا من أبناء البدة؟

–         نعم من أبناءالبلدة.

–         من أين أتوا بالمال؟

عفنان:- من عرق جبينهم…فالكلّ يعمل مع اليهود بأجور مرتفعة.

–         ومِن أين يأتي اليهود بالمال؟

–         هذا سؤال طرحته على أفنيري الذي باعني “الكمبريسة” فأجابني بأنّ أموال يهود العالم تنهال على اسرائيل بعد انتصارها في حرب الأيّام الستّة…وهناك تبرعات سخيّة من الحكومة الأمريكية والحكومات الغربية لدعم اسرائيل.إنّهم يبنون مدنا داخل المدن وفي محيطها.

تنهّد الحاج عبد الودود وقال:- هذه قدرات تفوق التصوّر…لكن متى سيصلني الدّور يا عفنان؟

–         بعد حوالي شهرين.

عاد الحاج عبد الودود إلى بيته يسائل نفسه عن الوضع الذي آلت إليه البلدة…تعصف الأفكار برأسه…لكنّه لم يخرج بنتائج مقنعة، وتساءل:-

هل سيبقى مجال العمل مفتوحا في اسرائيل؟…وهل ستتركنا اسرائيل نعمل ونبني ولن تتدخل بنا؟ وماذا تريد منّا؟ لم يعمل حتى الآن في الورش الإسرائيلية إلّا أبناء الفقراء الّذين لم يكونوا يملكون قوت يومهم قبل الحرب، صحيح أنّ الفقر كان منتشرا…لكن هناك تفاوتا بين فقير وفقير…فالبعض كان يملك مؤونة سنة من القمح والعدس ومخزون الزّيت والزّيتون…وله أرض أمام بيته يزرعها ببعض الخضار كالبندورة والقرنبيط والفجل والبصل وغيرها، لكنّ آخرين لم يكونوا يملكون قوت يومهم…وهم الآن يعملون ويدّخرون نقودا، ويبنون بيوتا أفضل من بيوت من كانوا يعتبرون أنفسهم أغنياء، وإلى متى ستكفي مدّخرات “الأغنياء” إن بقوا بدون عمل؟ وهل سينتهي الاحتلال قبل أن تنتهي مدّخراتهم؟ الأساتذة يشتمون الاحتلال دائما، ويحذّرون من مخطّطاته، حتى خليل الأكتع لا ينجو الاحتلال من لسانه، فهو يشتمه دائما، ويشتم من يعملون في ورشات هذا الاحتلال…فمن أين يأتي هذا الأكتع بمصروفه؟ فملابسه دائما نظيفة…وهل لو لم يكن أكتعا لكان يعمل في الورشات كما يعمل الآخرون؟

وصل الحاج عبد الودود بيته مهموما…جلس أمام بيته تحت شجرة الزيتون…لم يكن الجوّ باردا مع أنّ فصل الشتاء في بدايته…لكن يبدو أن طقس هذه البلاد مجنون كما هي الأوضاع السّياسيّة فيها…مرّ به أبو كامل فألحّ عليه أن يجلس معه…قضيا وقتهما يلعبان(السّيجة) ويشربان الشاي…تحدّثا عن الأوضاع فأكّد أبو كامل أنّ اسرائيل ستنسحب خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة الماضية…ولمّا سأله عن مصدر معلوماته؟ أجابه بأنّ هذا ما يؤكده الأساتذة! فسأل الحاج عبد الودود مستنكرا:-

وهل يعلم الأساتذة بالغيب؟

لا …لا…لا يعلم الغيب إلّا الله…لكنّ الأساتذة يقرأون في الكتب، ويتابعون الأخبار ويفهمونها ويحلّلونها…هكذا أجاب أبو كامل وأضاف:-

الأستاذ داود يقول دائما بأن نصر اسرائيل ليس نابعا من قوّتها، بل من ضعف الدول العربية، والأستاذ خليل يقول بأن اسرائيل لن تحتمل ضربات المقاومة وستنسحب مهزومة… وهي مهزومة أصلا، فالحروب بنتائجها…واسرائيل لم تحقق أهدافها من الحرب، فهي لم تستطع إسقاط النّظامين التقدّميين في كلّ من مصر وسوريا.

فقال الحاج عبد الودود:-

الأستاذ خليل شاب صغير لا يعي الأمور جيدا…وإذا كانت اسرائيل مهزومة بعد احتلالها لكلّ هذه الأراضي فكيف يكون النّصر؟

فقال أبو كامل:- الأستاذ خليل سافر إلى بلاد الإنجليز…ويتكلم الإنجليزيّة، ويسمع الأخبار بها…وتعلّم في بلاد الإنجليز الشيء الكثير.

وهل مصائبنا إلّا نتائج سياسة الإنجليز تساءل الحاج عبد الودود مستنكرا؟ وكم مكث عندهم خليل حتى يتعلم منهم؟ هذه ليست مشكلتنا، وليس لنا علم بالسّياسة، لكنّ اللافت هو اندفاع النّاس للعمل في البناء مع المحتلّين.

أبو كامل:- وما اللافت في ذلك؟ وإذا لم يعملوا مِنْ أين سيعيشون؟ فلا أعمال إلّا عند اليهود…ولا يوجد عندنا مصانع أو مؤسسات تستوعب الأيدي العاملة.

الحاج عبد الودود:- الأرض التي يبني عليها اليهود للعرب…وبعض مالكيها لا يزالون موجودين في القدس وغيرها، وهم ممنوعون من العودة إليها، وأخشى أن يكون ما يقوله الأساتذة صحيحا.

–         وماذا يقول الأساتذة؟

–         يقولون بأن المحتلّ يسعى إلى إبعاد النّاس عن أرضهم كي يتركوها بورا…وبالتّالي سيصادرها وسيستوطنها.

–         الأساتذة يقولون بأن المحتلّ سيرحل قريبا…ويدعون النّاس إلى التمسّك بالأرض وفلاحتها خوفا عليها من الاحتلال…إنّهم لا يعلمون شيئا.

–         الأستاذ خليل هو من يؤكد بأنّ الاحتلال سيرحل تحت ضربات الفدائيين…وهو شاب صغير متحمس ومندفع…بينما الأساتذة الكبار متخوفون من المستقبل…ويتخوفون من إمكانية استمرار الاحتلال لسنوات طويلة.

–         النّاس يحكون بأنّ أحد الشّيوخ يقول بأنّ الاحتلال سيبقى سبعة أشهر، أو سبع سنين، أو سبعين سنة.

ضحك الحاج عبد الودود ساخرا وقال:- السبع شهور مضت ولم يرحل الاحتلال…وأخاف أن تمرّ السبع سنوات ولن يرحل…وسيرحل شيخنا قبل رحيل الاحتلال.

ردّ أبو كامل غاضبا:- كفانا الله شرور أقوالك يا رجل…وقسما لو أنّني أعلم أن الاحتلال سيبقى سبع سنوات لهاجرت من هذه البلاد…فالحياة تحت احتلال تعني ذلّا في النهار ومسكنة في الليل…يكفي أننا عندما نذهب للصلاة في المسجد الأقصى، يوقفنا حاجز راس العمود، وتقوم مجنّدة بفحص هويّاتنا…وتفتيش أيّ شيء تشتبه فيه…ويوم الجمعة الماضي انتزعت مجنّدة هويّتي من يدي بقوة، ولامست يدها يدي…فتعوّذت بالله من الشّيطان الرّجيم…وخفت أن تكون قد أفسدت وضوئي…وسألت شيخا في الأقصى عن ذلك…فسألني:-

هل اشتهيتها؟ فأجبته بأنّ الواحد منّا لم يعد يشتهي زوجته، فكيف سيشتهي امرأة تهينه؟ فضحك الشيخ وقال:-

إذا وضوؤك لم يفسد.

ضحك الحاج عبد الودود وقال:- نسأل الله الفرج…عام 1948 قالوا بأن اللاجئين سيعودون إلى ديارهم خلال أيام قليلة…ومضت عشرون عاما وهم مشتتون…والله وحده من يعلم إلى متى ستستمرّ هذه الأوضاع.

أبو كامل:- “الموت مع الجماعة فرج” ولماذا أنت قلق هذه الأيّام؟

–         ما يقلقني أنني أفكر بإضافة غرفتين إلى البيت كي أزوّج ابني حميدان.

–         نيّة مباركة…ولماذا القلق والخوف؟

–         أخشى من المستقبل…أخشى أن أنفق “تحويشة” العمر وتندلع حرب، أو يطردوننا من ديارنا ونصبح مثل”مصيّفة الغور”

–         وحدّ الله يا رجل…إذا بقينا تحت سيطرة الخوف فلن نعمل شيئا.

*************************************

جدّوع بن أبو القمل  لم تتعثر قدمه عندما عمل مع مقاول اسرائيلي في حارة الشرف، بعد الحرب بأقلّ من أسبوعين….لم يرفّ له جفن وهو يرى الغبار المتطاير من الأبنية العربيّة التّاريخيّة المهدومة يحطّ في ساحة المسجد الأقصى، وعلى قبّة الصخرة المشرّفة، وعلى جدرانها المزخرفة…وبفعل النّدى التصقت بالقبة المذهّبة كما الطين، حتى بات لونها قريبا من لون قبّة الأقصى الرّصاصيّة…أعطوه أجرة أكثر من أجرة العمّال الذين يعملون في الورشات خارج سور المدينة القديمة، فوجدها فرصة يعوّض بها سنوات الفقر والجوع التي عاشها…اصطحب ابنه البكر ليعمل معه…ولم يسمح له بالعودة إلى المدرسة ليكمل تعليمه الثانويّ…وبّخ الولد كثيرا وهو يقول له:-

ماذا ستستفيد من المدرسة؟ فأجرة العامل أعلى من راتب معلّم المدرسة وهذه فرصة لن تتكرّر…بعد شهرين من العمل بنى غرفتين ومطبخا لِصق بيته المكون من غرفتين، ورثهما عن أبيه، جمع بضعة مئات من الدّنانير…رأى أنّه قد أصبح شخصيّة مهمّة…وفاجأ الجميع بأن تزوّج مرة ثانية من فتاة من إحدى قرى رام الله…كذب على  ذويها وأخبرهم بأن زوجته الأولى مريضة، ولا أمل في شفائها، لم يستشر أحدا…ولم يأبه لأيّة ردود فعل من زوجته الأولى، وأبنائه وبناته الثمانية…وعندما عاد بالعروس إلى البيت، بكت زوجته الأولى حظّها العاثر معه، وصاحت به قائلة:-

الله يرحم أيّام الجوع يا ابن أبو القمل! (ربّنا بيكسر جمل ع شان يعشّي واوي) ضاعت البلاد وتشتّت العباد حتى يشبع واحد مثلك…..فغضب منها وانهال عليها ضربا أمام أطفالها الذين علا صراخهم، جرّها من شعرها، وقذف بها خارج البيت وهو يقول:-

إذا كنت لا تعرفين الطّريق إلى بيت أهلك سأوصلك بنفسي.

حاول الأبناء حماية والدتهم بأن وقفوا بينهما…إلّا أنّه دفعهم بقوّة، ولطم البنت الكبرى على وجهها، أخوهم البكر محمد لم يكن في البيت، فتراجعت إلى البيت باكية مكسورة الجناح.

عادت خميسة إلى غرفة نومها…جمعت ثيابها في خرقة بالية…حملتها على رأسها…ضمت طفلها الرّضيع إلى صدرها…ومشت باتجاه بيت والديها…أمسك بذراعها وقال لها:-

لن تعودي إلى هذا البيت إلّا وحدك كما خرجت منه، ولو بقيتِ في بيت أهلك حتّى الموت…وسأحرمك من رؤية أبنائك…ماذا ينقصك حتى تفضحينا أمام النّاس؟ وهل ستحرّمين عليّ ما حلّله الله لي؟…لم تلتفت إليه وواصلت طريقها وهي تدعو الله بأن ينتقم منه…حشر جدّوع بقية أطفاله في غرفة وصاح بهم:-

من يحاول منكم اللحاق بها، سأجعله يندم على اليوم الّذي ولد فيه…لقد جئتكم بأمّ أفضل منها…دموع خميسة تتساقط على رأس رضيعها…أفعى تبتلع حرذونا على قارعة الطريق…قرب سلسلة حجرية…مجموعة من عصافير الدّوري تزقزق مذعورة من الأفعى…تحلق… تدور…تنزل مقتربة من  الأفعى كما كانت  الطائرات تغير على أهدافها في الحرب…إنّها تطير بطريقة شبه دائرية…خافت خميسة من الأفعى…توقفت بعيدا…لكن الأفعى لم تحاول الهرب…أو أنّها لم ترَ خميسة…لعنت خميسة حظّها…ابتعدت عن الطريق ومشت وسط الأشواك في المنحدر الجبليّ فوق الطريق…حذاؤها البلاستيكي الممزق لا يقي قدميها من الأشواك…كلّما سمعت حفيف الأشواك اليابسة حسبته فحيح الأفعى، فتسرع في خطواتها وهي ترتعد خوفا…تدعو الله أن ينجيها ويحمي رضيعها…وتلعن جدّوع زوجها، واليوم الذي اقترنت به فيه.

رآها أبو سمير صاحب البيت القريب، فصاح بها:-

لماذا تمشين وسط الأشواك يا امرأة؟ الطريق قريب منك…لم تلتفت إليه إلّا بعد أن كرّر سؤاله، وقالت له باكية بأن في الطريق أفعى تبتلع حرذونا…حمل عصا كبيرة…وركض إلى حيث أشارت له عن مكان الأفعى…مسترشدة بالعصافير الدّورية التي تحوم مذعورة فوق الأفعى…سألها عن سبب بكائها؟ فلم تجبه.

وصلت خميسة بيت والديها خائرة القوى…نشيجها يمخر عباب فضاء البيت…وضعت رضيعها على الأرض وشقّت ثوبها…لطمت خدودها…وهي تقول:- الحيّة…الحيّة.

فزعت والدتها وسألت:- أين الحيّة؟ هل لدغتك الحيّة؟ تحسّست قدميها وساقيها…رأت دماء تنزف من لسعات الأشواك…لا لم تلدغني الحيّة…ويا ليتها لدغتني، وأراحتني من هذه الحياة التّعيسة مع جدوع النّذل! حاولت والدتها تهدئتها وهي تردّد: ماذا جرى؟ هل مات أحد أبنائك؟

لو مات أحد الأبناء لأنجبنا بديلا له…لكن جدّوع النّذل أتانا بمصيبة كبيرة، وضربني ضربا مبرحا.

ما المصيبة التي أتى بها؟ سألت الوالدة.

–         أتاني بضرّة.

وضعت الجدّة حفيدها في حضنها، مسحت وجهه بطرف ردنها قبّلته وقالت:-

على هذا تبكين؟ هوّني عليك…فالرجال يتزوجون أكثر من امرأة…وعندما أراد أبوك أن يتزوج زوجته الثانية أنا من طلبتها له…وأنا أقنعتها بأن تقبل به زوجا…وزغردتُ ورقصتُ يوم زفافهما…ومنذ ذلك اليوم وهي لا تعصي لي أمرا…صحيح أنّها تصغرني بعشرين عاما…لكن أنا أمّ الأبناء الكبار…وأنا صاحبة البيت الأولى…وبهذا بقيت مالكة لقلب أبيك، وجعلت دورها ثانويا في حياته.

–         لكنّ أبي لم يتزوج سرّا…وهذه الأيّام تختلف عن زمنك وزمن أبي…عدا عن ذلك فأبي يملك أرضا واسعة يفلحها ويحصدها…لكنّ النّذل جدّوع لم يشبع الخبز إلّا بعد الاحتلال…وقد ضربني بشدة وانتزع خصلا كبيرة من شعر رأسي.

–         هؤلاء هم الرّجال يا بنيتي…يضربون زوجاتهم…ويتزوّجون عليهنّ ويا (مأمنه للرجال يا مأمنه للميّه في الغربال)…وخذي ابنك وأرضعيه وانتظري حتى يعود أبوك، وهو سيتدبّر الأمر.

أخذت خميسة تنتزع الأشواك المتكسّرة في قدميها بظفري إصبعيها السبّابة والإبهام، والتي لا تستطيع إخراجها كانت تستعين بإبرة لتنبش عنها…..تخرج شوكة وتلعن “جدّوع”…تبكي مرّة وتتصنع ضحكة مرّة أخرى….إلى أن عاد أبوها إلى البيت، قبّلت يده اليمنى مرّتين، ووضعتها على جبينها عندما دخل البيت…قالت له:-

كيف حالك يا با وهي تبكي.

سألها عمّا بها….فأخبرته قصّتها….مدّت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة من الشعر وهي تقول:-

هذا جزء من شعري الذي انتزعه من رأسي…وهذه آثار الضرب على وجهي ورقبتي…صدري وظهري لونهما أزرق من شدّة الضرب…كان يرفسني كالبغل الحرون.

استمع أبو عفنان لابنته خميسة باهتمام….حمل عصاه وخرج دون أن يتكلم…أمسكت به زوجته وهي تقول:-

صلّي على النبي يا أبا عفنان…النّساء عندما يغضبن يكذبن…والرّجال يضربون زوجاتهم ويتزوجون عليهنّ… ولا نريد الوقوع في مشاكل مع جدّوع…فهو في كلّ الأحوال والد أبناء خميسة…والأمعاء في البطن تتقاتل.

نفخ أبو عفنان نفخة طويلة، عاد إلى البيت وقال:- أعلم أنّ الرجال يتزوّجون على نسائهم…وأعلم أنّهم يضربون زوجاتهم ضربا تأديبيّا …وليس ضرب انتقام كما فعل جدّوع الجبان…تزوّج أو لم يتزوّج هذا شأنه، ولا يهمّني ذلك…أمّا أن يضرب ابنتي بهذه الطريقة فهذا ما سأحاسبه عليه…وابنتي(مش غرّة ديّة).

شعرت خميسة براحة تامّة من موقف أبيها…فهو يقف إلى جانبها وسيحاسب جدّوع القذر على ضربه لها…لكنّها انتبهت أنّه موافق على زواجه من ثانية…وهذا ما لا تقبل به…هي معتادة على ضربه لها…ولم تغادر بيتها يوما ما بسبب الضرب…لكنّها لن تقبل أن يكون لها ضُرّة. نظرت إلى أبيها نظرة عتاب وقالت:-

إذا كان غضبك على جدّوع يا أبي لأنّه ضربني…فلا داعي للغضب…فقد سبق وأن ضربني عشرات المرّات ولم أحرّك ساكنا…كان يغضب منّي…يضربني…أبكي ثم نتصالح بعد يوم أو بعض يوم.

ماذا تقصدين يا بنت بكلامك؟

–         أقصد أنّ المشكلة ليست في الضرب بل في زواجه من أخرى.

–          صحيح أنّ”النسوان ناقصات عقل ودين”.

–          ماذا ينقصه حتى يتزوج من ثانية؟

–         ربّنا حلّل للرجل الزواج من أربع.

–         على شرط أن يعدل.

–         وما أدراكِ أنّه سيعدل أم لا؟ هل جرّبتِ ذلك؟ وعليك أن تعلمي أنّ الرجل عندما يتزوج من ثانية، فإنّ لذلك أسبابا مسؤولة عنها الزّوجة الأولى.

–         لا حول ولا قوّة إلّا بالله قالت خميسة…لم يكن أيّ قصور من جانبي…وسبب زواجه هو أنّه شبع بعد أن كان جائعا.

–         انتفضت أمّ عفنان وقالت غاضبة:- هذا كلام غير صحيح يا أبا عفنان، فعندما تزوجتَ عليّ لم يكن قصور من جانبي بحقوقك! ولم يكن هناك سبب مقنع لديك….ومع ذلك وافقتك، وطلبت لك العروس بنفسي.

–         ضحك أبو عفنان وقال:- على كلٍّ بعد صلاة المغرب سأذهب مع المختار أبي محمد إلى بيت جدّوع وسأتدبّر الأمر.

–         قالت خميسة بانكسار:- أريد أبنائي يا أبي…أحضرهم لي.

التفت إليها وقال:-

من تريد أبناءها لا تترك بيت زوجها…فالأبناء لأبيهم…وما المرأة إلّا(بطن حفظ نفظ).

تبخّر الكلام من فم خميسة، احمرّ وجهها غضبا، ذهبت إلى الغرفة الثانية…احتضنت طفلها الرّضيع وقالت:-

الحمد لله أنّك ولد، فالبنات تعيسات من يوم الولادة حتّى الممات، فحتى ما حلّله الله لهنّ يحرمونهنّ منه، فحضانة الأطفال للأمّهات، ووالدي يحرمني من هذا الحقّ، فلماذا ألوم جدّوع النّذل؟

اقتربت أمّ عفنان من أبي عفنان وهمست له:- خميسة حزينة على ما جرى لها يا أبا عفنان، فتعامل معها بلطف ولا تكسر خاطرها.

–         أنا أحبّ خميسة أكثر منكِ…لكنّي لا أريدها أن تطمع بزوجها…وأن تتطاول عليه…فهذا لن يكون في صالحها…وستخسر أبناءها…خصوصا وأنّ عنده زوجة ثانية الآن…فالأبناء ما عادوا بعد زواجه يشكلّون ورقة ضغط عليه…وسأذهب إليه بعد قليل بصحبة المختار أبي محمد وسيكون “يومه مثل دقّ الثوم” وسيسمع منّي كلاما مثل” وسخ الذّنين”.

–         الله يحفظك ويخلّيك لنا.

عندما وصل أبو عفنان والمختار أبو محمد بيت جدّوع لم يتوقع قدومهم، ولم يحبّ مجيئهم…لكنّه رحّب بهم…طرح المختار تحية المساء…بينما بقي أبو عفنان صامتا…مدّ يده مصافحا جدّوع والعصا تحت إبهامه…وعندما جلسوا قال المختار:-

ما قصّتك مع زوجتك خميسة يا جدّوع؟

تظاهر جدّوع بالهدوء وقال:- لا قصّة لي معها…إسألوها هي ما قصّتها؟

–         إذا لماذا ضربتها هذا الضرب القاسي؟

–         هي من افتعلت المشكلة وبدأت تشتمني…فدافعت عن نفسي.

–         هل صحيح أنّك تزوّجت عليها؟

–         نعم صحيح….والزّواج ليس عيبا أو حراما.

–         نعرف ذلك….و(الضرّه مُرَّة) ولا تقبل أيّ امرأة أن تكون لها ضرّة…تحتج وتبكي  النساء عندما يتزوج بعولتهنّ عليهنّ، ثمّ لا يلبثن أن يتكيّفن مع الوضع الجديد، وكان الأجدر بك أن تتحمّلها حتى تستوعب الصّدمة…لكن لماذا تزوّجت سرّا؟

–         هذا أمر يخصنّي…وإذا كنتم تحتجّون على سرّيّة الزواج فلماذا زوّج المختار أبو السعيد ابنه ماهرا سرّا؟

–         ماهر لم يتزوج سرّا….لقد تزوّج بدون سهرة وبدون أغاني، وحضر زفافه أكثر من عشرين شخصا.

–         لكنّني وكثيرون غيري من أبناء القرية لم نعلم بالزّواج إلّا بعد أيّام من حدوثه.

–         أبو السعيد فعل ذلك لظروف الحرب التي يعلمها الجميع.

–         وأنا لم يكن زواجي سرّا فقد حضره أقارب العروس في بيت أبيها، وحضره اثنان من أصدقائي من أبناء قريتنا…وبدون رقص أو غناء تماما مثل زفاف ماهر.

–         ماهر كان أعزبا، أمّا أنت فمتزوّج وعندك أبناء ما شاء الله عليهم.

–         ماذا تريدون منّي، إذا كان الزّواج من ثانية حراما …فلماذا تزوّجتم أنتم قبلنا؟ الله –سبحانه وتعالى- فتحها عليّ وأوسع لي في رزقي والمثل يقول(إذا ربنا أطعمك كل واطعم).

استند أبو عفنان وقال غاضبا:- أنا ما جئت هنا لأحاسبك على زواجك، لكنّني سأحاسبك على ضربك القاسي لخميسة، فأنا لم أزوجها لك”غرّة ديّة”.

قطع المختار أبو محمد الحديث وقال(النّسوان وداعة الغانمين) ولا يجوز أن يضرب الرجل زوجته، لكنّ ضرب الزّوج لزوجته ليس جريمة يا أبا عفنان، وسنرّد خميسة لأبنائها يا جدّوع، و”يا بيت ما خشّك حدا”.

جدّوع:- خميسة لن تعود إلى بيتي، وليس لها بيوت عندي حتى تعود إليها، فقد شتمت أبي والمرأة التي تشتم أبا زوجها تطلق نفسها كما تعلمون.

هل صحيح ما تقوله يا جدّوع؟ سأل المختار.

–         أقسم أنه صحيح.

قال المختار:- القضية تعقّدت…هذا أمر شرعي…ولا نريد أن ندخل في الحرام…سنسأل المفتي عن ذلك…فإن كان الشرع يطلقها فـ”ذنبها ع جنبها”…أو سنختصر الطريق، وسنرسل الآن ولدا يأتينا بالشيخ جميل فهو متعلم ويعلم بهذه الأمور…نادى محمدا بن جدّوع وطلب منه أن يذهب إلى بيت الشيخ جميل، وأن يطلب منه الحضور بالسّرعة الممكنة للمختار.

سأل أبو عفنان حائرا:- ألم تشتم أباها وأمّها وعرضها وعرض أمّها مئات المرّات يا جدّوع؟

–         عندما يغضب الزوج يشتم كلّ الناس.

–         وهل يشتم الأعراض؟

تنحنح المختار وقال:- وحّد الله يا أبو عفنان…” الزوجة شرموطة زوجها” وشتم الرجل لعرض زوجته لا يعيبها!!!!!!!!!.

غضب أبو عفنان وقال:- هذا فهم خاطئ…والزّواج ستر وسكينة للرجل وللمرأة، وهذه سنّة الله في خلقه، فكيف تتلفظ بهكذا كلام يا مختار؟ فزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا لَسْنَ كما تقول يا رجل.

–         لست أنا من يقول ذلك فقط، بل كلّ أمّتك تقوله.

–         استغفر الله يا رجل.

شعر أبو عفنان بأنّه مهان ومحطّم وهمّ بالخروج، فأمسك به المختار أبو محمد مع وصول الشيخ جميل.

بعد أن استمع الشيخ جميل للقصّة، بسمل وحمد الله وصلى على نبيّه وحوقل وقال:

بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)

صدق الله العظيم. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:( تناكحوا تناسلوا فإنّي مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) ويقول صلوات الله وسلامه عليه:( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصّيام فإنّه له وجاء).

فرِفقا بالقوارير يا إخوتي الكرام، فهنّ ملح الحياة وروحها…وعلى الزوجين أن يعيشا بمحبّة ووئام، وأن يضعا مخافة الله بين أعينهما، وعلى كلّ منهما أن لا يسمع قرينه منه إلّا ما يحبّه، وعلى المسلمين أن يتحلّوا بالخلق الحسن، مقتدين بخير الخلق كلّهم صلى الله عليه وسلم، فقد امتدحه الخالق –سبحانه وتعالى بقوله:(وإنَّكَّ لعلى خُلُقٍ عظيم). وليس مباح للمسلم أن يشتم الآخرين، فما بالكم إذا كان هذا الإنسان زوجا؟ فالشتائم ليست من أخلاق المسلمين، ومن غير المباح التّلاسن بالشتائم بين الزّوجين، أو غيرهما.

غضب جدوع وقال بعصبية زائدة:- هل تريد أن تخطب بنا خطبة الجمعة؟ سألناك سؤالا وأضعتنا بموعظتك دون أن تجيبنا.

استعاذ الشيخ بالله من الشيطان الرجيم وحوقل وقال:-

من هنا فإنّ شتيمة أبا الزّوج من الزّوجة لا يوقع عليها الطّلاق، ومن يقول غير ذلك، فإنّ قوله من عادات الجهل والتّخلّف، ولا علاقة للدّين السّمح بذلك، وحتى لو طلّقت الزّوجة زوجها، فإن الطّلاق لا يقع، لأنّ الطّلاق ليس حقّا لها، بل هو حقّ لزوجها، ما لم تكن العصمة بيدها.

شكرا لك قال جدوع وتفضل اشرب قهوتك.

هداك الله قال الشيخ وأضاف:- فأوصيكم بتقوى الله في أنفسكم وفي أزواجكم، وعليكم التّمسّك بالأخلاق الحميدة،

وقد جاء في مُسْنَدِ الإمام أحمدَ عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “وَالَّذِي نَفْسُ ‏ ‏مُحَمَّدٍ ‏ ‏بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ ‏لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا، وَوَضَعَتْ طَيِّبًا، وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِدْ”.صحّحه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني.

و(المسلم من سلم النّاس من يده ولسانه)

وأخيرا أستغفر الله لي ولكم، وأدعوه أن يهديني ويهديكم…وبارك الله بكم.

فقال المختار أبو محمد:- حيّاك الله يا شيخنا، فقد أنقذت أسرة كادت تضيع بجهلنا، وعدم معرفتنا بأمور ديننا…ونفعنا الله بعلمك…والآن اعتذر لعمّك أبي عفنان يا جدّوع، وقُمْ معنا حتى تعيد زوجتك وطفلك.

–         أنا أقسمت أن لا تعود إلى هذا البيت إلّا وحدها كما خرجت منه وحدها.

الشيخ جميل:- لا حول ولا قوّة إلّا بالله…لا يؤاخذكم الله بالّلغو في أيمانكم.

جدّوع:- عمّي أبو عفنان على رأسي، وقام جدّوع وقبّل رأسه، وأضاف:-

قسمي ليس لغوا…ولن أدخل نار جهنّم من أجل امرأة.

انتزع المختار ضحكة غاضبة من بين شفتيه وقال:- نسأل الله أن يكون مصيرك في نار جهنّم….سأعيدها أنا لك.

فقال أبو عفنان:- الآن انتصف الليل يا مختار، والبنت غاضبة ومتألّمه…اتركها ليوم غد…وتعال وأعدها بعد صلاة عصر غد.

المختار:- وأطفالها كيف سينامون الّليلة بدون والدتهم؟

جدوع: لا خوف على الأطفال.

*****************

تختبئ أشعّة الشمس خلف الغيوم التي تجوب السّماء، رياح نشطة تسوق الغيوم التي تتلبد بيادر ضخمة، بيادر الأرض تعطينا حبوبا، وبيادر السّماء تغيثنا أمطارا، هذه الغيوم محمّلة بالأمطار التي لا يعرف أحد غير الله في أيّ مكان ستضع حملها…الرياح في غالبيتها غربيّة، لا تلبث أن تتحوّل إلى جنوبية، وعلى رأي شيوخ البلدة الذين يختزنون تجاربهم الحياتيّة، فإنّ رياح الجنوب لا تبشر بالأمطار، وغالبا ما تكون محمّلة بالرّمال القادمة من صحراء سيناء، عجيبة هي الرياح في بلادنا، فهي تتقاسم وظائفها، فالرّياح الغربية تأتينا بالأمطار في فصل الشّتاء…قد تساعدها هبوب الشّمال أيضا، والرّياح الشّرقية تأتينا ببرد قارس قد يتشكل الصّقيع جراءه، أمّا الرّياح الجنوبيّة فتأتينا بالغبار والرّمال.

إمام المسجد بعد صلاة الجمعة يؤمّ المصلّين في صلاة الاستسقاء، يقرأ في ركعتيها سورًا طوالا من الذّكر الحكيم، يرفع يديه إلى السّماء حتى بان بياض إبطيه مقتديا بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وبدأ دعاءه بالحديث الشّريف:

“الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوّة وبلاغاً إلى حين”. وواصل من عنده: اللهم أنت أدرى بحالنا، وما وصلنا إليه من ضعف وهوان، اللهمّ لا ملاذ لنا إلّا أنت، ولا رازق لنا إلّا أنت، فأنزل علينا السّماء مدرارا، اللهمّ أنت أعلم بكثرة أخطائنا وخطايانا، وما لنا إلّا رحمتك، اللهمّ يا الله إن كنّا لا نستحق الغيث فأنزله علينا من أجل الأطفال الرّضع، والشيوخ والنّساء الرّكّع، اللهم يا سميع يا عليم يا مجيب الدّعاء، أنت تعلم تكالب أعدائنا علينا، وكيف فتكوا بنا وبأرضنا، فانصرنا يا الله على القوم الكافرين الظالمين، وثبّت أقدامنا على أرضنا، واهدنا إلى ما يرضيك يا الله.

وما أن انفضّت الصّلاة حتى علا صراخ نسوة وأطفال، فانتبه المصلّون إلى مصدر الصّوت، وقال بعضهم “اللهمّ اجعله خير يا رب” وإذا بحفيد أبي كامل يأتي قائلا لجدّه:- جدّوع وابنه ذبحا ماهر بن المختار أبي السعيد!

–         كيف ذبحوه يا ولد؟

–         انهالوا عليه بالعصيّ فانفجرت الدّماء من رأسه وسقط على الأرض.

–         لا حول ولا قوّة إلّا بالله…اسكت يا بنيّ ولا تخبر أحدا.

انتحى أبو كامل بالمختار أبي محمد وأخبره بما قاله حفيده….استشاط المختار غضبا وأطلق سيلا من الشّتائم على جدّوع ومن خلّفوه…وعندما تأكّدوا من صحّة الخبر، وجدوا “ماهر” ملطّخا بالدّماء التي نزفت من رأسه…حمله أحدهم بسيّارة إلى مستشفى الهوسبيس في القدس القديمه لتقطيب جراحه، في حين أمسكا بالمختار أبي السعيد وطلبا منه “عطوة” فأعطاهم “رفعة” لحجب الشّرّ حتى المساء، لمعرفة مدى إصابات ماهر، وطلبا منه أن يهدّئ شباب عائلته الذّين حملوا عصيّهم للإغارة على جدّوع وأقاربه… ومشيا باتجاه بيت جدّوع، فوجدوه يغصّ بالعشرات من أقاربه شيبا وشبّانا، الشيوخ جاؤوا لحجب الشّرّ والشبّان جاؤوا للحماية.

عفنان يحمل في يده عصا خشبية ثخينة، لها رأس مفلطح مغروس فيه مسامير، ومستعد للعراك.

سأل المختار أبو محمد متجهّما: ماذا جرى؟ ولماذا ضربتم “ماهر” يا جدّوع؟

–         ماهر استهزأ بي يا مختار.

–         كيف استهزأ بك؟

–         كنت عائدا من عملي أنا وابني…فيوم الجمعة نعمل نصف يوم…كما هي قوانين الخواجات…وأنتم تعرفون ذلك…مرّ بنا ماهر…وعندما رآنا ابتسم…طرح السّلام وسأل:- هل صحيح ما سمعناه بأنك تزوجت امرأة ثانية يا جدّوع؟

فأجبته:- نعم صحيح…هل لديك اعتراض؟ فضحك وقال:- مبروك…وسألته عن سبب ضحكه؟ فردّ ضاحكا:-

ضحكت على لا شيء…وهذا استهزاء بي…ويعني أنّه يضحك عليّ…ويبدو أنّه لا يعرف أن الأوضاع قد اختلفت…فما كان مقبولا بالأمس لم يعد مقبولا اليوم…ومن هنا فصاعدا لن نسمح لأحد بالتطاول على أيّ منّا…فلدينا رجال ومال.

استغفر المختار ربّه وقال:-

الأوضاع تغيّرت فعلا، وأنا لا أرى أنّ ماهر قد أخطأ…وعلى كلّ “اليد ما منها سلامه”…ماهر نقلوه إلى المستشفى لإسعافه. قطع جدّوع حديث المختار وقال:-

لا ردّه الله.

فصاح به الشيخ سعود كبير عائلته قائلا:-

عيب هذا الكلام عيب يا جدّوع…ونعتذر عنه يا جماعة….وهذا أراح المختار وأبا كامل.

فقال أبو كامل:- حديث جدّوع بهذه الطريقة عن ماهر هجوم علينا وإساءة لنا…ولولا اعتذار الشيخ سعود ما بقينا في هذا المجلس…ونسأل الله السلامة لماهر فجراحه عميقة…ونحن الآن ذاهبون لأخذ عطوة من أبيه، فالمختار أبو السعيد رجل عاقل، ولا يحبّ الشّرّ….ونريد منكم مئتي دينار مصاريف لماهر.

سعود:- حيّاكم الله…التفت إلى جدّوع وطلب منه أن يُحضر مئتي دينار.

قام جدّوع وهو يقول:- إذا كانت النّقود ترضيهم فخذوها على نعل حذائي.

استشاط المختار أبو محمد ورفيقه فقال غاضبا:-

أنت ولد قليل حياء يا جدّوع، ولن يرجع إليك حياؤك إلّا بضربك بحذاء على وجهك…وفي نفس اللحظة نهض الشيخ سعود وضرب جدّوع بعصا على ظهره…واستنفر أبناء العائلة لنجدة الشيخ سعود، فانخرس جدّوع وقال المختار:- (أعوذ بالله من الجعّان إذا شبع) وهذا الولد شبع بعد جوع، ويتصرف (كالبغل الشموص عند ما يشبع).

وقف الشيخ سعود واعتذر مرّة أخرى عن حماقات جدّوع…دفع المئتي دينار وهو يقول:- ماهر مثل أبنائنا، والمختار أبو السعيد أخونا وكبيرنا، ونعزّه كثيرا، ولو ضُرب واحد من أبنائنا بدل ماهر لكان أهون علينا، فاعتذروا لأبي السعيد نيابة عنّا، ونحن على استعداد لدفع ما يريده هو وجماعته حتي يرضون.

فقال المختار أبو محمد:- هذا الكلام الطّيّب الذي يأتي بالطّيب، ويهدّئ النّفوس…بارك الله بك يا شيخ سعود، وأكثر من أمثالك…أمّا جدّوع هذا فالله أعلم ماذا ستكون نهايته، فقط قبل يومين أرجعنا له زوجته خميسة، فقد ضربها ضربا موجعا، ترك آثارا على جسمها، بعد أن علمت بزواجه عليها…وقد”لفلفنا” القضيّة مع أبيها، حتى نهدّئ الأوضاع، وأبو عفنان رجل طيّب كما تعرفونه و(الزّله بتخفى فيه)، وأعدنا خميسة  لجدّوع…ويبدو أنّه لا يحمل جميلا.

شربا القهوة وهما يؤكّدان بأنّهما سيأخذان من أبي السعيد( عطوة اعتراف..قرار ما فيه انكار) وغادرا إلى بيت المختار أبي السعيد، وفي الطريق قال أبو كامل:-

هذا الولد جدّوع(مش جايبها البرّ) والله أعلم ماذا ستكون نهايته، لقد شبع بعد الاحتلال، وتزوّج ثانية، وضرب ابن المختار أبا سعيد…وربما سيقتل شخصا و(ينعف طحينه وطحين جماعته)…فلعنة الله على الاحتلال وعلى اليوم الذي وقعنا فيه تحت هذا الاحتلال.

في بيت أبي السعيد كان العشرات من أبناء الحامولة يحملون عصيّهم، ولولا موقف المختار أبي السعيد لكان يوم جدّوع (أسود من جناح الغراب)، دخل المختار أبو محمد وأبو كامل إلى غرفة الضيوف، وهناك وجدا عددا من وجهاء القرية قد حضروا، ففي مثل هذه الحالات لا يستطيع أحد من العقلاء أن يتخلّى،  وإلا سيقع ما لا تحمد عقباه.

كان ماهر يجلس ورأسه ملفوف بالشّاش الأبيض…ولمّا سألاه عن حاله قال:-

الحمد لله..قطب الطّبيب رأسي خمس عشرة قطبة.

فقال المختار أبو محمد:- سلامتك يا عمّ…وأخبرنا عن سبب المشكلة؟

فقال ماهر:- والله لا أعرف سببا لها، قابلت جدّوع وابنه….ابتسمت وباركت له بزواجه الجديد…فانهال عليّ من الخلف  ضربا بالعصيّ هو وابنه…وطرحاني أرضا…وجدّوع يردّد:- أتستهزئ بي يا ابن الحم……….؟

المختار أبو محمد:- الحمد لله على سلامتك…ويا أبو السعيد أنت وربعك..نطلب منكم العادات والتقاليد.

أبو سعيد دارت به الدّنيا، وحسب عواقب هكذا أعمال منذ علم بالحادث، وقال في نفسه (العاقل من يخرج جماعته من الشرّ، والشّرّ من شرارة، والشرارة تعمل حريقا، وإذا ما خفت من غريمك خاف من إيدك، والطارد أخو المطرود) إضافة أنّ أحوال البلاد ما عادت تحتمل الخصومات، فهناك عدوّ مشترك يتربص بالبلاد والعباد….تنحنح وسأل بهدوء متناهٍ:-

ما هو طلبكم يا وجوه الخير؟

المختار أبو محمد:- طلبنا (عطوة قرار ما فيها انكار) لمدّة شهر، وان شاء الله خلال هذه الفترة نعمل صلحا، ونغلق هذا الطابق الوسخ.

أبو سعيد:- طلبكم مستجاب وهذه عطوة لمدة شهر اعتبارا من اليوم.

أبو محمد:- هل تريدون مصاريف؟

أبو سعيد:- خير الله كثير يا رجل ونستطيع الانفاق على ابننا حتى يتعافى.

–         ومن يضمن لنا استمراريّة العطوة؟

–         عيب يا رجل كلمتي لا تصير اثنتين…والعطوة بكفالتكم، ووجوهكم تحمي من جرائم الدّم، فما بالكم بمشكلة تافهة كهذه؟ وجدّوع يبقى ابننا أيضا، ونحن وعائلته أبناء عمومة، ونسأل الله أن يهديه، وأن يفهم هذا الكلام.

–         بارك الله بك يا أبا السعيد…فأنت العاقل والقدوة دوما.

شربوا القهوة وخرجوا من بيت أبي سعيد في طريقهم إلى بيت جدّوع مرة أخرى للتأكيد على العطوة، أكثر من عشرة رجال من عقلاء القرية يتقدّمهم المختار أبو محمد…ابتعدوا قليلا فقال العربيد:-

أبو سعيد رجل عاقل…يحسب الأمور جيّدا…ولو كانت المشكلة مع غيره لقامت القرية ولم تقعد، ولما توقفت الأمور عند هذا الحدّ…فنحمد الله على وجود شخص مثله في قريتنا.

أبو نايف:- العاقل خيره لنفسه وللنّاس…وأبو سعيد رجل عاقل من بداية حياته.

المختار أبو محمد:- الرجل الطيّب العاقل دائما يؤثر الآخرين على نفسه…ونسأل الله أن يهدي جدّوع بن أبي القمل.

في بيت جدّوع سأل المختار أبو محمد:- لماذا تحملون العصيّ…أبو سعيد وجماعته مع كلّ ما حصل لابنهم ماهر إلّا أنّهم في منتهى الهدوء، وقد أعطونا عطوة لمدّة شهر بدون عناء، ولم يشترطوا شيئا…ولم يأخذوا مصاريف…وهذه المئتا دينار التي أخذناها منكم…وسلّمها للشيخ سعود الذي قال:-

أبو سعيد-حفظه الله- رجل عاقل وهو كبيرنا، وأعرف أنّه لا يعضّنا، وهو يحبّ الجميع…والمشكلة ليست عنده…المشكلة في جدّوع.

ابتسم جدّوع ونفش ريشه وقال:- لا تتوهّموا كثيرا…أبو سعيد ليس كما تقولون…لقد حسبها جيّدا…وهو لم يأخذ مصاريف لسبب من اثنين هما:-

إمّا أنّه يضمر الشرّ وينوي السّداد…أو أنّه شعر بالخوف…لأن الضربة القادمة ستكون لرأسه….انتفض الجميع غضبا وعلا صوت العربيد قائلا:-

اخرس …قطع الله لسانك…والله لو تلمس شعرة في رأس أبي سعيد لأقطعنّ يديك ورجليك…ويديّ ورجليّ من يقف معك يا جبان…في حين ضرب الشيخ مسعود جدّوعا بحذائه وهو يردّد:-

اخرس لعنة الله عليك.

وصاح أبو كامل قائلا:- اعتبروا العطوة لاغية…وأرنا بطولاتك يا جدّوع النّذل…وسترى ما سيحلّ بك…انتعلوا أحذيتهم وهمّوا بالمغادرة…إلّا أنّ الشيخ سعود وقف عند باب “المضافة” وصاح راجيا:-

ارحموا شيخوختي يا قوم…وتربية جدّوع علينا وليست عليكم…هدّأ الحضور بعضهم بعضا وجلسوا مرّة أخرى يتنافخون غضبا….في حين حشر أربعة شبّان جدّوعا في غرفة النّساء وأغلقوا فمه كي لا يتكلم شيئا.

قال الشيخ سعود:- سامحونا يا رجال الخير عمّا بدر من جدّوع النّذل، وسأطيّب خاطر كل واحد منكم في بيته….وما بدر من هذا الأحمق إساءة لنا كلّنا…ولا نقبل به مطلقا، وسنحاسبه عليه حسابا عسيرا…وهنا قطع حديثه محمود أخو جدّوع وقال:-

أبو سعيد شيخنا وكبيرنا ووجيهنا…ومن يتطاول عليه يتطاول علينا جميعنا…وإذا ما امتدّت يد جدّوع عليه، فلن يسبقني أحد منكم إلى كسر يديه…وهو لن يفعل عملا شنيعا كالذي قاله…إنّما هو عصبيّ المزاج ولا يعي ما يقول.

فقال أبو كامل:- إذا كان جدّوع مجنونا عالجوه…خذوه إلى طبيب…لا تتركوه يشعل نار الفتنة بين أبناء القرية…فكلّنا أقارب وأبناء عمّ ونسايب…ويكفينا ما نحن فيه..والاحتلال يتربصّ بنا ولا يرحم أحدا.

استند الشيخ سعود وتعوّذ بالله من الشيطان الرّجيم وحوقل وقال بصوت هادئ متقطّع:- لا تؤاخذونا يا أقاربنا بهذا المعتوه…العطوة تبقى كما أخذتموها…ونحن جاهزون لكل ما يطلبه كبيرنا أبو سعيد حتى يرضى…فهو عزيز علينا…تحسّس صدره…اتسعت عيناه…شهق شهقة واحدة…وكبا على وجهه…قفزوا إليه …أسندوه فوجدوا أنّه قد أسلم الرّوح…اقترح أحدهم نقله إلى المستشفى…إلّا أنّ أبا كامل أكّد أنّ الرجل لم تعد فيه حياة…ونقله إلى المستشفى لن يجدي شيئا…دخل اثنان من أبناء الشيخ سعود إلى جدّوع في غرفة النّساء وانهالا عليه ضربا بالعصيّ حتى استحم بدمائه النّازفة من رأسه وهما يردّدان:-

أنت من قتل أبانا…ولولا وجود الآخرين ما تركاه إلّا ميّتا.

حملوا الشيخ سعود ميّتا إلى بيته…خرجوا جميعهم معه باستثناء جدّوع الذي أخذت زوجته خميسة ووالدته يمسحن دماءه ويلففن جراحه، في حين كانت زوجته الجديدة تنظر إليه باشمئزاز…كانت والدته تردّد:-

تستحق ما جرى لك…فهل جننت؟ ماذا جرى لك؟ وهل أنت ندّ لأبي سعيد حتى تتحدّاه؟ ونسأل الله أن يحمينا من ردّة أفعال أبناء الشيخ سعود…فربما سيحملّلوننا دم أبيهم…انخرس جدّوع ولم يتكلم شيئا.

وصل خبر وفاة الشيخ سعود إلى المختار أبي سعيد…فجمع أقاربه وقال:-

الآن الواجب علينا أن نذهب لبيت الشيخ سعود- رحمه الله- فهو فقيد الجميع، وسنشارك غدا في جنازته…لم يعارضه أحد سوى بعض الشباب الذين ما لبثوا أن اقتنعوا بوجهة نظره…وتوجهوا إلى بيت الشيخ سعود…وهناك استقبلوهم استقبالا لائقا…..انحدرت دمعات من عيني المختار أبي سعيد عندما رأى الشيخ سعود ممدّدا ميّتا…وقال:-

إنّا لله وإنّا إليه راجعون…أنتم السّابقون ونحن اللاحقون…ونحمد الله على قضائه وقدره.

تلثّم محمد الشقيق الأصغر للشيخ سعود وقال للمختار أبي محمد هامسا:- اطردوا محمودا شقيق جدّوع من البيت….سمع أبو سعيد ذلك فسأل لماذا؟

فأوضح له المختار أبو محمد أن الشيخ سعود مات في بيت جدّوع غاضبا من كلامه، فقال أبو سعيد:-

يا إخوان الأعمار بيد الله، ولا يموت أحد قبل انقضاء أجله..ولو أنّ الإنسان يموت عندما يغضب لمات البشر كلهم…وهذا قضاء الله وقدره…ولن نسمح بأن يحمل أبناء عمومتنا دم ابن عمّهم…ولا أريد أن يسمع أحد بذلك…و(الطارد أخو المطرود) يا إخوان…ووجّه كلامه لشقيق الشيخ سعود ولأبنائه وقال:-

رحم الله الفقيد، ولو كان حيّا ما رضي بغير ما أقول، فالمرحوم كان عاقلا ولا يحب الفتنة.

فقال الحضور:- نِعْمَ الرأي رأيك يا أبا سعيد…وقبل بذلك أبناء الشيخ سعود وشقيقه محمد…وهنا قال أبو سعيد:-

أنا أكفل هذا الموضوع (من الهبش والنّبش) وممنوع الكلام فيه لأنه يجلب العداوة….فردّوا عليه:- لك ذلك.

وهنا استدعى أبو سعيد محمودا شقيق جدّوع وقال له:- اذهب يا محمود وأحضر شقيقك جدّوع كي يشاركنا الجلسة.

عاد محمود إلى بيت جدّوع وشرح له ما حصل، فقالت والدته:-

بارك الله بأبي سعيد…وأطال عمره…اذهب مع أخيك يا جدّوع…وقبّل يد أبي سعيد واعتذر له…واطلب السّماح منه…فكّر جدّوع قليلا ووافق على الذّهاب إلى بيت الشيخ سعود.

أخذ الحضور يتحدّثون عن مناقب الشيخ سعود، فقال المختار أبو سعيد:-

المرحوم كان رجلا فاضلا، وفراقه يعزّ علينا…و- مع الأسف- نحن لا نذكر فضل ذوي الفضل علينا وهم أحياء، ونتذكّر محاسنهم بعد موتهم فقط…والشيخ سعود –رحمه الله- شارك في ثورة الشيخ القسّام، ولهذا حمل لقب شيخ، وبعد استشهاد القسام شارك في ثورة عام 1936، واعتقله الإنجليز –لعنهم الله- عاما كاملا في سجن عكا بدون محاكمة، وعندما تحرّر شارك في الثورة مع البيك -الله يرحمه- وشارك في معركة القسطل…الشيخ سعود كان رجلا فاضلا لا يتحدّث عن نفسه مطلقا.

وهنا سأل توفيق بن الشيخ سعود:- من هو البيك يا مختار؟

–         البيك – رحمة الله عليه- هو عبد القادر الحسيني….وأضاف أبو سعيد:- الحديث يطول، والأيام أمامنا…والآن…غداء المشيعين جميعهم في بيتي غدا بعد الجنازة مباشرة بإذن الله….فقال أبو كامل:-

بل في بيتي أنا.

فأقسم أبو سعيد أنّ الغداء لن يكون إلّا في بيته….فقال محمد شقيق المرحوم:-

غداء الجميع في بيتنا نحن…وهداكم الله والأيّام بيننا.

فردّ أبو سعيد:- أنتم أهل الفقيد…والواجب علينا أن(نقريكم) وليس العكس.

–         سنعمل”ونيسه” لفقيدنا.

–         تعملونها في المساء.

استقر القرار بأن يكون الغداء في بيت أبي سعيد بعد الجنازة مباشرة….المختار أبو محمد استوعب رسالة أبي سعيد جيّدا فلم يعترض…بل شجّع ذلك…فأبو سعيد يريد أن ينهي الخلافات كلّها في بيته…ووفاة الشيخ سعود المفاجئة جاءت فرصة مناسبة لتصفية القلوب.

ما أن دفنوا الشيخ سعود حتى قرفص الشيخ عطيّة عند شاهد القبر، طوى جانب كوفيته الأيسر من تحت ذقنه طويلة الشعر، وثبتّها تحت العقال من جانب الأيسر، أخرج ورقة من جيب قمبازه، وبدأ يقرأ منها بصوت مرتفع ممجوج:- يا عبد الله…إذا أتاك الملكان الشفوقان الرحيمان منكر ونكير، وسألاك من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فقل لهم: الله ربّي ومحمد نبيّي، والإسلام ديني.

طوى هذه الورقة….وضعها في جيب قمبازه من الجانب الأيسر…وأخرج ورقة أخرى من جيبه الأيمن، وشرع يقرأ منها، وهم يردّدون خلفه قائلين”آمين”:-

اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنات النعيم..اللهــــمّ .. يا حنَّان، يا منَّان، يا واسع الغفران، اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس.

اللهــــمّ .. أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه،

وأدخله الجنّة وأعزّه من عذاب القبر ومن عذاب النّار ، اللّهــــمّ ..عامله بما أنت أهله، و لا تعامله بما هو أهله. اللهــــمّ .. اجزه عن الإحسان إحساناً، وعن الإساءة عفواً وغفرانا. اللهــــمّ .. إن كان محسناً فزد في حسناته، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ياربّ العالمين .اللّهــــمّ .. آنسه في وحدته، وآنسه في وحشته، وآنسه في غربته.

اللّهــــمّ… إنَّ عبدك في ذمّتك وحبل جوارك فقِهِ فتنة القبر، وعذاب النار،

وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم.

المختار أبو سعيد يتقلّى غضبا من إطالة الشيخ…فالطعام جاهز…وإذا تركوه على النار سيتساقط اللحم عن العظم، وإذا برد فإن الدهون ستتجمدّ، وستفسد طعم الشراب، وهذا الشيخ يدعو ويطيل في دعائه أكثر مما كان يفعل مع الآخرين… رأى الشيخ عطيّة يطوي  صفحة من أربع صفحات، وينتقل إلى الثانية، فتقدّم منه وانتزع الأوراق من بين يديه وهو يقول:-

ماذا جرى لك يا رجل؟ لماذا كل هذه الإطالة؟ ومن أين تأتي بهذه الأدعية؟ اقرأوا الفاتحة عن روح الشيخ سعود، وعن أرواح أمواتنا وأموات المسلمين…وهيّا بنا إلى بيتي لتناول طعام الغداء بمعيّة أهل الفقيد.

ابتلع الشيخ عطيّة الإهانة ولم يتكلّم…حمل عباءته على كتفه ومشى عائدا إلى بيته…لم يرغب في تناول الطعام هذه المرّة في بيت المختار على غير عادته…فبدلا من أن يشكروه على الإطالة في الدّعاء…فقد حدث من المختار ما لم يكن يتوقعه، خصوصا وأنّه أعقل عقلاء القرية…فالشيخ لم ينم الليلة الماضية وهو يبحث في صفحات كتب قديمة وجدها في مسجد الزّاوية قبل أن يستلم الإمامة فيه…يبحث عمّا يدعو ويطيل به للشيخ سعود، لأنه تقيّ ومحبوب من أبناء القرية….فوجد عدّة أدعية نسخها بخط يده على أربع صفحات من الحجم الكبير، نسخها بقلم (كوبياء) رغم عدم إجادته الكتابة بطريقة سريعة، وأمضى ليله يتمرّن على قراءتها…ويأتي المختار ليفعل ما فعل أمام شباب لم يتورّعوا عن الضّحك رغم جلال الموقف.

في بيت أبي سعيد تناول العشرات طعام الغداء…وتغيّب العشرات دفعا للإحراج…لكن مندوبا واحدا -على الأقلّ- حضر عن كل عائلة من أبناء الحمولة، وحضر آخرون من أبناء الحمايل الأخرى…وبعد أن شربوا القهوة نظر أبو سعيد إلى جدّوع – الذي حضر مكرها من المختار أبي محمد- وقال مخاطبا الجميع:-

يعلم الله أنّ الشيخ سعود – رحمه الله- كان رجلا فاضلا ومحبّا لعمل الخير، ويصلح بين المتخاصمين، وإكراما لله ولرسوله وللشيخ سعود في قبره…واحتراما للحضور الكريم، ودرءا للمفاسد وللفتن في القرية، فإنّني أتنازل عن حقّ ابني ماهر عند جدّوع…وأطلب من ماهر وجدّوع أن يتصافحا ويتحابّا…فوقفا بتثاقل ونفّذا ما طلب المختار…ممّا أدخل السّعادة في قلوب الحضور….وشربوا القهوة دلالة على الصّلحة التي كفلها الحضور جميعهم. وأثنوا على كرم وتسامح المختار أبي سعيد…وهنا وقف الأستاذ داود وألقى خطبة أشاد فيها بتسامح المختار أبي سعيد، ودعا الجميع بأن يقتدوا به، لأن المرحلة التي يعيشها شعبنا ما عادت تحتمل الخصومات والنزاعات الداخلية، وأن العدوّ يتربص بنا من كل جانب.

تلّفت أبو كامل حوله، لا يريد أن يسمعه أحد وأسرّ للمختار أبي محمد قائلا:-

الحمد لله أنّ أبا سالم غير موجود في البلد، وإلّا لأشعلها فتنة….ابتسما ولم يتكلّما بعد ذلك.

************************************

مكث أبو سالم ثلاثة أسابيع في الأردنّ….مقرّه الرئيس كان في صويلح في بيت محمد حمدان- ابن شقيق أبي صالح…من هناك أرسلوا كلّ واحدة من الصبايا إلى بيت خطيبها، واشترط أبو سالم على كلّ واحد منهم أن يدعوه لحضور حفل الزفاف؛ كي يطمئنّ ذوو الصّبايا بأنّه لم يعد من الأردن إلّا بعد أن اطمأنّ على كلّ واحدة منهنّ، فأخبروه بأنّه لن تكون هناك حفلات، ولن تقام أفراح…وستقتصر الأمور على حفل صغير يحضره بضعة أشخاص من أبناء القرية المهجّرين لإشهار الزواج فقط….فقال أبو سالم:-

هذا ما عنيته، وهذا ما فعله المختار أبو سعيد عندما زوّج ابنه ماهر قبل بضعة أيام.

انفرد أبو سالم بكلّ عريس على حدة، وطلب منه عشرين دينارا زعم أنّه أنفقها على العروس أجرة سفر وغداء….دفعوا له منفردين دون أن يخبر أيّ منهم أحدا بذلك…أبو سالم يدعو الله دائما أمام النّاس كي ييسر له طريق العودة إلى الوطن، ويبدي مخاوفة من أنّ عودته متسلّلا عبر النهر قد تكلّفه حياته…ولولا حبّه لقريته وأبنائها، وحرصه على حماية أعراض النّساء  لما قامر بحياته، فـ ( العرض ما بينحمى بالسّيف) و(الرجال في زمن الشّدّه) عندما حانت ساعة الجدّ لم أجد من يتطوّع لإيصال الصبايا لخطّابهنّ في الأردن، فلم أجد مناصا من القيام بذلك، فبنات القرية كلّهن مثل بناتي، مع أنّه لا قرابة دمٍ بيني وبين أيّ واحدة من الصّبايا اللواتي أحضرتهن للأردن، سوى واحدة منهن ابنة أخي.

كانوا يستمعون له غير مصدّقين كلامه…فهم يعرفون الرجل، ويعرفون سيرته التي لا تشرّف أحدا…يسترجعون ذكرياتهم عنه، فتتكدّر نفوسهم…الحياة قاسية ومتقلبّة، و(الشّدائد محكّ الرّجال) فهل شكلّت الحرب ونتائجها صدمة لأبي سالم أعادته الى إنسانيته؟ هذه ما تساءله سميح بن أبي سميح…فالبشر متقلبون دائما…وما(بظل ع ما هو إلّا هو) (سبحانك ربّي كيف تغيّر ولا تتغير).

عجلة الحياة تدور بفوضى عارمة…والنّاس لم يخرجوا من صدمة الهزيمة بعد…يوزّعون التّهم والألقاب كيفما يشاء كلّ واحد منهم، فهذا الزّعيم وطنيّ مخلص حتى النّخاع، حسب رأي البعض، وعميل متآمر حسب رأي آخرين…لكن الغالبية العظمى ترى في الرئيس المصري جمال عبد الناصر رمزا للأمّة، وقائدا لمسيرتها، ويحمدون الله لأنّه تراجع عن استقالته تلبية لنداء الملايين -الذين تظاهروا في الشّوارع- يطالبونه بالعدول عن استقالته، في حين أنّ بعض الأشخاص من أتباع حزب دينيّ هاجموه، ويحمّلونه مسؤولية ما جرى، ويؤكدّون بأنّه عميل أمريكيّ، أوصله الأمريكيون لحكم مصر لتصفية القضيّة الفلسطينية، ويصلّي إسلاميّون آخرون شكرا لله على الهزيمة، لأنّه لو انتصر العرب في الحرب لألّه البعض جمال عبد الناصر، ولعمّت الشيوعية البلاد العربية والإسلامية. وهؤلاء يفسّرون دعم عبد الناصر لحركات المقاومة كخديعة للشعوب، يقصد منها الخلاص من العناصر الثوريّة بين الشباب، من خلال تقديمهم لقمة سائغة لإسرائيل التي انتصرت على جيوش جرّارة. وجدها أبو سالم فرصة سانحة له كي يخدع الآخرين من خلال التظاهر  بالتغنّى بأمجاد عبد الناصر، فهو يدرك تماما أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية مبهورة بشخصيّة الرجل، وطموحاته في تحقيق الوحدة العربية، فتصدى لمهاجمي الرئيس بلهجة قويّة مدافعا…رفع صوته قائلا:-

أنا رأيت بعينيّ، وسمعت بأذنيّ كيف يكره اليهود عبد الناصر، وكيف يرون فيه عدوّهم الأوّل، وكيف يرتعدون خوفا من المقاومة، ومن مجرّد ذكر اسم(فتح) التي اعتبرها عبد الناصر أنبل ظاهرة عرفتها الشعوب العربية في تاريخها المعاصر. لم تمض إلّا شهور قليلة على الحرب التي استهدفت اسقاط نظام عبد الناصر، واسرائيل لا تريد احتلال أراضي جديدة، إنما أرادت القضاء على جمال عبد الناصر، الذي لم يستسلم لها، فهو قد أعاد بناء الجيش، وأعاد تسليحه، وهو الآن يشنّ حرب استنزاف على قناة السويس، سيقضي من خلالها على الجيش الاسرائيلي، وسينهك الاقتصاد الاسرائيلي، وسيحرّر فلسطين من النّهر الى البحر….وتساءل ساخرا:

إذا كانت اسرائيل تعتبر عبد الناصر عدوّها الأول الذي يهدّد وجودها، فكيف تشكّكون بمصداقية الرّجل وبمواقفه وأعماله البطولية؟ وفي كلّ الأحوال أنا عائد غدا الى البلاد..وأسأل الله السّلامة.

تفاجأ أبناء قريته بحديثه، نزل حديثه غيثا على قلوبهم، فأنبت لهم حدائق حبّ بين الآخرين، واعتبروا أن النتائج الكارثيّة للحرب قد غيّرت شخصية أبي سالم بشكل كبير، فعاد الى وعيه بطريقة لافتة، والرّجل جاهز للمشاركة في المقاومة.

*****************************************

عند المدخل الغربي لوادي شعيب، ذلك الوادي العميق الذي ينحدر من مدينة السلط الى الأغوار، أوقف حاجز عسكريّ أردنيّ السيّارة التي تقلّ أبا سالم…سأل جنديّ أبا سالم بصوت هادئ: الى أين أنت ذاهب يا حاج؟

–         الى القدس يا بنيّ.

–         وكيف ستعود الى القدس؟

–         لديّ تصريح من الحاكم العسكريّ….أخرج أبو سالم التصريح من جيبه وناوله للجندي….نظر الجنديّ التصريح ولم يفهم منه شيئا فهو مكتوب باللغة العبرية…أعاده الى أبي سالم وقال:- رافقتك السلامة.

ابتسم أبو سالم وهو يضع التصريح في جيبه….قبل جسر اللنبي بحوالي 500 متر لا يسمح للسيارات بالمرور غربا….نزل أبو سالم ومشى على قدميه….وعندما وصل النهر صاح به جنديّ اسرائيلي من الجهة الغربية وقال له:-

أنت يا حمار توقف….الى أين؟ أخرج أبو سالم التصريح من جيبه ولوّح به للجندي…تقدّم يرتعد خوفا…أمسك الجندي بالتصريح…طلب من أبي سالم أن يجلس على الرّصيف دون حراك…جلس أبو سالم كما الصنم…لفّ سيجارة “هيشي” تيبّس فمه وارتعدت قدماه…اتصل الجندي من جهاز لاسلكي معه…جاء جيب عسكريّ…استلم جنديّ آخر التصريح….أمر أبا سالم بالركوب معه…توقف عند نقطة عسكريّة خلف التلّة القريبة….أنزلوا أبا سالم…فتّشوه تفتيشا عاريا…تصبّب العرق من جبينه عندما خلع سرواله أمام الجنديّ الذي مرّر كفّا الكترونية بين فخذيه من الجهة الخلفية…انكمش أبو سالم وتصوّر نفسه بعوضة تحطّ على روث حمار لم يجف بعد…أمره الجندي بأن يرتدي ملابسه…وأن يتبعه…أدخله الى غرفة خشبيّة يجلس فيها رجل بلباس مدنيّ…نظر إليه الرجل باشمئزاز…أمره بالجلوس، فاستأذنه أبو سالم بأنّه يريد أن يقضي حاجته…أشار له الجنديّ إلى الحمّام القريب.

بعد تحقيق قصير أمره المحقّق بالمغادرة وهو يقول له:-حمدا لله على سلامتك.

كيف سأذهب من هنا يا سيّدي؟ سأل أبو سالم.

معك حقّ أجابه المحقق…انتظر قليلا وسأتدبر أمرك….خرج الجندي…تكلم مع جنود يحرسون الموقع….وأشار لأبي سالم أن يركب في إحدى سيّارات الدوريّة المتجهة إلى أريحا، بعد أن أقنع ضابط الدّوريّة بذلك…سيوصلونك أريحا…ومن هناك ستدبّر نفسك….شكره أبو سالم وخرج.

وصل أبو سالم بيته في ساعات الظهيرة…كان يختال كطاؤوس هرم … قبّلت أمّ سالم يده وهي تهنّئه بسلامة العودة، مع أنّها في قرارة نفسها كانت تتمنّى الخلاص منه، كانت تدعو ربّها أن يقتله الإسرائيليون مع من يقتلون من المتسلّلين ليلا عائدين إلى بيوتهم وديارهم…وفي نوبات تشاؤم كانت تقول لن يقتلوه فـ (كعكور الخرا ما بينكسر)…أغلق باب الغرفة عليهما…أعطاها قطعة قماش سوداء وقال:-

هذا ثوب لك …اشتري خيطانا كما تشائين وطرّزيه، وهذه قطعة قماش لزوجة ابنك…وأخرى لبنتك…وهاتان كوفيّتان لي…لا تخبري أحدا أنّني قد عدت…فمنذ 24 ساعة لم أنم…وأمضيت ليلي ماشيا …أريد أن أنام كي أستريح قليلا.

أغلقت أمّ سالم الغرفة خلفها…تعثرت بنظراتها وهي ترى أمّ مخلوف قادمة إليها، أمّ مخلوف تلهث كحمل تطارده الذئاب…عانقت أمّ سالم وهي تردّد:-

سمعت أولاد الحارة يردّدون بأنّهم قد رأوا أبا سالم…فجئت لأطمئنّ على ابنتي فاطمة.

–         أبو سالم عاد تعبا…وهو نائم الآن…توكلّي على الله ففاطمة بخير بمشيئة الله.

–         لقد غادرتنا كمن يمشي على وجهه…لم تكن بها رغبة بالسفر الى الأردن…ولم تنم ليلتها..لقد أمضت ليلها تبكي…وانحدرت الدموع من عينيّ أمّ مخلوف.

طمأنتها أمّ سالم وهي تقول:- بكاؤها دلع بنات…فلا تقلقي…لقد سألت أبا سالم عن البنات فور رؤيتي له، فأجابني بأنّهنّ قد استقبلن بحفاوة بالغة، وتزوجن ولا ينقصهنّ شيء.

ردّت أمّ مخلوف بحزن وانكسار:- أسأل الله أن يكون كلامك صحيحا يا أمّ سالم…لعن الله الحروب ومشعليها…ولعن المحتلين ومن أتانا بهم…ولو متنا في الحرب لاسترحنا من هذه الهموم…فهذا الاحتلال شتّت شملنا، وفرّق بيننا وبين أبنائنا.

حاولت أمّ سالم تهدئتها فقالت (اللي بيشوف مصايب غيره بتهون مصايبه عليه) فاطمة سافرت لعريسها وتزوجت وما شاء الله عليها…ويجب أن تفرحي بذلك…فهناك أناس فقدوا أبناءهم وبناتهم في الحرب…واستوعبوا الأمر.

أبو سالم كان يستمع لصوت أمّ مخلوف، ولا يحرّك ساكنا…بل شعر بسعادة لقلقها على ابنتها، فهذه المرأة التي جاءت الآن تتوسل سائلة عن ابنتها، ما كانت لترد التحيّة التي كان يطرحها عليها إذا ما صادفها في الطريق، هي عنيدة من بدايات حياتها هكذا يصفها…ولن ينسى أبو سالم ردّها على والدته عندما طلبتها خطيبة له قبل أن يتزوج…فهي لم ترفض على استحياء وأدب كما بقيّة الفتيات اللواتي لا يوافقن على الاقتران بشخص ما…بل كان ردّها طعنة في القلب أبكت الوالدة…فقد قالت:(ليش هم الرجال انقطعوا تتزوج واحد مثل ابنك) وعندما سألت الوالدة:

وماذا ينقص ابني؟

ردّت باستعلاء: تنقصه الرّجولة….هل فحصتني هذه الشر…م…حتى تعرف أنّني رجل أم لا؟ أستغفر الله العظيم…هي لقيت نصيبها، وأنا لقيت نصيبي…وأولادنا وبناتنا تزوّجوا، لكن(نفس الذّكر رديّه) وأتمنى لو أستطيع الخلوة بها ليلة واحدة، لأريها هل أنا رجل أم لا؟..لعنة الله على الشيطان…لقد سلبت هذه المرأة النّعاس من عينيّ…أنا لست تعبا…ولست نعسانا، لكن يجب أن أنام لأثبت للآخرين أنني لم أنم في الليلة الماضية، وأنّني عدت عبر النّهر متسلّلا ليشعروا بأهميّتي، وكي لا يشكّكوا بي. وماذا سيشكّكون بي؟ فهل العمل مع الحكومة عيب أو حرام؟ و(اللي بيتزوج أمّي هو عمّي) واسرائيل الآن هي عمّنا…وهي تتحكم بأمورنا رضينا ذلك أم لم نرض، فالأمر سيّان…وعندما كان الإنجليز عمّنا عمل معهم كثيرون…أناس عملوا في الشرطة، وحاربوا الثوّار، وعلى ذمّة الرّاوي فإن قاتل الشيخ عزّ الدّين القسام شرطي عربي…لا حول ولا قوّة إلّا بالله…لقد سمعت أنّ أحد أنصار القسام قد قتل الشرطيّ القاتل…لكنّني لست شرطيّا، ولن أكون…ولن أقتل أحدا…أريد أن أعيش فقط…أريد حياة ميسورة…وأريد أن أثأر ممن أساؤوا لي… وهذه فرصتي…وهناك من عملوا في الجمارك زمن الإنجليز…وعملوا في غيرها…وبعد رحيل الإنجليز، عملوا في نفس الوظائف، ولم يسألهم أحد…وإذا انسحب الإسرائيليون فلن يحدث لي شيء، فلن يعرف أحد طبيعة عملي…ولو تساءل الناس عن المال الذي معي فسيفسرونه كما يشاؤون…وسأطلق إشاعة بأنّني قد وجدت كنزا وأنا أحفر أساسات بيتي الجديد…يا إلهي ما هذه الأفكار التي تراودني كلّما انفردت بنفسي؟ …لن أنام ولن أستطيع النّوم وسأخرج الآن لأجالس أمّ مخلوف وأطمئنها على ابنتها- لعنها الله ولعن ابنتها- فهذه فرصتي…وقد تمنيت كثيرا أن أتحدث معها…وها هي تأتي إلى بيتي بإرادتها.

نهض من فراشه…فتح باب الغرفة ورفع صوته مناديا: يا أمّ سالم.

قفزت من مكانها مذعورة وهي تقول:- نعم…ماذا تريد؟

–         ما هذا الصوت؟ ومع من تتحدثين؟ وعاد يجلس على فراشه.

–         اخفض صوتك يا رجل…هذه أمّ مخلوف جاءت تطمئن على ابنتها.

–         أهلا وسهلا بها…دعيها تدخل هنا…واعملي لنا قهوة.

دخلت أمّ مخلوف…صافحها أبو سالم وهو متكئ على جانبه الأيسر متظاهرا بالتعب الشديد…جلست قبالته وقالت:-

طمئنّي بالله عليك على فاطمة.

–         لا إله إلّا الله…فاطمة تزوجت كبقية البنات…وحضرت عرسها ونقطتها دينارا.

–         أين يسكنون؟

–         في جبل الحسين في عمّان…استأجرت عائلة زوجها بيتا فيه ثلاث غرف نوم…واحدة لحمويها…وواحدة لبناتهم وأبنائهم الآخرين، وواحدة لفاطمها وزوجها محمد، ومحمد عمله جيد، وقال بأنه إذا لم يعودوا للبلاد خلال هذا العام، فإنه سيشتري أرضا ويبني بيتا….ولا تخافي عليها….لكن ما هي أخبار أبي مخلوف؟

–         مثل ما تركته.

–         والله يا أمّ مخلوف لولا الله ما عدت إلى البلاد…ولبقي جثماني تنهشه الحيوانات الضارية…إطلاق الرصاص على النّهر كان من كل الاتجاهات…لكنّ الله هو الحامي.

–         حمدا لله على سلامتك.

–         الله يسلمك….يا أمّ سالم…حضّري غداء لأمّ مخلوف فهي ضيفتنا.

–         بارك الله بك…لا وقت لديّ…جئت أطمئن على فاطمة فقط…واسمحوا لي بالمغادرة.

–         لا يمكن أن تخرجي بدون غداء فأنت ضيفتنا.

–         بارك الله بك… لا أستطيع المكوث أكثر…أريد أن أحضر الغداء لأبنائي….وأنت تعب وتريد أن تستريح…ويبدو أنّني قد أزعجتك.

–         سامحكِ الله…وجودك راحة لي…إذا اعملي لنا شايا يا أمّ سالم ما دامت أمّ مخلوف ترفض الغداء.

لم تغب نوايا أبي سالم الخبيثة عن أمّ مخلوف، فقد رأت فيه ثعلبا ماكرا يتدثّر بعباءة تقوى لا تليق بأمثاله…شربت كأس شاي على عجل وهي تلوم نفسها لأنها جاءت الى بيت أبي سالم بعفويّة ودون تفكير…شكرتهم على حسن الضّيافة، وخرجت وهي تردد:-“اللي خلّف مش مستريح واللي ما خلّف مش مستريح، والوالدين قلوبهم دايما شقيّة، ربنا يقطع هيك حياه.”

جمعت أمّ سالم شجاعتها وقالت وهي تفرك يديها:- يبدو أنّك لست تعبا يا أبا سالم. فردّ عليها بعصبية زائدة:- وهل تريدينني أن أعود ميتا يا امرأة؟ أنا فرح لقيامي بمهمّتي على خير وجه، ولعودتي سالما الى بيتي…والآن انصرفي من هذه الغرفة واغلقي الباب خلفك…وإذا حضر أيّ شخص أخبريه بأنني نائم…وأنّ موعدنا سيكون في بيت المختار أبي سعيد بعد صلاة المغرب.

بقي في الغرفة وحده يدخّن السجائر…ويتابع الدوائر الحلزونيّة لسجائره وهي تصعد بهدوء الى الأعلى….ثم تتسلّل عبر فتحات”أباجور” النافذة الحديدي…ويفكّر بماذا سيقول لأبناء القرية عن رحلته الى الضّفّة الشرقيّة، وعن المبالغ التي سيتقاضاها من الكابتن نمرود مقابل المعلومات التي أتاه بها.

قبل مغيب الشمس بقليل استحمّ أبو سالم…ارتدى عباءته…توجّه الى المسجد للصّلاة…أسند ظهره لحائط المسجد بجانب المحراب…سلّم عليه روّاد المسجد وهنأوه بالسّلامة…كان يمدّ يده بتثاقل متظاهرا بالتعب الشّديد…وعندما سأله أبو كامل عن رحلته أجاب متسائلا:-

وهل كنت في رحلة حتى تسألني هذا السؤال؟

–         أراك غاضبا ماذا جرى لك يا رجل؟

–         وهل من ينجو من فم الموت يعود هادئا أم غاضبا؟

–         لا أحد يعود من الموت.

–         لكنّ الموت كان يتربّص بي من كلّ جانب…ولولا الله وحده لا شريك له ما رأيتموني مرّة ثانية.

–         لماذا؟ ما الذي حصل؟

تأوّه أبو سالم متظاهرا بالألم وقال: الآن وقت صلاة…وبعد الصلاة سنلتقي في بيت المختار أبي السعيد، وسأحدّثكم بالتفصيل.

وعندما قامت الصلاة لم يقف أبو سالم…صلّى جالسا متظاهرا بالتعب الشديد…وبعدها طلب من الإمام أن يمسك بيده ليساعده على الوقوف…اتكأ على عصاه ومشى وسط عدد من كبار السّن في طريقه الى بيت المختار أبي السعيد…وهناك جلس على الكرسيّ الخشبي اليتيم في الصّالون…وعندما ألحّوا عليه بالجلوس على الفراش قال:- اتركوني على الكرسي كي أستطيع القيام عنه بعد الجلسة…فقد “بَرَدَ” التعب عليّ ومفاصلي كلّها تؤلمني…تحسسّ ركبتيه وقال:- أشعر بألم شديد هنا.

سألوه عن سفره الى الأردن…وقال المختار أبو السعيد:-

حدثنا يا أبا سالم عن سفرك من ساعة ما غادرتنا حتى ساعة عودتك الى بيتك.

تنحنح أبو سالم وقال:- يعلم الله يا رجال..ومن قال يعلم الله فقد أقسم…أنّني منذ استقلينا الشاحنة …جلست بجانب السائق كما رأيتم…وجلست الصّبايا في الصندوق الخلفي…اتجهنا الى جسر دامية…وعند حافّة النهر أوقفنا الجنود الاسرائيليون…نظروا الى وجوهنا وسألونا:إلى أين؟

فأجبتهم:- إلى عمّان….فابتسموا…وتكلم الضابط مع أحد جنوده باللغة العبرية التي لا نفهم منها شيئا…فذهب الجندي الى سيارة عسكرية وأحضر لكل واحد منّا قنينة ماء بارد… وقالب شوكلاتة بحجم كفّ اليد، وقال الضابط:- رحلة سعيدة وموفقة. فشكرته وأنا أبتسم له…وقلت للسائق:-

لا أستغرب كيف نصرهم الله علينا…فلهم قلوب رحيمة…ومن يرحم البشر يرحمه الله…وتذكرت أنّ أيّا ممّن ودّعونا لم يتمنّ لنا رحلة سعيدة وموفقة كما فعل ذلك الضّابط اليهوديّ…اللهمّ أنّني سمعت البعض يقول مع السّلامة …وسلِّموا على الذين سترونهم من الأقارب….المهم…لم يكن هناك جسر…بل مخاضة يتسع فيها النّهر وارتفاع مياهها لا يزيد عن نصف متر…تعبرها الشاحنات بسهولة، وبعض السيارات الصغيرة التي كان ينطفئ محركّها وهي تعبر النهر شرقا، كانوا يربطونها بحبل ويجرّها “تراكتور” زراعي يقوده عربي من الأغوار الغربية، ويدفع له الجيش الاسرائيلي أجرته.

وهنا قاطعه ماهر بن المختار أبي السعيد قائلا:- طبعا فهم يريدون تهجير الناس…فاستشاط أبو سالم غضبا وقال:- ومن أين عرفت يا ماهر؟ وهل كنت تريدهم أن يقتلوا المغادرين طواعية؟ أم ماذا؟ وهنا دخل الأساتذة- داود، فؤاد، محمد وخليل-..فوقفوا لاستقبالهم…وبعد أن جلسوا سأل الأستاذ داود:- ما لكم تتصايحون؟

فردّ أبو سالم( اشي بيطلع القرون في السلاخة) وما عاد المرء يدري ما يقول، ففي الأحوال كلها هناك معارضون، خصوصا من جيل الشباب الصّغار الذين تظاهروا قبل الحرب، حتى جاؤونا باحتلال جديد.

أعاد أبو كامل ما جرى على مسمع الأساتذة، فقال داود:-

ما قاله ماهر صحيح 100%، وأنتم تعلمون ذلك…ألم تسمعوا وتشاهدوا بأنّهم جهّزوا باصات”إيجد” الاسرائيلية لنقل من يريد المغادرة مجانا، وأعلنوا ذلك في الراديو عشرات المرّات يوميا..فهم يريدون الأرض بلا شعبها.

خيّم الصمت قليلا…فطلب أبو كامل من أبي سالم أن يواصل حديثه…لفّ أبو سالم سيجارة”هيشي” وأشعلها…وبقي صامتا….فطلب منه الأساتذة أن يكمل حديثه.

تظاهر بالتقوى فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وقال:-

وبعد أن عبرت بنا الشاحنة النهر شرقا…وفي الشّونة الشمالية…فاجأنا شرطيّ أردنيّ على ظهر درّاجة… التف أمامنا وأشار للسائق بالتوقف…فوقف…نزل الشرطيّ من على درّاجته واتجه مسرعا الى صندوق السيّارة حيث تجلس البنات…فقفزت مذعورا وأنا أقول: استر يا رب…وإذا فاطمة بنت أبي مخلوف في حالة هيجان.. تبكي وتصرخ بأعلى صوتها، والبنات الأخريات يهدئنها…كانت تشتم النّاس كلهم…وتشتم الزّواج ومن يتزوجون…وتريد العودة الى أهلها…وزادت الطين بلّة عندما قالت للشرطي”أنا دخيلة عليك …أعدني إلى أهلي” فشرحت الوضع للشرطيّ، فأجابها باكيا” ليتني أستطيع يا أختاه”…وانصرف بعد أن أوصانا بها خيرا…وبعدها هدأت…ومن هناك اتجهنا الى صويلح، وتوقفنا عند الدوّار الرئيسي، وسألنا عن بيت محمد حمدان…فأشار أحدهم الى البيت…فتركنا الشاحنة وذهبنا اليه…وهو بيت جميل من طابقين، وكلّ طابق من شقتين، وحوله حديقة تزيد عن الدونم …وحولها سور حجري بارتفاع متر تقريبا…فاستقبلونا بحفاوة بالغة…ووجدنا في البيت أكثر من خمسين شخصا…جميعهم من أبناء القرية…منهم النساء والأطفال والرجال…(يا عمّي الغربة والمصايب بتوحّد الناس) يأكلون طعاما موحدا…ومن لا يوجد معه مال…لم يطلبوا منه شيئا…ومحمد حمدان( رجل طيّب من ظهر طيّب) لم يبخل على أحد بشيء يملكه….وينفق كل راتبه على من يتواجدون في بيته، الشباب يذهبون في الصباح بحثا عن عمل…بعضهم يجد عملا ليوم أو بضعة أيّام…يتدبرون أمرهم وكان الله في عونهم…ومن يجد عملا يستأجر بيتا على قدر دخله…بعضهم استأجر في جبال عمّان، وبعضهم استأجر في القرى حيث أجرة البيوت رخيصة، وبعض الأسر لجأت في مخيم البقعة القريب من صويلح، ويتلقون مساعدات من وكالات الإغاثة العربية والدولية…والأوضاع غير مستقرة….والفدائيون يملأون المدن والقرى…شباب كثيرون تشاهدهم يحملون الأسلحة، ويتجولون في الشوارع بلباس عسكري مبرقع، أو بملابس مدنيّة…والجيش الأردنيّ منتشر هو الآخر في الشوارع….فلا فرق بين الجنديّ والفدائيّ فكلّهم يستعدّون لمعركة التحرير.

وهنا سأله الأستاذ فؤاد:- لأيّ تنظيم يتبع الفدائيون؟

–         سمعت الجميع يتحدثّون عن فتح….وسمعت آخرين يتكلمون عن تنظيمات أخرى لم تلتقط ذاكرتي أسماءها…..لكن هناك متديّنون يشتمون الرئيس جمال عبد الناصر، ويتّهمونه بالعمالة لأمريكا…ويقولون بأنّه سيصفي القضيّة الفلسطينيّة لصالح اسرائيل، ويدعم الفدائيين رياء كي يتخلص من الشباب الثائر…فتصدّيت لهم ودافعت عن عبد الناصر.

وهنا قال المختار أبو سعيد:- اتركونا من السّياسة، وأخبرنا يا أبا سالم عن مصير البنات.

فأجاب أبو سالم:- قبل غروب الشّمس تجمع خُطّاب البنات ووالدوهم…وكانت الفرحة كبيرة…ففي أقلّ من عشرة أيام تزوجن جميعهن…تزوّجن بدون حفلات وبدون أيّ مظهر من مظاهر الفرح….تماما مثلما حصل في زواج ماهر بن أبي السعيد…وقد أخبرتهم بذلك…وحضرت زواج كلّ واحدة منهن، ونقّطت كلّ عريس وكلّ عروس دينارا…وباركت لهم ولهنّ…وأوصيتهم بالبنات خيرا.

لم أستطع العودة بسرعة، لأن أهل قريتنا – كما تعلمون- طيّبون، واعتبروني ضيفا على كلّ واحد منهم، وقد أمضيت ثلاثة أسابيع …كلّ يوم في بيت واحد منهم. ولمّا انقضت ثلاثة أسابيع…غادرتهم دون أن أقول لأيّ منهم وداعا….خرجت صباحا من بيت محمد حمدان وقلت لزوجته:”البلاد طلبت أهلها” ويبدو أنّها لم تفهم ما عنيته.

تنهّد أبو سالم….لفّ سيجارة”هيشي” أشعلها وسكت، فسأله أبو كامل:- وكيف عدت؟

–         خلّيها على الله يا رجل…..لو أحدّثكم كيف قضيت يوم أمس لشاب شعركم.

فقال أبو كامل:- حدّثنا يا رجل….فالليل طويل…وعندنا وقت طويل أيضا.

تنحنح أبو سالم وقال:-

آخخخخ  ما أصعب الألم….كل عضو في جسمي يؤلمني…لا حول ولا قوّة إلّا بالله…لو أنّني كنت أعلم بالذي حصل لي لما سافرت مع البنات لو أنهن يقضين العمر كلّه بدون زواج…لكن(المكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين)..خرجت من بيت محمد حمدان الى عمّان..واشتريت أغراضا خفيفة..وأمام جامع الحسين رأيت”صابر وخليل وعبد”كانوا يتفقون مع أشخاص لتهريبهم ليلا عبر النهر مقابل خمسة دنانير عن كل شخص مهما كان عمره…سألوني إن كنت أنوي العودة معهم…لكن(اللبيب من الإشارة يفهم) فأجبت فورا بالنفي، لعلمي أن مرافقة الأطفال والنّساء في هكذا رحلة أمر متعب وخطير جدا….لقد حسبتها جيّدا وقلت(العب وحدك تيجي راضي) وقرّرت العودة بمفردي، دخلت المسجد ونمت في إحدى زواياه..ولم أستيقظ إلّا على أذان الظهر….فنهضت وتوضأت وصلّيت…وبقيت حتى انتهينا من صلاة العصر…وخرجت…تناولت طعامي في مطعم شعبيّ قريب…واستقلّيت سيّارة الى قرية الكرامة في الأغوار…وهناك جلست على مقهى حتى غروب الشّمس…واتجهت غربا…مئات الرّجال والنّساء والأطفال يتكدّسون بين كثبان التراب ينتظرون الظّلام حتى يعبروا النهر غربا…أطفال يصرخون ويئنّون، ونساء يبكين بصمت، ورجال يتظاهرون بالشّجاعة….حالة مريعة…فحسبتها مرّة أخرى فأنا أعرف المنطقة جيّدا منذ فترة التهريب بين فلسطين والأردن زمن الانتداب، وقرّرت أن أكثر المواقع أمنا هي المخاضة القريبة من الجسر، حيث يتمركز الجنود الإسرائيليون، فلن يفكروا بأنّ هناك من يجرؤ على المرور بجانبهم…وهذا ما فعلته….اقتربت من النّهر، وما أن ارتفع أذان العشاء في مسجد الكرامة حتى عزمت أمري، وتوكلت على الله…لم تكن مياه النّهر عميقة في المخاضة….خلعت حذائي وسروالي، ورفعت طرفي قمبازي على كتفيّ، وعبرت النهر ماشيا…وفي الجانب الغربي رتّبت نفسي وأنا أسمع قهقهات الجنود…وأراهم بعينيّ تحت الضوء…كانوا يتمازحون ويتضاحكون…المسافة بيني وبينهم أقلّ من مئة متر…جنديّة مغناج كانت ضحكتها تخترق أذني…فحمدت الله كونهم يتمازحون ويضحكون، لأنّهم لو لم يفعلوا ذلك لسمعوا دبيب خطواتي على الأرض…تسسللت بين الأشجار والأعشاب البرّية التي تنمو على ضفاف النّهر…وفجأة وجدت نفسي أمام ضبع يلتهم جثّة ميّت، يبدو أنّه قد قتل في الليلة الماضية، عندما قفز الضّبع أمامي انهارت ركبتاي خوفا، فقد حسبته جنديّا، وعندما تبينته ضبعا ضحكت من نفسي…لم أجرؤ على طعنه بـ”الشّبريّه”

فقد خفت أن لا يموت من الطّعنة الأولى، وبعدها يسمع الجنود الضّجيج، وأقع في المحظور…وهو لم يهاجمني لأن طعامه أمامه…لم أتبيّن إن كانت الجثّة لرجل أو امرأة، لكنها بالتأكيد ليست لطفل، لأنّها طويلة…ابتعدت حوالي خمسة أمتار باتجاه الشمال…وواصلت طريقي…ازداد نبض قلبي…واذا بالرّصاص ينهمر على بعد عشرات الأمتار من الجهة الشماليّة…كان صراخ الأطفال والنّساء يملأ المكان…انبطحت أرضا خوفا من الرّصاص الطّائش…سكت الرّصاص وارتفع صوت الجنود عبر مكبّر صوت…”أنتم أيها المخرّبون والمخرّبات سلّموا أنفسكم تسلمون”…لا أعتقد أنّ هناك من بقي حيّا ليسمع النّداء…فقد قتلوا جميعهم..ولا أعلم إن كان هناك من عاد طريقه شرقا…لكنّني استغليت الفرصة وركضت بكامل قوّتي غربا…تعثّرت ونهضت وواصلت طريقي، إلى أن وصلت بيّارة برتقال في أطراف أريحا…فتسلقت شجرة وأسندت ظهري على جذعها واسترحت…وبقيت حتى الصّباح لم يغمض لي جفن…خفت أن يفاجئني الجنود ويمسكوا بي…وفي الصّباح مشيت باتجاه أريحا…وهناك استقلّيت الباص إلى القدس.

وفي هذه اللحظة دخل عبدالله شقيق الشيخ سعود – رحمه الله- طرح التحيّة وصافح أبا سالم وهو يقول:- حمدا لله على سلامتك…متى عدت؟ لقد رأيتك في الساعة العاشرة صباحا تترجّل من سيارة جيش أمام مخفر أريحا.

ماذا تقول يا رجل؟ هل تتحدث معي سأل أبو سالم؟

–         نعم أتحدث معك.

–         هل جننت يا رجل؟

–         لماذا تتساءل هكذا؟ لقد رأيتك بعينيّ هاتين.

–         أنت واهم يا عبدالله…فربما  كنت تحلم، أو رأيت شخصا آخر يشبهني.

نظر الحضور في وجوه بعضهم بعضا وفي عيونهم أسئلة حائرة…بينما كان الأساتذة يبتسمون..وإذا بعبدالله يقول: لقد كنتَ ترتدي نفس الملابس التي ترتديها الآن، وكنت تحمل بيدك اليسرى صرّة ملابس صغيرة…وسمعتك تقول للضابط: شكرا يا سيدي وأنت تلوّح له بيدك…فقد كنتُ جالسا على المقهى المجاور.

تلوّن وجه أبي سالم كما الحرباء…وردّ غاضبا:- وحّد الله يا رجل…فالذي رأيته ليس أنا، و(ربّك خلق من الشّبه أربعين) يبدو أنّني قد أخطأت عندما اصطحبت بناتكم الى الأردن…وبدلا من أن تشكروني أراكم تتغامزون عليّ، ولم يبق إلّا أن تتهموني بشرفي…وحتى عبدالله الرّجل الطيّب يتوهّم بأنّه قد رآني أترجّل من سيّارة عسكريّة…في وقت كنت فيه هاربا من العسكر وسيّاراتهم…والآن دعوني أستريح….نهض بقوّة وغادر الجلسة.

فقال أبو كامل:- (ذنب الكلب دايما اعوج وعمره ما بيستقيم).

سأل خليل المختار أبا سعيد قائلا:- ما رأيك يا مختار بكلام أبي سالم؟

–         لا أعرف ماذا سأقول في هذا الزمن الأغبر؟! و(إذا راحت الدّار لا أسف ع الخوابي)…ماذا تقول أنت يا خليل؟

فردّ خليل:- كلام أبي سالم من أوّله الى آخره كذب في كذب.

فضحكوا جميعهم….

******************************************

طيور النّذالة تحلق فوق رأس أبي سالم، وخيوط الانتقام تُحاك في عقله، وما دام (لكل زمان دولة ورجال)فأبو سالم هو رجل هذه المرحلة، وسيدخل عالم(الرّجولة) من أوسخ أبوابه، أمّا الأبواب النظيفة فهو لم يعتد ولم يتربّ عليها، عاد الى بيته من بيت المختار أبي السعيد مطأطئ الرأس ناقما على الجميع…فأين كان عبدالله أخو الشيخ سعود عندما رآه ينزل من السيارة العسكرية أمام مخفر أريحا؟ ولماذا كان في أريحا؟ والمشكلة في عبدالله هذا أنّه صادق، ومؤتمن عند أهل القرية، يثقون به كما كانوا يثقون بشقيقه الشيخ سعود، والرجل عندما أخبرهم عن رؤيته لي كانت نواياه سليمة، لم يكن فيها خبث أو محاولة لنقل معلومة، أو توجيه تهمة، لكنّ المشكلة فيمن كانوا يبتسمون ويتغامزون، فقد عنى لهم خبره شيئا آخر، خصوصا ذلك الأكتع خليل…فهو ولد وقح، لا يحابي أحدا…على كلّ الأيام بيننا، وسنرى من سيضحك في النهاية…لن أذهب الى مكتب الكابتن غدا…بل سأنتظر بضعة أيّام حتى ينسى أهل البلدة الموضوع…فما يدريني إن كان بعضهم يراقبني أم لا؟

تململ في فراشه واستدعى ابنه سالم الذي جاء يتثاءب من النّعاس…وسأله:-

أخبرني يا سالم:- ماذا يعمل الأساتذة؟

–         أيّ أساتذة؟

–         داود، فؤاد، محمد وخليل الأكتع؟

–         يعملون مدرّسين…باستثناء خليل فإنه طالب يدرس في كلية بير زيت.

–         وماذا يعملون بعد الدّوام المدرسي؟

–         لا يعملون شيئا؟ لماذا؟

–         أخشى أنّ لهم علاقات بمنظمات وأحزاب؟

–         وماذا يعنينا الأمر؟

–         كيف لا يعنينا؟…فبين الفينة والأخرى تُوزّع في القرية منشورات تحذر من الاحتلال وتدعو لمقاومته…وهذا قد يجلب الضّرر للأهالي.

–         المنشورات توزع في كلّ مكان في المدن والقرى والمخيمات….والاحتلال يراها. ولا أحد يعرف مصدرها.

–         وأنت هل تجالس هؤلاء الأساتذة؟

–         أنا لا يعنيني شيء سوى عملي…والحفاظ على أسرتي…فالصراع أكبر منّا…ولننتظر حتى يفرجها الله.

–         الله يرضى عليك…أريدك هكذا…فاسرائيل هزمت الدول العربية جميعها…ولا نريد المشاكل، وعند اختلاف الدول سعيد من ينجو برأسه…لكن ألا تعتقد أنّهم من يجلبون تلك المنشورات ويوزعونها…خصوصا ذلك الأكتع؟

–         خليل يا أبي يدرس في كلية بير زيت، ويسكن هناك…يعود في نهاية الأسبوع…والمنشور السابق وُزّع في منتصف الأسبوع، ولم يكن خليل في القرية…وماذا تعنيك هكذا أمور يا أبي؟

–         إذا شقيقته زينب هي من توزع المنشورات.

–         زينب طالبة في التوجيهي وتدرس في بيت لحم، ولا أعتقد أنها تفعل ذلك؛ فالبنات لا يقوين على هكذا أفعال…أضف الى ذلك أن المنشورات توزع ليلا…والبنات لا يخرجن في الليل.

–         ما رأيك يا سالم أن نطلب زينب زوجة لك؟

ضحك سالم وقال:- أنا متزوج يا أبي…وعندي أولاد…والظروف لا تسمح بالزواج من اثنتين.

–         لكنك متعلم وأستاذ – ما شاء الله عليك- وزوجتك أمّية لا تقرأ ولا تكتب…لقد ظلمناك عندما زوجناك…كان عمرك حوالي سبعة عشر عاما…كم عمر زينب الآن؟

–         هي في الصف الثالث الثانوي…أعتقد عمرها حوالي ثماني عشرة سنة…وماذا يعنينا عمرها؟

–         عمرك أنت الآن حوالي الثلاثين عاما فهي مناسبة لك…ومصاهرتنا مع أبي كامل ستقطع ألسنَ كثيرة عنّا خصوصا لسان خليل الأكتع.

–         عن أيّ ألسنٍ تتحدث يا أبي؟ وما لنا وللناس؟ لنحترم أنفسنا فسيحترمنا الآخرون.

–         مصاهرة أبي كامل تشريف لنا يا بنيّ…اسمع ما يقوله أبوك.

–         أنا مرتاح مع زوجتي وأحبّها وأحبّ أطفالي..ولا أريد الزواج ثانية.

–         لكنّك كنت تتذمر من زواجك من امرأة أميّة.

–         هذا كان طيش شباب قبل الحرب…أمّا الآن فالأمور مختلفة.

–         إذا كنت خائفا من تكاليف الزّواج فلن أكلّفك شيئا…سأدفع أنا كلّ شيء.

–         القضية ليست قضيّة ماليّة….فأنا أرفض الزّواج مرّة أخرى.

–         زينب يا بنيّ فتاة جريئة، وأبوها من وجاهات البلد…فلا تُفوّت هذه الفرصة.

–         زينب يا أبي تصرّ على التعليم، وتريد أن تلتحق بالجامعة، ولن تقبل الزّواج منّي ولا من غيري، فقد تعلمت درسا قاسيا من زواجها الأول.

–         عندما تزوجت كانت طفلة لا تعرف معنى الزّواج…ولم يمسسها العريس.

–         إذا لم يحصل نصيب في الزواج من زينب سأطلب لك بنت المختار أبي السعيد.

غضب سالم وقال:- ماذا جرى لك يا أبي؟ لا أريد الزواج مرّة أخرى…وطابت ليلتك…خرج من الغرفة دون استئذان.

امتعض أبو سالم من خروج سالم بهذه الطريقة، ولعن التعليم ومن يتعلمون؛ حرصتُ على تعليمه كي يعيش حياة هانئة، وكي أبعده عن حياة الشقاء التي عشتُها…وهو الآن يتمرّد على أوامري…من تُتاح له فرصة الزواج مرّة ثانية ويرفض؟ أبناء جيلي كانوا يتزوّجون ويطلّقون مرّات وهم لا يملكون وجبة عشاء يومهم…الآن نحن بألف خير وسالم يرفض…أيّ جيل هذا الجيل؟ وكيف يفكرّون؟ أنا أخطأت عندما استشرته، كان من المفروض أن أطلبها له- دون علمه- وأن أضعه تحت الأمر الواقع….وهذا ما سأفعله يوم غد.

عندما جمعت الشمس نورها، واحتضنته، وكادت تختفي خلف الأفق الغربي البعيد، خرج أبو سالم الى المسجد، وهناك وجد الشيخ عطيّة ساندا ظهره الى الحائط قرب المحراب…يتثاءب من النّعاس وقلّة الحيلة…يحرك إبهامة على خرزات مسبحته…رأسه يميل الى الأمام تارة…وأخرى يردّه الى الخلف…طرح أبو سالم التحيّة بصوت مرتفع، فجفل الشيخ وصحا من غفوته…وبدلا من ردّ التحيّة بمثلها قال:- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…قالها بعفوية وكأنه يستعيد صحوه، فضحك أبو سالم وقال:-

يبدو أنّ الشيطان يتلبّسك يا مولانا.

فردّ الشيخ بابتسامة صفراء متصنعة دون كلام…..جلس أبو سالم أمامه وقال له:-

أريد منك خدمة بسيطة.

–         حيّاك الله… قال الشيخ.

–          أريد أن ترافقني الى بيت أبي كامل بعد صلاة المغرب، لنطلب ابنته زينب لابننا سالم.

–         لكنّ سالم متزوّج ولديه أبناء.

–         ربّنا حلّل تعدّد الزّوجات…وسالم يريد زينب زوجة ثانية له.

–         على بركة الله.

خرج أبو سالم والشيخ عطيّة من المسجد بعد الصّلاة، لم يكن الشيخ مقتنعا بطلب أبي سالم…لكنّه لا يستطيع أن يرفض أمرا كهذا…والمثل يقول(نيّال من وفّق راسين على وساده) والزّواج سنّة الله في خلقه.

في بيت أبي كامل كان كامل وأخوه صالح، أمّا الوالد فلم يكن موجودا، فسأل أبو سالم:- أين أبو كامل؟

ذهب الى بيت المختار أبي محمد، أجاب كامل.

–         خير ان شاء الله…هل من سبب لذلك؟

–         لا أعتقد ذلك…وسيعود بعد صلاة العشاء.

–         وأين الأستاذ خليل؟

–         إنّه يدرس في كلّيّة بير زيت…يسكن هناك…ويعود في نهاية كلّ أسبوع.

لفّ أبو سالم سيجارة”هيشي” أشعلها وقال:- والله الأستاذ خليل على سلامته…صدقوني – بدون يمين- أنّني أحبّه مثل سالم وزيادة.

كامل: أهلا وسهلا…اذا كنتم تريدون الوالد لأمر مهم فسنرسل له من يخبره…هو عادة لا يسهر كثيرا…يعود بعد صلاة العشاء وأحيانا قبلها.

أبو سالم:- اتركوه على راحته…ونحن هنا نتسامر مع هذه الوجوه الطيّبة.

كامل:- كيف كانت رحلتك الى الأردن يا أبا سالم؟

–         لا تذكّرني الله يخليك….لولا(عمر الشّقي بقي) لكان عمّك أبو سالم في رحاب الله.

شربوا القهوة ….وأبو سالم يحدّثهم عن ذكرياته مع “الملّاحات” زمن الانتداب البريطاني، عندما كانوا يتسللون ليلا وينهبون ما يستطيعون حمله، من ملّاحات البحر الميت…يحمّلون دوابّهم…ويحملون هم أنفسهم ما يستطيعون حمله…ويبيعونه أو يقايضونه بمحصولات زراعية في قرى رام الله…حياة صعبة مثل(غراب البين) قال أبو سالم…وأضاف لكنها كانت أحسن من هذه الأيّام…فمع بشاعة مظالم الانجليز إلّا أنّ الحياة كانت هادئة…وبينما هم في هذه الأحاديث عاد أبو كامل الى البيت…رحبّ بضيوفه….وكانت السعادة بادية على وجه أبي سالم…في حين كان الشيخ عطية يجلس هادئا وكأنّه في خلوة مع نفسه….التفت أبو سالم اليه وقال:-

تفضل يا سيدنا الشيخ…افتح الحديث مع أبي كامل.

بسمل الشيخ وحمد الله وسلّم على نبيّه وقال:- الحمد لله الذي حلّل النّكاح وحرّم السّفاح، يقول الله – سبحانه وتعالى- في كتابه المبين:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). ويقول عليه الصلاة والسلام:(تناكحوا تكاثروا فأنّي مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) أخي أبا كامل وأبناءك الكرام، لقد فوّضني أبو سالم بأن أتحدّث باسمه لطلب يد ابنتكم صاحبة الصون والعفاف زينب لابنه الأستاذ سالم على سنّة الله ورسوله…والأمر لكم…فالزّواج كما تعلمون(قسمه ونصيب).

ابتسم أبو كامل وقال:- أهلا وسهلا بكم…لكنّ زينب ترفض الزّواج قبل أن تنهي تعليمها الجامعي، ويساندها في ذلك إخوتها..وعلى كلّ سأستشير البنت فهذا حقّها الذي منحها الله إيّاه…فإن وافقت فمباركة عليكم، وإن لم توافق فالزّواج (قسمة ونصيب).

الشيخ:- موافقة الفتاة على الاقتران بشخص ما حق لها.

أبو سالم محتجا:- ومنذ متى أصبحنا نستشير النساء؟ وهل للنساء رأي حتى نستشيرهن؟ وهل تعرف بناتنا مصلحتهنّ أكثر منّا؟

أبو كامل:- لم أستشر زينب في المرّة الأولى، وزوّجتها وهي طفلة وكان ما كان…وقد تعلمت من تلك التجربة القاسية…ولن أحرمها الحق الذي منحه الله لها.

وفي هذه الأثناء دخل صالح يحمل صينيّة الشاي….وقال:-

سأريحكم من كثرة الحديث بهذا الموضوع…لقد أخبرت زينب بطلبكم…وهي ترفضه بشدّة وإصرار.

فردّ أبو سالم غاضبا:- أهي التي ترفض أم أنت يا ولد؟

صالح بعصبية زائدة:- أنا وهي.

فقال أبو كامل:- أهلا وسهلا بكم مرّة أخرى…ولا أستطيع أن أقول غير ذلك؛ فأنتم في بيتي؛ ولا داعي للكلام بهذا الموضوع مرّة أخرى.

انتفض أبو سالم…التفت الى الشيخ عطية وقال:- هيّا بنا يا شيخ، فلم يعد لنا مكان في هذا المجلس.

فردّ عليه الشيخ:- نشرب الشاي ونغادر.

خرج أبو سالم وحده خالعا عباءة الوقار، عاريا من الكرامة، وهو يردّد:- لا حاجة لي بشرب الشاي.

فقال أبو كامل:- لا حول ولا قوّة إلّا بالله…في حين قال كامل(طريق تاخذ وما تردّ).

تعوّذ الشيخ عطية وحوقل وقال:-  نسأل الله الهداية لنا ولأبي سالم وللمسلمين أجمعين. فالرجل يبدو كالمرضى النفسيين…لا يعرف ماذا يريد؟ ولا يستقر على شيء…شرب كأس شاي واستأذن بالخروج…فدخلت زينب فراشة تدور وتضحك قهقهة وقالت: (ما بقي علينا إلّا مقصوص الذّنَبْ).

****************************************

جلس أبو سالم قبالة الكابتن نمرود نافشّا ريشه…تظاهر بالطمأنينة والاستقرار رغم نفسيته المحطمة…نظر اليه الكابتن باحتقار….تظاهر بأنه مشغول في قراءة ملفات مكدسّة أمامه…طلب فنجان قهوة له…امتعض أبو سالم ولم يجرؤ على الكلام…أشعل الكابتن سيجارة…احتسى القهوة ببطء قاتل…تململ أبو سالم وقال بانكسار:-

إذا كنت مشغولا يا سيدي فسأعود في يوم آخر.

ردّ الكابتن بلهجة غاضبة:- اسكت وابقَ مكانك..لِمَ العجلة؟

تنهد أبو سالم وانخرس….خرج الكابتن من الغرفة…غاب حوالي ربع ساعة…عاد الى مكتبه…التفت الى أبي سالم وسأل:-

أخبرني …ماذا شاهدت في الأردنّ؟

–         استند أبو سالم…شبك أصابع يديه ووضعهما على ركبتيه كتلميذ كسول يتأدّب أمام معلمه وقال:- رأيت جنودا ومسلحين كثيرين.

–         أين رأيتهم؟

–         في كلّ مكان خصوصا في عمّان.

–         وماذا رأيت أيضا؟

–         رأيت دبابات ومدفعية تتمركز في مرابض في سلسلة الجبال الشرقية، وفوّهاتها باتجاه الغرب.

–         المسلحون الذين رأيتهم لمن يتبعون؟

–         الناس يتحدثون عن حركة فتح…ويتحدثون عن تنظيمات أخرى لم أحفظ أسماءها.

–         وأين يتمركزون؟

–         في كلّ مكان.

–         أقصد أين قواعدهم؟

–         يقول الناس بأن قواعدهم في منطقة الأغوار….ولهم مكاتب في المخيمات.

–         هل تعرفت على أحد منهم؟

–         إنهم بالآلاف…فكيف سأتعرف عليهم؟

–         أقصد أبناء قريتكم…مَنْ منهم مع فتح؟

–         حوالي عشرة أشخاص.

–         ما هي أسماؤهم؟

–         علي القاسم….حابس الحسن….خليل الخلف…محمود العلي..و….و…

–         ومن معهم من أبناء القرية المقيمين هنا؟

لا أعرف بالضبط…لكنّهم سألوني أكثر من مرّة عن الأساتذة…وكانوا يمدحونهم كثيرا.

–         من هم الأساتذة الذين سألوك عنهم؟

–         داود، فؤاد، محمد وخليل الأكتع.

–         من هو خليل الأكتع هذا؟

–         خليل منصور…شاب أكتع لم يصل العشرين من عمره، يدرس في كلية بير زيت…(لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب) يشتم الاحتلال كثيرا أمام الناس جميعهم…وفي ذكرى وعد بلفور شاهدته في المظاهرة التي خرجت من الأقصى.

–         وماذا تعرف عن الأساتذة الآخرين؟

–         لا يتركون مناسبة في القرية إلّا ويحضرونها…يستمعون ويناقشون، ويحذرّون من مخططات اسرائيل في القدس وبقيّة المناطق.

–         ومن يوزع المنشورات في القرية؟

–         لم أشاهد أحدا…لكنني أعتقد أنّ الأساتذة هم من يوزّعونها.

–         على أيّ أساس تعتقد ذلك؟

–         لقد كانوا يوزّعون منشورات لمرشحي الأحزاب في انتخابات البرلمان عام 1957…وهم من حرّضوا على المظاهرات ضدّ حلف بغداد، وشاركوا فيها…وشاركوا في المظاهرات بعد الهجوم على قرية السّمّوع..قبل الحرب.

–         أين سكنت في عمّان؟

–         كلّ ليلة كنت أنام عند شخص من أبناء البلدة…وحضرت زفاف الصبايا اللواتي اصطحبتهنّ معي.

–         ماذا يقولون عن الأوضاع السياسية؟

–         غالبية الناس يؤيّدون جمال عبد الناصر…ويقولون بأنه هو الذي سيحرّر فلسطين، وبعض المتدينين يقولون بأنّه عميل لأمريكا.

–         وأنت ماذا قلت عنه؟

–         أنا فكّرت وقلت بيني وبين نفسي(إذا شفت ناس بيعبدوا عجل حشّ واطعمه) ولمّا رأيت الأكثرية يؤيدون جمال عبد الناصر، دافعت عنه…وقلت بأن الإسرائيليين يكرهونه لأنّه يعاديهم.

ابتسم الكابتن وسأل:- وأنت كيف عدتَ من عمّان؟

–         عدت عبر الجسر بواسطة التصريح الذي أعطيتني إيّاه.

–         وكيف عاملك جنودنا على الجسر؟

–         عاملوني بشكل جيّد لكنّ أحدهم عندما رآني أعبر الجسر غربا، صاح بي ووصفني بالحمار، ممّا أحرجني أمام عابري الجسر شرقا….لكنه والحق يُقال عندما رأى التصريح احترمني…صحيح أنّه أجبرني على الجلوس أرضا على الرصيف حتى حضرت سيّارة عسكرية لتحملني…لكنّني أقدّر عمل الجنود ومخاوفهم.

بهدوء تام وبعدم مبالاة سأل الكابتن:- لماذا لم تخبرنا عن(الطّوشة) بين جدّوع وماهر بن المختار؟

–         أيّ طوشة؟ ردّ أبو سالم مستغربا.

–         ألم تسمع بها؟

–         لا…لم أسمع….ربما حصلت وأنا في الأردن.

–         معنى هذا أنّه يجب عليك أن تفتح أذنيك وعينيك…لترى وتسمع كلّ شيء، وأن تخبرني أوّلا بأوّل عن كلّ صغيرة وكبيرة تحدث في القرية.

–         وهل المشاكل بين الناس تهمّكم؟

–         لا تناقش كثيرا ولا تجادل في أمور لا تهمّك…عليك أن تنفّذ الأوامر فقط.

–         حاضر سيّدي.

–         والآن أريد منك أن تنتبه جيّدا لكلّ شيء….فبعد أقل من أسبوعين ستمر الذكرى الأولى لحرب حزيران…ونريدها أن تمرّ بهدوء….ويترتب عليك أن تراقب الأساتذة وغيرهم جيّدا.

–         حاضر سيّدي.

صمت الكابتن…واصل تقليب صفحات الملف الذي أمامه، وفجأة استدار بكرسية المتحرك جانبا وسأل:- هل تذكر تسيبورا يا أبا سالم؟

–         لم أفهم عليك.

–         هل تذكر الفتاة الحسناء”عصفورة” التي رافقتك في تل أبيب؟

اصفرّ وجه أبي سالم وأجاب متلعثما:- نعم أذكرها.

–         أريدك أن تتدبر لنا”عصفورة” عربية، وسأدفع لك مبلغا كبيرا من المال عندما تأتينا بها.

–         جفّ فم أبي سالم ولم يعد قادرا على تحريك لسانه….رأى الدنيا صغيرة على اتساعها…ارتعدت فرائصه…طأطأ رأسه، ورأى الغرفة غولا يبتلعه…لم يحرّك ساكنا….ولم يجب….ركّز الكابتن نظره عليه وسأل:-

–         ماذا قلت يا أبا سالم؟

–         عن ماذا؟

–         نريد”عصفورة”عربية.

–         وهل توجد عصفورات عربيات حتى آتيك بواحدة منهنّ؟ تساءل أبو سالم بانكسار.

ردّ الكابتن غاضبا:- نعم النّساء العربيات كثيرات…ألا تراهن يا أبا سالم؟

–         أراهنّ…لكنّهنّ يختلفن عن اليهوديّات!!.

ابتسم الكابتن بخبث وسأل:- يختلفن بماذا؟ فالمرأة هي المرأة.

–         لكنّ النّساء العربيات لا يخرجن من بيوتهنّ، ولا يعرفن الرّجال إلّا من خلال الزّواج…ومن تتزوّج لا تخون زوجها.

–         ومن قال لك ذلك؟…لا أريدك أن تبقى غبيّا يا أبا سالم…فعندك بنات…وعندك زوجة سالم ابنك…ولديك قريبات كثيرات…وهنّ نساء مثل بقيّة النّساء.

انتفض أبو سالم…حاول أن يلفّ سيجارة “هيشي” فنهره الكابتن وأعطاه سيجارة من سجائره…أشعل سيجارته وسأل بتذلّل:-

وهل تريدني أن أكون قوّادا على بناتي وبنات إخوتي؟…هذا لا يمكن أن يحصل…الموت أفضل من عمل دنيء كهذا…وإذا ما بقيت مصرّا على طلبك فدعنا نفترق.

صاح به الكابتن:- ماذا تقول يا كلب؟ هل تريدنا أن نفترق؟ هل بناتك وقريباتك أفضل من تسيبورا؟ أم أنّهنّ أكثر جمالا منها؟ باستطاعتنا أن نجد كلابا كثيرة مثلك، بل وأفضل منك، وإذا لم تسمع كلامي وتنفذه…فسأنشر صورك مع تسيبورا في قريتك وفي القدس وقراها…وسأخبر الجميع بطريقة عودتك من الأردن…وأنك تعمل معنا…وسنتخلّى عنك…وهل تعتقد أنّ بناتكم ملائكة؟ نحن لا نريدهنّ أن يكنّ  عاهرات…فهذا ليس شأننا…نريد واحدة كي تقوم بإغراء شباب – ليسوا من منطقتكم ولا يعرفونها- من خلال حركات جنسية مع بعض الشباب…لنضعهم تحت التهديد بالفضيحة كي يعملوا معنا، وكي يكونوا مساعدين لك يا غبيّ.

–         أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…العرض أغلى من الأرض…ولن أفرّط بعرضي.

ابتسم الكابتن وقال:- أعتقد أنّك سمعت بالمثل القائل(اللي بيأجّر مؤخرته ما بيحسّس عليها).

–         هذه إهانة لا تحتمل….فمؤخرّتي لم ولن يمسسها أحد بسوء.

قال له الكابتن:- إذا كنت تعتقد أنّ مؤخّرتك لم تُمسّ بسوء فهذا تأكيد جديد بأنّك أغبى الأغبياء….ولا يوجد لديّ وقت للحديث مع الأذكياء، فكيف سأضيعه مع كلب غبيّ مثلك….انصرف الآن وفكّر بما طلبته منك…وعد إليّ بقرارك النهائي  بالسرعة الممكنة.

خرج أبو سالم من مكتب الكابتن نمرود ممتقع الوجه يتعثر بخطواته، الدنيا أمامه سواد في سواد…تحسّس مؤخرته وهو يردد في نفسه(عند مخالفة الدّول الشاطر اللي بيخبّي راسه) هذا ما كان يردّده كبار السّنّ في القرية، لكنّ الطمع قتلني، فلم أستفد من حكمة الأقدمين، ولا من اندفاع الشباب، وأنا الآن أحصد ما زرعته بيديّ، وهذا النمرود لم يترك لي سترا إلّا وكشفه….اتهمني بأنّني كلب، فارتضيت ذلك….وهو الآن يريدني بأن أكون (قوّادا) على عرضي، بل يزعم-والعياذ بالله- بأنني قد أجرته مؤخّرتي، فماذا يعني بذلك؟ وهل رجال المخابرات شاذّون جنسيا؟ أم أنّ الكابتن نمرود يشبه جيئولا صاحبة عليان بن الحاج عبد الرؤوف؟ لقد أخبرني عليان أن جيئولا وُلِدَت ذكرا …أسماه والداه جبريئيل…لكنّه اختار أن يكون أنثى وغيّر اسمه الى جيئولا…ويعيش مع عليان كما تعيش المرأة مع زوجها…فإذا كان هذا النمرود مثل جيئولا فالأمر بسيط، فسأكون أنا مثل عليان، أمّا إذا أرادني أن أكون أنا جيئولا فلن أقبل مطلقا، رأيت جيئولا في بيتها امرأة تتزيّن لعليان كما تتزين النساء، ورأيتها تلبس ملابس نسائية، بما في ذلك الملابس الداخلية، ورأيت لها ثديين نافرين يتدليان كثديي المرأة المرضع، لكن هذا النمرود مختلف تماما، إنّه اسم على مسمّى، وهو يتنمرد عليّ دائما، وهل يُعقل أن تكون جيئولا هي الأخرى إمرأة مخابرات؟…لقد سألت عليان إذا ما كان يعرف شخصا باسم نمرود، فنفى ذلك.

لن أدخل المسجد الأقصى هذا اليوم، بل لن أدخل المدينة القديمة، فهذه المدينة تراقبني، وتريد معاقبتي…كل شيء فيها يلعنني…حتى الكنائس ترفضني…ذات يوم عندما قررت زيارة كنيسة القيامة…ما أن دخلت الساحة الممتدة بينها وبين مسجد عمر، حتى قرعت أجراسها، فخفت من ذلك ولم أدخلها…يا إلهي كيف تورطت بهذا العمل الشائن؟

مشى مطأطئ الرأس خارج السور، في طريقه الى بيته مشيا على الأقدام…كان يضم عباءته بيديه خلف ظهره، وكأنه يحرس مؤخرته التي أصبحت هاجسه الأكبر… يمشي ويكلّم نفسه…عند باب الخليل اصطدم بعمود كهرباء….فسالت الدماء من جبينه…تحسّس رأسه وهو يطلق سيلا من الشتائم التي تجعل منه مرتدا عن الدّين…تجمع حوله عدد من المارّة يحاولون نقله الى المستشفى، لكنه رفض…جلس القرفصاء ساندا ظهره الى سور المدينة…أخرج منديل قماشٍ من جيبه ووضعها على الجرح….عندما توقفت الدماء عن النزف مشى جنوبا باتجاه البقعة…توقف على الزاوية الجنوبية الغربية لجورة العنّاب….ابتعد قليل عن الشارع العام….اتكأ على سور الجورة، وأخذ يتذكر أيّام ما قبل النّكبة في العام 1948، عندما كان المكان سوقا للخضار والفواكه، وجزء منه كان مخصّصا كسوق للبهائم، يجلبون أغنامهم ودوابّهم فيه عندما يريدون بيعها، أو يشترون منه…استعاد أيّام الصّبا…خلفه يقع حيّ منتوفيوري الرّاقي والذي يسكنه عدد من الفنانين، وهناك الطاحونة الهوائية أيضا، وعلى بعد أمتار منها يقع فندق الملك داود الشهير، يحيط بالمكان حديقة ملأى بالورود وأشجار الزينة… التفت إليها…صعد المنحدر…توقف بعد حوالي عشرين مترا….استلقى تحت شجرة زينة…تمتد أغصانها بشكل شبه دائري صانعة كهفا  صغيرا جميلا حيطانه وسقفه ورود…تمدّد هناك….كانت مدرسة صهيون تنتصب أمامه عند زاوية سور المدينة من الجهة الغربية الجنوبية…أُعجب بهندسة البناء، وبحجارته المزخرفة…خلع حذاءه ووضعه تحت رأسه…غطّى وجهه بكوفيته البيضاء الشّفافة والتي يلوث طرفها شيء من دمائه، التي نزفت قبل قليل في باب الخليل…شرع يفكر بحاله…التفت الى يمينه حيث تصدر تأوّهات جنسية…على بعد بضعة أمتار منه كان شابا يضاجع فتاة بين الورود…رأى العمليّة الجنسيّة كاملة، لم يغضض بصره ولم يتحرك من مكانه…نظرت الفتاة إليه ولم تعره انتباها، كانت نشوى تضحك بدلال زائد…تنبهت حوّاسه الجنسيّة…لكنّه لم يتحرّك من مكانه…وفجأة توقفت بالقرب منه شابّتان حسناوتان…لفت انتباههما الدماء التي على صدره وعلى جانب من كوفيته…ظنّتاه قتيلا…تقدّمتا منه قليلا لتتأكّدا من أنّه حيّ أم ميّت…انتفض جالسا عندما أحسّ بهما، سألته إحداهما بالعبرية:-

هل تريد مساعدة؟ هل أنت بخير؟ من اعتدى عليك؟ هل نستدعي الشرطة؟ فلم يفهم عليهما شيئا، ولم يردّ عليهما بكلمة واحده…وقف…التفّ بعباءته وغادر المكان في طريقه الى بيته، فقالت إحداهما:-

مسكين هذا الرجل…يبدو أنّه معتوه..ما كان لأحد أن يشجّ رأس واحد مثله.

عندما وصل بيته سألته أمّ سالم مندهشة:- من ضربك على جبينك؟

–         لا أحد يجرؤ على ضربي…اصطدم رأسي بعامود كهرباء عندما كنت ماشيا بلا وعي.

–         ومن الذي أخذ عقلك؟

تحسّس مؤخرته وقال:- دعيك من هذا الكلام الفارغ.

خلع حذاءه وقمبازه وكوفيته وتمدّد على فراشه…أحضرت أمّ سالم قليلا من الماء وخرقة بالية، وشرعت تنظف الدماء من على وجهه وصدره..طلب منها أن تضع قليلا من البنّ المطحون على الجرح ففعلت.

**************************************

اكتمل بناء مدرج طويل يتسع لمئات آلاف الأشخاص على رصيفي الشارع الرئيس في حيّ الشيخ جراح، تمهيدا لاحتفالات اسرائيل بالذكرى العشرين لـ (استقلالها) حسب التقويم العبري الذي لا يتوافق مع التقويم الغريغوري”الميلادي”، اسرائيل تحتفل باستقلالها والفلسطينيون سيحيون ذكرى نكبتهم بعد أيام في 15 أيار…هي الحياة كما قال أبو البقاء الرندي:

هي الأيام كما شاهدتها دول…… من سرّه زمن ساءته أزمان

قادة اسرائيل يصطفون على المنصّة الرئيسية لتحية جنودهم في استعراض عسكريّ مهيب شمل أسلحة الجيش جميعها…طائرات الميراج تمر فوق مكان الاستعراض وتجوب البلاد في تشكيلة رسمت الرقم عشرين….تسير بسرعة واحدة وبانتظام لافت…المحتفلون يحيّونها من على الأرض بالأغاني والأهازيج والأعلام التي تتوسطها النجمة السداسية…القدس العربية مغلقة أمام العرب….ومواطنوها ينظرون ما يجري من شرفات ونوافذ منازلهم….عجيبة الحياة هنا…العرب في بيوتهم تقتلهم الأحزان، وعلى بعد عشرات الأمتار منهم سالبو حريتهم يرقصون ويغنّون….عجيبة هي الحياة الدّنيا فـ (مصائب قوم عند قوم فوائد).

في الليلة الماضية كانت السماء ملأى بالألعاب النارية متعدّدة الألوان والأشكال، أصوات انطلاقها شبيهة بمعركة مفتوحة….وسمّاعات الغناء احتفالا بالذكرى تغطي على صوت الأذان المنطلق من مكبرات صوت المساجد….وتقهر أصوات أجراس كنائس المدينة المقدسة….بعض الناس عاش رعبا عندما انطلقت أبواق زامور الخطر….ظنّوها تحذيرا من حرب جديدة….استمعوا لنشرات الأخبار، وتبيّنوا أنها إعلان ببدء الاحتفالات، وحداد على أرواح الضحايا الاسرائيليين الذين سقطوا في الحروب….وهناك أمام زاوية سور القدس الشمالية الشرقية يرقد شهداء الجيش الأردني في مقبرة جماعية….يرقدون بهدوء تام…يراقبون ما يجري…يتململون في قبورهم…وهم أحياء عند ربّهم يرزقون…..المصلون في المسجد الأقصى يمرّون قرب ضريح الشهداء…يقرأون الفاتحة على الأرواح الطاهرة….يكتمون أحزانهم…يخاطبون السماء داعين الله بالفرج.

يوم 15 أيار أعلنت الأراضي المحتلة الاضراب العام….وفي مخيمات اللاجئين يتحلق الأبناء والبنات حول الأمّهات والآباء والجدّات والأجداد، يسمعون قصص النكبة، ووصفا لبيوت وبيارات وحقول رحل مالكوها عنها قبل موسم الحصاد، يبكي الرّواة وهم ينزفون ما تخبئه عقولهم عن أيّام العزّ في الدّيار التي هُجِّروا منها.

الحاجة صفيّة لم تخلع ثوب الحداد منذ عشرين عاما، ولم يعد التطريز يجد له مكانا على ثيابها، …هي ليست عجوزا كمل يظنّ البعض، فهي الآن في الأربعين من عمرها…هُجّرت من بيتها في المسميّة وهي في العشرين من عمرها…كانت زوجة وأمّا لطفلين، فقد تزوجت وهي في السابعة عشرة من عمرها….يوم زفافها كان يوما مشهودا….فوالدها من أعيان البلد…بيّارته كان لها أوّل وليس لها آخر….قصره ينتصب في مدخلها قلعة ينبهر من يراها….وزوجها ابن رجل ثري أيضا…يملك بيارة واسعة في المسميّة ومتجرا كبيرا في يافا….وعندما بدأ الهجوم على يافا التحق مع الثوّار، ولا تعرف له مصيرا حتى الآن…ولمّا اشتد الهجوم على يافا….اتجهت النساء والأطفال وبعض الشيوخ والشباب شرقا….فهم مرعوبون ممّا جرى في دير ياسين….هي أيّام قليلة وسيعودون الى بيوتهم، هكذا وعدهم القادة العرب…حملوا قليلا من الطعام والثياب…حتى مصاغها لم تحمله معها، فقد دفنته في علبة تحت شجرة الدّفلى عند زاوية البيت الشرقية، خوفا من أن يطمع به أحد، فقد يكلفها ذلك حياتها…التجأوا في مسجد الرّملة…وبعد منتصف الليل بقليل…أًصرّت حماتها على مغادرة المسجد والاتجاه شرقا الى قرى اللطرون، فوافقها زوجها…ولم يعد خيار أمام صفيّة…احتضنت طفلها الرضيع، وحملت حماتها الآخر…في حين حمل حموها صرّة الملابس والطعام…وبعد حوالي المئتي متر التفتوا على أصوات رصاص كثيف وانفجارات قنابل في المسجد…صراخ النساء والأطفال يملأ المكان….ولم يعد خيار أمام المغادرين سوى الاسراع شرقا….الحاجة صفيّة لم تؤدِّ فريضة الحج…ولم تزر بيت الله الحرام…لكن لكثرة التجاعيد التي ترتسم أخاديد شقاء على وجنتيها…أطلقوا عليها لقب حاجّة….أبناء بلدتها فقط هم من يعرفون عمرها الحقيقي…وهم فقط من يتذكرون كم كان جمالها ساحرا….فقدت أسرتها وأملاكها…وكثيرا من أقاربها…ولا تعرف مصير من بقوا…قال البعض إن المئات من أبناء يافا والمسميّة قد غادروا المنطقة فوق السفن التي كانت ترسو في ميناء يافا…واتجهت بهم الى لبنان…وهي تسمع أنباء متضاربة حول من بقوا أحياء مشتتين في مخيمات اللجوء في لبنان….أمّا هي وحمواها وطفلاها فقد استقرّ بهم المطاف في مخيم عقبة جبر قرب أريحا…مريم لا تزال تعلق مفتاح الباب الرئيس للبيت في رقبتها…قبل شهور وبعد حرب حزيران قرّرت زيارة يافا والمسميّة…والد زوجها توفّاه الله  قبل ثلاث سنوات، أمّا حماتها فقد رفضت أن ترافقهم…وقالت(عين لا تشوف قلب لا يحزن) لا أستطيع رؤية البيت والبيّارة في أيدي آخرين…وربما سأموت هناك إن فعلتها…وعندما وصلوا هناك وجدوا كلّ شيء قد تغيّر…وجدوا بيوتا ضخمة قد أقيمت على أرض البيارات….قصر والدها وقصر حمويها لا يزالان مكانهما…وشجرة الدّفلى لم تعد مكانها هي الأخرى…مكانها ورود متنوعة…فكرت بأن تدخل لتحفر الأرض بحثا عن مصاغها…لكنها كانت متأكدة بأنها لن تجد شيئا..فقد تمّ تجريف الأرض…حتى وإن بقي المصاغ مكانه فإنها لن تستطيع اخراجه، لأن قاطني البيت الجدد لن يسمحوا لها، وقد يستدعون الشرطة لها…جلست على رصيف الشارع تبكي بصمت…وعادت الى بيتها مكلومة الفؤاد.

أمّا الحاج نبيل فقد جمع أبناءه وأحفاده في بيتهم المتواضع في مخيم العزّة قرب بيت لحم، حدّثهم عن بيت الأسرة في الفالوجة، كان قصرا حصينا على طريقة القلاع القديمة، “الديوان” فيه تزيد مساحته عن 150م…كان الناس يجتمعون فيه يوميا…يتداولون فيه بأمورهم الخاصّة والعامّة، ويتشاورون حول ما سيزرعونه في كلّ موسم….أرضنا كانت تزيد على العشرة آلاف دونم، مئات العمال الزراعيين كانوا يعملون في أرضنا…بنينا لكل واحد منهم بيتا صغيرا يسكنه هو وعائلته في طرف الأرض التي يعمل بها…خير الله كان كثيرا…وكانت عندنا خيول عربية أصيلة، كنا نستعملها للسباق أو كمطايا خاصة…كلّ فرس أو حصان له اسم وشهادة ميلاد تثبت تسلسل نسبه الأصيل…وأصلها من السعودية، عندما أهدى شيخ قبيلة بني غامد جدّنا الأكبر فرسا منها عندما جاء وعدد من شيوخ قبيلته القدس- قبل أكثر من مئة عام- شادّين الرّحال الى المسجد الأقصى، واستضافهم جدّنا في القصر الذي حدثتكم عنه، ومن كان يملك فرسا أصيلا في ذلك الوقت كمن يملك أفخر أنواع السيارات في أيامنا هذه، والخيل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة” كانت مخازن الحبوب عندنا ملأى بمختلف أنواع الحبوب، كنا نبيع أطنان القمح كلّ عام، ونبقي في المخازن ما يكفينا ويكفي ربعنا لمدّة ثلاث سنوات على الأقلّ، وذلك خوفا من سنوات القحط، لم نشترِ يوما طحينا أو قمحا أو شعيرا أو عدسا…الخ، ولم نكن نأكل إلّا خبز القمح البلدي، كنّا نملك طاحونة قديمة مقامة في غرفتين مفتوحتين على بعضهما البعض، وقبل النكبة بعام، أمسك”قشاط” الطاحونة بثوب فاطمة بنت أبو رافع، كانت فتاة سمراء هيفاء ذات خصر رفيع، وقدّ يعكس أشعة الشمس، كانت بنت عزّ ودلال، لفّها وجرّها الى حجر الطاحونة، وهرع عامل الطاحونة على صراخها وصراخ صويحباتها، وعندما أوقف الطاحونة عن العمل، كان كل شيء قد انتهى فقد تحطمت عظامها…تركت خلفها طفلا ابن ثلاثة أعوام، وطفلة رضيعة، ماتت الطفلة بعد التهجير من قلّة العناية والرعاية وسوء التغذية، وعندما وصل الجيش المصريّ الى الفالوجة عام النكبة، عسكر وحوصر في أرضنا….وقد موّلناه نحن، أطعمنا الجنود ممّا نأكل، تقاسمنا وإيّاهم رغيف الخبز، تقدم قبلها باتجاه القدس لحمايتها، ودكّ بمدفعيته المواقع المعادية، فصدرت له الأوامر بالعودة الى الخلف، فعاد وعسكر في أرضنا، وهناك تعرفنا على جمال عبد الناصر، كان شابا ضابطا صغيرا”يوز باشي” طويل القامة…قليل الكلام شجاعا…له ابتسامة ساحرة وعينا صقر، استضفناه هو وعدد من الضباط في بيتنا، ولنا صور معهم أنا والمرحوم والدي وأعمامي، ولي صورة منفردة معه لا أزال أحتفظ بها، وقد رأيتموها جميعكم، كنت أكبره ببضع سنوات، وعندما قامت الثورة المصرية في تموز 1952 عرفت الرجل عندما نشروا صورته.

كان الحاج نبيل يتكلم بمرارة، يخفت صوته في مواقف الحزن، ويعلو عندما يتكلم عن مواقف الكرم والجود والفروسية، ويتنهد بحسرة وهو يسرد ذكرياته….يتوقف عن الكلام أحيانا وهو يرى بيته وكلّ شبر من أرضه ومن بلدته، ومرابع طفولته وشبابه، يراها أمامه كأنه تركها قبل ساعة، وتخرج كلماته مخنوقة بالدموع عندما تحدث عن أيام التهجير، والمصاعب التي واجهوها، والضحايا الأبرياء الذين سقطوا الى قمّة المجد،  لكنّه على ثقة بأنّ يوم العودة قادم لا محالة….لم يستطع هو الآخر زيارة الفالوجة بعد حرب حزيران قبل عام…وصفها لأبنائه ولأحفاده…ووصف قصر العائلة …وقال لهم ودموعه تنحدر من عينيه الى رقبته(عين لا تشوف قلب لا يحزن)لا أستطيع مرافقتكم يا أحبّتي…لأنّني إن فعلتها فلن أقوى على ذلك وربما سأموت هناك…

******************************************

في أول حزيران وبينما كان أبو سالم عائدا من صلاة العشاء في المسجد، رأى خليل الأكتع خارجا من بيت الأستاذ داود، وفي يده رزمة أوراق ملفوفة، تحاشاه خليل ولم يطرح عليه التحية، بل سار في طريق أخرى لا توصله الى بيته، انتبه أبو سالم لذلك….و(لعب الفار في عبّه) حكّ أنفه وكأنه يستعيد وعيه، تساءل بينه وبين نفسه عمّا يريده هذا الفتى؟ هل هو غرور الشباب المبكر؟ أم هو يتعالى على الآخرين؟ لا…لا يمكن ذلك فهو لا يترك مناسبة في القرية إلّا يشارك فيها، بغضّ النظر إن كانت فرحا أم ترحا…لكنه يتعالى عليّ أنا، فهل هو متأثر بأحاديث الكبار…أعلم أنهم لا يذكرونني بالخير، لكنّهم (عندما تناطح العين العين) يرحبّون بي، ويجالسونني، بل ويتملقونني، وهذا الفتى يبدو أنّه مخلوق من طينة أخرى، يختلف عن أقرانه الآخرين، فالآخرون عندما يرونني يطأطئون رؤوسهم احتراما وهم يطرحون التحيّة عليّ، بل ويصافحونني باحترام شديد، إلّا هذا الأكتع فإنه يتخذ منّي موقفا معاديا، فهل يرى نفسه أفضل من الآخرين خصوصا بعد سفره الى بلاد الانجليز، فقد عاد إلينا بيد اصطناعية، وبملابس جديدة فاخرة، ومن يومها ظهرت النّعمة على والده وأسرته، وهو يجالس الكبار والصغار، بمن فيهم الأساتذة، وأصبح الناس يطلقون عليه لقب أستاذ، مع أنّه ليس أستاذا…صحيح أنّه أكمل المدرسة، وصحيح أنّني سمعت أنّه يدرس في كليّة بير زيت، لكنّه لم يكن يوما أستاذا ولم يُعلّم تلميذا….فليذهب الى الجحيم.

وصل أبو سالم بيته….طلب من زوجته أن تنقل فراشه الى “البرندة”المكشوفة التي هي سطح السكنة التحتية التي يسكنها ابنه سالم…أسند ظهره الى الحائط القصير المكوَّن من مدماكين، احتسى كأس شاي….وشعر أنّ النوم يهرب من عينيه….في حوالي منتصف الليل انتبه الى حركة في الطريق التي تبعد عن بيته عدّة أمتار…رفع رأسه ونظر…الجوّ صاف والقمر بدر…والحرارة فوق معدّلها العام…رأى “خليل”بصحبة شاب آخر لم يتبيّن ملامحه، كلّ واحد منهما يسير على رصيف…يمشي عشرة أمتار وينحني الى الأرض…يضع شيئا ويمشي…بعد أن ابتعدا بضع مئات من الأمتار…نزل الى الطريق يستطلع ما كانا يضعانه على الأرض…وجد أوراقا كل واحدة منها مثبتة بحصاة فوقها…أخذ اثنتين منها وعاد الى فراشه…لم يستطع قراءة المكتوب فيها…طواها في جيبه…وقال:(في الصباح رباح) لكن هذه الأوراق لا تبشر خيرا…وبالتأكيد هي من الرّزمة التي خرج بها خليل من بيت الأستاذ داود، وربما تكون منشورات ضدّ الدولة…سآخذها غدا الى الكابتن نمرود…وسيرى أن عينيّ أبي سالم ساهرتان لا تنامان…

بعد منتصف الليلة القادمة كانت سيارات المخابرات وحرس الحدود تحيط ببيت الأستاذ داود، الجنود يتمركزون حول البيت شاهرين أسلحتهم…كشافات الإضاءة تخترق النوافذ، جنود يضربون باب البيت بكعاب بنادقهم وهم يصرخون طالبين فتح الباب بسرعة، وما أن فتح الأستاذ الباب حتى اندفعوا بقوّة فيه… قيّدوا يديه خلف ظهره…انتشروا في الغرف يفتشون كلّ شيء، طوّحوا بالملابس من الخزانة، وفي المطبخ خلطوا الطين بالسكر والعدس والملح….كانت زوجته وبناته يرتعدن خوفا…فقال رجل المخابرات لزوجة الأستاذ ساخرا:-

لماذا ترتعدون أنت وأطفالك؟ ألهذا الحدّ طقس هذا الصيف بارد؟

كانت درجة الحرارة 28 درجة مئوية…..ابتلعت غيظها وإهانتها ولم ترد…بعدها قال:-

نريد الأستاذ ساعة من الزمن لاستيضاح بعض الأمور….وعندما خرجوا من البيت عصبوا عينيه،  وألقوا به في سيارة حرس الحدود الذين انهالوا عليه ضربا بقبضات أيديهم وبكعاب بنادقهم، وركلا بأقدامهم….واتجهوا الى بيت الأستاذ خليل….

اقتحموا البيت بالوحشية ذاتها، وعندما تبيّنوا شخصية خليل احتاروا في كيفية تقييده…فهو بيد واحدة…فقيّده ضابط حرس الحدود بيد أحد جنوده…فتشوا البيت ولم يعثروا على شيء…حملوا معهم بعض كتب لم يفهموا محتواها…وعندما سألهم أبو كامل والد خليل عمّ يريدون من خليل؟ أجابه رجل المخابرات:-

نريده نصف ساعة لاستيضاح بعض الأمور.

في الخارج فكّوا قيد الجندي المقيّد مع خليل وربطوا “الكلبشات” بجدار سيارة حرس الحدود، عصبوا عينيّ خليل وانهالوا على مختلف أعضاء جسده ضربا ولكما.

وفي مقر التحقيق وضعوا الأستاذ خليل والأستاذ داود-بعد أن فكّوا قيديهما في زنزانتين-…كلّ واحد منهما في زنزانة تشبه القبر…لا نوافذ لها…مضاءة بلامبات صفراء قوية…جدرانها مدهونة باللون الأصفر…فيها دلوان بلاستيكيان…واحد لمياه الشرب وآخر لقضاء الحاجة…وفيها بطانية قذرة…رائحة العفونة تملأ المكان…لم يتكلموا معهما أيّ شيء…ولم يسألوهما عن أيّ شيء…خليل لا يعلم بأن الأستاذ داود معتقل، بينما الأستاذ داود قدّر – لأنه كان معصوب العينين- بأن الدورية قد انطلقت من بيته بعد اعتقاله الى بيت خليل….افترش كلّ واحد منهما البطانية…تحسسّ جسده  وتفقّد مواضع الضربات التي تلقاها…ودارت في رأسه مئات الأسئلة حول التهمة التي ستوجه له…وشرع يرتب في رأسه الإجابات على كلّ سؤال….لم يعرف النوم طريقا لعيونهما…ومع ذلك كانا يسمعان صرير مفاتيح حديدية كلّ بضع دقائق…وضربات قوية على باب الزنزانة..حتى يُخيّل للواحد منهما أنّهم سيفتحون باب زنزانته لأخذه للتحقيق…أرّقهم أصوات رجال ونساء يصرخون ألما تحت تعذيب شديد…وصوت جلّاديهم يعلو بلا رحمة مرددا بلهجة آمرة ولئيمة:- إن لم تعترف فستبقى تحت التعذيب حتى تموت ببطء…يشتمون الأعراض…ويشتمون الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم-….أصوات لا تنقطع ولا تتوقف…لكنّها تضع سامعها في حالة نفسيّة سيئة…فالإنسان يبقى إنسانا في كل الأحوال والظروف….فما بالك إذا كان مستهدفا…وسيقف في نفس الموقف الذي يسمعه الآن سياطا تجلده…استمرارية هذه الأصوات أكّدت للأستاذ داود أنّها اسطوانات مسجّلة القصد منها تدمير نفسية المعتقل قبل التحقيق معه، ليقف أمام المحقق منهارا…بينما خليل لم تخطر له فكرة التسجيل…فانطوى على نفسه يتألم، ويسأل الله أن ينقذه من هذه الأوضاع…صحيح أن الأستاذ داود لم يكن مرتاحا…لكن وضعه النفسي كان أفضل من حالة خليل…لم يغمض أيّ منهما جفنا.

في ساعات الصباح فُتحت نافذة صغيرة بباب كل واحدة من زنزانتيهما…قذف شرطي لكلّ واحد منهما قطعة خبز، وقطعة جبنة صفراء مغلفة، وبيضة مسلوقة…قذفها بشراسة مصحوبة بسيل من الشتائم البذيئة…أغلق النافذة وانصرف….أكل الأستاذ داود ما قُدّم له من طعام، وفي ذهنه أن ذلك سيساعده على الصمود…بينما خليل لم يستطع أن يأكل شيئا…حاول أن يأكل قطعة خبز صغيرة لكنه لم يستطع ابتلاعها…أصوات من يتألمون من التعذيب لم تنقطع…أمضيا يومهم وليلتهم في الزنزانة دون أن يسألهم أحد شيئا…في صباح اليوم الثالث أحضروهما للتحقيق…

جلس الأستاذ داود أمام محقق شاب في أواخر العشرينات من عمره…كان يقلب أوراقا في ملفّ أمامه…بينما يقف خلف داود ثلاثة شبان طويلي القامة، مفتولي العضلات…ينتظرون أوامر المحقق بالانقضاض عليه.

ارتعد جسد الأستاذ داود وارتجف …لاحظ المحقق ذلك فسأل ساخرا:-

لماذا ترتجف؟ جوّ هذا الصيف بارد، ودرجة الحرارة هذا اليوم فوق معدلها بأربع درجات…إنها 32 درجة مئوية….شعر الأستاذ داود بقوة داخلية في جسده لم يعهدها من قبل…خصوصا بعد أن أمسك أحدهم بكتفيه ضاغطا بقوة كبيرة…استجمع قواه الجسديّة والنفسيّة ولم يعد يرتجف…فقد تبخرت هيبة المحقق من عقله…قال له المحقق:-

سأعرفك على نفسي…اسمي أبو سامح…اسمعني جيدا…نحن نعرف قصّة حياتك منذ ولدتك أمّك حتى هذه اللحظة…ونعرف نشاطاتك الحزبية من يومها الأوّل حتى يومنا هذا…ونعرف مع من كنت تجتمع…وأين طبعتم المنشورات المناوئة لنا…ونعرف المهام الحزبية لكلّ واحد منكم…ولا نريد أن نتعبك أو نتعب أنفسنا معك، ولا نريد أن نستعمل القوّة معك…فأرحنا واسترح…هذه هي الأوراق…وهذا قلم…سأطلب لك الآن فنجان قهوة وكأس ماء وزجاجة عصير…وسأتركك وحدك…نريد منك أن تكتب لنا سيرتك الذاتية منذ ولدت وحتى الآن…ونريد منك أن تكتب لنا عن علاقتك بخليل الأكتع منذ تعرفت عليه حتى المنشور الذي أعطيته إياه لتوزيعه في شوارع وطرقات البلدة…فهو قد اعترف لنا بكلّ شيء، وإذا كنت جائعا سأحضر لك الآن طعاما…فكّر بهدوء واكتب…واعلم أننا لا نحب استعمال القوّة مع أحد إلّا إذا هو أجبرنا على ذلك…وبالتأكيد فإنك تعلم بأن أمن الدولة مقدس…ولم ولن نسمح لأحد بأن يمسّه.

حاول الأستاذ داود أن يتكلم لكنه منعه من ذلك…وقال له:-

أنا خارج الآن وكلّي أمل بأنك ستكتب لنا ما طلبته منك بصدق، ولن تستطيع الكذب علينا….فلدينا المعلومات كلّها…باي…قالها واستدار ليخرج….فالتقى بأحدهم وقد أحضر فنجاني قهوة…فطلب منه قائلا:-

ضع واحدا للأستاذ وخذ واحدا لي في المكتب الآخر…والتفت الى الأستاذ داود وقال:- آسف…لقد نسيت أن أعطيك علبة سجائر…هذه علبة سجائر Kent من نفس السجائر التي تدخنها…ومعها علبة كبريت…قالها وخرج…أغلق الباب خلفه…شرع يراقب الأستاذ داود من المكتب الآخر…فكاميرات التصوير الخفيّة تنقل كل حركة من حركاته.

تلفت الأستاذ داود ناظرا الى كلّ أرجاء الغرفة…لم يشاهد شيئا غريبا…غرفة فارغة…لا شيء فيها سوى طاولة وكرسيين…كرسي أمامها كان المحقق يجلس عليه…وكرسي يجلس عليه الأستاذ داود.

لم يحتسِ الأستاذ داود القهوة، فقد خاف أن يكون فيها شيء ما قد يفقده وعيه، أو يخفف من قوته في إدراك الأمور…التقط علبة السجائر…أشعل سيجارة…والأفكار تتزاحم في رأسه…لكنه قرّر أن لا يكتب شيئا.

أشعل سيجارة أخرى…المحقق يراقبه من خلال البث المباشر لكاميرات التصوير…يراقب انفعالته التي ترتسم قلقا على قسمات وجهه…قرّر أن يُدخل مفتولي العضلات الى الغرفة في حركة استعراضية أمام الأستاذ داود…دخل ثلاثة منهم بطريقة استفزازية…لم يتكلموا شيئا…كانوا فقط ينظرون بعيون غاضبة الى الأستاذ داود….يتنافخون حقدا وكراهية…واحد منهم ضرب الطاولة بقبضة يده ضربة قوية كادت تكسرها….أمسك الثاني علبة السجائر ومزقها بأسنانه…مضغها بطريقة كريهة….ثمّ لفظها أرضا…أوجس الأستاذ منهم خيفة…لكنّه تظاهر بالثبات…فليس أمامه خيارات أخرى….بينما كان الثالث يدور حول الأستاذ كوحش يدور حول فريسته….استمروا في حركاتهم هذه حوالي ربع ساعة، ثم خرجوا غاضبين، والمحقق يراقب انفعالات الأستاذ.

بعد حوالي ساعة دخل المحقق المكتب حيث يجلس الأستاذ داود…جلس على الطاولة…سأل:- أين ما كتبته؟

–         لم أكتب شيئا.

–         لماذا؟

–         ولماذا أكتب؟

–         يبدو أنك لا تقدر مدى خطورة عنادك….لا بأس…سأسألك أنا وأنت تجيب…وأنا سأكتب إجاباتك.

–          متى وُلدت؟

لا جواب

–         أين درست؟

لا جواب.

–         هل أنت أخرس؟

لا جواب.

تظاهر المحقق بالغضب وقال:-

أنت الآن أمام أبي سامح….وبالتأكيد فإنك تعلم بأن هذا ليس اسمي الحقيقي…ولكنهم لقبّوني بأبي سامح لأنني أتسامح مع الآخرين مهما كانوا قذرين….وإن خرجتُ من هنا فلن ترى وجهي مرّة أخرى….سترى آخرين لا يعرفون معنى التسامح…سترى أشخاصا فقدوا أعزاء عليهم على أيدي مخربين أمثالك….قلوبهم ملأى بالحقد والثأر….وعندها لا أحد غير الله يعلم ماذا سيحلّ بك…فأنصحك بالإجابة على أسئلتي وإلّا فـ (ذنبك على جنبك) ولا تنسَ أنّني يهودي من أصل فلسطيني….ولدت كما وُلد آبائي وأجدادي على هذه الأرض…وأنا أتعاطف مع الفلسطينيين كونني عشت بينهم…لكن عندما تصل الأمور الى تهديد أمن الدولة والمواطنين…فلا مكان للتسامح ولا للمتسامحين…أنصحك مرة أخرى بأن تجيب على الأسئلة كلها…والآن.. من هم أصدقاؤك؟

تنحنح الأستاذ داود وقال: قلت لي سابقا بأنّكم تعرفون كلّ شيء عني…فما دمتم تعرفون فلماذا تسأل؟

أسأل لأنني أريد أن أسمع منك مباشرة.

–         وأنا لن أجيب على أيّ سؤال من أسئلتك.

ضحك المحقق ضحكة صفراوية وقال ساخرا:-

لا تتظاهر بالبطولة…فقد سبقك آخرون أقوى منك…وادّعوا البطولة…وعندما أحسّوا بأن الأمر جدّيّ انقلبوا الى أرانب ضعيفة خلال دقائق…فلا تكن مثلهم.

سكت الأستاذ داود ولم يتكلم شيئا….غضب المحقق وعلا صوته صارخا:-

قل لي لماذا لا تجيب؟ أعطني سببا منطقيا.

–         إن كنت تعرف المنطق فاعلم أنني لن أجيب على أسئلتك لأنني أتعامل معكم كدولة محتلة….ولا سيادة لكم عليّ وعلى شعبي وعلى وطني…وما عليكم إلّا الرّحيل عن أرضنا.

ابتسم المحقق وقال ساخرا:- فصيح…أكيد إنّك فصيح…فالعالم جميعه يعلم أننا انتصرنا في حرب الأيام الستة قبل سنة…وأننا حرّرنا أرضنا التي كان العرب يحتلونها…والعالم كلّه لن يستطيع زحزحتنا من شبر فيها.

–         لكنكم اعترفتم بقرارات مجلس الأمن الدولي…ومنها قرار 242 الذي ينص على انسحابكم من الأراضي التي احتللتموها.

–         مشكلتكم أنتم العرب أنكم لا تفهمون ما تقرأون…حسب قرار 242 لن ننسحب من شبر واحد من أرض اسرائيل…وأنا هنا لست صاحب قرار سياسي….ولا أحبّ النقاشات السياسية…مطلوب منّي أن أحقق معك…وأن أنتزع اعترافات منك..فإن تجاوبت معي فهذا لمصلحتك، وإن لم تستجب فهناك من يعرفون كيف يجبرونك على الاستجابة وأنت صاغر…أمّا أنا فقد عاهدت نفسي أن لا أمارس العنف مع أحد مهما كانت جنايته…فماذا تقول؟

–         ما أردتُ قولَه قلتُه…ولا شيء آخر عندي.

يبدو أن عقلك لا يسعفك…أنا سأرفع يدي عنك وسأترك الأمر لغيري.

خرج المحقق من الغرفة…وبعد دقائق دخل شرطي…قيّد يدي الأستاذ داود خلفه…واقتاده الى الزنزانة….فكّ قيده ودفعه فيها…استلقى الأستاذ على البطانية القذرة…وقد أنهكه التفكير….كان قلقا على خليل…لكنّ ثقته به لم تتزعزع.

في ساعات الصباح الأولى فتح شرطي باب الزنزانة…طرح تحية الصباح…قيّد يدي الأستاذ الى الخلف…عصب عينيه واقتاده بأدب…ألقاه في سيارة فيها آخرون…سارت السيارة حوالي نصف ساعة…فكّوا قيود من فيها، كانوا ستة أشخاص وقرأ ضابط عليهم قرارا من وزير الدفاع يقضي بإبعادهم الى الأردن…كانوا على حافة جسر اللنبي الغربية…أشار اليهم ضابط بالتوجه شرقا بينما كان عدد من الجنود يصوبون أسلحتهم باتجاههم…مصوّر التلفاز الإسارئيلي يصوّر اللحظات الأخيرة…التفت الأستاذ داود الى الضابط وقال:-

سنعود رغما عن أنوفكم والأيام بيننا.

كانت الصدمة كبيرة على المبعدين، فأن تترك زوجتك وأبناءك ووالديك وذويك، وملاعب الصّبا في الوطن، وتجد نفسك في أرض أخرى لا تملك إلّا ملابسك التي ترتديها أمر ليس هيّنا على المرء، ويصعب تقبله، كما كانت كبيرة على زوجاتهم وأطفالهم ووالديهم وذويهم.

في الضفة الشرقية من النهر، استقبلهم موقع عسكري أردني…قدموا لهم القهوة والشاي…وطعام الفطور….لم تكن لهم شهيّة لتناول الطعام …احتسوا القهوة والشاي، وأقلتهم سيارة عسكرية إلى عمّان، حيث استقبلهم وزير الداخلية، وعقد بصحبتهم مؤتمرا صحفيا استنكر فيه عمليات الإبعاد، واعتبرها مخالفة واضحة للوائح حقوق الإنسان، ولاتفاقات جنيف الرابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت احتلال عسكري، كما أنها مخالفة للقانون الدولي. وردّا على سؤال لأحد الصحفيين حول تعرضهم للتعذيب، أجاب الأستاذ داود:-

تعرضنا للضرب أثناء اعتقالنا من بيوتنا وحتى وصولنا لمركز التحقيق، وهناك وضعونا في زنزانة نتنة كريهة الرائحة، ولم نتعرض لتعذيب جسدي بل الى تعذيب نفسي، وتهديدات بالتعذيب والتصفية، وهذا لا يعني أنهم لا يعذبون، لكن يبدو أن قرار إبعادنا كان جاهزا…ونفّذوه قبل الخامس من حزيران ومرور عام على وقوعنا تحت الاحتلال بيوم واحد، وهم يخافون من حملات إعلامية مضادّة إن كانت علامات تعذيب على أجسامنا ظاهرة للعيان.

نشرت محطات الإذاعة المختلفة خبر الابعاد…فهرع الأهالي الى بيوت المبعدين…ليعلنوا تضامنهم مع أسرهم، وكان أبو سالم أول من وصل الى بيت الأستاذ داود، وفي اليوم التالي في 5 حزيران عمّ الاضراب العام كافة المناطق المحتلة، كما اندلعت مظاهرات في مختلف المدن والمخيمات…قمعها جيش الاحتلال بالهراوات وبالغاز المسيل للدموع، واعتقل مئات الأشخاص.

****************************

في صباح اليوم الثالث لاعتقاله، اقتادوا “خليل” للتحقيق، عندما فتح الشرطي باب الزنزانة شعر خليل وكأن نسيم الصباح يضحك له، كما شعر بالهواء الكريه يندفع خارجا، كان الجوّ حارقا في الخارج، بينما كانت الزنزانة خانقة، عبّأ رئتيه بالهواء النقيّ من خلال الشهيق المتواصل بشكل عفوي….فجسمه بحاجة الى الأكسجين…أدخلوه غرفة ينتظره فيها محقق…يبدو في الأربعينات من عمره…ربع القامة….أشقر البشرة….عيناه زرقاوتان….الشيب يتسلل الى صدغيه، ويضع نظارات طبية. طلب من خليل أن يجلس على الكرسي قبالته، تصفح ملفا أمامه وقال اسمي أبو تامر وسأل:-

ما اسمك؟

–         خليل منصور.

–         تاريخ ميلادك؟

–         8 نيسان 1949.

–         ماذا تعمل؟

–         أنا لا  أزال طالبا…أدرس سنة أولى في كلية بير زيت.

–         لماذا يدك مقطوعة؟

–         وما شأنك بيدي؟

–         عليك أن تجيب لا أن تسأل…هل تفهم؟ لماذا يدك مقطوعة؟

–         وقغت عليها وأنا في الخامسة من عمري، وتضاعفت حالتي حتى قطعت يدي.

–         منذ حرب الأيام الستة وحتى الآن…ماذا عملت خلال هذا العام؟

–         قلت لك بأنني طالب في كلية بير زيت.

–         من هم أصدقاؤك؟

–         لا أصدقاء لي.

–         وهل يُعقل ذلك؟

–         ولماذا لا يعقل؟

–         قلت لك أجب ولا تسأل.

–         من هم أصدقاؤك؟

–         لي صديقة انجليزية اسمها ستيفاني.

ابتسم المحقق وقال:- أعلم ذلك…أنا أسألك عن صديقاتك وأصدقائك العرب؟

–         أمّي وأبي.

–         وغيرهما….من هم أصدقاؤك؟

–         قلت لك أمّي وأبي.

–         لا تتظاهر بالغباء….لك أصدقاء آخرون …من هم؟

–         هذا غير صحيح.

–         ما علاقتك بالأساتذة داود وفؤاد ومحمد؟

–         أبناء قريتي.

–         أعلم أنهم أبناء قريتك…وأسألك عن علاقتك بهم؟

–         لا يوجد لي علاقة بهم.

–         لماذا كنت في بيت الأستاذ داود قبل ثلاثة أيام؟

–         لم أكن في بيته.

–         أنت تكذب…كنتَ في بيته…وخرجت برزمة منشورات تحريضية، قمت بتوزيعها في شوارع وطرقات البلدة….وقد اعترف الأستاذ داود بذلك كما اعترف زميلك الذي كان معك.

–         هذا غير صحيح.

أخرج المحقق منشورا من الملف ودفعه الى خليل قائلا:- هذا هو المنشور الذي وزعتموه…انظر اليه وتأكد أنّه هو.

لم يلمس خليل المنشور وبقي صامتا….دخل شابّان مفتولي العضلات، واحد منهما يحمل عصا لبّاديّة سميكة، والثاني يحمل سلكا كهربائيا مغطى بالبلاستيك …طوله حوالي متر وسمكه سنتمتر واحد. ووقفا خلف خليل…لم يتكلما شيئا….فقال المحقق لخليل:-

أنصحك بأن تتكلم صدقا وإلّا……لم يتحرك خليل من مكانه، ولم يقل شيئا…فعاد المحقق وسأل من جديد:- من هم أصدقاؤك؟

–         قلت لك لا أصدقاء لي غير أمّي وأبي.

–         وأنا قلت لك إن لم تجب بصدق فستتحمل عواقب كذبك….على كل زوجتي في المستشفى…ولا وقت لديّ…أريد زيارتها للاطمئنان عليها…وخرج..

ما أن خرج المحقق من الغرفة حتى انهال الشابان على خليل ضربا، ضرباه بأيديهما وركلاه بأرجلهما، وعندما سقط أرضا ضرباه بالعصا اللباديّة وبالسلك الكهربائي…خليل يتلوى ويصرخ ألما…وكلما ازداد صراخه…كلما ازداد الضرب عنفا، وازدادا ضحكا وقهقهة….كانا يضربان دون أن يسألا شيئا…فقط يضربان من أجل الضرب….لم يعرف خليل كم مضى من الوقت عليه وهما يضربانه،…لكنه صحا عليهما وهما يسكبان ماء باردا على وجهه لإعادته الى وعيه بعد أن سقط مغمى عليه…عاد الى وعيه منهكا…لا يقوى على الحراك…واذا بالمحقق أبي تامر الذي كان يراقب من غرفة مجاورة، حيث كانت الكاميرات تنقل له ما يجري على شاشة تلفزيونية، يدخل الغرفة…رأى خليلا ممددا متورم الوجه فصاح بهما:-

ماذا تفعلان بهذا الأكتع المسكين؟ من أمركما بضربه؟ أنا لا أسمح بهذا، وسأحاسبكما على عملكما الشنيع هذا…انصرفا من هنا أيها المجرمان….انحنى فوق خليل…أمسك بيده…حاول مساعدته على النهوض، فنهض خليل متثاقلا…كانت دقات قلبه متسارعة…ويلهث بطريقة مقلقة…أجلسه على الكرسي، وطلب له كأس ليمون، وكأس شاي وساندويتش….وقال:-

كان العرب أيام زمان(يشترون النصيحة بجمل) وأنا قدمت لك نصيحة مجانية، بأن تقول الصدق كي تعود الى بيتك معززا مكرما، لكنك رفضت…وحتى الآن لم تشاهد شيئا….ومن حسن حظك أنني عدت بسرعة، وإلّا فلا أحد غير الله يعلم ماذا كان سيحلّ بك…اشرب الليمون والشاي…وكل الساندويتش كي تتعافى.

نظر خليل اليه باحتقار…لم تنطل عليه حركاته، وتعجب من غروره…فهل يُعقل أن يصل به الغرور الى درجة استغباء من يحقق معهم…أم هو جنون القوّة؟ شرب خليل كأس الليمون فقد كان فمه جافا…شربه دفعة واحدة وهو يئن….لكنه رفض تناول الشاي والساندويتش…..لم يتوقف لهاث خليل، ولم يعد قادرا على الجلوس…فسقط من على الكرسي أرضا…تقيّأ وازداد أنينه…خرج المحقق من الغرفة…وطلب من شرطي أن يضع خليلا في زنزانة فيها تهوية، وأن يقدم له طعاما وماء…فوضعه الصحيّ مقلق، ولا نريده أن يموت عندنا.

تمدّد خليل على “البورش” وغفا مرغما…فقد أنهكه السهر والقلق في اليومين الماضيين، فزاده ما تعرض له من ضرب اعياء…نام نوما عميقا لم يعكر صفوه سوى الشيخ أبيض الملابس واللحية، فقد جاءه زائرا بعد غياب طويل…جلس أمامه مبتسما وقال:-

“ما النصر إلّا صبر ساعة”قالها واختفى…وكان في ذلك شحنة قوية لدعم صمود خليل…في ساعات المساء جاءه شرطي…قدم له قطعة خبز وقليل من المربّى..لم يلمسها خليل…كان يئنّ ويرتعد جرّاء حرارة جسمه المرتفعة…أكثر من شرب الماء الذي كان يخرج من جسمه عرقا…قاده الشرطي الى مكاتب التحقيق…أوقفه أمام شاحط دَرَجٍ لا دَرَجَ عليه…دفعه من الخلف فتزحلق حتى نهاية الدَّرَجِ…لم يستطع النهوض، وبقي يئن مكانه…نظر حواليه فوجد نفسه في قاعة كبيرة…نورها خافت…جدرانها وسقفها بدون”قصارة”فيها نعجة معلقة بكلّاب من فكّيها السفليين…أمامها رجلان يحملان السكاكين والبلطات…أجسامهم ضخمة…ملابسهم قذرة….وعلى مقربة منهما طاولة عليها هيكل عظمي لإنسان…لم يتبين إن كان الهيكل العظمي والنعجة دُمى أم حقيقة…تقدم منه أحدهما…أمسك بيده وسحبه بقوّة دون كلام…فوجد نفسه يقف مرتعدا، تقدم منه الآخر شاهرا البلطة يريد أن يهوي بها على رأسه…وفجأة ظهر المحقق أبو تامر…وقف بينه وبينهما…وصاحب البلطة يحاول التقدم باتجاه رأس خليل، إلّا أن المحقق حال دون ذلك، ومع ذلك هوى بظهر البلطة على رأس خليل…فشجّ رأسه وسالت الدماء منه…أمسك المحقق بخليل وهرب به باتجاه بيت درج آخر وخرج به…وهو يسأل:-

من أتى بك الى هؤلاء؟ إنهم لا يعرفون إلّا القتل والسلخ…وأنت محظوظ لأنني جئتك في الوقت المناسب وأنقذتك من بين أيديهم….أخذه إلى غرفة التحقيق…ولاحظ لهاثة المتزايد وجسده المرتجف…فقال له:-

يبدو أن برد صيف هذا العام ثقيل جدا، أراك ترتجف…هل تريد تدفئة؟ ازداد أنين خليل…شعر بأسى شديد، وتذكر ما قاله له الشيخ ذو الملابس واللحية البيضاء فازداد عزيمة…لاحظ المحقق العرق المتصبب من جسد خليل…تقدّم منه ووضع يده على جبينه…فتأكد أنه يعاني من ارتفاع حرارة جسمه، وهذا سبب ارتجافه….واعتبرها فرصته كي يضغط عليه لانتزاع اعتراف منه…أحضر كأس ماء بارد وقدّمه لخليل…وقال:-

لا أريدك أن تموت يا خليل…ولا تغترّ بقدراتك…فأنت شاب ضعيف البنية ولا قدرة لك على الاحتمال…أنت بيد واحدة، وأخشى أن يكسروا يدك الأخرى، أو أن يقطعوها…وبعدها ماذا ستستفيد من فلسطين؟ أو ماذا ستستفيد فلسطين من شخص بلا يدين…أعلم أنك انسان مضلل…وأعلم أن هناك أشخاصا استغلّوك ليحققوا مكاسب شخصية على ظهرك، وهذا أمر لا يقبله عاقل مثلك…ساعدني حتى أساعدك…وأنا أعلم أنك انسان ذكيّ وتدرك الأمور جيدا…قل لي من أصدقاؤك؟ وعد الى بيتك الآن….هل هذا صعب عليك؟

لم يجبه خليل…ولم يعره انتباها….تركه المحقق وخرج من الغرفة…دخل عليه الشابان اللذان ضرباه في ساعات الصباح…أمسك واحد منهما بيده…وضع السلك الكهربائي بين أصابعه…وهوى الآخر بضربة قوية عليها…صرخ خليل من شدّة الألم…وشعر أن كل عقدة من أصابع يده قد انفلتت من مكانها…ولم يعد يسيطر على حركة أصابعه وكفّ يده…تركاه وانصرفا دون كلام…فجاء شرطي وأعاده الى زنزانة أخرى…فيها شخصان عربيان ملتحيان…وجدهما يصليّان ويدعوان الله بالفرج القريب…استقبلاه بترحاب زائد…تعاطفا معه…وأبديا حزنهما عليه…وعندما أراد أن يقضي حاجته لم يستطع حلّ بنطاله، فهو لم يعد قادرا على التحكم بأصابعه التي تؤلمه كثيرا…تقدم منه أحدهما وحلّ له البنطال وأدخله الى الحمّام، وهكذا فعل عندما انتهى…جلسا واحد عن يمينه، والثاني عن يساره فقال أحدهما:-

أهلا يا بطل…نحن فخورون بأمثالك الذين يصمدون أمام المحقق….وكي يطمئن ثوارنا وأهلك في الخارج، فإننا نطلب منك أن تزودنا بالمعلومات الكافية عنك..فإلى أيّ تنظيم تنتمي؟ ومن معك في التنظيم؟ ومن جنّدك في هذا التنظيم؟ وما هي الأعمال التي قمتم بها؟…نريد هذه المعلومات كي نهربها بطريقتنا الخاصة الى الخارج، كي يأخذوا احتياطاتهم.

نظر خليل إليهما ونهشته الوساوس حول أسئلتهما فقال بهدوء تام:-

–         أنا لا أعرف شيئا ممّا تقولانه…فماذا تقصدون بالتنظيمات وغيرها؟

–         نقصد هل أنت مع فتح أم مع الجبهة أم مع الحزب؟

–         لا مع هذا ولا مع ذاك…أنا مع دراستي.

انتفض الآخر من مكانه يريد استفزاز خليل فقال:-

إذا أنت مدسوس على المناضلين…أنت جاسوس…أشفقنا عليك وساعدناك كي تدخل الحمام، ظنّا منّا بأنّك مناضل، وهذا ما تقابلنا به؟ يا للعجب.

ابتسم خليل رغم حرارة جسده المرتفعة….ولم يتكلم….فسأله أحدهما:-

هل تضحك علينا أيها الأكتع الجاسوس؟

لم يجب خليل….لكنه كان يغفو ويستيقظ تحت تأثير ارتفاع حرارته…فقال أحدهما لزميله:-

يبدو أنه مريض فعلا…اعطه حبتي دواء لتخفيف حرارته…وبعدها سيكون لنا معه شأن آخر إن لم يعترف لنا بكل شيء….تناول خليل حبتي الدواء ونام….استيقظ في ساعات الصباح على ضربات الشرطة على الباب….لقد جاء اثنان منهما لتعداد المعتقلين…وقف خليل وعاد الى فراشه بسرعة….فقال أحدهما للشرطيين:-

إنه مريض وعندما يتعافى سنحصل منه على المعلومات المطلوبة كلها…وإن لم يتجاوب معنا فسيندم على اليوم الذي ولدته أمّه فيه…كان خليل يتظاهر بالنّوم لكنه سمع كلّ شيء…فتيقن بأنهما جاسوسان يحاولان الايقاع به….تقدما منه…وضع أحدهما يده على جبينه يتحسّس حرارته…فوجدها قد انخفضت…وطلب منه أن يتناول افطاره كي يساعده على الصمود…أكل خليل وذهب لقضاء حاجته…ساعده أحدهما على حلّ البنطال…كما فتح له صنبور الماء كي يشرب…فعل ذلك وهو يشتم اليهود ويشتم الاحتلال…ويشتم اليوم الذي وقعنا فيه تحت الاحتلال…يشتم ويحوقل ليوهم خليل بأنه ضحية مثله، وأنه متعاطف معه.

عندما عاد خليل الى مكانه…قاما وتوضأ كلّ منهما، وأقام أحدهما الصلاة في حين وقف الثاني إماما…وقبل تكبيرة الاحرام التفت(الإمام) الى خليل وسأل:-

لماذا لا تقوم للصلاة يا أخي الكريم؟ إذا أردت سأساعدك على الوضوء.

فردّ خليل عليه:-

أنا لا أصلي…

فقال “الإمام”:-هداك الله يا أخي …فالصلاة عمود الدّين.

صلّيا وسبّحا ودعيا الله بأن يفرّج الكرب، وبأن ينصر الاسلام والمسلمين…ورفع أحدهما صوته داعيا:-

اللهم يا الله فرّج كرب أخينا خليل منصور…اللهم اشف يده الوحيدة يا الله، واكلأه بعين رعايتك…اللهم إننا نحمدك ونشكرك بأن سخرتنا لخدمته، لا نريد إلا رحمتك ورضاك يا ربّ العالمين….تمتم ومسح وجهه بيديه وهو يردّد: آمين…آمين يا رحمن يا رحيم….

وعلى “برشه” كان خليل يدعو الله في سرّه قائلا:- اللهم احمني من شرور هذين الخائنين…اللهم إنك تعلم أن (كلب الشيخ أوسخ من الشيخ).

جلسا بجانب خليل وقال كبيرهم:- اعطنا معلومات عنك وعن نضالاتك…كي نطمئن اخوتنا ورفاقنا في الخارج…وكي يتحققوا من أن موقفك مشرف.

فردّ عليهم بهدوء:- إن كانت لكما اتصالات مع الخارج، فأوصلا خبرا لوالدي بأنّني بخير…وأن لا شيء عندي…وما أنا معتقل إلّا لمجرّد شبهة غير صحيحة…وبعد أيام

سيطلقون سراحي ولا داعي للقلق عليّ.

فصاح به أحدهما:- ومن لا يقلق في أوضاع كهذه؟ هل أنت مجنون أم جاسوس؟

التفت اليه خليل ولم يجب، فازداد الرجل صراخا وأمسك بيد خليل، وأخذ يضغط على أصابع يده…صرخ خليل من شدّة الألم…تلوّى مكانه…وتحيّن الفرصة ورفع قدمه وضربه بها على وجهه بقوة، دافعا إياه الى الحائط المقابل…نزلت الدماء من أنفه…فعاد الى خليل وهجم عليه بشراسة…في حين أخذ الشخص الآخر دور العاقل، فأمسك بزميله وهو يردد:-

وحّد الله يا محمد…فصاحبنا مناضل طيّب…وليس جاسوسا كما تتوهم…وسيثبت لنا الآن أنه مناضل أكثر مني ومنك…والتفت الى خليل سائلا:-

أليس كذلك يا خليل؟….فلم يرد خليل. واذا بالشرطي يفتح الزنزانة ويقتاد خليلا وهو يتغامز مع الرجلين.

وجد خليل أمامه محققا جديدا…ما أن رأى خليلا حتى صاح به مستهزئا:-

هل أنت خليل الأكتع؟

نظر خليل اليه ولم يتكلم فصاح به:- لا وقت لديّ…ولا رحمة عندي لأحد…أريد إجابات صادقة على كلّ سؤال، واذا لم تجب فأنا لا أحبّ تعذيب الآخرين…رصاصة واحدة تكفي…وكلب آخر يذهب الى الجحيم…أخرج مسدسا ووضعه أمامه على الطاولة وسأل:-

من هم أصدقاؤك أيها الأكتع؟

ردّ خليل بهدوء:- أمّي وأبي.

صاح المحقق وهو يصفع وجه خليل بقوة:- يا ابن الشرمو…………هل تستهزئ بي؟ أسألك من أصدقاؤك؟

لم يتكلم خليل…..فحمل المحقق المسدس وصوبه إلى جبين خليل وسأل:-

ماذا فعلت مساء الاثنين الماضي في بيت الاستاذ داود؟

–         لم أكن في بيته.

لطمه بكعب المسدس على أمّ رأسه وهو يصرخ:- كيف لم تكن في بيته وهو من أخبرنا بذلك؟ كما أن صديقك الذي وزع المنشورات معك أخبرنا بذلك.

–         قلت لك بأن هذا الكلام غير صحيح.

–         هل أنت على استعداد لمواجهة الأستاذ داود وتكذيبه؟

–         نعم أنا على استعداد.

–         أنا خارج الآن لإحضاره….خرج من الغرفة وذهب الى غرفة مجاورة وأخذ يراقب حركات خليل….أسند خليل رأسه الى الحائط الذي على يمينه…أغمض عينيه وتظاهر بالنوم…لكنه غفا حقيقة، فقد كان مرهقا…وعندما تأكّد المحقق من ذلك طلب من شرطي أن يأخذه الى زنزانة صغيرة…ففعل.

بعد ساعات من مكوثه في الزنزانة…لم يستطع شرب الماء…ولم يستطع افراغ مثانته…فهو لا يتحكم بحركة أصابع يده التي تؤلمه كثيرا…اقترب من باب الزنزانة وأخذ يركل بابها بقدمه اليمنى ويصرخ بأعلى صوته….جاءه شرطي…فتح نافذة باب الزنزانة الصغيرة وصاح به:- اخرس…لماذا تصرخ وتضرب الباب؟

–         أريد أن أفرغ مثانتي.

–          ومن يمنعك من ذلك…افرغ مثانتك….قالها وأغلق النافذة وانصرف….فعاد خليل يضرب الباب ويصرخ من جديد…كان يتلوّى على نفسه محاولا حبس البول حتى يأتي من يساعده على حلّ بنطاله….تلوّى وتلوّى وتألم حتى نفذ صبره…وانطلق البول خارجا يبلل رجليه وبنطاله…وينساب على أرض الزنزانة كأفعى…ينساب على نفس المكان الذي يجلس خليل وينام عليه….بقي واقفا….سقطت الدّموع من عينيه ثأرا لكرامته المهدورة…لكنه شعر بأنّه انتصر، وقال في نفسه:(بيت الظالمين خراب) وهذه بلاد مقدسة(لا يُعمّر فيها ظالم).

لم يتناول طعام الغداء على رداءته ولا طعام العشاء…فقد كان خائفا من كيفية قضاء الحاجة…فارتأى أن لا خيار أمامه سوى الامتناع عن تناول الطعام.

في صباح اليوم التالي اصطحبه شرطي الى غرفة التحقيق..أبدى تقززه من رائحة خليل الكريهة..أخبره خليل بأنه يريد قضاء حاجته..فردّ عليه الشرطي:-

ومن يمنعك؟ ولماذا تطلب مني ذلك؟ ألم تشاهد الدلو المخصص لذلك في زنزانتك؟

فأجابه خليل بأنه لا يقوى على حلّ بنطاله….فصاح به الشرطي قائلا:-

وهل تحسبني baby sitter “مربية أطفال” أيها القذر؟

أدخله الشرطي الى غرفة التحقيق فصاح خليل بأنه يريد قضاء حاجته، وأنه لا يقوى على حلّ بنطاله…فطلب المحقق من الشرطي أن يعيده الى غرفة فيها”مخربون” كي يساعدوه على حلّ بنطاله…وأوصاه بأن ينتظره كي يعيده الى غرفة التحقيق دون أن يسمح له بالحديث مع أحد.

في غرفة التحقيق أخبره المحقق أن قاضي محكمة الصلح قرّر توقيفه أسبوعا آخر على ذمّة التحقيق…ولوّح له بقرار المحكمة…ووضعه في الملف…ثم قال:-

هل يعجبك يا خليل ما أنت فيه؟ هل تشمّ رائحتك النتنة؟ ألا تريد أن تريحنا وأن تستريح؟…أجب على الأسئلة وأنا أعدك بالافراج عنك فورا.

لماذا كنت في بيت الأستاذ داود قبل اعتقالك بيوم؟

–         لم أكن في بيته؟

–         بل كنت في بيته وهو من زوّدك بالمنشورات التحريضية.

–         هذا غير صحيح.

–         بل صحيح 100%.

–         وأنا أقول لك بأنه كذب 200%.

دعنا من هذا الموضوع وأخبرني من هم أصدقاؤك في كلية بير زيت؟

–         لا أصدقاء لي.

أيعقل أن تدرس عاما كاملا في كلية وأن لا تتخذ صديقا فيها؟

–         قد يعيش المرء عمره دون أن يكون له صديق.

–         من هم أقرب زملائك إليك؟

–         جميع الطلبة.

–         ما هي أسماؤهم؟

–          سجل أسماء الطلبة جميعهم.

احتدّ المحقق وسأل:- أيّ المعلمين في الكلية قريب الى قلبك؟

–         جميعهم.

–         هل أفهم من كلامك أن لا أصدقاء لك  سوى ستيفاني تلك الفتاة الانجليزية.

–          نعم.

–         ما مدى علاقتك بها؟

–         هذه أمور خاصة لا تعني أحدا سواي.

–         سأشيع في قريتك وأخبرهم بأنك داعر تمارس الدعارة مع فتاة انجليزية.

ردّ خليل دون مبالاة:- اذهب الآن وأخبرهم.

–         هل تتحدّاني؟

–         أنا لا أتحدى أحدا.

اسمعني جيدا قال المحقق…يبدو أنّك لا تفهم مصلحتك…إن لم تجبني بصدق فستبقى على هذا الحال الى أن تموت.

–         لقد أجبتك بصدق.

–         أنت تكذب في كلّ شيء…قالها وخرج من الغرفة…فدخل ثلاثة شباب مفتولي العضلات وانهالوا على خليل ضربا وركلا….ولم يصحُ على نفسه إلا وهو متكوّر على نفسه في زنزانة يئن من شدّة الألم.

تركوه في الزنزانة ووضعوا معه سجينا عربيا جنائيا اسمه فايز….اعتقلوه بعد أن ضبطوه متلبسا بسرقة محلّ تجاري في شارع يافا…أشفق السجين الجنائي على خليل وساعده في كلّ شيء…ساعده في تناول طعامه وشُربِ مائه…كما ساعده في حلّ بنطاله عند قضاء الحاجة….بل إنه بكى حزنا على حالة خليل….بقيا ثلاثة أيام دون أن يستدعي المحقق خليلا، لم ينغّص وجودهما سوى سماع أصوات رجال ونساء يبكون تحت التعذيب…وأصوات معذبيهم وهم يصرخون بهم طالبين منهم الاعتراف….فقال فايز لخليل:-

إنّ هذه الأصوات مسجلة على اسطوانة…رأيتهم يشغلونها عندما أوقفوني أمام مكتبهم لمدّة ساعتين قبل اسبوع…إنهم يريدون تحطيم المعتقلين الأمنيين نفسيا…فلا تسأل عنهم.

ابتسم خليل لفايز، وحزن عليه في سرّه كونه يلجأ الى السرقة والمخدرات….لكنه كان واثقا من صدقه فقال له:-

عندما تخرج أريدك أن تذهب الى أهلي في جبل المكبر، وأن تخبرهم بأنّني بخير، وقل لهم بأن يوكلوا لي محاميا- لم يكن يعلم بأنهم قد أوكلوا له محاميا منذ اليوم الثاني لاعتقاله، لكنهم لم يسمحوا لمحاميه بلقائه بحجة عدم انتهاء التحقيق-.

استدعوا خليلا للتحقيق…ولم يكن هناك جديد…. الأسئلة نفسها والأجوبة نفسها والتعذيب نفسه…لكنه أقلّ قسوة …وبعد مرور سبعة عشر يوما أخرجوا “خليل” الى محكمة الصلح لتجديد توقيفه…وجد محاميته فليتسيا لانجر في انتظاره أمام قاعة المحكمة…لم يستطع مصافحتها لأنّ كفّ يده وأصابعها تؤلمه…شاهدت أصابعه متورمة، وأنه لا يستطيع تحريكها… وشاهدت آثار الضرب على وجهه وظهره وصدره وبطنه، فأبدت حزنها على ذلك وقالت له:-

لا تقل لهم شيئا غير ما قلت.

فقال لها:- لم أقل لهم شيئا.

فردّت عليه:- ممتاز…ستتحرر قريبا.

دخلا الى قاعة المحكمة فتكلم المدعي العام وقال:-

سيّدي القاضي هذا مخرب شرس، قام بأعمال تخريبية وأزهق أرواحا، وسيواجه عقوبة الصلب، وبما أنه لا يوجد في اسرائيل عقوبة الاعدام، فسيواجه السجن مدى الحياة…وأطالب بتمديد توقيفه خمسة عشر يوما حتى استكمال التحقيق معه.

وتكلمت محامية الدفاع بعد أن سمح لها القاضي فقالت:-

سيّدي القاضي…ما قاله زميلي المدعي العام ليس صحيحا، فلم توجه تهمة القتل لموكلي، وهو يتعرض لتعذيب قاس، انظر الى يده الوحيده…تقدمت الى خليل وأمسكت بيده من المرفق ورفعتها…كما رفعت قميصه ليرى القاضي جسمه…انني أطالب بالافراج عن موكلي تحت الكفالة، حتى يوم المحكمة إن كانت هناك تهمة…كما أطالب بعرضه على طبيب فورا وبوقف تعذيبه.

فرد المدعي العام قائلا:- هؤلاء المخربون هم من يعذبون بعضهم بعضا، لتظهر آثار التعذيب عليهم لتشويه ديموقراطيتنا التي يشهد بها العالم أجمع.

فصاحت به المحامية كي يتوقف عن هذه الأكاذيب….غير أن القاضي أنهى الجلسة بتوقيف خليل خمسة عشر يوما أخرى.

اقتادوه من قاعة المحكمة مقيدا الى غرفة التحقيق، شعر بنوع من الراحة بعد لقاء محاميته، سأله المحقق عمّن أوكل له المحامية لانجر؟ فأجابه:-

أبي.

–         ومن أين يعرفها أبوك؟

–         لا أعلم.

–         هل تعرفها من قبل؟

–         لا.

–         وهل تعرف أنها يهودية شيوعية؟

–         لا يهمني ذلك.

–         هذه المحامية تهاجم الحكومة…ودفاعها عن موكليها يجلب لهم أحكاما عالية، ونحن على استعداد أن نوكل لك محاميا عربيا بدون مقابل إذا ألغيت وكالتك لهذه المحامية الشيوعية.

لم تنطل الخديعة على خليل، بل زادته اصرارا على التمسك بالمحامية لانجر، فرد على المحقق قائلا:-

سأبقى على المحامية التي اختارها أبي لي.

–         لكن هذا ليس في مصلحتك.

–         وأنا لا أستطيع مخالفة رأي أبي.

–         ماذا قالت لك المحامية؟

–         ما قالته مسجل في ملفات المحكمة.

–         ألم تقل لك لا تعترف لهم بشيء؟

–         لم تقل.

–         الشرطي سمعها….على كلٍّ هي ضرّتك وستضرّ بك ولن تنفعك…فهي لا تعاني مثلك….ما علينا…ألا تريد أن تقول لنا الحقيقة؟

–         قلت لكم الصدق…لكنكم ترفضون التصديق.

–         أنت تكذب…ونحن نعرف أنك تكذب…ونعرف عنك كلّ شيء.

–         إذا لماذا تسألونني ما دمتم تعرفون كلّ شيء؟

–         نريد اعترافك الشخصي.

–         ما أعرفه قلته لكم.

–         لكنك لم تقل شيئا.

–         بل قلت كلّ ما أعرفه.

–         أأفهم من هذا أنك مُصرّ على أن تبقى على عنادك؟ وهذا سيكلفك ثمنا غاليا…وإذا ما تركتك الآن…فالله وحده من يعلم بالذي سيجري لك.

–         أنا لست عنيدا لكنكم أنتم لا تصدقون.

صاح المحقق:- أنت أحمق…لا وقت لديّ كي أضيعه معك…أنا  ذاهب لأعمالي ولا ردّك الله.

بقي خليل في غرفة التحقيق قلقا خائفا…تذكر والديه، واستذكر حنان والدته الجارف…فدمعت عيناه عندما تذكر دموع والدته التي تنهمر عندما يصيب أحد أبنائها أيّ سوء مهما كان بسيطا…وتمنى لو يستطيع أن يراها كي يطمئنها عليه…ودارت في ذاكرته لقاءاته باستيفاني صديقته الانجليزية….استذكر أيامه في المدرسة وكلية بير زيت، وفجأة دخل عليه ثلاثة رجال يتطاير الشرر من عيونهم، أحدهم يحمل حبلا، والثاني يحمل أسلاكا كهربائية، قاموا بتعرية خليل، لم يتركوا من ملابسه سوى سرواله الداخلي، أجلسوه على كرسي معدني، لفّوا الحبل على جسده، وثبتوه على الكرسي، أدخلوا الأسلاك في”ابريز”الكهرباء، ثبتوا في رأس الأسلاك الخارجي ما يشبه سماعة الطبيب التي يفحص بها المرضى…اقترب منه أحدهم وقال:-

أمامك دقيقة واحدة عليك أن تعترف خلالها بكل شيء، وإلّا سنصعقك بالتيار الكهربائي لتموت أو لتصاب بالجنون، وفي كلتا الحالتين سنرتاح منك، ونحن جادون بما نقول، وسأريك تجربة بسيطة لتتأكد من أننا جادون فيما قلته لك، أمسك بطرف السلك الكهربائي ولمس به ساق خليل اليمنى….انتفض خليل وصرخ من شدة الألم، فقد سرى التيار الكهربائي في جسده…تعالت ضحكاتهم الهستيرية القبيحة…تقدم أحدهم منه وقال:-

تكلم وإلّا سنواصل…لم يتكلم شيئا…تلوى ألما فانقلب به الكرسي، فتعالت ضحكاتهم من جديد، لم يتكلم شيئا….  رفعوه والكرسي لحالة الجلوس….دخل شخص نحيف طويل القامة كريه المنظر،، يرتدي مريولا أبيض، ويضع على رقبته سماعة طبيب، رحبّوا به، وقال أحدهم له بالعربية:-

لو سمحت يا دكتور حدّد لنا مكان قلب هذا المخرب حتى  نصعقه بالكهرباء مرّة واحدة، ليموت ونرتاح منه ونريحه، فنحن لا نحب التعذيب.

تقدّم الرجل من خليل باسما، أخرج من جيبه قلما…وضع السماعة على صدر خليل من الجهة اليسرى، ثم رسم دائرة بالقلم وهو يقول:- القلب تحت هذه الدائرة تماما، ثم فعل نفس الشيء من الخلف على ظهر خليل، وقبل أن ينصرف قال:-

أنا كطبيب واجبي الانساني يحتم عليّ أن أحافظ على حياة البشر، وبهذا أستأذنكم بأن تعطوا هذا المسكين فرصة كي يعطيكم ما تريدونه منه حفاظا على حياته بدلا من أن تقتلوه، فمن حقه أن يعيش….وتقدم من خليل وقال:-

أنا أكفل بأن يطلقوا سراحك فورا إذا أجبت على أسئلتهم بصدق، وسأقدم لك العلاج اللازم، وسأوصلك بسيارتي الى بيتك.

لم يتكلم خليل شيئا، ورغم ألمه الشديد، فقد كان على قناعة تامة بأنه أمام تمثيلية تراجيدية، البطل الضحية فيها هو نفسه، وحديثهم بالعربية أكد له ذلك، وأن في انتظاره وجبة جديدة من التعذيب لا يعلم إلّا الله متى ستنتهي؟ وكيف؟ لكنه لا يزال مصرا بأن لا خيار أمامه سوى الصبر والصمود في هذه المحنة القاسية، ولتكن النتائج ما تكون، وما الحياة إلّا رحلة قصيرة نهايتها الموت.

تقدم منه الرجل الذي يزعم أنه طبيب وسأل:-

ماذا قلت يا فتى؟

لم أقل شيئا قال خليل بانكسار وضعف.

–         أعلم أنك لم تقل شيئا…ولكنني أنصحك بأن تقول ما عندك كي تنقذ حياتك.

–         لقد قلت ما عندي لكنكم لا تصدقون.

–         أنت تكذب…وأنصحك مرّة أخرى بأن تقول الصدق قبل أن أخرج من هنا، فلم تعد لك خيارات…فأنت أمام طريقين قصيرين جدا، واحد يوصلك الى النجاة، والثاني الى الموت، فأيهما تختار؟

نظر اليه خليل نظرة ازدراء ولم يقل شيئا…..خرج الرجل متظاهرا بالغضب فتقدم أحدهم من خليل… عصب عينيه وهو يقول:-

لا أريدك أن ترى كيف ستموت فهذا حرام.

رغم آلام خليل الجسدية والنفسية إلّا أنه تساءل في سرّه إذا ما كان هؤلاء الوحوش البشرية يعرفون الحلال والحرام؟ أو أنهم حتى يعرفون الله!!!.ودعا الله بأن يخلصه من هذه الورطة اللعينة….وإذا بلسعة كهربائية سريعة في ساقه، فصرخ من شدّة الألم، فقد سرى التيار الكهربائي في جسده، وتعالت الضحكات الشامتة…وبينما خليل يئن ألما شعر بتيار كهربائي خفيف جراء لسعة كهربائية جديدة على صدره… فسأله أحدهم:- هل ستعترف أم تريدنا أن نواصل عملنا؟

لم يجبه خليل الذي ارتفع أنينه ألما….فصفعه أحدهم على وجهه وهو يسأل:-

ألا تسمع يا ابن الشر..م…..؟ ثم قال بالعربية لزملائه:-

انا أنصح بعدم قتله ففي ذلك راحة له، وأقترح ضرب دماغه بالتيار الكهربائي، فسيجن فورا، وبعدها سنطلق سراحه مجنونا لا علاج له، وبهذا سيصبح أضحوكة للآخرين….أعطوه دقيقة لتغيير موقفه، وإذا بقي على عناده…اصعقوا دماغه بالكهرباء.

لم يستبعد خليل أيّ عمل شرير منهم، فهو يعرف إيغالهم في عالم الجريمة، لكنه مستعد- رغم معاناته الشديدة- لتقبل كل الاحتمالات بما فيها الموت، بل إنه تمنى الموت للخلاص مما هو فيه، لكنه كان يخشى أن يكون سببا في أحزان  ستصيب والديه إذا ما حصل له مكروه، وفجأة تقدم أحدهم بالأسلاك الكهربائية من صدغيه، شعر ببرودة الأسلاك، ولم يشعر بالتيار الكهربائي، فربما لم يكن تيار هنا، أو أنه خفيف جدا، بعدها شرع أحدهم يضربه على رأسه بالأسلاك وهو يردد:-

هل جننت يا ابن الزانية أم أن رأسك رأس حمار؟

تركوه على الكرسي حوالي ربع ساعة… تقدّم أحدهم منه…رفع قدمه اليمنى وداس بها خصيتي خليل، ضغطهما بحذائه مستمتعا بصراخ خليل من شدة الألم، بعدها فكّوا الحبل عنه، وساعدوه على ارتداء ملابسه…أعادوه الى الزنزانة، وتركوه مع آلامه وأحزانه.

بعد اثنين وثلاثين يوما…حرّك خليل أصابع يده…واستطاع استعمالها مع ألمٍ خفيف…جاؤوه صباحا..قيدوا رجليه، عصبوا عينيه واقتادوه الى سيارة عسكرية، ربطوا يده بحديد السيارة…كان في السيارة آخرون لم يتبين مَنْ هم؟ كانوا مبطوحين على ظهورهم والعصي تنهال عليهم…ألقوا عليهم بطانية وقالوا لهم: من يتحرك أو يتكلم فلا يعتبنّ إلّا نفسه…سارت السيارة بهم حوالي ساعة وتوقفت…أنزلوهم واحدا واحدا…وجد خليل نفسه في غرفة بابها خشبي مغلق… فيها سريران معدنيّان يفصل بينهما طاولة صغيرة، وفيها تلفاز معلق على الجدار قرب الباب….. بعد أن حلّوا القيود من قدميه…وحلّوا العصبة عن عينيه….تفقد الغرفة…وراودته أفكار كثيرة…فهو لا يعلم أين هو الآن؟ ولا ماذا يريدون منه في هذا المكان؟ لكنه صمّم أن لا يغيّر من موقفه شيئا…بعد حوالي ساعة فتح البابَ رجلٌ طويل القامة…أسمر البشرة، شاربه كثّ أسود الشعر، يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء على قميص أبيض، ويرتدي كوفية حمراء مهدّبة، صافح خليلا مرحبا وسأل: ما اسمك؟

–         خليل منصور.

–         أهلا بك…هل أنت بدويّ؟

–         نعم أنا بدويّ.

فقفز الرجل مرحبا مرّة أخرى وابتسامة عريضة تعلو وجهه وقال: أنا بدويّ مثلك، اسمي ابراهيم…وسعيد جدا بلقائك…وفَرِحٌ لأنني رأيتك…وضعك لا يعجبني…سأحضر لك الآن ملابس جديدة كي تستحم وتغير ملابسك القذرة هذه، وسأحضر لك طعامَ غداءٍ يليق بك يا ابن العمّ فأنت ضيفي…خرج الرجل وأغلق الباب خلفه…لكنّ خليلا دعا الله في سرّه قائلا:-

اللهمّ استرنا من”ابن العمّ” هذا…فبالتأكيد وراءه مصيبة مؤكدة…عاد الرجل بعد أقل من خمس دقائق يحمل ملابس داخلية وبدلة عسكرية، وقطعة صابون…قاد خليل الى حمّام فيه “دش”باب الحمام فوقه فراغ بارتفاع حوالي 30 سنتمتر…أعطاه الملابس وطلب منه أن يضع ملابسه فوق الباب كي يأخذها للغسيل…استحمّ خليل…وشعر براحة والمياه تنساب على جسده….استمرّ تحت الدّشّ أكثر من ساعة…وراودته وساوس كثيرة حول اللباس العسكري، فقرّر عدم ارتدائها مهما كلّف ذلك، وفكّر بأن هناك محاولة لاغتياله…فربما سيطلقون عليه الرصاص من الخلف وهو في اللباس العسكري، وسيبرّرون قتله بأنه حاول الهرب بلباس جندي….لكن “ابن العمّ الذي يدعي البداوة” أعاد اليه ملابسه نظيفة مكويّة…وضعها له فوق الباب وقال:-

أسرع يا ابن العمّ فالغداء جاهز…ارتدى خليل ملابسه وهو مدهوش من كيفية غسل الملابس وتجفيفها وكيّها بهذه السرعة، فلم يسبق له أن رأى أو سمع عن آلات التجفيف من قبل…خرج فوجد” ابن العمّ” ينتظره…قاده الى غرفة فيها طاولةُ طعامٍ عليها صحنان، بجانب كلّ صحن شوكة، ملعقة وسكين، وجاءت امرأة حسناء بلباس عسكريّ…وملأت صحن خليل بالأرزّ، ووضعت قليلا منه في صحن” ابن العمّ”: ثمّ جاءت بصحن آخر فيه قطعتا لحم خروف تزنان أكثر من نصف كيلو، ووضعته أمام خليل، وما يعادل نصفها أمام”ابن العمّ”..ثم وضعت صحني مَرَقِ خضار… وزجاجتي كولا وعصير برتقال، وزجاجة ماء مثلج…سعة الواحدة لتران…وصحن فواكه كبير…رحّب”ابن العمّ” بخليل قائلا:- أنت ضيف عزيز عليّ…وأعلمُ أنهم لم يقدموا لك طعاما لائقا وكافيا في الفترة السابقة….فكُلْ كما تشاء يا ابن العمّ…

وبعد الغداء قدّمت الحسناء لهما كأسي قهوة سوداء كبيرين، بعد أن سألتهما عمّا يريدان احتساءه قهوة أم شايا؟ فأحال”ابن العمّ” الإجابة لخليل…فاختار القهوة.

أكل خليل حتى الشبع مع أنّ التفكير بما وراء هذا أرهقه…عاد به”ابن العمّ” الى الغرفة وقال له:-

هذه غرفتي يا ابن العمّ…سننام أنا وأنت فيها…بامكانك مشاهدة التلفاز كما تشاء…شاهد محطة التلفاز الأردنية أو الاسرائيلية كما يحلو لك…وأدار”ابن العمّ” التلفاز على المحطة الأردنية…صعق خليل عندما رأى بعد نشرة أخبار الثانية ظهرا مقابلة مع الأستاذ داود يتحدث فيها عن قسوة الابعاد…ويؤكد فيها أن الاحتلال سينتهى حتما، وأنه سيعود الى وطنه….لم ينتبه ابن العمّ بأن خليلا قد تفاجأ بما رأى وسمع….وفتح مع خليل موضوع تربية الأغنام، وكيفية صنع الأجبان والألبان والزبدة والسمن البلدي….وعند المساء تعشّى مع خليل دجاجا مشويا على الفحم…قدّم لخليل دجاجة كاملة، بينما أكل هو نصف دجاجة…في حوالي العاشرة ليلا قال ابن العمّ لخليل:-

آسف يا ابن العمّ أنا مرهق وأريد النّوم…ويجب أن أقيّد يدك ورجلك بالسرير.

في صباح اليوم الثاني قاد”ابن العمّ” خليلا الى لخارج…نزل به درجا…فوجد خليل نفسه في ساحة ترابية فيها أشجار وورود، ويحيط بها بناء حجري مستطيل الشكل يتكون من طابقين…يتقدمهما من الداخل برندة بعرض حوالي ثلاثة أمتار، وبعدها أقواس تفصلها أعمدة حجرية جميلة…رأى خليل جنودا برتب مختلفة يتحركون في البناء…لكنّه لم يتبين مدخل البناء…كانت تحت احدى الأشجار طاولة بجانبها كرسيّان…جلس”ابن العمّ” على كرسيّ وطلب من خليل أن يجلس على كرسي قبالته…سأل خليل عن ماذا يحب أن يشرب صباحا…قهوة أم شايا…أم حليبا؟ فاختار خليل الشاي بينما طلب”ابن العمّ” قهوة… أحضرت الطلب مجندة حسناء…عندما رفع خليل كأس الشاي الى فمه…خبط”ابن العمّ” على الطاولة كأس قهوته وهو يقول:-

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم…كيف سيشرب المرء القهوة وهو يرى هذا المنظر المخيف؟

انظر ماذا فعل أبناء الزانيات؟ كان على مقربة منهما ما يشبه القبر…عند شاهِدِه حجر ملفوف بكوفيّة سوداء…وعند آخره مقدّمة حذاء”بسطار”فقال “ابن العمّ”:

هذا مخرب كانوا يحققون معه قبل يومين، ويبدو أنّهم قتلوه لأنه عنيد ولم يتجاوب معهم… ودفنوه هنا…ويبدو أنه انتفخ فخرج رأسه وقدماه من القبر…واصل خليل احتساء شايه وهو متيقن من أن ما يراه تمثيلية…فقال “ابن العمّ”:-

يبدو أنّك لا تصدّق يا خليل ما قلته لك…ألا تصدّق بأن الاشكناز مجردّون من الرّحمة وأنّهم يقتلون المخربين؟

فأجاب خليل:- بل أصدّق…ولا أستبعد عنهم فعلا قبيحا….لكنّني لا أستطيع عمل أيّ شيء.

قدّمت المجندّة لهم افطارا فاخرا وكأنهم في فندق فاخر…وبعدها عادا الى الغرفة ذاتها…

جلسا على كرسيّين في البرندة حوالي ساعتين…شربا بعدها شايا…وعاد به”ابن العمّ”الى الغرفة…قيّده الى السرير واستأذن زاعما أنّه مشغول…وسيعود قبل وجبة الغداء…واستمر الحال هكذا…وفي اليوم الرابع…أخذ “ابن العمّ” خليلا الى غرفة قريبة…غرفة عارية تماما…فيها طاولة وكرسيّان..جلس خلف الطاولة، وأجلس خليلا قبالته…أمامه على الطاولة ملف بجانبه ورق أبيض…فوقه قلم رصاص…وقال لخليل باسما:-

انتهت الضيافة يا ابن العمّ…وهم يعلمون عنك كلّ شيء…وأنا تدخلت في الأمر لحمايتك….فأريد منك أن تحدّثني عن قصّة حياتك…وعن علاقتك بالمخربين ومنظمات التخريب…وأنت تعلم أنّنا نحن البدو(سرّنا في بير عميق) وأشار بيده الى فمه المغلق دلالة على كتمان السرّ…ولا أهدف من ذلك إلّا مساعدتك…فلنبدأ…

ما اسمك الرباعي؟

–         خليل منصور سعيد منصور.

–         ما تاريخ ميلادك؟

–         8 نيسان 1949.

–         ماذا تعمل؟

–         طالب في كلية بير زيت.

–         من هم أصدقاؤك؟

–         أمّي وأبي.

وضع”ابن العمّ” على ورقة أمامه عددا من النقاط بقلم الرصاص…رفع الورقة أمام خليل وسأله:- ماذا يوجد على هذه الورقة؟

نقاط صغيرة أجاب خليل.

بخفة وسرعة وصل النقاط ببعضها البعض فتشكلّ رسم حمار ….رفع الورقة أمام خليل وسأل:- ماذا ترى على الورقة؟

فأجاب خليل:- صورة حمار.

فقال “ابن العمّ” غاضبا:- يبدو يا خليل أنك أكثر حمرنة من الحمار….لا تحاول التلاعب معي….أنا أسألك عن أصدقائك وليس عن والديك…هل تفهمني؟

–         لكن لا أصدقاء لي غير والديّ.

–         وفي البلدة وفي القرية أليس لك أصدقاء؟

–         نعم أقول لك صادقا بأن لا أصدقاء لي.

–         هل تعرف الأستاذ داود؟

–         نعم أعرفه…فهو واحد من أبناء قريتنا.

–         ما علاقتك به؟

–         لا علاقة لي به.

–         لماذا كنت في بيته قبل اعتقالك بيوم؟

–         لم أكن في بيته.

–         أنت تكذب ولا تريد أن تساعدني كي أساعدك….وستتحمل عواقب ذلك…وأخشى إن تركتك وذهبت، بأن أجدك مقبورا بجانب المخرب الذي رأينا قبره في الحديقة…فماذا تقول؟ وفكّر قبل الإجابة.

–         لا شيء عندي أقوله لك…هل تريدني أن أكذب؟

–         أريدك أن تقول الصدق.

–         ما قلته لك صدق.

–         غضب”ابن العمّ” فتح جارور الطاولة أخرج حبة من بذور البطيخ، وكسرها بين نواجذه….فدخل الغرفة شخصان – لم يتبين خليل إن كانت عملية بذرة البطيخ عفوية أم مقصودة- وقفا خلف خليل يتنحنحان بغضب…خرج”ابن العمّ” من الغرفة…فقيّدا رجلي خليل وانهالا عليه ضربا استمر لساعات…ضرباه على مختلف أنحاء جسده…صرخ وتلوّى ألَما لكنهما لم يتوقفا…وإذا بـ”ابن العمّ” يظهر فجأة…صرخ عليهما وهو يتقدم مبعدا إياهما…أمسك بيد خليل…وساعده على الوقوف…اقتاده الى غرفة التحقيق وسأله:-

–          هل غيّرت ما في رأسك يا خليل؟ هل ستقول الصدق؟

فردّ خليل بكلام متقطع وهو يلهث:- ما قلته صدق…لكنكم تريدونني أن أكذب….

خرج”ابن العمّ” من الغرفة وهو يشتم…وترك خليل يئن ألما…دخل جندي…قيّد قدمي خليل واقتاده…الى زنزانة في الطابق الأول…يطلّ بابها الحديدي على الحديقة…مساحة الزنزانة أقل من 80سم x80سم…وارتفاعها يزيد على الثلاثة أمتار…دفعه في الزنزانة والقيود في رجليه…أغلق الباب الحديدي المصفح عليه…في سقف الزنزانة التي تشبه القبر ضوء ساطع…الزنزانة تشبه القبر تماما…قرفص خليل في الزنزانة يتألم ويسأل الله الفرج…لم يتبين ليله من نهاره…إلّا عندما فتح جندي نافذة الزنزانة الصغيرة، وقذفه بقطعة خبز وحبّة بندورة….وناوله كأس ماء في كأس بلاستيكية قذرة.

استمر وضعه هكذا أسبوعين….كان”ابن العمّ” يأخذه كلّ صباح للتحقيق على أمل أن يجيب على الأسئلة…لكن خليلا لم يغير موقفه…يتعرض بعدها للضرب المبرح…ثمّ يعيدونه الى نفس الزنزانة….في نهاية الأسبوعين أخرجه”ابن العمّ” من الزنزانة وسأل:- هل يعجبك هذا الوضع يا خليل؟ إن لم تجب فستبقى على هذه الحالة حتى الموت.

لم يجب خليل سوى بقوله:- لقد قلت لك الصحيح لكنك لا تصدقني وهذه مشكلتك.

فقال “ابن العمّ”:- بقي لي سؤال واحد هو:

هل تحب الاحتلال يا خليل؟

–         لا أحبّ الاحتلال ولا أعتقد أنه يوجد شخص واحد في العالم يحب احتلال وطنه.

–         أنت صادق في إجابتك هذه …ولكنها تعني أنّك تقاومه.

–         أنا لا أقاوم الاحتلال لأن وضعي الصحي والاجتماعي لا يسمحان لي بذلك.

–         ولو كانا يسمحان أكنت تقاومه؟

–         نعم.

–         أنت ابن زانية يا خليل….خذ هذه الورقة واكتب لي قصة حياتك….أخذ خليل الورقة وكتب”

” أنا خليل منصور المولود في القدس في 8 نيسان 1949 قامت حرب حزيران 1967 قبل عام وأنا على مقاعد امتحان الثانوية العامة”التوجيهي” وبعدها التحقت بكلية بير زيت ولا أزال طالبا فيها.

التوقيع:خليل منصور.”

قرأها “ابن العمّ” وهو غاضب…كتب على ورقة أخرى سطرين باللغة العبرية وطلب من خليل أن يوقع عليها….فرفض خليل قائلا:-

أنا لا أوقع على لغة لا أفهمها…فردّعليه”ابن العمّ”:- معك حق… سأترجمها لك….وكتب تحتها باللغة العربية:

“أنا الموقع أدناه خليل منصور سعيد منصور أقرّ واعترف، بأنني لم أتعرض الى أيّ معاملة سيئة أو ضرب أو تعذيب أو إهانة، منذ اعتقالي في 2 حزيران 1968 وحتى الآن وعليه أوقع”.

قدّمها لخليل كي يوقع عليها …نظر اليه خليل نظرة غضب…أشاح وجهه الى الجهة الأخرى مستغربا وقاحة الرجل.

انتهى الجزء الرابع في 8 تموز 2012

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات