قرأت مقالة للروائي الكبير الراحل عبد الرحمن منيف نشرت في القدس الدولي بتاريخ 14- 5- 1992 ونقلتها مجلة الكاتب المقدسية في عددها رقم 144 الصادر في حزيران 1992 بعنوان ” كيف يرى المثقف العربي وطنه ” ؟
يبدأها بمقدمة يعترف فيها أن كل جيل منذ القدم يعتبر جيله هو الجيل الأكثر معاناة ليبرر لنفسه وللآخرين وربما للتاريخ ، الفرق الكبير بين ما حلم به وبين ما حققه بالفعل، وبعدها يعتبر جيله الذي بين الحربين العالميتين هو الأكثر معاناة وانا اتساءل بقولي :
– ترى لو عاش اديبنا الكبير مع يقيني انه عاش ابعاد معاناة الشعب الفلسطيني في نكبة عام 1948 ومعاناة ابناء النكبة بالذات الذين بقوا في مدنهم وقراهم التي قامت عليها اسرائيل، واكتشفهم العرب بعد حرب حزيران عام 1967 تلك المعاناة التي عبرت عنها الفنانة سامية قزموز في مسرحيتها “الزاروب” والتي هي من تأليفها وتمثيلها واخراج فؤاد عوض، والتي عرضت ولا تزال تعرض منذ نيسان 1992 وحتى الآن،حيث عرضت في:عكا حيفا،يافا،الناصرة،القدس،رامالله،بيرزيت،غزة ،وفي العديد من قرى الجليل والثلث،كم عرضت في القاهرة وعمّان،تونس،المغرب،الشارقة،ابوظبي،جنيف وواشنطن.
بالتأكيد انه سيرفع يديه معترفا بأن الشعب الفلسطيني الذي عاش او ولد في فترة ما بين الحربين 1948- 1967 هو الأكثر معاناة بين كل شعوب العالم ولا تزال معاناته مستمرة .
لقد اختزلت لنا الفنانة سامية قزموز بكري بدراما فنية مبكية جانبا من مأساة شعبنا في الداخل تماما مثلما ابدع اميل حبيبي في رائعته ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل ” في رسم مأساة شعبنا روائيا .
لقد استطاعت الفنانة ان تشد جمهور الحضور الى الدراما الانسانية التي قدمتها والتي طرحت فيها ذكريات طفولتها المصلوبة فترة عام 1948 والسنوات التي تلتها .
تلك الذكريات عن ايام العز في عكا والتي تحسب على باقي ابناء جيلها تماما مثلما تحسب على باقي المدن والقرى العربية وكانت تبحث عن جواب لسؤالها :
– ماذا سيفكر جيل ابنائها بعدها ؟
لقد نقلت لنا الفنانة بمشاهد فنية رائعة ذكرياتها الشخصية، وما رواه لها الأباء والقتها في جوانب مهمة عن حياة اهل عكا قبل عام 1948 ، ومنها عادات الزواج التي كانت تتم في حمام الباشا والذي تحول بقدرة قادر الى متحف اسرائيلي ، وكيف كانت العروس العكاوية تبقى في الحمام وكيف كانت تزين، ويدار بها حول الحوض في داخل الحمام الذي كان . وخان العمدان محطة للتجار الذين ينتقلون ما بين مصر وفلسطين وسوريا ولبنان ، كما نقلت لنا ذكرياتها عن ” بحر عكا ” وتعلق الاهالي به ، وذكرياتها عن الحمامات الشعبية في عكا ومقاهيها بما في ذلك المقهى المخصص للنساء، وكذلك الكازينو الذي كان يعرض فيه الممثلون والمطربون قرب الفنار . ونقلت لنا ذكريات حبها عن الحمام الذي كان يستحم فيه الاهالي، وعن القدرات الخارقة التي كانوا يؤمنون بها ،روت واحدة منها ابدعها الخيال الشعبي ، استطاع احدهم ان يحضر فيه قمرة مئذنة الجزار بين يديه الى الحمام، لتعبر في ذلك عن قدسية هذا الحمام في خيال انساننا الشعبي .
لقد تذكرت وهي تروي في مسرحيتها ما رواه لنا شاعرنا الشعبي سعود الأسدي عن احد المسنين من اصحاب الأراضي من دير الأسد في الجليل الفلسطبني الاعلى والتي صودرت لتبنى عليها مدينة ” كرمئيل ” الاستيطانية كيف كان يسير على أنقاض ارضه المصادرة ويقول للآخرين بان حجارة وتربة الأرض تخاطبة وتعترف له بانه مالكها، وانها تئن من وطأة الغرباء، وعلق الشاعر الاسدي على تلك الحادثة بقوله ” والله انني اصدقه ” وانا اقسم مثله بأنني والله اصدق كل كلمة قالتها الفنانة سامية قزموز في مسرحيتها، كما روت لنا قضية هدم البيوت وطرد اهلها منها ونقلهم الى بيوت اخرى من اجل اسكان مهاجرين يهود جدد بدلا منهم .
وتبلغ التراجيديا المسرحية قمتها في النهاية عندما نشاهد حكاية تلك المرأة العجوز من ترشيحا التي لجأ ابنها سليم الى مخيم قرب حلب في سوريا، والتي ابكت غا لبية الحضور من شدة التأثر .
واثناء حديثها عن البحر وعن تعلق اهل عكا به انشدت لنا الفنانة المقطوعة الشعرية التالية عن البحر :
قديما كان يأتي البحر حجرتنا
وتأتي من وراء البحر مملكة
وسرب من نساء الزنج ( العُرب ، في المسرحية )
وبعد العرض والسؤال للفنانة عن المقطوعة اكتشفنا انها لشاعر تونسي مبدع اسمه ” محمد الغزي ” لم نسمع به من قبل، ويبدو انه يعيش حرمان الغربة مثل شعبنا .
فشكرا لسامية قزموز التي ساعدتنا على هذا الاكتشاف، ولا ادري ماذا اقول عن الحصار الثقافي وانقطاعنا عن الثقافة العربية ، نتيجة لهيمنة ” الديمقراطية ” الاسرائيلية علينا ، بقي ان نقول ان سامية قزموز فنانة كبيرة استطاعت ان تؤدي دور عدة شخصيات : الطفلة ، المرأة الشابة ، العجوز المرأة والرجل والشاب ، بنجاح منقطع النظير، فعندما مثلت دور الأم ، ام سليم قامت بتغطية رأسها بـ ” ملاية ” تقليدية بشكل سريع ، كما قامت بتغيير ملامح وجهها من شدة ” ذوبانها ” في الدور بحيث انني خلت نفسي امام امرأة عجوز، علما ان الممثلة في ريعان الشباب، وعلى جانب كبير من الجمال، فلم استطع او اواصل النظر في الممثلة خوفا على نفسي من البكاء، لانها استطاعت ان تجعل الجمهور يقف امام حقيقة امرأة تعيش مأساة فراق ابنها الابدي مع أنه على قيد الحياة .
وعندما قامت بتمثيل دور شقيقتها الطفلة عندما عادوا الى بيتهم الذي طردوا منه وسكنته عائلة يهودية ، خلت نفسي امام طفلة وهي تجد لعبتها التي بقيت في البيت .
وفي النهاية لقد استطاعت سامية قزموز ان تجعلنا نعيش المأساة من بدايتها وكأننا نعيشها من جديد.