مملكة المرايا والأهداف النبيلة المتوخاة

م


صدرت مسرحية ” مملكة المرايا ” للأديب سهيل كيوان عام 2006 عن منشورات مركز ثقافة الطفل في مؤسسة الأسوار في عكا وبدعم من مؤسسة دياكونيا السويد.
تقع المسرحية التي صصم رسوماتها الفنان رمزي الطويل وقدم لها الدكتور محمود العطشان قي 48 صفحة من الحجم المتوسط .
في الواقع لا أعلم لماذا ألحت على ذاكرتي رواية شرق الموسط للأديب الراحل عبد الرحمن منيف وأنا أقرأ هذه المسرحية ، فإذا كانت ” شرق المتوسط ” تتحدث عن التعذيب في معتقلات دول الشرق الأوسط ، فإن ” مملكة المرايا” تتحدث عن غياب الديمقراطية ” في ” برهانستان ” وما يصاحب هذا الغياب من غيابات أخرى لحريات لا تنهض الدول والشعوب بدونها، ومنها حرية الرأي والمعتقد ، والتفكير ، والإبداع العلمي ، وانتشار النفاق للحكام والمسؤولين مما يجعلهم مغيبين عن واقع الحياة حتى في بلدانهم ، والنفاق هنا يمارسه المسؤلون الكبار من وزراء وغيرهم من بطانة الحكام ، كما يمارسه المثقفون من كتاب وشعراء ، وكل هذا يؤدي إلى دوائر متداخلة من الفساد والخراب والهزائم ، وكل ذلك يؤدي أيضا إلى التعتيم والتغاضي والكذب وعدم ” قول الحقيقة ” ، مما يعني استمرارية السقوط في مستنقع التخلف ، هذا التخلف الذي هو وليد لكل الغيابات السابقة ومصاحبا لسياسة كتم أنفاس الشعب من خلال رصد أنفاس وحركات أبنائه ـ وعدم السماح لهم بأي نوع من الحريات .
لتعود المسرحية في نهايتها إلى التأكيد بان ” حبل الكذب قصير ” ولا بد ان تظهر الحقائق ، والتحرر من الكذب والرياء والخداع وقمع الحريات سيقود إلى استقرار الحكم وتقويته ، والنهوض بالشعب ومقدراته .
مضمون المسرحية :
وقد استطاع المبدع سهيل كيوان من خلال مسرحيته ” مملكة المرايا ” أن يعالج هذه القضايا من خلال قرار الملك – بناءا على نصيحة ومشورة وزيره – أن ينظف مملكة برهانستان من المرايا ، كي لا يرى وليّ العهد الوليد الجديد شكله وخلقته البشعة في المرآة ، فهو” مشقوق الشفة ، فمه كبير ، أنفه مثل اجاصة ملتصقة على وجهه ، وأذناه طويلتان ومتدليتان كأذني نعجة ” ص12 .
ومع ان الملك رأى وليّ عهده بشعا كما هو ، إلا أن المنافقين وصفوه بعكس ما هو عليه ، فالقابلة التي أشرفت على ولادته قالت ” إن وجهه منير كقطعة من البدر يا سيدي ، إنه أجمل مولود رأيته في حياتي ” ص10 ووصفته خادمتا القصر ” إنه أجمل مولود رأته عيوننا منذ رأت النور ” ص13 ووصفه الوزير هذا جمال مخيف أقصد أنه مدهش يا سيدي ” ص14 وعندما خاف الملك من أن الناس لن يتقبلوا ولي عهد بشع الخلقة فإن الملك خاف من ” سيسخر الناس منه بالسر ، وإذا سخر الناس من الحاكم فإنهم لا يطيعوه ” ص15 وبالتالي فإن الملك اقترح الخلاص منه بأن يرسله بعيدا ” في البادية مع من يخدمه ، فلا يعرف أحد أنه من صلب الملك برهان ” ص15 غير أن الحكمة كانت على لسان الملكة حينما قالت ” هذا ما اعطانا الله ، وعلينا أن نتقبله ، ثم إن الرجل لا يقاس بجماله بل بأفعاله ” ص17 وجاء المقترح الأسوأ من الوزير الذي اقترح ” نفقأ عيون جميع سكان المملكة ، فلا يرى أحد شكله ، وهكذا يكون بإمكان ولي العهد أن يتجول في المملكة بحرية دون أن يراه أحد من الناس ” ص18 وعندما رفض الملك الاقتراح عاود الوزير القول ” ممنوع أن يرى سمو الأمير بدر الزمان وجهه كي لا يحزن ولا يكتئب ، فالكآبة مرض خطير ، وربما كره الأمير نفسه ، وحينئذ يكره والديه ” ص19 وبناءا عليه فإن الوزير اقترح ضرورة الخلاص من المرايا في المملكة ، باستثناء مرآة واحدة ستبقى في احدى غرف القصر ” ص21 يكون لها مفتاحان ، واحد للملك والثاني للملكة ” وينفذ الوزير هذا الاقتراح، ويقترح استحضار أحد المعلمين الأكفَاء لتدريس ولي العهد في القصر، على أن يبقى المعام حبيس القصر، ويسمح لزوجته وأبنائه بزيارته مرة في الشهر دون أن يروا الأمير، كي لا يُحدّثوا الناس عن بشاعة خلقته.
ويتعلم الأمير على يدي معلمّه ، حتى أصبح في الخامسة عشرة من عمره ، ولتكتب له إبنة المدرس وكانت غاية في الجمال عن حاجتها إلى مرآة ، وليخبر الأمير بدر الزمان معلمه ” تعلمنا أن الله لا ينظر إلى صورنا بل إلى قلوبنا ، أي أن لا ننظر إلى مظاهر الأشياء ، بل إلى جوهرها ” ص31 ثم يجمع الأمير علماء المملكة وشعرائها وكتابها ومفكريها ” ص36 ويخاطب والده الملك قائلا :” إني أعجب من ملك يمنع الناس أن ينظروا إلى وجوههم ، بل أعجب كيف لم يثر الناس على هذا القرار الظالم يا صحاب الجلالة ” ص37 وتمرض المملكة بنموّ حشرة مفترسة في رأسها قرب دماغها، وبعد جدال مع الطبيب قرر أنه بحاجة الى مرآة تعكس الحرارة باتجاه هذه الحشرة لإخراجها ، أو أن يكسروا جمجمة الملكة التي ستموت حتما، فوافق الملك على استعمال المرآة لتصل المسرحية ذروتها بقول الطبيب للأمير ” من دون المرايا يا صاحب السمو ، كسرنا رؤوسا كثيرة … ووقعت كوارث كثيرة في البيوت والمستشفيات ” ص42 وليؤكد وليّ العهد ” أن الله ينظر الى قلوبنا يا صاحب الجلالة ، وليس إلى طولنا أو قصرنا ، سمنتنا أو نحافتنا ، ولا إلى لون أو شكل عيوننا وأنوفنا وآذاننا ، لأننا كلنا من خلقه وصنيعه ” ص43 وليعزل الملك المنافق ويعين المعلم وزيرا ،والمعلم بدوره قبل ذلك بعد أن اشترط ” أريد إلغاء جميع أجهزة التنصت والرقابة على الناس ” ص44 وليعلن الملك السماح باستخدام المرايا ، وتعديل الدستور بحيث ” ستتم العودة إلى الشعب في كل القضايا المهمة ” ص45 ويلتف الناس حول الأمير ومعلمه ” يقفون في صف طويل ليهنئوا ويعانقوا ويقبلوا الأمير ومعلمه ، يقبلونه من أنفه ومن أذنيه الطويلتين ، والجميع في سعادة كبيرة ” ص46
يبقى أن نقول أن المبدع سهيل كيوان قد عالج بتقنية عالية – وكما قال الدكتور محمود العطشان في تقديمه المسرحية – ” واقعا تعيشه مجتمعاتنا الشرقية التي توارثت – ولحقب طويلة – تركة ثقيلة من النفاق والمجاملة ” ص7 .
الرسومات والاخراج :
مما لا شك فيه ان مركز تقافة الطفل في مؤسسة الأسوار في عكا قد أبدع في مونتاج واخراج كتبه الثلاثة الموجهة للأطفال والتي صدرت في أواخر العام 2006 وهي مسرحية ” مملكة المرايا ” لسهيل كيوان و ” سر العصفور الضائع ” للقاضي أحمد الناطور ، ومجموعة ” إنسان ” الشعرية للشاعر فاضل علي ، فالغلاف مقوى ، والورق صقيل ، والصور مفروزة الألوان ، والطباعة بحروف مشكولة ، ولغة سليمة ، ومونتاج رائع للصفحات ، والشكل جذاب للصغار وللكبار وهذه ميزة انفرد فيها مركز ثقافة الطفل في مؤسسة الأسوار لا نملك إلا أن نغبطه عليها .
أما رسومات مسرحية ” مملكة المرايا ” التي أبدعها رمزي الطويل فإن جمال ألوانها لا يمنعنا أن نقول بأن رسمة القابلة بدءا من الغلاف الخارجي الأول ومرورا بالصفحات الداخلية لم تكن موفقة ، فقد ظهرت القابلة امرأة عجوزا سمينة جدا ، محدودبة الظهر ، تتوكأ على عصا ، فكيف يمكن أن تكون امرأة بهذه المواصفات قادرة على ان تكون قابلة لإمرأة عادية وليس ملكة ؟؟ صحيح أن القابلات الشعبيات في العصور السابقة، وفي بعض مجتمعاتنا الريفية حتى أيامنا هذه هن من كبيرات السن ذوات التجربة في الولادة والتوليد ، لكنهن لسن عاجزات كما ظهرت رسمة القابلة في المسرحية ، وكذلك رسمة الوزير ، فقد ظهر رأسه وكأنه مركب تركيبا على جسمه ، محدودب الظهر ، علامات الخبث مرسومة على وجهه ، ولم نره في الرسومات قويا مجرما جاهلا كما كان في النص المسرحي ، ورسمة وليّ العهد بدر الزمان ، ظهر وجهه وجسمه جذابين ، حتى طول أُذنيه في الرسومات كان جذابا ، ولم يكن بشع الخلقة كما جاء في سياق المسرحية .
وماذا بعد ؟ :
معروف ان المسرحية تكتب لتمثل وتشاهد على خشبة المسرح ، لكن المبدع سهيل كيوان كتب لنا مسرحية بلغة سليمة وسلسة، يطغى عليها عنصر التشويق للقارئ الذي يتمتع بقراءتها حتى أكثر من مرة ، وبالتأكيد إنها جذابة وممتعة لمن يشاهدونها على خشبة المسرح ، مع أنه ولأسفي الشديد لم تـُتح لي فرصة مشاهدتها على خشبة المسرح .

 

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات