الخاصرة الرخوة-رواية

ا

جميل السلحوت

الخاصرة الرّخوة
رواية

ملاحظة: الأسماء الواردة في هذا النّص متخيّلة، وإن وجد شبيه لها على أرض الواقع فهو محض صدفة.

عاد من عمله منهكا، رائحة زيت قلي الفلافل تفوح من ملابسه، ندوب بقايا حروق على ساعديه ووجهه غير الحليق من الزّيت الذي يتطاير من المقلى، حيث يبيع “ساندويشات” الفلافل لطلّاب مدرسة الذّكور التي تبعد عن بيته حوالي خمسمائة متر، جلس على كرسيّ خشبيّ أمام البيت المكوّن من غرفتي نوم، صالون ومطبخ وحمّام. لم يشعر بقدومه أحد من أهل بيته، ولم يسأل هو عن أحد، فقد اعتاد على الجلوس أمام البيت عندما يكون الجوّ ملائما، يمدّ نظره إلى الأفق البعيد، ينظر جمال الطّبيعة، وأحيانا يراقب الغيوم البيضاء المتناثرة في الفضاء والرّيح تدفعها شرقا، يحملق فيها، يرى أنّها ترسم لوحات جميلة لأماكن لا تنمحى من ذاكرته. في ذلك اليوم القائظ، رأى الغيوم تجسّد شكل البيت الذي ولد فيه على شاطئ يافا، رأى المرحوم والده يتشكّل غيمة أمام البيت، تنهّد عندما سمع أذان صلاة العصر ينطلق من المسجد الأقصى، فحيّ الصّوانة على السفح الغربيّ لجبل الزّيتون-حيث يسكن- يطلّ على الأقصى، ردّد الأذان خلف المؤذّن، صلّى على النّبيّ، أقام الصّلاة، أدار كرسيّه باتّجاه القِبلة، وصلّى جالسا على الكرسيّ، فساقاه مرهقتان، لا تقويان على الرّكوع والسّجود، في آخر الصّلاة حمد الله وشكره على ما هو فيه، راودته أفكار حاول الابتعاد عنها من خلال قراءة المعوذتين، فهو مؤمن بأنّ كلّ شيء من الله، ولو شاء الله أن يرزقه ولدا ذكرا يعينه على تكاليف الحياة لرزقه، لكنّه لم يرزقه الابن الذّكر لحكمة بالتأكيد لا يعلمها إلا الله، الذي رزقه خمس بنات حسناوات يتمتّعن بجمال مميّز، لكنّه عاد يسأل الله أن يطيل عمره، حتّى تكمل بناته تعليمهنّ الجامعيّ، فثلاث منهنّ في الجامعة، واثنتان واحدة في الثّانويّة ستنهيها بعد عام، وستكون شقيقتها الكبرى قد تخرّجت من جامعتها وستعمل مدرّسة، في حين الخامسة في الصّفّ التّاسع. دعا الله أن يرزق بناته أزواجا أبناء حلال، يتّقون الله فيهنّ، ويعشن بسعادة بعد أن ينجبن البنين والبنات، ورفع صوته قائلا:
يا مجيب الدّعاء يا الله.
وهنا سمعت زوجته الصّوت فأطلّت عليه وقالت:
يعطيك العافية يا عيسى، ادخل واستحمّ وغيّر ملابسك.
فقال متكاسلا: دعيني أرتاح قليلا، بعدها سأستحمّ وسأغيّر ملابسي.
في هذه اللحظة رأت إمام المسجد ومعه ثلاثة رجال قادمين إلى بيته، فأشارت زوجته إليهم وقالت له وهي تعود إلى البيت:
جاءنا ضيوف، ليتك استحممت وغيّرت ملابسك قبل وصولهم.
أدركه الضّيوف فوقف وقال: أهلا وسهلا.
أشار إليهم أن يدخلوا إلى الصّالون وهو يكرّر التّرحيب بهم.
بعد قليل استأذن منهم كي يحضر قهوة الضّيافة التي أتت بها ابنته البكر جمانة، لم تظهر عليهم، طرقت الباب الخشبيّ الذي يفصل الصّالون عن بقيّة البيت، دار عليهم بالقهوة بدءا من إمام المسجد، فهو أكبرهم سنّا ومقاما.
وضع كلّ منهم فنجان قهوته أمامه، تنحنح إمام المسجد وبسمل وحمد الله وقال:
لنا عندك طلب يا أبا جمانة، ولن نشرب قهوتنا قبل أن تلبّيه لنا.
فأجاب أبو جمانة مرتبكا:
حيّاكم الله، طلبكم مستجاب إن قدرت عليه.
فقال الإمام بعد أن مسّد على لحيته، ورتّب جبّته على كتفيه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، نحمد الله ونصلّي على نبيّه، نحمد الله الذي أحلّ النّكاح وحرّم السّفاح، نحمده وهو القائل:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”ونصلي ونسلّم على رسوله وهو القائل:” تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة”. ويقول عليه الصّلاة والسّلام:” إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ”.
ونحن جئنا نطلب يد ابنتكم رفيعة الحسب والنّسب جمانة، للشّاب الخلوق أسامة سعيد العدنان، وأشار إلى الشّابّ الذي كان يطأطئ رأسه حياء.
تنهّد أبو جمانة وقال:
حيّاكم الله… احتسوا قهوتكم، لكن أعطوني فرصة ليومين؛ كي نتداول الأمر مع أهل البيت؛ ولأسمع رأي البنت.
فقال الإمام: هذا لك، وطلبك شرعيّ لا نستطيع رفضه. رفع الشّيخ فنجانه وهو يشير إلى أسامة وأبيه وعمّه بأن يحتسوا قهوتهم.
رشف الشّيخ رشفة واحدة وقال:
أؤكّد أنّ هذا الزّواج متكافئ إذا كتب الله النّصيب، فالأستاذ أسامة يحمل “ماجستير” في أصول الفقه من جامعة الأزهر الشّريف، وهو الآن معلّم في السعودية ويتقاضى راتبا مجزيا، وكريمتك جمانة كما نعلم ستتخرّج السّنة من كلّيّة الآداب- قسم اللغة العربيّة في جامعة القدس.
ابتسم أبو جمانة وقال: جمانة ستتخرّج في الصّيف القادم، أي بعد سنة.
رفع أسامه رأسه وقال:
إذا كان لي فيها نصيب، سنخطب هذا العام وسنؤجّل الزّواج إلى العام القادم حتّى تنهي دراستها.
التفت أبوه إليه غاضبا وتساءل:
ماذا ستستفيد من دراستها؟ فالنّساء خلقن للزّواج والإنجاب وخدمة أزواجهنّ.
شعر أسامة بالحرج من كلام أبيه، لكنّه سكت، وقبل أن يتكلّم أبو جمانة قال الإمام:
الزّوجة والأمّ المتعلّمة خير من الزّوجة والأمّ الجاهلة، والرّسول صلى الله عليه وسلّم حضّ على تعليم البنات، وبارك الله بأبي جمانة الذي يحرص على رعاية بناته وتعليمهنّ، وإن شاء الله سيكونّ سترا له من النّار.
التفت أبو جمانة إلى أبي أسامة وقال متجهّما:
إذا جئتم تطلبون خادمة لابنكم، فقد أخطأتم في العنوان، فالنّساء شقائق الرّجال، والزّواج سنّة الحياة، والحياة الزّوجيّة تقوم على البرّ والإحسان، وابنتي لن تكون خادمة لأحد، لكنّها ستكون زوجة صالحة لمن تكون من نصيبه.
بُهِت أسامة ووالده من كلام أبي جمانه، لكنّ الحاجّ عزّ الدّين عمّ أسامة قال باسما:
لا تفهم كلام أبي أسامة بطريقة خاطئة يا أبا جمانة، فهو لم يقصد ما قلته، فالرّجل يعني أنّ الزّوجة الصّالحة تكون ربّة بيت، وأُمّا صالحة وسندا لزوجها للتّغلّب على صعوبات الحياة.
قطع إمام المسجد حديثه وقال:
والزّوج الصّالح يكون زوجا وأبا وربّ بيت صالحا أيضا.
دُهش أبو أسامة من هذا الكلام وسأل حائرا:
ما الدّاعي لهذا الكلام؟ ماذا قلت أنا؟ فقصدي أنّ أسامة شابّ من خيرة الشّباب، متعلّم ويخاف الله، وله دخل من عرق جبينه سيسدّ احتياجات بيته ويزيد، وستكون زوجته ربّة بيت معزّزة مكرّمة.
يستمع أسامة لكلام الجميع، ويلتزم الصّمت، فقد تربّى على عدم الكلام في حضرة الكبار. لكنّ إمام المسجد حسم الأمر بقوله:
لا داعي لهذا الكلام، فإذا كانت جمانة من نصيب أسامة، فكلّ منهما يعرف ما له وما عليه، خصوصا وأنّهما متعلّمان ويعرفان حدود الله. والتفت إلى أسامة وسأله:
أليس كذلك يا أسامة؟
أسامة: ربنا ييسّر ما فيه خير لنا جميعا.
فقالوا: آمين يا ربّ العالمين.
وهنا التفت الإمام إلى صحبه وقال: دعونا ننصرف.
كما التفت إلى أبي جمانة وقال:
نحن في انتظار الرّدّ على طلبنا منك.
*****
بعد أن ابتعدوا قليلا عن بيت أبي جمانة، قال أبو أسامة:
الدّنيا آخر وقت، سبحان الله، صدق المثل الذي يقول:” بيجي للرّدي يوم يتشرّط ويتمظرط فيه، حتّى لو في يوم زواج بنته”، وهذا عيسى الحمّاد، بدل من أن يحمد الله على طلبتنا لابنته، طلب مهلة لاستشارة أهل بيته.
التفت إليه أخوه الحاج عزّالدّين وقال:
عيب عليك يا سعيد أن تقول هكذا كلام، فالرّجل فاضل، وما عرفنا عنه إلا كلّ خير منذ سكن حيّنا، وقد يكون عند الله أفضل منّا جميعا، ومن حقّه وحقّ أهل بيته أن يتشاوروا.
سعيد: وما العيب في كلامي؟ يكفيه أنّه وحيد لا قريب له، ولا عزوة عنده، فليستر بناته وينخرس.
قال أسامة على استحياء:
يا أبي هذا كلام لا يليق بنا، إذا كانت في الرّجل عيوب فلماذا نقبل مصاهرته؟
أبو أسامة: كلّه “قسمة ونصيب”.
إمام المسجد غاضبا: ما تقوله كلام لا يقبله عاقل يا سعيد، وقسما بالله، لولا احترامي وحبّي للأستاذ أسامة، ما مشيت معك في طريق، ولا رافقتكم في طلبِ ابنة عيسى الحمّاد، فأنا أعرفك جيّدا، فأنت تتدخّل كثيرا فيما لا يعنيك، وتسيء للآخرين بسبب ودون سبب. وعيسى الحمّاد ليس مقطوعا من شجرة، لكنّ الزّمن جار عليه كما جار على غيره من أبناء شعبنا، الذين غادروا ديارهم مكرهين عام النّكبة بسبب ما تعرّضوا له من قتل وتدمير وتشريد، وتشتّتوا في بقاع الأرض، وهذا لا يعيبهم يا أبا أسامة. وأبو جمانة شاء حظّه أن يكون بيننا، بينما تشتّت عائلته في أرض اللجوء، وهو واحد منّا له ما لنا وعليه ما علينا.
عزّالدّين: كلامك صحيح يا مولانا، وإخوتنا اللاجئون لا فرق بيننا وبينهم، ولهم علينا حقوق يجب عدم إغفالها، ونتشرّف بمصاهرتهم، والتفت إلى أسامة وقال:
هل أنت موافق يا عمّي على الزّواج من جمانة أم لا رأي لك؟
أسامة على استحياء:
نعم موافق، وإلا لما رافقتكم في طلب يدها.
إمام المسجد يسأل أسامة:
هل تعرفها؟
نعم أعرفها شكلا منذ ولادتها، فهي تصغرني بخمس سنوات، وهي متميّزة بجمالها، وازدادت جمالا بملابسها الشّرعيّة وبالتحاقها بالجامعة، ممّا يعني أنّها صاحبة دين وخلق.
الإمام: إذن توكّلوا على الله، وربنا يجيب ما فيه الخير”. ونسأل الله أن يهدي والدك.
*****
بقي عيسى الحمّاد متّكئا على كرسيّ خشبيّ في صالون بيته، جاءت زوجته تسأل:
خيرا يا عيسى ماذا يريد ضيوفك؟
– ألا تعرفين؟
– من أين لي أن أعرف؟
– إلحاحكِ عليّ بالاستحمام وتغيير الملابس يدلّ أنّك تعرفين.
ضحكت وقالت: “كلّه حكي نسوان” .
سحب أبو جمانة نفسا عميقا وقال لها:
نادي على البنات كي نبحث ما جاؤوا من أجله.
جلس الوالدان وبناتهما الخمسة في الصّالون، دخان سيجارته يصعد إلى الأعلى بشكل لولبيّ غير منتظم، ثمّ يتسلّل عبر النّافذتين المفتوحتين، وما لبث أن قطع حبال الصّمت، وقال:
جاؤونا يطلبون يد جمانة لأسامة سعيد العدنان، فما رأيكنّ.
تفاجأت البنات بما سمعن، نظرن إلى وجه أمّهنّ التي قالت بخبث:
الرّأي رأيك.
– كيف الرّأي رأيي؟ الرّأي الأوّل والأخير لجمانة.
احمرّ وجه جمانة، طأطأت رأسها حياء وقالت:
أنا لا رغبة لي بالزّواج في هذه المرحلة، وكلّ ما يهمّني هو أن أكمل دراستي.
الأب: اسمعي يا ابنتي، مصير البنات الزّواج، وهذه سنّة الحياة، ومن لا تتزوّج اليوم ستتزوّج غدا إذا كتب الله لها نصيبا، وأسامة شابّ متعلّم، والبنات يتمنّينه.
جمانة: ربّنا يوفقه، “يبعده ويسعده.”
أمّ جمانة: والله الأستاذ أسامة ما عليه كلام، وهذه فرصة يجب عدم تضييعها.
جمانة: الزّواج غير وارد عندي مطلقا، بغضّ النّظر عن الطّالب سواء أكان أسامة أم غيره، يضاف إلى ذلك أنّ والدة أسامة شرّيرة، فهي على خصومة مع جميع جاراتها. وشقيقا أسامة المتزوّجان، أحدهما طلّق زوجته، والثّانية عند أهلها منذ أشهر، “معلّقة لا هي مطلقة ولا متزّوجة”، لا أحد يسأل عنها، وحتّى أنّهم لا يسألون عن ابنها الذي هو ابنهم.
الأب: أسامة يعمل في السّعودية، وإذا وقع النّصيب ستكونين معه، وستبتعدين عن أسرته كاملة.
جمانة: المشكلة ليست عندهم، المشكلة -إن كانت هناك مشكلة- عندي أنا، فالزّواج لا يخطر لي على بال، وكلّ تفكيري منصبّ على إنهاء دراستي الجامعيّة.
الأب: هذه ليست مشكلة، سنتمّم الخطبة هذا العام، وسنشترط عليهم أن يتمّ الزّواج بعد عام، عندما تكملين دراستك.
جمانة: يا أبي، يا حبيبي، أكرّر قولي لكم، أنا لا أريد الزّواج من أسامة ولا من غيره.
التفت الأب إلى زوجته وقال لها:
اسمعي يا لطيفة، خذي بنتك، واقنعيها، وإن بقيت على إصرارها فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
خرجت البنات من الصّالون، ذهبت جمانة إلى سريرها، تمدّدت وقد أعيتها الأفكار التي تتصارع في رأسها، لكنّها مصمّمة على عدم الزّواج في هذه المرحلة.
لحقت بها والدتها، جلست بجانب سريرها وقالت باسمة:
اسمعي يا جمانة، أنت الأن على وشكّ التّخرج من الجامعة، وبعض بنات جيلك تزوّجن وأبناؤهنّ يذهبون إلى المدارس، دلع البنات لا ينفعك، و”حظّك يفلق الصّخر” مَنْ مِنْ زميلاتك جاءها خاطب يحمل شهادة “ماجستير” ويعمل في السّعودية؟
جمانة: والله يا أمّي لم أفكّر يوما بالزّواج، وكلّ همّي أن أكمّل دراستي، وأسأل الله أن لا يأتيني خاطب مرّة أخرى، وبعد تخرّجي من الجامعة سأعمل مدرّسة، وسأساعدكم على تكاليف الحياة، وسأبقى خادمة لك ولأبي فقد شقيتما كثيرا.
الأمّ: ما هذا الجنون يا بنت؟ نحن أمورنا مستورة والحمد لله، ولا حاجة بنا لمساعدتك أو مساعدة غيرك، وكلّ همّنا أن تكملي أنت وشقيقاتك تعليمكنّ وأن تتزوّجن ممّن يسترونكنّ، وسعادتنا تكون عندما نرى أبناءكنّ ونطمئنّ عليكنّ.
جمانة: يا إلهي! كلامي النّهائيّ هو أنّني أرفض الزّواج.
الأمّ: هل في حياتك شخص آخر؟ قولي لا تستحي.
جمانة: لا حول ولا قوّة إلا بالله، والله لم أفكّر في حياتي برجل، ولا أريد الزّواج. هل هذا صعب عليكم أن تفهموه؟
خرجت أمّها من غرفة النّوم غاضبة وتقول:
لا ردّك الله.
ذهبت لطيفة إلى زوجها في الصّالون وقالت:
اسمع يا عيسى، جمانة لا تزال جاهلة، لا تعرف معنى الحياة، و”العرض ما بنحمى بالسّيف”، “ردّ للجماعة خبر بالموافقة”، واترك جمانة لي.
– يا بنت النّاس “كل شيء بخناق إلا الزّواج باتّفاق”.
– أنا أدرى بشؤون النّساء، “يتمنّعن وهنّ راغبات”، والواحدة منهنّ ترفض ” ولسانها قدّامها شبر”، عندما ترى النّساء حولها يغنّين لها، ستغيّر رأيها.
– فكِّرْن سويّة حتّى يوم الجمعة القادم، وتكلّمي مع شقيقتها تغريد لعلها تستطيع إقناعها.
قالت لطيفة وهي تضحك:
كانت تغريد تدور في الغرفة ضاحكة، وتقول ساخرة:
تدلّلي يا جمانة.
أبو جمانة: وماذا قالت لها جمانة؟
– قالت لها: تزوّجيه أنت.؟
– فردّت عليها تغريد ساخرة:
– لو طلبني أنا لقبلتُ به.
جمانة غاضبة: مبارك عليك.
قالت تغريد بعناد ودلع:
أخشى أن يضحك علينا النّاس، فلا يجوز لي حقّ الشّفعة بخاطب أختي.
ضحك أبو جمانة وقال:
تغريد – الله يرضى عليها- مرحة وتحبّ المزاح.
بقي أبو جمانة قلقا يفكّر بجمانة خاصّة وببناته الأخريات عامّة، فهو حريص على ما ينفعهنّ، ومستقبلهنّ يؤرّقه، فالبنات خلقن للزّواج، وهو ليس من أنصار من يقولون “همّ البنات للمات”، لكنّه بات مقتنعا أنّ هموم الأبناء سواء أكانوا بناتا أم أولادا تكبر معهم، وفي هذا المجتمع الذي لا يرحم النّساء فإنّه حريص على تزويج بناته في حياته، تماما مثلما هو حريص على تعليمهنّ، لإيمانه الثّابت بأنّ تعليم البنت درع يحميها، فإذا تعلّمت فإنّها تستطيع أن تحصل على وظيفة تدرّ عليها دخلا تحقّق من خلاله ذاتها، فالاستقلال الاقتصاديّ مهمّ جدّا للإنسان سواء أكان رجلا أم امرأة. ويحيّره رفضُ جمانة لخاطبها أسامة، فهما متكافئان، فكلاهما جامعيّان، وعمراهما متقاربان.
تقلّب في فراشه واستذكر ما قالته جمانة عن والدة أسامة، فالمرأة غيورة وشرّيرة، وهذا معروف لدى كلّ من يعرفونها، فهي تخاصم كلّ امرأة تعرفها، وأكثر ما تغار من النّساء المتعلّمات، ولا تجد ما تفاخر به سوى أنّها ولّادة، كثيرة الإنجاب، ومع أنّها أنجبت ستّة أبناء وأربع بنات، إلا أنّها تغار من الصّبايا اللواتي يحملن وينجبن.
لكن إذا وقع نصيب جمانة مع أسامة فلن تعيش معها، ولا مع زوجها، لأنّها سترافق زوجها الذي يعمل مدرّسا في السّعودية.
حسم أبو جمانة الأمر وقرّر أنّ نصيب جمانة سيكون مع أسامة، فهو رجل دين وعلم، ومع ذلك سيترك محاولة إقناع جمانة حتّى يوم الجمعة القادم، وإن بقيت على إصرارها فلن يوافقها على هذا الرّأي، وهي لا تستطيع الخروج عن رأيه، كما أنّه على قناعة بأنّه يعرف مصلحتها أكثر ممّا تعرفها هي.
*****
اسودّت الدّنيا في وجه جمانة، استدارت على جانبها الأيسر في فراشها، غطّت جسدها كاملا بما في ذلك رأسها بلحاف خفيف، تركت ارتفاعا بسيطا أمام وجهها لتتنفّس منه، لم تعد ترى أمامها إلّا الحائط، انهارت دموعها رغما عنها، لم تعد تدري لماذا تبكي؟ هل تبكي حظّها العاثر أم ماذا؟ فالزّواج لم يخطر لها على بال، حتّى إنّها تشفق على زميلتها المتزوّجة، وتتساءل عن سبب زواجها، ولم تستسغ يوما أحاديث زميلاتها البنات في الجامعة وكلّ منهنّ تروي ضاحكة شغفها الأوّل البريء بابن الجيران، قالت لهنّ ذات يوم:
والله لا أعرف سببا لضحككنّ هذا.
فسألتها زميلتها وطفاء التي تكبرها بثلاث سنوات:
لماذا أنت غاضبة؟
– لست غاضبة، ولكن ما هذا الجنون؟ لا حديث لكنّ سوى فلانة خطبها فلان، وفلانة تزوّجها فلان، وفلانة حامل، وفلانة أنجبت طفلا، وفلانة فلان الفلاني ينظر إليها بإعجاب وسيخطبها قريبا، وفلان وسيم، وفلان طويل… أفففففف، ما لنا وللنّاس؟
ابتسمت وطفاء لها، أمسكت بيدها وقالت لها:
تعالي يا جمانة لنجلس هناك، وأشارت إلى مقعد خشبيّ في ظلال شجرة قريبا من نافورة الماء.
جلستا على المقعد وحيدتين، أخرجت وطفاء من حقيبتها اليدويّة لوحَ شوكلاتة، مدّته بيدها لجمانة؛ لتقسم منه قطعة، وضعت كلّ منهما قطعة الشوكلاتة في فمها، شعرت وطفاء بسعادة وقالت:
سأتكلّم معك يا جمانة في موضوع؛ لأنّني أحبّك في الله.
انتبهت جمانة للطف وطفاء ونعومة حديثها فقالت:
تفضّلي يا وطفاء.
وطفاء: أعترف لك بأنّكِ أكثر طالبات الجامعة جمالا، والطّالبات يكثرن من الحديث عن جمالك المميّز، وعن تفوّقك في الدّراسة، ولا بدّ أن من يراك من الشّباب يعجب بجمالك أيضا، ويتمنّى أن تكوني زوجة له. لكنّ البنات ينتبهن أنّك إنطوائيّة لا تختلطين بهنّ أو بغيرهنّ، وبعضهنّ يفسّر ذلك بأنّك تتعالين عليهنّ، وتنفرين من أحاديثهنّ الجانبيّة؛ لأنّك الأكثر جمالا وحسنا واجتهادا.
لم تستطع جمانة مواصلة السّكوت، فقطعت حديث وطفاء وقالت بلهجة فيها حدّة، لكن بصوت منخفض، كي لا يسمعها أحد غير وطفاء:
والله يا وطفاء لم أرَ نفسي يوما جميلة، بل إنّني أرى نفسي مثل بقيّة الزّميلات، لكن ما يغضبني من غالبيّة زميلاتي هو كثرة حديثهنّ عن فارس الأحلام الذي تنتظره كلّ واحدة منهنّ؛ ليردفها خلفه ويحلّق بها نحو القمر.
وطفاء: وما الخطأ في ذلك ما دام حديثهنّ كلاما في كلام؟
فردّت جمانة متجهّمة: ما الدّاعي لهكذا كلام؟
وطفاء: ما الدّاعي لغضبك هذا؟ فمن حقّ كلّ فتاة أن تحلم بالزّواج، فهذه سنّة الحياة.
جمانة: هل تصدّقين أنّني لم أفكّر يوما بالزّواج، ولم أنتبه يوما لأيّ شابّ؟
تذكّرت جمانة حديثها مع وطفاء وهي متمدّدة دون حراك على فراشها، ودموعها تنزل سخيّة دون إرادة منها حتّى بلّلت وسادتها. هي على قناعة تامّة بأنّها ترفض الزّواج من أسامة أو من غيره، ولا بدّ لها من إقناع والديها بعدم الاستجابة لطلب أسامة لها. واصلت تفكيرها في الموضوع كفتاة لا حول لها ولا قوّة، استذكرت عددا من النّساء اللواتي تعرفهنّ، وسبق لهنّ أن تزوّجن بناء على رغبة ذويهنّ، لكنّها حقيقة لا ترغب بالزّواج في الأحوال كلّها، ولعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في هكذا مجتمع لا يرحم إنسانيّة الأنثى. فجأة تمنّت لو أنّها وُلدت ابنا ذكرا، كي تفهم كيف يعشق الرّجال النّساء؟ وكيف يرغبون بالزّواج منهنّ، وما يعجب كلّ واحد منهم في شريكة المستقبل التي يحلم بها، وكيف يرفض الواحد منهم بيسر وسهولة من تعرضها عليه أمّه أو أبوه من الفتيات ليتزوّجها؟ في هذه اللحظة تحرّكت فيها أنوثتها، فتوقّفت هنا لتمتحن عواطفها، ووجدت أنّها تحلم بشابّ وسيم تشعر بدفء حضنه، ترمي رأسها على صدره المليء بالشّعر، تتحسّس الشّعر النّامي على ساعديه، يملأ قلبها حبّا، تشعر بأنّه يحترم إنسانيّتها، يوفّر لها الحماية من غيلان المجتمع، وأن لا تتعدّى علاقتها معه القبلات النّابعة من القلب، فهي لا تريد أن تكون أمّا، ولا تقبل أن يُستغلّ جسدها من أيّ أنسان. ابتسمت وهي ترى الشَّعْر على صدر الرّجل حديقة ورود تشعل نار الشّغف في قلبها، ورائحة عرقه تبعث الدّفء في قلبها، لكنّها ما لبثت أن طردت هذا الخيال الذي راودها من ذهنها، عادت لإصرارها برفض الزّواج من أسامة أو من غيره، وقرّرت أن تترك بحث الموضوع لسنوات قادمة لا تعرف كيف سيكون تفكيرها ورغباتها فيها. استحمّت ووقفت عارية أمام المرآة، نظرت إلى تفاصيل جسدها، وتساءلت قائلة:
يا إلهي هل جسدي صحراء قاحلة لا تصلح للحرث والزّراعة؟
صباح اليوم التّالي قرّرت جمانة الحديث في الموضوع مع رسميّة زميلتها الطالبة في كليّة الشّريعة المتزوّجة والتي أصبحت أمّا لولد، رصدتها في ساحة الجامعة، فذهبت إليها، استأذنتها لتجلس معها على انفراد، قالت لها بتردّد وحياء:
عزيزتي رسميّة، أنت أختي في الله، أريد نصيحتك، فأنا لم أنم في الليلة الماضية.
رسميّة: حيّاك الله يا أختي، مِمّ تعانين؟
جمانة: يوم أمس جاءني خاطب، وأمّي وأبي يرغبان بتزويجي له، وأنا لا أريد الزّواج منه أو من أيّ شابّ آخر، فما رأيك؟
نظرت إليها رسميّة بحيرة وقالت:
إذا كان من تقدّم لخطبتك مناسبا، فلِمَ ترفضينه؟
جمانة: ماذا تقصدين بالشّاب المناسب؟
رسميّة: أقصد دينه وأخلاقه، مستواه التّعليميّ، عائلته، شكله..هل منظره مقبول أم أنّه دميم؟ هل خفق قلبك له؟
جمانة: الشّاب يحمل “ماجستير” شريعة، يكبرني بخمس سنوات، أمّه شرّيرة غيورة كما نسمع، وهو يعمل مدرّسا في السّعودية.
رسميّة: إذا كان صاحب دين وعلى خلق، فلا تسألي عن أمّه، ولو بحثنا عن والدَيْ أيّ شابّ يريد الزّواج لما تزوّج أحد، فهناك صراع الأجيال كما تعرفين، وما دام يعمل في السّعودية فستعيشين معه هناك بعيدا عن والديه وعن والديك.
جمانة: المشكلة ليست فيه، المشكلة عندي، فأنا لا أفكّر بالزّواج مطلقا منه أو من غيره، وما يهمّني هو إكمال دراستي الجامعيّة.
رسميّة: الزّواج سنّة الحياة، فمن حقّ الشّابّات والشّباب أن يتزوّجوا وأن ينجبوا. والزّواج لا يعيق الدّراسة خصوصا في المرحلة الجامعيّة.
جمانة: سؤالي لك هو:
من خلال تجربتك، هل أنت نادمة على زواجك؟
رسميّة: بالعكس، فالزّواج سكن وطمأنينة يقول تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”. وأنا سعيدة بزواجي، وطفلي أغلى على قلبي من الدّنيا وما فيها.
جمانة: يا إلهي! لكنّني لا أرغب بالزّواج.
رسميّة: سؤال ليس لي، وآسفة مسبقا على طرحه عليك، وأعتقد أنّه سيساعدني في فهم أسباب رفضك الزّواج:
هل يوجد في حياتك شخص آخر؟
أجابت جمانة بثقة وحزم:
أقسم إنّني لم أفكّر يوما في الزّواج، ولم أُعجب برجل في حياتي، ولا تربطني أيّة علاقة حتّى لو كانت حبّا عذريّا بأيّ شابّ.
رسميّة مستغربة: أمرك عجيب يا جمانة، فكلّ بنت في مثل عمرك تمنّي النّفس بأن يتقدّم لها شابّ قبل أن يفوتها القطار. ولا تنسي أنّ الله حباك جمالا مميّزا، وكثير من الشّباب يتمنّى الواحد منهم أن تكوني زوجته المستقبليّة.
جمانة: شكرا لك على الإطراء، مع أنّني لا أرى نفسي جميلة، وما يقلقني هو خوفي من أبي إذا أرغمني على الزّواج.
رسميّة: إذا رأى والداك أنّ زواجك من الشّابّ الذي تقدّم لخطبتك في مصلحتك، فإنّ رأيهم أكثر صوابا من رأيك، فأطيعي والديك ولا تكوني ابنة عاقّة.
نزلت دمعتان من عيني جمانة وهي تقول:
غفرانك ورحمتك ربّي، من يفهمني؟ لا أريد الزّواج من أيّ إنسان.
قالت ذلك وهما تفترقان وكلّ منهما تذهب لمحاضرتها.
*****
جلست جمانة في الزّاوية الخلفيّة لقاعة المحاضرات، فهي تريد الابتعاد عن زميلاتها، أو بالأحرى لا تريد أن يقترب منها أحد، فيرى همومها مرسومة كلوحة عبثيّة خطّها قلم طفل يلهو.
جمانة خائفة حقّا، فهي تعرف أباها ذلك الرّجل الطّيّب الذي يحبّ بناته بعاطفة صادقة، ويحرص عليهنّ أكثر ممّا يحرص هو على نفسه، أو يحرص الآخرون على بناتهم، أخذت تناجي نفسها، دعت ربّها قائلة:
إلهي أنت العالم بحالي، وحال أبي، وتعلم أنّ أبي يبذل الغالي والنّفيس في سبيل تحقيق أيّ شيء يرى فيه مصلحة بناته، إلهي إنّي أخاف أن يلبّي أبي طلب الجاهة التي جاءت تطلبني لأسامة سعيد العدنان، وأنا كما الكثيرات من بنات جنسي لا أستطيع أن أقف في وجه أبي، ولا أستطيع أن أقول له “لا”، فرضا الوالدين من رضا الله، مع أنّني أعي تماما أنّك يا خالقي أعطيتني الحقّ بأن أقبل أو أن أرفض أيّ شابّ يتقدّم لي، لكنّ مجتمعنا سلبنا هذا الحقّ الذي أعطيتنا إيّاه يا ربّي، ونحن لا حول لنا ولا قوّة، إلهي يا عالم الغيب وما تخفي الصّدور أرني الحقّ حقّا وارزقني اتّباعه، وأرني الباطل باطلا وارزقني اجتنابه أنا ووالديّ وأصحاب الحقوق عليّ، اللهم لا تترك لنا همّا إلّا كشفته، ولا كربا إلا فرّجته، يا مجيب الدّعاء يا أرحم الرّاحمين.
انتبه المحاضر إلى شرود جمانة الذّهنيّ فسألها:
أين وصلتِ يا جمانة؟
انتفضت جمانة وكأنّها كانت في غفوة ذهنيّة وقالت:
نعم يا أستاذ.
– انتبهي يا ابنتي.
تعوّذت جمانة بالله من الشّيطان الرّجيم، وحوقلت بينها وبين نفسها، حاولت جمع شتات جسمها وتفكيرها المبعثر؛ لتنتبه لما يشرحه الأستاذ.
عندما انتهت الحصّة وبدأت الطالبات بالخروج من الفصل الدّراسيّ، جمعت جمانة بقايا جسدها المرهق، وخرجت متثاقلة، مشت في طريقها من كلّيّة البنات في دار الطّفل العربيّ عائدة إلى بيتها في حيّ الصّوّانة.
في طريقها إلى البيت كانت ترفع يدها وتحرّك شفتيها، وكأنّها في حوار مع نفسها، وقريبا من “الحسبة” ارتطمت بعامود كهرباء وكأنّها تحتضنه، تلقّت صدمة على جبينها، فأمسكت بها امرأة في منتصف العمر وقالت لها ضاحكة:
انتبهي لنفسك يا ابنتي ” نصّ الألف خمسميّة”، بينما ضحكت امرأتان كانتا تسيران بصحبة تلك المرأة، وقالت إحداهما للأخرى:
يبدو أنّ هذه الفتاة مجنونة، فكيف لم ترَ عامود الكهرباء.
فردّت عليها رفيقتها:
إتّقي الله يا أمّ محمّد، كان الله في عون النّاس، فلكل إنسان همومه و”كل واحد زردته على قدر رقبته”. ومظالم الاحتلال وضعت النّاس في حلقات متداخلة من المشاكل.
عندما ارتطم رأس جمانة بعامود الكهرباء أفاقت على نفسها، تماما مثلما المضبوع الذي يلحق الضّبع إلى جحره مختارا؛ ليكون فريسة له، وعندما يرتطم رأسه بسقف باب الجحر تنزل دماؤه، فيعود إلى رشده وينجو بنفسه.
مع أنّ الدّماء لم تنزل من رأس جمانة، لكنّ الصّدمة تركت انتفاخا على مقدّمة رأسها من الجهة اليمنى، تحسّست ذلك الانتفاخ وهي تبكي بصمت، ومع أنّ الدّنيا أظلمت في وجهها لثوان معدودة، إلّا أنّها أيقظتها من الأفكار التي تتضارب في دماغها، وابتسمت فجأة عندما تذكّرت الأستاذ محمّد الفايز الذي جاءها خاطبا وهي في الصّفّ السّابع، فصرف والدها الجاهة وهو يقول:
بنتي لا تزال طفلة، فهي لم تكمل عامها الثّالث عشر.
وفعل الشّيء نفسه مع المهندس رزق رجب عندما جاءها خاطبا بعد أن انهت الصّفّ التّاسع، وأثناء دراستها في المرحلة الثّانويّة طلب يدها أكثر من خمسة شباب كلّهم أنهوا دراستهم الجامعيّة، وبعضهم يشغل وظيفة لائقة، لكنّ والدها كان يردّهم دون أن يأخذ رأيها أو رأي والدتها أو رأي أيّ شخص آخر، بقوله أنّ ابنته لا تزال طفلة.
عندما ظهرت نتائج “التّوجيهي” وحصلت على معدّل علامات مرتفع ” 94.8″تقدّم لها خاطب في بداية الثلاثينات من عمره، ويحمل شهادة الأستاذيّة “الدّكتوراة” في الآداب، ردّه والدها بقوله:
لن أزوّج أيّا من بناتي قبل أن تحصل على شهادتها الجامعيّة الأولى، فتعليم البنت حصن حصين لها، تذكّرت ذلك وضحكت، وهي تكبر بأبيها هذا الموقف الرّائع، فهذا الوالد الذي لم ينه مرحلة التّعليم الابتدائيّة بسبب النّكبة التي حلّت بالبلاد يعرف قيمة تعليم الأبناء، وموقفه هذا لم يطبّقه عليها وحدها، بل طبّقه على شقيقتيها الأصغر سنّا منها أيضا، فقد جاءهما هما الأخريان من يطلب يد كلّ منهما، لكنّ جواب الأب لم يتغيّر.
ضحكت جمانة ملء شدقيها عندما تذكّرت والدة “دكتور الآداب” التي زارتهم في بيتهم في محاولة منها لإقناع جمانة ووالدتها بقبول زواج جمانة من ابنها، فقالت لها جمانة:
يا خالتي بإمكان ابنك أن يجد عروسا خيرا منّي.
فردّت عليها: ابني يريد فتاة صغيرة ليربّيها على يديه!
فقالت لها جمانة ضاحكة:
وهل يعتبر ابنك “الدّكتور” الزّوجة خروفا يريد أن يسمّنه حتى يأتي يوم نحره؟
تذكّرت ذلك جمانة ودعت الله أن يبقى والدها على مواقفه السّابقة، لكنّ الأماني شيء والواقع شيئا آخر، فهذه المرّة بدا موقف أبيها مختلفا، وربّما يعود سبب ذلك؛ لأنّها قاربت على التّخرّج من الجامعة.
وعندما تذكّرت ما كانت تردّده والدتها بفخر أمام النّساء:
بناتي والحمد لله مطلوبات؛ لأنّهنّ مميّزات بجمالهنّ وأخلاقهنّ.
تذكّرت جمانة ذلك وتساءلت:
هل أنا جميلة حقّا كما تقول الوالدة، أم أنّ “القرد في عين أمّه غزال”؟
وهل جمال الفتاة نعمة أم نقمة عليها؟ وكيف يحكم الرّجال على النّساء بأنّهن جميلات أم لا؟ وهل ما قاله محمود درويش “كلّ النّساء جميلات” خيال شاعر أم حقيقة؟
في الواقع إنّ وصف جمانة بالجميلة يشعرها بسعادة داخليّة ويدغدغ أنوثتها التي ما زالت حبيسة، فهي كما بقيّة النّساء تحبّ الثّناء، لكنها تتظاهر بأنّ ذلك لا يعنيها؛ ليقينها الذي لا يتزعزع بأنّ الله حباها جمالا مميّزا.
عاد أبو جمانة من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، دخل في صالون البيت، نادى زوجته بصوت مرتفع، عندما حضرت قال لها:
اسمعي يا لطيفة، المثل يقول:
“دوِّر لبنتك قبل ابنك”، اليوم التقيت الحاج عزّالدّين عمّ أسامة في المسجد الأقصى، جلس بجانبي تحت ظلال شجرة زيتون قريبا من باب الرّحمة، وسألني عن ردّنا على طلبتهم جمانة لأسامة ابن أخيه سعيد، وأضاف بأنّ لا وقت لدى العريس إذ إنّه سيسافر بعد غد إلى السّعودية حيث يعمل، فأجبته بأنّنا نتشرّف بمصاهرتهم، واتّفقنا أن يحضروا لبيتنا بعد صلاة العصر؛ لنتّفق على الخطبة، فجهّزي بنتك.
أمّ جمانة: هذا عين الصّواب، ونحن أدرى بمصلحة جمانة أكثر منها. و”ربنا يجيب اللي فيه الخير”.
دخلت لطيفة غرفة نوم البنات لتزفّ الخبر لجمانة.
عندما أخبرتها بالموضوع، التفتت جمانة إليها ولم تتكلّم، أصابها وجوم كأنّ لسانها انعقد عن الكلام، اكتفت بعبرات سالت من عينيها على وجنتيها، فسّرتها الأمّ بأنّها دموع الفرح، فقالت:
مبارك عليك يا بنتي، وقومي “تمكيجي” ورتّبي حالك قبل أن يصل الخاطب ومن معه، وعادت إلى الصّالون حيث يجلس زوجها فقالت له وابتسامة عريضة تملأ وجهها:
الحمد لله، جمانة لم تعترض على ذلك يا عيسى.
تفاجأ الأب بما سمعه وسأل:
هل قالت لك يا لطيفة بأنّها موافقة؟
أجابت بثقة وهي تضحك:
“سكوت البنت علامة رضا وموافقة”.
فرح الأب بما سمعه وقال:
الحمد لله الذي هداها إلى طريق الخير.
بعد صلاة العصر حضر إلى بيت أبي جمانة كلّ من إمام المسجد المجاور، وأسامة، واثنان من إخوته، وأخته الكبيرة، ووالداه، وعمّه الحاج عزّالدّين.
دخلت النّساء إلى الصّالة بعيدا عن صالون البيت حيث يجلس الرّجال، كانت أمّ أسامة تحمل على رأسها صينيّة كنافة، وقفت أمّ جمانة وابنتها تغريد في استقبالهنّ. مسحت أمّ أسامة بمنديلها العرق المتصبّب من جبينها، وسألت:
أين الغالية؟ -تقصد جمانة-.
أمّ جمانة: البنت ترتّب نفسها وستأتي بعد لحظات.
استمعت جمانة للحديث، مسحت دموعها، ارتدت جلبابها وحجابها وخرجت إليهنّ، ضمّتها أمّ أسامة إلى صدرها وقبّلتها وهي تبسمل وتحمدل، تبادلت القبل مع أسمهان شقيقة أسامة الكبرى، ولم تنطق بأيّ كلمة.
جلست بين والدتها وحماة المستقبل.
في صالون البيت سأل أبو أسامة أبا جمانة:
كم تريد مهرا لابنتك يا عيسى؟
أبو جمانة: أريد السّتر يا سعيد.
إمام المسجد باسما: ربنّا يستر على الجميع لكنّ المهر حقّ واجب للعروس.
أبو جمانة: حيّاكم الله، ليكن مهر جمانة مثل مهر بناتك يا سعيد.
أبو أسامة: المهر المعجّل لكلّ واحدة من بناتي 300 غرام ذهب، والمؤجّل عشرة آلاف دينار.
سكت أبو جمانة للحظة وقال:
مهر جمانة المعجّل 250 غرام ذهب، والمؤجّل خمسة آلاف دينار أردنيّ، والرّسول عليه السّلام يقول:”أقلّهنّ مهرا أكثرهنّ بركة”.
الحاجّ عزّالدّين: جزاك الله خيرا يا أبا جمانة، ابن أخي أسامة العريس، سيسافر بعد غد إلى السّعودية، دعونا نقرأ الفاتحة الآن، ونعقد عقد الزّواج، وغدا سنشتري المصاغ وكسوة للعروس، وسنعلن الخطبة بعد عصر غد.
والزّواج سيكون بإذن الله في عطلة المدارس الصّيفيّة بعد حوالي خمسة أشهر.
قرأوا الفاتحة وعقد إمام المسجد عقد الزّواج، فانطلقت الزّغاريد من أمّ أسامة وأمّ جمانة.
انصرف الحضور باستثناء أسامة ووالدته قبل صلاة المغرب بقليل، عندها دخلت النّساء إلى الصّالون، باركن للعريس، أجلسن جمانة بجانب أسامة.
بعد صلاة المغرب قالت أمّ أسامة دعونا نترك العروسين مع بعضهما؛ ليتحدّثا ويتعارفا، فلبّوا طلبها، أغلقت أمّ أسامة باب الصّالون خلفها، التفت أسامة إلى جمانة وقال على استحياء:
هل تعلمين أنّك الآن زوجتي؟
طأطأت رأسها حياء ولم تقل شيئا.
عاد يسألها: هل تعلمين أنّ الزّوج يقبّل زوجته؟
فطأطأت رأسها مرّة أخرى ولم تنبس ببنت شفة. وضع يده على رقبتها وطلب منها أن تقبّله، فلم تلتلفت إليه، أدار وجهها إليه وقال لها:
ما أجملك! سبحان الخالق الذي خلق فسوّى، ثم قال وهو يهوي بشفتيه على شفتيها:
هاتان الشّفتان حان قطافهما.
شعرت باختناق وهو يطبق بشفتيه على شفتيها، شعر ذقنه الطويل يغطي عنقها، يده اليمنى تحيط برقبتها، مدّ يده اليسرى إلى صدرها فردّته بيدها اليمنى وهي تلهث خائفة.
كان متوتّرا أطلق شفتيها للحظات وسألها وهو يلهث:
لماذا لا تقبّلينني كما أقبّلك، فالقبلة حقّ للزّوجين؟
لم يجد عندها جوابا، فعاد يطبق بشفتيه على شفتيها، نظرت إلى وجهه باستغراب، شعرت بقلق بالغ، حزنت على نفسها، ولم تستوعب طريقة تعامله معها، حاول أن ينزّل حجابها وهو يقول:
دعيني أرى شعرك.
لكنّها صدّته قائلة: لن ترى شعري قبل زفافنا.
فردّ عليها بصوت منخفض وغاضب:
أنت الآن زوجتي.
قالت مستاءة: لن أكون زوجتك قبل حفل الزّفاف، وإشهار هذا الزّواج.
وقفت في محاولة منها للهروب منه، لكنّه أمسكها من ذراعها وضمّها إلى صدره بقوّة، وعاد يطبق على شفتيها بشفتيه، وقال لها:
سأكون سعيدا جدا بك، فجمال وجهك يأسرني، وقامتك أقصر من قامتي ببضعة سنتيمترات، وهذا يعني أنّني سأحني رأسي قليلا عندما أقبّلك، وهنا سمعا طرقا خفيفا على باب الصالون، فأسرع كلّ منهما إلى مقعده، وعندما تكرّر طرق الباب قام بفتحه قليلا وإذا بوالدته أمامه تقول باسمة:
جئتكما بفنجاني قهوة، أمسك الصّينيّة من يد أمّه التي قالت له ضاحكة:
إهنأ بعروسك فلن يطرق بابك أحد.
قدّم فنجان قهوة لجمانة وهو يقول:
تفضّلي يا سيّدة الجمال.
فردّت عليه عابسة:
أنا لا أشرب القهوة.
فعاد يسألها: هل تشعرين بغربة وأنت معي وحيدة في غرفة مغلقة؟
فردّت عليه بجرأة: طبعا، فأنا لا أعرفك ولم أعتد عليكَ.
رشف قليلا من فنجان القهوة وسألها:
وهل تعرفين غيري ومعتادة عليه؟
نظرت إليه نظرة احتقار وسألت وهي تقف في محاولة منها للخروج:
هل تطعنني بشرفي من الآن يا….؟ ولم تكمل، بينما انهارت الدّموع من عينيها.
ابتسم وهو يقول: أعوذ بالله، لكنّني أستفزّك كي تجلسي في حضني!
أدارت وجهها عنه وانتقلت لتجلس قبالته، فلحق بها وهو يقول:
لا تنسي أنّك زوجتي على سنّة الله ورسوله.
فردّت عليه غاضبة: لن أكون زوجتك قبل حفل الزّفاف.
وعاد يسأل: هل أفهم من كلامك أنّك لم تحبّيني؟
ردّت عليه باستخفاف: كيف أحبّك وأنا لا أعرفك؟
– قلت لك أنّك الآن زوجتي، فقد عقدنا زواجنا قبل قليل.
فردّت غاضبة: وقلت لك أنّ زواجنا لن يتمّ إلا بعد حفل الزّفاف.
فكّر قليلا وقال: معكِ حقّ فالحبّ يقع بالمعاشرة الطّيبة، وأنا واثق بأنّ ستحبّينني “عندما تتذوقين عسيلتي وأتذوّق عسيلتك،” فهكذا قال أساتذتنا الأوائل من علماء الدّين!
فسألته ساخرة: وهل أباح لك أساتذتنا الأوائل أن تغلق عليّ الباب، وتغتصب القبلات منّي؟
شعر بنوع من عذاب الضّمير وقال:
لا سمح الله أن أغتصبك ولو بقبلة، لكنّني أخذت جزءا من حقّي عليك، وأعلم أنّك تتحلّين بحياء العذارى، فأردت كسر الحواجز بيني وبينكِ.
نظرت إليه بازدراء ولم تقل شيئا.
عندما حلّ وقت صلاة العشاء وجدتها فرصة للهروب منه فقالت له:
سأجلب لك سجّادة صلاة لتصلي، وأستأذنك أنا لأؤدي الصّلاة.
ردّ عليها: صلاة العشاء وقتها حتى قبيل صلاة الفجر بقليل. وأنا لن أصلي قبل الاستحمام لأنّني لم أعد على طهارة.
لم تفهم عليه ما قاله، ولم تشأ الاستمرار في الحديث معه، وقالت:
أنا ذاهبة لأصلّي.
عندما مرّت بالنّساء سألتها أمّ أسامة:
لماذا لم تبقي مع عريسك يا حبيبتي؟
نظرت جمانة إليها باستغراب وقالت:
أريد أن أصلّي، وطلبت من أبيها أن يذهب لمجالسة أسامة، لكنّ أمّ أسامة تساءلت قائلة بلهجة استنكار:
وهل هذا وقت الصّلاة الآن؟
لم تلتفت جمانة إليها وتجاهلت سؤالها، دخلت غرفتها، أغلقت الباب خلفها، ألقت نفسها على السّرير، وانهارت باكية، ضاقت عليها الدنّيا رغم اتّساعها، أخذت تتحسّس شفتيها، لم تشعر بأيّ لذّة أو متعة من القبلات التي قصفها بها أسامة، ذهبت إلى المغسلة وغسلت شفتيها بالماء والصّابون، تخيّلت ذقن أسامة كحبل مشنقة يشتدّ على رقبتها، اشمأزّت من أنفاسه ورأتها عبئا عليها، لامت نفسها أكثر من مرّة لعدم وقوفها بصرامة ضدّ موقف أبيها بخصوص الزّواج من أسامة، وبّخت نفسها؛ لأنّها قبلت أن تبقى معه على انفراد في صالون البيت، لم تقتنع بحجج أبيها وحجج إمام المسجد بالاستعجال بعقد القران؛ كي يتمكنّ الخاطبان من مصافحة بعضهما، والجلوس على انفراد. رأت أنّ أسامة استغل عقد الزّواج؛ وتعامل معها كما يتعامل الزّوجان، بل إنّه تعامل معها كدمية يمتلكها، وهذا خلاف رغبتها وخلاف مبادئها والتّربية التي نشأت عليها. أمضت ليلتها تحلّق في فضاء تحلم به، بعد أن وجدت نفسها مغلوبة على أمرها في صحراء قاحلة، لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في بلاد لا تحترم إنسانيّتها، رأت قمرها يختبئ خلف غيوم سوداء متراكمة، كما رأت جمالها لعنة عليها، حيث جلب لها الخاطبين متتابعين قبل أن تعرف ماهيّة الزّواج.
في الجانب الآخر سيطر الأرق على أسامة، فقد كان متهيّجا معتدّا بفحولته، أمضى ليلته يتقلّب في كنبة طويلة في صالون البيت، لم يشعربتأنيب ضمير لأنّه اغتصب القبلات من شفتي جمانة، فهي زوجته منذ اللحظة الأولى لعقد قرانه عليها! استعاد في ذاكرته بعض النّصوص الدّينيّة، التي تبيح له التّعامل مع زوجته، شعر بالرّضا عن الذّات وهو يسترجع الآية الكريمة:” نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.”، وأنّ القبلة بين الزّوج وزوجته هي رسول العلاقة بينهما، لكنّه تساءل عن سبب عدم استسلامها للقبلة التي فرضها عليها دون مقدّمات، فوجد لنفسه عذرا؛ لأنّ طبيعة النّساء”يتمنّعن وهنّ راغبات”! كما أنّه لا يمكن تجاهل حياء العذارى، وبالتّأكيد فإنّ تمنّع جمانة دليل على عذريتها وأنّها لم تعرف رجلا قبله.
بقي يرسم صورة لجمانة في خياله، فخدودها بيضاء تعلوها حمرة كما التّفّاح، عيناها فيهما زرقة سماء صافية، شفتاها لذيذة كقطعة حلوى شهيّة، أسنانها كعقد اللؤلؤ الطّبيعيّ، أنفاسها تبعث الدّفء في القلب، غرّاء فرعاء، نحيلة الخصر بلا اعوجاج، تمشي بدلال كزهرة يهبّ عليها نسيم عليل، صوتها مغناج دون تصنّع. أنفها مستقيم كمنقار حمامة برّيّة.
تقلّب في فراشه يلوم نفسه لعدم خطبتها والزّواج منها منذ بداية إجازته البالغة ثلاثة أسابيع، ولو فعل ذلك لكان اصطحبها معه إلى عمله في السعودية؛ لتكون خليلته ومؤنسة وحدته، لم يضع اللوم على نفسه وحده، بل حمّل مسؤوليّة ذلك لوالدته وشقيقاته، فقد كلّفهنّ أن يبحثن له عن عروس وهو في عمله في السعودية، صحيح أنّه رأى جمانة مرّات عديدة للحظات قبل اغترابه، لكنّها كانت طفلة وقتذاك، ولم تلفت انتباهه، بل إنّها لم تخطر له على بال لتكون زوجة له.
بعد منتصف تلك الليلة استعاذ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسمل وحمدل، على أمل أن ينام ساعتين أو ثلاث قبل صلاة الفجر، لكنّه لم يستطع فقد بقيت جمانه تسيطر على عقله وقلبه، صلّى الفجر ودعا الله بأن يهديه إلى ما فيه خير له، لكنّه لم يغف إلا بعد صلاة الفجر بساعة، وهذا مخالف لما اعتاد عليه.
عندما غفا مرّت به والدته بعد أن أعدّت قهوة الصّباح، أرادت أن تحتسي فنجانها بصحبة أسامة وأبيه، عندما وجدت أسامة غافيا قالت بصوت مسموع:
ليأخذ الله من أخذت عقلك يا ابني.
واستدارت لتعود من حيث أتت، غير أنّ أسامة استيقظ عند سماعه صوتها، فسأل:
خيرا يا أمّي، من هي التي تدعين الله ليأخذها؟
ابتسمت وعادت إليه، جلست على كنبة خلف رأسه بعد أن وضعت فنجان قهوة بجانبه، ابتسمت وقالت:
هل أنت نائم أم مستيقظ؟
– كنت نائما واستيقظت.
– اسمع يا ابني، الإرهاق باد عليك، يبدو أنّك أمضيت ليلتك تفكّر بتلك الملعونة، فلا تغترّ بها، وإيّاك أن تدلّلها فتطمع بك.
حوقل أسامة وسأل:
من تقصدين يا أمّي؟
تنهدّت وقالت: العروس التي كتبت كتابك عليها. لا تغترّ بها.
وهنا دخلت أسمهان شقيقة أسامة وقالت بعد أن سمعت كلام والدتها:
وحّدي الله يا أمّي، والله جمانة حلوة ومرتّبة وخلوقة.
غمزت أمّ أسامة ابنتها التي جلست قبالتها بعينها وقالت:
من أين أتاها الجمال؟ هكذا نساء “من برّه رخام ومن جوّه سخام”.
استند أسامة وجلس، التفت إلى أمّه عابسا وسألها:
إذا كانت غير مناسبة، فلماذا اخترتِها عروسا لي؟
فردّت الأمّ: أنت من تقرّر إن كانت مناسبة أو لا، بعد أن تجرّبها وتختبرها.
وهنا دخل أبو أسامة وققال لزوجته:
“اللي فيه عاده ما بخلّيها” اتركيك من هذا الكلام الفارغ يا فاطمة.
وهنا تدخّلت أسمهان وقالت:
والله جمانة حلوة وذكيّة ومستورة وما شاء الله عليها.
فردّت عليها أمّها ساخرة: حلوة مثلك!
فقال أبو أسامة غاضبا: أحلى منك ومن قريباتك.
غضبت أمّ أسامة وقالت:
الحق عليّ لأنّني كنت أنجب لك كل عام ابنا يحمل اسمك، ومع ذلك لا أزال أجمل منها ومن أمّها ومن كلّ قريباتها.
تساءل أسامة حائرا: ما الدّاعي لهذا الكلام يا جماعة؟
ردّ عليه أبوه: هذه عادة أمّك “لا يعجبها العجب ولا الصّيام في رجب.” وغيرتها لا حدود لها.
قالت أسمهان: لا داعي لهذا الكلام، واليوم الخطبة، وأسامة سيسافر غدا، وهداك الله يا أمّي.
وهنا همّت أمّ أسامة بمغادرة الجلسة وهي تقول لزوجها:
ما دام كلامي لا يعجبك، فلن أتدخّل في شيء.
فردّ عليها: تستريحين وتريحين غيرك.
التفت إليها أسامة وقال لها:
اسمعيني يا أمّي، إذا كانت جمانة لا تعجبك، فلن تكون لي زوجة، وسأطلّقها هذا اليوم قبل أن أسافر غدا!
التفت إليه أبوه وسأله:
ماذا جرى لك يا ولد؟ هل جننت؟ لم تتزوّج حتّى تطلّق.
قالت أسمهان لأمّها: هيّا بنا يا أمّي لنذهب إلى المطبخ، كي نعدّ وجبة الفطور.
في المطبخ قالت أمّ أسامة لابنتها:
اسمعي يا أسمهان، لا تكوني غبيّة، أنا مع زواج أسامة من جمانة، لكن من غير المعقول أن يقتنع هو وأبوه أنّ هناك نساء أجمل منّا.
ضحكتّ أسمهان وقالت:
هداك الله يا أمّي، فأسمهان مثل ابنتك، وأبي ينظر لها كابنته أيضا، وجمالها من حظّ ابنك أسامة.
في بيت أبي جمانة جلست الأسرة في ساعات الصّباح فقالت الأمّ:
الحمد لله جمانة لقيت نصيبها، ونسأل الله التّوفيق، والعقبى للبقيّة.
قال الأب: أسامة شابّ ذو علم ودين، ومن يخاف الله لا تخف منه، ومن حسنات مصاهرته أنّه سيصطحب جمانة معه إلى مكان عمله في إمارة السعودية، وهناك ستكون بعيدة عن أمّه، وستستطيع هي الأخرى أن تعمل في التّدريس هناك.
ابتسمت تغريد وقالت لجمانة مازحة:
هنيئا لك فأسامة شابّ وسيم، وأمّه امرأة فاضلة، ثمّ ضحكت وهي تقول:
وما شاء الله على ذقنه!
ابتسم الجميع بينما ازدادت جمانة عبوسا وقالت لتغريد:
أسكتي أحسن لك.
فردّت عليها تغريد ضاحكة:
وإن لم أسكت؟
– عندها ستنالين صفعة على وجهك.
– ابتعدت تغريد عن مرمى ذراع جمانة وقالت مازحة:
– إن ضربتِني سأشكوك لأسامة.
قال الأب لا داعي لمل هذا المزاح يا بنات. وقال لزوجته:
جهّزي ابنتك يا لطيفة فبعد قليل سيأتون لاصطحابها إلى القدس لشراء مصاغها.
ذهبت جمانة إلى غرفتها، غسلت وجهها، لم تضع أيّ “مكياج”، ارتدت جلبابا أسود، ووضعت حجابها الأسود، وعادت تجلس معهم، أمسكت أمّها يدها وقادتها إلى الغرفة وقالت لها بلهجة آمرة:
استحمّي، وضعي “مكياجا” وأحمر شفاه، ورشّي قليلا من العطر، ارتدي جلبابا ملوّنا، وضعي حجابا زهريّا يليق بك كعروس.
التفتت إليها جمانة وقالت:
أنا راضية عن نفسي كما أنا، ومن لا يرضيه ذلك فليشرب من ماء البحر الميّت.
الأمّ ممقوتة: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
في العاشرة صباحا وصل أسامة وشقيقته أسمهان بيت أبي جمانة، كي يصطحبانها لشراء المصاغ الذّهبيّ، سألتهم أمّ جمانة:
أين أمّ أسامة؟
بلعت أسمهان ريقها وقالت:
أصبحت مصابة بمغص وارتفاع بدرجة الحرارة.
– سلامتها.
أسمهان: هل أنتنّ جاهزات؟
أمّ جمانة: نعم، سأذهب أنا وجمانة معكما.
انفرد أبو جمانة بزوجته وابنته وقال لهما:
كما أوصيتكما، إيّاكما أن تشتريا أكثر من 250 غرام ذهب، واحرصن أن يكون الوزن أقلّ من ذلك.
لم تعترض جمانة على شيء، ولم توافق صراحة على شيء، هي مستسلمة لقدرها، وكأنّها ما عادت تعرف ما ينفعها أو يضرّها.
قالت أسمهان لشقيقها أسامة:
اجلس أنت وعروسك في المقعد الخلفيّ للسّيّارة، وستجلس أمّ جمانة بجانبي.
فتح أسامة باب السّيّارة الخلفيّ وقال لجمانة:
تفضّلي.
دخلت وأراد الالتحاق بها مباشرة، فالتفتت إليه وقالت:
أدخل من الجانب الآخر.
مدّ ساقه اليمنى لتلامس ركبته فخذ جمانة التي التصقت بباب السّيّارة كعصفور يحتمي بحائط من مطر شديد، مدّ يده اليمنى لتلامس رقبة جمانة، لكنّها رفعت رأسها إلى الأمام كي لا تلامس يده.
ركنوا السّيّارة في موقف المصرارة قريبا من باب العمود، قالت أسمهان لشقيقها أسامة:
سأسير ولطيفة -أم جمانة- أمامكما، فاتبعانا إلى سوق العطّارين لنشتري المصاغ الذّهبيّ.
اقترب أسامة من جمانة وهمس لها:
لماذا لم تضعي نقابا؟
التفتت إليه متفاجئة وسألت:
لِمَ النّقاب؟
– هذا شرع الله.
عند باب العمود أوقفت شرطة الإحتلال أسامة؛ لتفتيشه وفحص بطاقة هويّته، فاستغلّت جمانة الفرصة وأسرعت لتلحق بوالدتها وشقيقته، لحق بها مسرعا، التصقت بأمّها، فالتفتت إليها وقالت:
امشي بجانب خطيبك.
لم يكن هناك مجال للحديث المشترك بينهما، فمن الصّعب على اثنين أن يسيرا كتفا على كتف في أسواق القدس القديمة، بسبب اكتظاظ الأسواق بالمارّة والسّيّاح، والمتسوّقين، والسّائرين إلى المسجد الأقصى للصّلاة.
احتار أسامة فيما يفعله، فهو على شوق للحديث معها، ومنّى نفسه بأن يقترب رأسه من رأسها، كي تلفح أنفاسها وجهه، لكنّ ذلك لم يحصل.
في محلّ الصّياغة قدّم الصّائغ كرسيّين لأسمهان ولطيفة، وطلب من العروسين أن يتقدّما ليختارا ما يحلو لهما. لكنّ جمانة جلست على الكرسيّ وقالت لأمّها:
اختاري أنت.
نظرت جمانة إلى القطع الذّهبيّة التي عرضها الصّائغ على “الفاترينا” الزّجاجيّة في علب تضفي رونقا على محتوياتها، مدّت يدها لخاتم الخطوبة، قاسته في بنصر يدها اليمنى، فجاء مناسبا، كما اختارت بشكل سريع سلسالا ذهبيّا مع إسورة وزوج حلق خفيفة الوزن مرفقة به، وقالت:
هذا يكفي.
بلغ وزن ما اختارته 183 غراما، وعادت تقول:
هذا يكفي.
نظرت إليها والدتها تحثّها على تكملة حقّها في المهر المعجّل وهو 250 غراما، لكنّها رفضت. قدّم الصّائغ خاتم فضّة هديّة لأسامة.
عندما خرجوا من محلّ الصّياغة قال أسامة:
أريد أن ألحق صلاة الظّهر في المسجد الأقصى، لأكسب الوقت، كي نشهر الخطوبة بعد صلاة العصر كما اتّفقنا، نظرت إليه شقيقته أسمهان وعضّت على شفتها السّفلى، فلم يفهم عليها شيئا، اقتربت منه وهمست له:
دعنا نشتري فستان خطوبة للعروس، ولا تنس أنّ العريس في هكذا مناسبة يدعو العروس ومن معها لوجبة غداء في مطعم.
فقال لها: اشتري لها فستان الخطوبة، لا داعي للغداء، فأنا ذاهب للمسجد الأقصى فقد أدركنا وقت صلاة الظّهر.
واستدار في طريقه مسرعا إلى باب السّلسلة الذي يفضي إلى الأقصى.
فقالت أسمهان تبرّر تصرّف شقيقها:
أسامة –حفظه الله- حريص على الصّلوات في مواقيتها، ويريد استغلال وجوده في القدس للصّلاة في الأقصى طمعا في الثّواب العظيم.
فقالت أمّ جمانة: وفّقه الله وحفظه وتقبّل صلاته.
بينما لم تتكلّم جمانة شيئا.
اشترين فستان خطوبة من محلّ مختصّ بأزياء العرائس في شارع صلاح الدّين، الممتدّ من باب السّاهرة، وهناك عرضت أسمهان على جمانة ووالدتها أن يذهبن إلى صالون تجميل، لتسريح الشّعْر، وعمل “المكياج” استعدادا للخطبة، لكنّ جمانة رفضت قائلة:
شعري ناعم كما خلقه الله، ولا يحتاج إلى تسريح، لا داعي “للمكياج” لأنّه يزول بالوضوء للصّلاة، والإنسان جميل – كما خلقه الله- ولا داعي للتّزييف.
لم تستطع أسمهان إقناع جمانة بالذّهاب إلى صالون التّجميل، فاضطرت لإعادتها وأمّها إلى بيتهما، وأسرعت لاصطحاب والدتها وشقيقاتها إلى صالون تجميل.
اقتصر حفل الخطوبة على أهل العروسين، وبعض جارات العروس، فالوقت ضيّق، ولا داعي لتبذير الأموال في استئجار قاعة، جلس الرّجال بجانب بيت أبي جمانة على كراسي بلاستيكيّة تحت الأشجار، فالجوّ معتدل، في حين جرى ترتيب “لوج” في صالون البيت ليرتفع العروسان قليلا عن مستوى الأرض.
ارتدت جمانة فستان الخطوبة، خلعت حجابها فلن يراها رجل غير العريس، شعرها الحريريّ ينسدل على جانبي صدرها، وضعت قليلا من الكحل في عينيها تحت إلحاح والدتها، في حين أصرّت شقيقتها تغريد أن تضع لها خطّا من أحمر الشّفاه، ورشّت على رقبتها قليلا من العطور الهادئة.
عندما دخل أسامة لتلبيس العروس خاتم الخطوبة، ذهل من جمال جمانة، وقف قليلا عند باب الصّالون يتأمّلها، فهذه هي المرّة الأولى التي يراها فيها دون حجاب، رأى شعرها ناعما كموج البحر في يوم دافئ. جلس بجانبها وسط ترحيب الحاضرات، اقتربت منه والدته تحمل صينيّة نحاسيّة عليها خاتم الخطوبة والمصاغ، مدّت جمانة يدها إليه؛ ليضع الخاتم في بنصر يدها اليمنى، كانت يداه ترتجفان حياء، أعطت والدته الخاتم الفضّي لجمانة وهي تقول:
ضعي الخاتم في يد عريسك، مدّ أسامة يده ووضعها على فخذ جمانة، رفعت يده اليمنى بيدها اليسرى، ووضعت الخاتم في إصبعه وسط الزّغاريد التي ملأت فضاء المكان.
أشعلت أسمهان المسجّل على أغنية “دبلة الخطوبة” للمطربة شادية:
يا دبلة الخطوبه عقبالنا كلنا
ونبني طوبه طوبه فى عش حبنا
نتهنا بالخطوبه ونقول من قلبنا
يا دبلة الخطوبه
يا صوره فى الخيال ما تغبش عننا
بداية الآمال وعز فرحنا
شبكنا بدلته وقرينا فاتحته
وعرفنا نيته وغلاوته عندنا
يا دبلة الخطوبه
يا دبله من دهب قوليلي ايه مكتوب
دا الاسم بالدهب منقوش عالقلوب
القلب وانشبك وراح مع الشبك
ولقينا فى الشبك نصيبنا وفرحنا
وفي دبلة الخطوبه كتبنا اسمنا
يا دبلة الخطوبه
نظر أسامة إلى شقيقته أسمهان نظرة غضب، لكنّها لم تكترث به، أشار لأمّه أن تأتي إليه، فنزل من على المنصّة، وأمسك المسجّل من يد أسمهان وهو يحوقل ويقول:
هذا حرام …هذا حرام.
ثمّ خاطب النّساء بقوله:
هذا الرّقص والغناء حرام، هل يتزوّج المرء ليستر نفسه أم ليدخل النّار؟
وهؤلاء النّساء الكاسيات العاريات لا يخفن الله عندما يبدين زينتهنّ أمامي.
وقفت أمامه شقيقته أسمهان وقالت:
هداك الله يا أخي، فهنّ يغنّين ويرقصن فرحا بخطوبتك، ولا داعي للمشاكل. أبعد يدها عنه بقوّة وقال:
غنّين كما تشأن، فأنا خارج عند الرّجال، ولن أعود إلا بعد انصراف غير المحارم.
شعرت جمانة بالحرج، صكّت على أسنانها غضبا ولم تتكلم، لكنّها نزلت عن المنصّة، حاولت أن تذهب لغرفة النّوم؛ لتواري دموعها، لكنّ شقيقتها تغريد، أمسكت بها وأجلستها.
حاولت الجارات أن ينصرفن وهنّ يشعرن بأسى وقلّة الاحترام، لكنّ أمّ أسامة وأمّ جمانة أمسكتا بهنّ وهنّ يقلن:
لا تؤاخذننا يا أخواتنا، فالعريس متديّن، وهذا ما تعلّمه أثناء دراسته للشّريعة، وعند زواجه سنقيم له حفل زفاف إسلاميّا. والآن بإمكانكنّ أن تغنّين وترقصن كما تشأن، بعضهن استوعب ما حدث، وبعضهنّ خرجن ولم يقبلن الاعتذار.
بارك الرّجال لأسامة بالخطوبة، انتبه عمّه الحاج عزّالدّين لعبوسه والكشرة التي تعلو وجهه، فسأله:
ما بك يا أسامة؟ هل أغضبك أحد؟
– نعم غضبت لله.
– وهل هناك من انتهك حرمات الله يا رجل؟
وقف أسامة، بسمل وحمدل وقال:
أمّا بعد، فقد جاء على موقع الشّيخ القرضاويّ – حفظه الله- عن الرّقص:
” لا نجد أي حرج شرعيّ في الرّقصات الشّعبيّة المشهورة المتوارثة في الأقطار العربيّة والإسلاميّة المختلفة، والتي يمارسها النّاس في المناسبات السّارة مثل الأعياد الدّينيّة، والذّكريات القوميّة، والأفراح الشّعبيّة، كما في رقصات العرضة والرّقص بالسّيف في بلاد الخليج، ورقصات (الدّبكة) في فلسطين وبلاد الشّام بصفة عامّة، ومثل التّحطيب واللعب بالعصا في مصر. وفي كلّ بلد نجد ألوانا من الرّقص الشّعبيّ المعبّر عن الفرحة والابتهاج، ليس فيه تكسّر ولا تخنّث، ولا يعمد إلى أيّ نوع من أنواع الإثارة. ومثل هذا لا ينكر شرعا.
وممّا يدخل في هذا: رقص النّساء في الأعراس، بعضهنّ مع بعض، مجاملة للعروس، إذا لم يشتمل على منكر آخر يقارفه.”
ولكن الحرج يتأتّى إذا تمّ ذلك في حضور الرّجال الذين ليسوا بمحارم لهؤلاء النّساء، ولا يحلّ لهم الاطّلاع على ما أمر الله بستره من زينتهنّ، كما قال تعالى: “وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.
قطع أبوه حديثه قائلا:
ماذا جرى لك يا ولد؟ اترك النّساء يغنّين ويرقصن فرحا بخطبتك.
لكنّ أسامة واصل حديثه بلهجة حازمة:
هداك الله يا أبي، فالسّاكت عن الحقّ شيطان أخرس، فالشّيخ ابن عثيمين-رحمه الله- قال في الرّقص:
” وأمّا الرّقص من النّساء فهو قبيح لا نفتي بجوازه لما بلغنا من الأحداث التي تقع بين النّساء بسببه، وأمّا إن كان من الرّجال فهو أقبح، وهو من تشبّه الرّجال بالنّساء، ولا يخفى ما فيه، وأما إن كان بين الرّجال والنّساء مختلطين كما يفعله بعض السّفهاء: فهو أعظم وأقبح لما فيه من الاختلاط والفتنة العظيمة، لا سيما وأنّ المناسبة مناسبة نكاح ونشوة عرس.”
وهنا وقف الأستاذ عبد المعطي وقال:
هناك اجتهادات مختلفة حول الموضوع، وديننا يسر لا عسر، وهناك من اجتهد وقال بعدم تحريمه كالشّيخ الشّعراوي حيث يقول:
” إنّ الغناء في حدّ ذاته ليس محرّما، إنّما المحرّم هو كلّ شيء يخرج الإنسان عن صمت اعتداله ووقاره يكون حراما، سواء أكان نصّا بغير لحن أو لحنا بغير أداء أو أداء مصحوبا بما لا دخل له في الغناء.”
انفضّت جلسة الرّجال دون اتّفاق، وبقي أسامة ووالده، كما انفضّت جلسة النّساء، وبقيت أمّ أسامة وشقيقته أسمهان، التقوا جميعهم في صالون البيت، جلس أسامة بجانب جمانة. عاد أسامة يتحدّث عن الحلال والحرام في الاختلاط والغناء والرّقص، فقال له أبوه:
دعنا من هذا الكلام، لقد انتهى حفلنا المتواضع، وعند الزّواج سنقيم حفل زواج إسلاميّ، وهناك فرق إنشاد دينيّة تحيي هكذا احتفالات، والتفت إلى جمانة وسألها:
أليس كذلك يا بنيّتي؟
فردّت عليه باستحياء:
“ربنا يجيب اللي فيه الخير.”
أمّا أبو جمانة فقد قال:
الدّنيا آخر وقت، ومن كثرة الفتاوي لم يعد المرء يعرف الصّواب من الخطأ.
بعد صلاة العشاء، غادر أسامة ووالداه وشقيقته الجلسة، استعدادا لسفر أسامة صباح اليوم التّالي، همس أسامة لجمانة قائلا:
سأهاتفك مساء كلّ يوم جمعة، أوصيك بتقوى الله، والحفاظ على نفسك.
ردّت جمانة على استحياء:
مع السّلامة.
ما إن خرجوا حتّى أسرعت جمانة إلى غرفتها، تمدّدت على سريرها، استعادت شيئا من طفولتها، ابتسمت عندما تذكّرت ما كانت تقوله المرحومة جدّتها لأبيها، فقد كانت تتمنّى لو أنّ الله خلق جمانة ولدا ذكرا؛ لتكون عونا لأبيها على متاعب الحياة، وقتئذ كانت تغضب من جدّتها، لكنّها الآن أصبحت تتمنّى لو أنّ الله استجاب لدعوات جدّتها، وولدت ذكرا بدل الأنثى، صحيح أنّها فخورة بأنوثتها، ومؤمنة بأنّ الله يهب الإناث لمن يشاء ويهب والذّكور لمن يشاء، لكنّ هذا المجتمع لا يرحم الأنثى في مراحل عمرها المختلفة، لكنّها ما لبثت أن ابتعدت عن هذه الوساوس؛ لأنّها لن تتحقّق حتما. حمدت الله بأن حباها والدين صالحين، يرعيانها ويرعيان شقيقاتها قدر استطاعتهما وقدراتهما، ووالدها أب فاضل راض بما قسمه الله له، حريص على تعليم بناته، يعمل ويشقى في سبيل توفير احتياجاتهنّ كلّها، وهي تعي تماما أنّ موافقته على خطبتها من أسامة هي لصالحها حسب قناعاته؛ لذا فإنّها لم تعترض عندما رأت أنّه حسم قراره بالموافقة، عزّت نفسها بقوله تعالى:” وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.” أو كما يقولون”الخِيرة فيما اختاره الله.” وتساءلت إن كان الزّواج “قسمة ونصيب” كما يقولون، لكنّها بعد عقد قرانها أصبحت زوجة لأسامة، وسترضى بذلك.
أمّا والدتها فقالت لأبي جمانة:
هل تعلم أنّ القرب من أمّ أسامة لعنة؟
أبو جمانة: خيرا…ماذا فعلت؟
– إذا انتبهت لها فقد كانت تقفز من مكان إلى مكان وكأنّها فتاة مراهقة، تستعرض نفسها أمام النّساء بطريقة غير لائقة، حتّى إنّ ابنتها أسمهان همست لها بأن تحترم المكان والمناسبة.
– الله يهديها.
– الهداية بعيدة عنها، تصوّر أنّها كانت تنظر لبناتنا نظرات حسد وغيرة، وركّزت نظرها على جمانة أكثر من مرّة، وكانت تهمس لابنتها بكلمات غير مؤدّبة، حتّى أنني سمعتها تقول لها:
انظري إليها، إنّها فائقة الجمال بدون تجميل.
فردّت عليها ابنتها همسا:
الحمد لله إنّها من نصيب أسامة.
وعادت أمّ أسامة تقول:
المرأة الجميلة مثل جمانة”لهلوبة” ستهلك أسامة وستدمّر صحّته.
غضبت منها ابنتها ولم تستطع إسكاتها، فابتعدت عنها.
ابتسم أبو أسامة وقال:
كان الله في عون زوجها، يبدو أنّه “خربان!”
أمّ جمانة: أخشى أنّها ستخلق مشاكل كثيرة لجمانة بعد الزّواج.
أبو جمانة: كلّنا نعرف أنّها امرأة شرّيرة، غيورة وحسودة، لكنّ جمانة ستكون بعيدة عنها؛ لأنّها سترافق زوجها إلى عمله في السّعودية، ولن تراها إلا كضيفة عندما يعودون للزّيارة في العطل الصيفيّة.
أمّ جمانة: لعنة الله عليها.
أبو جمانة: وحدّي الله يا لطيفة، ماذا جرى لك؟ لا نزال في أوّل الطريق بمصاهرتنا لهم، وإيّاك أن تذكري أيّة كلمة مسيئة عن أمّ أسامة أمام البنات.
أمّ جمانة: البنات ذكيّات، خصوصا جمانة فهي تعرف كلّ شيء عن هذه المرأة.
أبو جمانة: اتركي جمانة وشأنها، ولو أنّ الزّواج يتمّ بناء على معرفة الوالدين لما تزوّج أحد. وأسامة شابّ متعلّم وذو دين، ويخاف الله.
أمّ جمانة ممقوتة: المثل لم يترك أمرا إلا وتطرّق له.
قاطعها أبو جمانة غاضبا: ماذا قال المثل؟
أمّ جمانة: المثل يقول:” الجرو ابن الكلب.”
غضب أبو جمانة من زوجته وصاح بها:
ماذا جرى لك يا امرأة؟ أراك في هذا الصّباح مثل الدّجاجة الرّاقدة على بيضها….نق…نق….، أغلقي فمك ولا أريد أن أسمع هذا الكلام منك مرّة ثانية. واحذري أيّة كلمة بهذا الخصوص أمام البنات، لأنّ تأثير ذلك سيكون عكسيّا على نفسيّة جمانة.
لطيفة: اسمع يا عيسى، جمانة عقلها أكبر من عمرها بكثير، ولها قناعاتها الخاصّة بها.
أبو جمانة ساخرا: عقلها كبير مثل عقل أمّها.
غضبت لطيفة وسألت:
عقل أمّها، ما به؟ شرف لك ولها أن تكون صاحبة عقل مثل أمّها.
ضحك أبو جمانة من باب “شرّ البليّة ما يضحك” وقال:
أحمد الله أنّ جمانة ذكيّة لمّاحة، مجتهدة، خلوقة، مثقّفة تقضي وقتها بين الكتب. ولهذا فهي تعرف كيف تتعامل معك ومع غيرك، كما أنّها شجّعت شقيقاتها على المطالعة، حتّى أصبحن مثالا يحتذى لبنات المدرسة كافّة بأخلاقهنّ واجتهادهنّ ووعيهنّ، وهذا فضل من الله.
طرحت جمانة على والديها تحيّة الصّباح وهي خارجة من البيت في طريقها إلى جامعتها، جمانة تحبّ الوصول إلى كليّة الآداب في دار الطفل العربي مشيا على الأقدام عندما يكون الجوّ معتدلا، فالمشي رياضة تبعث النّشاط في الجسم، تسير من حيّ الصّوّانة على السّفح الغربيّ لجبل الزّيتون، عند الوادي تتّجه يمينا، لتصل من خلال أقرب الطّرق، فالمسافة ليست طويلة، ولا تزيد عن كيلو متر واحد.
ما إن دخلت الجامعة حتّى تجمّعت حولها زميلاتها يباركن خطوبتها، عندما سألتها زميلتها سندس عن الحلوى أجابتها جمانة:
الحلوى في البيت.
ردّت عليها سندس ضاحكة:
سيكون وفد منّا في بيتكم عند السّاعة الخامسة من بعد ظهر هذا اليوم للمباركة، هل يناسبك هذا الوقت؟
– أهلا بكنّ في كلّ وقت.
سندس تخلط الجدّ بالهزل:
العقبى لنا يا رب.
ضحكت البنات وهنّ يردّدن آمين يا ربّ العالمين.
ينتهي دوام جمانة في الكلّيّة عند السّاعة الثّانية ظهرا، عادت إلى بيتها مسرعة، بعد أن اشترت “سفط” بقلاوة من أشهر محلّ للحلويات في منطقة باب العمود أشهر بوّابات القدس.
في البيت خلعت جمانة جلبابها وحجابها، سرّحت شعرها، وضعت قليلا من الحمرة على شفتيها، كحّلت عينيها، فبدت رموشها أطول من المعتاد بلونها الأسود الفاحم الذي اكتسبته من الكحل، ارتدت فستان الخطوبة الجميل، وضعت مصاغها الذّهبيّ، تدلّى السّلسال على جيب صدرها، انتظرت في الصّالون مع والدتها وشقيقاتها حضور الزّميلات المهنّئات. وصلن في سيّارة أجرة، كنّ خمس فتيات، اثنتان منهنّ محجّبات، وواحدة متزوّجة وأمّ لطفل.
وقفت جمانة أمام البيت كغزالة نافرة، شعرها يتطاير مع النّسيم العليل، صدرها ناهد، عيناها واسعتان، ضحكت زميلاتها وهنّ يقبّلن وجنتيها ووجنتي والدتها، ووجنتي شقيقتها تغريد.
قالت سوسن لزميلاتها مازحة:
يبدو أنّ التي تخطب تزداد جمالا.
أميمة: العقبى لي ولكلّ واحدة منكنّ.
قالت ديمة: أعتقد أنّ فترة الخطوبة هي الأجمل، لأنّ العروسين لا يظهران على حقيقتهما، وكلّ منهما يكذب على الآخر، ويحاول الظّهور كإنسان مثاليّ. وأضافت ضاحكة لهذا فإنّ جمانة ازدادت جمالا بعد الخطوبة.
قالت سعاد المتزوّجة بلهجة جادّة:
حياة وتمرّ، لا أحد يرضى بما هو فيه، لا العازبة مرتاحة، ولا المتزوّجة ولا الخاطبة.
ابتسمت وداد وقالت: ما الدّاعي لهذا الكلام، مصير كلّ منكن أن تكون خطيبة وزوجة وأمّا، وستجرّب ذلك بنفسها. ثمّ التفتت إلى جمانة وسألتها:
أين صور حفل الخطوبة يا جمانة؟
ارتبكت جمانة قليلا، ثمّ قالت:
لم يكن حفل كما تعتقدن، هو مجرّد لقاء عائليّ، تمّ فيه عقد الزّواج، لأنّ إجازة أسامة انتهت وسافر إلى عمله في السعودية.
وداد: ألم تتصوّروا صورا للذّكرى، فالمرء يتزوّج مرّة واحدة؟
سعاد مازحة: وقد يتزوّج أربعا خصوصا إذا كان متديّنا، فالإسلام أحلّ للرّجل أربع زوجات.
ردّت عليها جمانة باسمة:
إذا تزوّج ثانية سأخنقه.
ديمة: متى ستتزوّجان؟
جمانة: في عطلة المدارس الصّيفيّة بعد حوالي خمسة أشهر.
ديمة: لماذا عقدتما عقد القران بهذه السّرعة؟
جمانة: كي نستطيع الجلوس والتّحدّث مع بعضنا كزوجين.
ديمة: اختلفت العادات والتّقاليد كثيرا عن زمن أمّهاتنا، وهناك نسبة طلاق مرتفعة قبل الدّخول.
أمّ جمانة عابسة: كفانا الله شرّ ما تقولين يا بنيّتي.
ديمة: لا تفهميني خطأ يا خالة، فأنا أعتبر جمانة أختي، وأعرف فتيات من جيلنا يحملن لقب مطلّقة وهنّ عذارى. وما دفعني لقول هذا هو عدم وجود صور للعروسين، وأكثر ما أخشاه أنّ هناك من اعتبر الصّور والتّصوير حراما.
تنهّدت سعاد وقالت:
الصّور ليست مهمّة، الأكثر أهمّيّة إذا توفّرت النّيّة للسّتر.
أم جمانة: كلّ من يتزوّجون هدفهم الأوّل هو السّتر، وإذا لم يتوفّر السّتر فالذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق.
وداد: ما لنا ولهذا الكلام، ما رأيكن أن نضع “كاسيت” غناء ونرقص مشاركة منّا لجمانة بفرحها؟
أمّ جمانة: شكرا لكنّ، والعقبى لفرح كلّ منكنّ، ولا داعي للرّقص والغناء ما دام العريس غير موجود.
أكلن الحلوى، وصرفتهنّ تغريد إلى حديث عن الدّراسة الجامعيّة، إلى أن غادرن.
*****
رأت جمانة نفسها أمام أمر واقع، وما عليها سوى قبوله والتّعايش معه، فخطوبتها فتحت أبواب أنوثتها الكامنة، صارت تهتمّ بزينتها كما بقيّة الفتيات، قرّرت توثيق علاقتها مع حماتها وأسرة خطيبها، لكسب ودّهم، فبعد بضعة أشهر ستصبح واحدة منهم. شجّعتها والدتها على ذلك.
في مساء أوّل يوم جمعة بعد سفر أسامة، رنّ جرس الهاتف في بيت أسرة جمانة، التي أمسكت سمّاعة الهاتف وقالت:
السّلام عليكم.
– وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
– هل تعرفين من يتكلّم معك.
ردّت ضاحكة: نعم أنت أسامة.
– كيف عرفت؟
– ظهر على شاشة الهاتف رقم دوليّ، ولا أحد يتّصل بنا من الخارج، فتوقّعت أنّ المحادثة منكَ. ما أخبارك؟
– أنا بخير… وأنتِ؟
– الحمد لله كلّنا بخير.
– هل يسمع مكالمتنا أحد غيركِ.
– لا.
– هل تعلمين أنّ طيفك يلاحقني ليل نهار، وأنّك لا تغيبين لحظة واحدة عن مخيّلتي.
– وأنا أفكّر بكَ دائما.
قال بلهجة ناعمة: طعم شفتيكِ لا يزال عالقا بشفتيّ. هل تشعرين مثلي؟ وهل تشتاقين قبلتي؟
– سنتزوّج في الصّيف القادم إن شاء الله.
– المهمّ اسمعيني جيّدا.
– تفضّل.
– أريد منك أن لا تخرجي من باب البيت دون نقاب.
– أنا أضع الحجاب قبل أن أبلغ العاشرة من عمري، ولا أخرج من البيت دونه. ووجه المرأة وكفّاها ليست عورة.
– من قال لك هذا الكلام؟ المرأة كلّها عورة، حتّى صوتها عورة.
– قرأت ذلك في الكتب الدّينيّة.
– عن أيّ كتب دينيّة تتحدّثين؟
– قال الحافظ ابن عبد البرّ في التمهيد (6|364) في المرأة: «كلّها عورة إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد أجمعوا على أن المرأة تكشف وجهها في الصّلاة والإحرام. وقال مالك وأبو حنيفة والشّافعي وأصحابهم – وهو قول الأوزاعي وأبي ثور: “على المرأة أن تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها”.
– ويقول الله تعالى :”ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها”. فروي عن ابن عباس وابن عمر: “إلا ما ظهر منها: الوجه والكفّان”.
أسامة: أنا مع رأي من قالوا بالنّقاب، ومنهم ابن عثيمين فقد قال:” بأنّ المرأة إذا خرجت من بيتها عليها أن تضع النّقاب، وأن تضع نظّارة سوداء علي عينيها كي لا يرى أحد منها شيئا.”
رفعت جمانة صوتها قليلا وسألت مستنكرة:
وهل ابن عثيمين أكثر علما في أمور الدّين من الأئمة مالك وأبو حنيفة والشّافعي؟
ردّ عليها أسامة بلهجة تهديد:
اسمعيني جيّدا، أنا زوجك وآمرك بوضع النّقاب؛ لأنّ ذلك أمر دينيّ، وأنت جميلة جدّا وأنا أغار عليك حتّى من النّسيم الذي يلامس وجهك.
جمانة: إذا كان وجه المرأة وكفّاها عورة، فلماذا لا تضع أمّك وأخواتك ومحارمك النّقاب؟
رفع أسامة صوته محتجّا:
ما لك ولأمّي وأخواتي ومحارمي، فأنت زوجتي وملك يميني، وعلى المرأة أن تطيع زوجها فيما لا معصية فيه.
جمانة: أنا قبلت بك زوجا، لك حقوق عليّ ولي حقوق عليك، لكن لن أكون جارية لك أو لغيرك.
أسامة: من قال لك أنّك جارية؟
جمانة: أنت قلت هذا…ألم تقل أنّني ملك يمينك؟
أسامة: لم أقصد ما فهمتِه يا جمانة، لكن عليك أن تفهمي أنّ جسمك أصبح ملكا لي منذ عقد قراني عليك.
جمانة: جسمي ملك لي وحدي، وقد أباح الله للزّوجين أشياء يعرفها جميع البشر، لكنّ المرأة تبقى إنسانا مثل الرّجل، لها عقلها وأحاسيسها وكرامتها.
أسامة: يبدو أنّ النّقاش معك لن يفضي إلى شيء…مع السّلامة.
وأغلق الهاتف.
امتعضت جمانة من طريقته في الحديث، ولإغلاقه الهاتف بهذه الطّريقة الفجّة، كما امتعض أسامة أيضا من مناقشتها له، فمن غير المعقول أن لا تسمع كلامه، وطلبه منها بوضع النّقاب يعتبره أمرا دينيّا مسّلما به وغير قابل للنّقاش، وهو على قناعة تامّة بأنّ من حقّ الزّوج أن يلزم زوجته بالأمور والفرائض الدّينيّة.
أمّا جمانة فقد تربّت على القيم الدّينيّة، وهي تصلّي وتصوم وترتدي الزّي الشّرعيّ منذ طفولتها. لكنّها قرّرت أن تبحث في أمّهات الكتب عن النّقاب، فإن وجدت أنّ وجه المرأة وكفّيها عورة، فلن تتردّد في ارتداء الحجاب عن رضا وطيب خاطر، ومع ذلك فقد راودتها أسئلة كثيرة عن معتقدات أسامة، ومنها أنّه إذا ما كان يحمل فكرا دينيّا تكفيريّا فسيكون هذا أمرا لا يمكن احتماله.
قرّرت جمانة أن لا تخبر أحدا عن فحوى محادثتها مع أسامة، وعندما سألتها أمّها:
مع من كنت تتحدّثين؟
أجابت دون اكتراث:
مع أسامة.
– ما هي أخباره؟
– الحمد لله بخير ويهديكم السّلام.
– الله يسلمك ويسلمه.
أمضت جمانة أكثر من شهر في البحث والتّنقيب عن رأي الإسلام في النّقاب، وجمعت ذلك في أوراق لتقرأها لأسامة، أو لتبعثها له عبر البريد الإلكتروني، وممّا وجدته على الموقع الرّسميّ للشّيخ القرضاوي حول النّقاب:
“مذهب الحنفية:
ففي ” الاختيار ” من كتب الحنفيّة يقول: (ولا ينظر إلى الحرّة الأجنبيّة، إلا إلى الوجه والكفّين، إن لم يخف الشّهوة.. وعن أبي حنيفة: أنّه زاد القدم، لأنّ في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء، ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب، لإقامة معاشها ومعادها، لعدم من يقوم بأسباب معاشها.”
مذهب المالكية
وفي الشرح الصّغير للدّردير المسمّى ” أقرب المسالك إلى مذهب مالك “:
“وعورة الحرّة مع رجل أجنبيّ منها، أي ليس بمَحْرم لها، جميع البدن غير الوجه والكفين.. وأمّا هما فليسا بعورة.”
مذهب الشّافعيّة.
وقال الشّيرازي صاحب ” المهذّب ” من الشّافعيّة.
“وأمّا الحرّة فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكّفين” وأضاف النّوويّ في شرحـه للمهذّب ” المجموع “: “إنّ مـن الشّافعيّة مـن حكى قولا أو وجها أنّ باطن قدميها ليس بعورة، وقال المزني: القدمان ليستا بعورة، والمذهب الأوّل”.
مذهب الحنابلة
وفي مذهب الحنابلة نجد ابن قدامة في ” المغنى” يقول:”لا يختلف المذهب في أنّه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصّلاة، وأنّه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفّيها”.
توقّفت جمانة عند رأي ابن باز، فهي ترى فيه فكرا تكفيريّا، لم تقبل هذا الرّأي، ورأت أنّ أسامة متأثّر به، إذ يقول ابن باز:
“النّقاب فرض على النّساء في غير الحجّ والعمرة؛ لأنّه ستر لهنّ عن الفتنة.”
***************************
توجّهت جمانة ووالداها إلى المسجد الأقصى سيرا على الأقدام، لأداء صلاة الجمعة، عند باب الأسباط أوقفت شرطة الاحتلال جمانة لفحص بطاقة هويّتها وتفتيشها، وقف والداها خلفها، سألهما شرطيّ بلسان عربيّ فيه عجمة:
إنتي حاجي شو بدِّك؟
أجابه أبو جمانة بصوت مرتفع وهو يشير إلى جمانة:
بدّي بنتي.
الشّرطيّ بعنجهيّة: أنا ما كُلْـت لك وكْفي… روخي من هون.
أمّ جمانة: تطلع روحك يا ربّ… نريد ابنتنا.
أخذوا هويّة جمانة لفحصها على الحاسوب في “الكشك” الخشبيّ الذي اتّخذوه مكتبا لهم، بعد قليل نادى شرطيّ:
جمانة تعال لهون.
جمانة: أنا هنا ماذا تريد؟
الشّرطيّ: قلت لك ادخل هون.
جمانة غاضبة: لن أدخل.
الشّرطي: لازم تدخل أخسن لك.
جمانة: لن أدخل.
وهنا خرجت شرطيّة، أمسكت جمانة من يدها وأدخلتها إلى الكشك، ومنعت والديها من مرافقتها.
في داخل “الكشك” شرطيّان، واحد يجلس على كرسيّ خلف طاولة صغيرة عليها “لابتوب”، ووقف الآخر بجانبها يحدّق فيها مسحورا بجمالها، سألها الشّرطيّ الجالس خلف الطّاولة:
شو اسمك؟
جمانة: اسمي مكتوب في الهويّة أمامك.
الشّرطيّ: اسمع يا بنت، أنا بسأل وانت بجاوب بس، ممنوع تخكي أكثر.
جمانة: هويّتي معك وافحص ما شئت.
أمسك الشّرطي الواقف جمانة من ذراعها وقال:
ممنوع تتفلسف انت، جاوب على الأسئلة فكط.
سحبت جمانة ذراعها من يده بقوّة وهي تقول غاضبة:
ابتعد عنّي قطع الله يدك.
نظر زميله الجالس على الكرسيّ وقال له بدلع المخنّثين:
أريئيل هذا بنت خلوه كتير، لا تخليه يزعل منك.
جمانة غاضبة: ربنا يخلع عينيك وعينيه.
الشّرطيّ: خبيبي…انت شو مخبّي تخت كميسك؟ لازم نفتشك. ونادى على الشّرطيّة بالعبريّة:
داليا تعالي؛ لتفتيش هذه الفتاة الحسناء وانظري ماذا تخبّئ في صدرها.
دخلت الشّرطيّة وسألت زميليها بالعبريّة:
ماذا تريدان منها؟
– نريد أن تخلعي ملابسها؛ لتفتيش جسدها.
التفتت إليهما داليا وسألت بعصبيّة:
يكفي! ماذا تخبّئ النّساء في صدورهنّ؟
الشّرطيّ: إنّها جميلة جدّا.
داليا ساخرة: وبنات اليهود جميلات ولهنّ صدور بارزة أيضا.
أخذت هويّة جمانة من يد الشّرطيّ وسلّمتها لها وهي تقول:
مع السّلامه خبيبتي. ارجع بيتك ممنوء دخول مسجد.
تنكّدت نفس جمانة، مع أنّها تعرف مسبقا أنّ شرطة الإحتلال أصدرت قرارا يمنع دخول النّساء ممّن هنّ تحت سنّ الأربعين إلى المسجد الأقصى، والرّجال دون سنّ الخمسين، لكنّها حاولت على أمل أن تكتحل عيناها برؤية أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، فثواب الصّلاة في هذا المسجد عظيم.
شعرت جمانة أنّها تختنق، فتنهّدت تنهيدة عميقة، وكأنّها تريد اقتناص ما تبقى في هذا المكان من أوكسجين.
قال لها والداها: ارجعي إلى البيت، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
عادت جمانة وقد ضاقت الدّنيا أمام عينيها، حلّقت في سماء المدينة، سمعت صليل السّيوف وصهيل خيول مرّت من هنا، عندما خرجت من باب الأسباط التفتت خلفها، فرأت نحتا لأسدين يعلوان الباب، فبكت حظّ المدينة التي تكالبت عليها قوى الشّر، وتبكي أسودها الذين لاقوا وجه ربّهم وهم يدافعون عن مقدّساتها، نظرت إلى المقبرة، وقرأت الفاتحة عن أرواح ساكنيها، وعادت تبتسم لأنّها على قناعة تامّة بأنّ هذه المدينة لا يعمّر فيها ظالم.
لم تكن جمانة بحاجة إلى كثير من الذّكاء، لتفهم أنّ الشّرطيّين تحرّشا بها لأنّها جميلة، فقد فهمت كلّ كلمة عبريّة تلفّظا بها، ولو لم تكن كذلك لأشارا إليها كي تعود من حيث أتت، وهذا أعاد إلى ذاكرتها طلب أسامة منها أن تضع النّقاب، لكنّها رأت بأمّ عينيها جنود الإحتلال يطلبون من نساء منقّبات أن يرفعن النّقاب عن وجوههنّ عند حواجز التّفتيش، ولو أنّها على قناعة بأنّ النقاب فرض دينيّ لوضعته طاعة لله، وليس هروبا وخوفا من طغاة سلبوا البلاد وأذلّوا العباد.
في طريق عودتها إلى بيتها كانت الأفكار تدور في رأس جمانة كطاحونة هوائيّة، طرقت رأسها تساؤلات عدّة، فهل الجمال نعمة أم لعنة على صاحبته؟ ولماذا الأبواب كلّها مغلقة في وجهها، فحتّى الصّلاة في أطهر بقاع الأرض مُنعت من آدائها، لكنّها متفائلة بالخير دائما، وشعرت بالرّضا عن النّفس؛ لأنّها متفوّقة في دراستها. وابتسمت مرّة أخرى عندما راودتها فكرة بأن تقوم بإعداد المعجّنات التي أعجبت حماتها يوم الخطبة؛ لتقدّمها هديّة لحمويها في محاولة منها لتوثيق العلاقة الشّخصيّة مع أسرة خطيبها؛ لتكون ألفة ومحبّة بينها وبينهم، وهذا بالتّأكيد سيسعد أسامة عندما يخبرونه بذلك.
بعد صلاة العصر طلبت من والدتها أن ترافقها لزيارة بيت حمويها، كي تقدّم لهم صينيّة المعجّنات التي أعدّتها.
عندما طرقت أمّ جمانة باب بيت صهرها أبي أسامة وصلها صوت أمّ أسامة وهي تسأل:
من يطرق الباب؟
أم جمانة: أنا لطيفة يا فاطمة.
– أهلا وسهلا بك.
فتحت فاطمة الباب، احتضنت لطيفة وابنتها جمانة، قبّلتهما ورافقتهما إلى صالون البيت. وضعت جمانة صينيّة المعجّنات على طاولة منتصف الغرفة وجلست بعد أن صافحت هي ووالدتها أبا أسامة الذي رحّب بهما، فسألتها حماتها:
ما هذا يا جمانة؟
ردّت جمانة باسمة:
هذا – سلامة خيرك- معجّنات أعددتها لكم خصّيصا بيديّ؟
لوت أمّ أسامة فمها وسألت:
لِمَ هذه الغلبة؟
أمّ جمانة: واجبك كبير يا أمّ أسامة، ولا غلبة في ذلك، فجمانة معتادة على إعداد المعجّنات بيديها.
قطع أبو أسامة الحوار بأن عاد يرحّب بجمانة ووالدتها، فهو يخشى أن تتورّط زوجته بكلام غير لائق – كما هي عادتها-، وقال:
أهلا بكما، وزارنا السّعد بزيارتكما.
وهنا استأذنت أمّ أسامة كي تعدّ الشّاي، فقالت لها جمانة:
ارتاحي يا خالة، أنا سأعدّ الشّاي، فقط أريني أين تضعون الشّاي والسّكر، لأنّني لم أدخل مطبخكم من قبل.
فقالت أمّ أسامة: ارتاحي فأنت ضيفة.
ردّت جمانة: أنا الآن خطيبة أسامة وبالتّالي أنا واحدة منكم ولست ضيفة.
وهنا قال أبو أسامة باسما: أهلا بك يا ابنتي، وحبّنا لك من حبّنا لأسامة.
بينما قالت زوجته:
ستصبحين واحدة منّا عندما تزفّين لأسامة، أم أنّك تستعجلين الزّواج؟ لسوء حظّك عريسك بعيد عنّا.
شعرت جمانة ووالدتها بانكسار، نظرت كلّ منهما للأخرى دون كلام، لكنّ أبا
أسامة نظر لزوجته نظرة استنكار وقال لها بلهجة غاضبة:
اذهبي يا فاطمة، وحضّري الشّاي وأعيرينا سكوتك.
عندما أحضرت أمّ أسامة صينيّة الشّاي، نهضت جمانة وأخذت الصّينيّة منها، بدأت توزيع أكواب الشّاي بدءا بأبي أسامة وأمّ أسامة، ثمّ أمّها ووضعت كأسا لها، ثمّ حملت صينيّة المعجّنات ووقفت أمام أبي أسامة وهي تقول:
تفضّل يا عمّي.
تناول أبو أسامة قطعة معجّنات، فانتقلت إلى أمّ أسامة وقالت:
تفضّلي يا خالتي.
أخذت أمّ أسامة قطعة وتذوّقتها وقالت:
من أيّ محلّ اشتريتموها؟
ردّت عليها أمّ جمانة مستغربة:
قلت لك أن جمانة هي من أعدّتها.
أمّ أسامة: إنّها لذيذة حقّا، هل جمانة تجيد إعداد “الكيك”؟
أمّ أسامة: ما الغرابة في أنّ جمانة تجيد إعداد “الكيك”؟
تدخّل أبو أسامة وقال:
هذه معجّنات لذيذة، سلمت يداك يا جمانة، ولا داعي لأسئلتك غير اللائقة يا فاطمة.
شعرت جمانة بالرّضا ممّا قاله أبو أسامة، والتفتت إلى حماتها وقالت:
يوم الجمعة القادم، سأحضر الموادّ المطلوبة؛ لأعدّ المعجّنات عندك وأمامك يا خالة.
لم يعجب ردّ جمانة حماتها فقالت الحماة:
لا داعي لذلك “وللي مشتهي البرقوق هيّو في السّوق”.
شعر أبو أسامة بالحرج من كلام زوجته فقال لها:
اذهبي إلى المطبخ وأعدّي عشاء للضّيفتين.
أمّ جمانة: شكرا لكم، لا داعي لذلك، فنحن على عجلة من أمرنا، وجئنا فقط للإطمئنان عليكم.
جمانة: نحن وإيّاكم أهل يا عمّ، ولسنا ضيفتين.
أبو أسامة: إذن اذهبي وأعدّي القهوة يا فاطمة.
غادرت جمانة ووالدتها بيت أبي أسامة مستائتين من أمّ أسامة، لم تظهرا ذلك أمامها، لكنّ حديثها معهنّ ونظراتها لجمانة لم تكن بريئة، عندما ابتعدتا قليلا قالت أمّ جمانة:
سبحان الله “ذنب الكلب دايما اعوج” و “الطّبع غلب التّطبّع”.
اكتفت جمانة بقولها: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
وما أن غادرتا بيت أبي جمانة حتّى قالت أمّ أسامة:
هل رأيت يا سعيد؟
– ماذا أرى يا امرأة؟
– هل رأيت كنّتك؟
– نعم رأيتها، ما بها؟
– البنت ليست قليلة، فهي تريد فرض نفسها علينا حتّى قبل أن تتزوّج.
– اسمعي يا فاطمة، أنت امرأة غير سويّة، وكلامك معهما كان سيّئا، ومصيبتك أنّك لا تعرفين كيف تتكلّمين، ولا تعرفين أن تسكتي.
– وحّد الله يا رجل، ماذا قلت أنا؟
– كلّ ما قلتِه ولا تعرفين ما قلتِ، كلامك كان مثل “مراجمة الحجارة “؟
– أنت دائما تقف ضدّي، ولا يعجبك كلامي.
غضب منها زوجها وعاد يقول:
والله لا أعرف كيف قضيت معك كلّ هذه السّنوات.
استفزّها كلامه فقالت:
الحقّ عليّ أنّني صبرت عليكَ كلّ هذه السّنوات، أنجب فيها لك الأبناء.
– كلّ النّساء ينجبن ولست أنت وحدكِ.
أنت توبّخني دفاعا عن فتاة ستكون قريبا تحت ابني، ولم تنتبه لها.
– انتبه لها! ماذا فعلت بك حتّى تقولي ذلك؟
– هذه الفتاة جاءت لنا بالمعجّنات ليس كرما منها ولا براءة في تصرّفها هذا، فقد جاءت إلينا؛ لتكون صاحبة فضل علينا، وهذا غير مقبول منها ولا من أمّها.
– ما هذا الجنون يا امرأة؟ اتركيك من هذه الأوهام.
– هذه ليست أوهاما، بل حقائق، فأنا أدرى بالنّساء منك، هذه الفتاة “لهلوبة” وستكون وبالا على أسامة.
– حسبي الله ونعم الوكيل، ماذا أقول لجاهلة مثلك؟
– قل ما تشاء.
– أقول لك بأنّك تغارين من جمانة، اتّقي الله فهي مثل بناتك.
– ليست مثل بناتي ولن تكون، فهي مغرورة بجمالها، وأسامة رجل متديّن وعاقل، ويطلب السّتر.
ازداد أبو أسامة غضبا وقال:
أنتِ من اقترحتِها زوجا لأسامة، وإذا لم تكوني معجبة بها فلماذا اقترحتها؟
هدأت قليلا وقالت: ” كلّه قسمة ونصيب” وربنا يقطع هكذا نصيب.
– أسأل الله أن يقطع لسانكِ ورقبتكِ كي نرتاح منكِ.
*****
ما أن دخلت جمانة ووالدتها البيت حتى سأل أبو جمانة:
ماذا هناك يا لطيفة؟
– ماذا تقصد؟
– ألم تكونا في زيارة والدي أسامة؟
– نعم.
– هل أساء أحد لكما هناك؟
– لِمَ تسأل هكذا أسئلة؟
– أسأل لأنّ وجهك عابس، وجمانة ليست مرحة كعادتها.
هنا تدخّلت جمانة وفي ذهنها أن لا تنغّص حياة أبيها فقالت باسمة:
لم يحصل شيء يستحق الاهتمام يا أبي.
عاد الأب يسأل:
لماذا عدتما بهذه السّرعة؟
جمانة: شربنا شايا وقهوة، وأبو أسامة طلب من زوجته أن تعدّ لنا عشاء، ورفضنا ذلك، وهذا سبب خروجنا.
الأب بلهجة حزينة: قلبي غير مطمئن.
جمانة: لا تقلق يا أبي، فليس هناك ما يستحق الاهتمام.
غمزت جمانة بعينها لوالدتها كي تلحق بها إلى المطبخ، وهناك قالت لها:
أرجوك يا أمّي، لا تقولي لأبي شيئا يقلقه، فإنّي أراه مهموما، فلا تزيدي همومه.
الأمّ: بارك الله بك يا جمانة.
في المطبخ أعدّت جمانة القهوة لها ولوالديها، عندما قدّمت فنجان القهوة لوالدها قالت ضاحكة:
تفضّل يا أبا جمانة، فـ”على هذه الأرض ما يستحق الحياة.”
الأب باسما: من له ابنة رائعة مثلك حتما سيحبّ الحياة.
جمانة: أطال الله عمرك يا أبي، وأعطاك الصّحة والعافية والسّعادة.
– الله يرضى عليك يا ابنتي.
جمانة: هل تريد أن أقدّم لك شيئا يا أبي، قبل أن أغرق بين كتبي؟
الأب: أريدك سالمة وناجحة يا بنيّتي.
– سأكون سالمة وناجحة برضاك أنت وأمّي عليّ.
ذهبت جمانة إلى غرفتها، وبدأت تقرأ في رواية “المسخ” التي استعارتها من مكتبة الجامعة، جذبها أسلوب كافكا والمواضيع االسّوداويّة التي يطرحها في كتاباته، فقد سبق وأن قرأتْ له رواية “القلعة” بناء على نصيحة إحدى المحاضرات في الكلّيّة. و”في هذه الرّواية يحارب البطل البيروقراطيّة مجهولة الهويّة، كان بطل الرّواية يحاول أن يجتمع مع السّلطات الغامضة التي تحكم قريته.”
توقّفت جمانة كثيرا هنا، وركّزت في تفكيرها على “السّلطات الغامضة” التي تتحكّم برقاب مجتمعاتنا العربيّة، وفي مقدّمتها الخرافات والعادات والتّقاليد الوحشيّة الموروثة عن الجاهليّة، والتي لها “سطوة ثقافيّة” مغروسة في عقل الأنسان العربيّ، ولم يتحرّر منها حتّى يومنا هذا، رغم أنّها لم تجلب إلا المزيد من الهزائم والكوارث المتلاحقة.
شكّلت رواية “القلعة” هذه، صدمة فكريّة إيجابيّة عنيفة لجمانة، فقرّرت أن تبحث عن جميع أعمال هذا الكاتب العظيم لتقرأها، كما بدأت البحث عن تفاصيل هذا الرّجل الذي ولد في الرّبع الأخير من القرن التّاسع عشر”1883″، فمن الممكن أنّ يكون قد عاش في مجتمع وبيئة وظروف شبيهة بالتّي نعيشها؛ حتّى أنتج هذا الأدب الفلسفيّ العميق. ومن هنا فقد حملت جميلا للدّكتورة سناء التي وجّهتها لقراءة هذه الرّواية”القلعة”، ولولا توجيهها لما قرأت جمانة هذه الرّواية ولا غيرها من الرّوايات الأجنبيّة المترجمة للعربيّة. وها هي الآن تضع أمامها رواية “المسخ”؛ لتباشر مطالعتها.
تمعّنت جمانة بغلاف الرّواية، قلبت صفحاتها في محاولة سريعة منها لاستكشافها، وفي هذه الأثناء رنّ هاتفها المحمول، تردّدت قليلا في الرّد على المهاتفة القادمة كي لا تفسد عليها متعتها في قراءة رواية كافكا هذه، لكنّها غيّرت رأيها عندما رأت على شاشة هاتفها أنّ الرّنين قادم من رقم دوليّ، وبالتّالي فهي من خطيبها أسامة، ردّت على المكالمة بقولها:
السّلام عليكم.
أسامة: وعليكم السّلام….كيفك يا جمانة؟
– أهلا بك، أنا بخير، وأنت؟
– أنا بخير أيضا، من أين تتكلّمين؟
– من البيت.
– هل عندك أحد؟
– نعم… شقيقتاي سلمى وملاك.
– إذهبي إلى غرفة أخرى كي نأخذ راحتنا في الحديث.
– حاضر.
انتقلت إلى صالة البيت، فوالداها يجلسان في الصّالون، وقالت بصوت منخفض:
هل تسمعني يا أسامة؟ أنا في الصّالة وحدي.
– ماذا كنت تفعلين؟
– كنت على وشك البدء في قراءة رواية، فرنّ الهاتف قبل أن أبدأ القراءة.
– من مؤلّف الرّواية؟
– اسمه فرانس كافكا.
– ومن يكون هذا الكاتب؟
– إنّه “كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسيّة. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فنّ الرّواية والقصّة القصيرة، تُصنّف أعماله بكونها واقعيّة عجائبيّة. عادة ما تتضمّن قصصه أبطالا غريبي الأطوار يجدون أنفسهم وسط مأزقٍ ما في مشهد سرياليّ، يُعزى ذلك للمواضيع النّفسيّة التي يتناولها في أعمالِه، مثل الاغتراب الاجتماعيّ والقلق والذّعر والشّعور بالذّنب والعبثيّة. أكثر أعماله شُهرةً هي رواية المسخ، والمحاكمة، والقلعة.”
– رفع أسامه صوته غضبا وعاد يسأل:
هل قلتِ أنّه كاتب يهوديّ؟
– نعم إنّه يهوديّ.
أسامة غاضبا: يا إلهي! اليهود يحتّلون بلادنا، ويقتلون ويشرّدون شعبنا، وتقولين أنّك تقرئين لكاتب يهوديّ، هل تعرفينة؟
جمانة: هدّئ من روعك يا أسامة، هذا الكاتب مات قبل مئة عام، أي قبل أن يولد أبي بثلاثين عاما، وقبل نشوء إسرائيل كدولة بربع قرن.
أسامة: لكنّه يهوديّ.
– عداؤنا ليس مع اليهود كيهود، فهم أصحاب ديانة سماويّة، وإنّما عداؤنا مع الحركة الصّهيونيّة كحركة استيطانيّة عنصريّة.
– من أين أتتك هذه المفاهيم والأفكار الغريبة يا جمانة؟ تقرئين رواية فهذه خطيئة، والخطيئة الثّانية أنّ كاتبها يهوديّ.
– ومن قال لكَ أنّ قراءة الرّواية خطيئة؟
– هناك من أفتى “بتحريم ومنع كتابة القصص والرّوايات؛ لأن القصّة الخياليّة تحكي شيئا مبتكرا غير واقعيّ، فهو من الكذب، والكذب حرام.”
– كيف يحرّمون ذلك وقد وردت قصص في كتاب الله؟
– “في القصص القرآني والنبويّ وغيرهما ممّا يحكي الواقع ويمثل الحقيقة ما فيه الكفاية في العبرة والموعظة الحسنة.”
– جمانة: يا رجل الخيال في الشّعر أكثر منه في القصص والرّوايات، وكان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يسمع الشّعر من منشديه ويطرب له، وخير دليل على ذلك قصيدة “بانت سعاد” لكعب بن زهير، ولو كان في ذلك حرام لما فعله رسول الله.
شعر أسامة بضعف حجّته أمام جمانة، فسألها:
من أين لك هذه المعلومات؟
– أنا أحبّ المطالعة، وأقضي أوقات فراغي في المطالعة، لأنّ المطالعة غذاء للعقل وزيادة في المعلومات.
– إذا كنت تحبّين المطالعة، فلماذا لا تطالعين في كتاب الله والمؤلّفات الدّينيّة؟
– ومن قال لكَ أنّني لا أطالع في القرآن وفي المؤلّفات الدّينيّة؟
– انتبهي لنفسك يا جمانة، إذا كنت تريدين معرفة كلّ شيء فعليك بكتاب الله وسنّة رسوله، وهذه نصيحة منّي إليك؛ كي تعيشي سعيدة في الدّنيا والآخرة.
– يا خطيبي الحبيب، هناك أمور دنيويّة لا علاقة لها بالتّشريع، ولا بعلوم الدّين، ونحن كمسلمين مطالبون بمعرفتها.
– لا تكفري يا جمانة، كلامك هذا خطير جدّا.
– أعوذ بالله من الكفر ومن الكفّار، فأنا والحمد لله مؤمنة، وأؤدّي واجباتي الدّينيّة كما أرادها الله لنا. ولا يمكن أن أقترب من شيء حرّمه الله، أو حتّى فيه شبهة التّحريم.
– على كلّ بعد زواجنا ستحلّ هذه المشاكل.
– عن أيّ مشاكل تتحدّث؟
إلى اللقاء.
وأغلق الهاتف.
بعد المحادثة صمتت جمانة قليلا، عادت بذاكرتها عندما زارت بيت حمويها، فلم تستغرب مفاهيم أسامة وشططه الغريب في فهم الدّين.
ضحكت عندما قالت بينها وبين نفسها:
هذه تربيتك يا فاطمة!
عادت جمانة لرواية “المسخ” لكافكا، وهي تفكّر بأنّه إذا كانت هذه الرّواية على نمط سابقتها، فإنّها أمام روائيّ فذّ.
*****
ضجّ قسم الولادة في مستشفى جمعيّة المقاصد الخيريّة الكائن على قمّة جبل الزّيتون في القدس بصراخ وزغاريد امرأة ستّينيّة، كانت تقفز كالشّباب تضحك تارة وتبكي فرحا تارة أخرى، اختلطت زغاريدها بصراخ امرأة في غرفة الولادة تعسّرت ولادتها، ركضت باتّجاه مكتب قسم الولادة بعد حديث سريع بادرتها به طبيبة، طلبت من السّكرتيرة أن تساعدها للإتّصال بزوجها، طلبت منه أن يحضر بسرعة إلى المستشفى بصحبة المختار وإمام المسجد، لأمر غاية في الأهمّية، أغلقت الهاتف قبل أن توضّح له الأسباب التي يجب أن يحضروا من أجلها، ثمّ عادت تزغرد وتقفز فرحا وسط دموعها التي تتساقط غزيرة من عينيها، أمسكت بها امرأة كانت تجلس في الممرّ تنتظر مخاض ابنتها، وقالت لها:
وحّدي الله يا بنت الحلال، مبارك مولودكم الجديد، ولا داعي لكلّ هذا الصّراخ فأنت في مستشفى.
تجمّع رجال ونساء كثيرون ينظرون المرأة التي تزغرد وتصيح، حتّى بعض النّساء الوالدات خرجن من غرفهنّ يستطلعن ما يجري. قالت امرأة لأخرى:
مسكينة هذه المرأة، يبدو أنّ ابنتها أو كنّتها قد أنجبت بعد انتظار سنوات طويلة، وها هي تعبّر عن فرحتها بهذه الطريقة الهستيريّة.
قالت إحدى الممرّضات للطبيبة:
أعتقد أنّ هذه المرأة مصدومة، وأقترح أن تحقنيها بإبرة مهدّئة للأعصاب.
لكنّ الطبيبة قالت:
دعيها فكما يبدو أنّ وراء صراخها أمر جلل.
عندما وصل زوجها بصحبة المختار وإمام الجامع ركضت إليهم وقالت:
إلحقوني لتسمعوا من الطّبيبة وركضت أمامهم تسأل:
أين الطّبيبة؟
مشى زوجها يتبعه المختار وإمام المسجد والزّوج يقول:
ماذا جرى يا امرأة، هل جننت أم أنّ عائشة ماتت؟
عندما وصلت الطّبيبة قالت لها وهي تلهث:
قولي لهؤلاء ما قلتِه لي عن عائشة، وأشارت إليهم قائلة:
هذا أبوها، وهذا إمام المسجد وهذا المختار.
ردّت الطبيبة بهدوء:
لا شيء يستدعي كلّ هذه الضّجّة يا إخوان، ابنتكم تعاني منذ أكثر من 24 ساعة من طلق الولادة، وستحتاج إلى أكثر من هذه السّاعات؛ لأنّها لا تزال بكرا، أو أننا نزيل بكارتها بالمشرط الطّبّيّ؛ لتتيسّر ولادتها.
سأل المختار مستغربا: كيف تقولين عنها بكرا، وقد تزوّجت مرّتين؟
الطّبيبة: معروف أنّ البكارة أنواع، ومنها البكارة المطّاطيّة التي لا تفضّ إلا بالولادة أو بمشرط الطّبيب.
فقالت أمّ عائشة: هل تسمعون لا بارك الله بكم، لقد فضحتمونا وجعلتمونا على لسان النّاس يا من لا تخافون الله؟
قال إمام المسجد: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
وقال المختار: “ياما في السّجن مظلومين!”
دهشت الطّبيبة ممّا تسمع. وسألت:
أين زوجها؟
المختار: زوجها في العمل.
سألت الطّبيبة أبا عائشة:
هل توافق أن أزيل بكارتها بالمشرط الطّبّيّ كي تسهل ولادتها؟
فأجاب: إعملي المطلوب يا عمّي.
توجّهت الطّبيبة إلى غرفة الولادة، أزالت بكارة عائشة بالمشرط وقالت لها:
لا تقلقي، ستلدين خلال دقائق، وطلبت من القابلة أن تساعدها.
عادت الطبيبة إلى المكتب ووجدتهم بانتظارها، طمأنتهم بأنّها قد أزالت البكارة بالمشرط وأنّ عائشة ستلد خلال دقائق.
سألها إمام المسجد: ماذا تقصدين بالبكارة المطّاطيّة يا بنيّتي؟
الطّبيبة: هي نوع من أنواع البكارة لا تفضّ بالممارسة، ولا تنزل دماء من المرأة ليلة الدّخلة. ولزيادة معلوماتكم هناك نساء الرّحم عندهنّ “قلّاب”، وهؤلاء النّساء يعدن عذارى بعد كلّ ممارسة، وحتّى بعد الولادة، وعند الممارسة لا تنزل منهنّ دماء.
نظر الإمام إلى المختار وإلى والد عائشة وقال:
يا ويلنا…كيف سنقابل الله يوم يبعثون؟
لم تصدّق الطّبيبة ما تسمع وما ترى، فسألت:
هل هناك مشكلة يا إخوان.
طأطأ الرّجال رؤوسهم، بينما قالت أمّ عائشة وهي تحمدل وتشكر الله:
يا بنت الحلال جنّنونا، فضحونا، شتموا عرضنا وشرفنا مَن لا يخافون الله.
وهنا جاءت ممرّضة وأخبرت الطّبيبة أنّ عائشة قد أنجبت ولدا، وهما بصحّة جيّدة.
التفتت الطبيبة إليهم وقالت:
مبارك لكم المولود الجديد.
ركضت أمّ عائشة لتطمئنّ على ابنتها وعلى حفيدها الجديد.
عادت بها الذّاكرة إلى خمس سنوات مضت، عندما زوّجوا عائشة وهي في الخامسة عشرة من عمرها، كانت يومئذ طفلة تلعب مع الأطفال، ليلة الدّخلة كانت كارثيّة عليها، فبعد معاشرة العريس لها فتح معها تحقيقا، وضعها في ضائقة لم تستوعبها فقد قال لها:
لم تكن هناك دماء، وهذا يعني أنّك لست بكرا، فكيف ذهبت بكارتك؟ ومع من؟
انطوت على نفسها حزينة وقالت:
والله لم يمسسني رجل غيرك.
– أنت تكذبين، ولو كنت بكرا لنزلت منك دماء عند المعاشرة الأولى.
– لا أعرف سببا لذلك، لكنّني لم أكن أعرف معنى المعاشرة قبل هذه الليلة.
– خرج من عندها، وذهب إلى والدته وأخبرها بالموضوع، فقامت هي الأخرى بإبلاغ أمّ عائشة قائلة بلهجة عتاب:
– بنتك ليست عذراء يا صبحة.
– هذا غير معقول، فالبنت لا تزال طفلة “لا راحت ولا جاءت”.
– سبب ذلك تعرفينه أنت وابنتك.
اسودّ وجه صبحة من هذا الخبر المشؤوم، ذهبت لابنتها على غير هدى، سألتها:
هل يعقل ما سمعته يا عائشة؟
ذعرت عائشة وقالت بصوت طفوليّ حزين:
والله يا أمّي لا أعرف شيئا، ولم أفهم ما يقوله زياد.
أمّ عائشة: حسبي الله ونعم الوكيل.
أخبرت أمّ زياد زوجها بالموضوع، فاتّصل بأبي عائشة وبالمختار، وطلب منهما أن يحضرا سريعا.
أخبرهما بالموضوع، فقاموا بتوجيه أسئلة لزياد حول دخوله على العروس، بعدها قال المختار:
لا نريد فضائح أمام النّاس، استروا على الموضوع بأن اتركوا العروس عندكم مدّة ثلاثة أشهر، وبعدها أنتم أحرار بالقرار الذي تتّخذونة.
تساءل زياد: كيف أتركها على عصمتي ثلاثة أشهر ما دامت لم تحافظ على شرفها وهي لا تزال في بداية عمرها؟
ردّ عليه أبوه: اسمع يا ولد لما يقوله المختار، فالتّشهير بأعراض النّاس ليس بهذه السّهولة. اتركها ثلاثة أشهر وتعامل معها كجارية، وبعدها طلّقها والنّساء كثيرات.
طأطأ أبو عائشة رأسه ذليلا حزينا، استأذن بالانصراف، لحقت به زوجته، فشتمها بألفاظ بذيئة وهو يقول:
هذه نتائج تربيتك الخاطئة.
ردّت أمّ عائشة مكسورة الجناح:
غير معقول ما يقال، أقترح أن نصطحب عائشة إلى مستشفى ليفحصها طبيب مختصّ، لنفهم إن كانت عذراء أم لا.
ردّ عليها زوجها غاضبا:
اخرسي، هل تنقصنا فضائح، لقد اختبرها زوجها هذه الليلة ولم تنجح في الاختبار.
ردّت عليه حزينة:
لا تنجرّ وراء هذا الكلام، فعائشة ابنتك، وزياد ليس خبيرا بشؤون النّساء.
بعد أن غادر أبو عائشة وزوجته بيت أبي زياد، تداول زياد وأبوه الموضوع مع المختار، فقال لهما:
من يستر على عيوب النّاس يستر الله عيوبه، وقد سمعت البعض يزعمون بأنّ هناك نساء لا ينزل منهنّ دماء عندما تفضّ بكارتهنّ.
أبو زياد: هذا كلام غير معقول، فكلّ من تزوّجن نزلت منهنّ دماء، وكانت أمّهاتهنّ يزغردن احتفاء بعذريّة بناتهنّ، فتعمّ الزّغاريد القرية كإعلان على العذريّة والشّرف.
المختار: يا جماعة والله سمعت عن بنات من البادية فقدن عذريّتهنّ وهنّ يمتطين بعض الدّواب كالحمير والبغال والخيول.
زياد مفاخرا بفهمه: لكن يا مختار لا توجد دوابّ في قريتنا.
المختار ضاحكا: في هذه الأيّام يوجد درّاجات يا زياد بدل الدّواب.
زياد: أنا لا أقبل العيش مع زوجة مشكوك بشرفها حتّى لو كانت بريئة.
حاول المختار أن يهدّئ الوضع فقال:
يا جماعة لم نسمع عن صبحة وقريباتها إلا كلّ خير، وابنتها عائشة لا تزال طفلة.
أبو زياد: اسمع يا زياد، اتركها ثلاثة أشهر – كما قال المختار- “تمنّحها” في هذه الفترة، وبعدها طلّقها، وخطيّتها في رقبتها ورقبة من ربّوها.
المختار: عندي اقتراح.
لا تظلموا البنت، ما رأيكم أن تأخذوها لطبيب مختصّ ليفحصها؟
أبو زياد: وهل يعرف الطّبيب أكثر من زياد الذي فحصها؟
المختار: دخيلك يا أبو زياد، من منّا يعرف المرأة العذراء من الثّيّب؟
أبو زياد: وهل هذه قضيّة صعبة يا مختار؟
المختار: نعم إنّها قضيّة صعبة. ولو لم تكن صعبة فلماذا يدرس النّاس الطّبّ.
أبو زياد: ما تفحصه بعضوك ليس بحاجة لفحص طبيب.
المختار ضاحكا وساخرا:
يا بخت أمّ زياد بك!
تعاملوا مع عائشة باحتقار شديد عدا عن الضّرب والإهانات، حتّى إنّ شقيقة زياد التي من جيلها منعوها من الحديث معها.
همست أمّ زياد لقريباتها بأنّ زيادا لم يجد عائشة عذراء، وأنّه سيتخلّص منها قريبا، ولولا ثقتها بهنّ ومعرفتها بكتمانهنّ للأسرار لما أخبرتهنّ، وكلّ واحدة منها أخبرت صديقاتها، وبدورهنّ أخبرن أزواجهنّ حتّى انتشر الخبر في القرية كانتشار النّار في الهشيم.
شعر أبو عائشة وأبناؤه بالعار الذي لحق بهم، فما عادوا يجرؤون على النّظر في عيون النّاس، تشاوروا بقتل عائشة، لكنّ الأب ردعهم عن هذا التّفكير لحبّة لها، ولعدم قناعته بما أشيع عنها، وممّا قاله:
إنّها طفلة بريئة” البسّه بتوكل عشاها” وأعترف بأنّنا ظلمناها بهذا الزّواج.
بعد ثلاثة أشهر من الزّواج، اصطحبهم المختار إلى المحكمة الشّرعيّة؛ كي يطلّق زياد عائشة، بعد أن اتّفقوا على تنازلها عن حقوقها بما في ذلك مصاغها الذّهبيّ.
لكنّ لعنة الإشاعة بقيت تلاحقها وتلاحق والدتها وكلّ قريباتها من طرف والدتها، على اعتبار أنّ “العِرْق دسّاس.”
مرّت ثلاث سنوات على طلاق عائشة، وسط نظرات الرّيبة من الأهل والأقارب، حتّى إنّها لم تسلم من أمّها التي سألتها عشرات المرّات:
إذا ضحك عليك أحد أبناء الحرام، وعاشرك اعترفي لي، حتّى ألعن أبا العائلة التي أنجبته.
تتكوّم عائشة على نفسها ولا تجد جوابا، لكنّها كانت تجيب ببراءة الطّفولة قائلة:
والله ما خالطت رجلا غريبا في حياتي، ولم أنكشف على رجل سوى على قليل الأصل زياد ليلة الدّخلة، وكنت مرعوبة من شدّة الخوف.
أدركت عائشة مدى الويلات التي وقعت بها جرّاء هذا الزّواج الفاشل، والذي لم يكن لها رأي فيه، زوّجوها قبل أن تنهي الصّفّ التّاسع، ولم تستطع العودة إلى المدرسة بسبب الإشاعات الكاذبة التي لم تجرؤ بعدها على النّظر لأيّ إنسان ذكرا كان أم أنثى، بمن فيهم الأطفال الصّغار. تنطوي على نفسها وكأنّها تخبّئ أحزانها، لم يعد بها شهيّة للطعام. تأوي إلى فراشها، تغسل جراحها بدموعها، لكنّ ذلك لم يخفّف من معاناتها شيئا، تنفّذ أوامر وطلبات أفراد الأسرة صغيرهم قبل كبيرهم دون نقاش، لم ترفض أيّ أوامر لأيّ منهم. أصبحت مجرّد جارية لا أهمّيّة لوجودها في البيت، فكّرت بالانتحار أكثر من مرّة، لكنّها كانت تعدل عن ذلك خوفا من العار الأكبر الذي سيلاحقها، كانت تدعو الله في صلواتها، أن يأتي يوم تظهر فيه براءتها.
بعد سنتين وثلاثة أشهر من طلاقها جاءها خاطب من قرية بعيدة، أرشده إليها أحد أبناء عمومتها الذي قال لوالد الخاطب:
إنّها فتاة جميلة، تطلّقت من زوجها بعد ثلاثة أشهر لخلافات بين عائلتها وعائلته.
جاء الخاطب ووالده ووالدته بصحبة ابن العمومة الذي مهّد لقدومهم مع والدي عائشة، لم يستشر أحد عائشة في الموضوع، مع أنّها سمعت حديث والديها حول الموضوع، أبوها قال لوالدتها:
بنتك لن يسترها إلا رجل من مكان بعيد لا يعلم قصّتها.
عرّف راشد ابن العمومة على الضّيوف قائلا:
هذا الحاجّ محمد مسعود من قضاء رام الله، وهذا ابنه فارس.
بعدها تكلّم أبو فارس قائلا:
جئنا نطلب يد ابنتكم عائشة لابننا فارس على سنّة الله ورسوله.
أبو عائشة: أهلا بكم، نظر أبو عائشة إلى فارس، رأى رأسه الأشيب، سأله:
كم عمرك يا فارس؟
فأجاب أبوه ضاحكا: فارس لا يزال في قمّة الشّباب، فهو في الثّانية والأربعين من عمره، لا تنظر للشّيب الذي في رأسه، فقد قضى اثنين وعشرين عاما في الأسر.
ماذا يعمل فارس؟
عندنا بقالة يعمل فيها. ودخلنا بفضل الله يكفينا وزيادة.
دخلت المجلس عائشة تحمل صينيّة القهوة، وتحيط بها والدتها وأمّ فارس.
أمروها بالجلوس بجانب فارس.
قام ابن العمّ راشد بالتّعريف على عائشة ووالدتها، وعلى فارس ووالده، ركّزوا نظراتهم عليها، بينما هي طأطأت رأسها حياء، سأل أبو فارس:
كم عمركّ يا عائشة؟
أجاب راشد: قلت لك أنّها في الثّامنة عشرة من عمرها.
قال أبو عائشة: حيّاكم الله، فأنتم ضيوف أعزّاء، أعطونا فرصة لمدّة أسبوع، وسنردّ لكم الجواب على طلبكم مع راشد.
تداول والدا عائشة وإخوانها في الموضوع بعد أن انصرف الضّيوف فور تناولهم طعام العشاء.
قال راشد معتدّا بنفسه:
لقد رأيتم العريس ووالديه، وحسب معرفتي بهم فإنّهم أناس أفاضل، ويبقى الرّأي لكم.
تنهّد اسماعيل شقيق عائشة وقال:
يبدو أنّ فارسا كبير في العمر.
راشد: عمر فارس اثنان وأربعون عاما، لكنّ سنوات الأسر تركت آثارها عليه.
أبو عائشة: قصّة عائشة في زواجها الأوّل، ستكون سدّا منيعا أمام زواجها من أيّ شخص يعلم ما جرى لها.
انتتفضت عائشة وقالت باكية غاضبة:
ما هذه القرية الظّالمة؟ يا إلهي إنّهم يكذبون ويصدّقون كذبهم، فوالله إنّني ظلمت، ولا أزال مظلومة، ولم أجد من يرفع الظّلم عنّي، ليتني متّ واسترحت من هذه الحياة البائسة.
دبّ الحنان بقلب أبيها وقال وقد اغرورقت بالدّموع عيناه:
اهدئي يا بنيّتي، أعلم أنّك مظلومة، لكن ليس لديّ إثبات على براءتك، ومجتمعنا لا يرحم، وهذا نصيبك في الحياة. وأنا أرى أنّ هذا الخاطب مناسب لك مع فارق العمر بينكما “فالقطعة ولا القطيعة”.
مسحت عائشة دموعها وقالت:
“ربنا يقطع هيك نصيب” قالتها وغادرت الجلسة.
تداولوا في الموضوع بعد خروجها، قرّروا أن يكون الرّد بالموافقة، وطلبوا من راشد أن يوصل موافقتهم بعد ثلاثة أيّام “بلاش يقولوا أنّنا كاسرين رقابنا عليهم.”
خطبت عائشة وتزوّجت خلال أسبوع واحد، لقيت ترحيبا كبيرا من زوجها وأسرته، فقد انتظروا طويلا؛ كي يروا أبناء راشد.
عندما زاروا عائشة في قسم الولادة في مستشفى المقاصد وسمعوا أنّها لا تزال بكرا، زادت فرحتهم بها وبحفيدهم الأوّل.
سمعت جمانة قصّة عائشة منذ اليوم الأوّل لزواجها من زياد، انتشر الخبر في الجامعة، تداولته الطالبات وهنّ يشعرن برعب شديد، فكلّ واحدة منهنّ أصبحت قلقة على نفسها، وتتساءل عمّن يضمن لها أن لا تكون بكارتها مطّاطيّة، وعندما تتزوّج فمن سيقنع العريس أنّ بكارتها مطّاطيّة إذا لم تنزل دماء؟
أكثر ما أغضب جمانة هو موقف النّساء من الإشاعة التي حيكت بجهل مستفحل حول عائشة، فذات يوم زارت أمّ أسامة حماتها المستقبليّة، فوجدتها تجلس مع رهط من النّساء يتداولن أحاديث الغيبة والنّميمة، فقالت أمّ أسامة:
يخرب بيت أمّها، من سيصدّق قسمها ببراءتها، فكلّنا تزوّجنا وسالت منّا دماء عند فضّ البكارة.
فقالت أمّ وضّاح: كلامك صحيح، أنا نزل منّي نقطة دم خفيفة جدّا.
أمّ أسامة مفاخرة: والله أنا نزل منّي سيل دم.
ضحكت أمّ عثمان وهي أكبرهنّ عمرا وسألت ساخرة:
كيف لم تغرقي في سيل الدّماء أنت وأبو أسامة؟
أمّ أسامة تبرّر ما قالته:
لا أعني ما فهمته يا أمّ وضّاح، وإنّما سالت منّي دماء تركت أثرها على فخذيّ، ولم أمسحها كي تراها أمّي وحماتي؛ لتكونا شاهدتين على عفّتي وشرفي.
أمّ بسّام: دم البكارة خفيف جدّا، ومن لا يكون نظره سليما 100% لن يراه.
أمّ جابر على استحياء:
ما الدّاعي لهذا الكلام؟ هل تردن أن تعدن عذارى بعد أن أنجبت كلّ منكنّ أكثر من عشرة بطون؟
أمّ أسامة بجرأة: هذه مرحلة مرّت بها كلّ النّساء المتزوّجات، ويعرفها الرّجال المتزوّجون كلّهم، وما العيب في ذكر ذلك يا أمّ جابر ما دمنا جميعنا نساء، ومررنا بهذه التّجربة؟
قالت أمّ جابر بنبرة حادّة:
ما فائدة هذا الكلام؟ ولِمَ تستغبن طفلة مثل عائشة؟ ألا تخفن الله؟ فلكنّ بنات وأخوات.
أمّ أسامة: نسأل الله أن يستر على “الولايا” كافّة، والحديث في هذا الموضوع من أجل أن تنتبه كلّ منّا لبناتها العازبات؛ كي لا يقعن في الخطيئة.
أمّ جابر: وهل بناتنا دون تربية ودون دين حتّى يقعن في الخطيئة؟ ما هذا الكلام الفارغ؟
أمّ أسامة توجّه حديثها لأمّ جابر:
دون لفّ أو دوران، هل نزلت منك دماء يوم دخلتك؟
إذا كان الجواب يرضيك، نعم نزلت منّي نقطة واحدة، وليس سيلا كما تقولين.
أمّ أسامة: بما أنّك الآن تعترفين، فلماذا لم تنزل دماء من عائشة؟
أمّ جابر: خالقها أعلم بحالها، لكن ليس من حقّ أيّة واحدة منّا أن تدينها، وقد سمعت في برنامج بثّته إحدى الفضائيّات أنّ البكارة غشاء خفيف هشّ مثل بيت العنكبوت، يتلاشى أمام أيّ صدمة مهما كانت خفيفة.
أمّ سالم: إذا كانت أمّ أسامة صادقة فيما تقول، فهذا يعني أنّ دم الحيض كان محشورا في رحمها، وخرج دفعة واحدة بالممارسة.
أمّ أسامة: هل تتهمينني بالكذب يا أمّ سالم؟ وهل كنت مكاني حتّى لا تصدّقي ما قلت؟
استمعت جمانة لبعض هذا الحديث، فاشمأزّت وشعرت بالتّقيّؤ وصدرها يغلي غضبا، لم تتفوّه بأيّ كلمة، غادرت الجلسة دون أن تقول وداعا، وتساءلت حول ظلم النّساء لبنات جنسهنّ، فإذا كان هذا موقف النّساء من عائشة فماذا يقول الرّجال؟
غضبت أمّ سالم وغادرت هي الأخرى الجلسة.
كتمت جمانة غيظها وحيرتها، وزاد قلقها لأنّ أسامة يحمل عقليّة عجيبة، ولا يؤمن بالعلوم وخصوصا طبّ النّساء، يضاف إلى ذلك أنّه تربية أمّه الخبيرة في حبك المكائد والدّسائس.
تأثّرت جمانة بحياة كافكا التي بحثت عنها في الشّبكة العنكبوتيّة، توقّفت كثيرا عندما قرأت أنّه” خطب مرّتين صديقته، فيليس باور، ولكنهما انفصلا دون زواج عام 1917.” وباتت على قناعة بأنّ حياة العزوبيّة للإناث أفضل من الحياة الزّوجيّة، التي ربّما ستتمخّض عن كوارث لا علاقة للمرأة فيها، وقد تبدأ هذه الكوارث من الليلة الأولى للزّواج في مجتمعات لا تفهم الحياة إلا من خلال رحم المرأة. قرأتْ أنّ كافكا قد عاش واحدا وأربعين عاما “1883-1924″، ومات بالسّل، فهل لو طال به العمر كان سيتزوّج أم أنّه أسقط هذا الخيار من حياته؟ ولماذا لم يفكّر بأن يكون أبا؟ وهل لحياة الفقر والحرمان التي عاشها علاقة بعزوفه عن الزّواج؟
لكنّها رجّحت أنّ عزوفه عن الزّواج كان عن قناعة، وهذا يظهر جليّا في رواياته وفلسفته في فهم الحياة.
*****
هاتف أسامة جمانة، وسألها:
بعد أسبوعين سأعود للوطن، وسنتزوّج بعد وصولي بأسبوع، فاستعدّي لذلك، وهل توصينني بشيء أشتريه لك؟
ارتبكت جمانة قليلا وقالت على استحياء:
من يأتي بهدية لا يشاور المهدى إليه.
أسامة: أنت زوجتي وشريكتي، فاطلبي ما تشائين.
– أنا خطيبتك وسأكون زوجتك بعد الزّفاف.
– أنت زوجتي منذ كتبنا عقد زواجنا.
– هذه ليست نقطة خلاف، لن أطلب منك شيئا، إذا كنت تريد أن تشتري لي شيئا فاختره على ذوقك.
– اتركيك من ذوقي، أنت ماذا تريدين؟
– ما دمت مصرّا عليّ سأطلب أن تشتري لي زجاجة عطر عود مع الورد والكهرمان اسمها The Night Frederic Malle. وهي عطر عربيّ من صنع محلات عبد الصّمد القرشيّ.
– رويدك قليلا إقرئيها لي حرفا حرفا حتّى أكتبها.
– ألا يوجد مثلها في القدس؟
– لا هذه صناعة عربيّة خليجيّة.
– كيف عرفتِها؟
– رأيتها مع زميلتي في الكلّيّة، ورائحتها مميّزة، فسألتها عنها فقالت إنّ أباها الذي يعمل مهندسا في السّعوديّة قد أحضرها لها معه عندما زار البلاد.؟
– هل تريدين شيئا آخر؟
– أريد سلامتك.
– على كلّ بعد زواجنا سترافقينني، وسأشتري لك كلّ ما تريدينة.
– شكرا لك، أيّ طبخة تحبّها كي أجهزها لك عندما تعود؟
– عندما أعود سأتناول الطّعام في بيت والديّ، وكما قالت لي الوالدة فإنّها جهّزت شقّتنا التي سنسكنها، واشترت غرفة النّوم و”كنبات” الصّالون، وما يلزم المطبخ من صحون وطناجر وغيرها.
سكتت جمانة قليلا وسألت:
هل الشّقّة ستكون لنا وحدنا؟
– نعم هي شقّتي، بعثت نقودا لأبي فبناها لي طابقا ثانيا على البيت.
– ألم يكن حريّا بأمّك أن تصطحبني معها عند شراء احتياجات بيتنا؟
– لِم؟
– بما أنّ البيت لنا فنحن أولى باختيار ما يناسبنا.
– أمّي تعرف ذوقي، وتعرف ما أحبّ أكثر منّي ومنكِ؟
– لكنّ هذا حق لي؟
ماذا تقولين يا جمانة؟ البيت لي وأنت شريكتي، وما يرضيني سيرضيكِ حتما.
جمانة مغلوبة على أمرها:
حاضر، لك ما تريد يا أسامة. هل أخبرك والداك أنّني أزورهما، وأتحدث وأجلس معهما؛ كي تصبح بيني وبينهما ألفة ومحبّة تمهيدا لزواجنا.
ضحك أسامة وهو يقول:
نعم أخبرتني أمّي أنّك تزورينهم في البيت، فهل هذه الزّيارة بريئة أم أنّك تستعجلين الزّواج؟
جمانة: حسبي الله ونعم الوكيل.
– ماذا تقصدين؟
– أقصد أن لا شيء يرضي أمّك، وتفسّر الأمور كما يحلو لها.
– لا أريد أن أسمع منك كلاما كهذا مرّة أخرى، أمّي امرأة فاضلة، ولا تريد لي إلا كلّ خير.
– من يريد لك الخير يريده لزوجتك أيضا.
– هل أفهم من كلامك أنّك غاضبة من أمّي؟
– بالعكس فأنا في منتهى الرّضا، وأتقرّب من أمّك؛ لأنّني أعتبرها مثل أمّي، وأتعامل معها كما أتعامل مع أمّي.
– هذا ما أريده منك دائما، فغضب أمّي منك –لا سمح الله- لن يكون لصالحك.
جمانة مغتاظة: الله يخليلك أمّك ويخلّيك لها.
هل تريدين أن أحضر لكِ شيئا آخر؟
– نعم أريد أن تحضر زجاجة عطر لأمّك كالتي طلبتها منك لي.
– أعرف ما تريده أمّي.
– لكن أمّك تغار من النّساء، حتّى إنّها تغار من بناتها، وإذا رأت زجاجة العطر ستأخذها لها، أو ستغضب عليك وعليّ.
– إذا أعجبت أمّي فمبروكة عليها، وسأشتري لكِ ما تريدين عندما نعود إلى العمل بعد زواجنا.
– يا سيّدي على راحتك. ورضا الوالدين من رضا الله.
بعد انتهاء المكالمة عادت جمانة إلى حوّامة الأفكار الحائرة التي استجدّت عليها بعد خطبتها من أسامة، فتصرّفات الرّجل وحديثه لا تبدو غريبة عن تصرّفات والدته. وإذا كان كذلك فلن تنعم جمانة بحياة زوجيّة هادئة، وعندما أخبرها عن قرب عودته، ازداد قلبها خفقانا وخوفا من قادم الأيّام، وأصبحت على قناعة بأنّ زواجها من أسامة مغامرة غير مضمونة النّتائج، لكنّها في الوقت نفسه قرّرت أن تخوض هذه التّجربة نزولا عند رغبة والديها، وخوفا من الطّلاق قبل الزّواج، فطلاق المرأة في هذا المجتمع يبقى لعنة تطاردها، ولا أحد يرحم المطلّقة بغضّ النّظر عن أسباب طلاقها، وسواء كانت ظالمة أم مظلومة، فالمرأة خاصرة المجتمع الرّخوة، تمنّت أن تكون أفكارها مجرّد وسوسات شيطانيّة، أو طيش شباب، لكنّها في النّهاية حسمت الأمر بخوض هذه التّجربة.
أخبرت جمانة أسرتها أنّ أسامة سيعود بعد أسبوعين، وأنّه مصمّم على الزّواج بعد أسبوع من وصوله. ويومئذ ستكون قد انتهت من امتحاناتها الجامعيّة، وستحصل على بكالوريوس لغة عربيّة.
قالت أمّها: هذا يوم السّعد والسّعادة الذي ننتظره، ونتمنّى لكما الخير والسّعادة.
أمّا أبوها فقد قال بصوت حزين:
يعزّ علينا فراقك يا ابنتي، لكن هذه سنّة الحياة، ومصير البنات للزّواج.
أمّا شقيقتها تغريد التي تحبّ مناكفتها فقد قالت:
بزواجك نصطاد عصفورين بحجر واحد، أوّلهما: سنرقص وسنغنّي يوم زفافك، وثانيهما سنرتاح من غلبتك، وسأحتل سريرك بجانب النّافذة.
التفتت جمانة لتغريد ولم تتكلّم شيئا، أمّا سلمى أختها الصّغرى فقد نزلت من عينيها دمعتان.
أمّ جمانة: علينا ترتيب أغراضك استعدادا لذلك اليوم.
أبو جمانة: اسمعي يا بنيّتي، أيّ شيء تريدينه سنشتريه لك، لا تتركي شيئا في خاطرك.
جمانة: أدامك الله ذخرا لنا يا أبي، فلا أريد إلا سلامتك؛ لأنّك أغلى إنسان على قلبي.
******
عاد أسامة في 6 حزيران – يونيو- 2006 ليقضي إجازته الصّيفيّة بين أهله، وليتزوّج أيضا، وصل البيت عند السّاعة الثّانية ظهر ذلك اليوم.
صباح ذلك اليوم قالت لطيفة لبنتها جمانة:
اذهبي إلى صالون وجمّلي نفسك، فخطيبك سيصل اليوم.
قالت جمانة وتكشيرة تعلو وجهها:
أنا راضية عن نفسي كما خلقني الله.
الأمّ: كلّ النّساء يرتدن صالونات التّجميل.
جمانة: هنّ حرّات بما يفعلن، وأنا حرّة بنفسي.
تغريد مازحة: وإذا منظرك لم يعجب أسامة؟
التفتت إليها جمانة بغضب وقالت:
أسامة أصلا يرفض ذهاب النّساء إلى صالونات التّجميل.
قالت أمّ جمانة: دعونا نذهب للسّلام على أسامة.
جمانة: أنا لن أذهب معكم؟
أمّها: لماذا؟
أبو جمانة: اسمعي يا لطيفة، كلام جمانة صحيح، فقد جرت العادة أن لا تستقبل الخطيبة خطيبها العائد من سفر في بيت أهله، بل هو من يأتي لبيت أهلها ليسلّم عليها، سنذهب أنا وأنت فقط.
أمّ جمانة: اختلف هذا الزّمان عن زماننا يا عيسى.
أبو جمانة: مهما اختلفت الأجيال فهناك أصول وتقاليد.
أمّ جمانة: لكن جمانة كانت تزور والدي أسامة بشكل شبه أسبوعيّ، منذ خطبتها من أسامة.
جمانة: أنا زرت والديه ولم أزره هو، والحمد لله أنّه موجود خارج البلاد، ولم يعد إلا اليوم.
عندما وصل والدا جمانة بيت والدي أسامة للسّلام عليه، سألت أمّ أسامة:
أين جمانة؟ هل هي مريضة؟ لماذا لم تأت معكما؟
أمّ جمانة: ليست مريضة، لكنّها وجدت من غير اللائق أن تكون في استقبال أسامة في بيته.
أمّ أسامة محتجّة: هل كان لائقا أن تزورنا في غياب أسامة؟
أمّ جمانة: أنتما بمقام والديها.
قطع أسامة الحوار عندما قال لأمّ جمانة:
غدا بعد الظّهر سأزوركم في بيتكم.
ردّ عليه أبو جمانة: أهلا بك يا ولدي في كلّ وقت، وغدا سنتناول طعام الغداء بمعيّتك أنت ومن يأتي معك في بيتنا.
في اليوم الثّاني لوصول أسامة خرج من السّاعة العاشرة لآداء صلاة الظّهر في المسجد الأقصى، بعد أن أوصى والديه:
بعد صلاة الظّهر سأعود مباشرة من المسجد إلى بيت أبي جمانة، وسنلتقي هناك.
أمّ أسامة: لا داعي لذهابنا معك.
أسامة: بل هناك ضرورة؛ لأنّنا سنتّفق على الزّفاف في أقرب وقت ممكن.
أمّ أسامة: ما تقبل به أنت وأبوك مقبول عليّ.
أبو أسامة: دعك منها يا أسامة، هذه عادتها “الطّبع غلب التّطبع” لو تناقشها لعام كامل ما غيّرت رأيها، اتركها وستأتي وحدها دون عزومة.
أمّ أسامة لزوجها: أنت دائما تقف ضدّي، ولا أعرف سببا لذلك.
أبو أسامة: لا أحد يقف ضدّك سواكِ.
أمّ أسامة: نكاية بك، سأسبقكم الآن إلى بيتهم، وسأطلب من جمانة وأمّها وأخواتها أن يعددن طعام غداء يليق بأسامة.
ضحك أسامة وهو يغادر البيت في طريقه إلى المسجد سيرا على الأقدام.
فكّر أسامة أن يمرّ على بيت صهره ليرى خطيبته بطريقة مفاجئّة، فربّما هي الآن بملابس نومها، لكنّه صرف الفكرة من رأسه، وهو يفكّر بأنّ هكذا تصرّف فيه حماقة غير مستساغة. واصل طريقه إلى المسجد الأقصى سيرا على الأقدام طلبا لمزيد من الثّواب، “فالثّواب على قدر المشقّة.” لكنّ ما راود نفس أسامة طبّقته أمّه، فقد توجّهت إلى بيت أبي جمانة بعد خروج أسامة بدقيقتين على الأكثر، ودون أن تخبر أحدا عن وجهتها.
عندما طرقت باب بيت أبي جمانة صاح من الدّاخل:
من بالباب؟
– أنا أمّ أسامة.
لم يشأ أبو أسامة أن يستقبلها بمنامته التي لم يستبدلها بعد، فطلب من ابنته تغريد أن تفتح لها الباب، في حين اختفى هو في غرفة النّوم لإستبدال ملابسه.
نظرت أمّ أسامة داخل صالون البيت فلم تجد أحدا، فتوجّهت مباشرة دون استئذان إلى المطبخ وتغريد تتبعها قائلة:
تفضّلي في الصّالون يا خالتي.
أمّ أسامة: أين أمّك وجمانة؟
تفضلي والآن سيأتيان.
في المطبخ رأت سلمى تعدّ قهوة الصّباح، فعادت تسأل عن الآخرين، عندما سمعت جمانة صوت أمّ أسامة، ارتدت ملابس الصّلاة في ثوانٍ، وخرجت من غرفة النّوم وقالت:
أهلا خالتي أمّ أسامة.
التفتت إليها أمّ أسامة وقالت لها دون أن تصافحها:
من تقف على عتبات الزّواج لا يجوز لها أن تنام حتّى هذه السّاعة.
خرجت أمّ جمانة بعد أن استبدلت ملابسها ورحّبت بزائرة الصّباح، قادتها إلى الصّالون. لحق بها أبو جمانة مرحّبا هو الآخر، ابتسمت له وهي تصافحه وقالت:
جئت لأخبركم أنّ أسامة سيكون في ضيافتكم بعد صلاة الظّهر.
أبو جمانة: أهلا بك وبه في كلّ وقت.
قالت بلهجة جافّة: سبقته لأشارككنّ في إعداد طعام الغداء له.
شعرت جمانة بغصّة منعتها من الرّد عليها، فخرجت من الصّالون، بينما قالت لها أمّها:
أهلا بكِ معزّزة مكرّمة، والغداء سنعدّه أنا وبناتي.
أمّ أسامة: ماذا ستطبخون؟
أبو جمانة: خير الله كثير، فاهدئي لنشرب قهوة الصّباح بمعيّتك.
ابتسمت أمّ أسامة وقالت:
ليت أبا أسامة بهدوئك يا عيسى.
– أبو أسامة على سلامته.
– لكنّه “لا يعجبه العجب ولا الصّيام في رجب.”
– “الله يهديكِ ويهديه.”
في غرفة نوم البنات همست تغريد لجمانة:
هذه المرأة ليست طبيعيّة يبدو أنّها مجنونة.
جمانة: ليست مجنونة لكنّها شرّيرة وتضع أنفها في كلّ صغيرة وكبيرة.
بعد أن تناولوا طعام الغداء في بيت أبي جمانة قال أبو أسامة:
إجازة الأستاذ أسامة تنتهي بعد شهرين ونصف، فدعونا نكسب الوقت بتحديد موعد الزّفاف بالسّرعة الممكنة.
ردّ عليه أبو جمانة:
لا مانع لدينا يا سعيد، حدّدوا يوم زفاف ابنكم على راحتكم، ونحن لا مطالب لنا، جمانة أنهت دراستها وكلّ شيء على ما يرام.
أبو أسامة: بيت العروسين جاهز بكلّ شيء، لا ينقصه إلا السّكن.
أسامة: إذن سنتّفق على قاعة مع فرقة إنشاد دينيّ.
أمّ أسامة محتجّة: هل سنقيم مولدا لنأتي بفرقة إنشاد دينيّ، نريد أن نفرح ، سنرقص وسنغنّي بزفافك يا ولدي.
أسامة: الغناء والرّقص والموسيقى حرام يا أمّي.
أمّ أسامة: هل يُعقل أنّ من يغنّون ويرقصون بزفاف أبنائهم لا يخافون الله، ولا يعرفون الحلال والحرام يا أسامة؟ وهل أكفر عندما أغنّي:
هاي يا ناس صلّوا على النّبي
وهاي بدل الصّلاة صلاتين
أبو أسامة موجّها كلامه لزوجته:
دعيك من هذا الكلام، أسامة حرّ بترتيب حفل زفافه، وهو يعرف الحلال والحرام أكثر منّا كلّنا.
ثمّ وجّه كلامه لجمانة من باب رفع العتب.
ما رأيك يا جمانة؟
جمانة تكتم غضبها:
ما ترونه مناسبا يا عمّ هو الصّحيح.
أسامة: دعونا نتّفق على يوم الجمعة القادم، لن ندعو أناسا كثيرين، بعض الأقارب والأنسباء ويكفي، قاعة الهلال الأحمر المجاورة مناسبة حسب تقديري.
أبو جمانة: الخير فيما تختارونه.
أمّ أسامة: دعونا نجلس في مكان آخر؛ لنترك الصّالون للعروسين، فربّما يريدان الحديث في أمور ليس من حقّنا أن نسمعها.
جمانة وفي ذهنها ألا يتكرّر ما حدث معها ليلة الخطوبة إذا ما بقيا في غرفة وحدهما:
سأجلس أنا وأسامة في ظلّ شجرة التّين في حديقة البيت.
حمل كلّ منهما كرسيّا بلاستيكيّا وجلسا في حديقة البيت تحت شجرة التّين.
قال أسامة: أحضرت لك يا جمانة ثلاث عباءات كتلك التي ترتديها النّساء السّعوديّات، فهنّ لا يرتدين الجلابيب كما عندنا، كما أحضرت لك ثلاثة فساتين ترتديها النّساء تحت العباءات، يضاف إليها ملابس داخليّة تليق بالعرائس.
جمانة: شكرا لك.
– لكنّني لم أحضر لك العطر الذي طلبتِه؛ سأشتريه لك عندما نسافر إلى تلك البلاد، والصّحيح أنّني ذهبت لشرائه ووجدت سعره غاليا جدّا.
– كم سعره؟
– ثلاثة آلاف ريال، أي ما يعادل ستمائة دينار أردنيّ. لكنّني اشتريت لك عطرا أفضل منه بخمسين ريالا.
عقّبت جمانة بأسلوب بين الجدّ والهزل:
كما تريد “فالاقتصاد في النّفقة نصف العيش.”
– هل تمزحين؟
كتمت غيظها وقالت: أبدا، فأنا أتكلّم بمنتهى الجدّيّة.
– أعرف أنّك رصينة وصاحبة عقل راجح.
أرادت جمانة أن تهرب قليلا من الجلسة فقالت وهي تستدير ذاهبة:
سأعدّ فنجاني قهوة لنا.
في المطبخ بكت جمانة نفسها، رأت أحلامها تتبخّر أمامها، لكنّها لا تزال تمنّي النّفس بأنّ ما تراه وتسمعه قد يكون كابوسا، سيتبدّل بالتّجربة.
عادت بفنجاني قهوة، وضعت أحدهما أمام أسامة، وأمسكت الثّاني بيدها، رشفت منه رشفة واحدة وسألت:
هل استأجرت لنا بيتا في الرّياض حيث تعمل؟
– نعم استأجرت بيتا وأثّثته؟
– هل اشتريت تلفازا ومذياعا هناك؟
– لا حاجة لنا بهما فالتلفاز والمذياع مفسدة، ويبثّان أغاني وبرامج تغضب وجه الله.
– وكيف سأقضي يومي بين أربعة جدران وحيدة أثناء غيابك في العمل؟
– تقضينها في ما يرضي الله، في أوقات فراغك تقرئين في كتاب الله وسنّة نبيّة ومؤلفات السّلف الصّالح، تصلّين وتستغفرين.
– وهل يمكنني أن أعمل في التّدريس هناك؟
انتفض أسامة وقال بلهجة حازمة:
أعوذ بالله… هذا مستحيل، أنت ستعتنين بالبيت، وأنا سأوفّر لك كل ما تحتاجينه. ولا تنسي أنّك ستكونين أمّا خلال عام بإذن الله، فمن سيعتني بطفلنا هناك؟
– “عندما يأتي الصّبي سنصلّي على النّبي.”
– وإذا ما رزقنا بطفل ألا توجد هناك دور حضانة؟
– ماذا جرى لعقلك يا جمانة؟ هل سترافقينني كزوجة لي أم كموظّفة؟
شعرت جمانة بضيق وسألت:
وهل سأكون أوّل زوجة تعمل؟
– أنا لست بحاجة لعمل زوجتي، والزّوجة الصّالحة لا تعصي أمرا لزوجها.
قامت من مكانها غاضبة، تتصنّع الهدوء والرّضا مع أنّ في داخلها مرجلا يغلي:
كما تريد يا أسامة، وبإذن الله سأكون لك زوجة مطيعة، هيّا بنا لنعود إلى صالون البيت؛ لنرى ما اتّفقوا عليه بخصوص زواجنا الميمون.
– زواجنا سيكون بمشيئة الله يوم الجمعة القادم.
قبيل المساء غادر أسامة ووالداه بيت أبي جمانة، نظرت جمانة خلفهم وقالت في سرّها:
“طريق تاخذ ما تردّ”، وعادت إلى سريرها متعبة، فقد باتت على قناعة بأنّها تسير إلى مصير بائس برضاها، فهي لم تعد قادرة على رفضِ هذا الزّواج، رغم قناعاتها التي لا تبوح بها لأيّ إنسان.
حجزوا قاعة الهلال الأحمر المجاورة؛ ليكون الزّفاف يوم الجمعة القادم.
صباح الخميس رنّ الهاتف في بيت أبي أسامة، رفعت أمّ أسامة سمّاعة الهاتف وقالت:
هالو..صباح الخير.
سمعت صوتا أنثويا باكيا، فقالت:
يا فتّاح يا عليم، من أنتِ؟
– أنا سوزان بنت أختك رائدة يا خالتي.
سألت أمّ أسامة خائفة:
خيرا يا بنت، لِمَ تبكين؟
– أنا في مستشفى المقاصد مع أمّي ووضعها خطير تعالي إلينا.
قالت ذلك وأغلقت الهاتف، ركضت أمّ أسامة مسرعة في طريقها إلى المستشفى، وجدت شقيقتها في غرفة العمليّات، حيث ستجرى لها عمليّة قلب مفتوح على عجل لإنقاذ حياتها، أخذت تندب حظّها وحظّ ابنها أسامة، فغدًا زفافه، استغفرت ربّها ودعته بسلامة شقيقتها، أخذت سوزان بنت شقيقتها تهدّئ من روعها، وتطلب منها أن تدعو بالشّفاء لوالدتها التي هي شقيقة أمّ أسامة.
هدأت أمّ أسامة قليلا ثمّ قالت:
كلّه من وجه المنحوسة.
سألتها سوزان: من هي المنحوسة يا خالتي؟
– جمانة عروس أسامة.
استغربت سوزان ما قالته خالتها وسألت:
ما علاقتها بمرض أمّي، فالمرض والموت ابتلاء من الله.
– جمانة يا ابنتي ناعمة مثل الأفعى، لا تغترّي بها.
– حتّى لو كان كلامك صحيحا فلا علاقة لها بمرض أمّي.
– وجهها نحس علينا، منذ أن خطبها أسامة وأنا غير مرتاحة منها “وقلب المؤمن دليله”.
– دعيك من هذا الكلام يا خالة، واتركينا ندعو بالسّلامة لأمّي.
يقلقني أسامة، فقد عاد متحمّسا ليتزوّج، وزفافه يوم غد، وجاء مرض أمّك، وهذا سبب كاف لتأجيل الزّفاف.
احتارت سوزان بخالتها فقالت:
إن شاء الله ستخرج أمّي سالمة من العمليّة الجراحيّة، وستتمّ أمور الزّفاف كما خطّطتم لها.
استنكرت أمّ أسامة ما قالته سوزان وقالت:
من غير المعقول أن يُزفّ أسامة وخالته في المستشفى، وإذا لا سمح الله لم تسلم من هذه الجراحة، فلن يتمّ الزّواج هذا العام.
– وحّدي الله يا خالة، فللضّرورة أحكام، ومهما حصل أنا مع زفاف أسامة كما حدّدتم.
غضبت أمّ أسامة وقالت:
ماذا جرى لعقلك يا سوزان؟ هل يعقل أن يتزوّج ابني وخالته بين يدي المولى؟ هل تعرفين كيف ستكون نظرات النّاس إليّ؟
لم تعط مجالا لسوزان كي تردّ عليها، أخرجت هاتفها المحمول وهاتفت أسامة:
اسمع يا أسامة، خالتك رائدة في مستشفى المقاصد في وضع خطير، أترك كلّ شيء وتعال للمستشفى.
وصل أسامة على عجل، فقالت له قبل أن يستردّ أنفاسه:
لن يتمّ زفافك غدا بسبب وضعّ خالتك الصّحّيّ، سنحدّده لاحقا عندما تستردّ خالتك عافيتها.
جلس أسامة على مقعد مجاور، وضع رأسه بين يديه، بعد أن سأل سوزان عمّا جرى لوالدتها، ثمّ خرج ليلغي الحجز في قاعة الهلال الأحمر.
رنّ هاتف أسامة مرّة ثانية، قالت له أمّه:
المستشفى طلب خمس وحدات دم لخالتك، أحضر سريعا.
اصطحب أسامة شقيقته أسمهان وخطيبته وشقيقتها تغريد معه إلى المستشفى، كي يتبرّعوا بالدّم، لحقت به أمّه وهمست له:
لا تتبرّع أنت بالدّم، فأنت مقبل على زواج، دع النّساء يتبرّعن.
ردّ عليها: إذا لم أتبرّع أنا بوحدة دم فمن سيتبرّع؟
مشت خلفه إلى بنك الدّم، وهناك مدّت كلّ من سوزان، وجمانة، وتغريد وأسمهان أيديهنّ، في الغرفة سريران فقط يتمدّد كلّ متبرّع على واحد منهما، بعد ذلك تمدّد أسامة على السّرير الذي تمدّدت عليه جمانة، وقبل أن يمدّ يده، هجمت عليه أمّه، سحبته من ذراعه وتمدّدت مكانه وهي تقول:
اسمع ما قلته لك.
رفعت ردنها عن ذراعها وقالت للممرّضة اسحبي منّي. سألتها الممرّضة:
كم عمرك يا خالة؟
– خمسة وخمسون عاما.
– هل تعانين من أمراض وتتعاطين أدوية؟
– كفانا الله شرّك، اسحبي الدّم واسكتي.
التفتت الممرّضة إلى أسامة، طلبت منه أن يذهب إلى مقصف المستشفى كي يحضر لكلّ واحدة قنّينة عصير وهي تقول:
السّوائل تعوّض الدّم المسحوب.
عندما انتهت أمّ أسامة من التّبرّع بوحدة الدّم، ظهرت عليها بوادر الخوف والنّدم، نزلت عن السّرير، شعرت بدوخة، أمسكت تغريد بيدها، قادتها إلى مقعد في الممرّ وهي تقول:
ارتاحي هنا يا عمّة.
عندما علمت جمانة بتأخير حفل زفافها على أسامة ابتسمت دون أن تعرف سببا لابتسامتها.
أخبرهم الطّبيب أنّ عمليّة رائدة انتهت بنجاح، لكنّها لا تزال تحت تأثير “البنج”، وستبقى في غرفة الإنعاش لمدّة يومين على الأقلّ، وبالتّالي فإنّ زيارتها ممنوعة، ولا داعي لبقائهم في المستشفى.
عادوا جميعهم إلى بيت أبي أسامة باستثناء أختها فاطمة، فقد قالت بأنّه ستبقى في المستشفى حتّى ساعات المساء، وبعدها ستعود إلى البيت سيرا على الأقدام.
سألهم أبو أسامة عن صحّة رائدة شقيقة زوجته، فطمأنوه عنها، لكنّه استشاط غضبا عندما علم بتأجيل زفاف أسامة، وسأل:
من قرّر تأجيل الزفاف.
أسامة: أمّي.
– لماذا لم تسألوني؟
لم يجد جوابا على سؤاله فالتفت إلى ابنته أسمهان وقال:
أمّك عنيدة وجاهلة ومتسرّعة في كلّ شيء، ولا داعي لتأجيل الزّفاف.
سوزان: قلت لها ذلك يا عمّ لكنّها لم تأخذ برأيي.
أبو أسامة: الحقّ ليس عليها يا سوزان، الحقّ عليّ أنا لأنّني أطلقت لها العنان، وما عادت تعرف حدودا تقف عندها، والحقّ على أسامة الذي سمع كلامها.
أسامة مغلوب على أمره:
يقول تعالى:” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.”
أبو أسامة: لماذا لم تخرج من عندها، دون أن تنفّذ طلبها؛ لأنّها لا تعرف مصلحتها ولا مصلحتك، ما دمت تخاف من عقوق الوالدين؟
لم يجد أسامة جوابا، استأذنت جمانة وشقيقتها تغريد، وخرجتا عائدتين إلى بيتهما، وهناك عندما سمعت أمّ جمانة عن تأجيل الّزفاف قالت:
الله يخلصنا من أسامة وأمّه على خير.
مكثت رائدة في المستشفى عشرة أيّام، خرجت بعدها معافاة، أراد زوجها وأبناؤها إعادتها إلى بلدة الرّام حيث تسكن، لكنّ أمّ أسامة أصرّت على اصطحابها معها إلى بيتها، بحجّة أنّ حيّ الصّوّانة حيث تسكن قريب من المستشفى للمراجعة، خصوصا وأنّ الحاجز العسكريّ عند قلنديا يصعب المرور منه بسهولة.
أدخلتها إلى شقّة ابنها أسامة؛ لتنام على سرير العروسين طلبا للهدوء، وفي الليل كانت تنام أمّ أسامة بجانب شقيقتها على السّرير نفسه، بينما تركت أسامة ينام على كنبة في الصّالون.
تحسّن الوضع الصّحّيّ لرائدة بسرعة، لكنّ شقيقتها فاطمة لم تسمح لها بالعودة إلى بيتها قبل أن يتمّ زفاف ابنها أسامة، فقد لا تحصل على تصريح من الاحتلال لدخول القدس، ممّا دفعهم إلى تحديد موعد الزّفاف في يوم 12 تموز – يوليو-، وجرت الاستعدادات لذلك اليوم. من خلال استئجار قاعة الهلال الأحمر المجاورة مرّة أخرى.
في ليلة الحنّاء التي تسبق ليلة الدّخلة سألت جمانة خطيبها ساخرة:
هل ستبقى خالتك رائدة في شقّتنا ليلة الدّخلة؟
بُهت أسامة من سؤالها، فردّ عليها سائلا:
ماذا تقصدين؟
أجابت ساخرة: أقصد أنّ خالتك –شافاها الله وعافاها- وبتعليمات من والدتك-أطال الله بقاءها- افتتحت شقّتنا وغرفة نومنا قبلنا، ويحقّ لها الآن أن تبقى فيها هي وزوجها! فالخالة كالوالدة برّها واجب، وإذا سمحتْ لنا والدتك سنقضي ليلة دخلتنا في الصّالون.
التفت إليها أسامة بانكسار كعصفور بلّله المطر في يوم عاصف وقال:
تجمّلي بالصّبر يا جمانة، فأنا وأنت ضيفان في هذا البيت، ولن نبقى فيه أكثر من أسبوع، فبيتنا الذي هو مملكتنا الصّغيرة في مدينة الرّياض في السّعوديّة حيث أعمل، وهناك لن يزورنا أحد، ولن يتدخّل في شؤوننا أحد، لأنّ أحدا هناك لا يعرفنا.
جمانة: كما تريد يا أسامة، ونسأل الله أن ييسّر أمورنا.
في اليوم المحدّد للزّفاف حصل ما لم يخطر على بال أحد، فقد شنّ الجيش الإسرائيليّ هجوما واسع النّطاق على لبنان، وباشر سلاح الجوّ الإسرائيليّ قصفه المكثّف للمنشآت الحيويّة في لبنان.
في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة كثّف جيش الإحتلال حواجزه العسكريّة التي تحول دون حرّيّة الحركة للفلسطينيّين، أحد هذه الحواجز كان عند مدخل حيّ الصّوّانة من الجهة الغربيّة، وثانيهما عند مفترق الطّرق المؤدّي إلى مستشفى المقاصد جنوبا، ومستشفى أوغستا فكتوريا شمالا، فأصبح حيّ الصّوّانة حيث يسكن العروسان، وحيث تقع قاعة الهلال الأحمر محاصرا.
لم تستطع فرقة الإنشاد الدّينيّ التي اتّفقوا معها لإحياء حفل ليلة الزّفاف من الوصول إلى القاعة، وكثير من المدعوّين -على قلّتهم- لم يستطيعوا الوصول أيضا. عدد قليل من ذوي العروسين وصلوا القاعة، لا يتجاوز عددهم العشرين شخصا، مرّت ليلة الزّفاف بقلق فرضته ظروف الحرب التي يتابع أخبارها الجميع، دوريّة من شرطة الاحتلال اقتحمت قاعة الهلال الأحمر، وطلبت من الحضور أن يعودوا إلى بيوتهم بعد أن فحصت بطاقة كلّ منهم.
كلّ من حضر إلى قاعة الهلال الأحمر كان متوتّرا باستثناء جمانة، فقد أصابها نوع من البلادة جعلها تنتحر بصمتها ولا مبالاتها، وأصبح كلّ تفكيرها منصبّا على الخلاص من هذا الزّفاف كيفما تيسّر، وكأنّ الأمر لا يعنيها.
*****
عندما دخل العروسان شقّتهما، أغلق أسامة باب الشّقّة من الدّاخل، جمانة تذوب في بحر من الحياء، أمسك بها أسامة وقال:
توضّئي لنصلّي ركعتي شكر لله، فهذا من السّنّة.
توضّأت كما أمرها، صلّى كلّ منهما ركعتين، طلب منها أن يجلسا في صالون البيت، وقال لها:
عليك من هذه اللحظة أن لا تعصي لي أمرا، فالزّوجة الصّالحة تنفّذ كلّ ما يطلبه زوجها منها.
ردّت عليه وهي تطأطئ رأسها: حاضر.
– يمنع عليك مجادلتي في أيّ شيء.
– ماذا تقصد؟
– أعني لو قلت لك على سبيل المثال: 5+5=15 ممنوع عليك أن تقولي هذا خطأ. هل تفهمين؟
– نعم أفهم.
– إذن عليك الآن ترديد 5+5=15 عشرة مرّات.
ردّدتها كما طلب منها، وفي المرّة العاشرة قالت دون قصد منها:
5+5=10.
ابتسم أسامة وقال لها لقد أخطأت في المرّة العاشرة، وعليك الآن أن تعيديها عشر مرّات أخرى.
أعادته كما طلب دون خطأ هذه المرّة.
أسامة: عليك طاعة أمّي وأبي دون اعتراض على أيّ شيء.
– حاضر.
عليك عدم حملِ الهاتف المحمول منذ الآن.
– حاضر.
– عليك عدم محادثة أو زيارة أيّ شخص بمن في ذلك أمّك وأبوك، أو زميلاتك دون إذن منّي.
– حاضر، وهل يشمل هذا الحظر أمّك وأباك؟
– طبعا لا: فأسرتي لا يشملها هذا الحظر؛ لأنّك الآن واحدة منّا.
– وهل زواجي يحرمني من أبي وأمّي؟
– إسمعي دون نقاش.
– حاضر.
-عليك عدم إفشاء أيّ كلام يحصل بيننا لأيّ شخص.
– حاضر.
– عليك وضع النّقاب منذ صباح غد.
– حاضر.
– عليك عدم الذّهاب للصّلاة في المساجد، “فمسجد المرأة بيتها.”
– حاضر.
كانت والدته تستمع وترى كلّ شيء، فقد تركت جزءا بسيطا من النّافذة مفتوحا، تغطّيه الستّارة، وتتلصّص عليهما من الخارج دون علمهما.
شعرت بالرّضا التّام على ابنها، وعندما داهمتها عطسة لم تستطع كتمانها، خطت بخفّة؛ لتختبئ خلف الحائط الحجريّ. سمعا العطسة فقالت جمانة:
هناك من يراقبنا ويستمع لنا خلف النّافذة، نهضت تستطلع من النّافذة، لكنها لم تشاهد شيئا. أحكمت إغلاق النّافذة وعادت تجلس.
بقي شيء واحد عليك؛ لتثبتي لي أنّك زوجة مطيعة صالحة وهو أن تقبّلي قدمي.
هل أقبّل قدمك أم حذاءك؟
قبّلي حذائي وقدمي فيه، بعدها سأخلع الحذاء وستقبّلين قدمي.
– حاضر.
– بعد تقبيل الحذاء والقدم، قال لها:
لنذهب الآن إلى غرفة النّوم. اخلعي ملابسك، لا تخلعيها بشكل كامل، وأطفئي الضّوء، لأنه لا يجوز لأحد الزّوجين أن يرى عورة قرينه، وتمدّدي على السّرير.
نفّذت ما طلبه منها وهي تكتم غيظها وأحزانها، وتلعن اليوم الذي وُلدت فيه أنثى، خلع أسامة ملابسه في العتمة، اقترب منها كثور هائج، لم يستطع فضّ بكارتها، لسرعته في القذف، حاول أكثر من مرّة، لكنّه فشل، بقيت هي ممدّدة تفتح فخذيها مستسلمة لقدرها، شعرت أنها مجرّد جسد فاطس لا حياة فيه، تكاد دموعها تخنقها، كرّر محاولاته معها، لكنّه فشل في الإلتحام بها.
بعد أن أعياه التّعب قال لها:
لا بأس، فجمالك الباذخ استفزّ عواطفي، وانتزع شهواتي بسرعة فائقة دون إرادة منّي، وهذا لشدّة شغفي بك، سأكرّر المحاولة غدا.
ردّت عليه بصوت منخفض:
كما تشاء.
لم يخرج من شقّته كما أوصته أمّه؛ ليطمئنها على فحولته، وعلى فتوحاته العظيمة! بقيت تنتظر عند باب الشّقة، عند منتصف الليل طرقت باب الشّقّة وهي تنادي:
افتح الباب يا أسامة. ماذا حصل معك؟
لم يستجب لنداءاتها، ولم يسمح لجمانة أن تردّ عليها، فنادت بصوت مرتفع:
افتح الباب يا أسامة إن كنت حيّا.
خاف من الفضيحة التي سيجلبها صوت أمّه، فاقترب من الباب دون أن يشعل الضّوء وقال لها:
توكّلي على الله يا أمّي، واتركينا حتّى الصّباح.
عادت تلحّ عليه، لكنّه لم يستجب لها، فعادت إلى مخدعها مغلوبة على أمرها، وهي تشتم جمانة وأمّها.
مضى الليل ولم يذق أسامة وأمّه وزوجته طعم النّوم، ولكلّ منهم أسبابه المختلفة. عند أذان الفجر استحمّ العريسان، صلّيا الفجر، فتح أسامة باب الشّقّة ونزل إلى الشّقّة في الطابق الأوّل حيث يسكن والداه، وجد أمّه تغلي قلقا، وقبل أن يطرح تحيّة الصّباح سألته:
طمئنّي؟ هل كلّ شيء على ما يرام؟ هل”طخّيت الضّبع”؟
طأطأ رأسه ولم يجب، فقالت غاضبة:
أكيد بنت الحرام تمنّعت عليك، فهذا لم يعد خافيّا عليّ منذ رفضك لفتح الباب. وذهبت مسرعة إلى شقّة العروسين، وهناك فتحت تحقيقا مع جمانة، التي بدورها شرحت لها ما جرى. لكنّ ذلك لم يقنع أمّ أسامة، والتي بدورها أوصت جمانة بعدم الكلام مع أمّها أو مع أيّ شخص آخر فيما جرى بينها وبين أسامة، ثمّ طلبت منها أن ترافقها إلى الشّقّة الثّانية في الطّابق الأوّل حيث يجلس أبو أسامة وأولاده، عندما دخلتا الشّقة أمرت أمّ أسامة أن تدخل جمانة أمامها، ومن خلفها أشارت للحضور وهي تضع إصبعا السّبابة على فمها المغلق، كي لا يتكلّم أحد منهم شيئا، لكنّ ابنها رأفت لم ينتبه لها فواصل حديثه قائلا:
لا أعرف ما الذي جرى لك يا أسامة، فوالله إنّني أتمنّى دائما لو أنّه لا يوجد رجال في بلادنا غيري، لأضاجع النّساء كافّة دون ملل أو تعب.
ردّت عليه أمّه:
أعرف أنّكم فحول، فقد خبرت ذلك بأبيكم من قبلكم.
ابتسم أبو أسامة لما قالته زوجته وقال ضاحكا:
جميل منك هذا الاعتراف، وأبنائي مثلي، فهذه أمور وراثيّة.
أمّا أسامة فقد زاود عليهما بقوله:
والله لو أنّ الله -سبحانه وتعالى- حلّل لي نساء الأرض جميعهنّ لما عجزت عن معاشرتهنّ.
فقالت له أمّه بشكل استفزازيّ:
إذن خذ زوجتك وأرِنا فعلك.
ذهلت جمانة ممّا تسمع، فطأطأت رأسها حياء والعرق يتصبّب من وجهها، لكنّها رأت نجاتها في الصّمت.
في هذه اللحظة وصلت أمّ جمانة، طرحت تحيّة الصّباح، وجلست وهي تقول:
أفراحكم مباركة، والعقبى للخلف الصالح.
لوت أمّ أسامة فمها وقالت:
البركة في بنتك.
التفتت أمّ جمانة لابنتها، فرأتها بائسة بطريقة لم تعهدها بها من قبل، طلبت منها أن تذهبا لشقّة العروسين، التفتت جمانة إلى حماتها وطلبت منها المفتاح، تردّدت للحظات قبل أن تقول لها:
هيّا بنا لأفتح لكما الباب.
دخلت معهما ولم تسمح لهما بالجلوس وحدهما، كانت تترصّد أيّ حركة أو نظرة وتفسّرها كما يحلو لها، قالت جمانة أنّها مرهقة وتريد أن ترتاح قليلا على سريرها، وفي نيّتها أن تلحق بها أمّها، لكنّ الأمّ استأذنت وخرجت عائدة إلى بيتها، وهي تضرب أخماسا في أسداس.
أغلقت أمّ أسامة باب الشّقة وعادت إلى الصّالون حيث يجلس زوجها وأبناؤها، التقت هي وابنتها أسمهان عند الباب، احتضنت أسمهان شقيقها أسامة، قبّلت وجنتيه وهي تبارك له، بينما قالت أمّها لأسامة:
عروسك ممدّدة على سريرها، الحق بها قبل أن تغفو وطمئنّا.
قام أسامة مكسوفا ذابلا ككلب جريح تطارده كلاب ضالّة. تمدّد بجانب عروسه لا يقوى على شيء، شرع يراقب سقف الغرفة ويتخيّل أشباحا تجوب المكان، بسمل وحوقل وقرأ المعوّذتين، وبضعة أدعية لتفريج الكرب، لكن ذلك لم يغيّر من بؤسه شيئا.
في الشّقة الثّانية كانت أمّ أسامة تهمس لابنتها أسمهان ولابنها رأفت:
أخشى ما أخشاه أن يكون هناك سحر لأسامة.
سمعها أبو أسامة فسألها ساخرا؟
سحر على ماذا يا فاطمة؟
أمّ أسامة: أخشى من بنت الحرام لطيفة، فهي وبناتها “مثل حيّة التّبن تقرص وبتتخبّا”.
أتركيك من هذا الكلام الفارغ، فمن غير المعقول أن يعمل إنسان سحرا لابنه أو ابنته، وجمانة بنت مهذّبة يا فاطمة.
فاطمة: أنا أدرى منك بكيد النّساء.
أسمهان حائرة: عمّ تتكلّمون؟ ماذا جرى لكم؟
أبو أسامة: أمّك طار عقلها ولا تعي ما تقول.
رأفت: اتركوا أسامة ليلة أخرى، فإن لم يستقم حاله سآخذه إلى طبيب، مع أنّني متأكد أن مشكلته ليست عضويّة، بل هي نتاج جهل وحالة نفسيّة.
أمّ أسامة غاضبة: ماذا تقول يا ولد؟ لا أريد أن أسمع منك هذا الكلام مرّة أخرى، أسامة أعقل منك ومن غيرك، المشكلة ليست عنده، بل عند الملعونة بنت الملعونة.
قال أبو أسامة بحدّة لزوجته:
أعوذ بالله منك يا فاطمة، فالشّيطان يتعوّذ منك ومن لسانك البذيء، “لا تعملي من الحبّة قبّة”، فلا توجد مشكلة تستحقّ كلّ هذا العناء، اتركي العروسين وحدهما، فهما أدرى بشؤونهما.
فاطمة: أسامة سيسافر بعد أسبوع، وإذا لم يستطع معاشرتها، فقد ترفض أن تسافر معه.
– قلت لك اتركيك من هذه التّرهات، وليتهما يسافران اليوم قبل غد، لأنّهما إذا ابتعدا عنك، ستكون أمورهما على ما يرام.
بعد العصر سألت جمانة:
هل أكلت شيئا هذا اليوم يا أسامة؟
لا …ولا شهيّة لي لطعام.
– لا يوجد في بيتنا طعام، وأنا جائعة.
سكت وسكتت، بعد قليل قال لها:
اذهبي لأمّي واطلبي منها طعاما.
من المفروض أن يكون في شقتنا طعام.
– سأشتري بعض الطّعام عندما أخرج.
– كيفما تشاء.
فكّر قليلا وقال على استحياء:
كيف تفسّرين ما جرى معي الليلة الماضية يا جمانة؟
– لا أعرف شيئا بهذه الأمور، وبالتّالي لا تفسير عندي يا أسامة.
– هل أنتِ على عجلة في هذا الموضوع.
– أبدا.
– لا أدري ما الذي جرى ويجري لي.
لا تستعجل الأمر، فالأمر عاديّ جدّا.
بعد العصر عادت والدة جمانة تحمل طعاما أعدّته بنفسها للعروسين، حاولت أن تصعد الدّرج إلى الطابق الثّاني حيث العروسين، لكنّ أمّ أسامة صاحت بها من نافذة الصالون:
توقّفي يا لطيفة؟ الدّنيا ليست فوضى، فالعروسان قد يكونان مشغولين، هاتي الطّعام واجلسي في الصّالون، سآخذه أنا لهما.
سلمّتها أمّ جمانة طنجرة الطعام دون نقاش، ودخلت الصّالون حيث يجلس أبو أسامة وابنته أسمهان، عندما طرقت أمّ أسامة باب شقّة العروسين، سأل أسامة:
من يطرق الباب؟
ردّت عليه بصوت قويّ:
أنا أمّك يا أسامة أتيتكم بطعام.
نهض أسامة من سريره، فتح الباب، استلم طنجرة الطعام وهو يقول:
سلمت يداك يا أمّي.
سألته ملهوفة: ماذا جرى معك؟ طمئنّي..”قمحه أم شعيره”؟
أغلق الباب خلفه ولم يجبها، فتمتمت لنفسها:
الولد لم يفلح يا حسرة قلبي، يا فضيحتك يا فاطمة!
لم تكن للعروسين شهيّة بالطعام، لكنّ جمانة عرفت الطنجرة فور رؤيتها لها، فشجّعت أسامةَ ليأكل وهي تسأله:
ما رأيك؟ هل هذا طعام شهيّ؟
أسامة: بالتّأكيد، فما تطبخه أمّي شهيّ دائما، لكن لا شهيّة لي للطّعام.
رغم المرارة التي تعيشها جمانة، لكنّها ابتسمت دون أن تتكلّم شيئا، فسألها:
لماذا تبتسمين؟
ردّت عليه بابتسامة أخرى وهي تقول:
هذا الطّعام أعدّته أمّي أنا.
-أمّي هي التي أحضرته، وبالتّأكيد هي من طبخته.
– أقول لك أنّ أمّي من طبخته، فإنّني أشمّ رائحة طيبتها فيه.
– هذا غير معقول.
– لِمَ؟
– لأنّ أمّي يستحيل أن تذهب لبيت أهلك لتحضر لنا طعاما.
– طبعا هذا مستحيل، لكن أمّي هي من أحضرت الطّعام، ويبدو أنّها مُنعت من الوصول إلينا.
سأل أسامة بصوت استنكاريّ:
من سيمنعها؟
– لا أعلم.
– لولا المراهنة حرام لراهنتك بأنّ كلامك غير صحيح، لكن دعينا نذهب الآن إليهم لنقف على الحقيقة.
– هيّا بنا.
– تفاجأ أسامة عندما رأى حماته تجلس مع والديه وشقيقته أسمهان، صافحها وجلس، بينما صافحت جمانة والدتها التي احتضنتها وقبّلت وجنتيها ثمّ سألتها:
– هل تناولتما طعامكما؟
ردّ أسامة: نعم والحمد لله.
أمّ جمانة: أعتذر عن التّأخير، فقد أعددت الطّعام لكما قبل ما يزيد على ثلاث ساعات، لكن جاءتنا نساء يباركن لنا بزفافكما، ومن غير اللائق أن أخرج من البيت قبل أن يغادرن.
سألها أسامة: لماذا لم توصليه لنا؟
فأجابت أمّه: أوصلته أنا لكما؛ كي لا أدخل عندكما؛ لأترككما وحيدين.
فرك أسامة يديه، وهو يطأطئ رأسه وقال:
لا حول ولا قوّة إلا بالله.
رغم المرارة التي تشعر بها جمانة، وما تعانيه من ضيق إلا أنّها تستجمع قواها، كي لا تبدو ضعيفة فتظهر أحزانها أمام الآخرين، إلا أنّها استبشرت خيرا عندما رأت أنّ أسامة قد عرف حقيقة من أعدّت الطعام، وأنّ أمّه قد حالت دون وصول أمّها إليهما، فلعلّه يصحو من حالة تغييبه لعقله أمام أمّه. هي لا تريده أن يكون عاقّا بوالديه، لكنّها لا تريده أن يبقى مخدوعا بتصرّفات أمّه، التي ستنعكس حتما على حياتهما المستقبليّة.
اتّخذ أسامة قرارا بالسّفر صباح اليوم التّالي؛ ليبتعد وجمانة عن أمّه دون أن يشعر أحد بأسبابه، وليغادر بيئة تحشر أنوفها حتّى في العلاقة الخاصّة بين الزّوجين فقال:
غدا صباحا سأسافر أنا وجمانة إلى عمّان في طريقنا إلى مكان عملي في السّعوديّة.
شعرت جمانة بالرّاحة لا حبّا في فراق الأهل والوطن، بل هربا من تدخّلات أمّ أسامة في خصوصيّاتها، بينما سأل أبو أسامة:
لِمَ العجلة يا بنيّ؟
فأجاب أسامة متذرّعا بكذبة بيضاء لا تضرّ ولا تنفع:
تأشيرة دخول جمانة إلى السّعوديّة تحتاج وقتا ومراجعات في السّفارة، ونريد أن نكسب الوقت قبل افتتاح المدارس.
استأذنت أمّ جمانة وغادرت وهي تقول:
سأعود أنا وزوجي وبناتي بعد صلاة المغرب؛ لنودّع أسامة وجمانة.
لكنّ أمّ أسامة لم تقتنع بأسباب أسامة في استعجال السّفر، واعتبرت ذلك تحريضا من جمانة كي تبعده عن أهله؛ أو أنّه يهرب بسبب القلق الذي حلّ عليه لعدم قدرته على معاشرة عروسه، واحتارت في الأسباب التي منعت جمانة ووالدتها من الاعتراض على قرار السّفر المفاجئ، لكنّها فسّرت ذلك بأنّ جمانة هي من أقنعته بذلك بترتيب مع والدتها من خلال مهاتفتها بهاتف أسامة الخلويّ. ومع ذلك فإنّها لن تعترض على سفره، كي يبتعد بجمانة عن والدتها.
في اليوم الثّالث لزفافهما غادر العروسان في طريقهما إلى عمّان.
*****
في عمّان ترك أسامة عروسه في الفندق وقال لها:
سأنهي بعض الأعمال الهامّة وسأعود إليك.
خرج من الفندق إلى عيادة طبيب مختصّ بالأمراض الجنسيّة -بناء على نصيحة أخيه رأفت له-، شرح له ما جرى معه في ليلة الزّفاف، وأكّد للطبيب بأنّه يعاني من فحولة زائدة تتمثّل بسرعة القذف، فسأله الطّبيب:
هل لك تجارب جنسيّة سابقة؟
– أستغفر الله العظيم، كيف تسأل هكذا أسئلة يا دكتور، فأنا أفنيت عمري في دراسة العلوم الشّرعيّة، وأعرف الحلال والحرام، ومعاذ الله أن أكون زانيّا.
– أنا طبيبك، ومن حقّي أن أسألك بعض الأسئلة؛ كي أستطيع تشخيص حالتك.
– تفضّل يا دكتور إسأل ما تريد.
– هل كنت تمارس العادة السّرّيّة؟
– حسبي الله ونعم الوكيل، نعم مارستها.
– متى مارستها آخر مرّة؟
– قبل زفافي بليلة واحدة.
فحصه الطّبيب وقال له:
لا مرض عضويّا عندك، لكنّك تعاني من مشكلتين هما:
جهلك في التّعامل مع المرأة وجسدها، وسرعة القذف، والثّانية تتعلّق بالجهاز العصبيّ، سأكتب لك مهدّئا للأعصاب يريح أعصابك ويؤخّرالقذف، وبعد الممارسة الأولى سينكسر الحاجز النّفسيّ الذي بنيته بنفسك بينك وبين العروس، وعندها لا تعود بك حاجة للدّواء، لكن عليك أن تتعامل مع شريكتك بلطف.
اشترى أسامة الدّواء، ابتلع منه حبّة واحدة، تناول وجبة طعام في مطعم شعبيّ، اشترى “ساندويش” لجمانة وعاد إلى الفندق، وخلال دقائق معدودة عاشر جمانة بيسر وسهولة، فشعر بنشوة أخرجته من الضّائقة والقلق النّفسيّ الذي عاناه. أعطى هاتفه المحمول لجمانة وطلب منها أن تتّصل بوالدته ووالدتها لتزفّ لهما أخبار انتصاراته عليها.
عندما أخبرت جمانة حماتها بالموضوع فتحت معها تحقيقا، وسألتها أسئلة محرجة، اكتفت جمانة بالإجابة عليها بقولها: نعم صحيح.
لكنّ حماتها لم تكتف بهذه الإجابات المختصرة، ورفعت صوتها على جمانة مطالبة بمعرفة التّفاصيل، وهذا ما دفع جمانة أن تعطي الهاتف لأسامة وهي تقول:
تكلّم مع أمّك.
وعادت فاطمة تسأل ابنها عن التّفاصيل، فأجابها غاضبا:
كل شيء تمام، وأغلق الهاتف وهو يقول:
مع السّلامة.
طلب من جمانة أن تتّصل بأمّها، فردّت عليه:
أمّي لا تعرف شيئا عنّا. ولا داعي لمحادثتها.
*****
عاد أسامة يؤكّد تعليماته السّابقة لجمانة، وفي مقدّمتها ضرورة وضع النّقاب، ومن هنا فصاعدا لن يرى هذا الوجه الجميل غيري وغير المحرّمين.
عند خروجهما من غرفة الفندق إلى المطار في طريقهما إلى العاصمة السّعودية الرّياض، نسيت جمانة أن تضع نقابها، فالتفت إليها موبّخا، أمسك بذراعها بشدّة وأعادها إلى الغرفة؛ لتضع نقابها، وهو يقول:
هذه هي المرّة الأخيرة التي أحذّرك من تكرارها بعدم وضع النّقاب.
كتمت جمانة غيظها وحزنها وقالت:
نسيت أن أضعه لأنّني لم أعتد عليه.
ردّ عليها غاضبا:
بل لأنّ والديك لم يحسنا تربيتك.
التفتت إليه حانقة وقالت:
أرجوك يا أسامة لا تشتم والديّ، فهما لم يسيئا لك، ولا لغيرك.
فكّرتْ بأن تحتمي بالأمن الأردنيّ؛ لتعود إلى أهلها، لكنّها طردت الفكرة من رأسها سريعا مخافة “القيل والقال”، لكنّها دعت الله في سرّها لتتحطّم الطائرة التي ستقلّهما؛ لترتاح من أسامة؛ ولتريح الآخرين منه.
عندما حطّت الطّائرة في مطار الرّياض، اصطحبت نساء أمن المطار النّساء المنقّبات إلى غرفة خاصّة، ترفع فيها كلّ واحدة منهنّ نقابها؛ لتتأكّد الشّرطيّة من مطابقة صورة جواز السّفر مع وجه حاملته. عندما رفعت جمانة نقابها، بهتت النّساء الموجودات من شدّة جمالها وقالت الشّرطيّة:
تبارك الخالق.
وسألت: هل أنت متزوّجة يا جمانة؟
– نعم وزوجي ينتظرني في الخارج.
الشّرطيّة: زوجك محظوظ بك.
ابتسمت جمانة للشّرطيّة وشكرتها على هذا الإطراء، لكنّها تمنّت في سرّها أن يحترم أسامة إنسانيّتها وأن يصون جمالها.
في المطار وجد أسامة زميله عدنان في انتظاره بسيّارته، أقلّهما بسيّارته إلى البيت الذي استأجره أسامة في جنوب الرّياض، عدنان يسترق نظرات لجمانة من خلال المرآة، لكنّه لم يرَ منها سوى عينيها شبه المغلقتين برموشهما الطّويلة.
قال عدنان لأسامة:
ألم تجد يا أسامة مكانا تستأجر فيه بيتا غير هذا المكان؟
أسامة: ما عيب هذا المكان حتّى تسأل بهذه الطريقة؟
– يا رجل هذا الحيّ حيّ فقير، غالبيّة سكّانه من جنسيّات مختلفة دخلوا السّعوديّة بطرق غير مشروعة للبحث عن عمل.
أسامة: لا شأن لنا بهم. والبيت الذي استأجرناه قريب على مدرستنا.
عدنان: سأتزوّج في العام القادم، وبعد زواجي لو أعطوني بيتا في تلك الحارة ملكا لي ما أسكنت زوجتي فيه.
جمانة تستمع لكلام عدنان باهتمام بالغ، عندما ينظر إليها عدنان بمرآة السّيّارة تغضّ النّظر، فحسبها نائمة من التّعب.
أسامة: البيت الذي استأجرناه أجرته رخيصة. وعندما جئنا للعمل في السّعوديّة، هدفنا كان ولا يزال وسيبقى هو أن نجمع مبلغا من المال، نستر أنفسنا به في بلادنا عندما نعود إليها.
عدنان ساخرا: هل سنستر أنفسنا في بلادنا، ونفضح حالنا في السّعوديّة؟ ثمّ التفت إلى جمانة وسأل:
أليس كذلك يا أختي.
تجاهلت جمانة السّؤال ولم تتفوّه بكلمة واحدة، وهذا أعجب أسامة الذي ردّ:
ماذا جرى لك يا عدنان؟ هل جننت؟
لم يكن عدنان بتلك السّذاجة التي اعتقدها أسامة، فحديثه مقصود، يريد منه إيصال رسالة لجمانة بأنّها ستسكن في حيّ يصعب العيش فيه لواحدة مثلها. ولم يخب ظنّه، فقد خزّنت جمانة كلّ كلمة سمعتها في ذاكرتها، وهي ترتجف غضبا وحيرة، لكنّها التزمت الصّمت.
عندما دخلوا الحيّ، رأوا رجالا مناظرهم توحي بأنّهم من الشّعوب الآسيويّة الفقيرة ومن إفريقيا، بعضهم يمشي في الحيّ مترنّحا بائسا، وبعض النّساء يجلسن على أرصفة الشّوارع متكوّمات لا يظهر منهنّ إلا كفوف الأيدي، وعيونهنّ تبرق كعيون الأفاعي التي تراقب فرائسها، يبعن بعض الأشياء التي لم تتبيّن جمانة ماهيّتها. الأطفال يتراكضون في الطّرقات أشباه عراة، تراكضوا حول السّيارة كأنّهم لم يروا في حياتهم سيّارات، أو هم غير معتادين على رؤية السّيّارات في حيّهم، القمامة متناثرة في الطّرقات، والرّوائح الكريهة تزكم الأنوف، وصلوا بيتا صغيرا متآكلا، يحيط به سور ارتفاعه حوالي مترين ونصف المتر.
نزل أسامة وفتح بوّابة السّور، حمل حقيبتي السّفر خاصّتهما وهو يقول لجمانة: هيّا بنا.
ثمّ التفت إلى عدنان وقال له:
انتظر حتّى أعود إليك؛ لنشتري بعض الحاجيّات للبيت. فتح باب البيت، أدخل الحقيبتين، وقال لجمانة:
استريحي حتّى أعود إليك، أنا ذاهب لشراء بعض حاجاتنا، أغلق الباب خلفه بالمفتاح وخرج.
في صالة البيت رأت جمانة “كنبات” مستعملة، دهان الجدران الدّاخليّة متآكل، المطبخ قديم لا خزائن فيه، هناك غاز وثلاجة قديمان مستعملان، في إحدى زواياه طنجرتان ومقلى، وفي زاوية أخرى فيها ركوة قهوة وستّة فناجين، مع ابريق شاي وست كاسات، وإبريق ماء زجاجيّ بجانبه كوبان، رائحة العفونة تملأ المكان، والغبار ظاهر للعيان، في غرفة النّوم سريران معدنيّان صدئان متجاوران، عليهما فرشتان وحرامان.
لم تحتمل جمانة منظر ما رأت، فتحت بعض النّوافذ لتهوية البيت، كما شغّلت الهوّايات المعلّقة في سقف الغرف، ألقت نفسها كجثّة لا حراك فيها على كنبة، بكت دون أن تتعمّد البكاء. غفت قليلا واستيقظت بسبب أحلام مزعجة، بحثت عن مكنسة؛ لتكنيس البيت من الغبار المتراكم؛ لكنّها لم تجد، نظرت من نافذة الصّالون، فرأت نساء سمينات مترهّلات ينظرن باتّجاه بيتها، أغلقت النّافذة، وعادت مكانها تبكي قدرها الذي قادها إلى هكذا مكان، بكت وهي تتصبّب عرقا من شدّة الحرارة.
جمانة تعبة إلى درجة الإرهاق، لم تستطع أن تغفو لشدّة خوفها. انتظرت حوالي ساعتين، حتّى عاد أسامة وصديقه عدنان، دخلت إلى غرفة النّوم لتبتعد عن طريقهما، عندما وصل أسامة باب البيت، طرقه بقوّة وهو يقول:
يا ساتر؛ ليلفت انتباه جمانة أنّ هناك غريبا.
ساعده عدنان بحمل بعض الأغراض، عندما دخلا البيت سأل أسامة:
أين المطبخ لأضع الأغراض فيه؟
فردّ عليه أسامة:
ضعها عندك واجلس، أنا سأدخلها.
همس أسامة لجمانة كي تحضّر كأسي شاي بسرعة، ففعلت دون أن تتكلّم.
طلبت جمانة من أسامة أن يحضر أدوات الكنس والمسح وهي تقول:
كي أنظّف هذه الزريبة.
أسامة غاضبا: ماذا قلت؟
– تنظيف هذه الزّريبة.
– يا جمانة عليك أن تدركي أنّ عملنا هنا مؤقّت، سنجمع ما يتيسّر لنا من مال لنعود إلى بلادنا ونفتح مصلحة تجاريّة نعتاش منها، فأنت تعلمين أنّ الإحتلال قد أهلك البشر والشّجر والحجر، ودمّر الاقتصاد.
– المال ليس كلّ شيء يا أسامة، ماذا سينفعنا المال إذا فقدنا صحّتنا في هذا البيت البائس؟
– حبيبتي ” حسن التّدبير نصف العيش” وأريدك أن تكوني زوجة مدبّرة، فأنت صاحبة عقل راجح كما عرفتك. وأريدك أن تسمعي وأن تعي ما سأقوله لك.
– حاضر، قل ما تشاء.
– كي نعيش مستورين مرتاحين، عليك ألا تقفي بجانب أيّ نافذة إذا كانت مفتوحة.
– لِمَ هل هناك من يراقبنا؟
– لم أقصد ذلك، وإنّما قصدت أن لا يراك أحد، فسكّان هذا الحيّ من الوافدين غير الشّرعيّين، ولا نعرف عنهم شيئا، ومن حقّنا أن لا يعرفوا عنّا شيئا أيضا.
– وماذا أيضا؟
– إيّاك أن تفتحي باب سور البيت لأيّ إنسان؟
– وهل هناك من يطرقون باب السّور؟
– لا…لكنّي أضع احتمالات قد لا تحصل من باب الاحتياط في الحفاظ عليك.
بدأ الخوف يسري في شرايين جمانة، بُحّ صوتها وأخذت ترتعد خوفا. فقال أسامة:
– لا أريدك أن تخافي لكنّ الحذر مطلوب، وأكثر ما تحذرين من نساء قد يأتين للتّعرّف عليك؟
– كيف سيتعرّفن عليّ وأنا بين أربعة حيطان؟
– قد ترى إحداهن جمالك فتصيبها دهشة تدفعها للاختلاط بك.
– وكيف سترى جمالي وأنا منقّبة؟ لكن كيف سأقضي يومي وحيدة كسجينة في زنزانة انفراديّة أثناء غيابك؟
– ما هذا السّؤال الأحمق يا جمانة؟ كيف تشبّهين نفسك بالسّجينات؟ أنت ملكة هذا البيت، والمرأة التي تصون نفسها هي المرأة الحرّة الشّريفة.
ردّت عليه ساخرة:
كيف سيكون هذا البيت الآيل للسّقوط مملكة لي؟ ولماذا لا تستأجر لنا بيتا نظيفا في مكان نظيف آمن، ولماذا لا تشتري لنا تلفازا ومذياعا كي نكون على دراية بما يجري في العالم، ولنطمئنّ على أهلنا الذين يتعرّضون لجرائم الاحتلال؟
– قلت لك أنّ هذه الأجهزة مفسدة تبعد النّاس عن دينهم، وتجرّدهم من أخلاقهم.
– هل يمكنني الحصول على كتب لمطالعتها في أوقات فراغي؟
– الآن بدأت تفكّرين بطريقة سليمة، نعم سأحضر لك كتبا تطالعينها.
– إذن خذني معك لمكتبة؛ كي نشتري بعض الكتب.
– لا بأس في ذلك، لكن دعينا الآن نهاتف أهلي وأهلك؛ لنطمئنهم على وصولنا سالمين، وإيّاك أن تتلفّظي بأيّ كلمة تقلقهم.
اتّصل بداية ببيت أهله على برنامج”سكايب” حيث يكون صوت وصورة، ردّ عليه أبوه، بعد تبادل التّحيّات سأله أبوه:
كيف جمانة يا أسامة؟
– الحمد لله، إنّها بخير وتهديك السّلام.
– لست بحاجة لأوصيك بها خيرا، “فالنّساء وديعة الأجاويد.”
– توكّل على الله يا أبي.
– وهنا أمسكت والدته الهاتف وسألت:
– كيفك حبيبي؟ طمئنّي عنك، كيف بنت لطيفة معك؟
– الحمد لله ماما نحن بخير، ولا نريد إلا رضاكم وسلامتكم.
– الحمد لله، سلّط كاميرا الهاتف على غرف البيت، لأرى ما اشتريتموه من أثاث؟
– حاضر يا أمّي…وقام يدور في البيت بدءا من الصّالون وقال:
– هذا الصّالون، هل ترينه؟ ثمّ انتقل إلى غرفة النّوم، ثمّ المطبخ فالحمّام.
– ضحكت أمّه وقالت:
– من أين أتيت بهذا الأثاث يا أسامة؟ هل يوجد عندكم سوق للخردوات؟ وهل أعجب بنت لطيفة؟
– لا يا أمّي هذا أثاث مستعمل، اشتريته من زميل غادر البلاد بعد أن ترك عمله. “وللي ما بغني بستر” يا ماما، وكما تعلمين فإقامتنا ليست دائمة في هذه البلاد، فلماذا نضيّع فلوسنا على أشياء تافهة؟
– والله إنّك سبع يا ماما.
انفرطت جمانة ضاحكة عندما سمعت حديث حماتها، لكنّها انتبهت عندما سمعتها تسأله:
أين بنت لطيفة عنك؟
– هي قريبة منّي هل تريدين الحديث معها؟
– لا، لم أشتق لها بعد، لكن ابتعد عنها قليلا لأتحدث معك.
ابتعد عن جمانة وقال:
نعم…ماما أنا وحدي.
لم يعلم أنّ جمانة تبعته حافية القدمين دون أن يراها، فقالت له أمّه:
إيّاك أن تؤمّن لبنت لطيفة، والمثل يقول:”يا مؤمّن للنّسوان يا مؤمّن للميّة في الغربال”، حافظ على صحّتك، نوعيّة جمانة لا يشبعن ولا يقنعن.
انسحبت جمانة بعيدا وهي تبتسم على سخافة حماتها، قالت لنفسها:
“رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا” والله صدق من قال:” القرد في عين أمّه غزال.”
أنهى أسامة مكالمته مع والدته، عاد إلى جمانة غاضبا دون كلام، سألته:
خيرا يا أسامة، هل أخبرتك الوالدة شيئا خطيرا؟
ردّ عليها بهدوء: لا…كلّ شيء على ما يرام، الآن سأطلب لك والدتك لتتكلّمي معها، طلب لها رقم الهاتف، وأعطاها هاتفه المحمول:
عندما رأت لطيفة ابنتها جمانة ضحكت وقالت:
أهلا بالغالية، طمئنيني عنك يا ابنتي، من يوم سفرك وأنا قلقة عليك، ووالدك يستيقظ صباحا مذعورا يقول:
أرى في منامي أنّ جمانة في ضائقة.
نزلت دموع جمانة وهي تقول:
ماما لا تخافوا عليّ، أنا بخير، وأسامة رجل طيّب أكثر ممّا تتصوّرون.
الأمّ: الحمد لله، وربنا يوفقكم ويحفظكم. لكن لماذا تبكين يا بنيّتي؟
مسحت جمانة دموعها وقالت:
أنا لا أبكي يا أمّي هذه دموع الفرح برؤيتكم والشّوق لكم.
اقتربت تغريد من والدتها، أمسكت الهاتف من يدها وسألت ضاحكة:
يا إلهي كم هو حجم الفراغ الذي تركتِه في بيتنا يا جمانة، طمئنيني عنك.
جمانة: أنا بخير وأتمنّى لكم الخير.
تغريد: هل ستعملين مدرّسة في السّعوديّة؟
جمانة: لا…فأسامة لم يقبل.
– لِمَ لمْ يقبل فعملك في التّدريس يكون في مدرسة بنات.
– لا حاجة لنا بالعمل، فدخْل أسامة جيّد والحمد لله.
– وإذا أصبح عندكما دخلان فما المانع؟
– اتركينا من هذا الكلام، كيف دراستك؟
– الحمد لله.
– أين الوالد يا تغريد؟
ارتبكت تغريد هنيهة وقالت:
– نائم.
– ليس من عادته أن ينام في مثل هذا الوقت، هل هو مريض؟ قولي الصّدق يا تغريد؟
– قلت لك الوالد بصحّة جيدة، لكنّه عندما يذكر اسمك تنهمر دموعه، الوالد أكثر شخص يفتقدك يا جمانة، ولا يقدر على الحديث معك، لأنه لا يستطيع التّحكم بعواطفه الجيّاشة.
نزلت دموع جمانة وهي تقول:
بابا يا حبيبي، لا تخف عليّ، أنا بألف خير. أعطيني إيّاه يا تغريد.
اقتربت تغريد من والدها، مدّت إليه الهاتف وهي تقول:
جمانة تريد أن تتحدّث معك. أمسك الهاتف، رأى جمانة على شاشته، عندما رأته جمانة قالت بلهفة:
حبيبي بابا، كيفك؟
ردّ عليها باكيا وبصوت متهدّج:
أ…أنا بـ..خي….ير.
-لا تقلق عليّ بابا حبيبي، أنا بألف خير وبمنتهى السّعادة.
أمسكت أمّ جمانة الهاتف من زوجها وقالت لجمانة.
لا تقلقي يا جمانة، فأنت مميّزة عند أبيك، لأنّك بِكرُنا، والابن البكر غال يا بنيّتي.
شعر أسامة بالرّضا من حديث جمانة مع والديها وشقيقتها، قارن بينهم وبين والدته، فحزن على نفسه.
*****
على غير العادة لم تحرّك عائلة العدنان ساكنا عندما لاكت الألسن اسم صابرين بنت الحاج عزّالدّين، فقد شاهدها كثيرون وهي برفقة المهندس يونس الذّهبي، فمع أنّها تربّت في بيئة محافظة، وارتدت الزّيّ الشّرعيّ عند بلوغها الثّامنة من عمرها، إلا أنّها خلعته وهي تدرس اللغة الإنجليزيّة في سنتها الثّالثة في جامعة بير زيت، وصارت ترتدي آخر موديلات الملابس النّسائيّة التي تنتجها دور الأزياء الأوروبّيّة، في تلك السّنة تعرّفت على المهندس يونس الذّهبي، ابن رجل الأعمال المعروف سفيان الذّهبي، الذي درس الهندسة المدنيّة في بيرزيت، وتخرّج منها عندما أنهت سنتها الجامعيّة الثّانية، ومع ذلك كان يتردّد كثيرا على الجامعة، يُقلّها معه في سيّارته، اصطحبها معه لأماكن متعدّدة منها مكتبه الفاخر في رام الله، ومرّات إلى بيته الذي يشبه القصور الذي بناه له أبوه خصّيصا له في بيت حنينا الواقعة بين القدس ورام الله، شاهدها كثيرون معه على شاطئ البحر في يافا وهما في لباس البحر، عندما وصلت أخبارها مع المهندس لوالدتها، أمسكت بها الأمّ على انفراد وسألتها:
كثر اللغط عليك يا صابرين مع أحد الشّباب منذ أن خلعتِ زيّك الشّرعيّ.
ردّت صابرين ببرودة أعصاب:
ليتقوّل النّاس كما يريدون، فأنا أعرف مصلحتي.
الأمّ: لم أفهم عليك شيئا.
صابرين: يا ماما أنا على علاقة حبّ بمهندس ثريّ جدّا يكبرني بثلاثة أعوام، وهو يونس ابن رجل الأعمال المعروف سفيان الذّهبي، وهو شابّ فيه كلّ المواصفات الحسنة التي تتمنّاها كلّ فتاة بفارس أحلامها.
تفاجأت الأمّ بما سمعت من ابنتها فهمست لها خائفة:
أخشى يا بنيّتي أن يخدعك هذا الشّاب، فيتّخذك لعبة له دون أن يتزوّجك.
قالت صابرين بلهجة واثقة:
إنّه يموت شغفا بي يا أمّي.
– كلّ الشّباب هكذا يا بنيّتي، يخدعون الفتيات ويوهموهنّ بأنّهم يموتون في حبّهنّ، وبعد أن يوقعوهنّ في شباكهم يتخلّون عنهنّ.
ابتسمت صابرين وقالت:
يونس يختلف عن بقيّة الشّباب، فهو متميّز بكلّ شيء.
– لا تنخدعي به يا بنيّتي، فكلّ الشّباب هكذا، ولو علم أبوك وأشقّاؤك بعلاقتك معه، ستكون كارثة عليك وعليّ أيضا.
صمتت صابرين هنيهة وقالت:
– عندما يأتي يونس لطلب يدي سيفرح أبي وإخوتي بذلك.
– من سيضمن أنّه سيأتي لطلب يدك؟
– أعلم أنّه سيأتي قريبا جدّا.
سألت الأمّ بلهجة قويّة:
لماذا لا يأتي اليوم قبل غد؟
– لأنّه مشغول بمناقصة حول مشروع إسكان كبير فيه ملايين الدّولارات. قبل نهاية الشّهر سيفرغ منه وسيأتي لطلب يدي.
تنهّدت الأمّ وسألت:
من سيضمن لك ذلك؟
– والدته قالت لي ذلك.
– هل تعرفين أمّه؟
– نعم عرّفني على والديه وأشقّائه وشقيقاته، هؤلاء متحرّرون يا أمّي، ليسوا منغلقين مثلنا، أمّه قالت بأنّني مناسبة له، وهي من طلبت منّي التّخلّي عن الزّيّ الشّرعيّ.
احتارت الأمّ بما تسمع، وسألت:
إلى أيّ مدى وصلت علاقتك به؟
– إلى أبعد ممّا تظنّين.
– لم أفهم عليك شيئا، أفصحي عن مدى علاقتك به.
ردّت صابرين بدلع:
ماما حبيبتي، أنا ويونس زوجان دون عقد زواج.
غضبت الأمّ ولطمت وجهها بكفّيها وهي تقول:
يا خيبتي، هذا غير معقول، فما ربّيتك هكذا، اسمعي يا غضيبة، بعد اليوم لن أسمح لك بالخروج من البيت قبل أن يخطبك هذا السّافل. فهذا زمن لا أمان فيه، والشّباب دائما يردّدون: ” من تسلّم نفسها لي تسلّم نفسها لغيري” وبالتّالي فإنّها لا تصلح أن تكون زوجة.
صابرين: أسامة ليس من هذه النّوعية يا أمّي.
– من قال لك هذا يا غبيّة؟
– أنا أقول ذلك؛ لأنّني أعرف يونس جيّدا.
توقّفتا عن مواصلة الحديث عندما وصلت أمّ أسامة زوجة عمّ صابرين، وما أن رأت صابرين حتّى قالت:
بسم الله ما شاء الله، والله لولا خوفي من أن يقول النّاس:” بعد ما شاب ودّوه للكتّاب”، لخلعت الزّيّ الشّرعيّ واستبدلته بزيّ عصريّ مثلك يا صابرين.
ردّت عليها أمّ صابرين:
وحّدي الله يا أمّ أسامة، فقبل أن تأتي كنت أحثّ صابرين على العودة للزّيّ الشّرعيّ؛ لأنّ الله طلب السّتر.
أمّ أسامة مستنكرة: هل السّتر بالملابس؟
صابرين: من قال بأنّ من لا يرتدين الزّيّ الشّرعيّ غير مستورات؟
ابتسمت أمّ أسامة وقالت ساخرة: اسألي أمّك!
قالت أمّ صابرين بلهجة حادّة:
أستغرب ما تقولينه يا أمّ أسامة، فالزّيّ الشّرعيّ فريضة دينيّة على النّساء، وإذا كنت تؤمنين بما تقولين، فلماذا سكتِّ على ابنك أسامة الذي لم يكتف بالحجاب، وفرض النّقاب على زوجته جمانة؟
أمّ أسامة: أنا لا دخل لي بذلك، وإذا ما اتّفق أسامة وزوجته على شيء، فما ذنبي أنا؟ وعندما تتزوّج ابنتك صابرين، فما الذي تستطيعين فعله إذا فرض زوجها عليها الزّيّ الشّرعيّ الذي تخلّت عنه.
أمّ صابرين: ما لنا ولهذا الكلام؟ “فكلّ شاة بعرقوبها معلّقة”!
غلت صابرين فنجاني قهوة لوالدتها ولأمّ أسامة، قدّمتهما لهما، واستأذنت بالخروج لجامعتها، بينما هي حقيقة كانت على موعد مع يونس، الذي كان ينتظرها قريبا عند مستشفى الهلال الأحمر للولادة. جلست بجانبه فقال لها:
سنقضي يومنا في يافا.
ردّت عليه قائلة: لا وقت لديّ اليوم، فقد أصبحت سيرتنا على ألسن النّاس، وإذا لم تسرع بطلب يدي وخطبتنا وزواجنا بأقصى سرعة، سنتورّط بفضيحة لن تكون عواقبها في صالح أحد، بل قد نخسر حياتنا جرّاء ذلك.
تفاجأ يونس بما سمعه من صابرين وسألها:
ماذا جرى؟ لِمَ هذه العجَلة؟
صابرين باكية: أخشى أن أكون حاملا.
ذهل يونس ممّا سمع وسأل:
كيف تشكّين بأنّك حامل؟ ألم تأخذي احتياطاتك للحيلولة دون الحمل؟
– لا أعرف، لكنّ الدّورة الشّهريّة تأخّرت عن موعدها أكثر من أسبوعين، وصرت أشعر بالغثيان، وهذا دليل على مرحلة الوحام.
– قاد يونس سيّارته إلى “الفيللا” خاصّته في بيت حنينا، وهناك قال لصابرين:
لقد أوقعتِني بورطة يا صابرين، ما رأيك بأن أصطحبك إلى طبيب مختصّ، وإذا تبيّن أنّك حامل، تعملين إجهاضا؟
غضبت صابرين وصاحت بوجهه:
ماذا جرى لك يا يونس؟ هل جننت؟ كيف سنقتل ابننا؟
– هدّئي من روعك، فللضّرورة أحكام.
– عن أيّ ضرورة تتكلّم يا رجل؟ ما هذا الجنون.
فكّر يونس قليلا، ضمّها إلى صدره، قبّلها وهو يقول:
حبيبتي صابرين سأهاتف أبي الآن؛ فإن لم يكن مرتبطا بموعد مسبق سنأتي مساء لبيتكم لنطلب يدك.
هاتف يونس أباه، واتّفقا أن يذهبوا لطلب يد صابرين مساء. فرحت صابرين بما سمعت، وقفزت وهي تقول:
سأذهب الآن لأخبر والدتي، وهي بدورها ستخبر والدي والعائلة.
أوصلها يونس حتّى باب بيت أهلها. عندما نزلت من السّيّارة رآها شقيقها رائد فسألها:
من هذا الشّابّ الذي أوصلك؟
ردّت عليه بجرأة:
هذا شقيق زميلتي في الجامعة، كانت شقيقته معنا، لكنّها نزلت في باب العمود.
– سيّارته فاخرة يبدو أنّه ثريّ.
– أعتقد ذلك فمظاهر الثّراء تبدو على شقيقته.
– ما اسمه؟
– لا أعرف اسمه الشّخصيّ، لكن اسم عائلتهم هو الذّهبيّ.
عندما أخبرت صابرين والدتها بأنّ عشيقها سيأتي مساء وأسرته لطلب يدها، ابتسمت الأمّ وهي تمسك بإبهامها وسبّابتها خدّ صابرين بنعومة وقالت:
الآن بردت نار قلبي. وسأخبر والدك وهو بدوره سيخبر من يريد من العائلة، ليكونوا في استقبال الجاهة.
صابرين ضاحكة وتكاد تطير فرحا:
ماما حبيبتي الله لا يحرمني منك.
عندما علم الحاجّ عزّالدّين أنّه سيأتي من يطلب يد ابنته صابرين، سأل:
من هم؟ ومن أين؟
تظاهرت أمّ صابرين بالبراءة وقالت:
هاتفتني امرأة وقالت بأنّهم يسكنون في بيت حنينا، وقالت إنّ اسم عائلتهم هو الذّهبيّ.
صمت الحاجّ عزّالدّين قليلا وقال:
عائلة الذّهبيّ أصلهم من يافا، وواحد منهم رجل أعمال ثريّ، غاب اسمه عن ذاكرتي.
أمّ صابرين: لا أعرف عنهم شيئا.
– الحاجّ عزّالدّين: أين صابرين؟
سمعته صابرين فردّت:
نعم يا أبي.
– تعالي هنا.
جلست أمامه فسألها:
هل تعرفين اسم ابن عائلة الذّهبيّ الذي سيأتي لطلب يدك؟
تظاهرت صابرين بالبراءة وقالت على استحياء:
لي زميلة في الجامعة اسمها نسرين سفيان الذّهبيّ، وأعتقد أنّه أخوها.
– آه…سفيان الذّهبيّ، تذكّرت اسمه، إنّه ثريّ جدّا.
بعد صلاة المغرب بدقائق، وقفت أمام بيت الحاج عزّالدّين سيّارتان فاخرتان، نزل من إحداهما رجل ستّينيّ ذو مهابة، وامرأة ترتدي ملابس فاخرة، وشابّ وشابّة، في حين ترجّل من الثّانية المهندس يونس، وأحد الوجهاء بلباسه التّقليدي، يعتمر الكّوفيّة ويلفّ جسده بعباءة.
طلب الحاجّ عزّالدّين من زوجته أن تقف بجانبه لاستقبال الضّيوف ما دامت معهم نساء. كما اصطفّ بجانبهم أخوه أبو أسامة، وابنه رائد.
عندما رأى رائد السّيّارة الثّانية، ورأى يونس يخرج منها، تذكّر أنّه الشّابّ نفسه الذي أوصل صابرين في السّيّارة نفسها ظهر ذلك اليوم، لكنّه احتفظ بتلك المعلومة لنفسه.
بعد أن تعارفوا، سأل أبو يونس:
أين صابرين؟ لماذا لا تجلس معنا؟
ردّ عليه الحاجّ عزّالدّين مستغربا:
ماذا تريد منها؟ وهل تعرفها؟
أبو يونس: طبعا أعرفها، ونحن في بيتكم لنطلب يدها لابني يونس.
استغرب الحاجّ عزّالدّين وشقيقه أبو أسامة ما سمعاه، لكنّ الوجيه أبو محمود
تدخّل سريعا وقال وابتسامة تعلو وجهه:
يا إخوان لا تستغربوا ما قاله أبو يونس، فبالتّأكيد هو يعرف اسم صابرين، واسم أبيها، ومن غير المعقول أن يأتوا لطلب يد فتاة لا يعرفون اسمها واسم أبيها واسم عائلتها أيضا. وعلى كلّ نحن في بيتكم ونتشرّف بطلب يد ابنتكم صاحبة الصّون والعفاف صابرين، للمهندس يونس ابن رجل الأعمال المعروف سفيان الذّهبي.
صمت الحاجّ عزّ الدّين قليلا، وقال:
أهلا بكم، ونتشرّف بمصاهرتكم، وسنردّ على طلبكم بعد أن نسمع رأي البنت.
استغرب يونس ووالداه وشقيقته ما سمعاه، لكنّ الوجيه أبا محمود تدخّل ثانية وقال:
يا حاجّ عزّ الدّين، القضيّة لا تحتاج لمشاورات، و”خير البرّ عاجله”، فابنتكم زميلة لنسرين شقيقة يونس، ووالد العريس علم من أعلام البلاد، وهم يعرفون بعضهم، وبإمكانك أن تأخذ رأي ابنتك الآن.
وهنا تدخّلت أمّ صابرين وقالت:
صابرين موافقة يا إخوان، لكنّ الرّأي لأبيها ولشقيقها.
التفت أبو صابرين لزوجته حانقا وسأل:
كيف عرفتِ أنّ صابرين موافقة؟
– بعد أن هاتفتني أمّ يونس بدت علامات الفرح على وجه صابرين، وهذا دلالة على موافقتها.
وهنا تدخّل أبو أسامة وقال:
أهلا بكم، ومباركة عليكم صابرين، ولنقرأ الفاتحة على هذه النّيّة.
وهنا خرجت أمّ صابرين وعادت بصحبة ابنتها التي صافحت الحضور وجلست بجانب يونس.
قال الوجيه: مبارك لكم جميعكم، ودعونا الآن نتّفق على طلبات العروس وأهلها.
والد العروس: كلّ ما نطلبه هو السّتر، ولا طلبات مادّية لنا.
قال العريس مفاخرا:
غدا سأصطحب صابرين معي إلى رام الله، بعد إذن والدها، وسأدعها تختار ما تريد من مصاغ، وسأقدّم لها سيّارة كهديّة لزواجنا، وآمل أن يتمّ هذا الزّواج خلال أسبوع؛ كي نقضي شهر العسل في بعض الدّول الأوروبّيّة.
طلب أبو صابرين من أخيه أبي أسامة، أن يتشاورا على انفراد قبل أن يلبّي طلب العريس، وما أن ابتعدا عن الحضور حتّى همس أبو أسامة لأخيه:
البنت واقعة في هوى الولد، فعجّل بالزّواج؛ فالزّواج سترة للجميع.
الحاجّ عزّالدّين غاضبا:
ما هذا التّخريف الذي تقوله يا سعيد؟
أبو أسامة: اسمع يا عزّ الدّين، المثل يقول”: اللي ما بشوف من الغربال أعمى” والقضيّة لا تحتاج إلى كثير من الفصاحة. لا نريد فضائح، دعهم يتزوّجون وارتح من وجع الرأس.
عاد أبو صابرين وقال لهم:
كما تريد يا يونس، غدا نعقد الزّواج في المحكمة الشّرعيّة في شارع صلاح الدّين، وحدّدوا يوم الزّواج كما تريدون.
أبو يونس: شكرا لكم، حفل الزّفاف سيكون يوم الخميس القادم في قاعة فندق “العائلة السّعيدة”.
الحاج عزّالدّين بسذاجة:
لماذا الخميس وليس الجمعة؟
أبو يونس: لأنّ العريسين سيطيران في العاشرة من مساء الخميس لباريس لقضاء شهر العسل.
أبو أسامة: على بركة الله.
بعد أن غادر الضّيوف بيت الحاجّ عزّالدّين قال له شقيقه سعيد:
من اليوم الذي خلعت فيه صابرين زيّها الشّرعيّ” لعب الفار في عبّي.”
تجاهل الحاجّ عزّ الدّين ما قاله شقيقه سعيد، لكنّ صابرين سألت بلهجة ساخرة:
لم أفهم مغزى كلامك يا عمّ، فكيف يلعب الفأر في عبّك؟
التفت إليها أبوها وقال لها:
أتركيك من هذا الكلام، وانصرفي من مجلسنا.
سحب الحاجّ عزّ الدّين شهيقا طويلا وسأل أخاه:
ما رأيك بما جرى الليلة؟
سعيد “أبو أسامة”: يقول المثل:” يا ماخذ القرد ع ماله، بروح المال وبظلّ القرد لحاله.”
– ماذا تعني؟
– أعني بأنّ أصحاب المال أمثال سفيان الذّهبي وابنه، يعتبرون الزّوجة لعبة يلهون بها، ثمّ يطلقونها ويستبدلونها متى يشاؤون، عدا عن علاقاتهم المتعدّدة خارج نطاق الزّوجيّة.
– وحّد الله يا رجل، ماذا تقول؟ فلم نسمع عن سفيان الذّهبيّ إلا كلّ خير، فهو رجل أعمال ناجح، ويده طويلة في عمل الخير.
– طبعا، لأن ” تعريص الغنيّ وموت الفقير لا يعرف بهما أحد.”
– أعوذ بالله من أفكارك السّوداويّة يا أبا أسامة.
– آمل أن أكون مخطئا، لكن ألم تلاحظ أنّ حديث سفيان كان فوقيّا، ولولا الوجيه أبو محمود قطع حديثه، وتدخّل سريعا لتطاول كثيرا.
– لا أعرف ماذا سأقول لك، لأنّك تفسّر الأشياء بنوايا سيّئة.
– وأنت فهمك للأمور ليس صحيحا، وأسأل الله أن يكون رأيي خاطئا.
وهنا دخلت صابرين وعلامات الغضب مرسومة على وجهها وقالت:
نسرين شقيقة يونس زميلتي في الجامعة، وهي فتاة متواضعة وكريمة رغم حياة التّرف التي تعيشها، وتتعامل مع الآخرين بطريقة مهذّبة ولافتة. وشقيقها يونس تتمنّاه أيّ فتاة؛ ليكون زوجا لها.
أبو أسامة: يا عمّي مبارك يونس عليك، وكلّ ما يهمنّي أن يكون زوجا صالحا ووفيّا معك.
صابرين واثقة من كلامها:
طبعا سيكون زوجا وفيّا وصالحا.
– الآن لم يعد لنا ما نقوله سوى “ربنا يجيب ما فيه الخير”.
عندما عاد أبو أسامة لبيته، كانت زوجته فاطمة تنتظر قلقة لمعرفة المزيد عن “طلبة” صابرين، وما أن دخل البيت حتّى سألته:
أه…بشّر…كيف رأيت العريس وأهله؟
– أناس أثرياء جدّا، لا يكترثون لشيء.
– والله عرفت كيف تختار صابرين.
– آمل ذلك.
وهنا رنّ الهاتف وكان أسامة على الطّرف الآخر:
كيفك ماما؟
– أهلا حبيبي، نحن بخير ونريدك كذلك، ما هي أخباركم؟
– الحمد لله، نحن بخير، وجمانة حامل.
– هذا خبر مفرح، وإن شاء الله تكون حاملا بصبيّ يحمل اسمك.
– آمين.
– هل هي بجانبك؟ دعني أراها.
أعطى أسامة الهاتف لزوجته فقالت:
السّلام عليكم يا خالتي، كيفكم؟
– نحن بخير، وأريدك أن تحافظي على الجنين، فنحن مشتاقون لرؤية ابن أسامة.
– ربّنا هو الحافظ يا خالة.
– حسنا لكنّني أرى أنّ صحّتك ليست كما يرام.
– أنا في فترة الوحام، وأتقيّأ كثيرا.
– لا تتدلّلي كثيرا على أسامة، فكلّ النّساء يحملن ويلدن.
– لا تهتمّي يا خالة.
– أخذ أسامة الهاتف من جمانة وسأل والدته:
– ما هي أخباركم ماما؟
ردّت عليه وهي تلوي فمها ساخرة:
صابرين بنت عمّك عزّالدّين خطبت، وستتزوّج نهاية الأسبوع.
– مبارك ونسأل الله التّوفيق. من هو العريس؟
قالت والغيرة تنهشها:
العريس ابن رجل ثريّ جدّا، لا أعرف اسمه، تكلّم مع أبيك وهو سيعطيك كلّ التّفاصيل.
أمسك أبو أسامة الهاتف وقال:
كيفك يا أسامة؟ مبارك حمل جمانة.
– أهلا بك يا أبي، بارك الله بك، وإذا تمّ الحمل كما نتمنّى وأكرمنا الله بولد؛ سأسمّيه على اسمك، وإن كان بنتا سأسمّيه على اسم والدتي.
– الله يرضى عليك.
– مباركة خطبة صابرين؟ من العريس؟
– العريس مهندس اسمه يونس، وهو ابن رجل الأعمال المعروف سفيان الذّهبيّ.
– كيف عرفها وعرفته؟
وهنا أخذت الهاتف أمّ أسامة وقالت:
صابرين بنت لعوب يا أسامة، تركت الزّيّ الشّرعي، و”دارت على حلّ شعرها” وربنا يستر عليها.
غضب أبو أسامة من حديث زوجته وقال لها وهو يأخذ الهاتف من يدها:
الله لا يستر عليك، كيف تقدحين بشرف صابرين.
قال أبو أسامة: يا أسامة والدتك غيورة وحسودة، وعريس صابرين شاب يبدو مهذّبا، وهو ثريّ جدّا، قدّم لها سيّارة كهديّة، وسيشتري لها المصاغ الذّهبيّ الذي تريده، وسيقضي معها شهر العسل في بعض الدّول الأوروبّيّة بدءا بباريس. وستسكن معه في “فيللا” فاخرة في بيت حنينا.
أسامة: ربنا يوفّقهم ويسعدهم.
انتهت المكالمة وجمانة تسمع كلّ كلمة، فسألت أسامة متهكّمة:
حسب رأيك هل سيفرض عليها النّقاب بعد الزّواج؟
أسامة: لا دخل لنا بهم، وهم أدرى بشؤونهم. نسأل الله لهما الهداية.
جمانة: ربّنا يهدي الجميع، لكن كيف وافق عمّك وأبوك أن تخلع صابرين زيّها الشّرعيّ؟
– ما لنا ولهذا الكلام الفارغ؟ وبدل الانشغال بغيبة النّاس اهتمّي بنفسك وبالجنين الذي في أحشائك.
– أنا لا أغتاب أحدا، وكما تعلم أعيش بين أربعة حيطان، ولا أجالس إلا الكتب التي تتوفّر لي.
– هذا أمر جيّد، هل قرأتِ كتابيْ “التبرج وخطر مشاركة المرأة للرّجل في ميدان عمله.” و”الغزو الفكري ووسائله” للعلامة ابن باز- رحمه الله-؟
جمانة: قرأتهما وقرأت كتاب التّوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب، و” شرح كتاب السّياسة الشّرعيّة لشيخ الإسلام ابن تيميّة.” فهذه هي بعض الكتب التي أحضرتها لي.
– أنت رائعة وآمل أن تكوني قد اقتنعت بأفكارهما النّيّرة.
لم تجرؤ جمانة على الرّد عليه، ولم تفصح عن رأيها؛ لأنّها تعرف رأيه مسبقا. لكنّها سألته إذا ما كان على استعداد لاصطحابها إلى إحدى المكتبات؛ لتختار عددا من كتب الأدب العربيّ والعالميّ المترجم للعربيّة.
فردّ عليها:
قلت لك سابقا إنّ ما يسمّى روايات وقصص يحرم على المسلم قراءتها؛ لأنّ فيها أكاذيب.
ابتسمت وقالت له:
يا حبيبي، إذا كانت هذه الكتب محرّمة فحرامها على من كتبها وطبعها وليس على من يقرؤها، وإذا كانت مضامينها تخالف شرع الله، فهذا يدفع قارئها إلى التّمسّك بدينه، ولا خوف عليه من الكفر.
قال وهو يحتضنها على السّرير:
سألبّي طلبك، وسأدفع ثمن الكتب التي ستشترينها، وحرامها في رقبتك.
شعرت بفرحة لم تستطع التّعبير عنها فقالت له:
بارك الله بك.
قال لها: غدا سأصطحبك معي لإحدى المكتبات، واشتري ما تريدين، لكن دعينا من هذا الكلام الآن، وقبّلها وهو يتحسّس شعرها، وفجأة قال:
هل تعلمين ماذا يجول في خاطري الآن؟
استغربت سؤاله وقالت:
ربنا يعلم ما تخفي الصّدور.
فقال: أتمنّى لو أنّ على يساري زوجة أخرى!
صُعقت جمانة ممّا سمعت، انتفضت باكية وقالت:
حلّل ربّنا للمسلم أن يتزوّج أربعة، تزوّج أربعة، لكن لا أعتقد أنّه يحلّ لك أن تجمعهما على فراش واحد.
قفزتّ من السّرير وأسرعت إلى الحمّام، حاولت كبح جماح دموعها، غسلت وجهها وعادت إلى طرف السّرير وهي تقول:
أنا مرهقة من الوحام، ابتعد عنّي، وأمضت ليلتها تبكي.
مسّد لحيته، التفت إليها وقال لها بلهجة عتاب:
لماذا غضبت؟ هل أسأت لك -لا سمح الله-؟ قبل قليل كنّا نجلس كحبيبين، طلبتِ شراء كتب ما أنزل الله بها من سلطان، ووعدتك بتلبية طلبك غدا، فلماذا هذه المزاجيّة غير المبرّرة.
التزمت الصّمت. لكنّه عاد يقول لها:
أستغفر الله العظيم، اسمعي يا جمانة، لا أريد أن أعاقبك خوفا على الجنين الذي في أحشائك، فالإمام ابن باز -رحمه الله- أفتى حول سؤال إذا هجرت الزوجةُ فراشَ زوجها هل للزّوج ضربها؟
فأجاب-رحمه الله-: “له ضربها ضربا غير مبرح، وله هجرها أيضا، له هجرها وله ضربها، لكن ضربا غير مبرح، خفيف.”
ولا أحبّ لك أن تكوني من نزلاء النّار، فقد جاء في الحديث الشّريف: “عن أبي هريرةَ قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: إِذَا دعَا الرَّجُلُ امْرأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فلَمْ تَأْتِهِ فَبَات غَضْبانَ عَلَيْهَا؛ لَعَنتهَا الملائكَةُ حَتَّى تُصْبحَ.”
أدارت ظهرها له، وهي تدثّر رأسها باللحاف، لم تتفوّه بأيّ كلمة، لكنّه كان يسمع نشيج بكائها، وعندما يئس منها، مدّ يده إلى شعرها، هزّ رأسها بلطف لا عنف فيه وهو يسألها عن سبب غضبها، ولمّا واصلت صمتها سألها غاضبا:
هل أنت مجنونة يا امرأة؟
لم تعد قادرة على سماع صوته، حملت لحافها وخرجت من غرفة النّوم، تمدّدت على كنبة في صالون البيت، وواصلت بكاءها.
لم يكن أسامة غبيّا لدرجة أنّه لا يعرف سبب غضبها المفاجئ، لكنّه غير مقتنع بأنه قد أخطأ، ولن يحرّم على نفسه ما حلّله له الله، فالله -سبحانه وتعالى يقول:” فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا.”
فكّر قليلا بالذي جرى، واهتدى بأنّه ربّما لم يحسن اختيار الوقت المناسب بما قاله لجمانة، “فالضّرّة مُرّة” كما يقول المثل، وهو حقيقة لا يفكّر بالزّواج من أخرى، وكلّ ما أراده هو الافتخار بفحولته، أمام زوجته، فجاءت النتيجة معكوسة. وهو متوتّر وشبق جنسيّا، فكّر بطريقة يسترضيها بها، لأنّه لا يؤمن باغتصاب الرّجل لزوجته، فقرّر أن يجرّها إلى مهاتفة والديها، حمل هاتفه وذهب إليها، جلس بجانبها وقال بنعومة:
سأهاتف أهلكِ، لنخبرهم أنّك حامل، لم ينتظر جوابا منها، طلب رقم الهاتف، ردّ عليه والدها:
هالووو.
– أهلا عمّي عيسى، أنا أسامة، كيف حالك.
– أهلا يا ابني. الحمد لله نحن بخير، طمئنّا عنكم.
– نحمد الله ونشكره. وبفضل الله ورضوانه جمانة حامل.
– الحمد لله، مبارك هذا الحمل، ونسأل الله أن يرزقكما الذّرّيّة الصالحة.
– آمين. خذ جمانة يا عمّ، فهي تريد أن تتحدّث معكم.
مدّت جمانة يدها لتأخذ الهاتف بتكاسل وقالت بلهجة ناعسة:
كيفك بابا.
أهلا حبيبتي، نحن بخير ومشتاقون لك. مبارك الحمل.
– الله يبارك بعمرك بابا.
– طمئنا عنكم.
– نحن بخير ولا ينقصنا سوى مشاهدتك.
تحدّثت جمانة مع والدتها أيضا ومع شقيقاتها الأربعة، وعندما تحدّثت مع شقيقتها تغريد مازحتها تغريد قائلة بأنّ المرأة عندما تحمل بابنها البكر، تشعر بسعادة غير مسبوقة، فعدا عن التّجربة الأولى السّعيدة، فإنّ “أوّل الثمار يطيل الأعمار”، وسألت جمانة وهي تضحك:
هل تشعرين بأنّ عمرك قد طال؟
ضحكت جمانة وقالت:
“تنشوف الصّبي بنصلي على النّبي”.
– اللهم صلّ على أنبيائك جميعهم، لكنّ صوتك ليس كما أعرفك يا جمانة! هل هناك ما يزعجك أم أنت مريضة؟
– لا يا أختي، لكنّ الوحام ينهكني.
– توكّلي على الله، فهذه مرحلة ستمرّ سريعا. وعندما يأتي وليّ العهد ستسعدين به كثيرا.
انتهت المحادثة وأسامة يأمل أن ترضى جمانة؛ ليمضي ليلة سعيدة معها، لكنّها أعطته الهاتف وهي تقول بأنّها مرهقة، لا تقوى على فعل شيء. تركها وهو يقول:
لا ردّك الله، وعاد إلى فراشه خائبا.
حاولت جمانة أن تنام، لكنّ النّوم هجرها وأقضّ مضجعها، تذكرّت أنّها في بلاد غريبة، لم ترّ منها إلا المطار والطّريق إلى هذه الحارة الغرباء ساكنوها، غرباء جاؤوا من بلدان استأسد الفقر فيها؛ ففتك بها، وهم هنا غرباء في بلاد فرضوا فيها العزلة على أنفسهم، لا يعرفون أحدا، ولا أحد يريد أن يتعرّف عليهم، لكن غربة جمانة مضاعفة بهمومها وبسطوة زوج لا يجد ما يعتدّ به سوى فحولته المنقوصة. جرفتها ذاكرتها إلى حنين والدها الذي يطهّره كلّ يوم بعرقه المتصبّب من جسده، وهو يكدح باحثا عن رغيف خبز هارب؛ ليسدّ رمق زوجته وبناته. بكت أيّام العزّ التي عاشتها في قدسها الذّبيحة، ضحكت من باب “شرّ البليّة ما يضحك” عندما جال بخاطرها أنّها محتلّة من زوج يعيش عقدا نفسيّة تحتاج مستشفى متخصّصا؛ كي يحرّره منها، تماما مثلما هي قدسها محتلّة من عدوّ أهلك البشر والشّجر والحجر، لكن مدينتها فيها أناس ما نسوا دماء آبائهم الذي جبل تراب المدينة بها، فنبت فيها التّين والزّيتون وثمار جنان تعجّ بنور القداسة الذي يحلق فوق أقصاها وقيامتها، وترفرف في سمائها أرواح ارتقت سلّم المجد تاركة دماءها على الأرض الطّهور؛ لتصرخ صباح مساء، في انتظار من يحطّم قيودها، ويعيد إليها من شرّدوا من أبنائها.
لكنّها أي جمانة حبيسة في مكان لا تعرفه، فلا الدّار دارها، ولا الجيران جيرانها. ضاقت بها الدّنيا على اتّساعها، فكّرت بالانتحار أكثر من مرّة، لكنّها خافت أن تقضي حياتها الأخرى في جهنّم، وأن تلاحقها اللعنات في دنيا لم ترحم إنسانيّتها، تحسّست جنينها الذي لا يزال مضغة تسبح في فضاء رحمها، فشعرت بالطّمأنينة، وصرفت فكرة الانتحار من عقلها، لكنّها أمضت ليلتها في حوار مع جنينها الذي تخيّلته ملاكا يخرجها من وحدتها. تحسّست بطنها مرّة أخرى تبحث عن جنينها الذي صلّت لربّها وابتهلت إليه أن يكون هذا الجنين ابنا ذكرا؛ كي لا يعيش عذابات الإناث في مجتمع لا يرحم إنسانيّتهن.

*****
في قاعة الفندق كان حفل زفاف صابرين ويونس صاخبا إلى درجة لافتة، رجال أنيقون يرتدي كلّ منهم بدلة سوداء، قميصا أبيض اللون، ربطة عنق. نساء يرتدي بعضهن فساتين سهرة، أكمامها عريضة، صدورها مفتوحة، ذيولها تجّر على الأرض، تسريحات شعور لافتة، شفاه منفوخة تحتضن أسنان بيضاء لامعة، أظافر صناعيّة متعدّدة الطّلاء، رموش اصطناعيّة تحتضن العيون التي تغيّر العدسات اللاصقة ألوانها؛ لتتناسب ولون فستان كلّ واحدة منهنّ، حواجب محفوفة، وبعض آخر من الصّبايا يرتدين “تنانير” تنتهي عند الرّبع الأعلى من الفخذين، “بلوزات” بلا أردان، جيوب واسعة تكشف قواعد نهود تتراقص مع كلّ ضحكة حتّى لو كانت متصنّعة.
اتّخذ أهل العروس وأقاربها زاوية القاعة البعيدة مكانا لجلوسهم. اصطفّوا
حول طاولات ينظرون ما يجري، وكأنّهم أمام شريط سينمائيّ لمشهد من ليالي “ألف ليلة وليلة.” فقد وجدوا أنفسهم غرباء في مكان غريب.
في الزّاوية الأولى من جهة اليسار فرقة موسيقيّة، يقف أمامها شابّ وشابّة يبدو عليهما أنّهما من العجم.
عندما دخل المدعوّون القاعة كانت الفرقة الموسيقيّة تعزف مقطوعات كلاسيكيّة هادئة لموزارت، بتهوفن وشوبان.
وزّع النُّدُل زجاجات المشروبات الرّوحيّة المختلفة، مع ما تقتضي من مقبّلات على الطّاولات جميعها.
أمسكت أمّ أسامة زجاجة عَرَقٍ تريد أن تفتحها ظنّا منها أنّها ماء، انتبه لها ابنها رأفت، فخطف الزّجاجة من يدها، أعادها مكانها وهو يسأل:
هل تعرفين ما في هذه الزّجاجة؟
– نعم إنّها زجاجة ماء.
ضحك وهو يقول لها:
هذا عَرَق وليس ماء.
ردّت عليه قائلة: سخطك الله يا صابرين أنت وعرسك.
وعادت تسأل ابنها:
أنا عطشانة، أين الماء؟
أشار رأفت للنّادل وطلب منه أن يحضر قنينة ماء.
قبل أن يأتي النّادل بالماء سألت أمّ أسامة:
ما هذه الزّجاجات؟ هل هي عصائر أم خمور؟
فردّ رأفت: كلّها خمور.
فقال الحاجّ عزّ الدّين والد العروس:
“يا حْليلك” يا عزّالدّين! الله يسخطك يا صابرين ويسخط اليوم اللي شفتك فيه.”
أمّا أبو أسامة فقد اكتفى بالتهام ما تيسّر من الفستق والجوز والبندق، وبعض المخلّلات، وبقي واجما مشدوها بما يرى ويسمع.
بدأ الحفل بموسيقى غربيّة صاخبة، فتراكض رجال ونساء إلى المنصّة يرقصون، يتقافزون كأنّهم يركلون الفضاء بأقدامهم، فتاة وفتى يغنّون بصوت صاخب، يقفزان راقصين وسط أصوات الآخرين حول الطّاولات كأنّهم في “طوشة” لا سيطرة لأحد عليها! استمرّ المقطع الصّاخب حوالي سبع دقائق. بعدها عزفت موسيقى هادئة، وانطلق صوت المغنّيّة ناعما غنجا، نزل العروسان ملتصقان ببعضهما، اعتلى المنصّة رجال ونساء، كلّ زوجين متلاصقان، يرقصون بهدوء، فتساءل الحاجّ عزّالدّين:
ما هذا؟
فردّ عليه شقيقه سعيد”أبو أسامة” ساخرا:
هؤلاء كلّ منهم يقول لخليلته:
“قلبي يحبّك ويريدك، وِشْ طالع بيدي وبيدك”؟
فقالت له زوجته فاطمة:
ما رأيك أن نشاركهم هذه الرّقصة الهادئة؟
فردّ عليها:
استحي يا امرأة.
لكنّ ابنهما رأفت فاجأهم عندما أسرع إلى المنصّة، بعد أن مدّ يده لنسرين شقيقة العريس؛ كي ترقص معه، فوافقت وهي تبتسم، اقتربت منه وهي تخلخل أصابع يدها اليمنى بيده، التصقت به واضعة وجهها على وجهه وهما في غاية السّعادة.
الأمر عاديّ جدّا بالنّسبة لأهل العريس والمدعوّين، باستثناء أهل العروس الذين يرون ما يحدث للمرّة الأولى.
فرحت أمّ أسامة بابنها رأفت، مالت على زوجها وتساءلت:
منذ متى يعرف رأفت هذه البنت؟
فقال متعجّبا:
لا أعلم إن كان يعرفها أم لا.
تمنّى أبو أسامة في قرارة نفسه أن تقع تلك الفتاة بحبّ رأفت؛ لعلّها تكون زوجة له، وهمس في أذن زوجته:
” اللي بقرب المسعد بسعد”.
ردّت عليه:
ماذا تقصد؟
فنهرها هامسا:
اسكتي الآن سنتكلّم لاحقا.
فعادت تسأل: كيف تتجرّأ هذه الفتاة على رأفت بهذه الطّريقة أمام والديها وأمام هذا الحشد من النّاس؟
أجابها رائد بن الحاجّ عزّالدّين:
هذه تصرّفات عاديّة عندهم، فهم مختلفون في تصرّفاتهم وعاداتهم وتربيتهم عنّا.
قالت أمّ أسامة متعجّبة:
“والله عشتِ وشفتِ يا فاطمة”!
أمّا أمّ صابرين فقد انكمشت على نفسها وبداخلها صراعات لم تفصح عنها، وأكثر ما يخيفها هو “سلفتها” أمّ أسامة، فالله أعلم كيف ستغتابها هي وابنتها أمام الأقارب والمعارف.
تناول الحضور طعام العشاء ممّا لذّ وطاب، بعدها قاموا لتهنئة العروسين،
قبّلهما الرّجال والنّساء، وانصرفوا جذلى تحت تأثير الخمور، قبل أن ينصرف العروسان ذهبا إلى غرفة في الفندق، حيث استبدلت العروس فستان الزّفاف، ببدلة أنيقة، ودّعا والديهما، واستقلّا سيّارة إلى مطار اللدّ.
عندما عادت أسرة العريس إلى بيتهم، كان الحاجّ عزّالدّين تعِبا، يشعر بقشعريرة من ارتفاع درجة حرارته، وصعوبة في التّنفّس، عرض عليه ابنه رائد أن يأخذه إلى غرفة الطّوارئ في مستشفى المقاصد، لكنّه رفض. تمدّد على سريره، اقتربت منه زوجته وقالت:
لم تصلّ المغرب ولا العشاء يا حاجّ.
التفت إليها بنظرة عتاب ولم يقل شيئا، فعادت تذكّره بالصّلاة، فقال لها بصوت متهدّج:
ربّنا غفور رحيم، وما جرى هذه الليلة سيقودنا إلى جهنّم.
استغفرت زوجته ربّها وحوقلت ثمّ قالت:
لا تقلق يا حاجّ، فصابرين ربّنا راض عنها، فوهبها هذا الزّوج الذي سيجعلها تعيش في نعيم.
قال: نسأل الله السّتر، وغفا في فراشه.
في بيت أبي أسامة قالت زوجته فاطمة:
هل رأيت كيف كانت بنت أخيك أليفة مع العريس، وكأنّ بينهما عِشرة قديمة؟
نظر إليها نظرة غاضبة وقال:
هذا زوجها على سنّة الله ورسوله، وأبناء هذا الجيل يختلفون عن جيلنا.
وعادت تسأله:
ماذا سيقول عنّا النّاس لو علموا أنّنا كنّا في حفل مع أناس يقرعون كؤوس الخمر، ويرقصون مثل القردة؟
صاح بها غاضبا:
إن شاء الله “يركبك قرد” لأنّه “عمرك ما خلّيتِ مركب ساير.”
– ماذا قلتُ حتّى تقول هذا كلام؟ حسبت أنّك غاضب؛ لأنّ بنت أخيك “العروس” كانت شبه عارية أمام خلق الله. أليس حريّ بها أن تستر جسدها على الأقلّ أمام النّاس؟
قال لها ساخرا:
تعرّي مثلها إن كان ذلك يعجبكِ؟
ضحكت وهي تهمس في أذنه:
– الحق بي في غرفة نومنا وستجدني عارية، و”اللي بروح ع السّوق بتسوّق.”
– تبّا لكِ كم أنت غيورة.
بعد أن سمع أبو أسامة نشرة أخبار منتصف الليل من التّلفاز، ذهب لينام، الغرفة مظلمة، تسلّل إلى فراشه بخفّة كي لا يوقظ زوجته، تمدّد على طرف السّرير الأيمن حيث اعتاد على ذلك، لكنّه تفاجأ أنّ زوجته بانتظاره، التصقت به، طبعت قبلة عميقة على شفتيه، وأمضت وقتا في غياهب نشوة كانت تنتظرها.
عند أذان الفجر رنّ الهاتف في بيت أبي أسامة، رفع سمّاعة الهاتف وهو يقول:
يا فتّاح يا عليم.
على الطّرف الثّاني من الهاتف كان رائد ابن شقيقه عزّالدّين يقول باكيا:
مات أبي يا عمّي.
دُهش أبو أسامة ممّا يسمع فتساءل:
هل أنت متأكّد يا ولد؟
لكنّ رائد أغلق الهاتف، ضرب أبو أسامة كفّا على كفّ وقال:
لا حول ولا قوّة إلا بالله، رحمة الله عليك يا عزّالدّين.
كانت أمّ أسامة تستحمّ، سمعت رنين الهاتف لكنّها لم تسمع شيئا غيره سوى صوت زوجها وهو يحوقل، فسألته من داخل الحمّام:
ماذا جرى يا سعيد؟
ردّ عليها بصوت غاضب وهو يحاول فتح باب الحمّام، لكنّه وجده موصدا:
اخرجي بسرعة، كي أستحمّ.
– ماذا حصل؟
كانت تنشّف جسدها عندما فتحت الباب وخرجت وهي تلتف بمنشفة كبيرة:
أسرع أبو أسامة إلى الحمّام وهو يقول:
مات عزّ الدّين يا فاطمة.
ردّت عليه شامتة:
الله يرحمه، لم يطق صبرا عمّا رأى وسمع.
– التفت إليها وسأل:
– ماذا تقولين؟
– أقول أنّ أخاك مات قهرا.
– قهرك الله على هذا الكلام القبيح الذي لا تعرفين غيره.
شرع يستحمّ فهو على عجلة من أمره، فلم يعد قادرا على البقاء في بيته بعد أن سمع الخبر المفجع، اختلطت دموع الحزن على شقيقه برذاذ الماء المتساقط على جسده، لم يستطع أن يطرد بعض الهواجس التي سيطرت على تفكيره بخصوص أسباب الوفاة، صحيح أنّ الموت حقّ، لكن لكلّ ميتة سببا، فهل مات عزّالدّين؛ لأنّ عمره انتهى، أم أنّ لزواج ابنته صابرين علاقة بذلك؟ لكن بغضّ النّظر عن الأسباب فإنه حزين على فراق شقيقه الذي يكبره بعامين. ارتدى ملابسه على عجل، ولم يجد زوجته وابنه رأفت في البيت، وبالتّأكيد فقد سبقاه إلى بيت الفقيد، فلحق بهما.
وهناك وجد أنّه تمّ نقل الجثمان بسيّارة إسعاف إلى غرفة الطّوارئ في مستشفى المقاصد الخيريّة القريب، للتّأكّد من الوفاة.
كانت أمّ أسامة تجلس قبالة أرملة الفقيد كغراب الشّؤم، تتظاهر بالحزن مع أنّ داخلها على عكس ذلك. سأل أبو أسامة أرملة أخيه:
كيف عرفتم أنّه ميّت؟
– عندما عدنا إلى البيت من حفل الزّفاف بدا تعِبا، تمدّد على السّرير، حرارته ارتفعت قليلا وغفا. عند صلاة الفجر حاولت إيقاظه؛ ليؤدّي صلاته كما هي العادة، لكنّه لم يستجب، تحسّست جبينه فكان باردا، أغمضت عينيه وأغلقت فمه، وأيقظت رائد، وتبيّن لنا أنّه “أسلم الوديعة”.
– هل قال شيئا عندما عاد من حفل الزّفاف؟
– لا… لم يقل أيّ شيء.
– الله يرحمه ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ .”
لم تستطع أمّ أسامة مواصلة السّكوت، فسألت وهي تلوي فمها:
هل علمت صابرين بوفاة أبيها؟
لم تجب أرملة الفقيد، لكنّ أبا أسامة التفت إلى زوجته غاضبا وتساءل:
كيف ستعرف صابرين؟
*****
تحامل أسامة على نفسه لكسب ودّ جمانة، قرّر أن يلبّي رغبتها بحبّ المطالعة، وأن يشتري لها عددا من كتب التّراث العربيّ التي كتبت في عصور سابقة، فبالتّأكيد لو أنّها تحتوي على ما يعارض شريعة الله، لما سمحوا بها وقتذاك، لكنّه استثنى من ذلك كتاب”ألف ليلة وليلة”، بعد أن قرأ فتوى أزهريّة تمنع تداوله؛ لما يحويه من قصص وحكايات جنسيّة فاضحة!
في معرض الكتاب في الرّياض تجوّل أسامة بين أجنحة المعرض، اختار عددا من الكتب منها: العقد الفريد لابن عبد ربّه، الحيوان والبخلاء للجاحظ، ديوان الشّعر الجاهليّ، ديوان حسّان بن ثابت، ديوان المتنبي، ديوان أبي تمّام، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
عاد إلى البيت مختالا كطاؤوس ينفش ريشه أمام إناثه، أدخل الكتب إلى البيت وهو يقول:
لقد اشتريت لك من الكتب ما يكفيك لمدّة طويلة.
استعرضت حمانة عناوين الكتب دون اهتمام لافت وسألت:
لماذا لم تصطحبني معك؛ لأختار أنا بعض الكتب التي تروق لي؟
أجابها بصوت حرص أن لا يكون مرتفعا – كما هي عادته-:
أعتقد أنّني أدرى منك بمصلحتك!
– أمرك عجيب.
– ألم نتفق يا حبيبتي منذ ليلة دخلتنا أنّ الزّوجة الصّالحة لا تخالف أمرا لزوجها؟
ردّت عليه مستغربة:
لكنّ العلم والثّقافة أمر شخصيّ لا علاقة للأوامر والنّواهي بهما.
– يا جمانة ليست كلّ ثقافة تتطابق وشرع الله.
تصنّعت جمانة ابتسامة وسألت:
هل تعتقد أنّ جماعة “الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر” يسمحون بعرض وتوزيع كتب في المملكة لا تتوافق مع ثقافتنا الإسلاميّة؟ ومع ذلك شكرا لك على الكتب التي أحضرتها. مع أنّه سبق لي أن قرأت دواوين حسان بن ثابت والمتنبي، وأبو تمّام وديوان الشّعر الجاهليّ والمعلّقات السبع.
شعر أسامة براحة نفسيّة، وقال لها:
عندما تنجبين وليّ عهدنا يا جمانة، سأصطحبك إلى إحدى المكتبات؛ لتختاري ما تريدين من الكتب.
قالت جمانة وهي تتحسّس بطنها بدلال: إن شاء الله.
أمّا بالنّسبة لدواوين الشّعر التي سبق وأن قرأتِها فهي ثروة أدبيّة قيّمة، يستطيع المرء العودة إليها وقراءتها مرّات ومرّات.
عادت تسأله: هل قرأت الكتب الأخرى التي أتيتنا بها؟
– أنا لا أقرأ إلا كتاب الله وسنّة نبيّة ومؤلّفات بعض مفكّري الأمّة كشيخ الإسلام ابن تيميّة، والنّووي، والإمام محمد بن عبد الوهّاب، وابن باز وابن عثيمين -رحمهم الله.
– قالت متردّدة على استحياء:
– لقد قرأت أنّ هؤلاء تكفيريّون، يعادون كلّ من يخالفهم الرّأي.
ردّ عليها غاضبا:
من قال لك هذا؟ هذا كلام يغضب الله ورسوله والمؤمنين.
– رويدك يا أسامة، قرأت فتاوي كثيرة لابن تيميّة يختمها بقوله:
“يستتاب ثلاثة أيّام وإلا سيُقتل”.
– ابن تيميّة -رحمه الله- كان غيورا على تطبيق شرع الله، ولهذا فإنّهم لقّبوه بـ”شيخ الإسلام.” ومن يدافع عن شرع الله ليس تكفيريّا، وإنّما هو يريد إنقاذ النّاس من نار جهنّم، من خلال هدايتهم للإسلام، ودعوتهم لتطبيق حدود الله، وقد سار على دربه الإمام محمد بن عبد الوهّاب-رحمه الله-.
جمانة: نسأل الله الهداية، والدّين الصّحيح لا يتناقض مع العلم الصّحيح.
– وحّدي الله يا امرأة، وهل هناك إسلام صحيح وآخر غير صحيح؟
– لا تفهمني خطأ يا أسامة، فأنا أقصد الفهم الصّحيح للدّين، ولا خلاف على أنّ الإسلام رحمة من الله لعباده؛ ليخرجهم من الظّلمات إلى النّور.
– أئمّتنا فهموا الدّين بطريقة صحيحة ونحن على دربهم سائرون.
– يا زوجي الحبيب، لا مقدّس في ديننا إلا القرآن والسّنّة النّبويّة، وما عداهما أقوال واجتهادات بشر مثلنا يخطئون ويصيبون.
– يبدو أنّكِ تحملين فكرا علمانيّا قد يقودك إلى الكفر- والعياذ بالله-، وهذا ما لا أرضاه لك.
– يا رجل أنا تربّيت تربية دينيّة، أخاف الله وأعرف حدوده ولا أتجاوزها، وديننا يصلح لكلّ زمان ومكان، ولا خوف عليه إلا من ذوي العقول المغلقة.
– دعينا من هذا الكلام الذي لن يقودنا إلا لما لا تحمد عقباه.
– حاضر يا زوجي الحبيب، هل يمكنني مهاتفة أهلي، فأنا مشتاقة إليهم؟
– طبعا، وطلب رقم هاتف والديها في القدس.
– أمسكت جمانة الهاتف، وعلى الطّرف الآخر أمسكت شقيقتها تغريد سمّاعة الهاتف وقالت فور أن سمعت صوت جمانة:
– أهلا حبيبتي جمانة، نحن في سيرتك الآن، فالوالد سأل قبل قليل يستفسر إذا ما اتصلتِ أثناء وجوده خارج البيت.
– القلوب عند بعضها، شو أخباركم؟
– نحن بخير ونتمنّى أن تكونوا كذلك، صابرين بنت الحاجّ عزّالدّين تزوّجت مهندسا ثريّا اسمه يونس سفيان الذّهبيّ، وسافر العروسان إلى باريس لقضاء شهر العسل.
– مبارك فرحهما و”ربنا يهنّيهم”، ويرزقهما الذّرّيّة الصّالحة.
– لكنهم وجدوا والد العروس ميّتا في سريره في “صباحيّة” العرس.
تهدّج صوت جمانة حزنا وقالت:
لا حول ولا قوّة إلا بالله- الله يرحمه-.
وهنا سأل أسامة:
من مات؟
ردّت عليه جمانة:
عمّك عزّالدّين.
أمسك سمّاعة الهاتف من جمانة وسأل:
هل صحيح أنّ عمّي عزّالدّين مات؟
ردّت عليه تغريد:
البقيّة في حياتك، وكلنّا سنموت عندما يحين أجلنا.
أغلق الهاتف وهو يقول حزينا غاضبا: مع السّلامة.
طلب رقم هاتف أسرته، فردّت عليه والدته، فسألها مضطربا قبل أن يطرح عليها السّلام:
هل صحيح أنّ عمّي عزّالدّين مات؟
الله يرحمه يا حبيبي، وهذا حال الدّنيا.
– كيف مات؟
– انتهى أجله، حضر حفل زفاف ابنته صابرين وعاد إلى بيته، وفي الصّباح وجدوه ميّتا في سريره.
– بكى أسامة حزنا على عمّه وهو يحوقل ويقول مسكينة صابرين، أكيد لم تهنأ بزواجها.
تنهّدت أمّ أسامة وقالت:
صابرين لا تعلم بوفاة أبيها، فقد سافرت من قاعة الزّفاف مباشرة هي والعريس إلى المطار مباشرة في طريقهم إلى باريس لقضاء شهر العسل.
– وكيف حال أبي، وكيف تقبّل خبر وفاة أخيه.
– أبوك رجل صبور ويؤمن بقضاء الله وقدره.
– أين هو؟ كي أعزّيه أنا وجمانة.
– غير موجود.
أغلق الهاتف وهو يقول: بلغي سلامي للجميع.
جلس واجما، فقالت له جمانة:
البقيّة في حياتك والله يرحمه.

*****
صلّوا على جثمان الحاجّ عزّالدّين في المسجد الأقصى، دفنوه في مقبرة باب الرّحمة، استأجروا قاعة فندق الكومودور القريب من بيتهم في حيّ الصّوّانة؛ ليتقبّلوا فيها العزاء من الرّجال، أمّا النّساء فقد كان العزاء لهنّ في بيت الفقيد.
وقفت أمّ أسامة على رأس من يستقبلن المعزّيات، تستقبل وتودّع، أمّا أرملة الفقيد فصحّتها المتدهورة لم تساعدها كثيرا، فاكتفت أن تجلس على كرسيّ في صدر الصّالون، تتقبّل التّعازي دون أن تتزحزح من مكانها، حتّى دموعها جفّت، وشعرت بجفاف في عينيها، أورثهما احمرارا لافتا لمن ينظر إليها. هدوء أرملة الفقيد لا تصنّع فيه، فقد أمضت عمرها هادئة، وهذا سبب كاف لأمّ أسامة استغلّته لتظهر أمام المعزّيات بأنّها الآمر النّاهي في بيت الفقيد، حتّى إنّ الجارات انتبهن لذلك، فتهامسن ساخرات بأنّ هناك تبادل أدوار بين الفقيد الرّاحل الذي كان وجيه العائلة، وبين أخيه سعيد الذي كانت زوجته لطيفة “أمّ أسامة” وجيهة النّساء، بل إنّها “الدّينامو” الذي يحرّك الرّجال والنّساء والأطفال.
عندما سألت إحدى النّساء الجارات:
هل كان المرحوم مريضا؟
أجابتها أمّ أسامة:
لا أعلم أنّه كان مريضا، فقد حضر في الليلة الماضية زفاف ابنته صابرين، ولم يشكُ من شيء، وربّنا يستر على خلقه.
التفتت إليها أرملة الفقيد مستاءة وسألتها غاضبة:
كيف لا تعلمين يا لطيفة أنّه مريض؟ ألم تزوريه في المستشفى قبل شهرين، عندما كان يعاني من مشاكل في قلبه، وأجروا له عملية زرعوا له فيها شبكيّة للقلب؟
التفتت إليها أمّ أسامة غاضبة وقالت متسائلة:
وهل تحسبين رأسي دفترا أكتب فيه كلّ ما يجري؟ جلّ من لا يسهو.
*****
في باريس تجوّل العروسان “يونس وصابرين” في أرجاء المدينة، هذه المدينة ساحرة بعمرانها، بناسها، بنظافة واتّساع شوارعها، بمتاحفها، وهذه ليست المرّة الأولى ليونس في هذه المدينة.
في اليوم الثّاني لوصولهما باريس، جلسا في بهو الفندق يحتسيان الجعّة، انتبهت صابرين لشابّ طويل الشّعر، يضع أحمر الشّفاه، يرتدي قميصا نسائيّا، وينتعل حذاء نسائيّا، الوجه مألوف لها، لكنّها لم تتعرّف عليه، بجانبه رجل متوسّط العمر، ملتح، ذو ملامح أوروبّيّة، رأى صابرين، فقصدها مبتسما، عانقها وهو يقول بدلع أنثويّ:
حبيبتي صابرين، فرصة سعيدة أن ألتقيك في مدينة السّحر والجمال.
التفتت إليه صابرين مستغربة، فقال لها:
يبدو أنّك لم تعرفيني؟
– مع الأسف، لم أعرفك مع أنّ هذا الوجه ليس غريبا عليّ.
– ضحك وقال: أنا ميمونة؟ هل عرفتِني؟
– أيّ ميمونة؟ لا أعرف امرأة بهذا الاسم!
– هل تذكرين مأمون القنبع زميلك في جامعة بير زيت؟
ردّت مستغربة: نعم أذكره.
– حبيبتي صابرين، أنا كنت مأمون والآن أنا ميمونة.
– ضحك يونس وذهلت صابرين وسألت:
– كيف حصل هذا؟
– ردّت ميمونة ضاحكة:
– حبيبتي صابرين أنا دائما ميمونة، في داخلي أنثى، لكنّني ولدت بعضو ذكريّ للتّبوّل فقط، عاشرني كثيرون من أبناء جيلي كأنثى، كانوا يعاشرونني فرحين فخورين بفحولتهم، وبعدها يضربونني ويحتقرونني، ووجدتها فرصتي للهروب إلى باريس بمساعدة مؤسّسة أجنبيّة، وهنا وجدت أنوثتي التي لم يعترف بها أحد في بلدي، بل كانت سببا لشقائي وتعاستي، وقد أكرمني الله بزوج عرف قيمتي، وأشارت إلى الرّجل الذي كان يجلس بجانبها، وهي تدعوه بالفرنسيّة ليشترك معهم في الجلسة، وعندما وصل عرّفتهم عليه:
– زوجي مارسيل.
ثمّ أشارت إليهما وهي تقول:
هذه صابرين وهذا زوجها يونس.
سألت صابرين بريبة:
من أين تعرف يونس يا مأمون؟
– عفوا صابرين أنا ميمونة ولست مأمون، ويونس صديق قديم، نمت في حضنه كثيرا في “الفيللا” في بيت حنينا.
غضبت صابرين وسألت يونس بلهجة حادّة:
هل صحيح ما أسمعه يا باش مهندس؟
يونس: إهدئي يا صابرين، ولا علاقة لكِ بتصرّفاتي قبل الزّواج.
صابرين غاضبة:
كنت أعرف عن علاقاتك النّسويّة، لكنّني لم أعرف عن شذوذك!
ميمونة: حبيبتي صابرين، ما يقوله يونس هو الحقيقة، فزوجي مارسيل لم يسألني عن أيّ علاقة لي قبل زواجنا، وقد اصطحبني معه لطبيب مختصّ لإجراء عمليّة تحويل جنسيّ لي؛ ليردّني إلى أنوثتي.
صابرين مشتّتة الذّهن:
وهل ستعود إلى البلاد امرأة كباقي النّساء؟
– لن أعود إلى بلاد لا تحترم الحرّيّات الشّخصيّة، وأنا الآن زوجة لرجل يحترم أنوثتي.
لم تحتمل صابرين الإستمرار في الجلسة فغادرتها غاضبة دون استئذان وعادت لغرفتها، فاستغلّت ميمونة الفرصة وقالت ليونس بالعربيّة التي لا يفهمها زوجها:
إذا أردت أن نستعيد ذكرياتنا معا، فسأصرف زوجي؛ ليخلو لنا الجوّ.
ضحك يونس وقال:
لو بقيت مأمون الذي أعرفه لفعلتها! لكن مع ميمونة يستحيل ذلك؛ لأنّ لي صابرين التي رأيتِها.
وهنا رنّ هاتف يونس، فانتحى جانبا؛ ليردّ على المكالمة، تحدّثت معه والدته، وأخبرته عن وفاة صهره أبي صابرين، وطلبت منه أن يخبر صابرين بوفاة والدها إذا رأى ذلك مناسبا.
لم يكترث بالخبر، حتّى إنّه لم يترحّم على الفقيد. عاد إلى غرفته، فوجد صابرين تبكي، ضحك منها ساخرا وهو يقول:
لا داعي للبكاء يا صابرين، ولا حقّ للزّوجين أن يسأل أحدهما قرينه عن ماضيه! والآن هيّا بنا لنقوم بجولة سياحيّة في ربوع باريس.
أمضيا يوما كاملا في متحف “اللوفر”وأكثر ما لفت انتباههما هو المومياءات الفرعونيّة المصريّة، زارا برج إيفل وكاتدرائيّة النوتردام، التقطا صورا كثيرة. أمضيا أسبوعين في باريس ثمّ طارا إلى أمستردام.
في أمستردام وفي جلسة رومانسيّة سأل يونس زوجته:
هل تعلمين أنّني أثناء نومي أحلم أحلاما مزعجة، أرى فيها جنازات وموتى أعرفهم.
ردّت عليه دون مبالاة:
هذه كوابيس عابرة.
– كثرة تكرارها جعلتني أخاف أن نعود وأجد أبي قد مات أثناء غيابي.
ضحكت وهي تتساءل:
وهل أبوك معصوم عن الموت، فكلّنا سنموت؟ وأنت لست طفلا حتّى تفتقد أباك سواء أكان حيّا أو ميّتا.
قال لها بهدوء: كلامك صحيح، لكن إذا مات أبوك أنت أثناء غيابك، هل ستفتقدينة؟ وماذا ستفعلين؟
– سأترحّم عليه، والموت نهاية حتميّة، ولا أحد منّا يعلم متى سيحين أجله.
بلع يونس ريقه وقال:
البقيّة في حياتك يا صابرين، فأبوك مات في “صباحيّة” عرسنا.
صعقها الخبر، نزلت دموعها وسألت:
هل تمزح يا يونس، أم أنّك تقول الصّدق؟
– لا مزاح في هكذا أخبار يا صابرين.
– تغيّرت ملامح وجهها، نزلت دموعها دون إرادتها، ترحّمت عليه، استحمّت، غيّرت ملابسها، عملت “مكياجها”، وعادت تترحّم عليه وتحوقل.
أراد أن يصرفها عن التّفكير بخبر وفاة والدها، فاصطحبها للتّجوال في شوارع أمستردام، وتناولا طعام الغداء في مطعم شرقيّ يملكه مهاجر لبنانيّ.
******
عادت صابرين من شهر العسل، تحمل في حقائبها آخر ما أنتجته دور الأزياء الأوروبيّة، صباح كلّ يوم تستبدل ملابسها، تركب سيّارتها، تعمل تسريحة شعر مختلفة عن اليوم السّابق، لتفاجئ كلّ من يراها بالمظهر الجديد، تصطحب بعض زميلاتها أحيانا في رحلات داخليّة، تنفق فيها مئات الدّولارات دون حساب، لا يسألها يونس عن أيّ شيء.
أنجبت جمانة طفلا بعد عشرة أشهر من زواجها، ومن المصادفة أنّ صابرين أنجبت طفلة في مستشفى “هداسا” الإسرائيليّ في اليوم نفسه. ما أن أنجبت جمانة طفلها حتّى اتّصل أسامة فرحا بأهله؛ لينقل لهم الخبر السّعيد، ردّت عليه والدته، فقال لها تغمره السّعادة:
ماما….جمانة أنجبت هذا اليوم ولدا جميلا، أسميته “سعيدا”على اسم والدي.
حمدلت والدته وقالت:
مبارك هذا المولود، ونسأل الله أن يتربّى بعزّك يا ولدي، في أيّ مستشفى ولدته جمانة؟
ارتبك أسامة وقال:
أنجبته في البيت يا أمّي، فمن غير المعقول أن آخذها لتلد في مستشفى، لأنّه لا أتصوّر أن يكشف على عورتها رجال، ولن أدخل جهنّم من أجل زوجة أو ابن، وعندما داهمها المخاض اتّصلت بزميل سعوديّ وسألته عن إمكانيّة وجود قابلة تساعد جمانة، فقال أنّ لوالدته خبرة طويلة في توليد النّساء، وعرض عليّ المساعدة، ولمّا قبلت عرضه جاءني بصحبة والدته وزوجته، وبفضل الله ورضا الوالدين تيسّرت الأمور، وأنجبت بعد عشر ساعات من الطّلق والصّراخ.
– نحمد الله ونشكره يا ولدي. وفي هذا اليوم أيضا أنجبت صابرين بنت عمّك عزّالدّين بنتا في مستشفى “هداسا” الإسرائيليّ.
– مباركة.
– “الدّنيا آخر وقت يا أسامة”صابرين أنجبت بعد ستّة أشهر من زواجها!
– ماذا تقصدين؟ هل أنجبت بنتا “خداجا”؟ ماذا قال الأطبّاء؟ هل المولودة كاملة الخَلْقِ؟
– لا يا ماما، المولودة “الرصاصة بتزحلق عن عينها” كاملة ووافية، ووزنها ثلاثة كيلوات ونص الكيلوغرام، ويا ربّ تغفر لنا.
لم يفهم أسامة ما ترمي إليه والدته فسألها:
إذن أين المشكلة؟
ضحكت أمّه وقالت: “ربنا يستر على كلّ النّساء” واضح أنّ صابرين قد حملت قبل الخطبة والزّواج!
استغرب أسامة وقال:
اتّقي الله يا أمّي، هذا كلام خطير، فالله تعالى يقول:” وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .”
شعرت أمّ أسامة بتأنيب الضّمير بعد أن سمعت كلام ابنها وقال وهي تستغفر الله:
هذا ليس كلامي يا أسامة، بل هذا ما يقوله النّاس.
– ما لنا وللنّاس يا أمّي، وصابرين متزوّجة، وكلّ النّساء المتزوّجات يحملن ويلدن.
تظاهرت أمّ أسامة بالبراءة وقالت:
ربنا يستر على خلقه. لكن قل لي:
كم كيلوغرام وزن سعيد الصّغير.
– لا أعرف يا أمّي، قلت لك أنّ جمانة أنجبته في البيت، ولا يوجد عندنا ميزان، لكنّه ورغم وسامته، إلا أنّني لم أجرؤ أن أحمله بيديّ خوفا عليه، وعندما أذّنت بأذنيه -حسب السّنّة- قرّبت فمي من أذنه دون أن ألمسه.
ضحكت أمّ أسامة وقالت:
أبوك من قبلك لم يحمل أيّ واحد من أبنائه وبناته قبل أن يحبو ويصل إليه. أعطني جمانة لأهنّئها بسلامتها وسلامة المولود.
أمسكت جمانة الهاتف من أسامة وقالت:
أهلا بك يا خالتي.
– مبارك ابنك والحمد لله على سلامتك.
– بارك الله بك وسلّمك.
وفجأة تغيّرت لهجة أمّ أسامة وقالت:
اسمعي يا جمانة، إيّأك أن تتكاسلي بسبب الولادة، فلا يوجد عندك من يساعدك، كوني نشيطة، أرضعي ابنك جيّدا، ونظّفيه باستمرار، وحضّري الطّعام لزوجك، اعتني بأمور البيت كلّها، وإيّاك أن تستغلي ولادتك؛ لتتدلّلي على زوجك، الزّوج أغلى من الابن، -إذا مات الابن -لا سمح الله- فإنّ أمّه تستطيع إنجاب غيره، لكن إذا خسرت زوجها فمن الصّعب عليها أن تجد زوجا آخر.
تغيّر لون جمانة، نظرت إلى أسامة وهي تقول:
توكّلي على الله يا خالتي، أسامة في قلبي وسعيد في عينيّ.
تناول أسامة الهاتف من زوجته وقال لوالدته:
مع السّلامة ماما.
هو في الواقع تشاءم من حديث والدته، واستغرب حديثها عن ابنه، لم يستوعب ما قالته عن “موت الابن”، فهذا غير معقول، والمثل يقول،” ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”، لم يبح بما يدور في ذهنه لزوجته، لكنها سألته بخبث:
ما بك يا أسامة؟
– لا شيء.
– ضحكت وقالت: لا تكن حسّاسا من كلام أمّك، فهي لا تقصد ما فهمته أنت.
تظاهر بالغباء وسأل:
عمّ تتكلّمين؟
– لا تغضب ممّا سأقوله يا أسامة، فوالدتك غيورة حتّى أنّها تغار من بناتها وزوجات أبنائها، ومع أنّها في سنّ اليأس إلا أنّها تتمنّى أن تحمل وتلد كلّما رأت امرأة حاملا أو والدة جديدة.
حاول أسامة أن يتجاهل ما قالته زوجته؛ مع قناعته بصحّته، وهو يدافع عن والدته من باب برّ الوالدين.
في المستشفى سألت موظّفة التّسجيل يونس عن الاسم الذي اختاره لابنته، فأجاب: جورجيت.
التفتت إليه الموظّفة وقالت:
اسم جميل.
ردّ عليها ضاحكا: هذا اسم أوّل امرأة أحببتها.
في بيت يونس أقاموا احتفالا صاخبا بالمولودة الجديدة، وزّعوا الكثير من الحلوى، باقات الورود تقاطرت مع المهنّئين، فملأت جنبات البيت، أمّ صابرين تواصل تنظيف بيت صابرين دون كلل، ظنّها بعض المهنّئين خادمة، لم يقبل يونس أن تنام حماته في بيته؛ لتبقى قريبة من ابنتها ومن حفيدتها، قال لها بلهجة جافّة:
إذا كنت تشتاقين صابرين وجورجيت: خذيهما معك!
استغربت أمّ صابرين ما قاله يونس، حملت بقايا جسدها وخرجت دون استئذان، كانت السّاعة قد اقتربت من العاشرة ليلا، لحق بها ليوصلها بسيّارته، جلست بجانبه على مضض، فلا خيارات أخرى أمامها، أقسمت بينها وبين نفسها أن لا تدخل بيت يونس مرّة أخرى.
عندما عاد إلى بيته سألته صابرين:
أين أمّي يا يونس؟
ردّ عليها بفتور:
أوصلتها لبيتها بناء على طلبها.
استغربت ذلك وقالت:
هذا غير معقول، لقد أخبرتني أنّها ستبيت عندنا لرعاية جورجيت.
– غدا ستعود الخادمة من إجازتها، وستعتني بجورجيت وبك وبالبيت.
في اليوم التّالي هاتفت صابرن والدتها، وسألتها:
هل ستأتين إلينا هذا اليوم؟
ردّت والدتها بهدوء: لا داعي لذلك، فعندك خادمة.
مضت ثلاثة أسابيع وأمّ صابرين لم تزرها، شعرت صابرين أنّ والدتها قد تكون غاضبة من تصرّف غير لائق من يونس، فقرّرت أن تزورها هي، عندما عاد يونس ثملا عند منتصف الليل قالت له:
سأزور والدتي غدا.
ردّ عليها مترنّحا:
لا مانع لديّ، وأقترح أن تبقي عندها أسبوعين أو أكثر؛ كي تعتني بجورجيت حتّى تتعافين من تأثيرات المخاض.
مكثت صابرين أسبوعين في بيت والديها، بعدها عادت إلى عشّ الزّوجيّة عصر يوم مشمس، فتحت باب “الفيللا” بهدوء، بعد أن رأت سيّارة يونس باب البيت، وكانت المفاجأة عندما وجدت يونس عاريا بين فتاتين عاريتين على السّرير، جنّ جنونها، وضعت ابنتها على الأرض وهجمت عليهم، وهي تشتمهم بصوت عال، أمسك يونس يديها وقال لها:
اخرسي أو عودي إلى بيت أهلك.
وهذا ما فعلته، حملت طفلتها وعادت باكية إلى بيت أهلها.
أخبرت والدتها بما حصل فقالت لها:
لا تخبري أحدا عمّا تقولين، لا تفضحي نفسك فيشمت بك الآخرون، يونس رجل لا يعيبه شيء، لكنّه يبقى زوجك، وهذا خيارك، فتحمّلي أفعاله، و”غُلُب بستيرِه ولا غُلُب بفضيحه”.
أمضت صابرين أيّامها باكية، وبعد أسبوع جاء الوجيه أبو محمود -الذي شارك بطُلبتها- إلى بيت عمّها أبي أسامة، بعد أن احتسى القهوة قال:
الذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق.
تفاجأ أبو أسامة بما سمع وسأل:
ما الدّاعي لهذا الكلام؟
حوقل أبو محمود، أخرج ورقة من جيبه وقال:
“ما على الرّسول إلا البلاغ” هذه وثيقة طلاق لصابرين بنت أخيك المرحوم عزّالدّين، وزوجها ووالده كلّفاني أن أنقلها لكم، وأن أخبركم أنّهم جاهزون لدفع كل ما تطلبونه.
تساءل أبو أسامة:
ما الدّافع لهذا الطّلاق؟ هل رأى على البنت شيئا معيبا- لا سمح الله-؟ ما هي أسبابه.
– أنا لا أعلم شيئا، وكما قلت لك، فما أنا إلا ناقل رسالة، ويونس قال بأنّه يسامح صابرين بمصاغها وسيّارتها، ويوافق على حضانتها لابنتها، مع نفقة شهريّة، وسيدفع لها أيضا عشرين ألف دينار، والبيت مفتوح لها؛ لتأخذ منه ما تريد، وإذا لم تقبلوا عرضه فالجأوا للمحكمة واعملوا ما يحلو لكم، وبما أنّ “الدّين النّصيحة” فنصيحتي لكم أن تقبلوا بما يعرضه عليكم، وهو عرض سخيّ، فالرّجل مقتدر، ولا أحد يستطيع مقارعته.
أمّا فاطمة زوجة عمّها سعيد فقد قالت شامتة:
هل تذكر ما قلته لك يا أبا أسامة؟
– ماذا قلتِ يا امرأة؟
– قلت لك زواج صابرين ليس زواجا عاديّا، فقد حملت من يونس سفاحا قبل زواجها منه، وهذا ما أرغمه على الزّواج منها، وبعد أن أنجبت طلّقها دون أن يسأل أحدا.
ردّ عليها غاضبا: لا أريد أن يسمع أحد هذا الكلام منك أو من غيرك، ومن حلّل الزّواج حلّل الطلاق. ويونس ووالده أثرياء يتعاملون مع المرأة كلعبة، يتمتّعون بها كيفما يشاؤون ويستبدلونها عندما يريدون ذلك، وما تقولينه ليس واردا في حساباتهم.
عندما أوصل أبو أسامة ورقة الطّلاق لصابرين، صعقت، بكت بحرارة، لطمت خدّيها، انزوت على فراشها كئيبة تستعيد ذكريات بداية علاقتها بيونس، فلامت نفسها، وها هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع فعل شيء، لم تقل شيئا، لكن والدتها وبحضور رائد شقيق صابرين قالت:
لا أسف على فراقهم، لا نريد منهم شيئا، فليأخذوا مالهم وابنتهم و”الخلاص منهم غنيمة”.
ردّت صابرين بذلّ ومسكنة:
حضانة ابنتي لي.
فقال شقيقها رائد: نسأل الله أن يريحنا من البنت وممّن خلّفاها.
التفت عمّه أبو أسامة إليه بنظرة عتاب وقال:
حضانة ابنتها من حقّها.
*****
في الرّياض واصل أسامة اضطهاده لجمانة ظنّا منه أنّ تصرّفاته حقّ منحه الله له، تحمّلته جمانة مغلوبة على أمرها، فهي بعيدة عن أهلها ولا تجد من تلجأ إليه. اعتقدت أنّ أسامة سيغيّر تصرّفاته معها بعد أن أنجبت ابنها البكر، لكنّ أمنياتها كانت صرخة في فضاء صحراء خالية.
في عيد ميلاد طفلها الأوّل قالت لأسامة:
ما رأيك أن نعمل احتفالا متواضعا بعيد ميلاد سعيد؟
انتفض أسامة وقال:
أعوذ بالله من هكذا عمل، فهذه بدعة سيّئة فيها تقليد للكفّار، وفي ديننا لا يوجد إلا عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى.
ردّت جمانة بهدوء مع أنّ في داخلها مرجل غضب يغلي:
ما المخالفة الشّرعيّة عندما نحتفل بعيد ميلاد ابننا؟ ولماذا تقام احتفالات دينيّة في ذكرى المولد النّبويّ الشّريف؟
– لقد قلتِها بنفسِكِ، ذكرى المولد النّبويّ، هي ذكرى وليست عيدا.
التقطت جمانة ما قاله وردّت عليه:
إذن سنحتفل بذكرى مرور عام على ميلاد ابننا.
– فليكن، سأشتري لسعيد ثوبا جديدا، سنداعبه حتّى ينام، وجهّزي نفسك؛ لتحملي بشقيق لسعيد.
مضى عامان على وجود جمانة في الرّياض، كظمت غيظها، تحمّلت أسامة بخيره وشرّه، لم تعص له أمرا حتّى إنّه اقتنع بأنّها سعيدة بزواجها منه. لم تشكُ لأحد، فهي لا تريد إزعاج والديها وشقيقاتها، عدا أنّ مهاتفتهم كانت من هاتف أسامة الخلوي، الذي يسمع كلّ كلمة تقولها معهم. لكنّها كانت سعيدة بطفلها الذي ملأ حياتها، وكسر حاجز عزلتها.
في عطلة المدارس الصّيفيّة، عادوا إلى الوطن، عندما وصلوا بيتهم، سعد والدا أسامة بحفيدهم الجديد، الذي احتضنته جدّته بشغف لافت، لكنّها لم تكن ودّية في علاقتها مع جمانة. عندما حضر والدا جمانة وشقيقاتها للسّلام عليهم، استقبلتهم جمانة بدموع الفرح ظاهرا، لكنّها تحمل في ثنايها حزنا وشكوى دفينين.
بعد أسبوع من وصولهم، استأذنت جمانة لزيارة بيت والديها، حملت ابنها في حضنها، عندما دخلت البيت، سلّمت طفلها لشقيقتها تغريد، التي أشبعته تقبيلا، بينما انفرطت جمانة باكية، استغربوا بكاءها، لكنّها أفصحت عمّا بداخلها قائلة:
لن أعود إلى أسامة مهما كلّف الثمن، وإذا لم يوافق على تطليقي سأرفع عليه دعوى خلع.
دهش أبوها ممّا قالته، لكنّها شرعت تقصّ عليهم ما عانته، وبيّنت لهم استحالة العيش معه، حتّى أنّها قالت:
أحمد الله أنّني لم أفقد عقلي خلال هذين العامين.
حاول والداها ثنيها عن قرارها، وقالت لها والدتها:
كلّ الأزواج يختلفون، وهذه سنّة الحياة، ولو أنّ كلّ امرأة تغضب من زوجها تخلعه، لما بقيت امرأة على ذمّة زوجها.
فردّت جمانة باكية:
قراري ليس ناتجا عن غضب في مشكلة معيّنة، ولو كان ذلك كما تقولين، لتحمّلته، لكنّ أسامة لم يحترم إنسانيّتي يوما ما، فالرّجل غريب في تصرّفاته، لديه معتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، وتعامل معي كدمية لا قيمة لها، وبالتّالي فإنّني اتّخذت قراري بعقل ورويّة، ولو كنت في الوطن لما تحمّلته هذين العامين اللذين كنت أعدّهما بالدّقيقة.
قال لها أبوها:
فكّري بالموضوع جيّدا يا بنيّتي، ولا تنسي أنّك أمّ لطفل.
ردّت عليه بلهجة حزينة:
مضى عامان يا والدي وأنا في عذاب، فكّرت كثيرا، وتحمّلت الويلات وقد نفذ صبري، لن أعود زوجة لأسامة ولن أتخلّى عن ابني، فحضانته حقّ لي.
وممّا عانيته من أسامة سأرفض الزّواج مرّة أخرى من أيّ رجل.
عند مساء ذلك اليوم، اتّصلت أمّ أسامة هاتفيّا، تريد أن تعود جمانة بطفلها إلى بيتها، فردّ عليها أبو جمانة بأنّ جمانة مريضة، ستعود إليهم عندما تتعافى من مرضها.
بعد يومين زار أسامة بيت أنسبائه، احتضن طفله الذي كان مع جدّته لأمّه، سأل عن جمانة التي لم يرها، فقال له والدها:
عندما تتعافى ستعود إليك.
لكنّ جمانة خرجت إليه وقالت له:
لم أعد قادرة على احتمال العيش معك يا أسامة، والذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق، فإذا قبلت قراري وطلقتني سأكون شاكرة لك، ولا أريد منك شيئا، وإذا رفضت تطليقي سأرفع عليك دعوى في المحكمة للتّفريق بيننا.
بهت أسامة ممّا سمع وقال:
فكّري جيّدا يا جمانة، وإذا بقيت مصرّة على الطّلاق فلك ذلك، فأنا أخاف الله، ولا أقبل العيش مع زوجة ترفضني.
ردّت عليه: وأنا أؤكّد لك أنّني لا أستطيع العيش معك، ولن أعود زوجة لك، وأتمنى أن تجد زوجة أخرى تقبل تصرّفاتك التي تغضب وجه الله.
انتفض أسامة وخرج من البيت غاضبا وهو يقول:
أنت طالق يا جمانة.
وما أن سمعت جمانة كلمة الطّلاق حتى رقصت فرحا، وأطلقت زغرودة مدوّية.
أخبر أسامة والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته:
لا ردّها الله، وقد فعلت خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها.
انتهى
الثّاني من صفر 1441 هجري.
الموافق: الفاتح من سبتمبر 2019.

جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة شهور.
– عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع الناس، ورئيس تحرير لصحيفة الصدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع الناس”
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الاداريّة المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني.
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012″.
– أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار العام 1991وحتّى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015″.
– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017؟

اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.
– عند بوابة السماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.
روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
– “اللفتاوية” رواية لليافعين. دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2017.

قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
– ميرا تحبّ الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.
– النّمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
– كنان وبنان يحبّان القطط- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
أدب السّيرة:
– أشواك البراري-طفولتي، سيرة ذاتيّة، مكتبة كل شيء-حيفا 2018.
– من بين الصخور-مرحلة عشتها، سيرة ذاتية، مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
أبحاث في التّراث.
– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرّواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002

– ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017.
أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات