هواجس أسيرة لكفاح طافش في ندوة اليوم السابع

ه

القدس:31-5-2013 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الدورية الأسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس كتاب”هواجس أسيرة” للأسير الفلسطيني كفاح طافش، ويقع الكتاب الصادر هذا العام 2013 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في 239 صفحة من الحجم المتوسط.

أدارت الأمسية د. اسراء أبو عياش وبدأت النقاش مركزة حول “أنسنة” السجين في هذا الكتاب.

وممّا قاله ابراهيم جوهر:

ثورة في التعبير وبيان في التفصيل

لم تأكل سنوات الاعتقال روحه فظلت متوهجة واعية عارفة مراميها وواقعها، فرصد ظواهر المعتقل وأضفى عليها من وعيه وحبر روحه المسؤول ما يقدّمها للقارئ ظاهرة إنسانية تستحق الدراسة والتحليل العميقين.

الأسير (كفاح طافش) يقدّم لقارئه في كتابه (هواجس أسير) مجموعة من الهواجس التي لا يدريها إلا من خبرها وعاش تفاصيلها. وهو يشير إلى هذا الجانب التضامني الذي يتذكر الأسير في المناسبات…. ثم يتوه في الانشغال بالطارئ اليومي ليظل الأسير في جمر معاناته الإنسانية وهي تلبس لبوس البطولة والخوارق وواجهات الإعلام التي تتناول سطح الفكرة وقشرتها الخارجية.

الكاتب هنا في هذه الهواجس التثقيفية الواعية يصدم قارئه، ويفاجئه. إنه يعمل على تأثيث واقع حقيقي طالما أشبع ببطولات خارقة عابت على الإنسان التعبير عن بعض إنسانيته ؛ في بكائه، أو عشقه، أو غيرها من ضرورات الإنسان المرافقة لإنسانيته.

هذه كتابة واعية نابعة من وجع، ومعاناة، وخبرة، ووعي. فيها الجرأة في الطرح، والأمانة في النقل، والبلاغة في التعبير؛ في اللغة وفي زوايا التناول غير التقليدية تلك التي لا يستطيع الوقوف عليها ونقلها والتعبير عنها سوى قلم واع مثقف بالمعاناة والانتماء والوعي .

إنه ينتقد قولبة الأسير التي تقولبه في قالب جاهز شعاره البطولة وكأنه إنسان خارق. هنا نجده ينقل إنسانية الأسير في دقائقها الإنسانية البسيطة، الضعيفة، العادية…فهو يبكي، ويخاف، ويحسب، وينتظر، ويحلم، ويحب… هذه المشاعر والانفعالات التي غيّبت لصالح الأسير (السوبر مان) نجده يخبرنا أنها باطلة تصادر إنسانية الأسير من باب قصدها تثبيته والإعلاء من شأنه.

يلفت الانتباه في (هواجس أسير) هذه الحميمية في اللغة والوصف والحوار ونقل الأقوال، وهذا الغوص الجميل الواعي للألوان، والصورة الفوتوغرافية، وهذا التوصيف الحي بالكلمة والصورة والموقف ورائحة المكان ، وحرارة الموقف أو برودته ، وربما خسّته ونذالته.

إنه ينقل عالما حقيقيا من المعاناة المتواصلة لأربع وعشرين ساعة يوميا بلا توقف. فيها يحاور الأسير ذاته ورفاقه وهواءه. يحاور الحديد والباطون ليحفظ إنسانيته ، ولكي لا ينسى متطلباتها … وهو يصف تعليقات الأسرى ، أو ينقل حديث الوالدة وهي تحسب حساب ابنها المعتقل على مائدة الطعام….وغيرها من المواقف، إنما ينقل نبضا يعيشه القارئ بحرارته وأبعاده.

هنا تصير اللغة حاملة هواجس وأحاسيس ومواقف؛ فيها الصورة الحية النابضة، واللون ، والحركة.

هذه نصوص أدبية فيها من التميز والجمال والمعلومة الكثير.

قسّم (كفاح طافش) هواجسه إلى هواجس مفردة حمل كل منها عنوانا معبرا عن مضمونه. وهي في محصلتها الكلية تقدّم للقارئ شخصية الأسير- الإنسان العادي القريب من القلب والتصوّر، لا ذاك (السوبر) الخارق البعيد عن الواقع.

تميزت لغة الكاتب هنا بالشفافية والشعرية والمجازات . إنها لغة أدبية راقية تشير إلى تمرّس كاتبها في الكتابة الإبداعية.

هذا الكتاب نصّ أدبي توثيقي راق فيه ميدان خصب لدراسة الأسير دراسة نفسية-اجتماعية جادة.

وقال عماد الزغل:

يعد كتاب “هواجس أسير” للكاتب الأسير كفاح طافش نموذجا جديدا وفريدا لأدب السجون، ذلك أنه حطم كل المحرمات “والتابوهات” التي يخطر الحديث عنها في أدب الحركة الأسيرة الفلسطينية، ولذلك فهو إصدار يستحق القراءة والتحليل.

ويقع هذا الإصدار الجديد الذي أصدرته دار الجندي للطباعة والنشر في القدس في مئتين وأربعين صفحة من القطع الصغير ، وقد رأى النور بعد عامين تقريبا من تحرير الكاتب له، حيث ذيّل الكاتب آخر صفحة له بتاريخ حزيران 2011

الكاتب الذي ما زال يكتب بوعي الأسير الفلسطيني، لأنه ما زال في السجن يقضي حكما لمدة ثماني سنوات، قضى منها سبع تقريبا، عالج قضية الأسرى وما يلاقونه من ألم ومعاناة داخل القبور الاسمنتية كما يسميها الكاتب بطريقة جديدة بعيدة عن الخط التقليدي الذي ينتهجه الأسرى الفلسطينيون في كتاباتهم، بتدوين المفاخر والبطولات الحارقة، وكسرهم لإرادة السّجان بالإضرابات الطويلة عن الطعام وانتهاج حياة الزهد والمقاومة داخل جدران السجن، فسلط الكاتب الضوء على الأسير بوصفه إنسانا يعاني من أزمات نفسية وسلوكية بل وأخلاقية داخل جدران السجون، وهذا ما هو محظور في أدب الحركة الأسيرة لأنه يوحي بانهزامية الأسير أمام السجان الصهيوني، ويسجل نجاحات لمصلحة السجون في تحطيم الأسرى وقهرهم وتشويه نفسياتهم والنيل من إرادتهم.

الكتاب الذي قسمه الكاتب الى هواجس يمكن تصنيفه ضمن المذكرات الشخصية التي تضيء جانبا من حياة الكاتب، وهي سيرة متجزئة تبين جانبا من حياة الكاتب وهو في الأسر، ومصطلح “هواجس” مناسب لأنه ينطبق على ما كتبه الكاتب بوصفه تصويرا لخلجات نفسه وأحاسيسه ومشاعره داخل السجن منذ بدء التحقيق معه إلى أن استقرت أحواله داخل السجن لقضاء فترة محكوميته الطويلة نسبيا.

كفاح طافش الأسير الذي ينتمي الى اليسار الفلسطيني لا ينسى أي مفردات المعاناة التي يلاقيها الأسرى الفلسطينيون بدءا بالتحقيق والشبح والتعذيب النفسي، مرورا بغرف العار أو ما يعرف بغرف “العصافير” وهو مصطلح مرادف “للعملاء” في قاموس الأسرى الفلسطينيون، وتعريجا على البوسطة وهي السيارة التيس تنقل الأسرى “والأبراش” وهي التي ينام عليها الأسرى، وهي مصطلحات مألوفة لكل أسير فلسطيني.

وقد تمتع الكاتب بالجرأة البالغة في طرح قضايا الأسرى، فقد اعترف أنه سقط في فخ العصافير على الرغم من حزنه الشديد، ولم ينس أن يضيء جانبا لا يتجرأ أحد على الحديث عنه، وهو قضية اللواط بين بعض الأسرى، كما لم ينس أن يصور خلجات نفسه بل وأحلامه لا بالحريه بل المشاهد الجنسية التي كان يراها في منامه، وهذه أول مرة في حدود ما أعلم يعالج فيها كاتب قصيدة الجنس في حياة الأسرى الفلسطينيين.

لقد صور الكاتب نفسية السجين في أدق تفاصيلها مسقطا ذلك على نفسيته التي كانت تعاني الوحدة والألم بعيدا عن الأهل، وعن المتغيرات التي تحدث خارج القضبان، مشيرا بإصبع الاتهام أحيانا الى انه لا يشعر بالسجين ولا بآلامه إلا من يعاني مثل معاناته، ناقدا عبارة “السجن للرجال” لأن السجن في نظره يصيب السجين بتشوهات نفسية تترك أثرا بالغا على السجين حتى بعد خروجه من السجن.

بل ان الكاتب يتحدث عن حالة تشبه الجنون تصيب الأسرى، فهو يخاطب فرشته وكأسه وكرسيه ويجري حوارا معها، فالفرشة تشكو من كثرة استمنائه، والكرسي ملّ منه وكذلك الكأس، فحتى الجمادات تمل حياة الرتابة داخل السجن.

والكاتب لا ينسى الوحدة الشعورية التي تفصله عن الأسرى على الرغم من أنه يعيش معهم، فالسجن يجبرك على ان تعيش مع من تختلف معهم في الميول والاتجاهات والنزعات النفسية وهذا يؤثر سلبا في نفسية الأسير، وهو من أشد ألوان المعاناة داخل نفوس الأسرى.

أما لغة الكاتب في لغة شاعرة محلقة مفعمة بالصور والمجازات والتشبيهات والاستعارات حتى انك تضل طريقك وأنت تقرأ سطوره، وتتعب من داخل العبور ولا تعرف الراحة إلا عندما يستقر بك على الأرض في بعض السطور التي يستخدم فيها الألفاظ على حقيقتها في معرض السرد للأحداث التي مر بها الأسير، فالكاتب يمتلك ناصية اللغة الشعرية في الوصف ويستطيع التعبير بكل دقة وتصوير أدق خلجات النفس التي يشعر بها الأسير داخل السجن.

ولا ينسى طافش أن ينقلك أحيانا خارج السجن فيصف أهله واحدا واحدا، ويصور علاقاته معهم كبيرا وصغيرا من عرفه ومن لم يعرفه راسما صورة لحضور كل واحد منهم في حياته ومدى حزنه على فراقه.

إن طافش قد نقلنا من عوالم التحدي والبطولة الخارقة للأسطورة الفلسطينية خلف القضبان والتي جسدها العيساوي ومن قبله عمر القاسم واسحق مراغة، وعبد الصمد حريزات الى المعتقل الإنسان الذي يواجه معاناة نفسية وسلوكية، فهو ينقلنا من المعتقل البطل الى المعتقل الإنسان وهو ما يعتبر إضافة جديدة لأدب السجون.

وقالت رشا السرميطي:

لازال عشاق اللغة يجتمعون هناك، وعلى مقاعد الحوار والنِّقاش يتبادلون أطراف الحديث، ذاك يذمُّ والآخر يثني، وكلاهما مبحر في مدّ وجز الكلمة، المحمولة على أسطر القراءة، بلا مجاديف، لازال الحرف في وطني زورق يتابع مسيرته، حيث المجهول، رغم ضعفه وما لا يعرفه إلا القليلون.

كان العنوان: كفاح طافش. والرسالة المرجوة، هواجس أسير، كتاب يتألف من 240 صفحة، لها من الجيوب آلاف الصفحات التي لم تظهر علانيَّة، اختبأت بها كنوز البوح، كاتبنا الذي لا يزال أسيراً منذ سبعة أعوام، والحريَّة باتت منه قريبة، بأجنحة الصُّمود والأمل، طارت إلينا أبجديته، وحطت أمام أعيننا، لأجد الحزن والألم والبكاء المحبوس، ضيوف اجتماعنا.

والسؤال الأقسى، أتراها هواجس لإنسان أم وقائع يعيشها الأسير الفلسطيني؟ اختلطت الآراء والأفكار، وتنوعت التحليلات والإضافات والتجارب خاصة وعامة، اتفق بها الحاضرون، أنَّ الأسير الفلسطيني يعاني جور سجانين، فالأول قسري والآخر نحن من نجبره عليه، عبر رحلة ورقيَّة، اطلعت على ما لم أكن أعرفه، وأخذتني النداءات على بساط  نحو الضياء.

الكاتب طافش يحكي هواجسه الشخصية داخل السِّجن، وأنا أنصت لهواجس الإنسانية خارج السجون. كم منا لم يجرؤ على كتابة ما يفكر فيه حتى الآن؟ وكم لن يجرؤ؟

كتاب غني بأسلوبه اللغوي، وطريقة سرده وبساطة بوحه، رغم امتلائه بزحمة الأفكار التي قد ترهق القارئ المتأمل، إلا أنه مرفأ سكينة للكثيرين من الأسرى والأحرار، دام القلم في وطني حراً.

وقال جميل السلحوت:

أدب السجون في فلسطين

الكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السجون العثمانية في أواخر العهد العثماني، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشهيرة عام 1930تخليدا للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة” ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان، وعناق الأصابع لعادل وزوز”، و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي،و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2004 صدر كتاب(أبو العز في السجون الاسرائيلية)للأسير المحرر محمد حسن أبو حامد غيث، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرمل” لنافذ الرفاعي، ورواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وفي العام 2011 صدر كتاب(الف يوم في زنزانة العزل الانفرادي) للنائب مروان البرغوثي وكتاب”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، ورواية “سجن السجن” لعصمت منصور، وفي العام 2013 صدرت رواية(برد الصيف) لجميل السلحوت، كما صدر سابقا أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون أيضا. ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن.

وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، مع التذكير أنها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا.

كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضا، فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط. وكتب فاضل الغزاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لاترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر

وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)

أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة ، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث : نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي.)

كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكرا على الفلسطينيين والعرب فقط ، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي في روايته”منزل الأموات” فالسجون موجودة والتعذيب موجود في كل الدول منذ القديم وحتى أيامنا هذه، ولن يتوقف الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

أمّا بخصوص كتاب”هواجس أسير” للكاتب الفلسطينيّ الأسير كفاح طافش من جنين والمحكوم ثماني سنوات والذي نحن بصدده الآن.

عنوان الكتاب:

في اللغة:هجس الأمر في صدره:خطر بباله

والهَجْسُ:الصوت الخفيّ يُسمع ولا يُفهم. وكلّ ما يدور في النفس من الأحاديث والأفكار.

سيجد القارئ لهذا الكتاب أنه أمام نمط جديد من الكتابة عن الأسْرِ والأسرى، فهو لا يقدّس ظاهرة الأسر ولا الأسرى، بل يتعامل معها كما هي، فهو يخاطب الرئيس الراحل ياسر عرفات قائلا:”هناك الكثير من أبناء شعبك الموجودين في السجن حثالة هذا المجتمع بل أرذلة”ص12  وهو يؤكد على أن” سيبقى السجن مكانا مجتمعيا يحمل في ثناياه آلاف البشر من الفئات كلّها”ص12

فعن أيّ مجتمع في السجن يتكلم الكاتب الأسير؟ وماذا يريد من ذلك؟ إنه يطرق بابا لم يطرقه غيره كتابة من قبل، وهو هالة”التقديس” التي يرسمها البعض لمن يدخلون سجون الاحتلال، ولا يمكن أن تبقى ثقافة التقديس هذه “ان السارق حين يسجن يبقى سارقا، والمنحرف أخلاقيا وجنسيا كذلك والعميل أيضا والكذاب…وكلّ هذه هذه الأنواع من البشر لن تتغير لمجرد رخصة الوطن التي يصكّها الاحتلال لمجرد اعتقال أحدهم”ص12 . وقد يتساءل المرء عمّا يريده الكاتب من كتابه هذا؟ وهو يجيب على ذلك بقوله”قرأت في إحدى الروايات”أننا نكتب الحدث لكي ننساه ونحذفه من ذاكرتنا” وهي محاولة لاخراج السجن من داخلي إذا ألقيه بعيدا بعد أن أضاع الكثير من البراءة والعفّة لديّ”ص10 وهو يريد أيضا أن يقدّم واقع السجن للإنسان الذي لم يعش التجربة، ولهذا فهو يطرح عدّة أسئلة على نفسه عندما شرع في الكتابة حول الموضوع ومنها: ” كيف يمكن أن أقدّم هذا الواقع لإنسان لم يعشه؟ كيف أستطيع أن أتجاوز أسطرة الحياة هنا؟ كيف سيقتنع الناس هناك أن السّجن ليس مكانا مقدّسا والناس هنا ليسوا أنبياء؟ كيف أستطيع منع وقوع الصّدمة التي هزت كياني حين دخلت السّجن لغيري؟”ص9 ، وهو في فلسفته الواقعية للحياة في السجون ينفي صحّة مقولة “السّجن للرّجال” ويتساءل:”من قال هذا؟ آه! أريد أن أتعرف اليه بكل كذبه وادعائه لأقف أمامه بعاهاتي وأواجهه بالحقيقة:أنا هنا وأنا أشكّ برجولتي”ص11 وهو هنا يفرق بين الرجولة والذكورة فيقول:”إن كان مفهوم الرّجولة كما يريدون فحولتك وقدرتك الجنسية، فلا أعتقد أن السّجن يمسّها بشكل عام، فأنت هنا تصاب بجوع جنسي لدرجة التوحش” ص11.. ومن وسط المعاناة يرى الكاتب الأسير “فالرجولة أن تحافظ على إنسانيتك أكثر من أيّ شيء آخر! وهنا من يستطيع؟”ص11.

والكاتب كان موفقا جدا باختيار عنوان كتابه”هواجس أسير” فهو يبوح بكلّ ما يدور في نفسه من أحاديث وأفكار يتهيب كثيرون من البوح بها، لأنها تتناقض مع الفكر السائد والمغلوط حول تقديس الأسرى، فظاهرة الأسْرِ ليست مجالا للفخر، بمقدار ما هي استلاب لإنسانية الأسير، وهذا الأسير هو انسان من لحم ودم، وليس أسطورة خرافية، وبالتالي فإنه يمرّ بحالات ضعف كما يمرّ بها غيره ممّن لم يعانوا من مرارة الأسر، والأسير الذي سلب المحتلون حريته، واحتجزوه خلف جدران صمّاء، يعيش مع أحبائه في الخارج بأحلام اليقظة، فهو يتذكّر الزوجة أو الفتاة التي يحب، ويجلد ذاته كثيرا لبعده القسري عنها، كم يتذكّر والديه وأطفاله إن كان أبا، أو أشقاءه وأبناء أقاربه الأطفال، يتذكر بحنين بالغ مداعباته لهم قبل وقوعه في الأسر، ويسرح بأحلامه وخيالاته حول نموّ هؤلاء الأطفال وكيف تتطوّر لغتهم؟ وكيف تطول قاماتهم؟ وينقل له الأهل الزائرون أحاديث بعض الأطفال من الأقربين عن ذكرياتهم معه، مما يشعل نار الشوق الجارف لهم، لكن الشوق للزوجة أو لفتاة الأحلام يأخذ منحى آخر، فيؤجّج غريزة الجنس بشكل”وحشيّ” كما وصفها الكاتب الأسير، وهو لا يرى ضيرا في الحديث عنها لأنها جزء هام من احتياجات الانسان، وهو ينفي ما يعتقده البعض بأن المناضل:”لا يضعف ولا يحب ولا يبحث عن لذّاته وحاجاته البشرية، فله وظيفة فقط واحدة”النضال”ص27. ويؤكد هو “أنا هنا الأنثى سؤالي الدائم،حيرتي الملحّة يوميّا أبحث عنها في عيون الأمل……………..فهي فاكهة العمر ومستقبلي”ص27.

فالانسان بطبعه وما فُطر عليه يميل الى نصفه الآخر ويعشقه ويشتهيه،  وبما أنّ الأسرى محرومون من رؤية الجنس الآخر، فهم لا يرون في الزيارة-إن أتيحت- إلّا الأمّ والشقيقة والزوجة والبنات للمتزوجين منهم، والأسير عندما يرى زوجته تؤجّج نار الشّهوة في جسده لكنه يطوي آلامه ومعاناته، وهذا وضع انساني يحاول البعض الهروب منه، وفي الحركة الأسيرة كانت محاولات وتجارب لمعالجة هذه القضيّة، مثل منع الأسرى من ممارسة العادة السّريّة، ومراقبة الأسير عندما يدخل الحمّام لقضاء حاجته كي لا يستغلّها فرصة لممارسة هذه العادة، لكنها  أثبتت فشلها، خصوصا بعد انكشاف بعض عمليات اللّواط بين الأسرى، وفي حادثة ما ضبط العشرات يمارسون الّلواط مع شاذ جنسيا تعرض للاغتصاب عنوة من أحد أقاربه قبل الأسر، فأصيب بالشّذوذ، فأطلقوا على تلك العمليّة” القطار” لكثرة من اصطفوا خلفه لممارسة الجنس معه، كما تمّ قبل ذلك تحرّش بعض كبار السّن –مّمن أمضوا سنوات طويلة خلف القضبان- ببعض الأشبال، وجرى التكتّم على ذلك، الى أن انفضحت الأمور، فتمّ التراجع عن قرار “منع ممارسة العادة السّريّة” بل جرى التندر بها والسماح لمن يريد ذلك بممارستها.

وقد تطرق الكاتب الأسير أيضا الى ظاهرة العملاء داخل السجون والذين اصطلح الفلسطينيون على تسميتهم بـ “العصافير”، خصوصا في مرحلة التحقيق، وكيف يتم استعمالهم للايقاع بالأسرى بطرق مختلفة ليعترفوا بما يدينهم أمام المحاكم، وهم يتلوّنون بطرق مختلفة فتارة يمثلون دور المؤمنين المتقين، وتارة دور القادة المناضلين الحريصين على المعتقل، ويريدون معرفة ما لديه من علاقات تنظيمية وغيرها ليرسلوها الى زملائهم خارج السجن بدعوى أخذ الاحتياطات، وتارة يأتون بشخص كبير السّنّ ليمثل دور الأب الحاني على المعتقل كي يطمئن لهم ويدلي لهم بما لديه من معلومات أخفاها عن المحققين…الخ، والكاتب الأسير في كتابه هذا  يطرح تجربته الاعتقالية وما تعرض له من “العصافير”.

اللغة والأسلوب: لغة الكاتب جميلة بليغة فيها صور بلاغيّة متعدّدة، وفيها فلسفة وفكر، والسّرد عنده مشوّق رغم مرارة المضمون.

الخلاصة: يركّز الكاتب على إنسانيّة الأسير فهو انسان في مختلف الظروف، له شهواته ورغباته وطموحاته وأحلامه، وفيه مكامن للقوّة وللضّعف وللصمود وللانهيار وغيرها. وهو في المحصلة ليس قدّيسا ولا انسانا مثاليا.ِ

وشارك قي النقاش عدد من الحضور منهم: سمير الجندي، ديمة السمان، محمد عليان، نبيل الجولاني ويحيى حشيمة.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات