نائلة أبو طاحون: رواية “رولا” لجميل السلحوت وقدسنا

ن

يعود بنا الرّوائيّ المقدسيّ جميل السلحوت ليكتب لنا عن حقبة تاريخيّة مهمّة وحرجة من تاريخ الصّراع الفلسطينيّ والمنطقة العربيّة، من خلال عمل روائيّ جديد ومتميّز “رواية رولا”  بعد أن كان قد رصد لنا في رواية سابقة “زمن وضحة” أحداث مرحلة شكّلت بداية هذا الصّراع . لكن كان رصدا ثقافيّا وفكريّا واجتماعيّا لمرحلة سياسيّة لا زالت آثارها ممتدّة حتى يومنا الحاضر، ثم يستكمل هذا الرّصد لواقع الحياة والمتغيّرات الفلسطينيّة في رواية “رولا” التي تشكلّ الجزء السّادس من مسلسله الرّوائيّ “درب الآلام الفلسطينيّ” لكن بالقاء دائرة أوسع من الضّوء لتشمل الحياة السياسيذة على الّعيد الفلسطينيّ والعربيّ، ولم يغفل الكاتب بكلّ تاكيد عن ابراز ما رافق ذلك من تغيّرات اجتماعيّة وفكريّة واكبت الواقع الفلسطينيّ في تلك المرحلة.

رواية – رولا –  التي صدرت في شهر نوفمبر 2015 عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس، تتحدّث عن مرحلة حرجة أخرى في التّاريخ الفلسطينيّ هي مرحلة النّكبة الثّانية لفلسطين،  واحتلال كامل التّراب الفلسطينيّ، إذ يمتدّ زمن الرّواية ما بين 1967- 1973-  أي بعد حرب حزيران 1967 والتي خسرنا فيها ما تبقّى من فلسطين، بما في ذلك جوهرتها القدس أيضا، بل وامتدّ الاحتلال ليشمل الجولان السّوريّة  وسيناء المصريّة.. هذه الحرب التي صفعت جبين الأمّة العربيّة عامّة والشعب الفلسطينيّ خاصّة، فما أفقنا من نكبة العام 1948حتى لحقتها هزيمة 1967 وما نتج عن ذلك من تمزّق نسيج المجتمع الفلسطينيّ في دول الشّتات واللجوء، والهجرة القسريّة والطّوعيّة إلى مختلف دول العالم .. هو زمن الهزيمة والانكسار والخذلان، إذ تتطرّق الرّواية إلى ما آل إليه الحال من تخاذل الموقف العربيّ للقضيّة الفلسطينيّة، وعدم الدّعم الجادّ إلا من خلال عبارات جوفاء هزيلة من الشّجب والاستنكار الخجول، ومن ثمّ الخلود في صمت مطبق .. وصوّرت الرّواية هذا الواقع المرير من خلال التّركيز على حادثة حرق المسجد الاقصى في 21-8-1969، ورواية تفاصيل تلك الحادثة الخطيرة وما رافقها من أحداث وتظاهرات عمّت كامل المدن الفلسطينيّةـ بما في ذلك الدّاخل الفلسطينيّ، وتستعرض الرّواية الآثار المدمّرة التي طالت المسجد الاقصى جرّاء ذلك الحريق المتعمّد؛ لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، ولطمس الهويّة الفلسطينية والتّراث الفلسطينيّ في القدس وبالتّالي الغاء الوجود الفلسطيني فيها.

فالقدس كانت ولا زالت جوهر الصّراع العربيّ الاسرائيليّ، والمساس بها وبمقدّساتها خط أحمر؛ لما لها من مدلول تاريخيّ، ثقافيّ، دينيّ وتراثيّ، وحالة الغليان التي ترافق هذه القضيّة تحتاج لمواقف عربيّة ودوليّة جادّة، لما لها من تأثير على كامل المنطقة العربيّة والدّوليّة ، لكنّ الرّواية تستعرض لنا حالة الضّعف العربيّ والاستكانة؛ ليقتصر بردوده من خلال شجب واستنكار وعبارات لا تقدّم ولا تؤخّر . هذا هو الموقف الذي استعرضته لنا الرّواية، لتنكأ الجرح الدّامي وتحرّك فينا ألَمّ ذلك الجرح .

ولكي يعمّق الكاتب قضيّة القدس أكثر فقد ترك أحداث الرّواية تدور داخل المدينة .. ويختار منها شخوصها أيضا، فها هي عائلة أبو كمال والد خليل بطل الرّواية، عائلة ريفيّة بسيطة تحيا وفق عادات وتقاليد وقيم بسيطة متوارثة، وأفكار لا تكاد تختلف عن أفكار تلك الطّبقة في تلك المرحلة، لكنّ الكاتب يقف ليصوّر لنا بعض التّغيّرات في الفكر والسّلوك التي طالت هذه الطّبقة، وبدأت تتسلل إليها رويدا رويدا. فها هي زينب فتاة تدرس في معهد بيرزيت، ومقيمة بسكن للطّالبات هناك، الأمر الذي لم يكن مألوفا في رواية” زمن وضحة”- بداية خمسينات القرن العشرين- إذ كان تعليم البنت وخروجها إلى مدرسة خارج حدود قريتها أمرا غير مألوف ولا مقبول؛ لنجد ذلك يتغيّر الآن ويصبح خروج الفتاة للتّعلم أمرا يقتضيه حالة الابتعاد عن بعض العادات البالية القديمة .

وممّا جاء في الرّواية  لفت الانتباه لسياسة التّجهيل الممنهجة من قبل المحتلّين، وتزييف المنهاج الدراسيّ  والحقائق التّاريخيّة، وكيف أنّ الطّلاب تسرّبوا من المدارس بحكم الواقع الذي فرض عليهم؛ ليلتحقوا بالعمل في ورشات البناء الاسرائيليّة، وكذلك الأهالي تركوا أراضيهم الزراعيّة بورا، بحجّة أنّ انتاجها مرهون بموسم الأمطار غير المنتظمة  وغير المضمونة، وحاجتهم لعمل يؤمّن لهم دخلا ثابتا، وهذا بالطّبع لا يخفى على أحد بأنّها إحدى السّياسات الصهيونيّة لسلخ الفلسطينيّين عن أرضهم ومصدر رزقهم،  وتجيير الأيدي العاملة منهم لصالح بناء المستوطنات ، لكن الرّواية تردّ على هذا التّزييف للحقائق بسرد حقائق تاريخيّة ثابتة بكل تفاصيلها، فللقدس حضور طاغ في الرّواية، فعلى أرضها تدور مجمل الأحداث وشخوصها هم من أبنائها … فما من موضع ذكر فيها اسمها إلا وتغزّل السّارد بجمالها، واستنشق عبق التّاريخ في معالمها . بوصف دقيق راح يحصي لنا معالمها ويذكر تفاصيل وحقائق عن أماكنها الدّينيّة والتّاريخية والاسلاميّة والمسيحيّة ، والرّواية مكتظة بأسماء لمعالم وجبال وبوابّات وقرى مهجّرة ويدوّنها ويخلد أسماءها، ويذكر تاريخها وما طالها من تدمير وتغيير على يد آلة البطش الصهيونيّة  لتمحو معالمها وتغيّر هويّتها، و كلّ ذلك ليحفظ للقدس مكانتها وتراثها وارثها وتاريخها، ويؤكّد تواجدنا وحقّنا المسلوب فيها، كاتبنا يعشق القدس ويظهر ذلك في كلّ تلك التّفاصيل، كيف لا وهو ابن القدس نشا في أزقّتها وفي أحضانها، وترعرع على روابيها واستنشق هواءها، ومن غيره يستطيع أن يحدّثنا بكل تلك التّفاصيل إلا ان كان عايش كلّ ذلك؟

والرّواية تسلّط الضّوء على قضيّة أخرى مهمّة في تاريخ نضالنا السّياسيّ، وهي قضيّة لا زالت تلقي بظلالها القاتمة على المشهد الفلسطينيّ والعائلة الفلسطينيّة،  وتشغل بالهم ألا وهي قضيّة الأسرى، وقد عالجت الرّواية ذلك من خلال الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية، وهو خليل  الذي اعتقل لمدّة أربعة عشر شهرا دون محاكمة، ثم تحرّر ليتحدث عن معاناة المعتقلين، وليكون بالقرب من أسرته معينا لهم، وبخروجه تعمّ الفرحة، فكلّ المشاريع كانت مؤجّلة لحين خروجه. وهنا كنت أحبّذ لو أنّ الكاتب أضفى على شخصيّة خليل هالة بطوليّة؛ كي يتعاطف معه القارئ، فقضيّة الأسرى قضيّة هامّة ورئيسيّة في نضالنا من أجل حرّيتهم، ولأنّ الأسير يخرج من المعتقل بأفكار وقيم عظيمة ورسالة سامية، فكنت أتوقّع منه أن يرفض ستيفاني ويثور على رغباته ويوقفها عند حدّها، خاصة وأنّها استغلّت طفولته وبراءته.

حملت الرّواية اسم إحدى شخصياتها وهي “روﻻ” طالبة جامعيّة..وابنة طبيب يعمل في الكويت حالت ظروف الحرب دون عودته..تعلّق قلبها بخليل قبل أن تراه..وتكون خياره للزّواج عاملا بنصيحة المقرّبين “من طين بلادك لطّ على خدادك.”

أبدع الكاتب في رسم نهاية من باع ضميرة للشّيطان وكان عونا للمحتلّ على أبناء بلده..فها هو لا يأمن على نفسه، ويبيت ليلته مرعوبا بعد ضربه في باحات الأقصى، فيقرّر الرّحيل عن بلدته مخلّفا وراءه أسرته التي تخلّت عنه وتركته يواجه مصيرة المشؤوم وحده، فيلجأ للضّابط المسؤول عن تجنيده، فيكون ردّه “إذا قتلوك لن يحدث شيء كلب ومات، وهذا مصير الكلاب الهرمة “.  ويموت ميتة الكلاب الضّالّة، وفي هذا عبرة لكلّ من سوّلت له نفسه بالخيانة.

وكما نرى فهذه الرّواية تبقى عملا أدبيّا غزيرا بمفرداته وأحداته وشخوصه .. وبلغته التى امتزجت بالاحداث والشّخوص من خلال وصف دقيق بمفردات غاية في البلاغة والأناقة والصّور البديعيّة الجميلة .. كيف لا وهي تتحدّث عن هموم وطن وشعب، وعن القدس وما تمثّله لشعبها ولأمّتها ..جاءت في الرّواية أحداث مشوّقة، لها تأثيرها في النفس، وجاءت اللغة توافق قساوة الأحداث وروعتها في آن واحد، إذ أنّ قدسنا الجميلة هي سيّدة الحدث، فكانت العبارات التي تصوّرها تتحلّى بوصف رائع، وتشابيه وصور بليغة تهيم عاطفة ووجدانا من قلب الكاتب نفسه.. ولا شكّ أنّ اللغة الدّارجة جاءت لتعكس الهويّة الفلسطينيّة في الحوار الدّائر بين الشّخوص، ممّا أعطى أحداث الرّواية واقعيّة .

وأخيرا لا نملك إلا أن نثمّن هذه الرّواية بوصفها عملا أدبيّا أنيقا، يضجّ بالأحداث لفترة تاريخيّة لا زالت جذورها تمتدّ لحاضرنا المعاش حاليا، وكأنّنا نقرأ أحداثا يوميّة متجدّدة.

1-12-2015

تعليق واحد

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات