رواية “زمن وضحة” لجميل السلحوت في اليوم السّابع

ر

القدس: 19-11-2015 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، رواية “زمن وضحة” للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، صدرت الرّواية التي تقع في 242 صفحة من الحجم المتوسط وصمّم غلافها شربل الياس عن مكتبة كل شيء في حيفا.

بدأ النّقاش ابراهيم جوهر فقال:

رواية الأديب جميل السلحوت: تؤرّخ لمرحلة الجهل الثقافي في فهم الحياة والتعامل معها.

بعد استعراض واقع عنوانه الجهل الثقافي فإن الحل الوحيد الذي يشير إليه الكاتب يكمن في التعلّم وفي احترام المرأة المنتجة وتوسيع آفاق التفكير بدلا من مواصلة البقاء على هامش الحياة.

إنها مرحلة أواسط القرن العشرين التي وصل إليها عدد من أبناء مجتمعنا وبناته بجهل في الدين والحياة ومتطلبات العيش السوي وهم يحاربون العلم والطب والمدرسة.

يسوق الكاتب أحداثه وشخصياته في (زمن وضحة) بتشويق وفّره له البيئة الثقافية التي نقل جانبا ممثّلا لها في الحوار ولغته الشعبية المعبّرة وفي الأمثال الشعبية .

جاءت الرواية عامرة بالروح حيّة الوصف وشخصياتها بدت حيّة مقنعة فنيا في انسجامها مع ثقافتها وفهمها للحياة ومواقفها من مشاريع التطور والتنمية.

هذه رواية تنتصر للحياة والمرأة والتعليم وتؤرّخ لمرحلة عاشها جزء غير قليل من أبناء شعبنا بفعل تغييب دور العقل وسيادة الجهل.

هنا تبرز الموضوعات الاجتماعية الإنسانية في البناء الروائي بعيدا عن المضمون الوطني المباشر الذي اعتدنا أن يطغى في كتابات المرحلة كونه الهم الأقرب الشاغل، وإن تمت الإشارة إلى النكبة والكرمل وحيفا التي لم تغب عن الحدث بشخصيات كانت تقيم هناك قبل النكبة وتعلمت وعادت اليوم لتخدم القرية- النموذج في إشارة لما كان قائما في فلسطين قبل النكبة من ازدهار ثقافي وتقدم.

وقالت نزهة أبو غوش:

الشخصيّات في رواية زمن وضحة

تولد الشخصيّة ضمن بيئة وليس في فراغ، ثم تنمو ضمن علاقتها مع الشخصيّات الأخرى. ويجب أن تكون طباعها ومزاجها وتكوينها منسجمة مع غاياتها ووسائلها.

فشخصيّات رواية زمن وضحة، هي شخصيّات واقعيّة نبعت من ضمن بيئة قرويّة يسودها الجهل والفقر، في زمن كان المستعمر هو المسيطر على الحياة والفكر.

نجد أنّ شخصيّات الرّواية منسجمةٌ مع أهدافها وغاياتها، والشّخصيّات الثّانويّة في الرّواية شخصيّات مكمّلة، لها أهداف؛ فشخصيّة أُمّ حمدان مثلًا، شخصيّة ثانويّة، هي شخصيّة لحماة شرّيرة لا تحبّ الخير لزوجة ابنها، الّتي حرمت من الخلفة. لولا وجود هذه الشّخصيّة، لما برزت في الرواية طيبة ونقاء الشّخصيّة الرئيسيّة، وضحة بطلة القصّة، أو بهيّة كنّتها، أو شخصيّة أبي حمدان زوجها الّذي كان على النّقيض منها في السّلوك والتّعامل.

إِنّ  البعد الاجتماعي والبيئة والتّربية، تؤكّد  بأنّ  الإنسان نتاج مجتمعه، حيث يوجه الكاتب السّلحوت أصابع الاتهام في السلوكيّات الّسيئة التي تقوم بها الشّخصيّات إِلى المجتمع والزّمن؛ حيث لعب الزّمن هنا دورا أساسيّا في التّأثير على الشّخصيّات؛ لأنّه زمن الجهل والشّقاء، فلو كانت الفترة الّتي عاشت بها فاطمة ورمّانة في زمن لاحق، لما ماتت كلتاهما أثناء ولادتهما. ولولا زمن الجهل، لما قطعت رجل جسن أبو لسطار، والأمثلة كثيرة في الرّواية. هنا علينا أن نتساءل: لماذا عمد الكاتب إِتّهام الزّمن والمجتمع فقط؟  ماذا عن المخلّفات النّفسيّة، والوراثيّة، والعقد المترسّبة للأشخاص بالرّواية؟

إِنّ الجانب الانفعالي في الرّواية مظهر من المظاهر الّنفسية، حيث يشمل على السّمات الوراثية الأخرى غير العقلية، كخفّة الروح، أو الظلّ والمزاج والطّباع، ومايصدر عنها من عواطف وانفعالات ودوافع. لم نلحظ تلك السّمات على شخصيّات الرّواية، من خلال قراءتنا لرواية” زمن وضحة” نلحظ بأنّ الكاتب لم يعمد وصف شخصيّاته وصفًا خارجيًّا نحو:  شكله ومظهره، ضخامته، ونظافته أو قذارته، ورائحته الطيبة أو الكريهة، لون بشرته، وعذوبة صوته أو قبحه ونوع ثيابه، وجّدتها أو رثاثتها ولون بشرته، وعينيه وشعره وأسنانه …الخ الخ..ّ

بينما في وصف الشّخصيّات الدّاخليّة وصفًا دقيقًا عير مباشر، وهذا من أهمّ عناصر الوصف، حيث تتحرّك الشّخصيّات أمامنا وهي واضحة، ومعروفة فتكشف لنا عن طبيعة الشخصيات الأنانية أو الغيريّة، أو الحقد والكراهية، والحب، وتظهر لنا مبادئهم وقيمهم  وخلفيّاتهم الرّوحيّة، أو المادية والانتهازية.

عرفنا مثلا شخصيّة حسن، أبي بسطار الانانيّة، العنيدة الّتي لا تأخذ وتقتنع برأي الآخرين، الشخصيّة المتسلّطة، منقادة خلف العادات والتّقاليد بشكل كبير. كذلك تظهر لنا شخصيّة المرأة جعبورة الّتي يهمها المشاكل والفتن، حين ضرب ابنها، أوقعت العائلتين بمشكلة  كادت أن تسبب ضررا  كبيرا، لولا تدخّل بعض المتروّين من العائلتين، ولديهم بعض الحكمة.

هناك شخصيّات كثيرة في الرّواية أبدت اتّجاهات سلبيّة منذ بداية الرّواية حتّى نهايتها، نحو شخصيّة زميتان ابن حسن أبي بسطار، وشخصيّة فرج أبو العلّيص. المختار فرج وغيرهم، حيث كانت معارضتهم لمجرّد المعارضة فقط، حتّى وإِن كانت المشاريع لمصلحتهم ومصلحة أبنائهم نحو: بنا ء المدرسة للبنات، خط الباصات، بناء البيوت وغيرها.

أمّا الشّخصيّات الّتي أبدّت اتّجاهات ايجابيّة، فهي شخصية الدّكتور ممدوح، وزوجته ريتا، حيث كانا داعمين لكل تطوّر وتحديث في البلدة، قدما من بيئة مختلفة تمامًا عن الآخرين في الرّواية، وهي البيئة المدنيّة المتعلّمة. شخصيّة وضحة، الّتي وقفت في وجه الظّلم لزوجة أخيها، وتحدّت معتقدات والدتها، أُم حمدان، كذلك بعض عادات المجتمع،  بهذا تكون قد وضعت خطوة نحو الحداثة.

أحدث الكاتب ملامح  على بعض الشّخصيّات في نهاية الرّواية نحو الأحسن، نحو شخصيّة الحاجّ خميس الّذي تبرّع ببيته مدرسة للبنات، وشخصيّة عارف المجنون الّذي تحوّل إِلى شخصيّة مختلفة تماما، شخصيّة عاقلة متّزنة بعكس ما بدت عليه أوّل الرواية.

خلق الكاتب جميل السّلحوت شخصّيات محورية، جعلها تتفاعل مع بعضها البعض من خلال العلاقات الإنسانية والأحداث، وقد سلكت الشّخصيّات وفقا لتكوينها وطباعها ومزاجها، ثقافتها؛ لذلك يمكننا القول بأنّ شخصيّات الرّواية تلقائيّة مقنعة، ربّما لم يجهد الكاتب نفسه للبحث عنها.

وقالت ديمة السمان:

زمن وضحة”.. رواية عنوانها: “الجهل لا دين له“.

السّلحوت أنصف المرأة.. ولم يظلم الرّجل.

يبدو أنّ الكاتب جميل السلحوت يصرّ على عدم ترك “غريمه” بحاله.. يصرّ على تعريته وإظهار بشاعته في شتى أعماله الأدبيّة. فالجهل عدو الانسانيّة.. الجهل لا دين له.. ضحاياه لا تعدّ ولا تحصى.. ولا زال يعبث بمصير كلّ من لا يقف له بالمرصاد، ولا يحاربه بسلاح العلم. لذلك  جعل الكاتب “الجهل” البطل الحقيقيّ في معظم إصداراته.. وها هو يعود اليوم  ليتصدّر البطولة في رواية “زمن وضحة” التي جاءت بمثابة من يدقّ جدران الخزّان.. أحرفها كانت الازميل الذي دقّ به أكثر من باب، اجتماعيّ، ارشاديّ، تربويّ، نفسيّ،  تعليميّ، ثقافيّ  …إلخ من القضايا التي تستحوذ على اهتمام المجتمع.. وتسهم في تطويره.

كلماتها خرجت آهة صادقة من جرح الألم.. شخوصها رُسمت بأنامل “ميزانها” الحسّ الانسانيّ.. جاءت عفويّة لا تكلّف فيها. استطاع الكاتب أن يحافظ على الخيط الذي ربط الشّخوص ببعضهم البعض دون أن يثقل على القاريء. على الرّغم من أن عددهم لم يكن قليلا.

صراع الأجيال كان واضحا.. التّمسك بالإرث الثّقافيّ كان جليّا من خلال الأغاني والأمثال الشّعبيّة، حيث رفض الكاتب إلّا أن تكون شاهدة على زمنٍ ما، في مكانٍ ما.. تجسّد الواقع؛ لتكون بصمة تعني: “أنا هنا.. بكلّ ما بي من سلبيّات وايجابيّات.”

كم أحببت “وضحة”.. حملت الرّواية اسمها معلنة  أنّ الزّمن زمنها.. مع أنّه لم يكن زمنها.. ولم يمتّ لها بصلة.. فقد رفضت ذاك الزّمن وحاربته.. وهاجرته.. واشتبكت مع من تمسّك به.. وانتصرت عليه بإرادتها.

لم أكره أمّها.. ( أمّ حمدان).. ولم أكره أمّ فالح أمّ رمّانة وزعرورة.. ولم أكره الدّاية الحاجّة صبحة التي تسبّب بوفاة رمّانة وتيتيم أطفالها لجهلها  بأساليب الولادة.. تعاطفت معهنّ.. فقد كنّ ضحايا الزّمن الأغبر.

أمّا أبو فالح الذي امتهن مهنة لا يتقنها.. فتسببت بإيذائه قبل إيذاء من حوله.. وأكثر من يشهد على ذلك “رجله” التي انفصلت عنه، ودفنت قبله بسبب جهله بأمور الطّب.. فقد ظلم نفسه قبل غيره.

جميع شخوص الرّواية كانوا ضحايا الجهل.. ومع ذلك كان الفرق بينهم كبيرا.. فهناك من استسلم راضيا بعيشته.. وهناك من تمسّك بشعاع الأمل.. وأنقد نفسه وداس “غريمه” تحت قدمه.. وهناك من استجاب مادّا يده لمنقذه، فداسا “الغريم” سويّة تحت أقدامهم.. وهناك من حاول قطع يد منقذه.. ليبقى أسير ظلام الجهل والتّخلف.. وليبقى يقبع تحت قدميْ غريمه عبدا ذليلا إلى الأبد.

كان الدّكتور ممدوح وزوجته الصيدلانيّة “ريتا”.. ويا حبّذا لو اختار الكاتب لهذه الشخصيّة اسما عربيا أصيلا..  كان الزّوجان شعلة نور أدخلت الحياة إلى القرية، وأنقذتها من وحل التّخلف. على الرّغم من أنّهما واجها الكثير من العقبات.. إلا أن انتماءهما واخلاصهما منحهما القوّة والقدرة على المضيّ بطريق النّور والحقّ.

عندما أقارن بين ريتا ( اليافويّة) و(بهيّة الريفيّة)، زوجة حمدان الثّانية.. أشعر بالحزن… هما من جيل واحد.. ولكنّ ريتا متعلّمة وتعرف معنى الحياة.. عاشت في بيئة مختلفة تحترم المرأة وتعطيها حقّها من العلم والمعرفة.. أمّا بهيّة والتي حملت اسما غريبا عنها.. فلم تتقن فنّ العيش.. ولم تعرف معنى الحياة.. قادها الزّمن الظّالم نحو ظلام الظّلم.. وبقيت أسيرة جهل عائلتها، ومن ثمّ حماتها ولسانها اللاذع الذي كانت تسلّطه عليها سوطا يأكل من كبريائها وكرامتها في كلّ مناسبة.

أدهشتني تفاصيل الغوص في داخل مشاعر وأحاسيس شخوص الرّواية.. كان الوصف دقيقا يراعي الحالة النفسيّة التي مرّت بها كلّ شخصيّة.

مشاعر أبو فالح عندما فقد رجله.. .سعادة وضحة وهي تقف أمام المرآة ترى نفسها عروسا جميلة… زعرورة.. ورفضها أن تتزوّج دون مظاهر فرح..  فمن حقّها أن تفرح كما فرحت وضحة.

حالة الطّفل اليتيم موسى عندما ذكرته الحاجّة صبحة بأمّه وهو يأكل العنب.. فالتَوت شفّته السّفلى باكيا.. وكأنذها استكثرت عليه لحظة فرح. فلا احترام لانسانيّة ولا اعتبار لطفولة.

مشاعر أمّ فالح المتضاربة عندما توفّي زوجها.. هي لم تحبّه يوما.. تخلّصت من نكده.. ولكنّ الصّورة تختلف أمام الناس.. فمن العيب أن لا تظهر الحزن..بل  من العيب أن تفرح.

أساليب الحماة وإيذاؤها مشاعر الكنّة.. فالصّراع أزليّ.

تأرجح المشاعر بين الحنان  والقسوة عند الجدّة.. كان وصفا دقيقا.

“عارف المجنون” الذي أثبت أّه من القلائل الذين كانوا من العقلاء في تلك القرية.. استجاب للأيادي البيضاء التي امتدّت له.. وأثبت أنّ العلم مفتاح الفرج.

النّكبة .. وجرحها النّازف.. وبيّارات البرتقال التي أبت رائحتها أن تفارق أنوف مهجّريها..

رواية ” زمن وضحة” لخّصت واقعا مريرا عاشته بعض القرى الفلسطينيّة  في أواسط القرن العشرين بامتياز.. وقد طغى عنصر التّشويق على الرّواية بشكل لافت.

رواية جمعت بين الرسالة والمعرفة والمتعة.. مبارك للكاتب هذا الانجاز.

وقال عبدالله دعيس:

وضحة والزّمن الجميل

صدرت رواية “زمن وضحة” للأديب جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2015. وتقع الرّواية التي صمّم غلافها شربل الياس في 224 صفحة من الحجم المتوسّط.

هل حقّا كان ذاك الزّمن جميلا؟ أم أنّه كان قاتما مريرا، كما وصفه الكاتب في روايته؟

تدور أحداث رواية زمن وضحة في مكانٍ ما في الرّيف الفلسطينيّ في الفترة التي تلت النكبة الفلسطينيّة، في خمسينات القرن الماضي، فما زال الرّيف حينها مثقلا بأعباء الجهل التي حملها على كاهله ربما لعقود طويلة، انزوى فيها العلم وبرزت العادات الجاهليّة التي كانت تحكم مجتمعا عمّته الأميّة، فرزح الجميع تحت عصا التّخلّف، وخاصة النّساء اللاتي هنّ الحلقة الأضعف.

كان الكاتب جريئا في طرحه، تناول العادات والتّقاليد السيّئة، وفضحها بصورة جليّة دون مواربة، عن طريق سرده لكثير من الأحداث التي كانت تحدث فعلا في قرانا. فعندما تقرأ هذه الرّواية، تتذكّر جميع الحكايات التي سمعتها مرارا ومرارا تتردّد وكأنّها كانت جزءا من الحياة اليوميّة لشعب عانى من الجهل والأميّة.

وفي هذه الرّواية لا نرى بطولات الشعب الفلسطينيّ الذي قاوم الاحتلال، ولا نلحظ عذابات اللاجئين، إلا بشكل محدود جدّا. وبالمقابل، نرى المآسي التي لم يكن للاحتلال ولا للنّكبة دور مباشر فيها، بل كانت نتيجة طبيعية لعصور من الجهل والتّخلف، وهذا خروج عن النّسق العامّ لمن يكتب عن تلك الفترة، ووضع للأمور في نصابها. فبينما كان المجاهدون يقارعون العدوّ، كان هناك أناس آخرون يعيشون إرثا طويلا من الانحطاط لا يقلّ خطره عن ذاك العدوّ، وربّما كان الاحتلال نتيجة حتميّة للجهل والظّلم الذي وقع على الضّعفاء وخاصّة النّساء.

يركّز الكاتب في روايته على المرأة، من خلال شخصية وضحة ورمّانة وغيرهن؛ لأنّ المرأة هي أكثر من يعاني من المشاكل الاجتماعيّة. ولكنّها هي أيضا من ينقل هذا الإرث السيّء عبر الأجيال؛ فالمرأة هي الجلاد تماما مثلما هي الضحيّة، يبدو أنّها اعتادت العيش تحت سياط مجتمع ذكوريّ متسلّط، وغدا دورها عدّ السياط  ونقل السّوط من يد رجل إلى آخر تربّيه كي يمسك بهذا السّوط ويبدأ بجلدها من جديد.

ونتساءل هنا، لماذا اختار الكاتب أن ينبش هذه الصّفحة من تاريخنا، وينكأ الجراح التي قد نظنّ أنّها اندملت. فالجهل قد غاب من مجتمعنا، والأميّة تكاد تنعدم، ومعظم العادات التي تحدّث عنها الكاتب ذهبت إلى غير رجعة. لكنّ المتفحّص للمشاكل الاجتماعية التي تدور في أيامنا هذه يجد أنّها ما زالت ترتكز على ذلك الإرث القديم. وإلا، لماذا تقتل الفتيات بدعوى الحفاظ على شرف العائلة؟ ولماذا تنشأ الشّجارات بين العائلات وتبرز العصبيّة المقيتة كلما حصل خلاف ولو كان بسيطا. أرى أنّ الكاتب أحسن صنيعا بتذكيره بتلك العادات والتّقاليد البائدة، لأنّه لا بد من الانتباه إليها واجتثاثها من جذورها إذا أردنا أن نعيش في مجتمع نظيف خال من العنف والعصبيّة.

ونرى أن الكاتب ركّز في روايته على العادات السّيئة في المجتمع، وأغفل الكثير من العادات الحسنة التي كانت تصاحبها، ولم يذكرها إلا بشكل هامشيّ، فنلحظ قيمة العفو والكرم، خلال أحداث الرواية، لكنّ الصّفات السلبيّة للمجتمع تطغى عليها. حبّذا لو يركّز الكاتب على هذا الجانب في إصداراته القادمة، فحتّى نستطيع تمييز الغثّ من السّمين لا بد لنا من التعرّف على الخير الذي كان موجودا. وكما أنّ الكثير من العادات السيّئة بدأت تختفي، فالعادات الحسنة، مثل روح التّعاون والعمل الجماعيّ والمحبة والتّكافل، بدأت تتلاشى أيضا، وأصبحت مهدّدة بالاندثار تحت وطأة التّغريب، فأصبحنا كالغراب الذي أراد أن يتعلم مشية القبّرة فلا هو أتقنها ولا عاد يستطيع الطّيران.

يظهر الطّبيب ممدوح فجأة في القرية، ويبدأ العلم يغزو الجهل ويدحره، ويستطيع الطّبيب وزوجته ريتا أن يُحدثا تغيّرا نوعيّا في حياة القرية وفي زمن قياسيّ. فعندما يظهر نور العلم ينقشع الظّلام، كالفجر يمحو عتمة الليل. لكن، لماذا اختار الكاتب الطّبيب ممدوح الذي تعلّم في لندن والذي يتسلّح بالعلم الغربيّ، وربما يتطبّع ببعض العادات الغربيّة هو وزوجته، ليحمل راية الإصلاح! الغرب لم يحمل لنا غير الاستعمار والدّمار. والتّخلّي عن عاداتنا- حتى ولو كانت سيّئة- لصالح الأفكار الغربيّة الدّخيلة لم يكن يوما هو الحلّ الأمثل، بل جلب مزيدا من المشكلات. حبّذا لو كانت هناك  شخصيّة أخرى من أهالي البلدة أو من خارجها تحمل راية التّعليم والإصلاح بجانب الطبيب، مع حرصها على ثقافة المجتمع ودينه وعاداته وتقاليده، فكثير ممّن حملوا راية الإصلاح في قرانا الفلسطينيّة وحاربوا البدع والجهل كانوا ممّن تلقى تعليمه في بلاده، ودرس ثقافته ودينه، وأدرك مقدار ابتعاد النّاس عن روح دينهم وعقيدتهم، فأنار لهم عقولهم، فتركوا العادات القبيحة وتشبّثوا بعقيدتهم بعيدا عن الجهل والتّخلّف. أمّا مَن حمل راية التّغيير مصادما لعقيدة الأمّة ودينها فلم يجلب لها غير التّبعيّة والدّمار، وإن غلّفها بغلاف من الإعمار والتقدّم.

أعجبتني طريقة حلّ النّزاعات في القرية، لكنّني لاحظت أنّ المعارضين دوما يرضخون للأمر الواقع ولا يقاومون ولا يحيكون المكائد، وهذا غير واقعيّ، فالمعارضون في العادة أكثر شرّا وإصرارا على باطلهم. كنت أتمنى أن أرى شخصيّات تعارض بقوّة وتحاول تعطيل المشاريع بدهاء، كما يحدث دوما، فهذا يجعل الأحداث أكثر واقعيّة، ويجعل القارئ أكثر انحيازا لجانب الحقّ، وأكثر استمتاعا ورضا عندما يُهزم الباطل.

تحمل الرواية اسم وضحة، لكنّ وضحة لم تكن الشّخصيّة الرئيسيّة في الرّواية ولا محور الأحداث فيها. تتعرّض وضحة لمشكلة في البداية، عندما يعترضها إسماعيل أبو بسطار، وتدرك أن مصيرها سيكون مثل بنات جيلها: الظّلم والاضطهاد والإذلال، لكنّ أمورها تسير بشكل سلس حتى نهاية الرّواية إلا من المشكلة البسيطة التي حدثت يوم زفافها، عندما حاول أحد أبناء عمومتها أن يتبدّى بها. كان القارئ يتوقّع أن تعاني وضحة بشكل أكبر، فمثلا لو أنّ مشكلة تبدّي ابن عمها يوم زفافها أخذت أبعادا أكبر ولم تحلّ بهذه السهولة، لزاد ذلك من تشويق الرّواية وشدّ القارئ بشكل أكبر، وجعله ينحاز إلى حركة التّغيير في المجتمع بشكل أقوى، وهو يرى بطلة الرّواية تعاني الأمرّين من عاداته.

لكن يبدو أنّ الكاتب قصد بزمن وضحة الزمنَ الذي شهد التّغيير في سلوكيّات المجتمع، فجعل وضحة تعاصر الجهل، ثم تنتقل لتعيش حياة أكثر حريّة. فكان بحقّ زمن وضحة وليس زمن رمّانة التي طحنتها رحى التّخلّف والجهل.

ولا يقتصر الكاتب على ذكر العادات التي كانت تظلم المرأة، بل تعدّى ذلك إلى عادات أخرى مثل التطبّب عن طريق الكيّ بالنّار، والعزوف عن التّداوي لدى الأطبّاء وفي المستشفيات، وعادات النّاس عند وفاة شخص ما، وكذلك بناء البيوت، مما أضاء جانبا هاما من جوانب الحياة الاجتماعيّة في تلك الفترة. واعتمد الكاتب في ذلك على أحداث يوميّة، يمكن أن تحدث في أيّ مجتمع، وعلى الحوار البسيط باللغة المحكيّة بين شخصيّاته، واستخدم التّعبيرات والأمثال الشعبيّة التي كانت شائعة في تلك الفترة، ممّا أعطى الرّواية مصداقيّة كبيرة، ورسم صورة حيّة، ونقل القارئ إلى هناك، إلى ذاك المكان وذاك الزّمان وكأنه يرقب الأحداث ويعايشها.

ومن أكثر ما لفت انتباهي في الرّواية حكاية عارف، مجنون القريّة، والذي لم يكن مجنونا أبدا، وإنّما فرض أهالي القرية عليه الجنون بسبب يتمه وضعفه، وإهماله عندما كان صغيرا حتّى عاد يتصرّف كالمجنون. وأكاد أجزم أنّ في كل قرية وفي كلّ حارة كان هناك أناس مثل عارف ألجأهم المجتمع إلى الجنون، مع أنهم كانوا كاملي العقل، لكنّ الاستهزاء بهم وتوبيخهم دفعهم إلى الاستمرار في دور المجنون. نحن ما زلنا نقتل المواهب ونستهزئ بالمبدعين؛ لأنهم يختلفون عنّا؛ فنقتل ابداعهم في مهده، ونلجئهم ليكونوا تماما مثل عارف مجنون القرية.

يعود عارف عاقلا متعلّما في النهاية، يضيء العلم طريقه كما أضاء طرقات القرية، ويختفي الجهل خلف أعمدة الكهرباء التي أنارت القرية، وتحت الاسفلت الذي رصف شوارعها. لكن هل ذهب هذا الجهل إلى غير رجعة أم أنّه ما زال قابعا هناك داخل نفوسنا يخرج إلى السّطح كلما برزت مشكلة وحلّ خطب؟

وقال محمد عمر يوسف القراعين:

قرأت مقالين عن الرواية في الصفحة الأدبية من جريدة القدس، كان آخرها للكاتبة نائلة أبو طاحون التي تقول إن رواية زمن وضحة تضع اليد على الجرح، حيث أعطت الرواية حقها ولم تترك صغيرة أو كبيرة، فلم يبق إلا أن يشير الواحد إلى بعض انطباعاته كقارئ غير متمرس في التقييم والنقد.

عندما يقول أحدنا أنه ولد زمن الثلجة الكبيرة، يُفهم أنه يشير إلى سنة 1929، وزمن الزلزلة عام 1929 ، فهل “زمن وضحة” يدل على ما قبل وبعد النكبة؟ بالنسبة لي هذا مناسب، فقد عرفت وضحة كاسم مشهور في الأربعينات من القرن الماضي، عندما كنت أسمعهم يهزجون في السامر:

يا سلام يا سلام، وين وضحة تِنام، تحت ظل السفرجل، فوق ريش النعام.

وشيخ العرب عندما يعتز ويتفاخر يقول: أنا خو وضحة. استمر ذلك بالنسبة لي حتى السبعينات عندما تابعت المسلسل الشعبي”وضحة وابن عجلان” على التلفزيون الأردني والذي يعاد بثه الآن. ووضحة هنا فتاة نشمية توفق بين العربان، كما أن وضحة في روايتنا بنوتة لطيفة ونِغشة، كانت حمامة سلام في العائلة في عصر ذكوري، وأجرأ من أخيها حمدان في مواجهة التقاليد البالية،كما أنها تمثل حلا وسطا بين رجعية حسن أبو بسطار وفرج أبو العليص، وتقدمية الدكتور ممدوح وزوجته ريتا والمختار أمين. وهكذا فإن زمن وضحة يبدأ بعصر ظلامي، وينتهي بنوع من التنوير قد يكون بداية للوعي وتنبه الناس لحل مشاكلهم، وقد وفق المؤلف باختيارهذا العنوان للرواية.

كانت الأمراض الاجتماعية الناتجة عن الجهل والفقر مشتركة بين الجميع، عدا بعض الفوارق بسبب سهولة الاحتكاك أو ضعفه بالمدينة. فاجبار المرأة على الجلوس القرفصاء عند الولادة وكي كعب القدم لم أعايشها من حسن الحظ.

أما المساج بالزيت، فكانت والدتي رحمها الله تمرج أطراف ابني الأول في منتصف الخمسينات حتى “تُقسيه” على رأيها، ثم تلفه بالكوفلية المقمطة ويداه على جانبيه، معللة أن حركة يديه بدون كوفلية تجعله “ينقز” ويتقطع نومه.

وعند خِطبة الفتاة كان لابن العم أن “يتبدى بها”، لأن التقاليد تعطيه الحق بإنزالها من على ظهر الفرس، وقد تكون قرئت فاتحتها عند الولادة. ويوم الزفاف، كثيرا ما يلجأون في الحي إلى ما يعرف “بشاة الشباب”، حيث يعترضون الزفة لإرضائهم ببعض النقود، خاصة إذا كان الزواج لغريب عن القرية.

وفيما يخص حرمان القرى من الطرق والمواصلات العامة، فقد كان ذلك شائعا. ففي زمن الانتداب، لم يكن هناك شوارع داخل قرية سلوان الكبيرة نوعا ما. وكما يقولون: مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد اضطرت البلدية بعد النكبة إلى شق شارع يمر  شمال منطقتنا، مرورا بباب المغاربة للوصول إلى القشلة مركز المقاطعة، وشارع آخر يخترق البلدة للوصول إلى أبو طور بسبب إغلاق طريق الخليل. أما الوصل بين الشارعين لنستفيد منه فقد تأخر حتى بداية 1967 ، لأن أصحاب الأراضي على جانبي الطريق الترابي كانوا يطالبون بالتعويض، هذا عن شجرة الصبر وذاك عن البئر أو شجرة التين، مما جعل البلدية تماطل، إلى أن تم رصفه بالطريقة البريطانية قبل حرب الأيام الستة، وظلت المدحلة مكانها حتى تم تعبيد شريط منه بعد سنتين.

وبالمناسبة، فليت الوضع السياسي كان أوفر حظا من الوضع الاجتماعي المتأخر، فسيف الدين الحاج أمين ولندن مربط خيلنا، وأحد القادة صرح أمام حشد قائلا: لو أمرني مولاي لرميتهم في البحر، وقد قلت لوالدتي عندما أشارت بالهجرة: في ظهرنا سبع دول عربية، ولا يمكن للإنجليز بيع هذه الدول مقابل عصابات، إذ أنهم أذكياء في السياسة، وعلى رأي البعض فإن إبليس تخرج من جامعة أكسفورد؛ فكم كنت مضللا!

وثمة ملاحظتان، أولاهما شدت إعجابي، فبجانب التطوير السريع للقرية في الرواية اجتماعيا وبنية تحتية، تحمست للتغيير الذي أحدثه الدكتور ممدوح بحياة عارف، ونقله من مجنون القرية إلى عارف النشمي شيخ الشباب، على خلاف “أرود” في رواية “لفح الغربة” حيث بقي أرود مقموعا، في حين عاد عارف إنسانا جديدا، ليأخذ حصته في إرث والده، ويضم أخته تحت رعايته. صدقوني أن الدمعة طفرت من عيني فرحا للقاء نعمة وعارف، فالإنسان هو رأس مالنا.

أما قصيدة جحيش بن مهاوش السرحاني الطويلة حول عقوق أبنائه، فقد أجدت لي قصة أخرى عن”مْطيع” الذي وضع أباه المسن في شِق مجاور، على بابه لوح من الخشب. وعندما كان الأب يسمع رُغاء الضبغ عند باب الشق يهوش عليه بعود في يده قائلا: إنقِل هالسع ييجيك مْطيع، ثم يُقَصد:

يا ابنيي يا مْطيع،  لا تِركِنى عالنْسا

يْخلين الليل يروح وييجي

يْودينْ لي العشا باضيق المغارف.

وقد أحصيت من الأمثال الشعبية أكثر من عشرين ثم توقفت، وهي مناسِبة، وبودي أن أشير إلى هذا المثل الذي جاء في الرواية، ” صحيح لا تاكل، ومكسر لا تاكل..إلخ”، والذي أعرفه هو،” صحيح لا تِقسم، ومقسوم لا تاكل، وكل حتى تِشبع”.

وقال نمر القدومي:

لعلَّ الروايات والحكايات من الحالات الإنسانية التي تحتضن بين طيّاتها نفس المشاعر على مرِّ التاريخ، مهما عاش التاريخ من تفاصيل، ومهما تغيّر عمر الشّخص الذي عاش وعايش تلك المراحل .

أمّا الأديب المقدسيّ جميل السلحوت فقد لاذ بنا إلى أجملها، ووضع أرواحنا وأجسادنا في خِضَمِّ رواية جديدة من سلسلة رواياته الهادفة “زمن وضحة” والتي تقع في 224 صفحة من الحجم المتوسّط والصادرة في حيفا عن دار النشر “كلّ شيء” لعام 2015.

إمتازت الرّواية بأسلوب الحوار المكثّف والمفصّل بلغة المكان، صَبَغَتها سهولة اللغة المحكيّة التي لم تخضع قصدا لقواعد العربية. اختار الكاتب شخصيّة “وضحة” لتكون رمز وعنوان روايته، تلك الفتاة الريفيّة التي تعيش في عائلة لها مشاكلها الفكريّة، وتحكمها قوانين العصبيّة القَبَليّة المتوارثة، والعادات السّيّئة المتخلّفة.. عائلة تسودها الأوامر السّاذجة إلى حدٍ كبير.

هناك شخصيّات عديدة في الرّواية كان لها دور واضح، أكثر من شخصية “وضحة”، إلاّ أنَّ الكاتب أعطى هذه الفتاة نصيب الأسد في كسب حياتها، والتي تزوجت من الأستاذ “سعيد” إبن العائلة الغنيّة، وانتقلتْ إلى حياة الرّخاء والثّراء على عكس بنات جيلها في قريتها.

تعمّق الكاتب في سرد كلّ كبيرة وصغيرة عن حياة القرية الفلسطينيّة في النّصف الأوّل من القرن العشرين، تكلّم عن الحياة البدائيّة آنذاك، واستفحال الخرافات وحياة الشّعوذة، بعيدا عن الفِكر الواعي والعلوم المتفتحة.. فحياتهم كانت مقيّدة ومنغلقة جدا، وتخضع لسيطرة كبير العائلة. كما أنّهم يعيشون تحت سطوة المجتمع الذكوريّ والتي لا زالت أذياله تقمعنا حتى يومنا هذا؟

وجد الكاتب في شخصيّة الطبيب “ممدوح” ذلك المُتنفّس الوحيد لتغيير حياة قريته نحو الأفضل، والذي بدوره هو وزوجته الحيفاوية الصّيدلانيّة “ريتا” أحدثا تغييرا جوهريا بالنّهوض بأهل القرية، وذلك بعد أن غَصَّته فِكرة “العيب” بالتّداوي في المستشفيات وسقوط الضّحايا لتقصيرهم بالعلاج وإستخدامهم ” الكيّ بالنار” كعلاج؟

عنصر المفاجأة في الرّواية كان جميلا وممتعا، بحيث أزاح به الكاتب تلك الغشاوة الحزينة عن قلوب القرّاء .. فقصّة “بهية” العاقر تحوّلت من شفقة إلى فرحة عندما حملت بعد سبع سنوات من زواجها .. وقصّة “عارف” المجنون كانت لفتة ذكيّة من الكاتب حين تبنّاه الدّكتور ممدوح وأحسن معاملته وتعليمه ليخلق منه شخصيّة متوازنة ومفيدة.

“زمن وضحة” التي لا ينقصها عنصر التّشويق حملت ومضات واشارات تذكّرنا بالنّكبة التي حلّت بشعبنا في العام 1948، والتّهجير واللجوء إلى المخيّمات، فخطفَت قلوبنا بذكر “يافا” وبرتقالها، وورود جبل الكرمل يحتضن “حيفا” وذكريات بعض الشّخصيّات تلفحها دموع الحسرة.

القاريء للرّواية وتسلسل أحداثها والتّنقّل بين شخصياتها كلٌ بقصته المنفردة والمتشابكة مع الآخرين، يتمنى مُسبقا أن تسير الأمور بطبيعتها دون أيّ حادثة تُذكر لتكون النّهاية حميدة، وهذا ما حصل بالفعل. حتى أنَّ مصدر التّعنت والعصبيّة والعقول الشكاكة والمتحجّرة أمثال المختار “فرج أبو العلّيص” انتهت بالموت؛ لتقودنا الرّواية إلى حتميّة أنْ لا عائق أمام الإزدهار والتّقدم .

الرّواية لها أبعاد عديدة .. ففي تلك الحقبة من التّاريخ، حصلت في الوطن تغيّرات جذريّة ومفصليّة، أعقبها سواد حالك سيطر على حياة ومصير شعب بأكمله .

إنَّ حياة السّذاجة والجهل المستفحل، وضيق الفكر لدى الكثيرين كان عائقا كبيرا أمام النّصر، وأنَّ إستسلامهم لِما يسمى “الطابور الخامس” في ذلك الوقت، قضى على فكرة المقاومة إلاّ من رحم ربّي من المثقفين والمتعلمين.

الزّمن لم يكن في صالح القضيّة، فكان أيّ تردّد أو تقاعس هي بمثابة هزيمة. فمصير “وضحة” من الممكن أن ينقلب رأسا على عقب لو سبق إليها “أبو إسماعيل” بطلبها للزّواج من ابنه، وذلك بلحظات قليلة قبل الأستاذ “سعيد”، هنا لقطتُ أنفاسي لوهلة تعاطفا مع ذلك الانسان الذي يسير ثابت الخطى بفكره الرّاقي والنّظيف نحو حياة أفضل .

الأديب “جميل السلحوت” لم يبخل علينا في روايته هذه، فجاد بسيلٍ من الأمثال الشّعبيّة النّابضة والتي تُعطي نكهة عريقة للرّواية ونعتبرها جزءا من تراثنا .

وقالت سهير زلوم:

كانت رحلتي في قراءة هذه الرواية سهلة ميسرة، فالخطّ واضح كبير، واللغة بسيطة تعتمد كثيرا على العاميّة في الحوار، واحتوت الرّواية على عدد كبير من الأمثال الشعبيّة، مما أثرى معرفتى باللهجة المحكيّة في القرى الفلسطينيّة.

أشكر الكاتب على هذا الكتاب الذي زاد من شكري لله تعالى أن أنشأني في ظلّ والدين حريصَين على العلم والثّقافة متمسكًين بالدّين بعيدَين عن الجهل.

سعدت جدا بقراءة الرّواية واستفدت منها كثيرا، لكن لديّ بعض الملاحظات:

–         الدّكتور ممدوح قام بتغيير فعليّ في حياة القريّة، لكنّه لم يجمع بين الدّين والعلم، فلم يراعِ أعراف القرية وعاداتها عندما جعل مدرسة الإناث بجانب مدرسة الذّكور. “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.”

–         تمنيت لو أنّ أحدا من أهالي القرية تأثّر بكلام الدّكتور ممدوح وشاركه في حمل راية الإصلاح.

–         قالت زوجة ممدوح (ريتا) إن من حقّ البنات أن يتزيّن، عندما قامت بتزيين وضحة يوم عرسها، ولكن هل من حقّ النّساء أن يبدين زينتهن لغير أزواجهنّ؟

كنت أودّ أن أرى زعرورة وهي تقسو على أولاد أختها لإظهار دور بهيّة التي ساعد حنانها على أولاد زوجها أن تحمل وتنجب ولدا بعد سنوات من العقم.

• أعجبتني نهاية القصّة بوفاة المختار، لأنّ هذا كان إعلانا لموت عصر حكمه الجهل وبداية عصر جديد ينيره العلم.

وقالت رائدة أبو صوي:

زمن وضحة رواية أثارت في داخلي ثورة خامدة .استطاع الكاتب والأديب والمبدع أن يجذبني الى زمن وضحة .عنوان مميّز جدّا وذلك لتميز كاتبها وصراحته، حيث استطاع أن يسلّط الضّوء على مرحلة زمنية كنا نسمع عن أحداثها الشّيء القليل، من وسط تلك المرحلة كتب لنا استاذنا الكبير فلم يترك لنا أيّ سؤال. غالبية الأسئلة التي كنّا نجهل الاجابة عليها وجدناها في زمن وضحة، ظلم النساء والقسوة الشّديدة في المعاملة كانت حاضرة في الرّواية، ومن حسن حظّ النّساء المظلومات وجود كاتب داعم للمرأة نظر للوضع المظلم بعين الرأفة، واستطاع أن يقول مابين السطور للرّجال قفوا مكانكم أيّها الظالمون لنصفكم الآخر، وارحموا هذا الكائن الحيّ من ظلمكم، صور حلوة وجدتها في الرّواية، فيلم مكتمل الأدوات وجدته أمامي عندما بدأت قراءة رواية زمن وضحة. كنت مع النّساء في القرية. عشت معهنّ من خلف الصّفحات،  كنت اقلب الصّفحات صفحة صفحة، استفزّتني مواقف كثيرة كنت أحاول أن أصرخ وأقول يكفي والله حرام .عندما حاولت النّساء سقاية رمّانه الماء من حذاء زوجها حمدان لتسهيل ولادتها المتعسّرة، شعرت بأنّ معدتي قُلبت، وأنّنيي أنا التي أجلس مكان رمّانة.

في الرّواية قوّة في نقل الأحداث وغزارة الثّقافة والثّروة اللغويّة ساهمت في القاء شعاع من الجاذبيّة على الرّواية. معلومات علميّة وجدتها عندما فسّر الدّكتور ممدوح سبب وفاة رمّانة وهي تلد طفلها،  وعايش ومخاطر العلاج بالكي بالنّار، الأمثال الشّعبيّة كانت بمثابة حلوى الرّواية التراجيديّة المميّزة، منذ زمن لم تطرح رواية قيمة مثل رواية زمن وضحة .

وظّف الأديب خبرته الطويلة في مجال الكتابة ليجمع جميع الخيوط والأحداث والصّور الجماليّة بأسلوب جذّاب يأسر القارئ، مثل صور الونيسة وبيوت العزاء وبكاء النّساء على أنفسهنّ قبل البكاء على المتوفاة .

ما لم يعجبني هو صورة الغلاف، وضحة انسانة مظلومة وصورة الغلاف مدللة.

أمّا سوسن عابدين الحشيم فقد قالت:

في هذه الرّواية زمن عاشه الاجداد أيام الجهل الطاغي على عقول الناس، فقد وثق الكاتب احداث القصة لعائلة وضحة في حقبة معينة كانت تمثل جميع العائلات في ذلك الوقت، هيمنة الرجل وسيطرته على البيت وعلى جميع افراد العائلة من الزوجة والكنة والاولاد والاحفاد، هدف الكاتب الى توضيح مساوئ الجهل والتخلف الذي يؤدي الى ايذاء النّاس لأنفسهم كالعلاج بالكي بالنار للمريض، والزواج المبكر والولادة بالبيت من قبل “الدّاية” الجاهلة والمعاملة القاسية للزوجة وحرمان الفتية من التعليم، لجأ الكاتب إلى اسلوب السرد القصصي وإلى الواقعية بعيدا عن الخيال، فقد صوّر حياة الرّيف من تراث وعادات وتقاليد في افراحهم واتراحهم، وهذا توثيق لكي يتعرف الجيل الحالي جيل التكنولوجيا على حياة اجدادهم الصعبة،  تسلسل الكاتب بالاحداث لكي يصل الى ظهور العلم والتحرر العقلي من الخرافات السائدة، فقد وصل العلم متمثلا بالدكتور ممدوح؛ ليبدأ الصراع وعقدة القصة بين الجهل والعلم، بين ممدوح وزوجته الحيفاوية وبين اهل القرية، حاولت عائلة ممدوح محاربة الجهل، وقد نجحواوانتصروا على الجهل، بداية بعارف الذي اعتبره اهل القرية مجنونا، بسبب الفقر واليتم ولكن وقوف ممدوح بجانبه وتعليمه حرّره من الجهل والجنون؛ ليصبح انسانا له قيمة، وكذلك وضحة التي تزوجت من اهل ممدوح وتتعلم وتعيش حياة راقية، وأنهى الكاتب قصته بانتصار  العلم على الجهل الذي يخلف الضعف والخذلان، وبالعلم ترتفع قيمة الانسان ويرتقي بانسانيته ويعلو الى القمة.

وكتبت ديانا أبو عيّاش:

كما عوّدنا في رواياته السّابقة فإنّ الشّيخ جميل يتحدّث في معظمها حول الجهل الذي كانت تعاني منه المجتمعات العربيّة في أزمان قديمة، وما زال لبعضها وجود أو تأثير على حياتنا، والتي أكد الكثير منها بذكره للأمثال الشعبيّة التي تتوارثها الأجيال.

يؤرّخ الكاتب روايته في المنتصف الثاني من القرن العشرين أي بعد حرب النكبة، وهو هنا ينتقد ويعرّي المجتمع الذّكوريّ وتبعيّة الأنثى له، بتلك العادات والتقاليد البالية، التي تؤدّي دورا سلبيّا تجاه الهدف منها ألا وهو المرأة بشكل خاص وأيّ فرد في المجتمع بشكل عام.

أمثلة على ذلك ذلك:

طلب الحاجة صبحة أن تشرب رمّانة التي كانت في حالة تعسر ولادة الماء من بسطار زوجها في إشارة إلى ان  سبب عسر الولادة هو عدم طاعتها لزوجها.

قولهم أن موت المرأة اثناء الولادة أمر طبيعيّ كقضاء وقدر، وهنا يبين الفهم الخاطئ للمعنى الديني القائل بالتّوكل وليس بالتّواكل.

تعدّد الزّوجات بدواعي وبدون دواعي في مجتمع لا وزن للمرأة فيه.

يبيّن أنّ للمرأة الدّور الأكبر في معاناتها من خلال صمتها وسكوتها على الظلم، ومن خلال ظلم المرأة للمرأة، وهو في تقديري أشد وأعنف.

الاختيار الخاطئ لأسماء الأبناء كاسم رمّانة، زعرورة، متعب الذي حكموا عليه من خلال اسمه بالتّعب والشّقاء نتيجة أنّه أتعب والدته وكان سببا في موتها ….. فهو سيتذكر كلما ذكر اسمه أنّه متهم بقتل والدته.

التّداوي بالطّبّ الشّعبيّ والشعوذة، بما يؤدي الى زيادة المرض والموت في معظم الأحيان.

بالنّسبة لوضحة كان دورها في البداية سلبيّا، بمعنى أنّها كانت تعرف الصّحيح ولكن ليس بيدها فعل شيء تجاه مواقف الاخرين ومعتقداتهم الخاطئة، لكنّها تمردت في النّهاية لتنتصر للمرأة.

بدخول الدكتور ممدوح وزوجته ريتا إلى القرية وهما يمثلان العلم ساعد على التقدم فيها من جميع النواحي كالطّبّ، الكهرباء، المواصلات …..الخ.

من مآخذي على الرواية:

–         فيها تفاصيل كثيرة جدّا كان يمكن اختصارها.

–         فيها الكثير من التّفخيم والتّضخيم لبعض الأمور مثل قّصة شرب الماء من البسطار.

في النّهاية أقول أنّ الهدف من الرّواية هو دعوة المرأة للمطالبة بحقوقها بإصرار؛ حتى يتسنى لها العيش بكرامتها الانسانية التي أعطتها لها الأديان السّماويّة وعلى رأسها الاسلام.

هنا تذكّرت موقفي من التّمرد على الظلم حين قلت لآدم:

لا حدود لوخز الشّوك في حروفك

لا حدود لسطوة كلماتك

لا حدود لجلد سوطك أو لكماتك

لكن الحد منّي أنّني حواء يا آدم

لن تسلب منّي أنفاسي

لن تسلب منّي أنفاسي

ليس بمقدورك

ليس بمقدورك

وشارك في النّقاش عدد من الحضور منهم: محمود شقير، حسن أبو خضير وماجد الماني.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات