منع النقاب بين الحرية والفوقية

م

أقرت الحكومة الفرنسية منع النقاب في الأماكن العامة، بعد اقراره بالاجماع في البرلمان الفرنسي الذي خرج منه نواب الحزب الشيوعي الفرنسي ساعة التصويت، وكانت بلجيكا قد سبقت فرنسا بهذا الخصوص، وبالتأكيد ستتبعها دول أوروبية أخرى في الشهور والسنوات القادمة، ومنذ سنوات والحملة قائمة في الدول الأوروبية حول النقاب والحجاب، حتى وصلت القضية مرحلة طرد فتيات مسلمات من المدارس والجامعات لارتدائهن الحجاب أو النقاب، فعلى أيّ أساس تستعر هذه الحملة حتى تشغل حكومات وبرلمانات وصحافة دول تزعم انها حامية حقوق الانسان، وناشرة للديموقراطية في العالم؟ فهل الحجاب خطير الى هذه الدرجة؟  ومعروف انه صدرت “فتاوي” قانونية في دول غربية تتمحور على ضرورة أن يلتزم المهاجر الى بلد ما بقانون البلد الذي يهاجر اليه، ووجدنا رجال دين مسلمين في الدول العربية تحديدا يتبارون بين مؤيد ومعارض لهكذا “فتاوي”،فما الدافع لكل هذا؟ وهل النقاب أو الحجاب يشكل خطرا على أمن الدول  الأوروبية التي فيها مسلمات مواطنات أو ضيفات مرتديات الحجاب أو النقاب؟ خصوصا وأن “الحريات الشخصية” غير محدودة في هذه الدول، حتى انها تصل الى الاساءة والشتم للذات الالهية وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أم أن”الديموقراطيات” الغربية وصلت الى درجة الضيق الكامل من الشعوب والثقافات الأخرى؟

 وقبل الاجابة على هذه الأسئلة وغيرها أود أن أوضح بأنني من المؤمنين بالرأي الفقهي الذي لا يعتبر وجه المرأة وكفيها عورة، أي أنه لا يعتبر النقاب واجبا دينيا، كما أن أيا من قريباتي لا ترتدي النقاب، وكثير منهن لا يلتزمن بالحجاب، وهذا حال الغالبية العظمى من نساء شعبي الفلسطيني العربي المسلم، وبالتالي فان موضوعي هذا لا علاقة أو مصلحة شخصية من ورائه، ومع التأكيد على احترامي لرأي الآخرين الذين يعتبرون النقاب واجبا ورمزا دينيا.

وعودة الى الذعر الأوروبي والأمريكي من النقاب والحجاب، فانه يجدر بنا العودة قليلا الى الوراء،الى مرحلة الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية، حيث كانت امريكا ودول أوروبا الغربية تشجع وتدعم الحركات الاسلامية، ومنها القاعدة في حربها ضد الشيوعية، وكانت تعتبر الدول العربية والاسلامية والمسلمين الجدار الواقي من “خطر” الشيوعية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيك، وانهيار منظومة الدول الاشتراكية تحول عداء الدول الغربية الى الأسلام كدين، والى الدول والشعوب العربية والاسلامية خوفا من بروز قوة اسلامية تهدد مصالح الدول الغربية الاستعمارية في هذه الدول، وانطلق ما يسمى صراع الحضارات، وبدأت حملات اعلامية وسياسية واسعة النطاق استهدفت كل ما هو مسلم، حتى وصلت درجة الاساءة الى الرسول الأعظم محمد عليه الصلاة والسلام، ووصلت الى تأليف كتاب مسخ في أمريكا اسمه “الفرقان”ليكون بديلا للقرآن الكريم، ووصلت درجة أن يدعو احد زعماء الأحزاب في السويد الى استئصال المسلمين من تلك الدولة كاستئصال النازيين، ووصلت اعتبار حركات اسلامية جهادية تقاتل محتلي أوطانها كحزب الله وحماس والجهاد الاسلامي حركات ارهابية، ووصلت درجة تصنيف دول عربية واسلامية كسوريا وايران كدول شريرة، فمن ليس معنا فهو ضدنا على رأي جورج دبليو بوش الرئيس الأسوأ في التاريخ الأمريكي، وكل هذا وغيره جاء مصاحبا لاحتلال العراق وأفغانستان وتدميرهما وقتل ملايين الأبرياء المدنيين فيهما، ومصاحبا بالسيطرة الكاملة على منابع النفط من خلال تواجد عسكري مكثف وصل الى خمس وثلاثين قاعدة عسكرية امريكية في المشرق العربي وحده.

ويلاحظ أن حملات الاساءة للاسلام وللرموز الدينية الاسلامية كانت تقف خلفها اسباب سياسية لاستفزاز المشاعر الدينية للعرب والمسلمين لجرهم الى ردود فعل غاضبة لتبرير حروب واحتلالات قادمة عليهم.

واذا كان الشيء بالشيء يقاس، فدعونا نتصور أن من يدعون الى ضرورة الالتزام واحترام قوانين البلد المضيف دون الأخذ باختلاف العادات والقيم والثقافات بين الشعوب، دعونا نتصور لو أن الدول العربية والاسلامية منعت رعايا الدول الغربية من دخول اراضيها لعدم التزامهم بالقواعد والأخلاقيات في هذه الدول، من حيث اللباس والمظهر الخارجي ومعاقرة الخمور على سبيل المثال، فهل ستحترم هذه الدول هكذا قوانين ستطبق على رعاياها؟ أو لو أن دولة من السعودية فرضت ارتداء الحجاب أو النقاب على النساء الغربيات العاملات أو المرافقات لعاملين كالزوجات والبنات في السعودية، أو منعوا غربيا مسيحيا من وضع الصليب في قلادة على صدره، أو من التشبه بالنساء في لباسه ومشيته، فماذا ستكون ردة فعل الحكومات الغربية وفي مقدمتها فرنسا وبلجيكا التي تعتبر المثلية الجنسية والدعارة حرية شخصية يجب احترامها، بينما النقاب”جريمة” يعاقب عليها القانون.

ولو كانت هذه الدول ديموقراطية حقيقة لاحترمت على الأقل الخيار الديموقراطي للشعوب العربية والاسلامية، وهذا ما لم تفعله، ومن أبسط الأمثلة على ذلك محاصرة  مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة لدرجة التجويع عقابا لهم على اختيارهم الديموقراطي لحركة حماس التي فازت بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في اتنخابات عام 2006، ولو كانت تفهم معنى الحرية لما ساهمت في حروبها العدوانية التي استهدفت ولا تزال العراق وأفغانستان، من احتلال وقتل وتخريب وتدمير وتجويع وتشريد، ولما ساهمت في استمرارية الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية منذ العام 1967 وحتى الآن، ولما غضت الطرف عما يقوم به المحتلون من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان ترتقي الى جرائم الحروب.

وفي النهاية فان منع النقاب يرتقي الى منع حرية العبادة وحرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين،فليس من حق أتباع ديانة ما أن يحددوا الحلال والحرام والمباح والواجب لأتباع ديانة أخرى، ولا يمكن تصنيف منع النقاب الا اعتداء صارخ على الاسلام والمسلمين، يأتي من باب التعامل الفوقي مع العرب والمسلمين والذي لا يحترم أبسط مشاعرهم الدينية.

20-5-2010

 

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات