عندما يبوح الأسير بمعاناته وهواجس الأسير كفاح طافش

ع

صدر كتاب”هواجس أسير” للكاتب الأسير الفلسطيني كفاح طافش عام 2013 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، ويقع في 240 صفحة من الحجم المتوسط.

أدب السجون في فلسطين

الكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: خليل بيدس صاحب كتاب”أدب السجون” الذي صدر بدايات القرن العشرين، زمن الانتداب البريطاني، وكتب الشيخ سعيد الكرمي قصائد داخل السجون العثمانية في أواخر العهد العثماني، كما كتب ابراهيم طوقان قصيدته الشهيرة عام 1930تخليدا للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وكتب الشاعر الشعبي عوض النابلسي بنعل حذائه على جدران زنزانته ليلة إعدامه في العام 1937 قصيدته الشهيرة” ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال” وكتب الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و”أيام مشينة خلف القضبان” لمحمد احمد ابو لبن، و”ترانيم من خلف القضبان” لعبد الفتاح حمايل ، وقبل”الأرض واستراح” لسامي الكيلاني، و”نداء من وراء القضبان، وعناق الأصابع لعادل وزوز”، و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي،و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وفي العام 2007 صدرت رواية “قيثارة الرمل” لنافذ الرفاعي، ورواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وفي العام 2011 صدر كتاب(الف يوم في زنزانة العزل الانفرادي) للنائب مروان البرغوثي وكتاب”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، ورواية “سجن السجن” لعصمت منصور، وفي العام 2013 صدرت رواية(برد الصيف) لجميل السلحوت، كما صدر سابقا أكثر من كتاب لحسن عبدالله عن السجون أيضا. ومجموعة روايات لفاضل يونس، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن.

وأدب السجون فرض نفسه كظاهرة أدبية في الأدب الفلسطيني الحديث، أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، مع التذكير أنها بدأت قبل احتلال حزيران 1967، فالشعراء الفلسطينيون الكبار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضا، والشاعر معين بسيسو كتب”دفاتر فلسطينية” عن تجربته الاعتقالية في سجن الواحات في مصر أيضا.

كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضا، فقد كتب الروائي عبد الرحمن منيف روايتي”شرق المتوسط” والآن هنا” عن الاعتقال والتعذيب في سجون دول شرق البحر المتوسط. وكتب فاضل الغزاوي روايته” القلعة الخامسة” وديوان الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم”الفاجوجي”.ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لاترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر

وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)

أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة ، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث : نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي).

كما يجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكرا على الفلسطينيين والعرب فقط ، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي في روايته”منزل الأموات” فالسجون موجودة والتعذيب موجود في كل الدول منذ القديم وحتى أيامنا هذه، ولن يتوقف الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

أمّا بخصوص كتاب”هواجس أسير” للكاتب الفلسطينيّ الأسير كفاح طافش من جنين والمحكوم ثماني سنوات والذي نحن بصدده الآن.

عنوان الكتاب:

في اللغة:هجس الأمر في صدره:خطر بباله

والهَجْسُ:الصوت الخفيّ يُسمع ولا يُفهم. وكلّ ما يدور في النفس من الأحاديث والأفكار.

سيجد القارئ لهذا الكتاب أنه أمام نمط جديد من الكتابة عن الأسْرِ والأسرى، فهو لا يقدّس ظاهرة الأسر ولا الأسرى، بل يتعامل معها كما هي، فهو يخاطب الرئيس الراحل ياسر عرفات قائلا:”هناك الكثير من أبناء شعبك الموجودين في السجن حثالة هذا المجتمع بل أرذلة”ص12  وهو يؤكد على أن” سيبقى السجن مكانا مجتمعيا يحمل في ثناياه آلاف البشر من الفئات كلّها”ص12

فعن أيّ مجتمع في السجن يتكلم الكاتب الأسير؟ وماذا يريد من ذلك؟ إنه يطرق بابا لم يطرقه غيره كتابة من قبل، وهو هالة”التقديس” التي يرسمها البعض لمن يدخلون سجون الاحتلال، ولا يمكن أن تبقى ثقافة التقديس هذه “ان السارق حين يسجن يبقى سارقا، والمنحرف أخلاقيا وجنسيا كذلك والعميل أيضا والكذاب…وكلّ هذه هذه الأنواع من البشر لن تتغير لمجرد رخصة الوطن التي يصكّها الاحتلال لمجرد اعتقال أحدهم”ص12 . وقد يتساءل المرء عمّا يريده الكاتب من كتابه هذا؟ وهو يجيب على ذلك بقوله”قرأت في إحدى الروايات”أننا نكتب الحدث لكي ننساه ونحذفه من ذاكرتنا” وهي محاولة لاخراج السجن من داخلي إذا ألقيه بعيدا بعد أن أضاع الكثير من البراءة والعفّة لديّ”ص10 وهو يريد أيضا أن يقدّم واقع السجن للإنسان الذي لم يعش التجربة، ولهذا فهو يطرح عدّة أسئلة على نفسه عندما شرع في الكتابة حول الموضوع ومنها: ” كيف يمكن أن أقدّم هذا الواقع لإنسان لم يعشه؟ كيف أستطيع أن أتجاوز أسطرة الحياة هنا؟ كيف سيقتنع الناس هناك أن السّجن ليس مكانا مقدّسا والناس هنا ليسوا أنبياء؟ كيف أستطيع منع وقوع الصّدمة التي هزت كياني حين دخلت السّجن لغيري؟”ص9 ، وهو في فلسفته الواقعية للحياة في السجون ينفي صحّة مقولة “السّجن للرّجال” ويتساءل:”من قال هذا؟ آه! أريد أن أتعرف اليه بكل كذبه وادعائه لأقف أمامه بعاهاتي وأواجهه بالحقيقة:أنا هنا وأنا أشكّ برجولتي”ص11 وهو هنا يفرق بين الرجولة والذكورة فيقول:”إن كان مفهوم الرّجولة كما يريدون فحولتك وقدرتك الجنسية، فلا أعتقد أن السّجن يمسّها بشكل عام، فأنت هنا تصاب بجوع جنسي لدرجة التوحش” ص11.. ومن وسط المعاناة يرى الكاتب الأسير “فالرجولة أن تحافظ على إنسانيتك أكثر من أيّ شيء آخر! وهنا من يستطيع؟”ص11.

والكاتب كان موفقا جدا باختيار عنوان كتابه”هواجس أسير” فهو يبوح بكلّ ما يدور في نفسه من أحاديث وأفكار يتهيب كثيرون من البوح بها، لأنها تتناقض مع الفكر السائد والمغلوط حول تقديس الأسرى، فظاهرة الأسْرِ ليست مجالا للفخر، بمقدار ما هي استلاب لإنسانية الأسير، وهذا الأسير هو انسان من لحم ودم، وليس أسطورة خرافية، وبالتالي فإنه يمرّ بحالات ضعف كما يمرّ بها غيره ممّن لم يعانوا من مرارة الأسر، والأسير الذي سلب المحتلون حريته، واحتجزوه خلف جدران صمّاء، يعيش مع أحبائه في الخارج بأحلام اليقظة، فهو يتذكّر الزوجة أو الفتاة التي يحب، ويجلد ذاته كثيرا لبعده القسري عنها، كم يتذكّر والديه وأطفاله إن كان أبا، أو أشقاءه وأبناء أقاربه الأطفال، يتذكر بحنين بالغ مداعباته لهم قبل وقوعه في الأسر، ويسرح بأحلامه وخيالاته حول نموّ هؤلاء الأطفال وكيف تتطوّر لغتهم؟ وكيف تطول قاماتهم؟ وينقل له الأهل الزائرون أحاديث بعض الأطفال من الأقربين عن ذكرياتهم معه، مما يشعل نار الشوق الجارف لهم، لكن الشوق للزوجة أو لفتاة الأحلام يأخذ منحى آخر، فيؤجّج غريزة الجنس بشكل”وحشيّ” كما وصفها الكاتب الأسير، وهو لا يرى ضيرا في الحديث عنها لأنها جزء هام من احتياجات الانسان، وهو ينفي ما يعتقده البعض بأن المناضل:”لا يضعف ولا يحب ولا يبحث عن لذّاته وحاجاته البشرية، فله وظيفة فقط واحدة”النضال”ص27. ويؤكد هو “أنا هنا الأنثى سؤالي الدائم،حيرتي الملحّة يوميّا أبحث عنها في عيون الأمل……………..فهي فاكهة العمر ومستقبلي”ص27.

فالانسان بطبعه وما فُطر عليه يميل الى نصفه الآخر ويعشقه ويشتهيه،  وبما أنّ الأسرى محرومون من رؤية الجنس الآخر، فهم لا يرون في الزيارة-إن أتيحت- إلّا الأمّ والشقيقة والزوجة والبنات للمتزوجين منهم، والأسير عندما يرى زوجته تؤجّج نار الشّهوة في جسده لكنه يطوي آلامه ومعاناته، وهذا وضع انساني يحاول البعض الهروب منه، وفي الحركة الأسيرة كانت محاولات وتجارب لمعالجة هذه القضيّة، مثل منع الأسرى من ممارسة العادة السّريّة، ومراقبة الأسير عندما يدخل الحمّام لقضاء حاجته كي لا يستغلّها فرصة لممارسة هذه العادة، لكنها  أثبتت فشلها، خصوصا بعد انكشاف بعض عمليات اللّواط بين الأسرى، وفي حادثة ما ضبط العشرات يمارسون الّلواط مع شاذ جنسيا تعرض للاغتصاب عنوة من أحد أقاربه قبل الأسر، فأصيب بالشّذوذ، فأطلقوا على تلك العمليّة” القطار” لكثرة من اصطفوا خلفه لممارسة الجنس معه، كما تمّ قبل ذلك تحرّش بعض كبار السّن –مّمن أمضوا سنوات طويلة خلف القضبان- ببعض الأشبال، وجرى التكتّم على ذلك، الى أن انفضحت الأمور، فتمّ التراجع عن قرار “منع ممارسة العادة السّريّة” بل جرى التندر بها والسماح لمن يريد ذلك بممارستها.

وقد تطرق الكاتب الأسير أيضا الى ظاهرة العملاء داخل السجون والذين اصطلح الفلسطينيون على تسميتهم بـ “العصافير”، خصوصا في مرحلة التحقيق، وكيف يتم استعمالهم للايقاع بالأسرى بطرق مختلفة ليعترفوا بما يدينهم أمام المحاكم، وهم يتلوّنون بطرق مختلفة فتارة يمثلون دور المؤمنين المتقين، وتارة دور القادة المناضلين الحريصين على المعتقل، ويريدون معرفة ما لديه من علاقات تنظيمية وغيرها ليرسلوها الى زملائهم خارج السجن بدعوى أخذ الاحتياطات، وتارة يأتون بشخص كبير السّنّ ليمثل دور الأب الحاني على المعتقل كي يطمئن لهم ويدلي لهم بما لديه من معلومات أخفاها عن المحققين…الخ، والكاتب الأسير في كتابه هذا  يطرح تجربته الاعتقالية وما تعرض له من “العصافير”.

اللغة والأسلوب: لغة الكاتب جميلة بليغة فيها صور بلاغيّة متعدّدة، وفيها فلسفة وفكر، والسّرد عنده مشوّق رغم مرارة المضمون.

الخلاصة:  يركّز الكاتب على إنسانيّة الأسير فهو انسان في مختلف الظروف، له شهواته ورغباته وطموحاته وأحلامه، وفيه مكامن للقوّة وللضّعف وللصمود وللانهيار وغيرها. وهو في المحصلة ليس قدّيسا ولا انسانا مثاليا.ِ

27-5-2013

“ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع”

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات