منشورات دار الهدى للطباعة والنشر كريم2001 م.ض.
تموز 2007
رحلة مدرسية
وعندما عادت إلى البيت في ساعات ما بعد الظهيرة من رحلتها المدرسية إلى حديقة الحيوانات ، كانت في غاية السعادة . تتنقل في أرجاء البيت بخفة ورشاقة كطائر الشنّار ، يسألها شقيقها فراس الذي يكبرها بسنتين عمّا رأت ، فتجيبه إجابات غير كاملة وسط قهقهة عذبة ، فيلح عليها لمعرفة المزيد ، فتزداد ضحكاً وتهرب منه كأنها في مطاردة .
كان الوالدان مسرورين لما يجري بين طفليهما ، فيسمعان لهما بصمت والابتسامة تعلو وجهيهما ، بينما يزداد فراس شوقاً لمعرفة ما رأت شقيقته في رحلتها المدرسية ، وكلما تهرب منه يرتفع صوته غاضبا ، فيحاول الإمساك بها الا انها تهرب كالفراشة إلى حضن احد والديها ، ويبدو ان هذه اللعبة قد استهوتها.
ناداها والدها وسألها :
– ما رأيك يا رباب .. هل ستحدثينني عن رحلتك ؟؟
فأجابت : نعم يا أبي ، بشرط ان لا يسمع فراس .
– ولماذا لا تريدين فراس ان يسمع؟
-لأنه عندما ذهب إلى الرحلة نفسها لم يحدثني شيئا عنها. ضحك الأب ، وضحكت الأم ، بينما انزوى فراس في مقعد جانبيّ ولم ينبس ببنت شفة .
قال الأب :
أنت طفلة رائعة يا رباب ، وبالتأكيد فإنك ستحدثيننا أنا وأمك وفراس عن الرحلة . فابتسمت رباب وهي تقف أمام والدها وشرعت تقول ، وهي تشير بيديها ذات الشمال وذات اليمين :
عندما نزلنا من الباص أمام الحديقة ، طلبت منا المعلمة ان نصطف اثنين اثنين ، وان يمسك الاثنان بيدي بعضهما ، فأمسكت بيد زينب وحرصت ان نكون في المقدمة ، وعندما فتح الحارس الباب وسمح لنا بالدخول ، أول ما صادفنا أقفاص فيها أنواع مختلفة من الببغاوات ، منظرها جميل جدا ، وكل مجموعة لون ريشها يختلف عن لون المجموعة الأخرى ، صوتها مزعج ، الا ان قائدها يتكلم مثلنا نحن البشر ، طرح علينا تحية الصباح ، وطلب منا الوقوف للتفتيش، فلم استجب له وواصلت المسير ، فصاح ثانية : توقفا أيتهما الطفلتان ؟ أريد ان أفتش حقيبتيكما ، فقلت له باستهزاء : أنا لا اسمح لببغاء بأن يفتش حقيبتي ، وبدأ يفتش حقائب الأطفال الآخرين كما فتش حقائب المعلمات ، ولم ينج من التفتيش سوى أنا وصديقتي زينب ، وعلى مقربة منه كانت حظيرة فيها حوالي عشرة رؤوس من حيوانات الّلاما ، كانت تجفل من جانب إلى الجانب الآخر حتى تصطدم بالأسلاك الشائكة، يبدو انها مذعورة ، صاح الذكر الأكبر منها قائلا:
– توقفوا أيها الأطفال وافتحوا حقائبكم للتفتيش ؟
فأجبته : نحن لا نسمح لأحد بأن يفتشنا. فرفع رأسه واقترب من الأسلاك الشائكة وهو يخبط بقائمته الأولى الأمامية ، وكأنه يريد إلقاء القبض علينا ، فقلت له :
– أرجو ان لا تنخدع بطول وارتفاع قامتك وشبهك بالجمال، فتظن نفسك جملاً ، فما أنت الا أسير، وان أطلقوا سراحك ، فهناك من يمتطي ظهرك ، ويقودك إلى حيث يشاء ، أو يحملك الأحمال الثقيلة ، وينتقل بك من مكان إلى آخر ، ولن اسمح لك بتفتيشنا .
وبينما كان الوالدان يصغيان بانتباه شديد ، انفجر فراس صائحا :- هذا كذب ، هذا كذب ، الحيوانات لا تتكلم ، فالتفت إليه والده لفتة فيها عتاب فسكت . وطلب الوالد من رباب ان تكمل ، فقالت :- فتش الّلاما الجميع الا أنا وصديقتي زينب ، ثم انتقلنا إلى أقفاص فيها أنواع مختلفة من القردة والسعادين ، فلفت انتباهي نوع من السعادين طويل الذنب ، صغير الحجم ، كانت تتأرجح على مراجيح منصوبة في الأقفاص ، وبعضها كان يلّف ذنبه على الأرجوحة ، ويدلي جسمه متأرجحا بشكل لا نقوى عليه نحن البشر – طبعا باستثناء من يعملون في السيرك كما شاهدناهم في التلفاز – وهنا التفتت إلى والدتها وقالت : ماما ، الذين يعملون في السيرك هل هم أبناء قردة وسعادين ، أم ان القردة والسعادين أبناء لهم ؟؟ فضحك الأبوان ، أما فراس فقد قال متجهما : هذا سؤال سخيف ، فردت عليه رباب : ومع ذلك فانك لا تعرف الإجابة ، وان كنت تعرفها اخبرنا عنها ، فسكت ، وواصلت رباب حديثها : وبالقرب من قفص السعادين ذات الأذناب الطويلة والأجسام الصغيرة ، كان هناك نوع من القردة كبير الجسم بلا أذناب، أخبرتنا المعلمة انه الشمبانزي ، مظهره يوحي بشبه بينه وبين الإنسان ، يجلس على مؤخرته كالإنسان تماماً ، ويحضن أبناءه الصغار ، ويطعمهم ، ويحملهم في حضنه عندما ينتقل من مكان إلى آخر داخل القفص ، ويتأرجح بيد بينما يحضن ابنه في اليد الأخرى ، يكسو الشعر الكثيف جسمه باستثناء مؤخرته ، يصدر أصواتاً غير مفهومة ، تقدم احدها من أسلاك القفص ، وطلب منا ان نفتح الحقائب لتفتيشها ، فرفضت أنا وصديقتي زينب بينما قام بتفتيش الآخرين ، في حين كانت أنثاه ترضع صغيرها ، فألقيت لها من بين الأسلاك تفاحة ، التقطتها وبدأت تأكلها ، أطعمت قليلا منها لصغيرها ، في حين رفضت ان تعطي أي جزء منها للذكر الذي مدّ يده إليها طالباً ان تمنحه منها شيئا ، التفت إلينا وكأنه يتوسل ان نعطيه تفاحة ، لكن لسوء حظه لم يكن معنا مزيد من التفاح ، الا ان زميلتنا فاطمة أشفقت عليه ، وألقت إليه إجاصة كانت معها فأكلها لقمة واحدة ، وهو يصرخ مناديا إياي وزينب كي نتوقف للتفتيش ! فقلت له : بدلاً من تفتيشنا كان الأجدر بك ان تعمل لتحرر نفسك من هذا القفص ، وتعود إلى الغابة ، تأكل ما تشاء من الثمار ، وتنتقل كيفما تشاء ، فلو كنت في الغابة لما اقتربنا منك ، ولن نسمح لك بتفتيشنا إلا في الغابة ، فخجل من نفسه ، وعاد إلى بيته الذي يشبه قنّ الدجاج في القفص واختبأ .
وعندما وصلنا إلى الثعالب ، كانت في حفرة واسعة ، لا تستطيع القفز منها ، محاطة من الأعلى بسياج حديدي يمنع الدخول والخروج وفي جانبها جحر تختبئ فيه وقت الحاجة ، كان بعضها مستلقيا على جانبه كالكلاب في حالة الاسترخاء ، بينما خرج بعضها من الجحر وقد طأطأ رأسه بين قائمتيه الأماميتين الممدودتين أمامه ، نظرت إلينا بعض الثعالب التي اصطفت بجانب بعضها البعض ، وطلبت منا ان نفتح حقائبنا للتفتيش ، فقلت لها ساخرة : نحن لا نستطيع النزول إليكن ، وان أردتن تفتيشنا فاخرجن من هذه الحفرة ، وتقدمن إلينا حتى تستطعن رؤية ما بداخل حقائبنا ، فطأطأت الثعالب رؤوسها، وعادت إلى جحرها، وبهذا أنقذت معلماتي وزميلاتي من تفتيش الثعالب .
وانتقلنا إلى حظيرة فيها حمير الوحش ، وهذه هي المرة الأولى التي أقف أمامها وجها لوجه ، سبق لي ان رأيتها في التلفاز ، لكن تلك الرؤيا لم يكن لها وقع على نفسي كما المشاهدة الحقيقية ، تمعنت في منظرها ، ولاحظت ان لا فارق بينها وبين حمار جارنا سامر الا في اللون، وسألت إحدى معلماتي ان كانت هذه الحمير تسمح للإنسان ان يمتطيها كما يفعل حمار جارنا سامر ، فأجابت بأن هذه الحمير لم تُسَخّر لخدمة الإنسان كالحمير الداجنة ، كان بعضها مستكيناً ، الذباب يحوم حول أجفانها ، وفمها ، وتحت ذيولها ، في حين كان البعض الآخر يتمرمغ احياناً ، ويخبط الأرض بقوائمه أحيانا أخرى ، تقدم احدها منّا مادّاً أذنيه إلى الأعلى ، رافعا ذنبه جاحظاً عينيه ، ويخبط الأرض بقائمته الأمامية اليمنى ، وينهق علينا طالباً ان نفتح حقائبنا للتفتيش ، فقلت له : لو انك بقيت في مراعي موطنك الأصلي مع بقية الحيوانات الأخرى ، لما استطعنا الاقتراب منك ومنها ، ولو كنت هناك فعلا وطلبت تفتيشنا لسمحنا لك ، أما وأنت أسير في حظيرة حقيرة فليس من حقك ان تفتشنا ، فقال لي : لكنني لم آت إلى هذه الحظيرة بإرادتي بل أتى بي بشر متوحشون ، طاردوني وخدروني وأوثقوا رباطي إلى ان أوصلوني هنا رغما عني، فقلت له : كان الأجدر بك ان تموت ميتة واحدة في موطنك الأصلي ، بدلاً من ان تأتي هنا لتموت في اليوم مئة مرة ، فسألني : وكيف ذلك؟
فأجبته :
– ألم تسمع بحكاية جدي عن هذا الموضوع -لا لم اسمع.
– اذن سأحدثك.وبعد ان هدأت نفسه وأرخى أذنيه وأسبل عينيه، قلت له:
“حدثنا أبي عن أبيه عن جده بأنه قال : يحكى ان النبي سليمان عليه الصلاة والسلام ، ذلك النبي الذي حكم الإنس والجن ، بأنه طلب يوما من ساكني إحدى البلدان من إنسان وحيوان ان يتركوا المكان ، لأنه يريد ان يحرقه ، ولن يترك فيه كائناً من كان ، وأعطاهم مهلة أسبوع بالتمام والكمال حتى يخرجوا ، وبعد انتهاء الأسبوع أشعل النيران في الأرض ، فحرقت الزرع والشجر والأعشاب ، ولم يبق فيها شيئ الا واحترق ، وبعد ان خمدت النيران ، خرج وجنده يتفقد المكان ، فوجد ثعباناً طويلاً وقد احترق ، فأسف لذلك ظناً منه ان الثعبان أصمّ فلم يسمع نداء التحذير ، ودعا الله ان يعيده حياً ليسأله عن سبب عدم رحيله ، فاستجاب الله دعاءه ، وعاد الثعبان حياً يسعى ، فسأله النبي سليمان – وكان الله قد أعطاه القدرة على فهم لغة جميع الحيوانات – عن سبب عدم رحيله ، وهل سمع الإنذار بالرحيل أم لا؟ فأجاب الثعبان : بأنه سمع النداء ولم يرحل فاستغرب النبي سليمان ذلك وسأله عن السبب، فأجاب : يا نبي الله ، إن حرق الأبدان أهون عليّ من ترك الأوطان ، فتعجب النبي سليمان من إجابته ، وندم على فعلته ، وترك الثعبان وهو يقول : لو كنت أعلم ما قاله الثعبان قبل الإنذار والحريق لما فعلت ما فعلت ، وسمح لبقية الحيوانات التي هربت أن تعود إلى أرضها ، وقدم لها الماء والغذاء ” ، فطأطأ الحمار الوحشي رأسه وألقى جسده على الأرض ، وشهق شهقة واحدة ومات ، وعلى مقربة منّا كانت غرفة ثلاثة جدران منها من الزجاج المقوى ، فيها ثعابين ملتفة حول سيقان أشجار جافة ، وحول أحجار وضعت خصيصاً لها ، فبادرتها أنا بالتحية حيث طرحت عليها السلام ، إلا أنها اختبأت خلف الأحجار وسيقان الأشجار الجافة، فناديتها بأعلى صوتي طالباً منها أن يخرج كبيرها لتفتيش حقائبنا ، فلم يستجب احد منها ، وكررت النداء مرة ثانية وثالثة ، فأطلّ احدها برأسه وقال : اسمعي أيتها الطفلة؟ فأجبته بأنني كلّي أذان صاغية ، فقال لقد استمعنا إلى حكاية جدك عن قصة جدنا الثعبان مع النبي سليمان ، فلحق بنا الخزي والعار، لأننا لم نصن حكمة الآباء والأجداد ، فقررنا أن لا نظهر أمام احد حتى يقضي الله امراً كان مكتوباً ، فتركناه وواصلنا المسير إلى أن وصلنا إلى قفص الأسود ، كان به ثلاث لبؤات وهزبر واحد ، فزأر الأسد ، وطلب منا الوقوف للتفتيش ، فقلت له :
– إن كنت ملك الغابة حقا فاخرج إلينا وفتشنا ؟
فزمجر وزأر زئيراً مرعباً وقال : أتتحدينني أيتها الطفلة ؟
فأجبته : نعم ، أتحداك .
فنظر إلى اللبؤات الثلاث ، وزأر زئيراً خفيفاً كأنه يكلمها ، وما هي إلا لحظات حتى انقضت أربعتها على القضبان الحديدية فكسرتها وخرجت جميعها دون أن تلتفت إلينا، وقفزت قفزات كبيرة باتجاه البعيد ، وأظنها إلى الغابة، ويبدو أنها سمعت حكاية الثعبان مع النبي سليمان عليه السلام.
ابتسمت رباب وتوقفت عن الكلام ، فسألها والدها :
وماذا فعلتم بعد ذلك ؟
– أجابته : انهينا جولتنا في حديقة الحيوانات لأن الفوضى دبّت بين الحيوانات الأخرى ، فتدخل الحرّاس ببنادقهم ، وعدنا إلى الباص ، الذي أقلّنا إلى المدرسة ، وبعدها عدت إلى البيت .
احتضنها والدها وطبع قبلة على جبينها وسط مزاحمة الوالدة التي كانت تريد هي الأخرى احتضانها ، بينما صرخ شقيقها فراس قائلاً : كاذبة لا تصدقوها .. اقسم أنها تكذب .
المعلمة تخطئ ورباب ترفض الاعتذار
في صباح اليوم التالي ، نهضت رباب مبكرة ، كانت تحلم بأن أسد حديقة الحيوانات قد قفز عليها والتهم جسدها الصغير دفعة واحدة ، فبالت في سريرها ، بقيت في السرير حتى سمعت أمّها تنهض وتسير باتجاه الحمام ، تبعتها وهي تضحك قائلة : أمّي هل تعلمين أنني أصبحت طفلة غبية ؟
ابتسمت الأمّ ووضعت يدها على رأس رباب وقالت : لا يا حبيبتي أنت لا لست غبية، لماذا تقولين كلاماً كهذا ؟
– لأنني حلمت أن أسد حديقة الحيوان يقفز عليّ ، ويلتهمني دفعة واحدة ، ومن شدة الخوف بوّلت في سريري .
ما عليك يا صغيرتي هذا أمر عادي ، أجابتها الأمّ وهي تقودها إلى الحمام ، حيث ساعدتها على الاغتسال ، كانت رباب تضحك والماء ينساب على جسدها الصغير ، في حين كانت لا تقوى على فتح عينيها خوفا من أن يدخلهما الصابون .
أنهت الاغتسال ، وخرجت لترتدي ملابسها، ارتدت المريول الأزرق الذي بلا أكمام ، على قميص أبيض ذي أكمام طويلة ، ثم أدخلت ربطة عنق حمراء على رقبتها ، فقانون المدرسة يلزم الطلاب بهذا اللباس الموحد ، ثم انتعلت حذاءها ، وجلست على كرسي في المطبخ في انتظار أن تحضر الوالدة وجبة الإفطار ، شربت كوب حليب ، وتناولت بعض لقمات من الخبز المغموس بالزيت والزعتر ، وفي بعض الأحيان تقضم قطعة جبن صغيرة .
نهض شقيقها فراس في السادسة والنصف كالمعتاد ، وعندما رأى شقيقته رباب وقد تناولت إفطارها ، وأكملت لباسها سألها : ما هذا النشاط يا رباب ؟
فأجابت : أنا لست كسولة مثلك ، تركها وذهب إلى الحمام ، واغتسل ، ثم ارتدى ملابسه ودخل إلى المطبخ لتناول طعام الإفطار ، وفي السابعة والنصف غادرا البيت باتجاه المدرسة- فقد كانت قريبة من البيت- ، في حين كان شقيقها الأصغر يزيد ابن الثلاثة أعوام يصرخ خلفها ، يريد مرافقتها إلى المدرسة .
وهناك كان طلاب وطالبات صفها يتحدثون فرحين عن رحلة الأمس إلى حديقة الحيوان ، في حين كان طلاب الصفوف الأخرى يلعبون ألعابا أخرى ، وعندما قرع الجرس في الساعة السابعة وخمس وأربعين دقيقة اصطف الطلاب ، وأدّوا التمارين الصباحية المعتادة .
وفي الثامنة دخلوا إلى الصفوف تتبعهم المعلمات ، وفي الصف الابتدائي الأول حيث تدرس رباب طلبت منهم المعلمة أن يصمتوا ، وشرعت تطلب من كل واحد منهم أن يتحدث عن رحلة الأمس ، فضحك الطالب محمد الذي يجلس في المقعد خلف رباب ، فظنت المعلمة أن الذي ضحك هو مروان الجالس بجانب رباب ، فاستدعته إليها وضربته بالمسطرة على يده ، فبكى ، وهو يصرخ لست أنا الذي ضحك ، لست أنا … ، لكن صراخه لم يشفع له ، كما لم تشفع له شهادة رباب التي استاءت من تصرف المعلمة ، فجلست صامتة تفكر لعدة دقائق ، ثم خرجت من مقعدها ، وذهبت إلى المعلمة، وطلبت منها إذنا بالخروج إلى الحمام ، وخرجت من الصف قبل أن تسمع إجابة المعلمة ، واتجهت إلى غرفة الإدارة ، فطرحت تحية الصباح على المديرة ، واستأذنتها بالحديث ، ولما أذنت المديرة لها، قالت رباب : سيدتي المديرة ، أنا جئت إلى هذه المدرسة لأتعلم ، ولم أجيء كي أُضرب .
– ومن ضربك يا رباب ، سألت المعلمة ؟
لم يضربني احد ، أجابت رباب .
– إذن ما المشكلة ، سألت المديرة ؟!
-المشكلة في المعلمة سعاد ، لقد ضربت جاري مروان ظلماً مع أنه لم يرتكب أيّ مخالفة ، الذي ضحك هو محمد الذي يجلس خلفنا ، والمعلمة ضربت مروان وأبكته ، وأنا لن ادخل هذا الصف ثانية ، فإن لم تنقليني إلى الشعبة الأخرى عند المعلمة هند فلن أعود إلى هذه المدرسة ، بل سأعود إلى البيت ، وأطلب من أبي وأمي أن يرسلاني إلى مدرسة أخرى .
قالت المديرة : بسيطة يا صغيرتي ، عودي إلى صفك ، وسأعالج الموضوع ؟
-قلت لك إنني لن أعود إلى هذا الصف ثانية ، فهذه المعلمة لا تعرف كيف تتعامل مع الأطفال! فألحت المديرة على رباب بأن تعود إلى صفها، لكنها واصلت الرفض، فطلبت المديرة منها أن تقف أمام مكتب الإدارة، ففعلت.
وبعد أن انتهت الحصة الثانية ، وخرج الأطفال إلى فسحة الصباح استدعت المديرة المعلمة ، وقصّت عليها ما قالته رباب ، ثم طلبت من رباب أن تدخل ، مدّت المعلمة يدها لتمررها على رأس رباب وهي تعتذر قائلة : أنا آسفة يا حبيبتي يا رباب ، ولن أكرر ما فعلت . إلا أن رباب دفعت يدها وهي تقول : لن اقبل عذرك ، هل تريدين أن تضحكي عليّ بهذا الاعتذار ، ولن أعود إلى صفك مرة أخرى ، تدخلت المديرة طالبة من رباب أن تقبل اعتذار المعلمة ، إلا أنها رفضت وبإصرار شديد ، فطلبت المديرة منها أن تخرج وتقف أمام مكتب الإدارة ، ففعلت .
وبدأت المديرة توبخ المعلمة قائلة: كم مرة قلنا لكم إن العقاب الجسدي ممنوع ؟! ماذا سنفعل الآن ؟! ماذا ؟! فأطلت رباب برأسها من الباب وقالت : نحن فهمنا ما قلت لها ، لكنها هي لم تفهم ، فزجرتها المديرة قائلة : قفي مكانك ولا تتكلمي ؟! فعادت ووقفت .
ولما أصرّت رباب على موقفها الرافض للعودة إلى الصف ، اتصلت المديرة بوالدتها هاتفياً وطلبت منها أن تحضر إلى المدرسة لوجود مشكلة مع رباب .
وعندما حضرت والدتها أخبرتها المديرة بالذي حدث ، وطلبت منها أن تتكلم مع رباب ، وتطلب منها العودة إلى صفها ، فأدخلتها والدتها إلى غرفة الإدارة ، وتحدثت معها أمام المديرة وهي تحتضنها قائلة :
لم يضربك احد يا بنيتي ، والمعلمة اعتذرت ، مع أن المعلمين يعاقبون تلاميذهم ، وهذه المعلمة من المعلمات الجيدات وهي صديقتنا ، فعودي إلى صفك يا رباب يا حبيبتي.
لكن رباب أصرت على رفضها ، وهنا طلبت المديرة بأن تحضر المعلمة ثانية ، فجاءت المعلمة وفي يدها قطعة شوكولاتة وعلبة عصير وضمت رباب إلى صدرها وهي تقول لها: هذه لك أيتها الطفلة الجميلة.
إلا أن رباب حاولت تخليص نفسها من بين يديها ، ورفضت قبول قطعة الشوكولاتة وعلبة العصير وهي تقول :
هل تريد أن تقدم لي رشوة هذه المعلمة القبيحة؟ فبكت المعلمة شعوراً بالإهانة فقامت والدة رباب وأمسكت بيد ابنتها طالبة منها أن تغلق فمها، وان لا تتكلم أيّ كلمة ، واستدارت إلى المعلمة واعتذرت لها ، ثم طلبت الوالدة من رباب : أن تعود إلى صفّها .. إلا أن رباب رفعت صوتها أمام والدتها وهي تقول : إذا ضحكت عليك المعلمة فلن تضحك عليّ ، إذا لم تسمح لي المديرة بالذهاب إلى الشعبة الأخرى فإنني سأعود إلى البيت، وسأخبر والدي بالّذي حدث، وسأطلب منه أن يرسلني إلى مدرسة أخرى.
عندها وافقت المديرة على نقل رباب إلى الشعبة الأخرى ، وأرسلتها إليها ، وعادت تنظر إلى وجه المعلمة مرة والى وجه والدة رباب مرة أخرى ، وهي تردد أي جيل تنتمي إليه هذه الطفلة … أيّ جيل ؟عادت الوالدة إلى البيت ، وعادت رباب هي الأخرى بعد انتهاء الدوام ، وعندما عاد الوالد من عمله أخبرته زوجته بمشكلة رباب مع معلمتها ، فضمّها إلى صدره ، وطبع قبلة على جبينها ، فسألته رباب :
– هل أخطأت يا والدي أم لا ؟
فضمها إلى صدره ، وقبـّلها مرة أخرى والبسمة تعلو وجهه دون أن يتكلم ، وعندما ذهبت رباب إلى سريرها للنوم ، قال والدها لزوجته : هذه الطفلة لن يأكل حقها أحد ..
وليمة
وفي فصل الربيع ، لبست الأرض حُلّة خضراء جميلة ، كانت الزهور البرية تعطي رونقاً خاصاً للمكان الذي تنبت فيه ، يخرج الأشقاء الثلاثة ( فراس ، رباب ، ويزيد ) ، إلى الحقول يتمددون على الأعشاب ، ثم يتقلبون على بطونهم وظهورهم فرحين بهذه المناظر الخلّابة ، كان كلّ واحد منهم يمسك زهرة الأقحوان ، يخلع الوريقات البيضاء المحيطة بالزهرة الصفراء واحدة واحدة وهو يردد سائلاً الآخر : من تحبّ أكثر ؟؟ أمّك أم أباك ؟! ويخلع وريقة وريقة معدداً : أمّك .. أبوك .. أمّك .. أبوك ، وعندما تبقى وريقة واحدة يقف عندها ضاحكاً ويقول الكلمة التي توقف عندها ، ها أنت تحب أباك أكثر من أمّك ، سأخبر أمّي بذلك ، وعندما تبقى الوريقة الأخيرة للأمّ يقول : ها أنت تحب أمّك أكثر من أبيك ، سأخبر الوالد بذلك ..! لكن كل واحد منهم كان يقول أنا أحب أمّي وأبي ، لكنني أحب أمّي أكثر قليلا من أبي ، ولا أعرف سبباً لذلك ، وفي عصر أحد الأيام جاء زوجان حديثا العهد بالزواج لزيارة الأسرة ، كانت المرأة الضيفة رشيقة القوام ، هيفاء ، نحيلة الخصر ، شعرها فاحم يسترسل على كتفيها ، عيناها فيهما حور ، أنيقة الثياب ، صافح الضيفان أفراد الأسرة ، بدءا بالأب ثم الأمّ ثم الأبناء الذين اصطفوا حسب العمر ، عانقت الإمرأتان بعضهما البعض ، ثم قبلت المرأة وكان اسمها فاطمة الأطفال واحداً تلو الآخر ، وأمسكت بيد يزيد ، وقادته إلى حيث تجلس ، أوقفته بين ساقيها ، وأمسكت يديها بيديه ، ومرّرتهما على وجهه وهي تخاطبه مداعبة إياه :
– ما اسمك أيها الصغير ؟
-اسمي يزيد
– كم عمرك ؟
ثلاث سنوات .
– هل تذهب إلى المدرسة ؟
لا … فأمّي ترفض أن أذهب إلى المدرسة .
– لماذا ترفض ؟
لا أعرف .. اسأليها!
كان يزيد يقلب ناظريه مرة باتجاه والدته، والأخرى باتجاه الضيفة فاطمة.
وفجأة التفت إلى أبيه وخاطبه قائلا:
– أبي لماذا لم تتزوج فاطمة هذه، إنها أجمل من أمّي؟ ضحك الجميع
وعلت حمرة على وجه الأمّ وهي تقول له:
انتظر حتى تكبر لتنظر إلى النساء ، وتعرف أيّهن الأجمل.
في حين قالت فاطمة الضيفة وهي تضمّه إلى صدرها: أمّك جميلة أيضا أيها الصغير.
فردّ عليها : لكنك أكثر جمالا، وهنا روى فراس كيف أن يزيد كانت نتيجته دائما في اللعب على زهرة الأقحوان بأنه يحب الوالد أكثر من الوالدة، فتدخلت رباب قائلة: أمّي أجمل منكم جميعا، وأذكى منكم،وأقوى منكم، فلا تغتروا بأنفسكم .
حضرت الزوجة وجبة العشاء ، كانت منسفاً من الثريد والأرز ، يعلوهما لحم الضأن المطبوخ بالّلبن ، ومُزين بحبات الصنوبر واللوز المقليّ المتناثرة فوقه بلا انتظام . اصطفّ الجميع حول المائدة ، أمّا يزيد فقد ركض ليجلس بجانب الضيفة فاطمة التي بدورها أجلسته في حضنها ، وقبلت يده ، ولم يستجب لنداء أمّه بالابتعاد عن الضيفة حتى تتناول طعامها ، وكان يزيد أول من مدّ يده إلى المائدة ، فتناول حبة صنوبر بين إصبعيه الإبهام والسبابة، ووضعها في فم فاطمة الضيفة، فالتقطتها بفمها، وقبلت يده الصغيرة وهي تضحك ، ثم تناول أخرى ووضعها في فمه وسط ضحك الجميع .
طلبت فاطمة وزوجها أسامة ملاعق ، لانهما لم يعتادا أن يأكلا بأيديهما ، مع أن عادة أكل المنسف هي باليد ، وليست بالملاعق أو الشوكات لصعوبة حمل الثريد ، وتقطيع اللحم بهما ، فأحضر فراس لهما الملاعق وتناول كلٌّ منهما ملعقة ، فغرست فاطمة ملعقتها بالأرز والثريد ، وألقت حمولتها في فمها ، وكان الطعام ساخناً جداً ، فهمهمت وتحشرجت واحمرّ وجهها ، ودمعت عيناها ، فسقط قليل من الطعام على رأس يزيد الذي غضب من ذلك، ورفع يده شاتماً بكلمات غير مفهومة ، أبعدته من حضنها جانبا ، وبلعت ما في فمها على مضض . في حين أحضرت لها ربّة البيت كوباً من الماء البارد، شربت نصفه دفعة واحدة ، فعلّق زوجها على الموقف بحكاية سمعها قبل عدة سنوات، وتقول الحكاية :
يُحكى أن أعرابيا من سكان البادية تصادق مع تاجر من سكان المدينة ، فدعاه التاجر إلى وجبة طعام في بيته ، فحضر الأعرابي بصحبة ابنه الفتى البالغ من العمر خمسة عشر عاماً ، ولمّا جلسوا حول المائدة تناول الفتى الأعرابي ملعقة وملأها طعاماً ، وألقى به في فمه ، وكان الطعام ساخناً جداً ، فابتلعه الفتى على مضض بعد أن دمعت عيناه من شدة الحرارة ، فسأله والده عن سبب سقوط دموعه ، فأجاب الفتى : لقد تذكرت المرحوم أخي ، وتمنيت لو أنه كان مشاركاً لنا في تناول هذه الوجبة اللذيذة ، بعدها ملأ الأعرابي الأب ملعقته بالطعام ، وألقاها في فمه ، فدمعت عيناه هو الآخر من شدة الحرارة أيضا ، فسأله ابنه الفتى عن سبب دموعه، فأجاب الأب : راودني هاجس بأنك قد مت ولحقت بالمرحوم أخيك .
ضحك الجميع على الحكاية في حين شعرت فاطمة بشيء من الإحراج ، أكل الجميع حتى شبعوا باستثناء فاطمة التي لم تعد تشعر بشهية للطعام ، فأعادت الصغير يزيد إلى حضنها، وأخذت تتناول قليلا من الطعام على رؤوس أصابعها الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وتطعمه .
وعندما انتهوا من الطعام، غسلوا أياديهم وعادوا إلى الجلوس يتسامرون، وحافظ يزيد على الوقوف بين ساقي فاطمة الضيفة التي كانت سعيدة بذلك ، فقربت خدّها الأيسر من خدّه الأيمن وهي تداعب يديه بيديها وسألته:
– هل أنا جميلة حقا يا يزيد ؟
نعم أنت جميلة .
-إذن عندما يرزقني الله ابنة سأزوجك إيّاها!
فسأل: وما اسم ابنتك؟
– سأسميها الاسم الذي ستختاره لها .
أين هي وكم عمرها؟
– لم تولد بعد .
إذن أنت تكذبين عليّ .
– أنا لم اكذب عليك، قلت لك عندما يرزقني الله ابنة، وهذا يعني أنه لا يوجد عندي ابنة الآن .
فسألها: وكيف سيرزقك الله ابنة جميلة؟
– فأجابت: هذه إرادة الله .
فسأل : ولماذا لا يرزقني الله أنا ابنة مثلك؟
عندما تكبر ستتزوج وسيرزقك الله البنين والبنات.
فنهرته والدته قائلة: ما هذه الأسئلة يا يزيد؟
فأجاب : أنا لا أتكلم معك ، أنا أتكلم مع صديقتي فاطمة ، فضمّته فاطمة على صدرها وهي تقول : ما عليك يا حبيبي ، تكلم واسأل مثلما تشاء .
شرب الضيفان القهوة بصحبة ربّة ورب البيت ، واستأذنا بالانصراف ، وعندما وصلا إلى باب البيت طبعت فاطمة قبلة الوداع على جبين يزيد ، فقال لها : لا تنسي أن تحضري ابنتك معك في المرّة القادمة، فضحك الجميع .
وبعد أن انصرف الضيفان ، أجلس الوالد ابنه يزيد في حضنه وسأله :من الأجمل أمّك أم صديقتك فاطمة ؟! فغضبت الأمّ وقالت : هذا ما تريده ، اترك الطفل فإنه لا يدرك ما يقول ، وذهبت إلى سريرها للنّوم ، فلحق بها يزيد ، رفع الغطاء بخفة ، وانسلّ إلى جانبها، استدارت إلى جانبها الأيمن ومدت يدها اليمنى، وضع رأسه على يدها ، واقترب من صدرها وهو يقول : أنت أجمل امرأة يا أمّي قبّلته ووضعت يدها اليسرى عليه ، اقترب من صدرها أكثر فأكثر ، كان زفيرها يخرج على رأسه ، فشعر براحة تامة، واستسلم للنوم سريعاً ، فحملته بين يديها وهي تذكر اسم الله عليه ، وأعادته إلى سريره .
في زيارة المسجد الاقصى
وذات يوم من أيام عطلة الربيع، أصرّ الأولاد الثلاثة ( فراس، رباب، ويزيد )، أن تصطحبهم والدتهم معها لزيارة القدس الشريف ، ففعلت بعد أن استأذنت من زوجها، وعندما أطلّوا على المدينة من منطقة رأس العامود، التفت يزيد إلى يساره ، فرأى أشعة الشمس تنكسر على قبة الصخرة المشرفة الذهبية ، كانت قطرات الندى تنساب من قمة القبة الذهبية ، فخُيّل إليه أنها مرآة تعكس صورته وهو يسأل بصوت عالٍ : ماما ماما انظري ما هذا وأشار إلى القبة المشرفة ؟؟ فأجابت :هذه قبة الصخرة المشرفة في ساحة الأقصى ، التفت فراس ورباب ، فطلب فراس من السائق أن يتوقف ليستمتع بالمنظر الجميل ، غير أن السائق لم يستجب له ، في حين قالت له والدته : انتظر فنحن ذاهبون إلى هناك .
أنزلهم السائق في محطة الباصات القديمة قرب باب العامود ، فأمسكت الأم بيد يزيد الصغير، في حين طلبت من فراس ورباب أن يمسك أحدهما بيد الآخر ، ويتبعانها، فرفضت رباب أن تعطي يدها لفراس ، نظرت إلى سور المدينة التاريخي وهي تقطع الشارع ، فكانت وجها لوجه مع مغارة سليمان التي تشكل ما يشبه النفق العظيم ، محفورة في الصخور تحت أسواق وأبنية المدينة القديمة ، فسألت والدتها عنها ، فأجابتها باقتضاب: هذه مغارة سليمان، وواصلت المسير، هبطوا الدرج المقابل لباب العامود، كان يزيد يريد رؤية كل شيء ، فشرع يلتفت إلى كل الجهات ، في حين فاخر فراس ورباب بأنهما رأيا هذه المناظر من قبل أكثر من مرة، أمسكت الأم بيدها الثانية يد رباب لتحثها على المشي بصحبتها ، هذه أول مرة في حياة يزيد التي يرى ويعي فيها أسواقاً مكتظة بالمارة، ومحلات تجارية متراصة بجانب بعضها البعض ، في مدخل باب العامود وتحت الباب مباشرة امرأة سوداء عجوز، تسند ظهرها إلى زاوية حائط الباب ، تبيع الفستق السوداني المحمص، يقابلها محل صغير لبيع الملابس ، وهناك محل لبيع مختلف أنواع الساعات ، وبجانبه موسيقى تصدح بصوت مرتفع من محل يبيع أشرطة الأغاني المختلفة ، وباعة متجولون يعرضون بضاعتهم على مكان في الرصيف مستغلين غفلة شرطة البلدية التي تعكر صفو حياتهم ، وتعتدي عليهم . رأوا شرطة الاحتلال وهي توقف بعض المارة تحت تهديد السلاح وبشكل انتقائي، يسمحون للبعض بالمرور ، في حين يُكبلون أيدي بعض الشباب بالقيود الحديدية ، ويقتادونهم إلى جهة مجهولة ، نزلوا طريق الواد فهو أقل ازدحاماً وواصلوا المسير ، كانت بعض الأبنية التي يقف أمامها جنود الاحتلال بأسلحتهم ، وبجانبهم بعض الشباب الذين يضعون طواقي صغيرة على أمهات رؤوسهم مثبتة بمشبك صغير في شعورهم، وأيديهم على زناد أسلحتهم .
وصلوا إلى باب المجلس الإسلامي الأعلى، ودخلوا إلى ساحة المسجد المبارك ، كان المنظر مهيباً ، عندما رأت الوالدة قبة الصخرة أمامها ، هلّلت وكبرت بخشوع ، ثم اقتادت أبناءها إلى المطاهر للوضوء ، دخلت مع يزيد ورباب إلى قسم النساء، في حين طلبت من فراس أن يدخل إلى قسم الرجال المجاور، وأن يتوضأ ، وينتظر في الخارج حتى يلتقوا جميعا، ففعل ، لم تكن رباب ويزيد يعرفان سنن الوضوء ، فطلبت الأم منهما أن يفعلا مثلما تفعل ، توضأوا جميعاً وعادوا إلى باحات المسجد مرة أخرى ، خلعوا أحذيتهم عند مدخل الصخرة المشرفة ، وأبقوها هناك ، ثم دخلوا حفاة ، فهذه من آداب دخول المساجد . طلبت منهم أن يصلوا ركعتين تحية المسجد ، فصلتها هي وفراس في حين كان يزيد ورباب يركعان ويسجدان مُقلدين أمهما ، نظروا إلى جدران مسجد الصخرة المشرفة ، ثم اقتربوا من الصخرة ، فشرحت لهم الوالدة كيف عرج الرسول الأعظم صلوات الله عليه من على هذه الصخرة إلى السماوات العلى، وعاد إلى مكة في الحجاز في جزء من ليلة واحدة ، وهي تردد الآية الكريمة ” سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع العليم” صدق الله العظيم .
فسألت رباب: وكيف صعد إلى السماء من هنا وعاد بهذه السرعة ؟
فأجابت الأم : هذه من معجزات الرسول صلوات الله عليه ، سأحدثكم عنها في البيت ، ثم دخلوا في الكهف الصغير تحت الصخرة ، حاولوا لمسها قدر استطاعتهم ، كان فراس يحاول قراءة بعض الآيات القرآنية الكريمة المنقوشة على فسيفساء جدران المسجد العظيم ، وكان يرددها بصوت مسموع، ثم خرجوا إلى الساحة، ركضوا بسرعة على مرأى من والدتهم، كانوا فرحين وفي غاية السعادة .
رأوا بعض السائحين الأجانب يتجولون في ساحات المسجد ، يلتقطون الصور بحرية تامة، جلسوا في ظلال إحدى القباب ، وشرعوا يجمعون بعض بقايا الطعام الملقاة على الأرض المباركة ، ملأ فراس ورباب أيديهما بالقمامة ، وعادا إلى أمّهما يقولان :
انظري كيف يلقي السياح القمامة في ساحات المسجد، فأجابتهما :
إنهم ليسوا السياح يا أبنائي ، السياح يدخلون المسجد ولكل منهم أسبابه ، وتناول الطعام ليس واحداً من هذه الأسباب ، فسأل فراس : إذن ما هي أسبابهم ؟
فأجابت : هذه قضية طويلة وكبيرة.
استراحوا قليلاً ، ثم قادتهم والدتهم إلى المسجد الاقصى ، ثم إلى المسجد المرواني ، ثم إلى المتحف الإسلامي ، فمكتبة المسجد الاقصى ، وعندما نادى المنادي لصلاة الظهر، ذهبوا إلى قبة الصخرة حيث تُصلي النساء ، وأدّوا الصلاة جماعة ، ثم خرجوا تحت إلحاح الأم ، واستقلوا سيارة عائدين إلى البيت .
وعندما عاد الأب مساء من عمله، تسابق الأبناء كل منهم يريد أن يحدثه عمّا شاهدوه في المدينة المقدسة ، وأسهب فراس ورباب في وصف قبة الصخرة والمسجد الاقصى، والمُصلى المرواني فاستمع إليهم بهدوء لم يقطعه إلا سؤال فراس له :
لماذا لا يذهب جدي وجدتي لأمّي للصلاة في المسجد الاقصى يا أبي؟
– لأنهم لا يحملون هوية القدس .
ولماذا لا يحملون هوية القدس؟
– لأنهم يسكنون في السواحرة الشرقية .
لكن السواحرة الشرقية ليست ببعيدة عن القدس، بإمكانهم أن يَصِلوا إلى المسجد الاقصى مشياً على الأقدام بدون عناء .
– نعم يا ولدي ولدي بإمكانهم أن يفعلوا ذلك ، لكن الجنود لا يسمحون لهم بالدخول .
لماذا ؟
– قلت لك لأنهم لا يحملون هوية القدس .
وكيف يسمحون للسياح الأجانب ولليهود بدخول المسجد الاقصى مع أنهم يأتون من بلدان أخرى؟
– هذه قوانين الاحتلال يا بني .
وهل يعلم الملوك والرؤساء العرب والمسلمون ذلك ؟
– نعم يعلمون .
وماذا يفعلون ؟
– لا شيء.
لماذا ؟
– لا أدري… اسألهم.
وكيف أسألهم؟
– هذه قضية صعبة يا بني ، عندما تكبر ستعرفها.
إذن كيف سنتخلص من قوانين الاحتلال؟
– عندما ينتهي الاحتلال.
ومتى ينتهي الاحتلال؟
– لا أعلم .
لماذا لا تعلم ؟ سألت رباب …
فتضايق الأب من أسئلتهم وصاح بهم: ماذا تريدون من الاحتلال؟ وما شأنكم وشأن صلاة أجدادكم إن صلوا في المسجد الاقصى أو غيره؟
قال فراس : لأنني سمعت الشيخ يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الصلاة في المسجد الاقصى بخمسمائة صلاة ” وأريد أن يكون ثواب أجدادي عظيما ليدخلوا الجنة .
فقال الأب : ربكم غفور رحيم ، وهو العالم بأحوالنا وأحوال غيرنا ، اذهبوا لمشاهدة برنامج الأطفال في التلفاز، اذهبوا إلى أسرتكم وناموا ..
– لا نريد مشاهدة التلفاز، ولا نريد النوم، نريد الحديث معك ، فقال أنا تعب ومرهق يا أحبائي، وأريد أن أنام ، تصبحون على خير .
*********
في صباح اليوم التالي نهضت رباب مبكرة، غسلت يديها ووجهها بالماء والصابون، وارتدت أجمل ثيابها ، بعد أن رتبت سريرها ، وصفّفت شعرها، وعندما استيقظ والداها طرحت عليهما تحية الصباح ، واقتربت من والدها وقالت : أبي أريد أن اذهب معك اليوم … إلى أين؟ سألها الأب.
– إلى حيث أنت ذاهب .
أنا ذاهب إلى العمل .
– وأنا ذاهبة معك .
لماذا؟
– لا لشيء فقط أريد أن اذهب معك .
حاضر يا رباب، أجابها الأب ، كيفما تشائين.
ضحكت رباب، وشعرت بالرضا .
وفي مكان العمل كانت رباب تسأل الموظفين والموظفات كل واحد على حدة :
هل يسمحون لك بالصلاة في المسجد الاقصى، فكانت الإجابة في غالبيتها .. نعم . إلا واحد منهم أجاب: لا .. لا يسمحون لي .
– هل تحمل هوية القدس؟
نعم .
– ولماذا لا يسمحون لك؟
لأن عمري تحت سن الأربعين .
– لكن أبي قال إنهم يسمحون لمن يحمل هوية القدس بالصلاة في المسجد الاقصى.
نعم هذا صحيح ، ولكن في بعض الحالات لا يسمحون لمن هم دون سن الأربعين .
– لماذا؟
هذه قوانين الاحتلال .
– أف .. قوانين الاحتلال .. قوانين الاحتلال .. هل للاحتلال قوانين خاصة ؟
نعم للاحتلال قوانين خاصة، لا تشبه أي قانون في العالم .
– لقد رأيت بالأمس سياحا ويهودا دون سن الأربعين في ساحات المسجد الاقصى .. فكيف سمحوا لهم بالدخول؟
لأنهم غير مسلمين ، وغير فلسطينيين .
– ولكن المسجد الأقصى مسجد إسلامي .
هذا صحيح .
– وكيف الخلاص؟
عندما يشاء الله .
– ومتى يشاء الله؟
عندما نعود إليه .
– ومتى نعود إليه؟
هذه قضية ستعرفينها عندما تكبرين.
عادت وجلست بجانب والدها وهي تفكر حائرة … فلم تجد أجوبة تقنعها .
وعندما انتهى الدوام ، أمسك والدها بيدها وخرجا. وفي شارع صلاح الدين ، توقفت رباب فجأة أمام محل لبيع الأحذية . وسألت والدها … هل هذه الأحذية للبيع يا أبي؟
– نعم إنها معروضة للبيع .
وهل يبيعونها لأي شخص ؟
– نعم .
إذن لما لا تشتري لي حذاء جديدا؟
ابتسم الأب وقال : حاضر سأشتري لك حذاء جديدا.. دخلا إلى المحل واختارت رباب زوجاً من الأحذية ، دفع الأب ثمنه بعد أن انتعلته رباب ، ووضع صاحب المحل الحذاء القديم في علبة من الكرتون داخل كيس بلاستيكي ، حمله الأب في يده ، وأمسك يد رباب باليد الأخرى ، وسارا باتجاه محطة الباص ، وفجأة اعترضهم جنديان من حرس الحدود ، طلبا هوية الأب ودققا بها ، ثم فتش أحدهم الحذاء ، فسألت رباب أباها :
لماذا يفتشون الأحذية يا أبي ؟
– إجراءات أمنية ، إنهم يفتشون كل شيء .
وهل الحذاء يشكل خطرا يا أبي؟
– لا أعلم .. ربما.
وهل يريدوننا أن نمشي حفاة يا أبي؟
– لا أعلم اسكتي يا بنية .
سكتت على مضض، حتى وصلا محطة الباصات، واستقلا الباص، وعادا إلى البيت الكائن في سفوح جبل المكبر .
وعندما وصلا القرية ونزلا من الباص ، شرعت رباب تركض فرحة بحذائها الجديد ، وصلت إلى البيت قبل والدها ، تبخترت في البيت وقالت لأخويها فراس ويزيد: انظرا .. أبي اشترى لي حذاءاً جديداً ولم يشتر لكما، غضبا كلاهما ، وشرع فراس يبكي ويصرخ طالبا حذاءاً جديداً كحذاء رباب وعندما وصل الأب ، وعرف سبب بكائهما ، وعدهما بأن يشتري لهما أحذية في صباح اليوم التالي ، لكنهما لم يقتنعا .
خلعت رباب حذاءها الجديد ، ووضعته بجانبها ، فاختطفه فراس وولى هارباً ، لحقت به وهي تصرخ ، لكنها لم تستطع الإمساك به ، وعندما ابتعد عن البيت ، ادخل قدميه في الحذاء عنوة بعد أن ثنى أصابعه ، وشرع يركض في الطرقات رغم الآلام في أصابع قدميه ، وعاد بعد ان تعب وبعد أن أمضى أكثر من ساعة ، أعاد الحذاء لرباب ، وكان الدم ينزف من إصبع قدمه اليمنى الكبير، انسلّ إلى فراشه ولم يخبر أحداً بما جرى لإصبعه .
وفي صباح اليوم التالي ، نهض يعرج من قدمه اليمنى ، فقد تورم إصبعه ، ولم يعد قادراً على المشي إلا على كعب قدمه ، ولما شاهدته والدته غسلت قدمه ، ووضعت مادة مطهرة على الجرح ، لم يستطع انتعال حذائه القديم ، وأمضى يومه يمشي حافياً ، وعندما عاد الأب من العمل أخذه إلى الطبيب الذي كتب له مضاداً حيوياً ، وأعطاه مرهماً يدهن به الجرح ، ومكث على هذه الحالة أسبوعين كاملين لم ينتعل فيها حذاء سوى الفردة اليسرى من ” صندل ” منها أسبوع في المدرسة بعد أن انتهت عطلة الربيع .
بين المقاثي
وفي العطلة الصيفية ، بنت الأسرة خيمة في منطقة الديارة في حي الشيخ سعد ، وسط مقاثي ” الفقوس ، والكوسا ، والبامياء واللوبياء والبندورة ” في مرج تربته حمراء ، ومزروعاته تسر الناظرين ، وكان ما يثير دهشة الأطفال هو النمو السريع للفقوس ، فما أن تنعقد الزهرة ، وتتحول إلى ثمرة حتى يبدأ نموها بشكل سريع ، تنعقد في الليل ، وفي ساعات الصباح تكون الثمرة بطول إصبع ، وعند المساء تصبح شبراً أو فتراً فهي تنمو بسرعة .
تعلم الأطفال من جدتهم انه إذا ما دفنت “الفقوس″ تحت التربة بعد انعقاده مباشرة ، فإنه يفور بطريقة جنونية ، يتضاعف نموّه مرات ومرات في نفس اليوم ، استغرب الأطفال الطريقة، وشرعوا يستعملونها ، كانوا في بعض الأحيان ينسون الثمار التي دفنوها ، فتنمو بشكل سريع بحيث تصبح غير صالحة للأكل، فيتركها الأهل لتبقى ” بذورا ً ” لزارعتها في العام القادم ، كانت لذة قطف الفقوس لا يعرفها إلا من مارس الزراعة ، تقطفها بيدك ، تفركها بين راحتي يديك ، وتأكلها بدون غسيل أنها حقاً لذيذة .
كان الوالدان والجدة يمشون بين النباتات ، يقطفون الثمار ، ويضعون كل صنف في سلة ، يأخذون حاجة ليلتهم فقط ، ثم يوزعون الباقي على الأقارب وعلى الأصدقاء والجيران .
كانت متعة فراس ورباب ويزيد أن يدعوا اقرانهم من أبناء جيلهم ، يتجولون وسط المقاثي ويأكلون ما يشتهون دون رقيب أو حسيب ، وكان الأهل سعيدين بذلك .
الصغير يزيد كان يحب الفقوس بشكل كبير، ولا يقبله إلا إذا قطفه بيده ، أما رباب فإن فاكهتها المفضلة هي البندورة ، تقطف حبة البندورة الحمراء ، تمسحها بيديها ، تحضر قليلاً من الملح ، تخدشها بطرف قوارضها ، وترش الملح عليها ، وتأكلها بشهية ، تحب الآخرين أن يشاركوها في أكل فاكهتها المفضلة ، وتشرح لهم أنها فاكهة لذيذة ومغذية . قالت لها أمّها : البندورة من الخضار وليست فاكهة، فردت عليها رباب بثقة العارف : بل إنها فاكهة.
سألتها الوالدة : من أين تعرفين ذلك ؟
أجابت : شاهدت ذلك في برنامج تلفزيوني ، حين قال الخبير الزراعي أن البندورة فاكهة ، وليست من صنف الخضار .
سكتت الوالدة على مضض، في حين ابتسم الوالد وهو يؤكد صحة ما قالته رباب .
أمّا فراس فكانت هوايته المفضلة أن يأكل قرون اللوبياء نيئة بدون طبيخ ، في حين كان يستخرج بذور البامياء ويأكلها أيضا نيئة ، ولم يكن يستمع لنصيحة والدته أن ينتظر حتى تطبخها مع البندورة وقليل من اللحم ، كان يصف السائل اللزج الذي يخرج من البامياء المطبوخة أوصافاً تدعو إلى التقزز .
طلبت الجدة من ابنها أن يجمع المحاصيل الزائدة ، وان يقوم ببيعها في السوق ، إلا أنه رفض ذلك بشدة قائلاً : يا والدتي : هذه الأرض الطيبة إذا أكرمتها أكرمتك ، وإذا حافظت عليها حافظت عليك، ثم تساءل: كيف أبيع هذه الثمار، وأخواتي وعماتي وجيراني وخالاتي وأبناؤهن بحاجة إليها؟ هل سأتاجر عليهن؟
– لا يا ولدي ، أجابت والدته : صلة الرحم تطيل العمر ، وتكثر في الرزق ، أعطِ الأرحام حاجتهن وبع الباقي . الله يرضى عليك ، ويعطيك الصحة والعافية .
فقال وللجيران حق علينا يا والدتي ، ألم تسمعي بالحديث الشريف الذي يقول : ” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه “.
– فقالت : هؤلاء جيران للأرض ، وليسوا جيرانا لنا ، لماذا لا يزرعون أرضهم بدلا من العمل في المستوطنات؟
فرد مازن : هذا شأنهم يا والدتي، فلا دخل لهم إلا من العمل في المستوطنات ، وغالبيتهم ليسوا متعلمين ولم ولن يحصلوا على وظائف تؤمن لهم دخلا يكفيهم، وربما لا يعرفون الزراعة .
وهنا تدخلت زوجته صفية قائلة : كيف لا يعرفون الزراعة وآباؤهم وأجدادهم كانوا يزرعون كل شبر في هذه الأرض ؟! ولم يكن لهم أية مداخيل إلا من ريعها .
– فقالت الجدة : يا أبنائي ، عندما كان الناس يعتاشون على الزراعة ، كانوا يستطيعون الوصول إلى أراضيهم ، أما الآن فإن المستوطنات تملأ المنطقة ، وغالبية الأرض الزراعية مغلقة بأوامر عسكرية بحيث لا يستطيع مالكوها الوصول إليها ، وأنا أسأل عن عدم زراعتهم للأراضي الواقعة بجانب بيوتهم ، بدلاً من أن يتركوها للأعشاب والأشواك الضارة ، لماذا لا يزرعون ويحصلون على حاجة بيوتهم على الأقل ؟ انظروا كيف يمرح أطفالهم في مقاثينا ؟ لماذا لا يوفرون الفرحة لأطفالهم على الأقل؟
فرد عليها ابنها مازن : فاقد الشيء لا يعطيه يا أمي ، إنني عندما أرى الفرحة على وجوه أطفالهم- وهم يتراكضون مع أولادي في المقاثي- اشعر بفرحة غامرة ، وأنا أتذكر ما قاله المرحوم توفيق زياد : ” وأعطي نصف عمري لمن يجعل طفلاً باكياً يضحك ” فلماذا نحرم هؤلاء الأطفال من الضحك والسعادة ؟ ولماذا نحرم أنفسنا هذا الفرح أيضا؟
-فقالت الجدة : الله يرضى عليك يا ابني ، اعمل ما يرضيك وأسأل الله التوفيق ، ثم أضافت : في سنوات الخير يا ولدي : رحمة الله على أبيك ، ذات مرة حرث أرضنا في البقيعة وبذر كيس قمح ” أبو خطّين ” كان يتسع إلى حوالي خمسين رطلاً ، وربك إذا أعطى لا يبخل يا ولدي ، هل تعلم يا ولدي أننا جمعنا في موسم الحصاد خمسة وثلاثين شوالاً من القمح ، وبذر خمسة أرطال عدس فجمعنا اثني عشر شوالاً ، في زمن والدك الله يرحمه – لم نشتر الطحين ولو مرة واحدة ، لم يطعمكم إلا خبز القمح البلدي ، إذا أمحلت عاماً أو أكثر كان المخزن دائماً مليئاً بالحبوب التي تكفينا لأكثر من خمس سنوات ، لم نعمل في ” الورشات ” ولم يستخدمنا احد ، كنا أرباب أنفسنا ، نزرع الأرض، ونربي الأغنام ، نشرب حليبها ولبنها ، ونأكل من جبنها وزبدتها وسمنها ، وفي سنوات المحل التي يقل مطرها ولا يتحول الزرع إلى سنابل ،كانت الأغنام ترعى النباتات فلا نخسر شيئاً ، بالعكس كنا نوفر ثمن العلف ،كنا نبيع الخراف والجبن والزبدة واللبن ، ونشتري حاجياتنا الأخرى، ثم تساءلت :
– من أين تعلمت أنت وإخوتك وأخواتك؟
وأجابته : من خير الأرض يا ابني ، فقاطعها : لكن البقيعة الآن مغلقة بأوامر عسكرية يا أمّي ، وغالبية أراضيها إمّا مصادرة أو مغلقة .
*********
كان مازن وزوجته صفية يتسامرون والجدة عائشة تحدثهم عن أيام الخير ، في حين كان الأولاد يلعبون في طرف المقاثي البعيد .
كان هناك عش للدبابير ، كل ولد يحمل قطعة تنك مربعة أو مستطيلة ، ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال ضارباً الدبور الذي يقترب منه ، وعندما يسقط الدبور طريحاً على الأرض غير قادر على الطيران ، يدوسه بقدمه أو يقترب منه ، ينزع زبانته التي يلدغ بها ، ويحتفظ به في علبة ، وعندما تهدأ الدبابير ، يرجمون عشها بالحجارة فتثور من جديد .
كان أكثرهم حنكة ودراية في محاربة الدبابير فراس، فهو أكبرهم سناً ، هو الآن في العاشرة من عمره ، واثنان من أبناء الجيران من جيله ، فهم أبناء صف واحد ، فدبّر لهم خطة حسب رأيه سيقضي بها على جميع الدبابير ، وقد اكتسب هذه الخبرة بعد مراقبة الدبابير لعدة أيام ، قال لهم : انظروا إن الدبابير تطير من جحرها إلى أعلى ، سأتقدم أنا وصديقي إسماعيل إلى الجحر نحرك الدبابير داخل الجحر بالعصا ، وعندما تطير ، ننبطح أرضاً ، وتطير هي إلى أعلى ، ونقوم بمحاربتها ، انتم وقوفاً ونحن منبطحان على ظهورنا .
اقترب فراس وإسماعيل من الجحر ، مدّا عصاتيهما إلى الجحر وحركاهما بسرعة فائقة، ثم رمى كل واحد منهم جسده على الأرض بجانب بعضهما البعض ، واحد على يمين جحر الدبابير والآخر على يساره ، فخرجت الدبابير مذعورة وأشبعتهم لسعاً ، عشرات اللسعات في وجوههم وأيديهم وصدورهم ، صراخهم ملأ المنطقة ، اقترب الآخرون منهم لحمايتهم، فكان نصيب كل واحد منهم لسعة أو لسعتين ، إلا يزيد فقد هرب باتجاه الخيمة يصيح بأعلى صوته .
هرع مازن وزوجته صفية باتجاه يزيد يستطلعون الأمر ، في حين كانت تتبعهم الجدة عائشة تتوكأ على عصاها وهي تردد : خير ، اللهم اجعله خير .
وعندما وصل مازن وصفية إلى الأولاد ، جرّا فراس وإسماعيل ولم يتبينا وجهيهما من شدة الورم الناتج عن لسعات الدبابير .
حملوهما إلى المستشفى ، كما استعانا بالجيران لحمل بقية الأطفال ، وفي مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزيتون ، رقد فراس وإسماعيل على سريرين متجاورين ، بعد أن قدم لهما الأطباء العلاج اللازم ، رقدا تحت المراقبة في غرفة الإنعاش المكثف ، في حين تلقى الأطفال الآخرون العلاج في غرفة الطوارئ ، كل واحد منهم حقنة في الوريد وحبتين ، وكتب الطبيب المناوب لكل واحد منهم وصفة طبية .
عادت رباب ويزيد مع احد الجيران ليبقيا في صحبة جدتهما التي تركت الخيمة في المقاثي ، وعادت بهما إلى بيتها في جبل المكبر ، في حين بقي مازن وصفية أمام غرفة الإنعاش ، ينتظرون تحسن حالة ابنهما فراس ، وكذلك فعل والدا إسماعيل .
بدأ الورم يخف شيئا فشيئا، وبقي فراس وإسماعيل على سرير الشفاء مدة أسبوعين ، وبعد يومين نقلهما الأطباء من غرفة الإنعاش إلى قسم الأمراض الداخلية ، فأخذ فراس يشرح لوالديه عن خططه في محاربة الدبابير ، بحجة أنها كانت تعتدي على المقاثي ، وتخرب ثمارها .
الحسد هو السبب
بقيت الجدة جالسة على سجادة الصلاة بعد أن أدّت فريضة المغرب بين يدي ربها ، رفعت يديها بعد الصلاة ، وأطالت في دعائها لفراس وإسماعيل ، كانت دموعها تنساب من على وجنتيها لترسم على الوجه الذي حفر عليه الزمن وشقاوة الحياة أخاديد لن تنمحي . تارة تشتم الدبابير والمقاثي وزارعيها ، وتارة تدعو الله أن يعمي النساء الحاسدات اللواتي كن يرين فراس وقامته الطويلة التي تفوق قامة أبناء جيله ، ولا يذكرن ربّهن ، ليدرأن الحسد من عيونهن الفارغة التي لم ولن يملأها إلا الحصا والتراب .
وفجأة رفعت يدها اليمنى وضربت الهواء وهي تقول :
لعن الله أباك يا صفية… كم مرة قلت لك أن الولد يحلو في عيني والديه، وعليك أن ترقيه كل ليلة، وان تبقي الخرزة الزرقاء في رقبته ليل نهار؟
كانت رباب وأخوها يزيد ينظران إلى حركة جدتهما باستغراب، يزيد يقترب من رباب ، ويمسك بفستانها ، وهو ينظر إلى شفتي الجدة، عندما ينطبقان على بعضهما البعض مثنيتان إلى داخل الفم الذي يخلو من الأسنان ، مخرجتان صوتا كالتقاء حرفي الباء أولاهما مفتوحا والثاني ساكناً ” بَبْ ” بينما كانت حركة لسانها شبيهة بلسان أفعى ، ويتراجع إلى الخلف عندما يحدق بعيني الجدة الغائرتين في رأسها ، وكأن الجفون المنكمشة لم تعد قادرة على الإطباق عليهما عندما ترمش ، في حين كانت رباب تكتم ضحكة حبيسة لو انطلقت لكانت كخرير ماء عذب على مقربة من عطشان لا يستطيع الوصول إليها .
وفجأة توقفت حركة الجدة عندما طلبت من رباب أن تحضر لها كيس الملح من المطبخ ، وكانت صورة فراس الجاثمة في برواز أنيق على زاوية طاولة المكتب .
ملأت يدها اليمنى بالملح ، وأخذت تحركها بشكل دائري على صورة فراس التي وضعتها أمامها، وشرعت تردد بعد أن بسملت ، وحمدت الله ، وصلت على رسوله الأعظم والأنبياء أجمعين :
محمد اترقى واسترقى
من كل عين برقا
ومن كل سن فرقا
اترقى للصبيان من عثرات الزمان
واترقى للخيل في ظلام الليل
ثم صغرت قطر الدائرة التي ترسمها بيدها حول الصورة وأردفت تقول :
حوطتك بالله من عيني
ومن عيون خلق الله
من دارلك باله
يشغل حاله في باله
كرشته غطا عينيه
ما نيش اقدر من ربه عليه
***
عين الجار فيها نار
عين الضيف فيها سيف
وعين الجارة فيها نارة
ثم قرأت سورة الإخلاص ثلاث مرات ، والمعوذتين، ثم الفاتحة عن روح الرسول عليه السلام وأمواتها وأموات المسلمين أجمعين ، وأعادت حفنة الملح إلى الكيس ، وتثاءبت أكثر من مرة .
وابتسمت بعد ذلك وهي تحمد الله وتقول :
انفرجت إن شاء الله ، انفرجت ، وعادت السعادة إلى وجهها .
فسألتها رباب : ما هي التي انفرجت يا جدتي ؟
– حالة فراس يا بنيتي تحسنت ، ولم يعد بإذن الله خطر على حياته .
وكيف عرفت يا جدتي ؟
– عندما تثاءبت بعد ” الرقية ” خرجت العيون الحاسدة من جسده ، وارتدت إلى نحور صاحباتها ، لعنة الله عليهن ، لا يشبعن ولا يقنعن بما يعطيهن الله إياه، كل سنة يحبلن ويلدن ، وأولادهن كالتوائم ، ومع ذلك عيونهن فارغة ، ودائما ينظرن إلى أبناء الآخرين .
وهل تعرفيهن يا جدتي؟
– نعم اعرفهن وأسأل الله أن يكف شرّهن عنا .
ومن هن يا جدتي ؟
– لا .. لا .. لن أقول لك من هنّ؟
ولماذا؟
– لأنني لا أريد المشاكل .. ولا أحب القيل والقال.
ولكن كيف عرفتيهن يا جدتي ؟
– أثناء ” الرقية ” ترتسم صورهن أمامي وأراهن.
ولكنني لم أشاهدهن مثلك يا جدتي .. لماذا ؟؟
– اسكتي يا بنية .. فأنت لا تزالين صغيرة .
وهل عندما سأكبر مثلك سأشاهدهن مثلما ترينهن يا جدتي؟
– الله يبعد شرّهن عنك وعن غيرك يا بنية .
كان يزيد يوزع نظراته الحائرة بين جدته وبين شقيقته غير مستوعب للحديث الذي دار بينهما، فنادته الجدة وأجلسته في حضنها ، مررت يدها اليمنى على رأسه ، ملّست على شعره أكثر من مرّة ، ثنت رأسه إلى الخلف قليلاً، قبلت جبينه وهي تردد :
حوطتك بالله من عيني وعين خلق الله .
انتبهت رباب لذلك فسألت الجدة .. وهل عينك تحسد يا جدتي؟
– اخرسي يا بنت قطع الله لسانك .. لماذا تقولين هذا؟
الم تحوطي يزيد من عينك وعين خلق الله؟
ضحكت الجدة وقالت : لا .. أنا لا أحسد يا رباب، ولكنني أؤمن أن الولد يحلو في عيون والديه، ثم قرأت سورة الفلق .
إذن لماذا لا تُحوطيني بالله من عينك وعيون خلق الله كما فعلت ليزيد؟
– البنات لا يُصبن بالحسد يا رباب .
لماذا يا جدتي ؟
– لأن الولد يختلف عن البنت، فالبنات أقوى من الأولاد، إنهن كالخبيزة التي تنمو على المزابل، تنمو أكثر من غيرها التي تنمو في الأماكن النظيفة ، والبنات لا تخترق عيون الحاسدين أجسادهن.
وهل يحسد الرجال البنات يا جدتي؟
– لا .. لا .. يا بنية الرجال يحسدون الأولاد الذكور فقط ، لكن عيون النساء حاسدة أكثر من عيون الرجال.
ولماذا لا يحسد الرجال البنات ما دامت النساء تحسد الأولاد؟
– لأنهم لا يحبون البنات مثل النساء ، ويريدون أن يكون جميع خلفهم ذكورا.
صمتت رباب قليلا ثم سألت :
لو أنجبت جميع النساء أولادا ذكورا فقط، من أين سيتزوج هؤلاء الذكور؟ أم هل سيتزوجون بعضهم البعض؟
– اخرسي يا بنت لا تزالين صغيرة على هذا الكلام .
سكتت رباب قليلا ثم سألت :
هل يحمل الرجال يا جدتي؟
– يحملون ماذا يا بنية ؟
هل يحملون أطفالا في بطونهم كالنساء ؟
– الله يحملك ويريحنا منك .
شعرت رباب بمرارة في نفسها، تكدرت نفسيتها ولاذت بالصمت، ثم ما لبثت أن اتجهت إلى التلفاز وشغلته ، فصاحت بها جدتها قائلة :
– أغلقي التلفاز يا قصيرة العمر .
ولماذا أغلقه يا جدتي؟ كل يوم نشاهد التلفاز ما معنى هذا اليوم ممنوع؟
– ألا تعرفين؟ تريدين فتح التلفاز وفراس في المستشفى؟ ماذا سيقول الناس عنّا ؟
ماذا سيقول الناس؟ كلهم في بيوتهم أجهزة تلفاز ، وكلهم يشاهدونه …
– لكن أبناءهم ليسوا في المستشفى كفراس قالت الجدة ..
وهل تريدين أبناءهم أن يدخلوا في المستشفى كفراس يا جدتي؟
– لا .. لا أريد .. ولكن أغلقي التلفاز واسكتي؟
أغلقت رباب التلفاز وذهبت لتنام على سريرها، بعد دقائق صلت الجدة صلاة العشاء ، وذهبت إلى غرفة نوم رباب ، بسملت وغطتها ، ثم أحضرت فرشة فرشتها في الغرفة ، ووضعت يزيد في حضنها ، استيقظ وأراد أن يذهب إلى سريره ، لكن الجدة منعته خوفا عليه.
بقيت الجدة مستيقظة تنتظر مازن وصفية، أو أحدهما على الأقل ليحمل أخباراً سارة عن وضع فراس ، لكن أحداً منهما لم يعد ، ممّا زاد من قلق الجدة .
فكرت الجدة بان تستعين بأحد الجيران كي يحملها بسيارته إلى المستشفى لتطمئن على فراس ، لكن قلبها لم يطاوعها أن تترك الحفيدين رباب ويزيد وحدهما .
بعد أن غفا يزيد ، انسلت الجدة من جانبه بخفة ، اتكأت على الحائط دون أن تحمل عصاها خوفا من أن يستيقظ الطفلان ، نظرت إلى رباب وهي غافية في سريرها وسألت ربها قائلة :
لماذا يا ربّ لم تخلق رباب ولداً ذكراً لتكون عوناً لوالدها ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لو كانت ” “مقصوفة ” العمر ولداً لما غلبها احد ، وأما ” البنات فهمهن للممات “.
عادت الجدة إلى الفراش ، احتضنت يزيد وضمته إلى صدرها ، كانت قلقة كالملدوغ تنام ساعة وتفيق أخرى من شدة قلقها على فراس ، مع أنها اطمأنت على صحته بعد أن تثاءبت في أعقاب رقيها له.
وعندما نادى المؤذن لصلاة الصبح ، قامت وصلّت ، ثم جلست على سجادة الصلاة تداعب خرزات مسبحتها بيدها . وقبل الضحى عاد مازن وصفية من المستشفى تعبين ، طرحا عليها تحية الصباح ، وقبل أن ترد على التحية بمثلها أو بأحسن ، استفسرت عن فراس ، فأخبرها مازن بأنه بخير، ولا خطر عليه فسألت :
– لماذا لم تحضراه معكما ؟
لأنه بحاجة إلى مراقبة طبية .
– وماذا ستفيده المراقبة الطبية؟
الأطباء أدرى بعملهم .
– لا .. إنهم لا يعرفون شيئا، بعد أن صليت المغرب، عملت له ” رقية ” من عيون الحاسدات ، وتثاءبت ، فتأكد لي انه بخير ، ولولا ” الرقية ” التي عملتها لما أفاده الأطباء شيئا.
ضحك مازن وصفية وقالا : الله يحفظك لنا ، ودخل مازن إلى غرفة النوم لينام ، في حين عرجت صفية على غرفة الأولاد ، وجدتهما مستيقظين ، قبلتهما ، وذهبت إلى المطبخ فأعدت لهما وللجدة طعام الفطور ، وبعد أن تناولا وجبتهما دخلت إلى غرفة النوم لتنام قليلاً ، فتبعها صوت الجدة يقول : ابتعدي عن مازن ، ولا تدخلي عنده .. دعيه يستريح ، فلم تكترث لذلك صفية ، دخلت إلى الغرفة ، استبدلت ملابسها ، واستلقت بجانب مازن على السرير منهكة .
لم يطل نوم صفية ، ربما نامت حوالي ساعتين ، ونهضت لإسكات رباب ويزيد حتى يتسنى لوالدهما أن يأخذ حاجته من النوم ، وكذلك الجدة غطت في نوم عميق لم يخلصها منه إلا أذان الظهر . في حين لم يستيقظ مازن إلا في الساعة الثالثة من بعد الظهر ، تناولوا طعامهم ، واستقلوا السيارة جميعهم لزيارة فراس في المستشفى ، كان الورم قد خفّ قليلاً في وجهه ، فعاد يستطيع فتح جزء من جفنيه ليرى من يجلس بجانبه ، وعندما رأته الجدة صرخت بصوت أذعر المرضى والزائرين الآخرين في الغرفة ، كما كان كافياً لهرولة الأطباء والممرضات إلى مصدر الصوت ظناً منهم أن احد المرضى قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، فهذه الصيحة لا تصدر إلا عن والدة ثكلى ، في حين تعوذت الجدة بالله من الشيطان الرجيم ورددت بسيطة .. بسيطة.
اعتذر مازن للأطباء وللممرضات وللمرضى والزائرين عن صرخة والدته المدوية ، ومازح فراس قليلاً ، وطلب من والدته وزوجته وأبنائه أن يخرجوا من غرفة الإنعاش المكثف ليتركوا المرضى مرتاحين ، قاومت والدته محاولة عدم الخروج لكنها استسلمت في النهاية وخرجت .
الأفاعي
استقل مازن السيارة وإياهم ، وانطلق بهم إلى حيّ الشيخ سعد إلى المقاثي ، وحينما تبينت الجدّة وجهته عندما وصلوا إلى حي الصلعة صاحت به أن يعود إلى البيت، وهي تلعن المقاثي واليوم الذي زرعوا فيه مقاثي ، هدّأ مازن من روعها وهو يردد : توكلي على الله يا أمي .. توكلي على الله .
وإذا بها تنعى بصوت خافت :
طريق الشيخ سعد وأنا ما أجيها … وفراس لسعته الدبابير فيها .
فضحك مازن ورباب قهقهة ، في حين وضعت صفية منديلا على فمها خوفا من أن تسمع حماتها ضحكتها، أمّا يزيد فقد كان غافيا في حضن أمه .
جلست الجدة تستظل بجانب الخيمة الشرقي ، حيث كانت أشعة الشمس ترسل خيوطها الذهبية على استحياء ، كأنها عروس في خدرها ، كانت الشمس تودع يوما مضى على ربوع هذه البلاد ، ليبدأ صباح يوم جميل في مغارب الكرة الأرضية ، كانت الجدة تسبح بحمد ربها على ” مسبحتها ” وكأنها تعد خرزاتها واحدة واحدة ، وعندما تنتهي إلى شاهد المسبحة ، تعاود الكرة من جديد ، فهي على صلة دائمة مع ربها ، فالعمر مضى ، وموسم الحصاد قد دنا ، والدنيا لا تغني عن الآخرة ، أما صفية فقد دخلت الخيمة توضب الفراش والأواني فيها ، بينما مازن وولداه رباب ويزيد يقطفون ثمار المقاثي .
لم يقطع تسبيح الجدة إلا بضع ثمرات من الفقوس والبندورة ألقت بها رباب في حضنها وهي تقول: كلي يا جدتي .
فردت الجدة : كيف سآكل الفقوس بدون أسنان يا بنيتي ، وشرعت تقضم واحدة منها على لثتها التي تصلبت إلى درجة كافية .
فقالت لها صفية : قلنا لك مرات كثيرة بان تذهبي إلى طبيب الأسنان كي يعمل لك ” طقم أسنان” اصطناعي وكنت ترفضين على الدوام .
– لم يبق من العمر قدر ما مضى يا بنية ، فلا حاجة لي بالأسنان الصناعية ، فمنظرها يدعوني إلى التقيؤ .
شرعت صفية تطبخ البندورة مع البامياء لوجبة العشاء، في حين واصل مازن بمساعدة رباب الدؤوبة قطف الثمار ووضعها في السلال ، ولم يتوقف حتى غابت النباتات وثمارها في عتمة الليل ، فعاد يحمل سلاله إلى الخيمة .
تحلق الجميع حول المائدة التي وضعتها صفية أمام الجدة ، ولما انتهوا قالت الجدة :
– هل تعلمون يا أبنائي إن الحشرات والزواحف لا تؤذي إلا من يؤذيها ؟
سكت مازن وصفية في حين سألت رباب :
وكيف يكون ذلك يا جدتي ؟
– قالت الجدة :
رحم الله أباك يا مازن ، عندما تزوجني سكنّا في مغارة ” أم خليل ” هذه المغارة كبيرة من الداخل تستطيع أن تبني في داخلها عشر خيام ، كانت مقسمة إلى ست دور ، كل دار محاطة بحجارة على ارتفاع نصف متر تقريباً، كان جدك وجدتك في دار ، وعمك أبو خالد وزوجته وأولاده في دار ، وعمك أبو سلامة وزوجته وأولاده في دار ، وعمك أبو متعب وزوجته وأولاده في دار ، وابن عمك سلامة وزوجته في دار ، كانا عروسين لم ينجبا بعد ، وأنا وأبوك يرحمه الله في الدار الأخيرة ، وكانت طريق بين الدور توصل إليها جميعاً . كان على جانب باب المغارة الأيمن زير ماء مدفون في الأرض ومغطى بصحن ، كنا نشرب منه جميعاً ، وكان على جانب الباب الأيسر أفعى معمرة ، على جلدها ما يشبه الريش من كبر عمرها ، كنا نراها ونطرح عليها السلام ، كانت تسمع وتدير رأسها إلى الداخل حتى نعبر داخلين أو خارجين ، كانت تفهم علينا ونفهم عليها ، عندما كانت تعطش كانت تخرج إلى الزير ، ترفع الصحن عن بابه، وتدلي رأسها وتشرب ، ثم يعود الصحن بقدرة الله ليغطي باب الزير كما كان ، وكنا نشرب من الماء بعدها تماماً مثلما هي تشرب بعدنا ، وعندما كان ينزلق احد فراخها الصغار من الجحر إلى مدخل المغارة ، كانت جدتك – الله يرحمها ويرحم كل الأموات – تحمله بلطف وتعيده إلى جحر أمه ، فترفع رأسها وكأنها تشكرنا جميعاً . لم نؤذها ولم نؤذ صغارها ، فلم تؤذنا جميعاً كباراً وصغاراً، كانت تفهم حق الجوار مثلما نفهمه نحن ، وعشنا خمس سنوات على هذا الحال ، أنجبتك خلالها ، كما أنجبت شقيقتك أمينة قبلك ، ما شاهدنا منها إلا كل خير ، ذات يوم وكان عمر أمينة حينذاك سنتين ، كانت نائمة في دارنا في المغارة ، تركناها وخرجنا بعد الظهر للحصاد ، كانت هذه الأرض المزروعة الآن بالمقاثي مزروعة بالقمح ، كانت السنة خصبة، والعام عام خير وبركة ، عندما عدنا إلى المغارة ، كانت الأفعى تلاعب أمينة ، تقترب منها ، ترفع رأسها إلى حضنها ، أمينة تمسك بالأفعى وتريد أن ترفعها إلى فمها ، عندما تقترب الأفعى من فم أمينة ، يقشعر بدن أمينة فتبعدها ثانية ، عندما رأيت ذلك أطلقت صرخة مدوية اهتزت لها الجبال ، فانسلت الأفعى إلى جحرها بهدوء ، وجدتك تقول : لا تخافي أنها جارة تحفظ حق الجار ولا تؤذيه ، ركضت إلى أمينة ، قلبتها إلى جميع الجهات ، خلعت ملابسها ، فتشت جسدها كاملاً وأنا ارتجف خوفاً ، ولم أجد أي اثر على جسمها ، وها هي حيّة ترزق كبرت وتزوجت وأنجبت ، حقاً أن الأفاعي لا تؤذي جيرانها ، كانت صفية ترتجف من الخوف ومازن يستمع بدون اكتراث ، أما رباب فكانت كلها آذاناً صاغية ، في حين نام يزيد قبل أن يسمع أو يفهم شيئا مما قالته جدته .
مالكم لا تتكلمون يا أولاد؟ وجهت الجدة سؤالها لمازن وصفية ، أظن أنكم غير مصدقين ، إن صدقتم أو لم تصدقوا فهذا شأنكم ، فانا والحمد لله لا اكذب ، وكما يقول المثل ” الكذب على الأموات وليس على الأحياء ” إن كنتم مشككين بما قلته فبإمكانكم ان تسألوا أم متعب وأم خالد ، فقد كانتا شاهدتين على ما أقول .
وهنا تدخلت رباب وسألت: وهل كل الأفاعي لا تؤذي جيرانها يا جدتي ؟ مثلا لو شاهدت أفعى في المقاثي ، هل اقترب منها لأنها لا تؤذي ؟
فردت الجدة : أفاعي المقاثي ليست جيراناً لنا ، فنحن لا نسكن هنا إلا بضعة أسابيع في السنة، وهي ليست كافية للتعارف ، في حين قالت صفية بصوت مسموع : حذار حذار يا رباب فالأفعى لا يؤتمن جانبها ؟؟ وهنا تدخل مازن وقال : قرأت في احد الكتب انه قبل مئات السنين ، خرج طفل من بيته في يوم ماطر ، ووجد أفعى ملتفاً حول نفسه لا يقوى على الحراك من شدة البرد ، فحمله الطفل إلى البيت ، ووضعه بجانب الموقد ، ولما شعر الأفعى بالحرارة تمدد وسعى باتجاه الطفل فاتحاً فمه مكشراً عن أنيابه ، وهنا دخل الأب فاستل سيفه وقطع رأس الأفعى وردد قائلا:
بني احذر لئيماً أمنته ولا تعمل المعروف مع غير أهله
فقالت الجدة : الأفعى الذي تتكلم عنه ليس جارا، ولو كان جارا لهم لحفظ حق الجوار .
المهم في الموضوع يا أبنائي إن فراس لم يحفظ حق الجوار مع الدبابير ، جمع أولاد الحارة وهاجمها في عشها في الطرف البعيد للمقاثي ، الدبابير تطير في وسط المقاثي وحول الخيمة ، وأحياناً تدخلها لكنها لم تلسع أحداً ، أليس الأمر كذلك ؟
أم أنكم لم تشاهدوها تطير وسط المقاثي ، وتحط على الأزهار ؟! وأحياناً على الثمار ، تأكل قليلاً وتحمل قدراً يسيراً إلى عشها لإطعام صغارها ، وللتخزين لفصل الشتاء ، لم يتركها فراس وزملاؤه وشأنها ، هاجمها وحاول هدم عشها ، فدافعت عن نفسها ، أي بيني وبينكم لو أن شخصا آخر فعل ما فعل فراس لقلت انه يستحق ما جرى له ، والحمد لله أنها جاءت سليمة .
فسألت صفية : هل سبب ما جرى لفراس هو عدم حفظه لحق الجوار مع الدبابير أم الحسد يا عمة ؟ كلا الأمرين ، أجابت الجدة !! فعيون الحاسدات الفارغة هي التي أغوت فراس ، وجعلته يقود الأطفال لمهاجمة عش الدبابير المجاورة للمقاثي ، وهذه ليست من تقاليد العائلة، ولا من تقاليد المؤمنين ، المؤمن عندما يرمي بذوره في الأرض يدعو ربه قائلاً :
يا رب أطعمنا وأطعم الطير في ظلام الليل، والله سبحانه وتعالى في سماواته يرسل الأمطار على أجنحة الغيوم ، فترفرف فوق ارض المؤمنين ليتساقط المطر مدراراً، ويأتي الخصب ، ويتغاضى جلّ شأنه عن خطايا البشر رأفة ببقية الحيوانات ، ورأفة بالأطفال الرضع والشيوخ الركع ، ألا تلاحظون أن خيرات أرضنا أكثر من خيرات ارض جارنا أبي سماحة ؟! وواصلت حديثها بعد أن وضعت راحة يدها تحت كعب ذقنها، في حين ثبتت كوع اليد على الصدر ، لتلف رأسها يميناً وشمالاً مصدرة أصوات قرقعة، نعم إن خيرات أرضنا أكثر من خيرات ارض أبي سماحة ، لان أبا سماحة يضع حجارة صغيرة في علب معدنية، يوزعها على أبنائه ليدوروا بها محركينها وسط المقاثي ، فتجفل العصافير هاربة من الصوت الصادر عنها ، وهذا بحد ذاته حنث بالدعاء الذي دعا ربه به وهو يبذر الأرض، وعلام الغيوب لا ينام ولا يخفى عليه شيء ، لذا فإنه يعاقبه بأن يحرمه من أضعاف ما تأكله الطيور.
– وهل تهرب الدبابير من الأصوات كالطيور يا جدتي ؟ سألت رباب ؟
فتجاهلت الجدّة الإجابة عن سؤال رباب .
– إذن لماذا كنت تغضبين من أبناء الجيران عندما كانوا يتجولون في المقاثي باحثين عن بعض الثمار، مع أن الأطفال أحق من الطيور بالطعام؟ سألت صفية .
فقالت الجدة : أنا لم اغضب من الأطفال ، وأحب أن يأكلوا ، لكنني اغضب من أهاليهم الذين لا يزرعون لهم .
مفاخرة
لم يشعر فراس بأهميته إلا أثناء وجوده في المستشفى وبعد خروجه منه مباشرة ، كان يمشي بكبرياء لم يعهدها من قبل ، فالعشرات من النساء والرجال زاروه في المستشفى ليطمئنوا عليه ، بعضهم لصلة القربى مع والديه أو مع احدهما على الأقل ، والبعض الآخر لارتباطات اجتماعية مختلفة ، وبعضهم كان يصطحب ابنه الذي هو من جيله ، أعجبه منظر علب الشوكولاتة المختلفة ، تتكدس فوق بعضها البعض ، على الخزانة الصغيرة الجاثمة على يمين سرير الشفاء ، إضافة إلى أكياس بلاستيكية مليئة بأنواع مختلفة من الفاكهة . كانت الوالدة تفتح أكثرها جودة لتقدمها للزائرين، ينتقون منها قطعة يلتهمونها تعبيراً عن سعادتهم بشفاء فراس، في حين كانت تضع بضع قطع في جيوب الأطفال والفتية .
واحد فقط من الزائرين شذّ عن القاعدة، انها معلمته ، لقد أحضرت له باقة زهور جميلة ورواية ” أنا وجمانة ” للأديب محمود شقير .
كانت الهدية لافتة للانتباه ، وازداد شعور فراس بأهمية الهدية عندما كان يسأله الطبيب أو إحدى الممرضات: من أين لك هذه الزهور الجميلة وهذه الرواية الرائعة يا فراس؟
من معلمة الرياضيات السيدة سكينة يجيب فراس مفاخرا، وعند خروجه من المستشفى انهالت عليه مئات القبلات من نساء ورجال لم يتوقعهم من قبل ، أذهله الحنان الزائد غير المتوقع خصوصاً من قبلات النساء ، ففيها حرارة أكثر من قبلات الرجال ، فالرجال كانوا يضعون خدهم على خده من كل جانب ويقبلون في الهواء ، بينما قبلات النساء تنطبع على خده مباشرة ، فارتسمت شفاه نساء كثيرات على خديه مثلما يرسم خاتم مؤسسة على وثيقة صادرة منها ، جعلته يضحك على نفسه عندما يقف أمام المرآة بعد أن تأمره والدته بمسح ” صبغة ” الشفاه النسوية عن وجهه .
بعضهم أهداه بنطالا وقميصاً ، واقتصرت هدايا البعض على بنطال أو قميص ، جعلته يغير ملابسه في اليوم أكثر من مرة .
دبّت الغيرة في نفس رباب ويزيد ، كل واحد منهم يريد ملابس جديدة مثل فراس ، حتى أن رباب تساءلت أمام والدتها وجدتها قائلة :
– متى سأدخل المستشفى مثل فراس كي تأتيني الهدايا مثله؟
ضحكوا جميعهم على سؤالها ، وفي مساء اليوم التالي عاد الوالد من العمل يحمل فستانين جميلين لرباب ، وبنطالين وقميصين ليزيد .
وفي المدرسة اخذ فراس يروي لأقرانه عن مغامراته مع الدبابير ، مختلقاً حوادث في صولات له معها لم يبتدعها إلا خياله ، وتحدث عن محبة الناس له لما يتحلى به من شجاعة يفتقر إليها آخرون ، جعلت الأطباء يعتنون به عناية فائقة تماماً مثلما يعتنون بجرحى الحروب، كما كان يشاهدهم على شاشة التلفاز .
فقال قصي متسائلا: جرحى الحروب يحاربون دفاعاً عن أوطانهم وشعوبهم فعمن كنت تحارب أنت
سحب فراس شهيقا عميقا، نفخ صدره فاستطالت قامته وقال :
– كنت أحارب الدبابير دفاعا عن المقاثي في أرضنا .
فابتسم بعض الطلبة وضحك البعض الآخر قهقهة وهنا تدخل نزار وسأل :
– أيهما اشد لسعة الدبور أم لدغة الأفعى ؟
فأجاب فراس : طبعا لسعة الدبور .
وقال عبد الباقي : لا .. لا .. لدغة العقرب هي الأشد وهي الأخطر ، انها أخطر من لدغة الأفعى .
فسأله نزار : وكيف عرفت؟
فأجاب : جدّي كان يقول ” عند العقرب لا تقرب وعند الأفعى افرش ونام ” .
فقال فراس متسائلا: وهل ينام أحد بجانب الأفاعي غير المجانين؟
فتدخلت رباب وقالت : عيب عليك أن تصف الذين ينامون بجانب الأفاعي بالمجانين ، فجدي رحمه الله وجدتي أطال الله بقاءها وعماتي وزوجاتهم وأبناؤهم كانوا ينامون في مغارة ” أم خليل ” وعند مدخلها كان جحر مليء بالأفاعي يرونها وتراهم ، وكانوا يشربون هم والأفاعي من نفس الزير ، ولا يؤذي احدهم الآخر ، هذا ما أخبرتنا به جدتي ، وان كنتم غير مصدقين بإمكانكم الذهاب إليها وسؤالها.
فقال نزار :
عندما كنا نذهب إلى البرية ، كنت وأطفال الجيران نصعد إلى قمة جبل المنطار .. هناك .. وأشار بإصبعه إلى الجبل الذي يبعد حوالي خمسة عشر كيلو متراً عن جبل المكبر ، انظروا إليه انه جبل مرتفع، من قمته تستطيع أن ترى القدس بوضوح ، والى الجنوب يكون البحر الميت اخفض منك ، ترى أشعة الشمس تنعكس على مياهه المالحة بوضوح ، وعلى مقربة منك عندما تنزل السفح الشرقي للجبل يتربع ” طعز ” الشاعر ، انه جبل من الصخور الحورية البيضاء يقف كأهرامات مصر ، جبل أملس أبيض ، لا تنمو عليه الأعشاب ، لكنه جميل جداً ، كنت العب وأصدقائي على قمة جبل المنطار ، نقلب الحجارة فنجد تحتها عقارب ، بعضها أصفر اللون ، وبعضها أسود فاحم ، وبعضها خليط بين السواد والصفار ، كنا نجمع العقارب نحمل الواحدة على حجر رقيق ، نضغط عليها كي لا تهرب ونوصلها إلى مكان محدد ، كنا نتقاسمها، أنا كنت آخذ سوداء اللون ، ولؤي يأخذ الصفراء ، وهاني يأخذ الصفراء التي يشوبها السواد ، ويحمل كل واحد منا عصا صغيرة لنردها إلى ساحة المنازلة ، فتهاجم بعضها بعضاً ، كانت ترفع ذنبها إلى أعلى تحاول الإمساك بأخرى بيدها ، تعضها بفمها ثم ، تثني ذنبها باتجاهها ، فتلدغها لدغة مميتة ، كانت العقارب السوداء هي الأقوى والأكثر سُمّاً ، كانت ترفع ذنبها ثم تثني قمته باتجاه ظهرها ، وإذا ما اقترب من أخرى تنزله باتجاهه بطريقة تشبه رافعة الباطون ، تلدغها لدغة تشل أطرافها ثم تموت، كانت العقارب تموت حتى تبقى واحدة من العقارب السوداء ، فتدور وحدها ثم تثني ذنبها على ظهرها فتلدغ نفسها ، وتموت هي الأخرى .
وهنا سألته رباب : هل كانت تموت من لدغات الأخريات لها أم من لدغها لنفسها؟
فأجاب نزار : لا أعلم بالتأكيد .. لكن ما شاهدته أنها تموت من لدغتها لنفسها .
فسأله فراس : إذن العملية عملية انتحار ، وهل تنتحر العقارب؟
فأجاب : لا أعلم .. ولكن هذا ما كان يحصل .
وهنا وقف عكرمة الذي بقي صامتاً طوال الوقت وقال :
أراكما تفاخران بشيء ليس لكما فيه ناقة ولا جمل ، فراس يفاخر بمحاربته الدبابير ، ونزار يفاخر بمحاربته العقارب ، وكان الأجدر بكما أن تبتعدا عن الدبابير وعن العقارب ، ففراس نجا من الموت بأعجوبة لقرب الشيخ سعد من المستشفى في القدس ، ولو كان في مكان بعيد لمات قبل أن يصل إلى المستشفى ، وأنت يا نزار لو لدغتك عقرب في جبل المنطار لمت قبل أن تصل إلى المستشفى .
وهنا قرع الجرس .. فتفرقوا وذهب كل واحد منهم إلى صفه .
الكهوف المسكونة
وفي يوم صيف قائظ قرر فراس وأربعة من أصدقائه – نزار ، سعيد ، عبد الباقي و عكرمة بأن يذهبوا في رحلة إلى البراري سيرا على الأقدام ، كانوا في الثالثة عشرة من أعمارهم ، الجو صاف ، والحصادون في الحقول، من زرع الكرسنة والعدس كان أنهى حصادها ، وهو الآن على البيادر لدراستها واستخراج الحبوب منها ، أما من زرع القمح والشعير فهو لا يزال في فترة الحصاد .
لفت الحصادون انتباه الفتية الذين كانوا يحملون على ظهورهم حقائب صغيرة فيها بعض أرغفة الخبز ، وحبات من الزيتون ، وبضع حبات من البندورة ، وقنينة ماء ، ونقافة لاصطياد العصافير . فمنذ أن وصل الفتية يقودهم نزار إلى منطقة الضحضاح ، وبالتحديد عند النقطة التي تشبه مفترق الطرق ، كانوا وجها لوجه أمام جبل المنطار الذي يفرد ذراعيه باتجاه الغرب حاضنا المنطقة ، كانت خربة جنجس الأثرية على يمينهم ، ومرج الخلايل ذو التربة الحمراء على يسارهم ، في حين كانت جوفة السوق ، ودمنة بني هلال ، وبيار موسى ، وأم الرتم التي تشكل بوابة لوادي الدكاكين أمامهم . فكل هذه المناطق يعرفها نزار عندما كان يسكنها مع والديه أيام كانوا يقتنون الغنم ، ويفلحون الأرض .
كان الحصادون رجالا ونساء وأطفالا ، يعملون كخلية نحل ، لكن النساء وكن أكثر التزاما بالعمل ، تثني الواحدة منها جسدها من أعلى الفخذين حاملة المنجل في يد وقابضة على الزرع في اليد الأخرى ، ثم تثني نبتة واحدة منها على الجزء السفلي ، لتشكل رزمة من السنابل تشبه باقة الورد ، تلقيها فوق بعضها البعض كالرجم ، في حين كانت العجائز يجلسن على مؤخراتهن زاحفات وراء السنابل بنفس الطريقة، بعض الرجال يتهرب من مواصلة العمل بالابتعاد قليلاً ، فينبطح على الأرض متكئا على أحد جانبيه، مسندا رأسه بيده السفلى ليدخن سيجارة أو أكثر ، ويشرب الشاي ، أو يذهب إلى أحد الحقول المجاورة مناديا على رجل آخر أو أكثر ، يجلسون ويتسامرون و يلعبون ” السّيجة ” ، أما النساء فلا خيار أمامهن سوى الاستمرار في العمل ، بعض المرضعات منهن كن يصطحبن أطفالهن معهن ، يبنين لهم مظلة صغيرة كما تيسر ، ويتركنهن أثناء العمل . ويرضعنهن كلما ازداد بكاؤهم . وبعض الرجال كان ينصب “قادم” الزرع و يطلب من الصبية أن يأتوه بغمور الزرع ، فيشدها على القادم ، و يحملها على ظهر بغل أو حمار ، ويرسلها مع الصبية إلى البيدر.
شعر الفتيان بنوع من الغيرة من هؤلاء الحصّادين الذين يعملون في الأرض ، وخصوصا من أطفالهم الذين يمتطون ظهور البغال والحمير مثل السعادين ، وتمنوا لو أنهم مثلهم ، ظنا منهم أنهم الأكثر سعادة ، فَهُم يعرفونهم كونهم أبناء مدرسة واحدة وبعضهم من جيلهم ، في حين كان أبناء الحصّادين يشعرون بتعاسة تحرمهم من اللهو كأقرانهم الذين يلعبون و يذهبون في رحلات كما يشاؤون .
اقترب الفتية الخمسة من الحصادين ، وعرضوا عليهم المساعدة ، فرحب الحصادون بهم ، كانوا يقصفون نبتة من هنا وأخرى من هناك ، بحيث كان ضررهم أكثر من نفعهم ، فالخبرة تنقصهم ، وليس كل من حمل المنجل حصادا على رأي الحاجة أم جمال ، وعندما شاهد الحاج أبو جمال طريقتهم في الحصاد ضحك حتى بانت نواجذه ، فناداهم وطلب من اثنين منهم أن يذهبا إلى قطعة من الأرض لا يزال اخضرار في زرعها ، وأن يحضروا نباتات القمح منها ليعمل لهم ” فريكة ” وطلب من الثلاثة الآخرين أن يحضروا الحطب ، وبعد أن نفذوا ما طلب منهم أشعل النيران ، ووضع السنابل فيها ، وبعد قليل كان يأخذ سنبلة يفركها بين يديه ، ثم ينفخ عليها بفمه ليبعد القش عنها ، ثم يلقي بها في فمه ، عمل الفتية مثله، حقاً أن ” الفريكة ” لذيذة وهي ساخنة ، اصطبغت أيديهم ووجوههم بالسواد من اثر الرماد ، أكلوا حتى شبعوا وحملوا في جيوبهم من الفريكة الجاهزة لالتهامها متى شاؤوا ، ثم ذهبوا إلى حوض البئر القريب ليغسلوا أيديهم ووجوههم ، وانصرفوا في طريقهم بعد أن لم يسمح لهم الحاج أبو جمال بامتطاء الحمير والبغال خوفاً من أن يسقطوا عنها وتـتكسر أطرافهم .
اتجه الفتيان إلى منطقة وادي الدكاكين ، فهالهم اصطفاف الكهوف على جانبي الوادي مثل الدكاكين في أسواق القدس القديمة مما اكسبه هذا الاسم ، كانت المرة الأولى التي يرون فيها هذه الأعداد من الكهوف – طبعاً باستثناء نزار الذي قادهم إلى هذا الوادي – كانت الكهوف تبتعد قليلاً عن مجرى السيل ، وهي مختلفة المساحة ، والترتيب ، حسب إمكانيات من حفروها وسكنوها ، بعضها واسع وأمامه مسطبة مرتبة تشبه ” فرندات ” البيوت الحديثة ، وعلى احد جوانبها كهف آخر يستعمل حظيرة للبهائم في مواسم المطر ، وبعضها ضيق صغير المساحة ، يبدو انه كان يستعمل لزوجين شابين كما قال سعيد ، كانت المنطقة الصخرية مليئة بالجحور التي تعشعش فيها الطيور ، تراكض الفتية من كهف إلى كهف، وكأنهم يكتشفون شيئاً جديداً ، باستثناء نزار الذي دخل إلى الكهف واستلقى على ظهره ماداً يده كأنه مصلوب ، يستبرد في رطوبة الكهف من سياط حرارة أشعة الشمس اللاهبة في الخارج . فعاد إليه زملاؤه الأربعة فرحين ، و استلقوا بجانبه ، وبعد الظهر انتشروا يبحثون عن أعشاش العصافير ، فأمسكوا ببعضها في الأعشاش ، واصطادوا بعضها بحجارة نقافاتهم ، وعند المساء كانوا جمعوا ما يزيد على العشرين عصفوراً ، فصلوا رؤوسها عن أجسادها بأيديهم، فلم تكن بحوزتهم سكاكين ، جمعوا الحطب ، وأشعلوا النيران ، وأكلوا وجبة لذيذة أمام احد الكهوف ، كان الكهف المجاور مليئا بالحطب ، يبدو أن أحد الرعاة قد جعله مخزناً له، وكانوا كلما خمدت النار غذوها بحطب جديد .
مرّ من الوادي حصادان كانا في طريقهما إلى بير ” الخرمة ” الواقع على بعد ما يقارب الكيلو متر في عمق الوادي ليجلبا الماء ، فرأيا كهفا مضاءاً تشتعل النيران فيه ، وسمعوا أصواتاً لم يميزاها ، فوليا هاربين عائدين طريقهما ، فهذا الكهف بالذات سمعوا عنه مئات الشهادات التي تؤكد أن الجنّ يسكنونه ، ومن هذه الشهادات ، انه يضاء في ليال معينة من السنة ، ومنها انه تصدر منه أصوات غناء في ليالي أخرى ، ومنها أن أكثر من شخص قد سمعوا أنيناً فيه ، وآخرها أن الحاج حمدان بلحمه ودمه قد رأى بضع دجاجات ليست كالدجاج الذي يعرفونه ، تسيرعلى رؤوس مخالبها وترفع رؤوسها ، ولو رأت رجلاً أمامها لافترسته ولم تبق منه شيئاً ، والحاج حمدان رجل ثقة والكل يشهد له بالصدق والأمانة .
عاد الحصادان إلى حقليهما يرتجفان ، اطمأنا على زوجتيهما وأطفالهما ، ولم يخبراهم بشيء ، فالنساء والأطفال يخافون كثيرا، ثم ذهبا سوية إلى بعض الحصادين والرعاة ، وأخبراهما بالذي رأياه. فأكد الجميع بأن تلك الكهوف مسكونة بالجن والعفاريت والعياذ بالله ، ولا يقترب منها ليلاً إلا من استغنى عن عمره أو عقله ، لكن الرجال قرروا أن يذهبوا ، وينظروا إلى الكهف عن بعد ، فذهبوا إلى التلة المحاذية لجوفة أم دسيس ، ومن هناك رأوا العجب العجاب ، وسمعوا الأعجب ، رأوا نوراً في الكهف، وناراً أمامه ، وسمعوا ضحكات فسروها بأنها استهزاء بهم ، فولوا هاربين ، وقد ازدادت نبضات قلوبهم من شدة الخوف.
أمضى الفتية الخمسة ليلتهم يتسامرون ، وعند بزوغ الفجر حملوا حقائبهم ، وعادوا طريقهم إلى بيوتهم.
في الصباح نهض الحصادون مبكرين ، وباشروا أعمال الحصاد ، وعند الضحى تشاور الرجال حول ما رأوه في الليلة الماضية ، وذهبوا مجتمعين إلى وادي الدكاكين ليستطلعوا ما رأوه ، كان بعضهم يتظاهر بالشجاعة ، لكنهم جميعهم كان الواحد منهم يقدم قدماً ويؤخر أخرى عندما يقترب من الكهف .
وعندما وصلوا ، رأوا بقايا الموقد ، ورأوا ريش العصافير المتناثر ، فأكد لهم كبيرهم وحكيمهم أن الذي كان في الليلة الماضية هو حفلة عرس لأحد أبناء العفاريت الذين يسكنون هذه الكهوف ، وقد كانت وليمتهم من العصافير ، فللعفاريت قدرة فائقة على اصطياد العصافير .
وبعد ظهر ذلك اليوم ، استيقظ فراس من نومه على صوت الحاج أبي جمال ، وهو يحدث الجدة عائشة كيف رأوا العفاريت في كهوف وادي الدكاكين . كان يروي لها القصة وحشرجة في صوته من شدة خوفه من العفاريت التي تصورها تتحرك أمام ناظريه ، استمع فراس إلى حديث الحاج أبي جمال وضحكة مخنوقة تكاد تخرج من جوفه ، فتقدم منهما وقال : يا عمي الحاج ما رأيتموه أنا وزملائي الذين كنّا عندك بالأمس ، وعملت لنا ” الفريكة ” اللذيذة ، نحن الذين أضأنا الكهف ، ونحن الذين أشعلنا النيران وشوينا العصافير. فقال الحاج أبو جمال: يا ابني يا فراس، عيب عليك أن تكذب ، فأنت وزملاؤك لم تكونوا هناك ، وهل أنا لا أعرفكم حتى تزعم بأنكم انتم من كنتم في الكهف؟
فأقسم فراس أغلظ الأيمان على صدق ما يقول، لكن الحاج أبا جمال لم يصدقه ، وكذلك جدته الحاجة عائشة ، وأضاف الحاج أبو جمال لقد نمتم انتم عند جدّ نزار ، ولم تدخلوا الكهف.
فابتسم فراس وقال : بإمكانكم أن تسألوا جد نزار، وتتأكدوا منه بأننا لم ننم عندهم، وحتى نزار لم يجرؤ أن يقترب من المنطقة التي يسكن فيها جده خوفاً من أن يراه .
انصرف الحاج أبو جمال عائدا إلى البرية، إلى حقول القمح حيث زوجته وأولاده وأحفاده ، غير مصدق لما قاله فراس ، انصرف وهو يشتم أبناء هذا الجيل الذين تخرج الكذبة من أفواههم بسهولة كما يشربون الماء ، في حين شرعت الجدة عائشة تقدم مواعظها لفراس محذرة إياه من مغبة الكذب خصوصا أمام الكبار ، وقد باءت بالفشل جميع محاولاته بإقناع جدته بصدق ما قال .
وعند المساء ، روى فراس لأبيه أمام جدته ما حصل معه ومع زملائه ، وما رواه الحاج أبو جمال ، فقال أبو فراس :
سمعت من أبي ومن آخرين كانوا من جيله – يرحمهم الله أجمعين – إن إحدى القبائل كانت تسكن في منطقة على مقربة من كهف عظيم مسكون بالعفاريت والجان والموارد – جمع مارد – والكل يؤكد انه رأى فيها أمرا عجباً ، فالبعض يقول انه رأى فيه نوراً ولم يكن في الكهف أي شخص ، وآخر يقول بأنه سمع بأذنيه أصواتاً بشرية تصدر من داخلها مع انه لم يكن فيه أحد ، وآخر يقول : بأنه رأى فيه أشباحا تتحرك ليست كالبشر أو كالحيوانات ، وآخر يقول انه رأى امرأة ترضع طفلاً وقد امتد ثدياها أمتارا، وآخر يقول أن امرأة غاية في الحسن والجمال كانت عارية إلا من شعرها الفاحم الذي يستر جسدها قد حاولت إغواءه واستدراجه إلى الكهف ، فولى هارباً منها ، وآخر يقول انه شاهد امرأة عجوزا أمام الكهف تجلس حزينة باكية ، تستنجد به ليساعدها على إخراج شوكة من قدمها لان نظرها لم يعد يساعدها ، فولّى هاربا منها لأنها تريد استدراجه للقبض عليه ، وآخر اقسم أغلظ الأيمان بأنه شاهد امرأة مخيفة تأكل رجلاً حيّاً قطعة قطعة ، وكان الرجال يجتمعون في ” مضافة ” شيخ القبيلة ولا حديث لهم سوى ما رأوه في ذلك الكهف .
وذات يوم جاء شيخ قبيلة أخرى بصحبة ابنه البكر إلى مضارب القبيلة ليطلب ابنة الشيخ عروساً لابنه، وكانت فتاة حسناء يحلم كل واحد من العازبين بأن تكون عروسا له ، وكانت تشترط أن فتى أحلامها يجب أن يكون فارساً شجاعاً مغواراً ، وعليه أن يدخل في تجربة تثبت ذلك ، وكان شرطها أن يأخذ قضيبا حديدياً مميزاً – كانت تحتفظ به – ويدقه في وسط الكهف عند منتصف الليل، فلم يقبل بهذا الشرط أيّ من أبناء القبيلة.
وعندما سمع ابن الشيخ الخاطب الشرط ، قال أنا اقبل شرطها، ائتوني بقضيب الحديد ، ووافق والده على ذلك رغم تحذيرات شيخ القبيلة والد الفتاة .
حمل الشاب قضيب الحديد ، وذهب إلى الكهف ، وعند منتصف الكهف غرس القضيب في الأرض ودقه على رأسه حتى اختفى أكثر من نصفه في باطن الأرض ، لكن الشاب لم يعد ، انتظروا حتى الصباح ، وذهبوا جماعة إلى الكهف ، فوجدوا الشاب ميتاً فيه ، ورأوا أن الشاب عندما غرس القضيب في الأرض جاء على طرف ردائه ، وعندما حاول النهوض كان القضيب ممسكا بالرداء ، فمات الشاب خوفاً ، لقد رأوا الحادثة بعيونهم ، لكن احداً منهم لم يستوعب ما جرى ، وظلوا مُصرين بأن العفاريت هي التي قتلت الشاب .
وهنا استشاطت الجدة غضبا، وسألت ابنها مازن بعصبية زائدة : ماذا تقصد بهذه الحكاية يا مازن ؟! اتق الله يا ولدي ، ولا تشوه عقول أبنائك بالكفر والإلحاد ، وأضافت تقول : استغفر الله العظيم ، اللهم لا تؤاخذنا بجريرة أبنائنا ، الله يقطع العلم والذين يعلمون أبناءهم ، نحن لم نعلمك يا ابني حتى تصل إلى هذا الكفر والجحود ، فالجن موجود وقد ورد ذكره في القرآن الكريم.
فرد عليها مازن قائلا: يا والدتي – هداك الله – أنا لا أنكر وجود الجن ، لكنهم – أي الجن – غير موجودين في كهوف وادي الدكاكين ، بل إن فراس وصحبه هم الذين كانوا في تلك الكهوف ، ألم تسمعي ما قاله فراس؟
فقاطعته الجدة قائلة : بل سمعت ، وهل تحسبونني جننت أو أصبت بالخرف حتى اصدق أكاذيب أطفال كفراس ؟ واكذب رجالا عاقلين كالحاج أبي جمال الذي لم نعهده يكذب في طفولته وشبابه حتى يكذب في شيخوخته إكراماً لفراس وصحبه الصبية الذين لم يروا في حياتهم شيئاً .
فقال مازن : حماك الله يا أمي من الجنون والخرف ، فلم يتهم احد الحاج أبا جمال بالكذب، لكنه فهم الأمر بطريقة مغلوطة ، كما أن الجن يا أمي لهم عالمهم الخاص الذي لا يعلمه إلا الله ، ولا علاقة لهم بالبشر ، وهم مخلوقات ضعيفة تهرب حتى من ذكر اسم الله .
فعادت الجدة من جديد تحذر ابنها مازن وأبناءه من مغبة الكفر ، وأكدت أن الجن موجودون في كل مكان، وربما هم يستمعون إلى حديثهم الآن ، وبسملت وهي تردد قائلة :
” تستور يا أهل المحل ” لإبعاد الجن عن البيت ، ثم أردفت تقول : يا ابني يا مازن أنت وزوجتك وأبناءك : الجن موجودون ، لهم سيطرة خارقة على البشر ، كما أن كرامات أولياء الله الصالحين رضي الله عنهم وأرضاهم موجودة هي الأخرى ومستمرة إلى قيام الساعة ، ألم تسمع عن كرامات الشيخ سعد ؟؟ وواصلت حديثها قائلة : أنها كرامات موجودة شاهدها كثيرون منّا ، كلكم تعرفون المرج ذي التربة الحمراء التي تقع خلف مقامه الطاهر ، كنا نزرعها حبوباً وبالذات القمح، فهي تربة خصبة ، ومن كان يتجرأ على سرقة سنبلة واحدة ، كانت تخرج له أفعى كبيرة ، تطارده حتى لا يعود ثانية إلى فعلته السوداء ، وقد شاهدت أفعى بأمّ عيني هاتين – اللتين سيأكلهما الدود غداً – تخرج من السلسلة الحجرية المحيطة بالمرج خلف المقام الطاهر ، كما أن إحدى النساء من الأبنية المحيطة وكانت عروسا جديدة ، قد خرجت لقضاء حاجتها ليلاً ، فتعثرت بحجر فنطقت كفراً – والعياذ بالله – فجاءها فارس أسود على ظهر حصان ، ومدّ يده وقبض على لسانها ولواه ، فما عادت تنطق أربعين يوما بلياليها ، حتى أفرج الله عليها بأن هدى ذويها إلى شيخ مؤمن فعمل لها ” حجاباً ” تحمله حرزا منيعا في رقبتها ، فعادت تتكلم من جديد، وحدثت بالذي جرى معها ، وهذه من كرامات الشيخ سعد يا أبنائي ، هذا الشيخ الذي لا يطيق سقف الغرفة المحيطة بقبره ، وكلما سقفها أحد المؤمنين تبخر سقفها دون أن يعلم أحد إلى أين ذهب!
وهنا سألها فراس : ومن هو الذي سقفها يا جدتي؟
فصاحت به قائلة : اخرس يا ولد، ولا تتدخل بمثل هذه الأمور ، فأنت لا تزال صغيرا.
انزوى فراس جانبا، شعر بامتعاض كبير، دارت أحداث كثيرة في مخيلته ، وتساءل في نفسه ، هل يكذب الكبار؟ لا … لا … لا يمكن أن تكون جدتي كاذبة ، هذا ما يقتنع به فراس ، لكن من أين تأتي بهذه الخزعبلات؟ تساءل مرة أخرى فلم يجد أجوبة لتساؤلاته ، زفر زفيرا طويلاً كأنه يخرج هموم دهر أثقلت صدره ، وانسحب إلى غرفة النوم ، تمدد على فراشه وفكر في أمور كثيرة سمعها من جدته ، وبقي على هذا الحال إلى أن غلبه سلطان النوم فاستسلم له .
تجربة فاشلة
ذهلت معلمة الرياضيات عندما أخرجت أوراق اختبار لطلبة الصف الخامس الابتدائي الذي تدرس فيه رباب كي تصححها ، كانت ورقة رباب هي الورقة الأولى في المجموعة ، فجميع أجوبتها كانت خاطئة ، أسندت المعلمة ظهرها على الكرسي غاضبة ، وتساءلت في نفسها : مادامت رباب لم تعرف الإجابات الصحيحة ، فمن يستطيع من الطلبة معرفتها ؟؟ بالتأكيد ، لا أحد.
وأخذت تبحث عن الأسباب ، وفي النهاية لامت نفسها فربما تكون هي السبب ، فلعلها لم تشرح الدرس بطريقة وافية ، ولعلها لم تستطع إيصال المعلومة الصحيحة إلى عقلية الطلبة ، فهذه هي المرة الأولى التي يتعلمون فيها جمع عدد مكون من ثلاثة أرقام مع عدد آخر ، لكن رباب شديدة الذكاء ، شديدة الانتباه ، وتستوعب كل شيء بسهولة ، فما الذي حصل ؟؟
راودت المعلمة أفكار كثيرة منها أن تقوم بشرح الدرس مرة أخرى ، وأن تشبعه توضيحا بحل بضعة أمثلة على السبورة . ثم ما لبثت أن اطلعت على ورقة أخرى لطالبة أخرى متوسطة الذكاء ، فوجدت أن غالبية إجاباتها صحيحة ، واطلعت على ورقة ثانية وثالثة ورابعة …الخ فكان الوضع عاديا ، فقررت استدعاء رباب إلى غرفة المعلمات واستيضاح الأمر منها .
سألت المعلمة رباب عن سبب إجاباتها الخاطئة وان كانت تفهم الدرس أم لا ؟؟ فأجابتها رباب بأنها كانت تفهم الإجابات الصحيحة حتى قبل أن تشرح المعلمة الدرس !! فلفتت أجابتها انتباه المعلمات الأخريات . وهنا نظرت معلمة التاريخ إلى إجابة رباب على السؤال الأول وكانت كالتالي : 151+137=18 حيث جمعت الأرقام من اليمين إلى اليسار بدلا من أن ترتب الثاني تحت الأول وتجمعهما كما هو معتاد ، فعقبت معلمة التاريخ قائلة : يبدو أنها لم تفهم الدرس ، وليس شرطا أن يفهم الطلبة المجتهدون كل شيء، ” فلكل جواد كبوة ” غير أن معلمة الرياضيات خاطبت رباب قائلة : تقدمي يا حبيبتي، فتقدمت رباب ، وضعت المعلمة الورقة أمامها وقالت : أنت قلت بأنك تعرفين الإجابة الصحيحة أليس كذلك؟
ـ نعم يا معلمتي ، أجابت رباب .
إذن ما الإجابة الصحيحة على السؤال الأول؟
نظرت رباب إلى السؤال على الورقة ، وقالت وهي تنقل إصبعها من رقم إلى رقم : 151+137=
1 + 7 = 8
5 + 3 = 8
1 + 1 = 2
وكانت تكتب الجواب أولا بأول بعد إشارة يساوي فكانت أجابتها 288 ، ثم انتقلت إلى السؤال الثاني والثالث إلى أن أجابت على الأسئلة العشرة إجابات صحيحة ، دون أن ترتب الأعداد المطلوب جمعها فوق بعضها البعض كما علمتها المعلمة .
فغرت المعلمات أفواههن استغرابا أمام هذه الحالة ، فقالت معلمة التاريخ : ربما درست المادة بعد الاختبار ، وربما ساعدها أحد والديها على فهمها .
فقالت معلمة المادة : لا يمكن ذلك، فالاختبار كان في الحصة السابقة هذا اليوم ، ثم التفتت إلى رباب وقالت : لماذا لم تكتبي الإجابة الصحيحة على ورقة الامتحان ما دمت تعرفينها؟
ـ أريد أن أعمل تجربة لأرى نتائجها.
أي تجربة؟ سألت المعلمة .
ـ هذا ليس شأنك ، أجابت رباب .
غضبت المعلمة وصرخت بها : كيف تقولين هذا ليس من شأني ، تأدبي يا بنت ؟
هرعت المديرة من مكتبها المجاور على صراخ المعلمة لتستطلع الأمر، فسمعت رباب تقول بصوت هادئ : أنا لم أسئ لك ولا لغيرك يا معلمتي حتى أتأدب، هذه قضية تخصني، وأؤكد مرة أخرى أن لا شأن لك بها .
سألت المديرة المعلمة عن سبب صراخها، وعن قصة هذه الطالبة =، ولماذا أخرجتها من الصف؟
فشرحت المعلمة الموضوع للمديرة ، واختتمت حديثها قائلة : وهي تزعم أنها تعمل تجربة بإجاباتها الخاطئة، وترفض أن تقول لنا عن ماهية هذه التجربة .
التفتت المديرة إلى رباب وسألتها : ما هي تجربتك يا حبيبتي؟
هذا أمر يخصني يا سيدتي ، وأرجو منك أن لا تفسدي علي هذه التجربة .
ابتسمت المديرة وقالت للمعلمة : دعيها وشأنها ، ضعي لها صفرا ما دامت إجاباتها خاطئة، واتركيها تعود إلى صفها.
لا … لا … لن أضع لها صفرا ، فهي تفهم الموضوع أكثر من غيرها من الطلاب والطالبات، وسأعتمد أجوبتها الشفوية الصحيحة ، سأضع لها عشرة من عشرة ، وكتبت ذلك على ورقة الاختبار .
وهنا التفتت رباب إلى المعلمة وقالت: سامحك الله يا معلمتي، لقد أضعت علي التجربة، فنهضت المعلمة عن كرسيها، وأمسكت بيد رباب، وقالت: الآن لن أسمح لك بالعودة إلى الصف قبل أن تقولي لي : ما هي تجربتك التي أضعتها .
قالت رباب : الآن بعد أن فشلت التجربة ، سأقول لك عنها.
أصغت المديرة والمعلمات لرباب وهي تقول وخيبة الأمل على وجهها : كان الأولى بك يا معلمتي أن تعيدي الامتحان للطلبة غير المجتهدين حتى يحسنوا علاماتهم ، أمّا أنا فقد حسبت تجربتي بطريقة صحيحة لن أخسر فيها شيئا ، وهي أنه لو كانت علامتي في هذا الامتحان صفرا ، فسأبقى الأولى على الصف في جميع المواد بما فيها الرياضيات ، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله ، وتجربتي كانت أنني رأيت طلابا وطالبات يأخذون أصفارا في بعض الاختبارات ، أو يحصلون على علامات قليلة لا تؤهلهم للنجاح ، وكانوا يفرحون لذلك، بل إنهم كانوا يزاودون مفاخرين على بعضهم البعض ، فصاحب العلامات الأقل هو الأكثر فخرا، حتى أن إحدى الطالبات في امتحان التاريخ حصلت على علامتين من عشرة ، ففاخرت على التي حصلت على ثلاث علامات ، فأردت أن أخوض تجربة التقصير لأرى ما هو الشعور الحقيقي للذي يفشل أو يقصر في امتحان ، ولأسفي الشديد فقد أضعت علي هذه التجربة ، وأضعت عليّ أن أعيش حالة الفشل والتقصير ولو في اختبار واحد.
نظرت المديرة والمعلمات إلى وجوه بعضهن البعض والدهشة تسيطر عليهن … تقدمت المديرة من رباب ، وطبعت قبلة على جبينها وهي تردد : حقا انك طالبة رائعة، ولو كان يوجد عندنا طالبة في مثل ذكائك في كل صف لكان في ذلك فائدة كبيرة لبقية الطلاب والطالبات، .. يا بنيتي اعتبري تجربتك ناجحة ، فبالتأكيد من يفكر مثلك يفكر بطريقة صحيحة . عودي إلى صفك.
التجريب
جلس فراس مسترخيا على أريكة في البيت وابتسم عندما تذكر المعلم وهو يشرح قانون الجاذبية الأرضية ، خصوصاً عندما قال بأن نيوتن صاحب نظرية الجاذبية صاح قائلاً : وجدتها .. وجدتها عندما سقطت تفاحة على رأسه من الشجرة التي كان يجلس تحتها ، وسأل المعلم التلاميذ: هل تعلمون ماذا وجد؟
فأجابوا بصوت واحد : نعم وجد التفاحة .
فقال المعلم بصوت مرتفع : أنا أسأل وأنا أجيب، هل تفهمون؟ لقد وجد الجاذبية الأرضية ، وهي : ” عبارة عن قوة تكمن في باطن الأرض ، وتجذب جميع الأجسام إليها ” أي إلى الأرض . وأضاف المعلم : وباطن الأرض مكون من حديد صلب ذي كثافة عالية جداً ، لذلك تجذب الأرض جميع الأجسام التي فوقها .
تذكر فراس الدرس وتساءل في نفسه : لماذا لا أجدها أنا مثلما وجدها نيوتن نظر إلى سقف الغرفة ، وقفز من مكانه ، حمل ورقة، ووضعها في جيبه، واتجه إلى طاولة الطعام في الصالة ، حمل كرسيا ووضعه فوق الطاولة، وصعد على الطاولة، ثم على الكرسي الذي فوقها، أخرج الورقة من جيبه ووضعها على السقف، فسقطت على الأرض، نزل ليكرر المحاولة ظناً منه أن السقف سيجذب الورقة إليه، ففي السقف حديد وكثافته عالية جدا قياسا بالورقة ، ومن المفترض أن يجذب الورقة إليه، مثلما تجذب الأرض الأجسام الأخرى التي عليها ، لكن محاولته الثانية باءت بالفشل أيضا.
فأطلق زفيرا عميقا وقفز إلى الأرض ، فتعثرت قدمه بالكرسي الذي سقط معه مخرجاً صوتاً مزعجاً لاصطدامه بالأرض مصاحباً لصوت الألم الذي انطلق من جوف فراس … فهرع والداه من غرفة النوم ، ولمّا سأله والده عن مصدر الصوت وعمّا يفعله؟
أجاب فراس : كنت اجري تجربة .
– أي تجربة يا بني؟
تجربة عن الجاذبية ، كنت أحاول أن أرى إن كانت قوة جاذبية سقف الغرفة ستجذب الورقة إليها … ولكن تجربتي لم تنجح .
– فقال له والده : السقف لن يجذب الورقة إليه ، لأن جاذبية الأرض أقوى من جاذبيته
فقال فراس : لم أنتبه لهذه القضية .
فحذره والده من مغبة تكرار فعلته كي لا يؤذي نفسه .
عاد فراس ليجلس على الأريكة مرة أخرى، والحمرة تعلو وجهه .
وهنا سمع والدته تشكو لوالده بأن المياه تندلف من الغسالة في البيت لعطب فيها ، وأنها اتصلت هاتفياً أكثر من مرة بالشخص الذي يقوم بتصليح الغسالات ، ويعد كل مرة بأن يأتي لمعاينتها وتصليحها في نفس اليوم ، وقد مرّ أسبوع كامل ولم يأت .. وقد تراكمت الملابس المتسخة ، وهي تخاف من تشغيل الغسالة وهي في هذه الحالة ، خوفاً من حصول تماس كهربائي قد يؤدي إلى حريق في البيت .
وهنا نهض فراس وذهب إلى الغسالة يتفحصها ، فرأته والدته وسألته عن مراده، فأجاب بأنه يريد أن يشخص ماهية العطب في الغسالة . وهنا سألته والدته باستهزاء : وهل وجدت العطب؟
فأجاب بهدوء وثقة : نعم ..أنها “الجلدة ” التي هنا وأشار إلى مكان في الغسالة ، وأضاف سأخرجها الآن ، وسأشتري مثلها ، وسأعيد تركيبها ولن تكلف أكثر من ربع دينار ، غير أن والدته أمرته بالابتعاد عن الغسالة ، خوفاً من أن يؤذي نفسه . وخوفا من أن يزيد العطب في الغسالة…. غير أنه ازداد إلحاحا مبينا أن تشخيصه للعطب صحيح مائة في المائة .
كانت رباب تراقب النقاش الدائر بين والدتها وشقيقها فراس ، فقالت ساخرة : دعيه يقوم بتصليحها فهو يعتقد نفسه مهندسا ؟ ألم يكن يعتقد أنه عالم عندما حاول أن يضع الورقة على سقف الغرفة ليجري اختبارا على الجاذبية، ولولا لطف الله لانكسرت ساقه.
نظر إليها فراس ولم يتكلم … لكنه عاود الإلحاح على والدته مؤكدا أنه يستطيع إصلاح الغسالة …. وهنا تدخل الوالد مازن قائلا : اسحب الغسالة من الكهرباء ، وأصلح الغسالة يا فراس ؟؟ ونادى زوجته وهمس في أذنها: دعيه يجرب، وان خرّب الغسالة سنشتري واحدة جديدة.
غمر الفرح فراس عندما سمع قول والده ، وشعر بامتنان كبير لموقفه هذا ، فاتجه إلى المخزن و أحضر صندوق عدة العمل ، وأخرج مفكا منها ، وقام باستخراج الجلدة من مكانها ، كانت مهترئةومقطوعة ، وهنا اتجه إلى والديه وهو يقول : وجدتها … انظر إليها ، سأذهب الآن إلى القدس وسأشتري واحدة مثلها ، وسأعيد تركيبها ، ونظر إلى شقيقته رباب وقال : ستتأكدين الآن أنني مهندس حقا.
وبعد حوالي ساعة ، عاد فراس بالجلدة الجديدة ، وقام بتركيبها مكان مثيلتها البالية في أقل من دقيقتين ، وخاطب أمّه قائلا : بإمكانك الآن أن تستعملي الغسالة ، لقد كلفتنا العملية أقل من ربع دينار .
اتجهت الأمّ إلى الغسالة وهي تردد لا حول ولا قوة إلا بالله ، وعندما قامت بتشغيل الغسالة ، وجدتها صالحة للعمل ، فقد توقف اندلاق الماء منها ، ففرحت لذلك كثيرا، ونادت على فراس … احتضنته وطبعت قبلة على جبينه ، واعتذرت عن رفضها السابق لمحاولته ، وهي تردد : لو جاء الفنّي المتخصص بتصليح الغسالة لأوهمنا بأن العطب كبير ، وأننا ربما سنحتاج إلى غسالة جديدة ، ولقبض أكثر من عشرين دينارا .
دار الظالمين خراب
ذات يوم عاد الوالد مازن إلى البيت مهموما بدون السيارة ، فقد أوقفه رجال الضرائب على مقربة من كنيسة الجثمانية قريبا من باب الأسباط في القدس ، وحجزوا السيارة بحجة أنه لم يدفع الضريبة على جهاز التلفاز في بيته عن السنوات السبع الماضية ، وأنه مدين لهذه الضريبة بمبلغ يصل إلى حوالي ستة آلاف شاقل ، أي ما يعادل الألف دينار أردني ، أو ما يعادل ثمن ثلاثة أجهزة تلفاز مثل الموجود في بيتهم .
وهنا صاحت الجدة عائشة قائلة : هل يريدون ثمن ثلاثة أجهزة تلفاز ضريبة على جهاز واحد؟ لماذا لم يأخذوا جهاز التلفاز نفسه بدل السيارة؟
فأجابها مازن : نعم .. نعم يريدون ثمن ثلاثة أجهزة تلفاز ضريبة على جهاز واحد، وهم لا يأخذون الجهاز نفسه، إنهم يريدون ما هو أثمن منه، لقد أخذوا السيارة .
فسألت الزوجة صفية : وما العمل الآن؟
فأجاب مازن : العمل هو أن ندفع الضريبة المطلوبة ونسترجع السيارة .
وحمل مازن قيمة الضريبة ، وذهب إلى بنك البريد ودفعها ، ثم استقل سيارة لتوصله إلى المكان الذي يحتجزون فيه سيارته ، وهناك طلبوا منه أن يدفع مبلغ خمسمائة شاقل أي ما يعادل ثمانين دينارا أجرة للمكان الذي يحتجزون فيه السيارة ، ولم يكن المبلغ المطلوب معه ، فعاد إلى البيت ثانية وأحضر المبلغ فدفعه ، واستعاد سيارته .
لم يستوعب أحد في الأسرة الذي جرى ، فقال الصغير يزيد :لو جاؤوا إلى البيت ، وأرادوا مصادرة التلفاز لما سمحت لهم بذلك ، لأنني أريد مشاهدة برامج الأطفال .
وقالت رباب : لو جاؤوا إلى البيت لمصادرة التلفاز ، لما فتحت لهم الباب، ولتركتهم واقفين عند الباب حتى يملوا وينصرفوا.
وتساءل فراس : وهل يسمح لهم القانون بمصادرة السيارة بدل ضريبة التلفاز يا أبي؟ ولماذا لم تقدم شكوى ضدهم؟
فأجاب الأب : القانون للأقوياء فقط ، ولمن أشكو إذا كان القاضي هو الغريم ؟
أما صفية فقد قالت : الله أقوى من الظالمين ، أكثر من نصف دخلنا يذهب إلى الضرائب ، ضريبة مسقفات “الأرنونا” على البيت ندفعها ، وكأننا مستأجرون وليس مالكين ، ضريبة الدخل ، ضريبة أملاك ، ضريبة مجاري ، ضريبة تحسين ملامح المدينة ، رسوم تأمين صحي ، رسوم ترخيص للسيارة ، رسوم تأمين للسيارة ، رسوم تسجيل للطلاب في المدارس ، فواتير مياه ، فواتير كهرباء ، ضرائب ….. رسوم … فواتير …… لا تنتهي ، رحمتك يا الله …. لماذا يأخذون كل هذه الضرائب ؟؟ من يريد أن يبني بيتا رخصة البناء إذا ما سمحوا حتى بالبناء تكلف أكثر من تكلفة بناء البيت نفسه ، واذا ما بنيت بدون ترخيص فإنهم سيهدمون البيت ، وسيحكمونك غرامة عالية جدا و ربما بالسجن أو بكلتا العقوبتين معا ، رحمتك يا الله ، هل يريدون أن يجبرونا على الرحيل؟
تنهدت الجدة عائشة وقالت : اسمعوا يا أبنائي هذه الحكاية : … ” يحكى أنه في قديم الزمان كان حاكم ظالم ، لم يترك ضريبة إلا وفرضها على الشعب ، حتى أصبح الناس فقراء جدا ، ولم يعودوا قادرين على توفير طعامهم ، فاستدعى وزير ماليته ، وطلب منه أن يبتكر ضرائب جديدة ، ليملأ خزينته بالمال ، فقال الوزير : بأنه قد فرض جميع الضرائب الممكنة وغير الممكنة ، ولم يعد مع الناس شيء يدفعونه لكنه بقي بضعة تجار يملكون شيئا من المال ، وأنه سيجد طريقة يجردهم أموالهم بواسطتها ، فسمح له الملك بأن يفعل ما يشاء .
فاستدعى الوزير التجار وكانوا عشرة ، وطلب منهم أن يحضروا إلى مكتب الحاكم ، وجلس في غرفة ، وأجلس بجانبه أحد الحراس ممسكا بماعز ، وكان يفصله عن المكان المخصص لانتظار التجار حاجز زجاجي ، في حين كان الباب مفتوحا إلى مكتب الحاكم .
ولما وصل التجار إلى المكتب ، أدخل أحدهم ورحب به ، ثم سأله عن الحيوان الذي يمسك به الحارس ؟
فأجاب التاجر : هذا ماعز أطال الله عمر معاليك.
فغضب الوزير وطلب من الحراس أن يضربوا التاجر وهو يصيح : كيف جمعت هذه الأموال وأنت لا تميز الماعز من العجل ؟ ثم أمره بأن يدخل إلى الحاكم وان يدفع مائة ألف دينار غرامة على جهله !! ففعل ذلك مرغماً .
وطلب الوزير من التاجر الثاني أن يدخل ، ولما دخل سأله مثلما سأل صاحبه ، وكان التاجر قد شاهد وسمع ما جرى مع صاحبه .
فأجاب التاجر : هذا عجل يا طويل العمر .
فغضب الوزير وطلب من الحراس أن يضربوا التاجر وهو يصيح : كيف جمعت هذه الأموال وأنت لا تعرف العجل من الماعز ؟! ثم أمره بأن يدخل إلى الحاكم وان يدفع مائة ألف دينار غرامة على جهله !! ففعل ذلك مرغماً أيضا.
وطلب الوزير من التاجر الثالث أن يدخل ، ولما دخل سأله مثلما سأل صاحبيه ، وكان التاجر قد شاهد وسمع ما جرى معهما … فأجاب التاجر: هذا سخط من الله يا صاحب المعالي ، وهذه مائة ألف دينار حتى يرفع الله عنا هذا السخط ، فابتسم له الوزير والحاكم وأحسنا ضيافته ، وبعده فعل التجار السبعة الباقون مثلما فعل ونجوا بجلودهم ” .
ولما أكملت الجدة حكايتها قالت كنتها صفية : والله ما نحن فيه سخط ، لكن ” ما بعد الضيق إلا الفرج ” .
فقالت الجدة : دار الظالمين خراب يا بنية، والظلم لا يدوم ، فما من قوي إلا والله أقوى منه. ثم قالت : عندما تزوجني أبوك – رحمة الله عليه- يا ابني يا مازن ، كانت البلاد بلاد خير ، صحيح أن الإنجليز كانوا يحتلون البلاد آنذاك وكانوا يظلمون ، لكنهم لم يظلموا مثلما يظلم الإسرائيليون ، فإذا ما أمحلت في منطقتنا كنا نرحل بأغنامنا إلى المناطق الخصبة ، رحلنا في أحد الأعوام إلى مرج بن عامر ، وكنا نرحل إلى الجليل ،هناك المنطقة خصبة أكثر من عندنا ، فلا محل هناك ، مصادر المياه كثيرة ، وأمطارها كثيرة ، الندى في الجليل يا بني أكثر من المطر عندنا ، رحلنا بأغنامنا بعد زواجي بسنة ، وسكنا بجانب شفا عمرو ، أهلها أناس طيبون كرماء ، يحسنون معاملة الضيف ويكرمونه ، أنها منطقة جميلة وخصبة ، كثيرة الثمار ، فيها فواكه وخضار كثيرة ، كان الفلاحون يعطوننا حاجتنا منها بدون مقابل ، وكان على مقربة من خيامنا بيت أهله أناس طيبون ، أصبحنا وإياهم كأننا أسرة واحدة ، وكانت صاحبة البيت امرأة عجوزا من جيل أمي – يرحمها الله – كانت تعاملني مثل بناتها ، ذات يوم أشارت بيدها إلى قلعة الظاهر عمر ، وهو بناء قديم ضخم يقع على رأس جبل ، طابقه العلوي لم يكتمل فقد توقف عند ” قمط ” الشبابيك وقالت :
ذلك البناء توقف لأن صاحبه الظاهر عمر قد ظلم الناس ، حتى انه يروى أن مجموعة من الفلاحين قد حضروا بدون حراس إلى البناء من مرج بن عامر مكتوفي الأيدي بعروق البطيخ ، فأطلت عليهم ابنة الظاهر عمر وسألتهم عن حاجتهم ، فأجابوها : بأن أحد حراس والدها قد أرسلهم من مرج بن عامر كي يعاقبهم والدها ، لأن الحارس غضب منهم ، فصاحت بهم : لماذا لم تفكوا قيودكم فهي واهنة وتستطيعون قطعها وإلقاءها ، فقال احدهم : وهل نستطيع ذلك ؟ فلو قطعنا قيودنا لقطع والدك رؤوسنا ، فخرجت ابنة الظاهر عمر إلى البنائين ، وطلبت منهم أن لا يكملوا البناء وهي تقول : لن يستمر حكم أبي ، فحكم الظالمين لا يدوم ، وقد انتهى حكمه يا بنية قبل أن يكمل سقف الطابق العلوي من القلعة ، وحكم الإنجليز يا بنية لن يدوم لأنهم ظلموا.
وأضافت الجدة عائشة تقول : لقد صدقت تلك المرأة يا أبنائي ، فقد انتهى حكم الإنجليز ، وأضافت بأنها سمعت في المسجد حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بأنه إذا ما غزا الجراد أرضا ، فليسأل أهلها الله أن يرسله إلى بيت المقدس فإنه لا يعمر فيها ظالم .
وبعد فترة صمت سأل فراس أباه: لماذا يظلم الناس بعضهم بعضا يا أبي؟
– انه الصراع بين الخير والشر وهذه سنة الحياة ، أجاب الأب .
أمّا رباب فقد قالت : الأقوياء دائما يظلمون الضعفاء ، فنظرت إليها الجدة وقالت : القوي ” عايب ” دائما يا بنية.
الحواجز
لم يستطع مازن وزوجته صفية وابنهما فراس أن يصلوا إلى القدس بسيارتهم ، فالحاجز العسكري عند راس العامود يمنع السيارات التي يملكها عرب من الدخول ، فاتجهوا شرقا إلى منطقة ” كبسه ” عند مفترق الطريق الموصل إلى ابوديس والعيزرية ، ومن هناك ساروا صعودا باتجاه جبل الزيتون لعبور القدس من منطقة وادي الجوز ، لكن حاجزاً عسكرياً آخر عند مفترق الطرق المؤدي إلى وادي الجوز والذي يتفرع إلى مستشفى المقاصد جنوباً ومستشفى المطلع – الاوغستافكتوريا – شمالاً ، والى حيّ الزعيم شرقاً ، منعهم الحاجز من العبور إلى واد الجوز باتجاه القدس القديمة ، فواصلوا المسير شمالاً إلى مستشفى المطلع ، ثم التفوا حول الجامعة العبرية ومستشفى هداسا على مداخل قرية العيساوية ، ومن هناك إلى الشيخ جراح باتجاه القدس ، فوجدوا حاجزاً عسكرياً آخر ، كانت الحواجز العسكرية تمنع الفلسطينيين من دخول المدينة المقدسة ، بينما تسمح لسيارات اليهود مستوطنين وغير مستوطنين بالمرور ومواصلة المسير إلى القدس القديمة ، أو إلى أي مكان يشاؤون ، فلم يفهم مازن وزوجته وابنه سبب ذلك المنع ، مع أن المنع العشوائي للفلسطينيين من دخول أيّ مكان أصبح أمراً شائعاً ، وان لم يألفوه بعد .
أدار مازن سيارته ، فلم يعد أمامه مفر من العودة إلى البيت ، وان يسلك نفس الطريق التي جاء منها ، كان يتساءل مع زوجته عن السبب ، فلم يجدا جواباً ، أما فراس فقد كان واجما بشكل تام ، ودارت في رأسه تساؤلات كثيرة فلم يجد إجابات لها ، فغطى وجهه عبوس واضح ، وارتسمت خطوط على جبينه تنبئ بهموم لا يعرف مصدرها ، ولم ينتبه لنفسه إلا عندما أوقف والده السيارة على الجانب الجنوبي لقمة جبل الزيتون ، أمام فندق الانتركونتيننتال الذي تغير اسمه إلى فندق ” السفن ارشز″ أي الأقواس السبعة ،كانت مقبرة اليهود تحت السور مباشرة ، مدّوا نظرهم تجاه القدس ليستطلعوا الأمر ، كان عشرات آلاف اليهود يسيرون في الشوارع المحيطة بسور القدس القديمة ، يرفعون الأعلام الإسرائيلية ، وينشدون نشيدهم الوطني ” هتكفاه ” أي الأمل ، وكان بعضهم يصرخ بصوت هستيري بلغة عبرية لا اعوجاج فيها ” الموت للعرب ” في حين كانت الشرطة والمخابرات وحرس الحدود والعسس يؤمنون لهم الطرقات ، ويمنعون المقدسيين الفلسطينيين من عبورها ، بعض المتعصبين كانوا يحاولون دخول المسجد الاقصى للصلاة فيه ، عاد مازن إلى السيارة وأشعل المذياع على دار الإذاعة الإسرائيلية ، وكان الخبر الأول أن عشرات آلاف المواطنين يحتفلون بيوم تحرير القدس ، ويقومون بمسيرة القدس السنوية التقليدية ، والتي أصبحت عرفا سائداً منذ أن أعلن الكنيست في 28 – 6 – 1967 ضم القدس الشرقية إلى الغربية ، تحت اسم القدس الموحدة ، العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل ، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من وقوع المدينة تحت الاحتلال في حرب حزيران 1967 .
خرج مازن من السيارة وخاطب زوجته وابنه قائلا:
إنهم يحتفلون بذكرى احتلال القدس ، فنكبتنا عندهم احتفالات ، واحتلال بلادنا عندهم تحرير ، سبحان الله ، مصائب قوم عند قوم فوائد . وهنا التفت فراس إلى والديه وسأل : متى سينتهي الاحتلال وتقوم دولتنا الفلسطينية المستقلة، وتصبح لنا أعياد وطنية نحتفل بها، ونرفع علمنا الوطني، ونغني ونرقص كما يفعلون؟
فأجابته أمّه : ربك كريم يا بني ، ثم استقلوا السيارة ، وعادوا طريقهم إلى البيت ، وعند منطقة بئر المشمشة في جبل المكبر ، أوقفهم حاجز عسكري ، فحص هوية مازن وصفية ، وطلب هوية فراس ، فأجابه فراس بأنه لم يبلغ السادسة عشر عاماً من عمره ، وحسب القانون لا تصرف بطاقة الهوية إلا لمن بلغ السادسة عشرة ، واخرج فراس شهادة ميلاده ليثبت انه في الرابعة عشرة من عمره ، فقال له شرطي حرس الحدود : أنا لم اسأل عن شهادة ميلاد ، أنا اسأل عن هوية، وهنا قال مازن انه ابني ومسجل في هويتي ، فنهره الجندي قائلا : لا تتكلم أنت أنا لا أسألك ، انزلا من السيارة، فنزلا وبقيت صفية وحدها ، طلب من مازن أن يفتح الباب الخلفي للسيارة ففعل ، وقام بالتفتيش، ثم طلب من مازن أن ينزل الدولاب الاحتياطي ، ففعل ، ثم طلب منه أن يعيده إلى مكانه ، ففعل، ثم طلب منه أن يفتح غطاء المحرّك ، ففعل، وبعد التفتيش طلب من مازن : اجلس هناك بجانب ذلك الرجل ففعل ، وجلس بجانب الحاج عبد ربّه ، وهو رجل عجوز في بداية السبعينات من عمره ، فلاح يزرع الأرض ويعيش من خيراتها ، يضع على ظهر حماره ستة دلاء يملؤها بالبرقوق ، ويتجول في القرية عارضا بضاعته للبيع ، أوقفه نفس الحاجز ، فحص بطاقته الشخصية ، وسأله عن بطاقة للحمار ، فأجابه : اعطني رسالة لوزارة الداخلية كي تصرف بطاقة شخصية للحمار وسأستخرج له واحدة !! فنهره الشرطي ، وأجبره على الجلوس أرضا على بعد حوالي عشرة أمتار من السيارة العسكرية ، ثم ربط الحمار من رسنه في باب الجيب العسكري ، وقد مضت ساعة من الزمن تقريبا على الحاج عبد ربّه وحماره وهما في هذه الحال، ومازن يجلس الآن بجانبه ، فهي فرصة أن يلتقيا وجها لوجه ويتحدثا ، فهما نادراً ما يتجالسان ، ربما يلتقيان في حضور جنازة أو حفل زفاف ، أما فراس فقد أوثق الشرطي يده اليمنى ” بالكلبشات ” الحديدية ، وربط طرفها الآخر بباب الجيب العسكري ، فتساوى احتجازه باحتجاز الحمار ، كان رجال الشرطة يضحكون قهقهة وهم يلطمون فراس بقبضات أيديهم ، أو يدفعونه تارة باتجاه الجيب وتارة باتجاه الحمار ، لكن والحق يقال فقد كانت معاملتهم للحمار في غاية اللطف ، حتى أن ّحدهم أطعمه نصف برتقالة ، واكل هو النصف الآخر .
لم يستطع مازن أن ينظر باتجاه ابنه ،كان يتمزق ألما وحسرة، ابنه يضرب ويهان على مرأى ومسمع منه ، ولا يقوى على عمل أي شيء ، سأل الجنود : أيكم الضابط ؟؟
– أنا … انطلقت دفعة واحدة من فم كل واحد منهم – ماذا تريد سأله الجنود ؟
ماذا تريدون من هذا الطفل ؟ انه لم يبلغ السادسة عشرة من عمره.
– كذاب .. أنت وهو .. انه ليس ابنك ، انظر انه أطول من الحمار، وغير معقول أن يكون تحت سن السادسة عشرة .
فتح فمه ليتكلم ، فنهره أحدهم قائلا: اخرس ولا تفتح فمك، لا وقت لدينا للكلام الفارغ ، فجلس وهو ينفخ زفيرا طويلا . وكان حال صفية مع كل الضيق الذي هي فيه أحسن حالاً من حال زوجها، كانت السيارة على الجانب الآخر لسيارة الجيب ، ممنوع عليها الخروج منها ، ولا تشاهد ما يجري لفراس .
كان مازن يطلب الفرج من الله ، وهو يتساءل : من أين سآتي لهذا الولد بهوية ، القانون لا يسمح بصرف هوية إلا لمن بلغ السادسة عشرة فما فوق، وهنا سأله الحاج عبد ربه ساخراً : وهل القانون ينص على صرف بطاقات هوية للحمير؟ فحماري الآن في الثامنة عشرة من عمره.
سادت فترة صمت التفت بعدها الحاج عبد ربّه إلى مازن وقال : اسمع يا أستاذ مازن :
تفضل يا حاج عبد ربّه .
– الله يزيد فضلك : ” يحكى أن حاكما ظالما أحكم السيطرة على حدود دولته ، وأصدر أمرا يقضى بأن تغادر الأسود حدود مملكته من منفذ معين خلال أربع وعشرين ساعة ، وبعدها سيطلق حراسه ليقتلوا أي أسد يشاهدونه ، وكان أول الهاربين بسرعة فائقة ثعلبا، فصادفه في الطريق حمار وقال له : لماذا أنت هارب ، فمولانا الحاكم لم يأمر بالمغادرة إلا الأسود ، وما أنت إلا ثعلب.
فأجابه الثعلب : كلامك والله صحيح ، لكن هذا الحاكم ظالم جدا، وجنوده ينفذون أوامره بدون تفكير، ولا يميزون بين الثعلب والأسد ، وحتى يصلوا إلى تمييزي من الأسد يكونون قد سلخوا جلدي ، فأريد أن انجوا بنفسي فأيده الحمار وهرب معه “.
وما أن انتهى الحاج عبد ربّه من حكايته حتى مرت سيارة شرطة عادية ، توقفت لتسأل عن أمر الحمار، فنهض الحاج عبد ربّه ومازن واتجها إلى الضابط فقال له الحاج عبد ربّه :
لو سمحت أعطني رسالة إلى وزارة الداخلية حتى أستخرج بطاقة هوية لحماري بناء على طلب هؤلاء . علت تكشيرة على وجه الشرطي الضابط، وتحادث مع شرطة حرس الحدود باللغة العبرية، وبعدها أطلقوا سراح الحمار وسراح مازن ، وسمحوا للجميع بالانصراف، كانت الشمس تميل إلى الغروب ، امتطى الحاج عبد ربه حماره وعاد إلى بيته ، ادخل الحمار إلى حظيرته، ووضع أمامه ثمار البرقوق ودخل إلى بيته مهموما.
أمّا مازن فقد عاد إلى السيارة والغضب يملأ جوانحه ، في حين كان فراس يتحسس أثار اللكمات على جسده الطري، وكانت صفية تتصبب عرقا وتشتعل غضباً ، استقلوا سيارتهم وعادوا إلى بيتهم ، استقبلتهم رباب وشقيقها يزيد عند موقف السيارة فسألا بصوت واحد : ماذا أحضرتم لنا من القدس ؟؟ لقد اعتادوا أن يحضر والدهم لهم شيئا لذيذا يؤكل، ولم يجب مازن ، في حين أجابت صفية بدموعها التي انهمرت من عينيها ، أما فراس فقد قال : أحضرنا لكم خراءاً ، ودخل إلى البيت ، مرّ بجدته ولم يطرح عليها التحية ، اتجه مسرعاً إلى غرفة النوم ، ألقى نفسه على السرير ، نام على بطنه ، مرمغ وجهه على الوسادة ، وكأنه يختبئ من نفسه ، احمرت عيناه ، وانهمرت دموعه غزيرة تبلل الوسادة وهو يستعيد ذكريات يومه ، كانت الدموع تغسل جرح كرامته الذبيحة دون سبب ، تقلب على فراشه ، ضرب الحائط المجاور بقبضة يده اليمنى ، وركل سريره بكعب قدمه ، دخلت والدته غرفة نومه ، وهي تردد : لا تحزن يا فراس !! فهؤلاء لم يعتدوا عليك وعلينا فحسب ، بل اعتدوا على إنسانيتهم قبلك، إنهم يخرجون أنفسهم من دائرة الآدمية إلى دائرة البهيمية ، فدعهم في ضلالهم يمرحون ، أمسكت يده ، وطلبت منه أن يذهب إلى الحمام ليستحم ، ويغسل قذارة الظلم الذي لحق به ، فاستجاب لطلبها ، وبعد أن خرج من الحمام جلس في الصالة بجانب جدته التي وضعت يدها على رأسه تداعب شعره ، وهي تدعو الله أن يقطع الأيادي التي امتدت عليه ، ثم ضمته إلى صدرها وطبعت قبلة دافئة على جبينه .
لم يتناول فراس طعام العشاء مع الأسرة رغم إلحاح الوالدين والجدة ، لقد فقد شهيته للطعام ذلك المساء ، كما أنه لم يستطع أن يطالع دروسه ، لم تكن لديه رغبة لعمل أي شيء ، فذهب إلى فراشه يتقلب فيه قلقاً متعباً حائراً لعدة ساعات حتى سيطر عليه سلطان النوم ، وفي صباح اليوم التالي وجد في أمسه موضوعا للحديث مع زملائه ، أما الجدة عائشة فقد نهضت مبكرة كعادتها ، صلت الفجر ، وجلست في فراشها تحرك خرزات سبحتها وتبكي قائلة بصوت حزين مسموع :
مات والمسّاس بين أيديه
مات والبقر ينعى عليه
ياما حرث ياما درس
يا ما هال التبن عليه
كانت دموعها تزداد في نهاية كل مقطع ، وتتبعه بنفحات صوتيه متلاحقة هوه … هوه … هوه … وبشهقات تقطع نياط القلب ، ثم تمسك بأكمام ثوبها وتمسح وجهها وانفها .
استيقظ مازن مذعورا على صوت أمه، فرك عينيه وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويبسمل ويحوقل ، نهض من فراشه وذهب إليها مسرعاً وقال :
– وحدّي الله يا أمّي ، من الذي مات؟
أبوك يا ولدي .. أبوك الله يرحمه ..
– أبي؟ أسأل الله أن يرحمه ويسكنه فسيح جناته ، مات منذ أكثر من عشر سنوات … فلماذا تبكينه الآن بدلا من أن تترحمي عليه.
وهل ينسى الإنسان رفيق عمره يا ولدي؟ رحمة الله عليه يا بني ، لقد شقي كثيراً في سبيل توفير لقمة العيش ، وفي سبيل تعليمكم يا ولدي، لقد كان سيّد الرجال ، كل النساء كن يتمنينه يا بنيّ .
– فقال مازن : وبما انك كنت سيدة النساء فقد فزت بسيد الرجال ، ولكنه مات رحمة الله عليه ، فضحكت الجدة عائشة قهقهة ، وتعوذت بالله من الشيطان الرجيم ، في حين ابتسمت صفية من بعيد، وعندما استدار مازن واقترب منها قالت له مازحة : ماذا جرى لأمّك يا مازن يبدو أن المرحوم قد زارها في المنام ، يبدو أن شملهما سيلتم .
فرد عليها مازن : اسكتي يا امرأة ، لو سمعتك لعملت لنا مشكلة .
القضاء والقدر
أمضت الجدة عائشة أسبوعها دائمة الحديث عن المرحوم زوجها … فما أن يجالسها أحدهم حتى تبادره بالحديث عن المرحوم أبي مازن ، فيوم الثلاثاء عندما تغيبت رباب عن مدرستها لارتفاع درجة حرارتها نتيجة للأنفلونزا التي أصابتها ، قامت الجدة بتبخيرها ، ورددت بعض التعاويذ عليها وقالت : الاستسلام للمرض والمكوث في الفراش ليست من عاداتنا يا بنية ، الله يرحم جدّك يا رباب، عندما تزوجني كنت في مثل عمرك .. لا .. لا الله يعيننا على قول الصدق كنت اكبر منك بسنة واحدة ، كنت في الرابعة عشرة من عمري وكان هو في الخامسة عشرة .
وكيف تزوجك يا جدتي؟ سألت رباب .
– في موسم الحصاد كان بيدرهم قرب بيدرنا في منطقة ” المخبيّة ” كنا ننقل الزرع على الدواب إلى البيدر ، هو إلى بيدرهم وأنا إلى بيدرنا ، كنت أسوق بغلا وحماراً محملين كل واحد منهما ” بقادم ” كانت السنة خصبة سنة الخصب يا رباب ، عند البيدر التقينا كنت انقل الزرع من منطقة ” دمنة بني هلال ” وكان هو ينقله من منطقة ” الزرّاعة ” عندما رآني ابتسم وقال :
صح بدنك يا عائشة .
– فأجبته على استحياء : وبدنك ، طال عمرك .
بدّك مساعدة يا عائشة .
– فلم أجبه ، كنت أنهيت قلب ” قادم ” الزرع عن الحمار ، وأحاول قلب ” قادم ” البغل ، كان أعلى مني، كنت صغيرة الحجم ، وفجأة رأيته يقف بجانبي ، وبدفعة واحدة قلب القادم وهو يقول مبتسماً : ابتعدي قليلاً يا عائشة ، التطم كوع يده اليمنى بصدري بنعومة، فشعرت برعشة في جسدي ، تحسست صدري وتمنيت أن تتكرر المحاولة ، لم أعرف حينها ان كان يقصد ذلك أم أن الأمر كان عفوياً ، لكن بعد زواجنا اخبرني أنه تعمد فعل ذلك .
شكرته على المساعدة ، فنظر إليّ وأزاح القش العالق بمنديلي، ركبت حماري، وقدت البغل خلفي، وعدت لإحضار حمولة أخرى .
وبعد انتهاء موسم الحصاد وجمع الحبوب ، جاءت والدته لبيتنا فاستقبلناها أنا وأمّي أحسن استقبال، تعانقت مع أمّي ، وعندما مددت يدي لأصافحها ، وضعت كفيها على خدي وقبلت وجنتي وجبيني وهي تردد : ما شاء الله.. ما شاء الله ، صرت عروساً يا عائشة ، فأمسكت بيدها اليمنى وقبلتها ووضعتها على جبيني ثلاث مرات ، اعددنا لها طعام الغذاء ، وأجلستني بجانبها ، خلعت غطاء رأسها وحلت جديلتها ، ووضعت رأسها في حضني وقالت : رأسي يحكني يا بنية ، فلّيني فوجدت في رأسها بعض القمل، كنت استخرج القملة وأضعها أمامها على حجرأبيض حتى تراها ، ثم أصحنها بأظفر إبهامي الأيمن وهي سعيدة بذلك ، ثم أخرجت حبة لوز مرّ قشرها صلب ، وطلبت مني أن اكسرها بأضراسي واستخرج نواتها منها كي تأكلها ، ففعلت ، والتهمتها بنهم زائد ، ثم أعطتني أخرى ولما كسرتها طلبت مني أن آكلها ، فأكلتها ، وبعدها طلبت مني والدتي أن أراقب ” الطبيخ ” وهي تقول : عائشة الله يرضى عليها تجيد الطبخ بطريقة أفضل مني ، وبعد أن تناولت وإيانا الغداء قالت لأمي : شو رأيك في ابني حمدان يا ” أم محمد ” نريد عائشة عروسا له.
فقالت والدتي رحمها الله : وهل يوجد من هو أحسن من حمدان ، لكن الأمر ليس في يدي ولا يديك ، انه في أيدي الرجال .
فقالت : طبعا سيأتي والده وأعمامه ، ويطلبون يدها من والدها .
فقالت والدتي : الله يجيب الخير ، وكان النصيب أضافت الجدة .
– وكم استمرت الخطبة يا جدتي سألت رباب؟
أقلّ من أسبوع .
– هل جلست وتحدثت معه أثناء ذلك؟
لا .. لا .. لم يكن ذلك مسموحا
– هل أحببته يا جدتي؟
اسكتي يا بنت، وهل تحب النساء؟ بعدما تزوجنا شعرت انه حسن المعشر ، وأنه الرجل الوحيد على الأرض ، وكنت أنجب كل سنتين طفلا أو طفلة ، بعضهم عاش وبعضهم مات ، وأجهضت أربع مرات وأنا في الشهر الخامس من الحمل ، وذلك بسبب التعب كانت كل حياتنا تعب في تعب ، نزرع ونحصد ، ونرعى ، ونحلب ، ونعمل الجبن والزبدة ، ونبيع في الأسواق ، أي والله كانت الحياة أفضل من هذه الأيام.
– وكم سنة عشت مع جدي يا جدتي ؟
خمس وأربعون سنة .
– كم كان عمر جدي عندما مات ؟
ستون عاماً.
– ومتى مات ؟
قبل عشر سنوات رحمة الله عليه .
– وتذكرينه حتى الآن؟
وهل ينسى الإنسان شريك عمره يا بنية ؟
– وكيف مات يا جدتي ؟
انتهى عمره يا بنيتي ، اشتكى قبل وفاته بأسبوع من ألم في رجليه تحسس مواضع الألم وكواها بالنار مساء ، وفي الصباح ذهب لحراثة الأرض، وعندما علم والدك الله يرضى عليه بالموضوع ، حاول أن يأخذه إلى الطبيب ، لكنه رفض ذلك بشدة ، وبعد ثلاثة أيام ازداد انتفاخ رجليه حتى وصل من القدمين إلى ما فوق الركبة ، لم يستطع أن يذهب للعمل ، وعندما رآه والدك حمله – رغم معارضته – إلى مستشفى المقاصد ، وهناك عملوا له صورة أشعة خوفا من أن تكون رجلاه مكسورتين ، فلم يكتشفوا شيئاً ، وتبين لهم لاحقا أن كليتيه لا تعملان ، الأطباء يكذبون يا بنية ، أعطوه دواء وبعد أربعة أيام اختاره الله إلى جواره ، قال الأطباء أن دمه امتلأ بالبول ، وان قلبه لم يحتمل ذلك ، فتوقف عن العمل ، كلام فارغ ، وهل يعقل أن يصل بول الإنسان إلى قلبه؟ عمره انتهى ، الله يرحمه .
وفي هذه الأثناء غفت رباب بينما كان المؤذن ينادي لصلاة الظهر ، فقامت الجدة ، وتوضأت وصلت ، وجلست على سجادتها تسبح بحمد ربها ، ولما دعتها كنتها صفية لتناول طعام الغداء طلبت منها أن تجلس جانبها وقالت : في يوم من أيام سنة الثلجة الكبيرة ، بعد زواجنا بأربع سنوات كان عمك أبو مازن – رحمة الله عليه – عائداً من منطقة ” أم عراق ” في آخر واد النار عن طريق واد العين ، كان الوقت بعد صلاة العشاء ، صادفه ضبع الوادي ، فتقدم الضبع منه ، واحتك به محاولاً أن يضبعه كي يلحق به إلى جحره ويفترسه هو وجراؤه ، غير أنه كان سبعاً ، فلم تنطل عليه الحيلة ، فضرب الضبع على أنفه بعصاه ، فوقف الضبع مرتبكاً ، فامتطاه – رحمة الله عليه – وأشبعه ضربا بعصاه على رقبته حتى أجبره أن يمشي به وهو على ظهره حتى وصل مضاربنا ، كنا نعيش هناك في بيت الشعر في الحاكورة المجاورة ، ولما وصل نادى : يا عائشة هاتي حبلاً يا امرأة وتعالي بسرعة، ولما خرجت والحبل في يدي رأيت الضبع ، وقلت بصوت مرتفع ومرتجف : ما هذا يا أبا مازن ؟؟
فأجاب : اسكتي يا امرأة كي لا توقظي الجيران ، واعطني الحبل ، فكمم الضبع بالحبل ثم أوثق قوائمه ، وربطه بوتد حديدي ، وفي الصباح التف الرجال والنساء والأطفال حول الضبع يشاهدونه ، فجاء أبو مازن بالسكين ، وذبح الضبع وشقه نصفين ، النصف الأيمن تقاسمناه مع الجيران وأكلناه ، والقسم الأيسر أطعمناه للكلاب لأنه محرم أكله ، والدك كان من الحضور ومن الذين أكلوا من لحم الضبع ، اسأليه عن ذلك ، لقد قال وقتها : والله أن الرجال من أمثال أبي مازن قليلون ، فبدلاً من أن يأكله الضبع ، أكل الضبع ، وأضافت الحاجة عائشة :
راحت الأيام ، أين شباب اليوم من شاب الأمس ؟ شباب اليوم يخافون من الكلاب ، فكيف سيكون حالهم مع الضباع؟
قالت صفية : يرحم الله المرحوم عمي أبا مازن وجميع الأموات ، ونسأل الله أن يعطي الصحة والحياة للأحياء ، فقالت الجدة عائشة : اللهم آمين .
قامت صفية ، وأحضرت الطعام ، ووضعته أمام الجدة كي تأكلا سوياً ، غير أن الجدة قالت : خذيه يا بنية لا شهية لي للطعام ، فلم تستجب صفية لطلبها وبدأت ، تأكل بجانبها ، وتحثها على تناول الطعام ، فأكلت لقمة واحدة فقط ، وشربت كأس ماء ، وحمدت الله وصلت على رسله .
وعند المساء جلست الأسرة في الصالة أمام التلفاز، بمن فيهم رباب فقد انخفضت درجة حرارة جسمها ، وتحسنت حالتها الصحية ، تنحنحت الجدة عائشة وقالت : اسمعوا يا أولاد..
فقال مازن : خير يا أمّاه .
قالت : ما فيه إلا الخير ، كان أبوك – رحمه الله- يحب العمل في الأرض كثيراً ، كان يمضى أيام السنة في الحراثة والحصاد ، حتى سنوات المحل ، كان يقول إذا أخصبت جمعنا الحبوب ، وإذا أمحلت نترك الأغنام ترعى الزرع ، وكانت حالتنا ميسورة والحمد لله ، وعندما كان في العاشرة من عمره في زمن الإنجليز كان يرافق الرجال إلى ” ملاّحات ” البحر الميت ليلاً ، يسرقون الملح ، وينقلونه على ظهر البغال والحمير ، يبيعونه في قرى رام الله ، وكانوا يستبدلونه أحيانا بثمار العنب والتين والقطين ، إيه .. والله كانت أياماً حلوة .
التفت مازن إلى زوجته صفية ، فارتسمت على وجهها ابتسامة حبيسة ، ولم تتكلم .
وفي صباح اقرب يوم جمعة ، نهضت الجدة عائشة مبكراً ، صلّت الفجر ، وهمست في إذن فراس الذي خرج من الحمام بعد قضاء حاجته : أنا ذاهبة يا بني إلى المسجد الاقصى لأداء الصلاة ، لا توقظ والديك .
وبعد صلاة الجمعة اتجهت إلى الشارع الرئيسي عند منطقة باب الأسباط ، وجلست على الرصيف في انتظار سيارة تقلها إلى البيت ، كانت سيارة فورد ترانزيت تزاحم الباصات والسيارات الأخرى بسرعة فائقة ، وقبل أن تصل إلى محاذاة الحاجة عائشة تجاوزت عن يمين سيارة خصوصية بسرعة فائقة، وخرجت على الرصيف ، وداست الجدة عائشة بعجلاتها ، لم يتوقف السائق إلا بعد أن مرّ العجل الأمامي الأيمن على صدر الجدة ، جحظت عيناها ، ولفظت أنفاسها في ثوان معدودات ، نزل سائق سيارة الفورد من سيارته وهو يشتم قائلاً : عماك الله يا ملعونة الشيب ، لماذا لم تهربي من مكانك؟ التف الناس حول جسدها ، حاول بعضهم أن يضرب السائق ، جاءت سيارة إسعاف ، ونقلت الجسد الميت إلى مستشفى المقاصد .
وقع الخبر على رأس الأسرة كالصاعقة ، ترحموا علي الفقيدة ، بكوها وقبل المساء واروا جثمانها التراب ، فإكرام الميت دفنه ، وحمدوا الله على قضائه وقدره ، وبعد الحادثة مباشرة وقبل دفن الجثمان ، حضر المخاتير والوجهاء إلى ديوان الأسرة لأخذ العادات العشائرية ، فأعطاهم الوجيه أبو سمير عطوة دفن ثلاثة أيام وثلث اليوم حسب العادات العشائرية.
وفي مساء اليوم الثالث : حضر المخاتير والوجهاء مرة أخرى لتجديد العطوة ، فوقف المختار أبو محمد وبسمل وحمد الله وصلى على نبيه ، وطلب قراءة الفاتحة على روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى روح الفقيدة ، وعلى أرواح جميع أموات المسلمين ، وطلب من ذوي الفقيدة إعطاءهم العادات العشائرية بعد أن أشاد بكرمهم وأصالتهم وحسن أخلاقهم ، مؤكداً أن الحادث قضاء وقدر من الله تعالى ، وان السائق متأثر جداً لما حدث، وكما يعلم الجميع فإن أي سائق لا يحب أن يدهس دجاجة، فكيف يكون الأمر إذا كان إنسانا؟
وأعلن أن الجاهة الكريمة جاهزة لدفع ما يطلبه ذوو الفقيدة ، فهذا حال الدنيا ولن يكون هذا الحادث هو الحادث الأخير تماماً مثلما هو ليس الأول .
ووقف الوجيه أبو سمير متحدثا باسم آل الفقيدة ، فحمد الله على قضائه وقدره ، ورحب بالجاهة الكريمة ، وأعلن بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الأسرة تنازلهم عن دم الفقيدة إكراما لله ولرسوله وللجاهة الكريمة ، وتقديراً منه للظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا وإكراما لأرواح الشهداء الذين يتساقطون يوميا في عمر الزهور ، ولن تكون حياة الحاجة عائشة – رحمها الله – أغلى من أرواحهم ، كما أعلن أن العائلة تصفح عن السائق ، وأنها مستعدة أن تذهب مع ذويه إلى الشرطة من اجل أن تصفح عنه ، وكي لا تتخذ ضده أي إجراء مهما كان بسيطاً ، حتى ولو سحب رخصة سياقته لبضعة أشهر ، وهنا صاح فراس : هذا ليس قضاءاً وقدراً ، انه استهتار بحياة الناس ، أنا لا أوافق على الصفح عن السائق ، دعوا القانون يأخذ مجراه حتى يتأدب هو وغيره ، وهنا نهره احد أبناء العائلة قائلا له : اخرس يا ولد ، كيف تتكلم في حضرة الرجال ، وكيف تعترض على كلام عمك أبي سمير ؟! وهنا وقف الوجيه أبو سمير واعتذر للجاهة الكريمة على ما بدر من هذا الولد الجاهل ، وطلب من احد الشباب أن يقدم القهوة ” السادة ” للجاهة دلالة على أن الصلح والوئام قد حلّ مكان الخصام ، فشكر الحاج أبو محمد نيابة عن الجاهة الكريمة أسرة الفقيدة على ما أبدته من كرم عربي أصيل معتبراً إيّاهم قدوة حسنة للآخرين ، وسائلا المولى عزّ وجلّ أن يهدي الآخرين كي يقتدوا بهم وبتسامحهم .
ولما انصرفت الجاهة عاد فراس وقال : ألا ترون أنكم تشجعون الجريمة بتسامحكم هذا؟ فلم يرد عليه احد مع أنهم سمعوه جميعهم.
افتقدت الأسرة المرحومة وأكثر من افتقدها الأحفاد ، فقد كانت قريبة جداً منهم ، أعطتهم حناناً مثل حنان الوالدين أو يزيد ، شعروا بصدق المحبة والحنان في حضنها الدافئ لقد أمضى كل واحد منهم طفولته المبكرة وهو يقاسمها فراشها ، كانت تنيمه على فراشها ، تضمّه إلى صدرها ، تطبع القبلات على جبينه ، وتشعر بسعادة غامرة وهي تردد : ” ما أغلى من الولد إلا ولد الولد ” ، حتى ان أحدهم إذا ما بال في الفراش وأصابها البلل ، كانت تصلي دون ان تستبدل ثيابها ، فهي على قناعة بأن بول الأطفال ليس نجساً ، فالطفل مصحف ربّه ، لكن يزيد أكثر من افتقدها من بين أحفادها ليس لأنه ” آخر العنقود ” كما يقولون ، بل لأنه كثيراً ما كان ينام في حضنها حتى اليوم الأخير من عمرها ، وهي كانت سعيدة بذلك ، فصدرها نبع حنين لا ينضب ، يغرف منه الأحفاد كما غرف اباؤهم وأمهاتهم من قبل ، فقد كانت إذا نام على سريره غالباً ما تحمله من السرير، وتنقله إلى فراشها ، وفي بعض الأحيان كان يستيقظ بين يديها ويتظاهر بالنوم ، لأنه يريد أن يبادلها حبّا بحب ، فالشعور بدفء حنان الجدة لا يستوعبه إلا من كانت له جدة مثل الجدة عائشة – رحمها الله – ولما افتقدها يزيد شعر بفراغ لم تستطع والدته تعبئته ، كان يفرش سجادة الصلاة ، ويجلس عليها مثلما كانت تجلس جدته ، وكان يذهب إلى المكان الذي كانت تنام فيه ، وينام هو في حضنها يتمدد في نفس المكان، وكأن المرحومة لا تزال فيه ، حتى انه أستطيب النوم على الأرض ، وكأنه اكتسب عادة جدته التي رفضت النوم على أيّ سرير ، لأن النوم على الأرض يريح الجسم أكثر من النوم على السرير، وهكذا بقي سريرها مكانه وكأنه جزء من ” ديكور ” البيت لا يستعمله إلا من يتطفل من أفراد الأسرة على ذلك ، وهذا أمر يغضب يزيد ، فلم يكن يسمح لأحد أن يقترب من سرير جدته أثناء حياتها ، حتى والديه ، إذا ما اقترب أحد منهما من سرير الجدة كان يسأل محتجاً : لماذا تنام على سرير جدتي؟
– أنا أنام على سرير والدتي يجيبه والده مازن؟
لا .. لا .. هذا سرير جدتي .
– هي أمي وأنا اقرب إليها منك ، فهي أمي ، يداعبه الوالد مازحاً .
ولكنها جدتي .
– وهي أمّي أيضا .
فيركض يزيد إلى جدته ويسألها : من تريدين أن ينام على سريرك أنا أم أبي ؟
أنت يا حبيبي تجيب الجدة باسمة ، ينظر يزيد إلى أبيه فرحاً ويتساءل : هل سمعت يا بابا ؟
بعد أن رحلت الجدة إلى الدار الآخرة فإن يزيد يريد أن يحافظ على الامتيازات التي حصل عليها وهي على قيد الحياة .
أمّا فراس ورباب ، فقد بكيا جدتهما ، ولم يستوعبا ما حصل مع ادراكهما أن الموت حق ، وأن كل نفس ذائقة الموت .
أمّا الوالدة صفية فقد ترحمت كثيراً على الفقيدة ، وهي تستشعر خسارتها الشخصية بفقدانها ، صحيح أنها كانت تتمنى لو أنها لم تشاركها العيش في نفس المنزل ، إلا أن وجودها فيه كان له ميزات كثيرة ، فالإنسان لا يستطيع فهم قيمة أي شيء إلا حين يفقده ، وها هي تفتقد الحاجة عائشة التي ساعدتها كثيراً في تربية أطفالها ورعايتهم، وساعدتها في الأعمال المنزلية ، فلولاها ما استطاعت أن تستمر في عملها كمدرسة في مدرسة بنات القرية ، فهي التي عملت حاضنة للأطفال ، وهي التي كانت تقوم بأعمال المنزل في أوقات دوامها ، ومع ذلك فالحمد لله الذي كتب للمرحومة هذا العمر ، حتى وصل الأبناء إلى هذا العمر فقد ” طار شرهم ” وبإمكانهم أن يتدبروا أمرهم في البيت حتى ولو كانوا وحدهم ، فغالبا ما يعودون من المدرسة في نفس الوقت التي تعود فيه والدتهم .
الجدار
لم يستوعب الأهالي مخاطر جدار التوسع العنصري إلا عندما وصل إلى قريتهم ، كانوا يظنونه سياجا عاديا ـ كما كانت تروج له وسائل الأعلام ـ فإذا به جريمة العصر التي لن يستوعب أضرارها إلا من اكتوى بنار هذه الجريمة ، انه فكرة وتنفيذ محترفين في قهر الإنسانية ، ليس سياجا ولا سورا ، انه جدار أعلى من جدار برلين الذي أثار سخط العالم أجمع جدار يدمر مئات آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية ، ويبتلع مئات آلاف الأشجار المثمرة ، وهو يفصل بين المرء و أخيه وصاحبته وبنيه ، انه يشتت الشمل ، ويهلك الحرث والزرع ، يمنع المرضى والنساء في حالات المخاض من الوصول إلى المستشفيات ، ويمنع الطلبة من الوصول إلى المدارس والمعاهد ، جدار يجرد الإنسانية معانيها ، جدار يمنع المؤمنين من الصلاة في أقدس مقدساتهم ، جدار يحجب أشعة الشمس ، قاعدته على ارتفاع متر ونصف تعلوها ثمانية أمتار من الباطون المسلح بالحديد، جدار يرسم شروخا في نفسية الناظر إليه، جدار يزرع الأحقاد.
لم يكتمل الجدار بعد ، لكن فراس ورباب ويزيد لم يعودوا قادرين على رؤية بيت جديهم لأمّهم ، الواقع في السواحرة الشرقية ، افتقدوا جدتهم لأبيهم بعد رحيلها الأبدي في حادث سير مروع ، وها هم يفتقدون جديهم لأمّهم خلف جدار سيبقى لعنة تلاحق بناته ، وسيبقى وصمة عار في جبين من يدعون أنهم يحافظون على حقوق الإنسان ، كان الأخوة الثلاثة يركضون في ساعات ما بعد ظهر اليوم وما هي إلا دقائق معدودات حتى يكونوا في بيت الجدين ، انه لا يبعد عنهم سوى بضع مئات من الأمتار، أما الآن فان عليهم أن يستقلوا السيارة من البيت إلى القدس ، ومن هناك إلى جبل الزيتون ، ومن هناك إلى الزعيم حيث الحاجز العسكري ، ثم إلى الخان الأحمر ، ثم يصعدون إلى العيزرية ، فأبوديس ، فالسواحرة الشرقية ، لقد زادت المسافة عليهم أكثر من ثلاثين ضعفا ، لكن الأهم أنهم لا يستطيعون الذهاب وحدهم ، كما أن الجدين العجوزين ممنوعان من الوصول إلى بيت ابنتهم ورؤية أحفادهم ، لكن الأطفال استغلوا عدم اكتمال الجدار قرب حيّ الشيخ سعد الذي سيصبح جزيرة معزولة عن العالم عند اكتماله ، فأخذوا يتسللون مشيا على الأقدام عبر الشيخ سعد ، فينزلون إلى وادي النار ، الذي تنساب فيه المياه العادمة من مجاري القدس ، يحاولون القفز على الأحجار الضخمة الملقاة في سيل الماء ، تنزلق قدم أحدهم أحيانا فتغوص في مياه المجاري القذرة ، ينتزع قدمه بسرعة ، ليخرج بثياب متسخة ، ولتعلق به روائح كريهة ، أحيانا يفقد فردة من حذائه لا يستطيع الإمساك بها ، فيواصل مسيره مع إخوانه حافيا ، تستقبله الجدة باكية ، تقوده إلى الحمام كي ينظف نفسه ، بينما يجلس الجد حزينا يحوقل ويسبح بحمد ربه الذي لا يحمد على مكروه سواه ، يحاولون العودة عبر منطقة الشياح ، فالسيل مسقوف في تلك المنطقة …. لكن من يضمن لهم أن لا توقفهم دورية عسكرية فتنكل بهم ، ….. يا الله كم هو مؤلم ظلم الإنسان للإنسان! حتى الأموات لا يستطيع الأحياء إيصالهم إلى مقبرة البلدة إلا تسللا ، لكن عندما ينتهي بناء الجدار فان الوصول إلى المقبرة لمن تقع بيوتهم خلف الجدار سيصبح أمرا مستحيل المنال ، لقد شاهدوا جنازة الحاجة حلوة ، لم يستطع أحد إدخال جثمانها إلا بعد تدخل أحدهم لدى القنصلية الأمريكية التي حصلت على إذن لدفن الجثمان ، الذي كان تشييعه في ما يشبه الاستعراض العسكري ، جنود بكامل أسلحتهم وعدتهم وعتادهم يحرسون الطريق والمهلة ساعة فقط ، عليهم إتمام الدفن فيها والعودة بسرعة فائقة ، ومن يلقى القبض عليه داخل الجدار فالسجن والغرامات المالية في انتظاره ، بعد أن يحصل على جولة أو جولات من الضرب والركل والإهانة.
يا إلهي هذا الجدار سيحرم فراس ورباب ويزيد ووالديهم من المقاثي ، فلن يستطيعوا الوصول إلى الأرض خلف الجدار ، وهم ليسوا وحيدين في هذا ، فغالبية الأهالي يملكون أراضي خلف الجدار ، كما أن بعض الأهالي ممن هم خلف الجدار يملكون أراضي داخل الجدار ، وهم لن يستطيعوا الوصول إليها أيضا ، وقانون الحاضر الغائب سينطبق عليهم ، وستصبح أراضيهم نهبا للمستوطنين ، ومن يقترب من الجدار من كلا الجانبين فان الجنود جاهزون لاقتناصه ، وستثبت التحقيقات أن الجنود تصرفوا حسب القانون .
jamil