رغيف حسن المصلوحي الأسود في اليوم السابع

ر

القدس: 27-1-2022 من ديمة جمعة السمان- ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة الأسبوعيّة المقدسيّة كتاب “الرّغيف الأسود” للكاتب المغربيّ حسن المصلوحي، صدر الكتاب عام 2020 عن مؤسّسة مقاربات للنّشر والصّناعات الثّقافية في مدينة فاس المغربيّة، ويقع الكتاب في 117 صفحة من الحجم المتوسط.

افتتحت الأمسية ديمة جمعة السمان مديرة الندوة فقالت:

لم يكتب أستاذ الفلسفة المغربي حسن المصلوحي ابن دوار( بوغابات) في مديونة – وهي ضاحية من ضواحي الدار البيضاء-  مذكّرات “الرّغيف الأسود” ليوثق طفولته المنسية، ويسجّل أحداث ومواقف من سيرته الذاتية  لأسباب شخصيّة، لقد كتب المصلوحي سيرة مكان في زمان معين في منطقة تركت بصمة لا تمحى داخل كل من عاش عذابات تلك المنطقة الشّعبية المضطهدة المستضعفة المستغلّة من كل مقتدر. تلك المنطقة علمت أبناءها الكفاح، وخرّجت رجالا يستطيعون مواجهة الحياة بكل قسوتها. كانت حياة صعبة ولكنها لم تخل من لحظات فرح يحن إليها كل من عاشها. يشعر الكاتب بالامتنان إلى دوار (بوغابات)، لذلك أهداه مذكّراته بكلّ فخر: (إلى دوّار بوغابات حيث تعلّمت الكفاح، إلى البرّاكة التي أوت أوجاع الكادحين، إلى سقفنا القصديري الذي قاوم الصّقيع والحرّ وحيدا، إلى شجرة التّين التي كنت أسرق ثمارها).   

قسّم  المصلوحي كتابه إلى ثماني عشر مذكّرة بعناوين مختلفة شيّقة، أعطت الكاتب صورة جليّة وواضحة حول طبيعة الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والانسانيّة في ذلك المكان، الذي كان أبناء المدن ينظرون إليه بازدراء. فقد كان الجهل والفقر والقذارة والدعارة والمخدرات والسرقات عنوان للمكان ولساكنيه. لم يراع أحد احتياجات سكان الدوار الأساسية  الإنسانية، لم يلتفت أحد إلى أحلامهم التي كانت بمثابة الشعلة التي أبقت على حياتهم، رغم كل المآسي الّتي عايشوها وتعايشوا معها على أمل بزوغ  فجر جديد يحمل لهم واقعا أقلّ قسوة، يراعي إنسانيّتهم.  

وعلى الرغم من كل المآسي، لم يغادر الحب برّاكاتهم، بل سكنها مغلّف بالحنان، فازداد دفئا.. يرفرف بأصحابه عاليا، ليصل بهم أعلى سقوف برّاكاتهم القصديرية التي لم تكن تقيهم من حرّ الصّيف ولا مطر الشّتاء، فيصطدم بها ويرتد قوة وإصرارا وصمودا وثباتا وقناعة بأن الحال لا بد أن يتغير.

وعندما يتذكّر الكاتب تلك الفترة يشفق كثيرا على أبناء الرّأسماليين والإقطاعيّين المتعفّنين، ممن ولدوا وملاعق الذّهب في أفواههم، لأن هؤلاء ينتظرون استفاقة الوالد السّارق لمال الشّعب؛ كي ينفحهم بمصروف الجيب، أمّا هم – أي الفقراء- فكانوا يتدبّرون أمورهم بأنفسهم، يعيشون الحياة بكلّ تفاصيلها، يمتلكون ذاكرة خصبة وغنية، أمّا من ولدوا على كنوز كُدّست من مأساة المقهورين فلا يملكون إلا الفراغ. قالها الكاتب بوضوح: الطبيعة أحسن مربّ للأطفال، وقد كانت الطبيعة هي المربّي لأطفال دوّار بوغابات في مديونة.

 أحببت الجدّة “حنّة” التي جدّل الكاتب من اسمها ضفيرة من الحب والرّأفة والحنان، وحزنت لموتها، فقد كانت الحضن الدافىء الذي استوعب شقاوة أحفادها، وكانت بريق الأمل الذي يضيء لهم طريق المستقبل.

 وأحببت الأب الذي أجبر ابنه على إعادة أدوات القرطاسية التي سرقها الطفل حسن من زميله في المدرسة.

وأحببت طفولة وبراءة الطفل حسن في يومه الأول لمدرسته، بكل ما فيها من قلق وخوف وشقاوة وروح التّحدي والسّعي لردّ اعتباره بعد أن سرق أحد الاطفال قلمه الأخضر. فما كان سيتنازل حسن عن حقّه وهو صيّاد العقارب! أحببت حواره مع الله بمنطق براءة الطّفل: فلماذا يبلّل الله أشيائي وهو يعرف أنّني لا أملك غيرها؟

أحببت حساب النّفس ليلا، حين يصحو الضّمير.

أحببت أمهات الدّوار اللواتي كنّ أمّا لكل طفل. فقد كان للمصلوحي أكثر من أمّ، بينما طفله الآن ليس له سوى امّ واحدة. وهي مقارنة تستحق الوقوف عندها مليّا.

حزنت وأنا أرى رغيف الخبز يطير في الهواء ويسقط على الوحل؛ ليأخذ لونه الأسود ويصبح في عداد المفقودين بعد زحلقة صاحبه الذي سبح في الوحل، فكُتب عليه أن يبيت جائعا.

عشت مع كل شخصية من الشخوص المقهورة التي صوّرها المصلوحي، داخل الدّوار وفي (الموقف والمطار)، وتعاطفت معها. وكرهت أصحاب الكروش المتدلّية المستغلّة للضّعفاء والفقراء وحاجتهم للرّغيف المقدّس الذي يبقيهم على قيد الحياة.

قالها الكاتب بوضوح: الطّبيعة أحسن مربّ للأطفال، وقد كانت الطّبيعة هي المربّي لأطفال الدّوار.

استعان الفقراء بالعلم ليخرجوا من ألم انتهاك طفولتهم، ونجحوا، ولكن النّدب التي حُفرت في قلوبهم أطفالا لا زالت عميقة، من الصعب اندمالها. فيعاتب الكاتب الزّمن: ماذا فعل المحرومون والجائعون حتى يكون نصيبهم من الحياة رغيفا أسود؟

مذكرات قيّمة، رغم المباشرة في الخطاب والتّحليل والتّكرار الذي كان واضحا في بعض الفصول، مما أضعف النّصوص. إلا أنّ الكِتاب بشكل عام يعتبر إضافة نوعيّة للمكتبة العربية ومرجعا يستحقّ الدّراسة والتّحليل.

وقال جميل السلحوت:

بداية يجب التّذكير بأنّ الكتابة عن رغيف الخبز ليست جديدة في الأدب العربيّ الحديث، فقد صدر في سبعينات القرن العشرين مجموعة قصصيّة بعنوان “الخبز المرّ” للأديب الفلسطينيّ الشّهيد ماجد أبو شرار، وفي العام 1982م صدرت رواية “الخبز الحافي” للأديب المغربيّ الرّاحل محمد شكري، و”هي عبارة عن سيرة ذاتية واقعية وحقيقية حكى فيها الكاتب عن كل شيء عن حياته، التي فرضت عليه أن يبقى في ظلام الأمّيّة حتى بلغ العشرين عاما من عمره. وكانت طفولته غارقة في عالم الفقر والبؤس والعنف”، وها هو الأديب المغربيّ حسن المصلوحي يسرد لنا مذكّراته في “الرّغيف الأسود”.

وإذا كان الشّهيد ماجد بو شرار في مجموعته القصصيّة “الخبز المرّ” قد كتب عن معاناة اللاجئين الفلسطينيّين في الحصول على رغيف الخبز بعد نكبتهم الأولى في العام 1948م، ونكبتهم الثّانية في العام 1967م، وتشريدهم من ديارهم، فإنّ الأديب المغربيّ كتب سيرته حيث ولد ونشأ في بيئة يطغى عليها الفساد والدّعارة والتّهريب والمخدّرات والفقر المدقع. بينما يكتب لنا الأديب المغربيّ حسن المصلوحيّ مذكّراته عن طفولته المعذّبة في بيئة فقيرة يسود فيها الجهل، والمشترك بين سيرة محمد شكري وحسن المصلوحي هو الصّدق فيما كتباه دون تزييف، فكلاهما عاش في بيئة يسودها الفقر والحرمان والجهل.

ومن سوء حظّي أنّني لا أعرف شيئا عن السّيرة الذّاتيّة للأديب المصلوحي، فالأدب المغربيّ لا يصل منه إلّا النّزر اليسير إلى المشرق العربيّ، فما بالكم بنا نحن الذين نعيش في فلسطين المحتلّة وعشنا حصارا ثقافيّا لعقود طويلة، ولولا شبكة الاتّصالات العنكبوتيّة “الإنترنت”، لعشنا في غياب شبه دائم عن الأدب العربيّ الحديث بمجمله.

لكنّ حياة البؤس والحرمان التي عاشها الأديب المغربيّ حسن المصلوحي، ليست بعيدة عن حياة الطّفولة التي عشتها أنا وأبناء جيلي في خمسينات وستّينات القرن العشرين وفي العقود السّابقة لذلك، والتي قد تكون أكثر سوءا كما سمعنا عنها من الآباء والأجداد، وقد كتبت عن بعض ذلك في كتابي “أشواك البراري” الذي صدر عام 2018م عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة، وفي عدّة فصول من مذكّرات المصلوحي عن طفولته شعرت أنّه يكتب عنّي وعن أبناء جيلي في الرّيف الفلسطينيّ، وفي بلاد الشّام كلّها.

ملاحظات: ورد في كتاب المصلوحي بعض الكلمات وبعض الجمل التي لم أفهمها، لأنها ليست عربيّة.

هناك خطأ في تبويب الكتاب، فـ “المقدّمة” التي كتبتها الكاتبة التّونسيّة نورة عبيد هي “تقديم” وليست مقدّمة، فأنا أكتب مقدّمة لكتابي، وأكتب “تقديما” لكتاب كاتب آخر. وأنا شخصيّا لا أنصح أيّ كاتب أن ينشر تقديما لكتابه مهما كانت مكانة كاتب التّقديم، لأنّ ذلك يكون على حساب مؤلّف الكتاب، وأؤكّد أنّني لم أقرأ تقديم الكاتبة التّونسيّة نورة عبيد لمذكّرات الكاتب المصلوحي، إلّا بعد أن قرأتُ المذكّرات، كي لا تؤثّر على فهمي للكتاب وعلى دهشتي ممّا ورد فيه، وعندما انتهيت من قراءة المذكّرات، قرأت التّقديم، ووجدت أنّ الكاتبة عبيد لم تترك لي شيئا لأكتب عنه.

ولو قرأت ذلك التّقديم لما قرأتُ الكتاب.

يبقى أن أقول أنّها خطوة رائدة من ندوتنا “ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة المقدسيّة، والتي انطلقت في الفاتح من مارس 1991م ولا تزال مستمرة، وستبقى؛ خطة رائدة ” لمناقشتها إصدارا أدبيّا لكاتب مغربيّ، ونأمل أن نناقش إصدرات أخرى لكتّاب من مختلف الأقطار العربيّة، مع التّأكيد على أنّها ليست المرّة الأولى التي نناقش فيها نتاجات أدبيّة لأدباء عرب، فقد سبق وناقشنا أعمالا أدبيّة لأدباء عرب منهم أردنيّون، سوريّون، لبنانيّون، مصريّون، كويتيّون، سعوديّون، ليبيّون. فشكرا لروّاد الندوة ولمديرتها الرّوائيّة المقدسيّة ديمة جمعة السّمان.

وقال د.صافي صافي:

لا أعرف لماذا لم أشعر بالغربة عن نصّ المصلوحي، وأنا أتجوّل فيه. كنت أعتقد أن قضايانا مختلفة لغة وثقافة، وهموما، وآمالا وآلاما. كنت أشعر أن المغرب بعيد عن شرقنا، وأن أفريقيا بعيدة عن آسيا، لكني وجدت أنني أقرأ ذاتي، طفولتي، وأحلامي، وقضاياي، ومراهقتي، وزعرناتي.

فأنا الذي عشت طفولتي في “بيت اللو” قضاء رام الله، وجدت أن المصلوحي عاش في دوار “بوغابات”، وهي نفسها القرية التي بدأت منها ثقافتي بالطول وبالعرض، ولم يتغير سوى الاسم، وبعض المصطلحات التي استطعت فهمها رغم البعد والبعاد. فأنا الذي عشت في “السقائف” (مخيم غير معترف به)، بيوت من الطين والحجارة، وتعلوها ألواح الزينكو، لتشكل لنا عذابا في الصيف والشتاء، والأزقة المغبرة، وقنوات صرف المياه المكشوفة، مع الكائنات الحية جميعاً، تلك السامة، وتلك الوديعة الوادعة. حياتنا تنحصر في ذلك الحي، وفي تلك الحياة الرتيبة، الهادئة إلا من الفقر، والمناوشات بين أبناء جيلنا، وكل جيل، لا نكاد نجد لقمة العيش، فنحتال على الحياة كما تحتال علينا. فنلعب على المقبرة، وبين شواهدها

فالبراكة هي السقيفة، والوحل هو اللاصة، والبغرير هي الفطائر، والأقراص، والتحميرة هي المرمرية/ اللبخة، وأبواب الخشب والزينكو هي نفسها، والزكروم هو الشنكل الخشبي/ الرتاج، والفرن الترابي هو الطابون، والتحواز، والخمسة دراهم اللامعة هو الشلن، والتفروق هي الزلابية، والأسقف القصديرية هي الزينكو، والضاما هي الضاما، والطرونبيه هي الطرنيب، والبيّ هي الجلول، والمجمر هو كانون النار، والبوطة الفتيلة هي لمبة الكاز، وعمال الموقف كما كان في المصرارة، والمقراج هو بكرج الشاي، والعصفور الحريك، وكرة الشرويط هي الشرايط، والجباد هو شعبة الصيد، والنشاشة، وصيد العقارب كما صيد الدبابير وغيرها.

الحياة المرة، والرغيف الأسود، أساس العيش في البيت، وفي الأحياء المشابهة، فلا أسرار، ولا غياب، ولا مستقر كافي في البيت وفي المدرسة، فالفلقة هي نفسها، والصراع بين الطلبة، والظلم الاجتماعي، وحياة اللاحياة.

شعرت بأن المصلوحي كان يكتب طفولتي كما كتب طفولته، فبعد المكان، أبقى على ما هو مشترك بيننا.

علمت أن هذا هو العمل الأول، على شكل سيرة، وكان بإمكانه التأني قليلا، لتصبح الجمل أكثر تعبيرا، وأقل تكرارا، وأكثر تركيزا، وتنسيقا ومونتاجا، فلا يمكن كتابة حياة الفرد مرة واحدة، وليس هناك حياة للفرد خارج المجموعة، خارج سياق المجتمع، وليس كافيا أن يحمل الإنسان قضية، فيكتبها، ولا أيدلوجيا ليعكسها، فالكتابة فن، وإن كانت سيرة، آملا أن تكون كتبه القادمة أكثر اعتناء، وأكثر متعة.

وقالت خالدية أبو جبل:

مذكرات كتبها طفلٌ حمل بيده قلمًا نضج بيد إنسان، حفر البؤس والقهر والفقر في جدران ذاكرته ندوبا. لم يكبُر الطفل في داخل الكاتب، ظلّ قابعا متحفزّا منتظرا فرصة الانعتاق والبوح، وإزاحة حملٍ ثقيل عن كاهليه، ليتابع  ويكبر ويأخذ من الحياة ما شاء منها، فكفاها ما أخذت منه عنوّة.

طفلٌ أظنه انتظر صاحبه كثيرا ليصلّب عود قلمه؛ ليقدر على رمي العالم بسواد حبره، وهل لرغيف أسود أن يكون حبره غير السواد؟

رغيفٌ أسود تقسّمت لقماته مغمسّة بسُّم العقارب السوداء، على الثماني عشرة مذكرة بالتساوي.

مذكرات جعلت من هذه الذكريات مجتمعة قصة الفقر ” وما أدراك ما الفقر!

وصمة العار في جبين العالم المتحضر، وجه النفاق لتجار الدين “بأي وجه منطق بناء المسجد من اسمنت وطين ومسكن البشر من براكية قصدير”؟

الشاهد على سقوط كل الأنظمة في مستنقع التاريخ الفقر، مهد القهر والضغينة والجريمة…

الفقر، مهد التعاون والمحبة والبساطة،

الفقر مهد التجربة والطموح والفكر والإرادة، الفقر مهد الثورة والفن والابداع.

الإنسان المقهور يسعى لرفع القهر عنه، والجائع أوّل اهتماماته البحث عن الرغيف.

على أن هذا لا ينفي أن ذات الإنسان مليء بالرغبات والأحلام التي يطمح لها.

وهذا ما كانه الطفل الكاتب أو أسموه إن شئتم الكاتب الطفل، على أنه في الحالتين لم يتعب هذا الطفل في استدراج الذاكرة للبوح بأسرار يخجل أمامها الخيال بكل خيوله، ولن يُعجّز الطفل في البحث عن زمكان؛ ليدحرج فيه وعليه فيض جروحه، فالمكان واسع” الروضة” المقبرة ،والزمن أوسع، إنه زمن الموت والأموات، موت من فوق الأرض، بضمائرهم وساديّتهم ونفاقهم وعبوديتهم وذلهم وخضوعهم وعجزهم عن قول:” لا” في وجه كل ظالم ومستعمر ومستبد، ولئيم غريبا كان أم قريبا.

واللعبة كرة من خرق قماش بالية تتقاذفها الأقدام الحافية… تكبُر الأقدام وتكبر الكرة وتكبر الروضة بمن هم  فوقها ومن هم في أحشائها، ويكبر وينتفخ كرش مالك الكرة المتحكم في اللعبة !أجل إنها لعبة الحياة الأكبر أيّها الطفل الكاتب حسن الصلوحي.

لعبة الحياة التي جمّلت فيها شقاء طفولة ببراءة ألعابها وليدة الحاجة إليها، وكم كان ممتعا سردها ومشوقا على الرغم من معرفتنا بها وعيشها بكل تفاصيلها في كل مجتمعاتنا العربية، فقد تختلف لهجاتنا في أوطاننا، لكن للفقر لهجة ولغة واحدة في كلّ الاوطان.

كم كان جميلا ذكرك أساتذتك وما تركوه من أثر سلبي أو إيجابي في نفسك، وما تبعث به من دلالة ورسالة تربوية، مذكرة”أوّل يوم في الدراسة”وانتقادك بعين الطفل الذي كان شاهدا على حياة البؤس لتصرفات الآباء والامهات والكبار، الذين تجدّ لهم المبرر لسوء تصرفهم، لتقول للعالم

إن العنف والجريمة لا تولد مع الإنسان ،إنه الظلم والقهر والطبيقة ونظام السيد والعبد الغني والفقير القصر والبراكية. هؤلاء جميعا الآباء الشرعيون للجريمة والرذيلة والسقوط.

سرد الكاتب الطفل ذكرياته عن حيّه وانت تشعر بفرح يداعب أساريره، وحنينا يحث الدمع من محاجره، وحبّهُ الغامر لتلك الذكريات، بعذوبة عباراته الشّعرية المنتقاة، التي لم تترك شاردة وواردة إلا وأتت على ذكرها، بدءا بفخاخ صيد العصافير والعقارب، الكتّاب، المدرسة، سرقة الأقلام، مرورا بكأس الشاي وكسرة الخبز الحاف، وحبات الزيتون والعيد ” عيد مولد النبي صلى اللع عليه وسلم” والذي يتضح أنه عيد الفقراء –

وحرّ البراكية ودلف سقفها شتاء ليبلل أشياءه؛ لتثور في نفسه الأسئلة المشروعة” لماذا يبلل الله أشيائي ؟ ألا يعلم أنني لا أملك غيرها؟ أتساءل مع الطفل: هل يُفكر أبناء القصور والغنى إن كان الله موجودا أم لا ؟ ام هل يعنيهم الأمر برمته؟

يذكر عشقه الأوّل بروح العاشق الحالم الولهان ،ويسرد حكاية جدته “حنّة” نبع الحنان كما وصفها ، بكل مافي اللغة من حب ووفاء وانتماء.

” فقراء كنّا ولكن الفقر كان يمنحنا في كلّ يوم فرصة أن نلامس الحب في الشياء الصغيرة قبل الكبيرة ص41″

إنه سرّ سعادته وهو يسترجع هذه الذكريات ،ما نشعر عكسه تماما حين يبدأ سرده في مذكرة” لاقطات البطاطا”

نسمع صوت  الطفل  قد ثخن  واحتقنت أوتاره حبالا من الحقد والغضب والنقمة على بشاعة الفقر، ولؤم الفاقة والحاجة التي تُعري صاحبها من كلّ شيء،

في لاقطات البطاطا الصورة البشعة الصادقة الواضحة لواقع عالم مزيف مستبد جائر.

كيف لطفل عاش كل هذا ألا يُفكر بخلاص؟ ألا يتساءل لمَ كلّ هذا الصبر والصمت؟

ما يضيرهم لو تمردوا لو ثاروا، لو قالوا لا؟ ماذا سيخسرون؟

في مذكرة الحريق حيث تأتي النار على البراريك وتشتت أهلها ولا منقذ لهم لا من أرض ولا سماء، دلو ماء واحد يعود لبئر المسجد الذي لم تطاله النار، لم يوفر الزمن وسيلة لحرمانهم وتعذيبهم، فحرق حتى أوهام أحلامهم، حرق فرحهم المحروق أصلا .لا تفيض  السماء مطرا لتطفىء الحريق، بل تفيض أسئلة تُنزلها على رأس هذا الطفل يُسائل بها الزمن ويُقاضيه أمام تواطئه مع الفرنسي والحاكم العميل، والمُشغل الفاسد والحاكم الظالم، والمغتصب الوقح؛ ليرفع السؤال الذي انحشر في زوره منذ سنين: ماذا فعل كلّ المحرومين والجائعين حتى يكون كلّ نصيبهم من الحياة رغيفا أسود؟

اختم فأقول: كتاب “الرغيف الاسود ” سيرة ذاتية جريئة وحديثة لكاتب شاب، جاءت لتكون شاهدا على العصر الحديث، ودمغة في جبين التحضر المزيف.

ملاحظة: ١- تمنيت على الكاتب وقد اهتم بجمع مذكراته بكتاب واحد لتكون سيرة ذاتية هامة أن يراعي عدم التكرار لأوصاف مثل حرّ البراكة وبردها، وعبارات مثل الصمت في حضرة الجمال جمال.

2- يتحسر الكاتب على ألعاب زمان المملوءة بالحيوية وينتقد بالمقابل طفولة الشاشات اليوم ،وأنا أيضا لكن حتى تكون منصفين، كيف لنا أن نطلب من جيل محبة شيء لم يعرفه ولم يجربه، نحن نحِنُ لما عشنا وجربنا، كيف لهم هم هذا؟

وكتبت رفيقة عثمان:

  “الرّغيف الأسود” تحتوي على عدد من قصص الطّفولة للكاتب حسن المصلوحي، من المغرب العربي.

اختار الكاتب هذا العنوان، تشبيهًا للحياة القاسية والمعاناة التي واجهها المصلوحي بنفسه؛ حياة الفقر والعوز والجوع، كما ورد صفحة 116 “ماذا فعل كل المحرومين والجائعين حتّى يكون كل نصيبهم من الحياة رغيفًا أسود؟”. كذلك تطرّق الكاتب الى الرّغيف الأسود ” من المسؤول عن هذا الواقع الأسود سواد الرّغيف الحافي غيرهؤلاء الّذين يتلذّذون لمأساة الفقراء، هؤلاء الّذين تحوّ ل رغيفهم إلى قطران، وسرقوا ما تبقّى من زينة للحياة، سرقوا اللّحم والشّحم والفواكه الإستوئيّة، ولم يتركوا لمائدة المدحورين غير الخبز اليابس” صفحة 49.

  إنّ قصص المصلوحي كلّها تعبّرعن حياة البؤس والجوع، والشّقاء، وغلبة الأسياد على طبقة الفقراء؛ واستغلال النّساء العاملات الساعيات نحو لقمة العيش، والحط من قيمتهن، من اغتصابات، وإهانات وما إلى ذلك.

كل هذه القصص تعبّر عن الحزن والألم والمعاناة اليوميّة التي واجهها كاتبنا المصلوحي في حياته، وحياة مجتمعه في حقبة زمنيّة تبدو قديمة جدّا؛ نظرًا لعدم مواكبتها للتطوّر الحضاري المعاصر.

  قارن الكاتب حياة أبناء الفقراء المغربيين، بالأبناء الفرنسيين المحتلّين الّذين ينعمون بحياة الرفاهيّة والسعادة.

  تطرّق الكاتب لأهميّة الأمومة “الأمومة أعظم مسؤوليّة يمكن أن يتحمّلها البشر، فالأمّ تجعل منك سيّدًا حرّا، وإمّا تصنع منك عبدًا ذليلًا بلا قيمة”.

   تصنيف هذه القصص تحت المسمّى الأدبي بالسّيرة الذّاتيّة، وكتابة المذكّرات؛ حيث تطرّق الكاتب إلى تفاصيل دقيقة عاشها كاتبنا في طفولته، من مأكل ومشرب ونوم، وعلاقات مع الأصدقاء والأقرباء، وطقوس دينيّة وأعياد.

  هذه السّيرة الذّاتيّة تنطبق على السّيرة الجماعيّة للبيئة التي عاشها الكاتب في تلك الحقبة الزّمنيّة، فهي أيضًا تعتبر سيرة جمعيّة؛ على الرّغم من قساوة العيش إلا أن الكاتب يسترجع ذاكرته إلى الوراء قائلًا ” حين أستذكر ذكرياتي الماضية بدوّار بوغابات، فتلمع عيناي شوقًا لذلك الزّمن الجميل” صفحة 59.                                           

  سرد الكاتب قصصه بضمير الأنا في كافّة القصص، مع ذكر اسمه الشخصي (حسن)؛ ممّا تضيف مصداقيّة للنصوص المسرودة، وتجعل القارئ يتابع قراءة النّصوص بشغف. كما ذكر قائلًا: “أنا هكذا أحبّ ممارسة الحفر على ذاتي، أحبّ اكتشاف نفسي، اكتشاف “الأنا” الّذي كنته في الأزمنة الغابرة”.

  وُصفت لغة الكاتب باللّغة القويّة والرّصينة، إلا أنّه وردت كلمات ومصطلحات عديدة ذات لهجة مغربيّة، يصعب على القارئ العربي فهمها بسهولة؛ إلا من ضمن السياق للمعنى.

  زخرت النصوص الأدبيّة في القصص، بالمحسّنات البديعيّة الجميلة، والّتي زادت من النّصوص جمالًا أدبيًّا.

  استطرد الكاتب بالوصف للأمور، حيث استغرق وقتا بالشرح حول حادثة ما؛ كما ورد الوصف حول اللّعب، الحريق، العيد. 

  امتازت العاطفة بصبغة السّواد، كما وصفها الكاتب بالعنوان، عاطفة الحزن والألم، والقهر، والبؤس والشقاء؛ إلا أن لحظات الفرح والسّعادة ضئيلة جدّا. صبغت القصص باللّون الأسود، والقطران.

  تبدو أحداث المذكّرات وكأنّها منذ سنوت الثلاثينات، غير أنّ عمر الكاتب من الجيل الصغير؛ ممّا يدل على زمن الأحداث. جعلتني هذه السيرة الذّاتيّة في استغراب عجيب، هل يُعقل لهذه الأحداث أن تحصل في هذا الزّمن؟ ليس غريبًا علينا أن نتشابه في نمط الحياة كما هو في المخيّمات الفلسطينيّة في كافّة الأماكن.

  مذكّرات الكاتب أطلعتني على نمط حياة غريب وجديد، وأثرت مداركي نحو صعوبة الحياة وشظفها التي لاقاها المصلوحي، وعلى الرّغم من ذلك، جعلت منه إنسانًا منتجًا، كاتبً وشاعرًا ذا قيمة رفيعة في المجتمع.

وكتبت هدى عثمان أبو غوش:

“الرغيف الأسود”هو كتاب مذكرات بطعم الألم والقهر والمعاناة،هو رغيف يبوح بالجراح والأسى، ينبش ذاكرة الماضي، ووجه الطفولة البائسة في ظلّ بئر الحرمان والفقر في  إحدى المناطق في المغرب، الذين يسكنون في ما يعرف بالبرّاكة أي بيوت مصنوعة من القصدير.

“الرغيف الأسود” هو آهات لقمة العيش والحياة المريرة، يسردها الكاتب المغربي حسن المصلوحي بضمير الأنا بلغة جميلة شفافة وشعرية، وبسرد قصصي، مزينة بالتشابيه الجميلة والاستعارات، تتميز هذه المذكرات بالوصف الدقيق والإسهاب، فيصف مكان وبيئة أهل البراريك، مبنى البيوت، الدوار، الأزقة وصور الفقر المختلفة،يصف الكاتب حالة طفولته البائسة والأطفال والصبية ورفاقه، عائلته، مدرسته مشاكساته، يصف صور الحرمان من المستلزمات الرئيسية من الملابس كالحذاء واستعارة أحد الأحذية من أجل الذهاب للمباراة، أو الذهاب أحيانا حفاة على سبيل المثال لا الحصر، كما يصف صور القهر للطفولة، وعملهم الشاق في الحقول أيام العطل الصيفية من أجل رغيفهم،وكذلك النساء الحوامل.

جاء الوصف لتسلل التراب على جسد الصِبية بصورة تصويرية بطيئة دقيقة، ويعتمد على الصورة البصرية؛ كي يؤثر على القارىء المتخيل للمشهد.” يتسلل من داخل الصناديق المثقوبة إلى قفاي ثم نحو ظهري إلى مؤخرتي ومن أسفل الثياب يتصاعد الغبار حتى يصل إلى آخر نقطة من جلدي.”

وصف الكاتب من خلال سرده الحزين الطبيعة كالأرض والحقل والشمس والمطر والبرد، والطيور وذكر بعض الحيوانات الأليفة، كما ذكر بعض النباتات.

برزت العاطفة الجياشة بقوّة في سرد المذكرات عامة وبصورة خاصة بما يتعلّق بعلاقة الكاتب الدافئة بالجدّة حنّة، فقد وصف محاسن بالجدّة وقوة شخصيتها بأسلوب شاعري مستخدما أسلوب التّكرار.

يوجه الكاتب من خلال مذكراته  صرخة في وجه الأغنياء للكفّ عن استغلال الفقراء ماديا والنساء جنسيا، وصرخة في وجه السّاسة الذين يتجاهلون الفقراء في المجتمع.

استخدم الكاتب أُسلوب المقارنة، مقارنة بين أُسلوب معيشة الأغنياء والفقراء، “الأغنياء يقضون العطل بالمخيمات الباهظة، والفقراء يمدحون مقابل دريهمات”، والمقارنة بين الموت والألم عند الفقراء أثناء الحريق وبين الحياة الرغيدة أثناء احتفال الأغنياء بالسنة الجديدة، وأوجد التشابه بين الفقراء والعبيد الأفارقة، مقارنة بين الماضي الدافىء رغم قساوته وبين اليوم الجاف.

صوّر لنا الكاتب إبداع الأطفال الفقراء في البحث عن حلول بديلة لممارسة هواياتهم.

برزت روح الفكاهة والإبتسامة والأمل رغم المعاناة والأُسلوب السّاخر من واقعهم المرّ، كتسمية “الموقف” بالمطار، لذا نلاحظ عدم هروب الكاتب من ذاكرة الطفولة في البرّاكة، بل أكدّ الكاتب حنينه إليها. لأنّ الفقر جعلهم يلامسون الحب في التمعن بالأشياء الصغيرة قبل الكبيرة، وهذا ولّد التضامن بينهم.

هناك بعض الكلمات حبذا لو فسرها الكاتب جانبا لأنها غير معروفة للجميع.

وقال عبدالله دعيس:

هل بلاد العرب هي مرتع الظالم ومقبرة الضعيف والفقير؟ هل هي منتهى العذاب وموضع سهم الطغاة عديمي الإنسانيّة؟ ألا يلج الضعفاء،  في كلّ يوم، أتون الظلم يصطلون بناره ويقاسون ما لا يحتمله بشر، تدفعهم أيادي آثمة امتهنت الذلّ ورضعت لبن الاستعمار، فكانت أشدّ وطأة منه على من يشاركهم الأرض والهواء؟ وهل ما يتكشّف لنا من معاناة وعذابات في كلّ ركن من وطننا الواسع وليد هذه السّنوات التي ظهر فيها الباطل وتمدّد، أم  تراكم عقود من الظلمات؟ كلما قرأنا ونظرنا وتمعنّا ندرك عمق المستنقع وعفونته، وقد آلت إليه قاذورات الأرض وانطفأت فيه إنسانيّة العربيّ، وغاصت كرامته في أوحاله الآسنة.

يسترجع  الكاتب  حسن المصلوحي بعض ذكريات طفولته في أحد الأحياء الفقيرة في المغرب، يقصّ فيها براءة طفل وتعلّقه بالطبيعة، وتكيّفه مع حياة الفقر والعوز، واستمتاعه  بكلّ شعاع ضوء يبزغ من بين الغيوم الجائرة. يحكي عن لحظات سعادته ولحظات شقائه في حيّ (بوغابات) الذي يعيش أهله في (برّاكات) لا تقيهم حرّ الصّيف ولا قرّ الشتاء. لكن دفء مشاعرهم ورعايتهم لبعضهم يجعل هذا الجحيم جنّة يلهو فيها الطفل ببراءة، قبل أن يصطدم بعتبة الواقع القاسية ويدرك مدى الظلم والإهانة التي يعيشها أبناء حيّه الذين رضوا بشظف العيش، لكنّ طمع المنتفعين وخلائف الاستعمار الفرنسي لاحقهم حتّى على رغيفهم الأسود وامتصّ منهم رحيق الحياة، وكأنّ أولئك استكثروا أن يأوي المستضعفون إلى بيوت الصّفيح دون أن تعاني أجسادهم من سياط الظلم وأرواحهم من سياط المهانة والذلّ.

وهل يقف حي (بوغابات) فريدا؟ وهل هو وصمة مخفيّة في جسد الأمّة؟ الحقيقة أنّ ما وصفه الكاتب  حسن المصلوحي عن طفولته ما هو إلا مثال  لملايين من القصص المشابهة في كلّ حيّ وكلّ حارة في مدننا وريفنا وسهولنا وجبالنا وصحارينا، التي تمتدّ من المحيط العظيم؛ لتعبر البحر الأحمر وجزيرة العرب حتّى الساحل الآخر. وهل الطغاة الذين وصفهم المصلوحيّ حكر على بلاده؟ أم هم أنموذج لأمثالهم في كلّ ركن من وطننا العربيّ المُبتلى بأمثالهم، وبمن هم أشدّ منهم وأقسى؟

والنّاس في مذكرات حسن المصلوحي ثلاثة فرق: الفقراء الذين يعيشون على هامش الحياة، يحكمهم الجهل ويرضون بشظف العيش ولا ينهضون لاسترداد حقوقهم المسلوبة، بل ويوجّهون سهامهم نحو غيرهم من الفقراء الذين يشاركونهم المعاناة. فالآباء يضربون أبناءهم بقسوة، والأزواج يصبّون غضبهم على  زوجاتهم، والمعلمون يستلذّون بتعذيب طلابهم جسديّا ونفسيّا، وكأنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يردّوا الظلم عن أنفسهم فيعكسوه على الذين يشاركونهم ضعفهم وشقاءهم.

والفرقة الثانية هم أولئك الفقراء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سياطا في أيدي الطبقة المتسلطة، يوجّهونهم نحو ظهور الضعفاء فيستلذّون بفرض سطوتهم على من هم دونهم، وتعذيبهم بأبشع الصور وأحطّها. وعلى مثل هؤلاء يصبّ الكاتب جامّ غضبه، ويصفهم بأبشع الصفات وأقذع الأوصاف، وكأنه يرى أنّهم أس المشكلة وأساسها: أليسوا  هم الذراع الذي يبطش المتسلّط به؟ اليسوا هم من يمتصّون رحيق الضعفاء ويستغلّون ضعفهم ويسومونهم سوء العذاب، ويقدّمون ثمار جهدهم للطبقة الفاسدة، ثمّ يرضون هم أنفسهم بالفتات الذي يلقيه إليهم أسيادهم ويرتضون حياة العبيد؟ هؤلاء هم العبيد الذين ارتضوا حياة الذلّ واستلذّوها ولا يطمحون إلى حريّة، ثمّ هم يفرضون ذلهم وعبوديتهم على من هم دونهم، كما يصفهم الكاتب. رضوا أن يعيشوا في الوحل، وأغرقوا غيرهم في هذه الأوحال، واستكثروا عليهم نظرة إلى سماء الحريّة.

أمّا الطبقة الثالثة فهم فأحفاد المستعمر الفرنسيّ كما سمّاهم الكاتب، وهم طبقة فاسدة استفادت من الاستعمار، واستغنت على حساب ثروات البلاد، وأصبحت تقوم بالعمل القذر الذي ترفّع المستعمر نفسه عنه، فكانوا وما زالوا وبالا  على العباد والبلاد. وإن كان للمستعمر الفرنسي أحفاد  في المغرب، فكل شبر من بلادنا فيه أبناء وأحفاد وعبيد لكلّ مستعمر ولكلّ متسلّط، فاسدون يجمعون الثروات ويرفلون في ثياب العيش الرّغيد على حساب أوطانهم وأبناء جلدتهم. وخلاصة القول أنّ العرب في وضعهم الراهن هم عبيد مستضعفون لعبيد أذلاء متسلطين، وهؤلاء عبيد لساسة ألعوبة بيد المستعمر، وهم بدورهم عبيد أذلاء لذاك المستعمر. فمتى سيلقي العبيد النّير عن كواهلهم، وينفضون غبار الذلّ عن أبدانهم وأرواحهم، ويتطلّعون إلى حياة كباقي البشر؟

ويبرز فصل الشتاء في ذكريات الكاتب. فذكرياته الأليمة تكون في الشّتاء، وكأنّ البرد والمطر كان سوط العذاب الذي يصطلي به الفقراء والمحرومون. والكاتب لصيق بالطبيعة يستقي منها بعض السّعادة الغائبة في لجّة الظلم التي تحيط به.

ينتقد الكاتب الوضع السياسي في المغرب عن طريق وصف الأوضاع المزرية التي يعيشها المواطنون، ويصبّ جام غضبه على الوسطاء الذين ينفذون المهام القذرة، ويشير إلى الطبقة التي استفادت من الاستعمار، ولكنّه لا يتعرّض بشكل مباشر للنظام الملكي في المغرب. وهذا بدوره يعكس ما يعانيه المثقفون في بلادنا العربيّة، وانعدام الحريّة في التعبير عن الرأي وتعرّضهم للتنكيل إن هم جاهروا بما يرونه من مظالم.

عندما يتكلم الكاتب عن الوسطاء الذين كانوا يستغلّون الفقراء ويهينونهم، يصفهم بأقذع الكلمات ويرميهم بأبشع الصفات. هذا يعكس مقدار ما قاسى الكاتب في طفولته، ويعكس نظرته إلى هؤلاء المنتفعين الصغار واحتقاره لهم، وهو محقّ بذلك، وهم يستحقون هذا وأكثر. لكن كان ينبغي  على الكاتب أن يتجنّب استخدام الألفاظ السوقيّة الجارحة في كتابه ويترفّع عنها، فهذه لا تليق بكتاب أدب، وقد تكفي الإشارة ليدرك المتلقي الذكي مدى القذارة التي كان أولئك يمارسونها ويتصفون بها.

وكما الطفل، فإنّ المرأة في ذكريات حسن المصلوحي هي حلقة ضعيفة، وهي ذليلة مقهورة. تبرز في الكتاب، المرأة الأمّ والجدّة اللواتي ينضحن بالحنان والرعاية لأبنائهنّ رغم المعاناة، وتظهر كذلك المرأة التي  تعكس ما تلاقيه من قهر على من  هو حولها ومنهم أبناؤها. وكذلك المرأة  الفقيرة التي تضطرّ للعمل فتتحمّل فوق قسوة العمل ذلّ الاعتداء عليها واستغلالها جنسيّا.

ويذكر الكاتب عددا كبيرا من أسماء الشخصيّات والأماكن، وكأنّه لا يريد أن يترك أحدا ممن رافقه في طفولته أو أثّر عليه دون أن يذكره، لكنّ هذا يصعّب الأمر على القارئ ويجعله يتوه بين أسماء الشّخصيات الكثيرة، خاصّة وأنّ  الكاتب لا يبذل جهدا  كبيرا بالتعريف بهذه الشخصيّات.

لم يذكر الكاتب الزمن التي دارت فيه الاحداث ،  وليس هناك إلا إشارات ضعيفة تدلّ على الزمن، وتجعل القارئ يعتقد أن الأحداث ربما تدور في ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي، وخاصة أن النسخة الإلكترونية للكتاب، والتي هي بين أيدينا، لا تحتوي على تعريف بحياة الكاتب.

وقد أقحم الكاتب نظرته الشّهوانيّة إلى معلمته في الصفّ الابتدائيّ الأولّ، وكذلك نظرته نحو زميلاته في المدرسة الابتدائيّة. أعتقد أن ما وصفه الكاتب لا يمكن أن يدور في خاطر طفل دون العاشرة، وإنّما تشكّل لديه بعد البلوغ، ولا أرى أنّ الجزء الذي يخصّ المعلّمة كان مبرّرا أو مقنعا.

استطاع  الكاتب في كتاب ذكرياته أن يعطي صورة واضحة لحياة الفقراء في المغرب، وأن يعكس صورة الفقراء في العالم العربي، ويشير إلى الحياة الاجتماعيّة تحت وطأة الظلم والقهر بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، وقدرة الإنسان أن يصنع سعادة بين طيّات الشقاء. “وحدهم أبناء البرّاكة يتذوقون حلاوة حياة  بطعم الوحل.”  وهي دعوة لرفض الظلم والسّعي نحو الحريّة.

وكتبت جميلة شحادة:

أي مصادفةٍ هذه التي ساقتني لأقرأ كتاب الرغيف الأسود، للكاتب المغربي، حسن المصلوحي اليوم، والغيوم حالكة السواد، ترمي شوارع وبيوت مدينتي، الناصرة، بكل ما في جوفها من مطرٍ وبَرَد وربما ثلج، في أقصى مرتفعاتها. إنه يوم عاصف، شديد البرودة، حالك، لم نعتد عليه كثيرًا في مدينتنا، فلَزِمنا بيوتنا (وبالذات مَن لا حاجة له بالخروج من بيته)، ونشدنا الدفء، وراح الكثيرون يعبّرون عن هذه الأجواء برومانسية. وحتى لا يُتهم بعض هؤلاء بغياب الضمير وقسوة المشاعر، نشروا على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا لأطفال لاجئين قد تركوا أوطانهم مع عائلاتهم نتيجة الحروب ومآسيها، وتشتتوا في بلاد الغربة. أكاد أن أجزم، أن البعض من هؤلاء قد نشروا صور الطفولة البائسة، وهم يحتسون شرابهم المفضّل الساخن، ويجلسون على الأريكة الدافئة أمام المدفأة. لقد نشروا صورًا لأطفالٍ ونساء لاجئين من سوريا، واليمن، والعراق، وأفغانستان وغيرها من البلاد المنكوبة؛ نشروا صور أطفال وهم يتجمدون من شدة البرد، ويبتهلون، ربما، الى “الرحمن الرحيم” بأن يأخذهم إليه ويريحهم من العذاب. أي نفاقٍ هذا!؟ وأي  إنسانية زائفة هذه!؟

صور الطفولة البائسة التي نشرها الأصدقاء على صفحاتهم، أثارت بي الغضب والسخط، فكيف بمَن عاشها أو ما زال يعيشها!؟ مؤلف كتاب “الرغيف الأسود”، حسن المصلوحي، وأصدقائه في “دوار بو غابات” قد عاشوا هذه الطفولة البائسة، وكشف لنا الكاتب المصلوحي عن ذلك في كتابه، “الرغيف الأسود”.

كتاب “الرغيف الأسود”، هو برأيي، عبارة عن لوحاتٍ انتزعها حسن المصلوحي من مخزنها في ذاكرته، أو الأدق قد انتقاها، لتخرج الى النور على شكل كتاب. وأقول انتقاها، لأنه حدثّنا عن أصدقائه، وجيرانه في دوار “بو غابات”، وعن جدّته حنّة وحنانها وكرمها، وعن مدرسّيه، ووصف لنا شظف العيش في الدوار الذي سكنه، وعلاقته بأصدقائه، وصيده للعقارب والطيور، ووصف لنا نهج المدرسين في عقاب التلاميذ؛ لكنه لم يبُح، ولم يكتب عن والدته، ووالده، وأخته خديجة، وأخوته الثلاثة، الا النزر القليل، وفي سياق أحداث أخرى، دون أن يخصّص لهم فصلًا (لوحة) خاصًا بهم، كما فعل مع غيرهم كجدته حنّة مثلًا. هذا يعني أن الكاتب ما زال لديه الكثير ليقوله عن طفولته واختار أن لا يقلها في هذه المرحلة.

إن مضمون كتاب ” الرغيف الأسود”، وما جاء فيه من وصفٍ لحيّ فقير، يقاسي ساكنوه من العوز، والقهر، وقسوة الحياة، ليس غريبًا على القرّاء؛ فقد سبق وأن كتب كتّاب آخرون عن الطفولة البائسة، وعن الأحياء الفقيرة، ووصفوا صعوبة العيش فيها… عندما قرأت عنوان، “الرغيف الأسود” وعرفت أن كاتبه مغربيّ الأصل، تبادر الى ذهني فورًا كتاب “الخبز الحافي” للكاتب المغربي محمد شكري، وحسبت لأول وهلةٍ، أن “الرغيف الأسود” يشبهه من حيث المضمون وأسلوب السرد؛ لكن سرعان ما تبيّن لي الاختلاف بين الكتابيْن، ولو أنهما يلتقيان بوصف طفولة بائسة، مع فارق كبير في سير الأحداث. فعلى سبيل المثال، إن شظف العيش والفقر في دوّار “بو غابات” لم يؤديا الى انحراف أطفاله، كما عرفنا من كتاب ” الرغيف الأسود”، مثل ما حدث مع محمد شكري وأصدقائه. على أي حال لست الآن   بصدد إجراء مقارنة بين الكتابيْن، وإنما ما أثار تعجبي هو أن كتاب” الرغيف الأسود” صدر عام 2020 ومؤلفه، حسن المصلوحي، يصف فيه طفولته القاسية، أي أنه يتحدث عن سنوات التسعينات، وهي فترة ليست ببعيدة عنّا زمنيًا؛ فهل يعقل أن في هذه السنوات ما زال يعيش الناس في مناطق من دولة المغرب، هذه الحياة القاسية؟ هل يُعقل أن المدرسين في سنوات التسعينات في هذه المنطقة من المغرب، ما زالوا يستعملون الفلقة لمعاقبة تلاميذهم؟  لكن مهلًا لماذا أتعجب وأستغرب، والطفولة ما زالت مسروقة، وحقوق الأطفال منتهكة في البلدان العربية، والبلدان المحتلّة، وغيرها من دول العالم الثالث!

برأيي تكمن قيمة كتاب، ” الرغيف الأسود” ليس بموضوعه، أو وصفه حياة الشقاء لشريحة من الناس في المغرب في سنوات التسعين، وإنما تكمن في أنه وثّق هذه الحياة في بقعة معينة من المغرب. لقد وثّق صورة العلاقة بين الأفراد في هذه البقعة، وأنواع الأكلات فيها، وأنواع الألعاب التي يلعبها الأطفال …. وهنا، كان من المفضّل أن يذيّل الكاتب بعض صفحات الكتاب بشرح لأنواع هذه الأكلات والألعاب التي ذكرها، ليتسنى للقارئ غير المغربي من التعرف عليها.

المصلوحي، أسهب في وصفه مشقة العمل لفئات الناس المستضعفة في لوحته ” لاقطات البطاطس أو الموقف” ولاقطات البطاطس، ذكرتني برواية “الحرام” ليوسف أدريس، والتي حوّلها المخرج المبدع، يوسف شاهين الى تحفة سينمائية، بطلتها سيدة الشاشة، فاتن حمامة، هذه القصة صدرت عام 1959، وها هو حسن المصلوحي بعد خمسين عامًا تقريبًا، يصدر كتابه، ” الرغيف الأسود (عام 2020) ويصف فيه ذات القهر، وذات حياة البؤس والفقر، لفئات مستضعفة تعيش في المغرب بعيدًا عن عاصمتها!؟

في اللوحة الأخيرة من كتاب، الرغيف الأسود، والمعنونة “برقصة الموت”، ينتظر الكاتب  المصلوحي، الموت.  يقول في صفحة 112 من الكتاب: “على موعد مع “الموت”. أخبرني قبل عام ونصف تقريبًا، أنه سيزورني ليلًا، لكنّه لم يأتِ”.  وفي ذات الصفحة يكتب: “الليلة أيضًا يبدو أنك لن تأتي، وأنا سئمت الانتظار على حافة شرفتي”.  وهنا يسأل السؤال: لماذا يُنهي الكاتب كتابه بهذا اليأس؟ وهو شاب قد تعلم ونجح ويعيش اليوم في إيطاليا ووالدته وجيرانه في المغرب يفخرون به. لماذا يقف على حافة شرفته ويستذكر طفولته في دوار بو غابات وينتظر الموت؟ هل يعاني تأنيب الضمير بسبب ما يقاسيه أبناء منطقته في المغرب؟ لكن، هو ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي تسود مناطق في وطنه المغرب. ألم يكن من الأجدى بأن ينهي الكتاب ببصيص من أمل، وبالنية لمحاربة الظلم ومكافحة القهر…!؟ المواطن الذي يعيش في هذه البقعة من المغرب، ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي يعيشها، وإنما المسؤول هم أولئك الذين يسكنون في أبراجهم العاجية وقد نسوْا شعبهم.

وكتبت د. روز اليوسف شعبان:

يهدي الكاتب كتابه:” إلى دوّار بوغابات حيث تعلّمت الكفاح، إلى البرّاكة التي آوت أوجاع الكادحين، إلى سقفنا القصديري الذي قاوم الصقيع والحرّ وحيدًا، إلى شجرة التين التي كنت أسرق ثمارها.”

لا شكّ أنّ عنوان الكتاب وإهداء الكاتب، يكشف عن مضمون الكتاب، والذي هو مذكّرات الكاتب في فترة طفولته، حيث كان يعيش مع أسرته في برّاكة في دوّار بوغابات في الدار البيضاء في المغرب. ولنا أن نتخيّل قبل البدء في قراءة المذكّرات، معاناة أطفال يعيشون في برّاكة لا تقيهم برد ومطر الشتاء، ولا قيظ الصيف.

محاور أساسيّة ساقها الكاتب في مذكّرات:

              الفقر المدقع والبؤس الشديد الذي كانت تعيشه أسرته والكثير من الأُسَر التي تقطن في البراريك في دوّار بوغابات وغيرها، حيث بالكاد يجدون ما يسدّ رمق جوعهم، كسرة خبز جافّة مبلولة بالماء أو الشاي، ومعاناة شديدة من قرّ الشتاء وحرّ الصيف:”درجة الحرارة التي ترتفع شيئًا فشيئًا مع توغّل الصيف، الزنك المستخدم في صناعة البراريك يضاعف درجة الحرارة، حتى الذباب يُغمى عليه من شدّة الحرّ”.ص12. وقد وجد الكاتب أنّ الخروج مع أصدقائه إلى الطبيعية واصطياد العقارب والأفاعي، واصطياد العصافير، مُتنفّسٌ له، يُشعره بالسعادة والفرح. ” وفي تفاصيل طفولتنا ما يدفعنا لحبّ الطبيعة، منذ تلك الفترة جعلت من الطبيعة خليلتي، وكأنّ بيننا زواجًا مسيحيًّا للأبد”.ص13.” لقد كنّا نتجرّع في كثير من الأحيان مرارةً وألمًا كبيرين، ألم يمتزج  بحبّ الحياة، معاناة لم تكن تمنعنا من عشق الحياة بكلّ تفاصيلها” ص56. لقد وجد الكاتب نفسه يبحث عن مواطن الفرح  حتى داخل جحيم البراكة:” البرّاكة كانت معشوقتي التي افتقدتها اليوم، كانت حنونة ودافئة رغم قطرات المطر التي كانت تقضّ مضجعنا في الليل، لكي يبدأ مهرجان السمفونيّات المطريّة، كنت أرقص في فراشي من روعة الموسيقى، التي أنصت لها مجّانا، المطر ظاهريّا كان يعلن عن موسم المعاناة. لكنّه باطنيّا كان حفل زفاف سرمديّ نحو النشوة والبساطة..”.ص32.

              التربية والتعليم: يصف لنا الكاتب بدقّة متناهية مشاعره قبل دخوله المدرسة، ويومه الأوّل في الصف، ومعلّمته التي أحبّها وأحبّ تعاملها مع الطلّاب، وحبّه الأوّل لزميلته التي رآها أجمل مخلوق على وجه الأرض، كما يصف تعامل بعض المعلّمين القاسي مع الطلاب واستخدامهم الضرب كوسيلة للتأديب، مقابل بعض المعلّمين الذين لم يستخدموا الضرب أبدًا، وكانوا يتعاملون مع الطلّاب باحترام ومحبّة.  وقد جاء الكاتب على ذكر حادثة حدثت له مع أحد الأساتذة حين كان في الصف الثاني ابتدائي، بعد أن وصل المدرسة مبلّلًا بالمطر، وحين سأله سؤالًا أجاب الطالب حسن بأن المعلم لم يتطرّق إلى هذا الموضوع، فضربه المعلم ضربًا مبرحًا:” فانهال عليّ المعلّم ضربًا مبرحا كما لو كان يجلد مجرما خطيرا،ظللت مُصرًّا على أنّه لم يدرّسنا ذلك، فما كان منه إلّا أن طلب إحدى آلات التعذيب وكان اسمها” الفلقة”، ثبّتني جيّدًا على آلة التعذيب، وظلّ يجلدني حتى انتفخت رجلاي ويداي، وبعد انتهاء جلسة التعذيب لم أستطع المشي على قدميّ״ص57-58. كما يأتي الكاتب بوصف مؤثّر لفترة تعلّمه في الكُتّاب، في غرفة مظلمة وضيّقة داخل المسجد، وذلك قبل انتقاله للمدرسة:” كانت غرفة مظلمة وضيّقة لكنّها كانت مشعّة بنور القرآن، رغم رائحة البول الذي كام يسيل من سراويلنا جراء ضربات الفقيه المنهالة على رؤوسنا، كان همّ الفقيه”قفّة الخميس” أما نحن فكنّا نرى فيه جلّادنا، إنّه العصا التي تقصم ظهورنا”.ص35. وقد كانت التربيّة صارمة جدًّا فيصوّر لنا الكاتب في ألم شديد، تعامل من نصّبوا أنفسهم قضاة على كل من يرتكب حماقات أو مخالفات من سكّان الدوّار، وبضمنهم الأطفال أيضًا، الذين كانوا يرتكبون بعض الحماقات نتيجة طيشهم وتمرّدهم ونقمتهم على كبار الدوّار الذين كانوا يتلذّذون بلعب دور القاضي الشريف فيصف الكاتب قسوة وساديّة هؤلاء القضاة فيقول:” يحاكموننا بجهل منقطع النظير، يتحيّنون الفرص للإيقاع بيننا وبين آبائنا، يعجبهم أن يروا شوكتنا منكسرة، سادّيون يستمتعون بنظرات الهزيمة في أعيننا الناعسة، كانوا يتنمّرون علينا، يجلدون شخصيّاتنا التي يُفترض أنّها في طور التكوّن بألسنتهم السليطة التي تكشف عن عوراتهم الفكريّة والثقافيّة، تكاد لا تسمع منهم كلمة تحفيز واحدة، أغلبهم كانوا من الفاشلين”.ص44. كما يذكر الكاتب كيف حرم وهو وسائر الأطفال من حقوقهم ولعلّ أبسط هذه الحقوق هو حق الطفل في التدفئة والعيش في مكان آمن:” حُرمنا الكثير من حقوقنا كأطفال، كان البرد يوجعنا ليلًا حتى كانت اسناننا تصطكّ من شدّته” ص56.

              علاقات التكافل الاجتماعيّ: تميّزت العلاقات   بين سكّان الدوّار،  بالتكافل الاجتماعي، ومساعدتهم لبعضهم البعض.:”فكم مرّة كانت الوالدة الحبيبة تحتاج لمكوّن من مكوّنات الغداء أو العشاء، وكانت ترسلني إلى إحدى جاراتنا لكي تمدّني به دونما حرج، فالتضامن شريعة وقانون لا يجب أن يخرقه أحد، إنّه تضامن الفقراء فيما بينهم”ص60.

              التقسيم الطبقيّ: في أسفل السلّم الطبقيّ الفقراء والمساكين والمعدمين والنساء العاملات اللاتي يتمّ استغلالهنّ وتشغيلهنّ طيلة النهار في الحقول مقابل أجر زهيد جدّا، إضافةً إلى استغلال أرباب العمل لبعض النساء جنسيًّا.:”كثير من نساء الدوّار كنّ يشتغلن بالضيعات الفلّاحيّة “الموقف”، كنت أشفق لحالهنّ كثيرًا وهنّ يلبسن تلك الثياب الرثّة القديمة، ويتوجّهن للموقف قبل الفجر، أيّ حياة هاته؛ يشتغلن من الساعة الخامسة صباحًا إلى الساعة الخامسة مساءً”ص56-67. وقد اشتغل الكاتب في طفولته خلال العطل، ورأى بأم عينه قساوة أرباب العمل  والإقطاعيين أو كبار الفلّاحين، على العمّال، والتحرّش الجنسيّ بإحدى النساء، فكانت تخضع لصاحب العمل وترافقه الى العُشّة، تلبّي شهوته الحيوانيّة، تحت الابتزاز ومقابل الامتيازات، حتى حملت منه ولم يعترف بفعلته، وكانت النتيجة، رمي الجنين في حقل الذرة بين السيقان العالية.وقد أثّرت هذه الحادثة على حسن الذي كان عمره آنذاك أربعة عشر عامًا:” تظاهرت بالذهاب إلى هناك للخلاء، بحثت كثيرًا إلى أن رأيت السطل مقذوفًا بين الشجيرات، عمّقت البحث فإذا بي أرى الجنين المسكين مضرّجًا بدمائه ملفوفًا في وشاح تستخدمه لاقطات البطاطس، سالت دموعي كان المشهد مرعبًا”ص83. تذكّرني عذه الحادثة بقصة زينب لمحمد حسنين هيكل والحرام ليوسف إدريس. حيث كانت النتيجة رمي الجنين وتنكّر المغتصِب لضحيّته.

              الطبقة الوسطى وتتكوّن من التجار وأصحاب المحال التجاريّة ، ثم طبقة أسماك القرش، الذين وصفهم بأنّهم أبناء أبناء فرنسا، نفخوا ثرواتهم بالقوادة للمستعمر والاستيلاء على أراضي اليتامى والأرامل، لصوص أبناء لصوص، وفي أعلى السلّم هناك الحيتان الضخمة التي تجوب المحيطات وتلهط حصّة الأسد، ويرى الكاتب أنّ هذه التراتبيّة نُسجت بهذا الشكل لتدوس بلا شفقة الفقير المعدم.

لا يغفل الكاتب في مذكراته هذه، وصف علاقته الحميمة بجدّته التي لقّبها حنّة لشدّة حنانها وحبّها له ولأخوته ورعايتها لهم، خاصّة عندما كانت تأتي لزيارتهم أو يذهبون لزيارتها في القرية، فيقضي حسن في بيتها أجمل أيّام حياته.

ينهي الكاتب كتابه بفصل وجدانيّ، يحاور نفسه، ويسترجع ذكرياته، ويحاور الزمن فيقول له:” لماذا كنت تقتلنا وأنت تعلم أننا أموات؟ أليس الجوع موتًا؟ ماذا فعلت طفولة الكاريان حتى تُغتال بين حقول القمح؟ لماذا يتسوّل المتسوّلون ويتكرّش المسؤولون؟ لماذا تصمت حين يتعلّق الأمر بالبؤساء؟ ماذا فعل كلّ المحرومين والجائعين حتى يكون كلّ نصيبهم من الحياة رغيفًا أسود؟

ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أنّ السماء عادلة لكنّ الجناة هم البشر، الذين يقتلون، يغتصبون، يسرقون ويظلِمون.

يمكن القول إنّ مذكّرات الكاتب حسن المصلوحي، تصوّر فترة قاسيّة

في حياة فقراء المغرب، وخاصّةً سكّان البراريك، الذين رغم فقرهم المدقع، يتمسّكون بالحياة، ويجاهدون من أجل لقمة العيش. وقد تؤدي هذه الأوضاع الصعبة إلى تدهور بعض النساء والشباب إلى عالم البغاء والمخدّرات، هذا الأمر ظهر جليًّا في هذا الكتاب، كما ظهر في كتاب الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري. وقد يحدث أيضًا أن ينبت رجالٌ صالحون من عمق المأساة، ولعلّ كاتبنا واحدٌ منهم، إذ نجح في جعل تجربة حياته القاسيّة، درسًا له، ساهمت تجربته هذه في بناء قوّة شخصيّته، وجعله أكثر إصرارًا على تحقيق أهدافه.

ويبقى السؤال الكبير الذي جال في خاطر الكاتب ويجول في خاطر العديد من الناس: لماذا نظلم أبناء شعبنا؟ ألا يكفي ما ذاقوه من استغلال وظلم على أيدي الغزاة والمستعمرين والمحتلّين؟

كيف لا نشفق على بعضنا البعض؟ ولِماذا يرضى الحيتان منّا وأسماك القرش، قهر وظلم واستغلال الناس، فيجمعون الثروات على حساب الفقراء والمساكين؟

فأين ذهبت الضمائر؟

وكيف نسمح بأن يتعذّب أطفالنا ويُحرمون من أبسط حقوقهم؟

أليس الأطفال شباب الغد وبناة المستقبل؟

فأيّ مستقبل ينتظر شعوبًا تُغتصبُ نساؤها، يُظلمُ عمّالها، ويُقهرُ أطفالها؟

وكتبت فاطمة كيوان:

بداية :نكبر، ونتعلم أن الأزهار لا تكون أزهارا، إلا إذا كانت جذورها في الطين.”

هذا الكتاب عبارة عن سرد لمذكرات وحياة الكاتب التي عاشها في دوار بوغابات بحلوها ومرها، بلحظات الجمال ولحظات الألم والمرارة والحرمان والبؤس  والحسرات. فالمذكرات هي كشف لليوميات السرية وفتح للصندوق الأسود لكشف الذات وتفريغ المشاعر . هذا فعلا ما لمسناه من خلال الكتابة وتصوير حياة البؤس للكاتب ورفاقه وأهل دوار بوغابات، حيث جلدتهم الحياة والأقدار وسحقتهم الحاجة. ورغم ذالك نشأوا في بيوتٍ بُنيت على الرضا لا على الثراء، فصنعوا من رغيف الخبز الحاف وحبات السكر وجبات أغنتهم عن السرقة، وسدت جوعهم وجعلت من الأشياء الصغيرة قبل الكبيرة مصدر حب  سعادة وصنعت لهم حياة .

يؤكد لنا الأديب المغربيّ حسن المصلوحي في هذه المذكرات أن الإنسان دون ذكريات ” كائن مبتور الوجود، كائن بلا امتداد، بلا زمان ولا مكان ولا هوية ”  لأن الماضي هو من يصنعك. فللمكان  كما تشير الدراسات أثر كبير في تشكيل الوعي والبعد النفسي والعقائدي والديني والسياسي والتاريخي للفرد . فإعادة الزمن أمر مستحيل، ولكن عندما تستحضر المكان بكل تجلياته ومواصفاته فكأنما أعدنا تشكيل الزمان الذي هرب.

” كيمياء المكان تصنع منك شخصا آخر” ص 27

فيصف لنا حياه البراكة والشقاء الذي عانوه أيام الشتاء والبرد القارس، الذي يقض مضاجعهم، حيث تدخل المياه عبر الأسقف المهزوزة و تبلل المياه ملابسهم وأغطيتهم، وفي الصيف تتحول إلى حمامات شمسية تجلدهم بها أشعة الشمس الحارقة .

  يسرد لنا الكاتب تفاصيل المكان، المسجد العتيق البراريك ( الزنقة) وأسماء العائلات دار الشيظمي وغيرهم، وألعاب الأطفال يشرحها بإسهاب في المقبرة، ومحاولة سرقة لحظات سعادة بصيد العصافير،  تدخين السجائر والكيف والتماس الحب مع بنات الدوار، ووصف للكتاب والمدرسة والأهمّ من ذلك وصف الموقف  وما يحدث به من مشاكل وعقبات خاصة للفتيات، وما يتعرضن له من محاولات ابتزاز، وكيف أن كل صاحب قوة يتحول لأرنب أمام الأقوى منه.  فالحياة لا ترحم المقهورين. في الموقف تلمس انتحار القيم الإنسانية واندحار الرجولة واغتصاب الكرامة والقيمة الإنسانية البشرية. هو ( المطار) كما وصفه الكاتب الذي يطير بك من عالم الأمّ والطفولة لعالم القسوة والجهل والعنف.

وهذا الاختلال بالحياة وثقلها وضغوطاتها لأبناء الفقراء. هي من تجعلهم رجالا يمتلكون ذاكرة خصبة. أحيانا بها من الجمال ما لمسوه من تكافل اجتماعي وحب مثل الست فاطنة والسيدة حنه التي يصبح بحضرتها كل شئ ذا طعم ولون وأكثر جمال وأكثر نضجا.

لمست في الكتاب فلسفة حياة  صاغها الكاتب لنفسه .ففي صفحة 76

” الفقر يعري الإنسان من كل شي، من كرامتك وشرفك .”

المال علامة فارقة تجعل من سوقة الناس سادتهم، ومن الرويبضة خطيب الناس الذي يفتح له باب المجالس. المال يجعل لك يدا على الجميع.

رغم أنه فعلا في هذا الزمن بتنا نلمس شيئا من هذه الفلسفة كحقيقة على أرض الواقع، إلا أنه لا يصح إلا الصحيح ويبقى الأمل أن الدنيا ما زالت بخير.

بعض الملاحظات:

الكثير من الكلمات غير المفهومة وكأنها لغة غير عربية.

كذالك هناك تكرار للعديد من المشاهد والصور كان بإمكان الكاتب الاستغناء عنها.

ومن العراق كتب إلينا الشاعر ستار زكم:

ماذا فعل كل المحرومين والجائعين حتى يكون كل نصيبهم رغيفا أسود.” “

من هذ المقطع الصغير الذي اجتزأته من خاتمة مذكرات الشاعر والروائي المغربي حسن المصلوحي التي صدرت تحت عنوان ( الرغيف الأسود …. قصص الطفولة المنسية ) الصادرة عام 2020 عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية – المغرب . سأبدأ بكتابتي عن فصولها المتعددة حيث حملت عناوين متعددة بدءا من ( تاغنجة / أول يوم في الدراسة / العشق الأول ………. وصولا الى / لاقطات البطاطس أو الموقف / الناي الحزين أو الحريق / رقصة الموت ) وعناوين أخرى.

يصور لنا الكاتب في مذكراته اليومية مرحلة قاسية ومهمة على الصعيد الشخصي والأنساني ومعاناة الآخر .. مرحلة أختلط فيها الجوع بالفرح والقسوة بالانسانية والموت بأنبعاث الحياة من جديد والكره بالحب والكفر بالألحاد والعفاف بالسقوط والشرف بالرذيلة .. مرحلة تكاد تكون متفردة خرجت من مخلية الشاعر التواق الى حياة يسودها العدل والمساواة نحو عيش كريم ورفاهية وسعادة يتساوى فيها الجميع.

فكانت آلام العوز والجوع والفقر والفاقة صرخات مدببة فجرت الطاقات الأبداعية الكامنة في ( أنا ) الشاعر . فأستخدم ( الرغيف الأسود ) كأشارة واضحة وعلامة دالة أشتغل عليها بمثابة رمزية تشير الى سوداوية العيش وضنكه وتشير ايضا الى بياضات الطفولة التي تحطمت أمام الخبز الأسود زاد الطفولة والعائلة . كما ينزاح الكاتب ايضا نحو مساحات التسلط التي تحرم المجتمع من من العيش الرغيد ويبقي حلم الطفولة قائما يشير بأصبع البراءة نحو واقع مرير يلسع الجسد كل يوم … تلك المرحلة التي غلفها الكاتب بأسئلة الطفولة … الأسئلة الوجودية البريئة.

( قال لي والدي الحاج أحمد بأن الله عليم بما في الصدور

إذن لماذا بلّل محفظتي وهو يعلم اني أحبها ولا أملك غيرها ؟

يقول أخي محمد أن السبب هو الخرم الموجود في سقف البراكة وان الله أعطاني عقلا كي اتجنب وضع أشيائي في الأماكن التي تتسلّل منها قطرات المطر .. افكر آه لو أعطى الله لوالدي المال لأشترى لنا بيتا بدون قصدير ) . ص22

هذا مقطع صغير مما خطه الكاتب في مدونته الأولى ( تاغنجة ) حيث يتسع الكاتب في مدونته هذه نحو ترابط الأشياء بطريقة جدلية توحي لنا ان المصلوحي يعمد الى ربط موجوداته بطريقة درامية فائقة فيقدم لك خلطة سحرية متداخلة يمرر من خلالها مايريد ان يبثه من صور مؤثرة في الحياة اليومية التي عاشها . فالتلوّن الدرامي الجميل الذي يقدمه الكاتب يعطي صورة مشوقة للقارىء فهو ينطلق احيانا من شخوص جميلة ليوصلك فيما بعد الى حدث ينتظرك / الحدث المأساوي الدامع .

( مازلت اذكر ايضا كم شهد دوارنا من انزلاقات بهلوانية لرجاله ونسائه شيبة وشباب . الزنقة – الزقاق – التي تأخذك من باب منزلنا مرورا بالمسجد العتيق وصولا الى الفرن الذي كانت ترابط على بابه ( مي غضيفة ) رحمها الله طريق زلق جدا حاز نصيب الأسد من تلك الأحداث الموسمية ويا للمشهد حين ينزلق احد الوافدين على الفرن حاملا وصلة الخبز . ترى عجين الحنطة وقد اختلط بلون الوحل . مشهد مأساوي لكن لاتستطيع منع نفسك من الضحك . الزحلقة حركة بهلوانية ( الصندالة ) المتطايرة والعجين الذي يحلّق في السماء قبل ان يقبل الأرض وصاحبه الذي تراه سابحا في الوحل . يختلط الحابل بالنابل في مشهد دراماتيكي هزلي تضحك فيه الحركة البهلوانية وتبكيك مأساة الفقراء . تضحك اللقطة العفوية ويبكيك ان رغيف اليوم اصبح في عداد المفقودين”ص23.   

الكاتب هنا لم يكن ساردا لأحداث عفوية معينة بحد ذاتها بقدر ماموجود من ربط موضوعي كما اشرت سلفا فأنت ترى مشاهد متعددة ( انزلاقات بهلوانية / نساء و شباب / ازقة / باب المنزل / المسجد / الفرن / واخيرا الخبز المتطاير في اشارة واضحة لفقدان الرغيف ولا امام الانسان في هذه الاحداث الا السماء التي تستجيب لضعف الفقراء والجوعى.

لم يغفل حسن المصلوحي في مذكراته الطقوس الدينية والتقاليد الأجتماعية واستعادة الفلكلور المغربي وهو يروي ممارسات طقسية والعاب طفولية بدأ من الليالي الرمضانية داخل المسجد ومايتداخل معها وصولا الى طقوس المقابر . حيث يصحو الطفل منذ صياح الديك هو وزملائه بصب الماء على قبور الموتى لقاء بضع دريهمات تسد بعض حاجاته داخل تلك الفترة الغارقة في مأساة طفل يريد ان يعيش ويبتهج رغما عن أنف الجوع والحرمان والقهر.

فاحيانا يحمل المصلوحي فخاخه ويتجول بين الموت في عمق المقبرة املا في اصطياد طائر ظال لينتشي بشوائه عوضا عن مأساة يوم مضى به مقهورا . وعند افلات الطائر من شباك فخاخه يذهب بعيدا في جحور الأرض كي يمارس هواية صيد الثعابين والعقارب / العقارب التي قارن لسعتها بلسعة الحياة القاسية المؤلمة 

ص 26 ص 55 ص 75 ص 76

ثنائية الخوف والفرح متواجدة وملتبسة في مرحلة الطفولة لدى المصلوحي فهو ينام بعد أن يحتضن فكرة الجوع ويستيقظ صباحا أثر تساقط حبات المطر التي تخترق سقف الدار الممتليء بالثقوب ليفطر بعدها بخبز يابس وقليل من الزيت بعد ان ينتشي فرحا بمشاركة زميله الجائع في هذا الفطور المتواضع ليسير بعدها في رحلة مطر عنيف دون مظلة وسط أوحال الطريق ليصل متأخرا الى مدرسته . وبعد كل هذه العذابات التي تختزن داخل قلب المصلوحي المتعب يكون بأنتظاره ألما آخر وهو معلم سادي يضرب اقدام الطفولة بسياط التوحش.

( البرد والعصا وجبة دسمة لصباح ابناء الفقراء ) أنها ( الفلقة ) كما يدونها الكاتب التي اخذت عنوانا رئيسيا في  احدى مذكراته . ص 83 ص 93

من اروع ما تفرد به حسن المصلوحي في مذكراته ( الرغيف الأسود ) هو عنوان ( لاقطات البطاطس أو الموقف ) الذي اخذ حيزا واسعا في سرد تفاصيل حياتية مؤلمة ومؤثرة جدا فالمصلوحي اصبح وسيلة البلبل لأيصال الغناء المدهش حد البكاء فهو يدون رحلة الشقاء والحزن والترحال … انها رحلة تنقيب بين ادغال غابته الحزينة بين اشواكها وتينها وعنبها جامعا تشضيات الحياة بكل عوالقها في وعاء يتظافر بين المفردة الفصيحة والعامية فدوّن المصلوحي العمل الشاق والمر الذي يتحول احيانا الى استجداء امام كروش الأقطاعيين الذين ينهبون جهود الآخر واحيانا تصل بهم الى الأعتداءات الغير اخلاقية حين تتعرض أمراة الى الأغتصاب او أمراة اخرى ينفلت جنينها من احشائها وهي تعمل بجني المحاصيل الزراعية وشاب آخر يتعرض الى ضربة خنجر من صاحب العمل او شباب آخرين يحملون على اكتافهم صناديق البطاطس . إنها رحلة الموت الأستثنائي الموت الغريب الذي يتراكض نحوه الجوعى والمحرومين بأرادتهم أملا في الحصول على لقمة العيش … اللقمة المدافة بالقهر إنها لقمة الفقراء يدونها حسن المصلوحي الذي عمل داخل هذا الفضاء الأليم.

أن أهم مايوجد في مذكرات حسن المصلوحي أنها جاءت من شاعر وروائي أستطاع ان يحول الحدث اليومي الى صورة مدهشة من خلال تعبيراته وتوصيفاته المختلفة والمغايرة وكذلك الجرأة في الطرح نحو أظهار المسكوت عنه وأزاحة الخطوط الحمراء لمراحل شاهدها المصلوحي عن كثب وكذلك انعكاسات سياسية وأجتماعية على الحياة اليومية التي عاشها . فبدأ يقلب الأوراق الصفراء المتيبسة في أدراج كانت منزوية عن الأعين وأشهارها على العلن بعد أن قام بحرث المتكلس الذي تراكمت عليه السنين وتقلباتها . فأعاد تثوير المهمل والمنسي في حياة الطفولة  للوقوف بالضد امام السلبي ومحاكمته عبر مخيلة حولها الى لغة ابداعية . عبر مرحلة الطفولة حين كانت تميّز بين القبح والجمال والظلم والعدالة الانسانية.

( في حاوية الشاحنة تسمع أردأ أشكال الحديث . ايحاءات جنسية تطارد فتيات ( الموقف ) الأوباش يفضلون ( الملاّليات ) يلتصقون بهن كما يلتصق القراد بآذان الكلاب . الملّاليات الكادحات من أجل الخبز . أعز مايطلب في سوق ( الموقف الموحش ) ص 107 

الشاعر حسن المصلوحي يذهب بعيدا في الألم حتى في لحظات ابتهاجه وهو يلعب كرة القدم او اي لعبة اخرى فهو يربطها بطريقة مأساوية فالذكريات الصعبة خالدة في ذهنيته وحياته التي اكتوى بنارها منذ نعومة اظفاره . فلا مناص من الوحشة والقلق والجوع حتى في اجمل سعاداته اليومية . أذ يقدمها على طبق الأمنيات والحلم الذي يراوده دائما بغية الخلاص من سوداوية العيش.

( الحياة فرن كبير يمكن ان تشويك نيرانه ويمكن ان تطهو خبزك اليتيم ولأن الكرة مهارات ولعب بالريشة والألوان عليك ان تكون فنانا يتقن تجويد القدر لكي لايظل الرغيف أسودا ) ص 139

في واحدة من عناوين المذكرات ( الناي الحزين او الحريق ) . الناي الحزين صورة مغايرة للموت . أنه الأغنية الحزينة حين تتجمد في عيون الصبية بعد المرور بموجات ثلجية كثيفة تغطي البيوت الخاوية لتصبح تلك البيوت أشبه ببرادات الطب العدلي فالأطفال ربما يحلمون بنار تدفيء أجسادهم المتصلبة أو تنير لهم المكان المظلم . لكن … شمعة واحدة .. واحدة فقط تحرق كل شيء وتحول ( الدوّار ) الى أكوام من الخردة وطفل صغير تلتهمه النيران . لم يستطع احدا الوصول اليه ليتحول فيما بعد الى جثة متفحمة وسط مشهد يسوده الصمت والذهول مما جرى .

كل هذه الصور السوداوية وغيرها من المآسي يضعها المصلوحي أمامنا على الورق ويحولها الى مشاهد فلمية وكأنك تشاهد عرضا سينمائيا مرعبا . فالفقراء في مدونات حسن المصلوحي يحترقون وأصابع الناي تدوّن أغنية حزينة.

( انها مأساة الفقراء يعيشون على هواجس التجمد أو الأحتراق . فالبراريك مصنوعة من الخشب وشخص معتوه واحد ينام عن شمعته كفيل بأن يحوّل الدوار كاملا الى قطعة جمر ) ص 162

مقاربات طوباوية يدوّنها الكاتب بين بؤس العيش الذي يفطر قلبه يوميا نتيجة التسلطات العديدة في فضاءه الحياتي وبين العيش الرغيد الغير متكافيء تجاه الآخر الذي يقطن خلف البحار في أشارة واضحة يحلم بها كل مواطن مغربي ان يعيش حياة الرفاهية كأي أبن أو حفيد لقائد كبير فرنسي مثلا في محاولة لتخطي الواقع المؤلم الذي يسوّره دائما والولوج نحو عالم اكثر رخاء وسعادة . كيف لايحلم المصلوحي ( الطفل ) بهذه الأمنيات البعيدة وهو يقبع داخل جدران متهاوية وسقوف قصديرية.

( ننام مصطفين كعلب السردين في الوقت الذي ينعم فيه احفاد فرنسا بالنوم الهنيء على الأرائك الحريرية في المساكن الفخمة . أنام رفقة أخوتي نلتحف لحافا واحدا . بينما ينعم حفدة ( دوغول ) بغرف نوم مكيفة”.

أنها لعنة الفقر تتناسل يوميا في المخيلة … مخيلة الطفولة الأولى التي تنقش الأحداث بالحجر ولاتمحى ابدا مهما تبدل الواقع ( الفقراء الذين يخيطون أحذيتهم بالأسلاك وسراويلهم بالقنب )

السياق الحكائي مهيمن على ذاكرة الشاعر في جميع مذكراته والقدرة على تحويل هذا السياق بكل تمظهراته اللغوية والمجازية وحتى الشعرية في تجسيد واظهار الخلل الأجتماعي والنفسي في آن واحد بعد ان أماط اللثام عن كون مزيف ومختل يمجد سلطة المال وعن أناس جعلوا من هذا المال وسيلة دنيئة لإشباع غرائزهم وشهواتهم نحو أخضاع الآخر لتحقيق مطالبهم الوحشية.

أستشف من كل ماتقدم ان المصلوحي عمد الى تدوين هذه المذكرات وفق تسلسل الحدث السردي المتصاعد مبتعدا عن التسلسل الزمني للأحداث عكس مانراه في بعض المذكرات للعديد من المبدعين وهذه اشارة تحسب للكاتب لأثارة التشويق عند القاريء.

وقبل الخاتمة .. هناك سؤال يطرح نفسه بقوة ما الذي جعل الشاعر والروائي حسن المصلوحي ان يدوّن مذكراته وهو في مقتبل العمر . ربما هو سؤال يتبادر الى ذهن الجميع.

أعتقد بل أجزم ان ماتعرض له الشاعر منذ صغره من عذابات وانتكاسات وحرمان داخل فضاء منعزل وقرية صغيرة مترامية الأطراف وبعيدة عن التطورات العمرانية وتفتقر لأدنى سبل العيش الطبيعي بالأضافة الى التوحش الأنساني الذي تغلغل في مسارب قريته انعكس بشكل كبير على طبيعة الطفل ومن ثم ترك اثرا جسيما في مخيلة الشاعر فيما بعد . فقد تجذرت المعاناة ولم يستطع احدا ان يمحو هذه الذاكرة من حياة الكاتب . فالندوب العميقة مازالت تروي آثاراها بحزن بالغ والخبز الأسود الشحيح مازال المصلوحي يتحسس مرارته كل يوم طالما كان هناك توالد واستنساخ للجشع والجريمة وسرقة لقمة العيش من افواه الفقراء.

اقول أن المدن والدول لاتتغير إلا بتغيّر النفوس وتنقيتها من شوائب الشر وتغيير نمطية السلوك المنحرف لإبعاد شواذ العصر بغية العيش برفاهية وسعادة دائمة.

– تاغنجة / طقس احتفالي خاص بالمطر

– الدوّار / مجمع سكاني عشوائي للنازحين من البوادي

– البرّاكة / المسكن الواحد المصنوع من الخشب والقصدير

– الموقف / المكان الذي يقف فيه العمال

– الملّاليات / الفتيات القادمات من مدينة بني ملال.

وقالت نزهة الرملاوي:

نعرف أن الكاتب ابن بيئته ابن الألم وابن الفرح، يؤرخ الفقر والعوز، ويدون أحلام المشتهين لذلك الرغيف، حتى وإن كان رغيفا أسودا بلا طعم.

 الكتابة ليست الصنعة السهلة بل هي الإلهام الصعب، لذا نجد أن النفسية المتألمة للكاتب والآلام التي عاشها، وقصص طفولته التي لا يريد أن تكون منسية، لذا أراد أن يدوّن هذه المرحلة دون خوف أو تبجح، إضافة إلى الموهبة التي امتلكها أن يكتب عن القسوة وينشر رائحة الخبز الأسود الذي يتناوله في زوايا أفكارنا وتخيلاتنا.

تكمن أهمية الكتاب وهذه السيرة الطفولية في تفصيل أحداث ومشكلات وصعوبات وقعت مع الكاتب، وقد رسم الكاتب يومياته بدقة وجمال رغم مرارتها،

إضافة إلى أنسنة المكان وتحريك الشارع والمدرسة والحيّ والأزقة والشخوص كما يكون الواقع وخيال الكاتب المشتهى.

 استخدم الكاتب التشبيهات والاستعارات لإثراء روي سيرته الذاتية.. والصور المستخدمة ما هي إلا صور صادقة وحقيقية كانت ولا زالت تعاني منها مجتمعاتنا العربية.. وإن كانت صورة قاتمة وسوداء، إلا أن بياضها كان في أسلوب الكاتب الراقي حسن المصلوحي.

 الكتاب هو جمع لسيرة ذاتية مجتمعية، فقد وصف الكاتب طفولته الأليمة بعفوية وصدق، وصف قهر المرأة وقهر الطالب وقهر العامل وعبوديته وعذابات كثيرة تمر بها فئة الكادحين، وما ميز الكتاب استخدام الكاتب لغة جميلة تمتعت بالعواطف المثيرة الجياشة من الحزن والألم لمجتمع عربي في هذه الأيام، نشاهد صوره الأليمه على شاشات التلفاز، لاجئون يتيهون في بلاد الله ويموتون جثثا طافية على وجه البحر، يموتون تثلجا تحت الخيام.

وصف الكاتب المجتمع العربي المغربي الذي وقع آنفا تحت الاحتلال الفرنسي، ولم ينج من براثنه.. فأدخلنا في فضاء المغرب المتباين، فهناك الظالم والحاكم والعامل والطالب، دخلنا ذلك الفضاء بشغف وتواصل رغم القهر والبؤس الذي سكننا من صور التعذيب، فكانت المدن والأماكن المغربية التي سكنتنا بتصوير الكاتب  للكادحين المتكاتفين المتعاونين في حرّ الصيف واحتراقه وبرد الشتاء وقسوته.

البؤساء وحدهم يا سيدي متشابهون في قهرهم وآلامهم ومؤمنون بعدالة السماء رغم ظلم البشر.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات