د.بطرس دلّة: رواية “العسف” لجميل السلحوت وتحدّى الواقع المرّ

د
في دراسة سابقة لأدب الشيخ جميل السلحوت  كنت قد  تحدثت عن روايته “هوان النعيم” . واليوم وصلتني روايته الجديدة  بعنوان ” العسف ” وهي الجزء الخامس من سلسلة روايات
يكتبها تباعا، زجميعها من منشورا تدار الجندي في القدس .
مهم أن نذكر أن الرواية الفلسطينية جاءت منذ  نشأتها لتعالج الهزائم العربية التي مني بها العالم العربي منذ فشل ثورة 1936، ونكبة 1948 وحرب السويس 1956، ونكسة حزيران عام 1967، وبقية مسلسل الهزائم العربية  … إلا  أنّ الروايات الأولى لم تنجح في  مقاومة الهزيمة في حينه  كما نجح الشعر في ذلك المجال. غير أنّ الروائيين العرب  حصل  لديهم انعطاف كبير في لون الرواية وفي طابعها  على وجه التحديد، حين تفجر الفلسطينيون بشكل خاص في انقلاب اجتماعي ترك آثارا واضحة المعالم على الحياة الأدبية في فلسطين، حيث  صبغ  مضمون الرواية في هذه المرحلة المعاصرة وطغى على المفهوم الرومانسي القديم، وتحوّل الى الطابع القوميّ الثوريّ المتمرد، والمثقف بفتح القاف وبكسرها، فبات الأديب الروائيّ قائدا ومعلما يرمي من وراء رواياته الى تعليم الشباب الثائر شيئا كثيرا من تجاربه الشخصية، وذلك كي يخلق البطل الذي نريده محرّرا لهذا الوطن المنكوب! هكذا تحوّل مضمون الرّواية الى معالجة الواقع الاجتماعيّ بعمق دون أن يكون ذلك بمعزل عن  المنازع القومية في قضيتنا الفلسطينية. وهكذا أصبح الأسير والمثقف المتحضّر والبدويّ والبطل الشهيد، أصبح كلّ منهم  البطل الذي يشغل الحيّز الأكبر في الرواية.
هذا ما لمسناه بشكل خاص لدى كتابنا الفلسطينيين اليساريين والمؤمنين بالاشتراكية -الديمقراطية أمثال اميل حبيبي، محمود شقير، جميل السلحوت، ابراهيم جوهر، توفيق فياض، ميسون الأسدي، حنا مينا، محمد الماغوط، سحر خليفة، جبرا ابراهيم جبرا، يحيى يخلف وغيرهم كثيرون. ومن ذلك كان على الروائي المميز ألا يسرف في اطلاق المواقف والتصورات بدلا من ادخال الحوار الذكيّ والعفويّ الذي ينعش القلوب دون إطالة أو فضفضة سطحية لا قيمة فنية لها . ثم إنّ كثافة المواضيع والتركيز على المهمّ والأهمّ يزيد الرّواية عمقا وحلاوة !
والحقيقة التي يجب ألا تغيب عن بالنا هي أن عالم الرواية بدأ يحتل مكانة مرموقة في ادبنا الفلسطينيّ، ويظل السؤال الذي يطرح نفسه يراوح  في  أفكارنا وهو: هل التطور الكميّ  للروايات والذي يثيرعجبنا سيتبعه تطور كيفيّ كذلك أم بالعكس؟ نحن لا نريد أدبا ضحلا سخيفا، بل نريد رواية قويّة متكاملة تفي بكل متطلبات الكتابة الروائيّة من حيث اللغة الفنية والفكر الهادف الحضاريّ والراقي .
فماذا كان دور شيخنا جميل في هذه الرواية؟
انه يأخذنا معه من خلال السرد الى عالم فسيح يعرفنا على جوانبه في رحلة حزينة، ولكنّها مفعمة بالتفاؤل. فهو يعيش أحداث الرّحلة التي يأخذنا فيها، ويعطف على أبطاله الذين يحبّهم،ويقسو في آن واحد على أبطاله الذين لا يحبّهم  بلغة فيها الكثير من الايرونيا. هكذا يدخلنا مع أبطاله الى غرف التفتيش والتحقيق، حيث يتفنن السّجانون في تعذيبهم كي يكسب  عطفنا عليهم بلغة رشيقة، وببراعة خاصة في رسم المشاهد والأجواء والصور التي تمكن القارىء من الانتقال  من مشهد الى آخر، دون  أي ملل أو كلل. هذا التّنقل يجعل القارىء يضيع لأول وهلة من متابعته لمسيرة كل بطل على حدة، إلا أنّه كالفنان الماهر في  حياكة  السّجاد يعود ليجمع خيوط سجادته في كل مرّة من جديد؛ ليكمل المشهد إيّاه لنفس البطل. هكذا يبدو بطله ذا شخصية مدورة يزيدها السرد توضيحا وتعريفا .
في رواياته  المذكورة يبدو  الشيخ جميل مبدعا خلاقا ومفكرا صادقا؛ لأنه عندما يحزن لحادث ما تذوب ذاته لتصبح محلولا بلا طعم، ويصبح حزنه دمعة في بحر وهمه، وهمّا من همّ الجماعة؛ فتفوح من كلماته رائحة الانسانية التي يعيشها ويحلم بها دائما وأبدا .
ما لاحظناه لدى أديبنا الشيخ جميل هو أنّه من خلال السرد لا يشعرنا أنّه يريد أن يروي لنا قصة أو رواية، ولكنه يدخلنا بصورة مباشرة في حديث عاديّ عما يجري في الحياة اليومية حوله، وينتقل بنا من خبر الى آخر ليرسم أمامنا عالما متكاملا من الناس ومن الأحداث التي يعيشها هؤلاء الناس، فيأتي السرد عفويا مشوّقا بدون ترميز، فيكون أبطاله عاديين من لحم ودم! وما يزيد من تشوق القارىء لرواياته هو ذلك المزج بين الحكاية السرديّة العاديّة والطرفة التي تنتهي بها الحكاية. هكذا نجده  يدخل  على السجناء في زنازينهم، يحادثهم، أو يجعلهم  يتحادثون فيما بينهم، كلّ يروي حكاية خاصة حصلت معه، كحكاية السجين جريس عن الأمنيات الثلاث اللواتي تمناهنّ رجل فقير مع زوجته وابنه… استجاب الله لدعائه. جاءت الزوجة وطلبت منه أن يمنحها إحدى الأمنيات، وأن يمنح ابنهما أمنية ثانية . وافق الأب فمنحهما أمنيتين . لكن لما غضبت الأم  على  ابنها دعت الله أن يمسخه  قردا! لإجابها الابن وأن يمسخك أنت أيضا، واستجاب الله للأمنيتين ومسخهما قردين. أمّا الفلاح فتمنى أن تعود العائلة كما كانت فعادت العائلة طبيعية، وهكذا خسرت العائلة الامنيات الثلاث .
المهمّ في هذه القصّة هو العبرة التي قصدها  جريس آنف الذكر، حيث  قال  أبو فهمي وهو  أحد  قادة  السجناء والسجين  معهم مستنتجا : ” اذن ارضوا بواقعكم واتركوا الأحلام والأماني بعيدة المنال موجها كلمته هذه الى زملائه السجناء” .
كذلك قصة السلطان الجائر الظالم التي  تعلم السجناء  عبرة في الحياة كما استنتجها أبو فهمي قائلا : ” لا خلاص لأيّ شعب الا بالخلاص من السلطان الظالم. ونحن – السجناء – لا خلاص لنا الا بالخلاص من الاحتلال” “ص107-108”
غلاف الرواية:
منذ النظرة الاولى الى الغلاف الخارجيّ يستنتج القارىء أن ما سيقرأه في هذه الرواية هو  أدب من نوع خاص هو أدب  السجون . فصورة اليدين الاثنتين المكبلتين بالسلاسل، وأثر  السلاسل التي أدمت  اليدين هي لوحة قوية ومعبرة بشكل ممتاز عن الظلم- العسف- الذي يواجهه  السجناء في زنازين  الاحتلال .
ثم إنّ اللوحة الثانية التي تلي الغلاف الخارجي تشير الى اليد القوية مفتولة العضلات، والتي  ترفع  ميزان العدالة المائل  لصالح  المظلومين والمضطهدين؛ كي  يستقيم ذلك الميزان لينصف أصحاب الحق السليب، ويعيد لهم حقوقهم، أي أن اتحاد السجناء هو تلك الذراع القوية  والتي سوف يحققون بها مطالبهم بقوة اصرارهم على تحقيق تلك المطالب.
العمالة للمحتل :
في هذه السلسلة الروائية كما ذكرنا  كنا قد تعرفنا على أحد عملاء  السلطة المحتلة،  ألا وهو  أبو سالم الذي أوقعه الكابتن  نمرود في فخّ العمالة، فباتت الوشاية على الفلسطينيين الوطنيين إيمانا حقيقيا لديه، وبات يصدق  نفسه أنه انما يخدم  أمن الدولة التي يعيش فيها . هكذا  تبدأ هذه الرواية – العسف- حيث  نجد أبا سالم يجمع المعلومات عن الوطنيين والحركة الوطنية المقاومة للاحتلال، ويوصلها الى سيّده الكابتن نمرود، فيوقع بالبطلين خليل الأكتع والاستاذ داود، عندما يراهما من شرفة  بيته يوزعان منشورا للجبهة الوطنيّة في الليل. هكذا يستيقظ الحيّ الذي يسكنه أبو سالم على سيارات الجيش تملأ الشوارع في صبيحة اليوم التالي، بحثا عن خليل الأكتع والاستاذ داود، وتبدأ رحلة العذاب من هنا وحتى نهاية الرواية في زنازين الاحتلال . معاناة السجناء :
يتفنّن الكاتب في وصف معاناة السجناء في زنازين الاحتلال بشكل يجعل القارىء يقتنع أن هذا الروائي كان قد عاش وعانى الكثير من التعذيب في سجون الاحتلال، وأن ما يكتبه ليس من صنع الخيال، بل من الواقع المرّ الذي يعيشه أبناء شعبنا في الاراضي المحتلة، وهنا في الضفة الغربية لنهر الاردن. وقد ذكرنا أن الكاتب كان قد أودع في السجن عندما كان ابن عشرين عاما، ولمدة تزيد عن العام حيث ذاق على جلده شيئا مما يعانيه السجناء الفلسطينيون .
هكذا تمتلىء صفحات هذه الرواية بتفاصيل  كثيرة عن طرق وأساليب التحقيق، ومدى تعذيب السجناء بصورة لا انسانية، وبصورة يصعب على الانسان مهما كان قويا أن يصمد ازاء تعذيبه حتى النهاية. هنا تكمن قوّة السرد حيث تصل الحال مع البطل خليل درجة من اليأس والاحباط لا يستطيع تحملها، إلا أنّ ما لديه من الاخلاص للقضية والاصرار على حقه في الحياة  الحرة الكريمة، يجعله يقف صامدا أمام صنوف التعذيب، فلا يضعف ولا يتراجع ولا يفشي بأية كلمة عما يقوم به هو وزملاؤه من شباب المقاومة الابطال .
ومن خلال السرد حول المعاناة تظهر المحامية الشيوعية والتقدمية والانسانة  فيليتسيا لانغر لتدافع عن حق السجناء؛ وتخفف من آلامهم . ومع أنّها تعمل بشكل انساني الا أنّ السجانين يكرهونها تشفيا بالسجناء؛ ولأنها تنتمي الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي! حتى أنهم يدّعون أنها لا تساعد السجناء، بل إنّ تدخّلها يزيد من معاناتهم على حد تعبير السّجانين والمحققين .
وزيادة بالتنكيل يلجأ المحققون الى المتعاونين من الشباب العرب العملاء، يدخلونهم غرف التحقيق لاقناع السجناء بافشاء أسرار شباب المقاومة. كما يسمعون السجناء في  ساعات راحتهم  بأصوات صراخ  سجناء  آخرين  وهم  يعانون  في التحقيق؛ كي  يوهموهم بأن التحقيق يؤدي الى معاناة لا تحتمل. هكذا يلجأ المؤلف الى مختلف الوسائل التي يستغلها المحققون للوصول الى غاياتهم من التحقيق والتعذيب وزيادة المعاناة .
الصراع مع المصلين :
ذات يوم وبعد وجبة الغذاء جاء  سجين ملتح، وطلب من جميع السجناء الخروج من غرفة الطعام؛ لأنه يريد تأدية  فروض  الصلاة مع  زملاء  له من المصلين السجناء. خرج الجميع من غرفة الطعام، وبدأوا يتمشون بين غرفة الطعام وغرف المبيت. لم يعجب  الأمر الملتحي وزملاءه، لذلك خرجوا الى من كانوا يتمشون في الخارج، وطلبوا منهم الابتعاد عن غرفة الطعام لأن وجودهم هناك يزعج سير الصلاة.
احتج أحد السّجناء واسمه مصطفى ورد عليهم قائلا : طلبتم منا الخروج وخرجنا فماذا تريدون  بعد؟ رد الملتحي : أتريدون منعنا من الصلاة؟ وعلت أصوات الفريقين وتماسكوا بالأيدي وعمّت الفوضى . اتصل الحارس بقوّة من الجنود لتهدئة الاوضاع، إلا أنّ أبا فهمي وهو  شخصية بارزة بين السجناء وكلمته مسموعة،  تدخّل  لدى الحارس وأخذ على عاتقه مسئولية تهدئة الأوضاع .
كان الموقف حساسا للغاية : فالمصلون يدّعون أن مصطفى وغيره يريدون منعهم من أداء صلاة الظهر! وهذه فتنة خطيرة وادعاء ليس من السهل رفضه! إلا إنّ أبا فهمي أخذ على عاتقه فض الاشكال . وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى كان قد سيطر على الوضع لما لديه من حجة اقناع، وأدى المصلون صلاتهم دون تدخل من حراس السجن !
لكل مجموعة سجناء قائد يدبر أمورهم :
من خلال تجربته اكتشف  الكاتب أن كل مجموعة سجناء يجب أن يكون لها قائد  كلمته مسموعة، ومحترمة لدى الجميع. هكنا وجدنا أبا فهمي يلعب دور القائد والمفكر. فالصراع مع المصلين المؤمنين خطير، والادعاء بأن أحدهم يريد منعهم من تأدية صلاة الظهر أكثر خطرا، لذلك يجب أن يظهر القائد الرّاعي والمفكرّ؛ لأن حياة السجن صادمة، وليست كما يتصورها من لم يجربها. هكذا ينتحي البطل خليل الأكتع جانبا مع رواية الكاتبة الانجليزية أغاتا كريستي ” الجريمة النائمة ” ويضيف  المؤلف في صفحة 74 :”السجن مدرسة لقهر الانسانية وليس مدرسة للتعلم .
العنصر النسائي لزيادة التعذيب :
في مرحلة متقدمة من التحقيق يتم اعتقال والدة خليل وأخته زينب، حيث يجعل المحققون خليلا الاكتع يشاهد والدته في غرفة الاعتقال، وأخته زينب عارية كما خلقها الله، بدون أيّة ملابس  تستر عورتها! إلا أنّ خليلا البطل كان قد خبر أساليب التعذيب، وعرف أنّهم باعتقالهم لأمّه وأخته إنّما يحاولون كسر صموده؛ ليفشي أسرار حركة المقاومة، لذلك ظلّ صامدا وأفرج عن الاثنتين. أمّا عدم النظافة وتفشي الحشرات كالقمل والبق والصراصير وغيرها في غرف  نوم السجناء، فهي وسائل تعذيب أخرى لا تؤلم بمقدار ما تقزز النفوس،  وتحطم المعنويات لدى  جميع السجناء. وزيادة في  وصف بطولة خليل الاكتع يجعل  المؤلف هذا البطل انسانا  متحضرا وراقيا، كثير المطالعة وله الكثير من الذكريات عن أيّام زمان، عندما كان منفتحا على الحياة يعبّ منها من خلال ذاكرته القوية، ويستعيد  ثقته  بنفسه؛ فلا يستسلم بل  يزيده ذلك اصرارا على الاضراب عن الطعام، وتكون النهاية انتصار السجناء الأبطال على ارادة سجانيهم .
المعلم الأكبر :
ما وجدناه في نهاية هذه الرواية هو أن كاتبنا قد تحوّل الى معلم كبير، يرسم معالم الطريق التي على كل سجين أن يسير فيها؛ من أجل تحقيق الاهداف التي كان يحلم بها. كذلك كان يجعل السجناء ونموذجهم خليل الاكتع، ينشغل كل منهم عن هموم السجن بالقراءة وتعلم اللغات أو محو الأميّة لدى الأمّيين، وغير  ذلك من الأمور التي يستطيع السجناء استغلالها لتطوير  ثقافتهم . ولكن فوق كل عمل يتعلم السجناء كيف  يناضلون حتى بالصّيام  وبمعدهم الفارغة من أجل  تخفيف معاناتهم وعذاباتهم داخل السجن. فوحدة الصّف والاصرار على تحقيق الاهداف هي الوسيلة الأنجع التي تؤدي  الى الانتصار .
هكذا يلخص أبو فهمي وهو الاستاذ والقائد، يلخص نضال السجناء بقوله:ص – 111
“كل يوم في هذا السجن هو نقصان من عمر نزلائه، وبالتالي علينا أن نشغل أنفسنا بأمور مفيدة. لذا أقترح أن نخصص ساعات لمحو الأمّية لمن لم تتح لهم فرصة التعلم، وساعات لتعلّم اللغة العبرية وساعات للغة الانجليزية “.
اذن فالمؤلف  يعرف الآية في الحديث النبوي  الشريف والتي تقول : ” من تعلم لغة قوم أمن مكرهم” ! كما يعي أن المصيبة التي تصيبنا ولا تميتنا  تجعلنا أقوى وأجمل وأكثر تجربة في الحياة” !
هكذا اذن ينهي روايته هذه – رواية العسف – بدروس لجميع الشباب المعرضين للتوقيف وللسجن، معلما إيّاهم أهمية الصمود، وتحمل المعاناة لأنهم بالتالي سوف ينتصرون على سيوف جلاديهم مهما كانوا قساة القلوب! انها رواية التحدي للواقع المرّ من أجل حياة أكثر رخاء .
د. بطرس دلة
كفرياسيف

د.بطرس دلّة: رواية “العسف وتحدّى الواقع المرّ
في دراسة سابقة لأدب الشيخ جميل السلحوت  كنت قد  تحدثت عن روايته “هوان النعيم” . واليوم وصلتني روايته الجديدة  بعنوان ” العسف ” وهي الجزء الخامس من سلسلة روايات يكتبها تباعا، زجميعها من منشورا تدار الجندي في القدس .  مهم أن نذكر أن الرواية الفلسطينية جاءت منذ  نشأتها لتعالج الهزائم العربية التي مني بها العالم العربي منذ فشل ثورة 1936، ونكبة 1948 وحرب السويس 1956، ونكسة حزيران عام 1967، وبقية مسلسل الهزائم العربية  … إلا  أنّ الروايات الأولى لم تنجح في  مقاومة الهزيمة في حينه  كما نجح الشعر في ذلك المجال. غير أنّ الروائيين العرب  حصل  لديهم انعطاف كبير في لون الرواية وفي طابعها  على وجه التحديد، حين تفجر الفلسطينيون بشكل خاص في انقلاب اجتماعي ترك آثارا واضحة المعالم على الحياة الأدبية في فلسطين، حيث  صبغ  مضمون الرواية في هذه المرحلة المعاصرة وطغى على المفهوم الرومانسي القديم، وتحوّل الى الطابع القوميّ الثوريّ المتمرد، والمثقف بفتح القاف وبكسرها، فبات الأديب الروائيّ قائدا ومعلما يرمي من وراء رواياته الى تعليم الشباب الثائر شيئا كثيرا من تجاربه الشخصية، وذلك كي يخلق البطل الذي نريده محرّرا لهذا الوطن المنكوب! هكذا تحوّل مضمون الرّواية الى معالجة الواقع الاجتماعيّ بعمق دون أن يكون ذلك بمعزل عن  المنازع القومية في قضيتنا الفلسطينية. وهكذا أصبح الأسير والمثقف المتحضّر والبدويّ والبطل الشهيد، أصبح كلّ منهم  البطل الذي يشغل الحيّز الأكبر في الرواية. هذا ما لمسناه بشكل خاص لدى كتابنا الفلسطينيين اليساريين والمؤمنين بالاشتراكية -الديمقراطية أمثال اميل حبيبي، محمود شقير، جميل السلحوت، ابراهيم جوهر، توفيق فياض، ميسون الأسدي، حنا مينا، محمد الماغوط، سحر خليفة، جبرا ابراهيم جبرا، يحيى يخلف وغيرهم كثيرون. ومن ذلك كان على الروائي المميز ألا يسرف في اطلاق المواقف والتصورات بدلا من ادخال الحوار الذكيّ والعفويّ الذي ينعش القلوب دون إطالة أو فضفضة سطحية لا قيمة فنية لها . ثم إنّ كثافة المواضيع والتركيز على المهمّ والأهمّ يزيد الرّواية عمقا وحلاوة !والحقيقة التي يجب ألا تغيب عن بالنا هي أن عالم الرواية بدأ يحتل مكانة مرموقة في ادبنا الفلسطينيّ، ويظل السؤال الذي يطرح نفسه يراوح  في  أفكارنا وهو: هل التطور الكميّ  للروايات والذي يثيرعجبنا سيتبعه تطور كيفيّ كذلك أم بالعكس؟ نحن لا نريد أدبا ضحلا سخيفا، بل نريد رواية قويّة متكاملة تفي بكل متطلبات الكتابة الروائيّة من حيث اللغة الفنية والفكر الهادف الحضاريّ والراقي . فماذا كان دور شيخنا جميل في هذه الرواية؟انه يأخذنا معه من خلال السرد الى عالم فسيح يعرفنا على جوانبه في رحلة حزينة، ولكنّها مفعمة بالتفاؤل. فهو يعيش أحداث الرّحلة التي يأخذنا فيها، ويعطف على أبطاله الذين يحبّهم،ويقسو في آن واحد على أبطاله الذين لا يحبّهم  بلغة فيها الكثير من الايرونيا. هكذا يدخلنا مع أبطاله الى غرف التفتيش والتحقيق، حيث يتفنن السّجانون في تعذيبهم كي يكسب  عطفنا عليهم بلغة رشيقة، وببراعة خاصة في رسم المشاهد والأجواء والصور التي تمكن القارىء من الانتقال  من مشهد الى آخر، دون  أي ملل أو كلل. هذا التّنقل يجعل القارىء يضيع لأول وهلة من متابعته لمسيرة كل بطل على حدة، إلا أنّه كالفنان الماهر في  حياكة  السّجاد يعود ليجمع خيوط سجادته في كل مرّة من جديد؛ ليكمل المشهد إيّاه لنفس البطل. هكذا يبدو بطله ذا شخصية مدورة يزيدها السرد توضيحا وتعريفا . في رواياته  المذكورة يبدو  الشيخ جميل مبدعا خلاقا ومفكرا صادقا؛ لأنه عندما يحزن لحادث ما تذوب ذاته لتصبح محلولا بلا طعم، ويصبح حزنه دمعة في بحر وهمه، وهمّا من همّ الجماعة؛ فتفوح من كلماته رائحة الانسانية التي يعيشها ويحلم بها دائما وأبدا .ما لاحظناه لدى أديبنا الشيخ جميل هو أنّه من خلال السرد لا يشعرنا أنّه يريد أن يروي لنا قصة أو رواية، ولكنه يدخلنا بصورة مباشرة في حديث عاديّ عما يجري في الحياة اليومية حوله، وينتقل بنا من خبر الى آخر ليرسم أمامنا عالما متكاملا من الناس ومن الأحداث التي يعيشها هؤلاء الناس، فيأتي السرد عفويا مشوّقا بدون ترميز، فيكون أبطاله عاديين من لحم ودم! وما يزيد من تشوق القارىء لرواياته هو ذلك المزج بين الحكاية السرديّة العاديّة والطرفة التي تنتهي بها الحكاية. هكذا نجده  يدخل  على السجناء في زنازينهم، يحادثهم، أو يجعلهم  يتحادثون فيما بينهم، كلّ يروي حكاية خاصة حصلت معه، كحكاية السجين جريس عن الأمنيات الثلاث اللواتي تمناهنّ رجل فقير مع زوجته وابنه… استجاب الله لدعائه. جاءت الزوجة وطلبت منه أن يمنحها إحدى الأمنيات، وأن يمنح ابنهما أمنية ثانية . وافق الأب فمنحهما أمنيتين . لكن لما غضبت الأم  على  ابنها دعت الله أن يمسخه  قردا! لإجابها الابن وأن يمسخك أنت أيضا، واستجاب الله للأمنيتين ومسخهما قردين. أمّا الفلاح فتمنى أن تعود العائلة كما كانت فعادت العائلة طبيعية، وهكذا خسرت العائلة الامنيات الثلاث . المهمّ في هذه القصّة هو العبرة التي قصدها  جريس آنف الذكر، حيث  قال  أبو فهمي وهو  أحد  قادة  السجناء والسجين  معهم مستنتجا : ” اذن ارضوا بواقعكم واتركوا الأحلام والأماني بعيدة المنال موجها كلمته هذه الى زملائه السجناء” .كذلك قصة السلطان الجائر الظالم التي  تعلم السجناء  عبرة في الحياة كما استنتجها أبو فهمي قائلا : ” لا خلاص لأيّ شعب الا بالخلاص من السلطان الظالم. ونحن – السجناء – لا خلاص لنا الا بالخلاص من الاحتلال” “ص107-108″غلاف الرواية:منذ النظرة الاولى الى الغلاف الخارجيّ يستنتج القارىء أن ما سيقرأه في هذه الرواية هو  أدب من نوع خاص هو أدب  السجون . فصورة اليدين الاثنتين المكبلتين بالسلاسل، وأثر  السلاسل التي أدمت  اليدين هي لوحة قوية ومعبرة بشكل ممتاز عن الظلم- العسف- الذي يواجهه  السجناء في زنازين  الاحتلال . ثم إنّ اللوحة الثانية التي تلي الغلاف الخارجي تشير الى اليد القوية مفتولة العضلات، والتي  ترفع  ميزان العدالة المائل  لصالح  المظلومين والمضطهدين؛ كي  يستقيم ذلك الميزان لينصف أصحاب الحق السليب، ويعيد لهم حقوقهم، أي أن اتحاد السجناء هو تلك الذراع القوية  والتي سوف يحققون بها مطالبهم بقوة اصرارهم على تحقيق تلك المطالب.   العمالة للمحتل :في هذه السلسلة الروائية كما ذكرنا  كنا قد تعرفنا على أحد عملاء  السلطة المحتلة،  ألا وهو  أبو سالم الذي أوقعه الكابتن  نمرود في فخّ العمالة، فباتت الوشاية على الفلسطينيين الوطنيين إيمانا حقيقيا لديه، وبات يصدق  نفسه أنه انما يخدم  أمن الدولة التي يعيش فيها . هكذا  تبدأ هذه الرواية – العسف- حيث  نجد أبا سالم يجمع المعلومات عن الوطنيين والحركة الوطنية المقاومة للاحتلال، ويوصلها الى سيّده الكابتن نمرود، فيوقع بالبطلين خليل الأكتع والاستاذ داود، عندما يراهما من شرفة  بيته يوزعان منشورا للجبهة الوطنيّة في الليل. هكذا يستيقظ الحيّ الذي يسكنه أبو سالم على سيارات الجيش تملأ الشوارع في صبيحة اليوم التالي، بحثا عن خليل الأكتع والاستاذ داود، وتبدأ رحلة العذاب من هنا وحتى نهاية الرواية في زنازين الاحتلال . معاناة السجناء :يتفنّن الكاتب في وصف معاناة السجناء في زنازين الاحتلال بشكل يجعل القارىء يقتنع أن هذا الروائي كان قد عاش وعانى الكثير من التعذيب في سجون الاحتلال، وأن ما يكتبه ليس من صنع الخيال، بل من الواقع المرّ الذي يعيشه أبناء شعبنا في الاراضي المحتلة، وهنا في الضفة الغربية لنهر الاردن. وقد ذكرنا أن الكاتب كان قد أودع في السجن عندما كان ابن عشرين عاما، ولمدة تزيد عن العام حيث ذاق على جلده شيئا مما يعانيه السجناء الفلسطينيون .هكذا تمتلىء صفحات هذه الرواية بتفاصيل  كثيرة عن طرق وأساليب التحقيق، ومدى تعذيب السجناء بصورة لا انسانية، وبصورة يصعب على الانسان مهما كان قويا أن يصمد ازاء تعذيبه حتى النهاية. هنا تكمن قوّة السرد حيث تصل الحال مع البطل خليل درجة من اليأس والاحباط لا يستطيع تحملها، إلا أنّ ما لديه من الاخلاص للقضية والاصرار على حقه في الحياة  الحرة الكريمة، يجعله يقف صامدا أمام صنوف التعذيب، فلا يضعف ولا يتراجع ولا يفشي بأية كلمة عما يقوم به هو وزملاؤه من شباب المقاومة الابطال . ومن خلال السرد حول المعاناة تظهر المحامية الشيوعية والتقدمية والانسانة  فيليتسيا لانغر لتدافع عن حق السجناء؛ وتخفف من آلامهم . ومع أنّها تعمل بشكل انساني الا أنّ السجانين يكرهونها تشفيا بالسجناء؛ ولأنها تنتمي الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي! حتى أنهم يدّعون أنها لا تساعد السجناء، بل إنّ تدخّلها يزيد من معاناتهم على حد تعبير السّجانين والمحققين . وزيادة بالتنكيل يلجأ المحققون الى المتعاونين من الشباب العرب العملاء، يدخلونهم غرف التحقيق لاقناع السجناء بافشاء أسرار شباب المقاومة. كما يسمعون السجناء في  ساعات راحتهم  بأصوات صراخ  سجناء  آخرين  وهم  يعانون  في التحقيق؛ كي  يوهموهم بأن التحقيق يؤدي الى معاناة لا تحتمل. هكذا يلجأ المؤلف الى مختلف الوسائل التي يستغلها المحققون للوصول الى غاياتهم من التحقيق والتعذيب وزيادة المعاناة . الصراع مع المصلين :ذات يوم وبعد وجبة الغذاء جاء  سجين ملتح، وطلب من جميع السجناء الخروج من غرفة الطعام؛ لأنه يريد تأدية  فروض  الصلاة مع  زملاء  له من المصلين السجناء. خرج الجميع من غرفة الطعام، وبدأوا يتمشون بين غرفة الطعام وغرف المبيت. لم يعجب  الأمر الملتحي وزملاءه، لذلك خرجوا الى من كانوا يتمشون في الخارج، وطلبوا منهم الابتعاد عن غرفة الطعام لأن وجودهم هناك يزعج سير الصلاة. احتج أحد السّجناء واسمه مصطفى ورد عليهم قائلا : طلبتم منا الخروج وخرجنا فماذا تريدون  بعد؟ رد الملتحي : أتريدون منعنا من الصلاة؟ وعلت أصوات الفريقين وتماسكوا بالأيدي وعمّت الفوضى . اتصل الحارس بقوّة من الجنود لتهدئة الاوضاع، إلا أنّ أبا فهمي وهو  شخصية بارزة بين السجناء وكلمته مسموعة،  تدخّل  لدى الحارس وأخذ على عاتقه مسئولية تهدئة الأوضاع . كان الموقف حساسا للغاية : فالمصلون يدّعون أن مصطفى وغيره يريدون منعهم من أداء صلاة الظهر! وهذه فتنة خطيرة وادعاء ليس من السهل رفضه! إلا إنّ أبا فهمي أخذ على عاتقه فض الاشكال . وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى كان قد سيطر على الوضع لما لديه من حجة اقناع، وأدى المصلون صلاتهم دون تدخل من حراس السجن ! لكل مجموعة سجناء قائد يدبر أمورهم :من خلال تجربته اكتشف  الكاتب أن كل مجموعة سجناء يجب أن يكون لها قائد  كلمته مسموعة، ومحترمة لدى الجميع. هكنا وجدنا أبا فهمي يلعب دور القائد والمفكر. فالصراع مع المصلين المؤمنين خطير، والادعاء بأن أحدهم يريد منعهم من تأدية صلاة الظهر أكثر خطرا، لذلك يجب أن يظهر القائد الرّاعي والمفكرّ؛ لأن حياة السجن صادمة، وليست كما يتصورها من لم يجربها. هكذا ينتحي البطل خليل الأكتع جانبا مع رواية الكاتبة الانجليزية أغاتا كريستي ” الجريمة النائمة ” ويضيف  المؤلف في صفحة 74 :”السجن مدرسة لقهر الانسانية وليس مدرسة للتعلم .  العنصر النسائي لزيادة التعذيب :في مرحلة متقدمة من التحقيق يتم اعتقال والدة خليل وأخته زينب، حيث يجعل المحققون خليلا الاكتع يشاهد والدته في غرفة الاعتقال، وأخته زينب عارية كما خلقها الله، بدون أيّة ملابس  تستر عورتها! إلا أنّ خليلا البطل كان قد خبر أساليب التعذيب، وعرف أنّهم باعتقالهم لأمّه وأخته إنّما يحاولون كسر صموده؛ ليفشي أسرار حركة المقاومة، لذلك ظلّ صامدا وأفرج عن الاثنتين. أمّا عدم النظافة وتفشي الحشرات كالقمل والبق والصراصير وغيرها في غرف  نوم السجناء، فهي وسائل تعذيب أخرى لا تؤلم بمقدار ما تقزز النفوس،  وتحطم المعنويات لدى  جميع السجناء. وزيادة في  وصف بطولة خليل الاكتع يجعل  المؤلف هذا البطل انسانا  متحضرا وراقيا، كثير المطالعة وله الكثير من الذكريات عن أيّام زمان، عندما كان منفتحا على الحياة يعبّ منها من خلال ذاكرته القوية، ويستعيد  ثقته  بنفسه؛ فلا يستسلم بل  يزيده ذلك اصرارا على الاضراب عن الطعام، وتكون النهاية انتصار السجناء الأبطال على ارادة سجانيهم . المعلم الأكبر : ما وجدناه في نهاية هذه الرواية هو أن كاتبنا قد تحوّل الى معلم كبير، يرسم معالم الطريق التي على كل سجين أن يسير فيها؛ من أجل تحقيق الاهداف التي كان يحلم بها. كذلك كان يجعل السجناء ونموذجهم خليل الاكتع، ينشغل كل منهم عن هموم السجن بالقراءة وتعلم اللغات أو محو الأميّة لدى الأمّيين، وغير  ذلك من الأمور التي يستطيع السجناء استغلالها لتطوير  ثقافتهم . ولكن فوق كل عمل يتعلم السجناء كيف  يناضلون حتى بالصّيام  وبمعدهم الفارغة من أجل  تخفيف معاناتهم وعذاباتهم داخل السجن. فوحدة الصّف والاصرار على تحقيق الاهداف هي الوسيلة الأنجع التي تؤدي  الى الانتصار . هكذا يلخص أبو فهمي وهو الاستاذ والقائد، يلخص نضال السجناء بقوله:ص – 111″كل يوم في هذا السجن هو نقصان من عمر نزلائه، وبالتالي علينا أن نشغل أنفسنا بأمور مفيدة. لذا أقترح أن نخصص ساعات لمحو الأمّية لمن لم تتح لهم فرصة التعلم، وساعات لتعلّم اللغة العبرية وساعات للغة الانجليزية “.اذن فالمؤلف  يعرف الآية في الحديث النبوي  الشريف والتي تقول : ” من تعلم لغة قوم أمن مكرهم” ! كما يعي أن المصيبة التي تصيبنا ولا تميتنا  تجعلنا أقوى وأجمل وأكثر تجربة في الحياة” !هكذا اذن ينهي روايته هذه – رواية العسف – بدروس لجميع الشباب المعرضين للتوقيف وللسجن، معلما إيّاهم أهمية الصمود، وتحمل المعاناة لأنهم بالتالي سوف ينتصرون على سيوف جلاديهم مهما كانوا قساة القلوب! انها رواية التحدي للواقع المرّ من أجل حياة أكثر رخاء .                                                                     د. بطرس دلة                                                                        كفرياسيف

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات