ديوان “حين سار الغريب على الماء”لإيهاب بسيسو في اليوم السابع

د

القدس:29-6-2014  ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس ديوان “حين سار الغريب على الماء” للدكتور ايهاب بسيسو، وقد صدرهذا الديوان الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنان الفلسطيني حازم حرب، في العام 2014 عن دار الشروق للنشر والتوزيع في رام الله وعمّان.

بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال:

قسّم الشاعر (إيهاب ياسر بسيسو) ديوانه الشعري الرابع (حين سار الغريب على الماء) إلى خمسة أقسام حمل كل قسم منها روحا من الغربة والضياع الباحث عن (أناه)، ويظلّ الشاعر مشغولا بالبحث عن اسمه، ويحرص على ألا تضيع لغته.

يلفت الانتباه هذا الإصرار على ضمير المتكلم (أنا) في لغة الشاعر (بسيسو) متوازيا مع ألفاظ الغربة وحالاتها ووجعها والاغتراب والضياع والأرق والكوابيس، والقهوة والمقهى والنادل والمطر والزجاج.

(أنا) الشاعر هنا ليست فردية ولا ذاتية بل هي (أنا) القوم- المجموع. وهذا واضح من السياق العام وأحداث القصائد وصورها في بلاد لا تقيم كثير وزن لغريب جاءها باحثا عن هدفه الخاص.

الغربة تطلّ من بين كلمات الشاعر ، وكذا الوحدة والبحث عن لغة مشتركة. إنها تجربة التمسك بما يقود إلى (أنا) الشاعر وقومه في التصدي لأي تحريف حتى ولو كان بالاسم (أياب، أهاب، إيهاب) – قصيدة (أشتاق لاسمي) صفحة18 .

اللغة عند الشاعر ليست مجرد رموز يعبّر بها القوم عن حاجاتهم ويتواصلون بها. إنها جزء من المكان وهويته ، وهي اللغة الغائبة عن الوقت لذا يكتب الشاعر (علّه يمنح الوقت لغته الغائبة)- صفحة 33 .

وتبرز (الفراشة) ثيمة ومعنى ورمزا، كما يحضر الموت والمقبرة والتابوت، وتحضر الذاكرة والوطن والطفولة.أما مشاعر الغربة ومطرها في بلاد الصقيع والبرد حيث لا معنى للقهوة ولا الاسم فظلت حاضرة بقوة على امتداد الأقسام الخمسة من الديوان.

ألحّ الشاعر على سؤال (لماذا تكتب؟) ووزّع إجابته على صفحات الديوان، وهي إجابات تستحق التوقف عند حدودها ودلالاتها ومكانتها في معجم الشاعر ورؤيته لوظيفة الكتابة ودور اللغة. في الصفحة 134 تكون الكتابة وسيلة للتصدي للفناء والموت، والكتابة فعل تحويل الموت إلى حياة، وهي سبيل التصدي للريح.

لغة الشاعر تتجمل بالحركة وتتعطر بالحنين والمطر وهي ترسم صورها بخفة وهدوء وحياة؛ إنها صور حية فيها الحوار والحركة والرائحة واللون، فالشاعر يستخدم اللون الأبيض والرمادي والضباب ولون الورد ولون القهوة.

الشاعر هنا يسير على الماء بخفة ورشاقة وإصرار على الحياة؛ يشكو غربته القاتلة ويحن إلى وطنه البعيد وطفولته الحاضرة.

وقال جميل السلحوت:

لوحة الغلاف الأول للفنان حازم حرب تذكرنا منذ البداية بما قاله الرّاحل الكبير محمود درويش:” آه يا جرحي المكابر

وطني ليس حقيبةْ

وأنا لست مسافر

إنني العاشق، والأرض حبيبة”

و سيجد القارئ للديوان أنّ اللوحة تتناسب مع مضمون الديوان، لكن شاعرنا يضعنا أيضا أمام تساؤلات كبيرة يحملها اسم الدّيوان، فهل هناك انسان يسير على الماء؟ وكيف يكون ذلك؟ والمتابع لمحتويات الديوان سيجده من خمسة فصول كلها تتحدث عن الغربة، وواضح أن الشاعر قد استوحى قصائده من غربته أثناء دراسته الجامعيّة في بريطانيا، مع التأكيد أن غربة الفلسطيني وبعده أو ابتعاده عن وطنه تختلف عن غربة أيّ انسان آخر، فالآخرون قد يختارون غربتهم بارادتهم في بحثهم عن حياة أفضل، أو في بحثهم عن مكان قد يجدون فيه تحقيق سعادتهم، فإن وجدوها أو لم يجدوها فإنهم يستطيعون العودة إلى أوطانهم الأصلية متى يشاؤون، على عكس الفلسطينيّ الذي أجبر على الغربة والاغتراب عن وطنه التاريخيّ، بسبب الهجمة الكولونيالية التي تستهدف أرضه، تماما مثلما تهدف إلى اقتلاعه من وطنه لإحلال غرباء مكانه. وحتى الفلسطيني المقيم على تراب وطنه التاريخيّ، إذا ما اضطر إلى مغادرة وطنه مؤقتا لسبب ما كالتعليم أو العمل أو غيرها، فإنه يبقى قلقا لأنّه يخضع لشروط غير انسانيّة ولا مثيل لها في العالم، قد تحرمه من العودة إلى أحضان أسرته ووطنه. إضافة إلى قلقه المستمر على ما يجري في وطنه أثناء غيابه.

وشاعرنا عاش الغربة مرّتين، مرة كانسان انتقل من مسقط رأسه في غزّة الى بريطانيا للدراسة، ومرّة أخرى كفلسطينيّ وطنه يتعرّض للذبح اليوميّ، لذا فإن معاناته وآلامه مزدوجة، ومن هنا جاءت لغته الشعرية النازفة والمثيرة للتساؤلات، لتعبّر عن صحراء التيه التي تهدّد بابتلاع الانسان الفلسطيني. وتزداد حيرة القارئ من خلال الكلمات المنتقاة لشاعرنا، والذي أجاد فيها العزف على جماليات اللغة، لتكون من السّهل الممتنع، والذي يثير تساؤلات فكرية وفلسفية لا مفرّ لقارئها من أن يتمعنّها ويستمتع بها. أو تجبره لقراءتها مرّات أخرى للبحث عن لآلئها المكنونة.

وإذا كان من المستحيل حصر الابداع في قوالب معينة، فإن القارئ لديوان الشاعر إيهاب بسيسو سيتوقف أمام قصائد لا يمكن أن ينتبه لمضامينها غير مبدع ذي عين ثاقبة، ولنأخذ على سبيل المثال قصيدة”أشتاق اسمي” ص 18 فعدا عن الأسئلة المعتادة في بلاد الغربة مثل:

“من أين أنت؟

كيف جئت؟

هل تحفظ الشّعر؟

هل تخبئ في معطفك بخورا

وشمعا وأحاديث مطر؟”ص 21

إلّا أ نّ الشاعر ينتبه إلى أن الغربة تضعه في حالة اغتراب مع اسمه، لأن العجم الذين يختلط بهم لا يحسنون لفظ اسمه:

“إياب…أياب…أهاب…

إيقاع لا يشبهني” ص24

وبما أنّ لفظ اسمه بهذه الطريقة مختلف ولا يشبهه، فإن تكراره بهذه الطريقة المغلوطة والمقلقة، يترك أثره عليه فيقول:

“أصاب بالدّوار

كلّما انكسر اسمي على شفتيها

وجلست أرمّم حروف اسمي المبعثرة

من الهواء بيننا.”ص27

ومع ذلك فقد يكون له موقف آخر من الخطأ بلفظ اسمه:

“أبتسم لأسمائي المشتقّة منّي

لهذا الإيقاع″ ص28

وهو يخشى من أن يعتاد على سماع اسمه محرّفا فيقول:

“عندما تخطئ لفظ اسمي مرّة أخرى

وأبقى وحيدا في صداي

كي لا أعتادني باسم جديد

مشتقّ من اسمي”ص29

إن قراءة سريعة للديوان لا تغني عن قراءته والتمتع بجمالاته، خصوصا وأنّه يشكل تموذجا لقصيدة النثر بما لها وبما عليها.

أمّا نسب أديب حسين فقد قالت:

الشاعر إيهاب بسيسو ابن مدينة غزة الذي انطلق الى انجلترا للدراسة الأكاديمية الجامعية، حاصل على اللقب الثالث في الاعلام الدولي، ويعمل محاضرًا لهذه المادة في جامعة بير زيت، الى جانب عمله الناطق الرسمي باسم الحكومة. صدرت له ثلاثة دواوين، ونحن اليوم بصدد ديوانه الرابع (حين سار الغريب على الماء) عن دار الشروق.

نجد في هذا الديوان رصد تجربة حياتية في الغربة، وكان قد أشار الشاعر في لقاء توقيع الديوان في متحف محمود درويش قبل شهر أنّه يكتب عن نفسه، ويعتبر الكتابة التي أتت بهذا الديوان نوع من العلاج من المسافة والمنفى والاغتراب الذي طال عشرين عامًا، بذا لا بدّ أنّ الشاعر استثمر تجربة غربته ليُقدمها في قوالب أدبية لغوية محكمة تحمل الكثير من الجمال.

العنوان والغلاف

عنوان الديوان يبدأ بإشارة زمنية ثم بالفعل سار، هذا الفعل الذي يقوم به الغريب صاحب الملامح الباهتة، وخطوات السائر على الماء تضيع، لا يبق لها أي أثرٍ أو وجود للغريب بين الغرباء الذين يحيا وسطهم.

كما أنّ السير على الماء هو أمر مستحيل ومعجزة لم يقدر عليها سوى السيد المسيح حين سار على بحر الجليل، وتلك المعجزة زادت من تقبله وسط قومه الذين تعاملوا معه كالغريب، ليعرض الكثيرون عليه بعد هذه المعجزة مرضاهم سعيًا لإشفائهم وإيمانًا به. بذا وبسبب الاستحالة في المشي على الماء، فنرى اشارة بأنّ هذه الغربة لن تتبدد ولا يوجد ما يزيح ثقلها عن حاملها حتى تسقط عن المكان ويتماهى فيه.

الغلاف هو صورة شاب يقف وسط حقيبة اشارة الى السفر، يظهر جسده دون وجهه، وفي هذه الصورة تعبير قوي لما أراد الشاعر من العنوان ومن الديوان، فالشاب دون ملامح تبقى في الذاكرة هو مجرد كائن موجود يحمل وزر حقيبته في الأمكنة ويختفي.

هذا الديوان

يقوم الديوان على حوار داخلي (مونولوج) طويل وعميق، متجهًا الى سرد قصصي فهو يشبه الملحمة الى حد ما. ويمكن أن نعتبر هذا الديوان أقرب الى صنف أدبي حديث يقع تحت مسمى (القصيدة الرواية) بحيث يتحرر هذا الصنف من شكلانية الشعر الصارمة، ويقصر من البناء القصصي الملحمي. ويحمل هذا الصنف الجوانب الشعرية المكثفة أكثر من الروائية السردية، لتطغى كفة الشعر. وهذا ما نشهده هنا فالديوان مقسم الى خمسة فصول ، تتغير بعض الشيء رسالاتها وتتقدم كمبنى قصصي من مقدمة وعُقد وحل، لا يمكننا فيه التعامل مع كل قصيدة أو مقطع على أنّه حالة منفردة، فهذا لن يقودنا الى فهم متكامل للصورة التي أرادها الشاعر.

في هذه القراءة أتوجه للديوان معتمدة على التصنيف أعلاه محاولة اظهار المبنى القصصي، والوصول الى ما أراده الشاعر من كل فصل من الفصول الخمسة.

1- مُدنٌ.. ومقاهٍ.. وقهوة

هذا الفصل هو المدخل للولوج الى مكامن بطل الديوان (الغريب)، يبدأ برصدٍ أولي لنفسيته وللأجواء الحالية التي يعيشها.

المقطع الأول في هذا الفصل (وجه النادل) يبدأ كمقدمة للفصول الآتية فيقول (لي غموض التجربة..\ حيرة الآتي من نسيانٍ وذاكرة..) ويتابع (صخب الغيابِ\ حضور المنفى..).

في الرصد للجو المحيط للمشهد الأول، نجد الى أي مدى يأخذ المقهى مساحة في وعي الشاعر – الغريب، فتتشكل ذاكرة للمقاهي في المدن.. ويحاول من خلال المقهى ومذاق القهوة ومزاج النادل أن يلملم نفسه ويصل الى ذاته، ومن خلال القهوة الوصول الى أسرار المدن.

تحت عنوان (أشتاق لاسمي) يبدأ القارئ بالولوج الى عالم الشاعر، هذا العالم المحاط بالوحدة، الحيرة والصمت، الصمت الخانق الذي يدفعه لاختلاق أحاديث متخيلة بين الغرباء كان بإمكانِها التخفيف من وطأة السفر والغربة. هذه الوطأة التي تشتد عندما يتبعثر اسمه ص(24-29)، فلا تجيد النادلة اللفظ، ويخشى اعتياد الاسم مشوهًا، فيختار أن يبقى وحيدًا في صداه.

تحت العنوان الأخير في هذا الفصل (فيما يرى الغرباء) يشبّه الشاعر نفسه في المقطع الثالث بالبحر، اذ يقول (كلما بلغ البحر المنفى أقصى البرد\ تجمع في ثناياه..\ بحثًا عن طرقٍ بديلة\ لاستعادة اليابسة…) ونجده يوغل في البحث في الصور والذكرى، في محاولة للانتصار على المنفى باللجوء الى القصيدة والنفاذ منها الى أناه.

2- (مفردات وقت يستقبل المطر..)

نشهد في هذا الفصل تعمقًا نفسيًا وحوارًا داخليًا في شخصية الشاعر – الغريب، وتنجلي أزمات في المبنى القصصي.

مع العنوان الأول (صباح جديد) من هذا الفصل نجد تمردًا في شخصية الشاعر – الغريب، فهو يعلن أنّه لن يفعل كل ما اعتاد فعله خلال ما مضى من أيام، وبعد (لن) التي تظهر على مدى هذا العنوان، يُفاجئنا الشاعر أنّه يحاول أن يعيش هذا الموت هنا، لتحمله خيوط الضوء المتسللة (الى هناك.. كي يحيا من جديد) (40). وهنا نشهد تأزمًا حقيقيًا في نفسية البطل، ونقترب أكثر من العذاب الذي يخلفه الشوق في نفسه.

البطل يحاول أن يستعيد نفسه قليلا (في المطر..)(41)، ينهض من السرير ويتابعه خلف النافذة، يرصد موسيقاه.. ويعود لينتبه الى ذاته، يحاول العبور الى الذاكرة.. وينجلي من خلف تلك الموسيقى اسم بلده غزة..

يقول عنها تحت عنوان (مدينة وقتلى) (مدينة في رأسي ثقبها البرق\ فتناثرت جثثا..\ أجمعها…\ كغريب في جزيرة البرد..)

هو الغريب يحاول استعادة بلده في منفاه، يُوقظ الغائبين ليشاطروه أحاديث الذاكرة، ويبرز قلقه وحزنه على ما تمرّ به المدينة وما يمرّ به ناسُها من قتل وخوف.

ويسأل ذاته إن أدرك بعد هذا الموت ما يريد..؟

في عنوان (من يوميات وقت حائر) يقربنا الشاعر أكثر من شخصية البطل عبر برنامج يومي، فيتنقل أحيانًا بين همومه الذاتية وهموم انسانية. وهنا نشهد الكثير من الصور والتشبيهات الأدبية الجميلة أذكر منها ص(63) (أصرخ مرة أخرى\ ما بين حوار الفراشة عن المكان\ وفكي التمساح..\ وقت فج.. يستل خنجرا من جيب خفي\ في صدر الهواء..\ ويطعنني..\ قبل أن يطمئن الى صمتي\ فوق الوسادة..) ، ص(66) (فيما العابرون\ تتقاذفهم الريح ككرات قشٍّ)، ص (67) (وقتي كهل أعرج\ يحتسي النبيذ في حانة عتيقة).

في يومية الجمعة يراجع الشاعر الصور القديمة ينظر الى الصبي الذي كانه قبل عشرين عامًا، هذه الأعوام الزاخرة بالسفر ومحملة بملح البحر، صار خلالها عمرُه في الغياب أكبرَ من عمره هناك عند الشاطئ.. ذات يوم جمعة رافقه فيه أصدقاءه.. وها هو الآن وحيدًا يطلّ على تلك الصورة.

في يومية السبت يعود للتأمل دون تنقل بين الأمكنة، وتبقى نفسية البطل المرهقة مسيطرة على المشهد، وخاصة عندما نجده ينتظر يوم الأحد الذي يشك بقدومه.. هذا الأحد الذي ليس أفضل من السبت. ليأتي بعد هذه اليوميات التي تتأزم قمتها بعنوان (بلا وقت).. يخاطب الشاعر نفسه ص(68) (بلا وقت..\ كأنك جثةٌ عائمة..\ يحملها الموج\ الى شاطئ الخسارة\ المقفر\ الغامض\ النابت من بقايا مراكب الصيد\ المهجورة والصيادين).

وهنا كأني بالشاعر يخرج من ذاته ليُمسكها ويُعنفها ويصرخ بها محتجًا.

لينتهي هذا الفصل بثورة ذاتية “صاخبة” مثلما بدأ.

3- (بلاد على أوراق الرسائل)

فصل للبحث عن ملامح وأوجه شبه بين البطل والبيئة المحيطة.

في العنوان الأول (وجه) يستمر الخطاب الداخلي.. لتظهر بعض الملامح للبطل، الذي يواجه نفسه باختلاف وجهه عن الصور، هذا الوجه نبت من سرد المسافات كحقيبة سفر ص(76)، لتنساب بعض الملامح عبر الهاتف، ويبهت هذا الوجه كظلٍ. يستحضر وجوهًا أخرى من البحر تتحدى الغرق قد تمضي الى اقاصي البرد، أو الى يابسة مسيجة بأسلاك كهرباء. وهنا نشهد ايحاء الى تشرد الفلسطينيين في أنحاء العالم، ويستعيد الشاعر وجهه الذي كان بينهم ذات يوم، وصاروا جميعًا غرباء في مدن المنفى، وعند التقائهم يحاولون رسم الوجوه بكل ما يملكون، لاستعادة ملامح أجمل للماضي وللذاكرة.. فيصير وجه الغريب أقل ارتباكا من الوجه الحالي، لتعود اليه البهجة والألوان. هذا الوجه لم يغادر (ابتسامة الوقت)، فابتسامة الفلسطيني التائهة موقوتة منذ الغياب (منذ النكبة والتهجير)، تعود عند استعادة البدايات في لحظة ذاكرة.

(رسالة الى جارة مشابهة) الوحدة والغربة ترهقان روحه فيحاول البحث عن أوجه للشبه بينه وبين الغرباء (كعلامات الخوف، الشعور بالبرد..) وغيرها، في محاولة للانتصار على الغربة.. ويخبرنا أنّه يكتب (ص82) لعله يخرج من عزلته.

ويعود عند المساء ليُتابع الغرباء من خلف زجاج النافذة، لتكون المسافات بينهم (ظل ثقيل للعزلة). وتأتي المفاجأة في النهاية حين ندرك أنّ أحد اوجه الشبه بينه وبينهم هي الغربة ذاتها، وفي استعادة الجغرافيا وحكايات الأمكنة تولد لغة مشتركة.

يوغل الشاعر في علاقة الغريب مع الأشياء والحالات الشعورية (النهار، الأرق، النوم، الألم، الفراش العصفور..)

ليطلب أخيرا الصداقة من الألم، ويظهر مرهقا فيطلب من الألم أن يرفق به فلا يغدره، وهو مستعدٌ للتنازل عن أثمن أشيائه لكن دون أن تؤخذ منه غدرًا.. فنلمس الوضع النفسي الصعب الذي وصل اليه البطل.

4- على صفحة الماء

ينتقل هنا الى الآخر..

(قارورة…) نظرة الآخر اليه، يتساءل أهو حرٌ حين خرج حيًا معافى من وطن يحيا الغارات والخوف؟ أم أنّه مقيد في عالمه الزجاجي..؟

ويحاول التعامل مع النظرات والتوجهات اليه ليقول أنّه كل ما يقال وأكثر.. ويزيد أنّه أيضا (أرق\ وحيرة\ بين النجاة\ والغد\ والتباس الموت).

وينتقل تحت عنوان مهاجرون للشعور مع الآخرين المهاجرين الذين يعانون ما يعانيه.

5- حوار ذاتي مع المنفى

في هذا الفصل يأتي الانفراج للأزمات السابقة، يبدأ الشاعر مسالمًا وشيئا فشيئًا يبحث عن منفذ من حزنه، متجها الى خاتمة تحمل في طياتها بريق أمل وتغير في اللون.

في المقطع الأول من هذا الفصل (بحر غامض في جسدي) يعود الشاعر ليتمعن في تجارب غيره مع الغربة ص(120)، يبحث عما تركت فيهم من قصائد وروايات، وهذا اللقاء معهم يمنحه بعض العزاء. لنلمس في القسم الرابع من هذه القصيدة بداية روح ونفسية أجمل.. (أنفخ في الوقت روحًا من حنين..\ واطلقني خارج فضاء الغريب..).

(في المنفى) في هذا المقطع نجد ملخصًا لما استشفه من تجربته الذاتية وتجارب الآخرين الذين قرأ لهم مع المنفى. يتقدم الشاعر في المقاطع التالية باحثا عن منفذ كالكتابة، لكن الخروج ليس بسهل، فكلما تقدم في مقطع لا بدّ للوحدة والغربة أن تعاودان لمواجهته بأسئلة متكررة تسجنه خلف زجاج النافذة مشاهدًا متابعًا لما يحصل في الخارج دون أن يتماهى والمكان الجديد، فالحنين يردّه دومًا الى الذاكرة.. وهو يحاول التقدم وسط الضباب للوصول الى مرآة تعكس وجهه اليوم مشابهًا لوجه ذاك الطفل الذي تركه عند شواطئ مدينته البعيدة.. ونجد فجأة شيئًا من التحدي يظهر على نبرته تحت عنوان (في صدري) – ص(147) (أمل\ سرب حمام\ يحلم ببكارة زنبقة\ لم يمسها العدم).. شيئا فشيئا يحاول استعادة نفسه ولملمة شظاياه (أحاول استعادتي من الغامض\ كي لا تضيع قدماي\ في خطوات الغريب)..

الخاتمة (الشمس التي هنا.. الوجه الذي هناك) نصل مع هذا المقطع الى ختام هذا النص الشعري الروائي بوصول انفراج للعقدة ومسحة من الأمل على وجه البطل. الشمس تظهر على دنياه تبعث الحياة به وبالألوان.. هذا الأمر ينعكس بشكل كبير على نفسيته التي ظهر اللون الرمادي مسيطرًا عليها طيلة صفحات الديوان.. في مدينة الضباب. وإذ تأتي تشرق ملامحه وتداخله السعادة، لأنّها كانت تطلّ في وقت غيابها على مدينته، وفي ظهورها يشفي غليل شوقه قليلا ليستعيد هذه المرّة ذاكرته ببهجة أكبر:

في الختام: تقوم القصائد على شخصية رئيسية وهي الغريب أو الشاعر نفسه، نلحظ سيطرة اللون الرمادي على أيام الشخصية ودورة المقاطع حول موضوع واحد، لكن بصور وتشابيه متجددة الأمر الذي لا يبعث الملل في نفس القارئ بل تدفعه أكثر نحو عالم الشخصية ليحيا أيامها ويومياتها وعراكها وصراعها الداخلي، هذا الصراع العميق في محاولة لكسر الحاجز لكنه يبقى فترة طويلة حبيس القارورة معلقا مشدودًا بحبال الذاكرة.. الى أن تأتي “الشمس” وتمنح يومه بعض الألوان محملة بعطر مدينته حين يدرك انّها قادمة من هناك.

ختامًا هذا الديوان (الشعري الروائي) الفلسفي المتعمق في أبعاد نفسية الغريب في منفاه الاختياري او القسري، عبر حوار داخلي معمق يكشف عن الاهتزازات والصعوبات النفسية التي تلمّ بمن يمرّ بهذه الظروف، مضمخة بلغة وصور أدبية رائعة تستحق الوقوف عندها مطولا، فإن لم تحفظ صفحة الماء رسم خطوات غريب إيهاب بسيسو، تحفظها ذاكرة القارئ جيدًا.

وقال رفعت زيتون:

نظرة عامة:

المنافي والعتمات والاغتراب تماما كما القهوة والمطر والوجوه المبعثرة، كلها مفردات رافقت الشاعر إيهاب بسيسو بين دفتي ديوانه الجميل منذ أول حرف وحتى آخر همسة في الديوان. أطلق شاعرنا العنان لهذه المسميات لتصول وتجول بين سطور تحدثت عن ذلك الغريب الذي حوّل الشاعر الماء له يابسة يسير عليها، ليخوض غموض التجربة والحيرة بين نسيانه وذاكرته.

إيهاب بسيسو كان ذلك الغريب في حواريته الشعرية التي مالت إلى السّرد القصصي ربّما لأنه يحكي قصته مع البحث أو قصته مع حقيبة السفر، حتى وهو جالس على مقعد في إحدى المقاهي، كان يلملم التفاصيل من حوله ليعيد ترتيبها في عالم آخر بعيد، ثمّ يعود إلينا بالقصيد.

نجح الشاعر في سواد قصائده الأعظم في إدهاش القارئ ووضعه في مشهد الحدث، وكأنّ القارئ جزء من هذا الحدث أو أنّه هو ذاته الغريب بطل الرواية.

الذات والهمّ العام: طغت الذات على كثير من القصائد إلى حد بعيد، أحيانا كان يتجرد من ذاته ويتمثل بشرا آخر، وأحيانا يتوحد مع ذاته حدّ الخرافة ليفاجئ الصبح بأغنية عابرة عن جسد قد يولدُ وقد يشيخ وقد يتعب وقد يموت برصاصة ضلّت الطريق. وتساءلت لماذا استخدم كلمة الجسد وليس النفس خصوصا أن الجسد جسم بلا روح، فهل اعتبر الشاعر هذا الشيئ ميتا قبل الرصاصة على اعتبار ما سيكون؟ أم على اعتباره ميتا بكل حالاته حتى وهو حي؟

وقد ظننت في الصفحات المئة الأولى أن الذات هي الهمّ الأكبر لدى الشاعر ايهاب بسيسو إلى أن جاء بقصيدة ( مهاجرون)، ليفتح القريض على مصراعيه على الهمّ العام لفئة ما فتئنا نسمع عنها بين الحين والحين، فئة تركب موج الغموض ظنّا منها أن العسل ينتظرهم خلف ذلك البحر اللجيّ على بعد نظرتي أمل، فإذا بأحلامهم تمسي طعاما لحوت جائع في قعر المحيط، ومن كان منهم ذو حظّ عظيم نزلت به السفينة إلى عالم وحشيّ مهنته الاستغلال وسمته الحرمان إلا من رحم ربي.

هذه القصيدة أقصت فكرة الذاتية عن ذهني، بل وربما جعلتني أعيد التفكير بمعنى الذات، فالذات جزء من الكلّ، وعندما يكتب الشاعر ذاته فإنما يتحدث باسم عائلته الكبرى، كيف لا وقد كان هو أحد العابرين على متن السفينة بين المهاجرين الغرباء، والفرق بينه وبينهم أنهم فقط لم ينتبهوا للقلم. فكانوا مادة للكتابة، ربما إيمانا منهم أنّ هناك من سيكتبهم بطريقة أدقّ وأفضل.

ثنائية المكان في الديوان:

قصيدة ( بحر غامض في جسدي) تلخّص فكرة ثنائية المكان، مع أنّ هذه الثنائية رافقته كفنجان القهوة عبر كلّ القصائد والأمكنة.

يقول شاعرنا ( تشدّني الذكريات إلى النّصّ فأحيا بين عالمين كلاهما فيّ)، وهذه الجملة الشعرية تفسر ما جاء قبل ذلك وبعد ذلك من جمل عبر القصائد، ( بين غيابين )، ( بين عتمتين)، (بين غربتين)، الحضور والغياب، المنفى والوطن، الغريب والطفل، عالم النسيان والذاكرة.

في هذه الثنائيات التمس الشاعر النّور للغريب في بلاد الضباب، جمع أوراقه المتناثرة فوق أرصفة الأمل في تلك البلاد البعيدة خلال النهار، ليعيد لملمة الأمور ليلا، وهو ينظر عبر نافذة كانت شاهدةً على نزف مداده، وهناك كان مطر القصيد.

وبين هذه العوالم كانت البعثرة لذات الغريب، فأصبحت ذاتين، واحدة سارت خلف سراب النور تبحث عن مدينة أفلاطون الحلم، وأخرى تضرب في البعيد حيث الطفل الذي يسكن الماضي والوطن..

وبين ذاته وذاته تكاثفت العتمة، فلا يجد هذا الغريب مناصا لدحرها إلا بالدخول إلى عوالم النفس وإشعال جذوات النور بها بحروف سارت به على الماء ليمضيَ قدما كما قال، أو لتعود به تلك الحروف إلى ذاكرته وطفله وفي كلاهما نور ولكن بينهما كانت العتمة.

وفي الظلام تختبئ الدمعة بين جفون الغريب، والظلام يوقظ فيه كلّ علامات السؤال، حتى ما ظنّه يوما محرما، فيخرج طفل اللغة عن صمته رغم ملل الوقت الميت، وتتكاثر التساؤلات كلما تكاثفت العتمة إلى أن يصير الغياب أكبر من الشاعر فتتساقط الحروف من سماء الألم نشيدا يحمل ندى الفرح.

السّرد القصصي في ديوان إيهاب بسيسو:

عند قراءتي للديوان أردت أن أقارن بين بعض الجمل الشعرية والأفكار بين القصائد، حتى قادني ذلك إلى رؤية الديوان كأنه قصة وكل قصيدة فيه تحاكي مشهدا من مشاهد هذه القصّة أو الرواية. فلو أخذنا مثلا قصيدة ( صباح جديد) لوجدنا أنها ترتبط مباشرة بما قبلها من حيث الحدث والمكان والشخوص، وكأنّها فصل جديد في رواية بدأت أحداثها في القصائد السابقة، وهنا قد أنظر إلى القصائد بمنظور آخر هو أقرب إلى القصة الشاعرة وليس إلى ديوان شعر بقصائد مستقلة، والحديث عن القصة الشاعرة يطول وهو ليس محور حديثنا وقد نوقشت فكرتها قبل عامين في القاهرة في مؤتمر كبير.

وفي هذا السياق لا يفوتني الحديث عن مشهد قصصيّ صاخبٍ في قصيدة ( مدينة وقتلى)، حيث أبدع الشاعر في رسم صوره، وفي رسم المواقف بين الذات والذات وبين الذات والمحيط، وفي تصوير المكان والحدث وفي تصوير الموت، موتٍ من نوع آخر في تلك الحانة القريبة.

وهنا يتوارد لذهني السؤال، أين القصة والرواية في خلد الشاعر إيهاب بسيسو للمستقبل؟ فما أراه هنا من أسلوب قصصيّ جميل وتمكّن من توظيف عناصر القصة كلّ ذلك يوحي بميلاد روائي قد يفكّر به شاعرنا عما قريب.؟

الفلسفة في الديوان:

يقول شاعرنا في صفحة 104 ( وحدك الآن في هذا الفراغ، مشرع على التأويل والمصادقة)، وفي جمل لاحقة يقول ( قد يراك البعض حرا تجتاز البحر كما لو انك نورس)، و ( قد يراك البعض سجين وقتك)، و ( قد يراك البعض حيّا وأنت تقلّب الوقت قصيدة)، ( وقد يراك البعض ميتا وأنت تراقب السماء بهدوء غامض)، (أنت كلّ هؤلاء فيك وأكثر).. وهذا يذكرني بقول مظفر النواب ( قتلتنا الرّدة، قتلتنا إنّ الواحد منا يحمل في الداخل ضدّه).

وهذه نظرة فلسفية عميقة، ربما كانت مطروقة من قبل ولكن لشاعرنا سبق جمال الصياغة.

وتستمر الحكاية وتتوه خطى الغريب في منفاه، فيدلّه ظلّه عليه كي يعود إلى ذاته، ويعودَ إلى طفل يسكنه بكلّ البراءة المطلوبة لمقاومة حمى الزّيف والأقنعة والغرق.

يقول ( كنْ ملاذي إن هرب مني الوقت فجأة وتنفس دخان احتراقي) هنا يستحق شاعرنا أن يلبس يلبس عباءة الشعر بجدارة لهذا التمكّن والبلاغة واللغة الماتعة.

لم يذكر الشاعر هنا الموت ولكنه ألقى على القارئ شبحَه بلغة سامقة وصور غاية في الألم والجمال في آن معا.

الفقرات الفلسفية في الديوان كثيرة ولكني اكتفيت بالتنويه إليها بما سبق.

التكرار في ديوان بسيسو

التكرار في ديوان الشاعر بسيسو أخذ أكثر من بعد، تكرار المفردات، وتكرار الجمل، وتكرار المعنى والفكرة.

النوع الأول والثاني وجدناه في كثير من الكلمات والجمل مثل ( المنفى، الغياب، الوطن، المطر، المقهى، القهوة، المقعد، الحيرة، الغموض، البحر، الماء، القصيدة، الجسد، الوجوه، التفاصيل، لي غموض التجربة، فنجان القهوة، تحت المطر، في عزلتي…. وكثير من المفردات والجمل مثلها)

أما من حيث الأفكار والمعنى فقد أستطيع أن أتناول ذلك في موضعين على سبيل المثال وذلك بين قصيدتين، قصيدة ( فيما يرى الغرباء) وقصيدة ( أشتاق لاسمي)

ففي قصيدة (أشتاق لاسمي) يقول الشاعر:

(وكنت في عزلتي وبرد الحافلة أنقب أحاديث متخيلة بين الوجوه)

(أحاول التحرر من سطوة الرماديّ في الخارج)

(وأكتب كيْ أطرد مني العزلة ليولد طفل اللغة من صمتي، يردد الأبجدية حرفا حرفا إلى تشكل الكلمات)

ويقول عن النادلة ( تتصفح إيقاع الحروف على عجل كأنها تحاول اكتشاف وجه آخر لي بين الكلمات) ( قبل أن تطلَ بضجر .. تنظر في فراغ فنجاني)

ويقول في قصيدة ( فيما يرى الغرباء)

( كجثث عارية مضغها الهواء البارد، جسد من أرق وحيرة)

( كلما بلغ البحر المنفيّ أقصى البرد، تجمع في ثناياه بحثا عن طرق بديلة لاستعادة اليابسة)

( يخرج من شحوب الصمت ليعتنق المخيلة ويمضي موغلا في الصور، علّه يصافح أناه)

(يعاند السرد على الطاولة الموغلة في العزلة ويعيد المحاولة)

( يخرج من المنفى إلى القصيدة)

( ويبتكر فصلا إضافيا من مطر وشمس علّه يمنح الوقت لغته الغائبة)

ويقول في النادل ( فيما النادل مشغول باسترجاع فنجان القهوة الفارغ يتأمل وجه الغريب على الأوراق)،

ولو تأملنا الفكرة في القصيدتين نجدها تكاد تكون واحدة، وحتى المكان فالمقهى في القصيدتين كان مشتركا وهنا ضعف في جانب وقوة في جانب آخر، فالتكرار للألفاظ والمعاني والجمل يعتبر ضعفا إن كان غير ضروري، ولكن القوة أن تكتب ذات الفكرة بجمل شعرية مختلفة وأنيقة، وكأنّ الشاعر يريد أن يقول أنني أستطيع أن أرسم مشهدا أمامي بألوان صباحية وألوان مسائية لنرى المشهد بصور شتى.

هذا طبعا إذا نظرنا للقصيدة الواحدة كوحدة مستقلة عن أخواتها، أما إذا عدنا لفكرة القصة التي تحدثت عنها سابقا لوجدنا التكرار كان في محله لأنه كان يروي حدثين منفصلين في عمر هذا الغريب فكانت كل قصيدة كأنها فصل في مسلسل أحداث وهذا يلغي فكرة التكرار للمعنى ويعزز فكرة القوة في الصياغة.

القهوة والمطر في الديوان

تكاثفت السحب في ديوان شاعرنا حتى نزل المطر في أغلب قصائده وغابت الشمس عنه إلا قليلا وعند البرد وغياب الشمس كان يلجأ إلى فنجان قهوته ربما أشعرته القهوة بالدفء المغيّب وربما صنع من هذا الفنجان كائنا يطرد به الوحدة ويقتل بارتشافه العزلة.

مطر كثيف كأنه الدموع تبلل الورق عند كتابة الوجع وعندما يشتدّ المنفى عليه.

فهل أسعفه المطر وهل ساعدته القهوة في دحر الصمت والبرد؟

المرأة في ديوان بسيسو

غابت المرأة في كثير من قصائده تماما كما غابت الشمس، وهذا ربما سبب ذلك البرد القارص الذي لفّ القصيد وأرهق الغريب فصار بين غيابين وبين غربتين وربما بين بردين.

فما سبب هذا الغياب وهل غابت المرأة أم غيبت عن السطور؟ سؤال آخر يروادني عن نفسي.

قراءة في بعض القصائد

قصيدته الأولى التي افتتح بها ديوانه تكشف ملامح الديوان كما ملامح وجه الغريب وهي بداية موفقة وذكية تقول للقارئ هذا ما ستجده في باقي الصفحات، السفر، الغياب، والمنفى كلها ملامح ارتسمت على جسد القصيد.

في هذه القصيدة والقصائد الثلاثة التي بعدها كما في غيرها يجلس الشاعر مع نفسه ينسلخ عن الوقت وعمّا حوله ليكتب وجع الغريب، ويتكرر المشهد كلما أتعبته حقيبة السفر وصخب المدن وضباب المنفى.

فلماذا المقهى والنادل ولماذا الهروب إلى ذلك المقعد في كل وجع؟

ماذا كان يجد في وجه النادل؟ وهل كان المقهى ملجأ من لا ملجأ له؟

أم كان المقهى والنادل مرآة لنفس الغريب وكانت القهوة لغة التفاهم بينهما؟

عادة ما يسعى النادل إلى رضا الزبون فيراقب انفعالاته ومدى ارتياحه للخدمة، وهنا الشاعر يجعل المألوف غير مؤلوف…وهذا ليس غريبا على غريب في غربة فكل ما يكون من أمره غريب.

هو يراقب النادل، إن كان مبتسما أو مكفهرا أو متسرعا، وكل ذلك ينعكس على أدائه كشاعر، وهنا شدة الاغتراب فالنادل بدا كأنّ حاله أفضلُ من حال الغريب.

وكما أن لوجه النادل صوره، كان كذلك للقهوة مذاقها المرتبط بوجه النادل، وهذا الوجه وهذا المذاق يقرران سير القصيد.

وربما أغلق دفتره وأخرس قلمه، وربما أعلن ميلادا جديدا لإشراقة حرف.

وهذا يفتح بوابات الاسئلة فما سرّ القهوة والنادل والنادلة في هذه القصائد؟

وهل لهذه المسميات نصيب من المجاز ومعنى غير الذي فهمناه؟

وطبعا يبقى المعنى زهرة مخبّأة في قلب الشاعر لا نراها ولكن يصلنا رحيقها.

حتى وهو بين الناس في حافة أو مقهى أو في الشارع، كانت تحتويه الغربة ويسيطر عليه شبح الوحدة، ويذهب في البعيد.

ويمرّ الغرباء من أمامه كطيف عابر، بعضهم يترك في نفسه شيئا، وبعضهم يمرّ كلا شيئ، ولكن لكلّ منهم في وجدان الشاعر ظلّ وتجربة وكلمة قد تقال.

وهذا نستنتجه بربط بسيط بين ثلاث جمل في قصيدة ( التجربة) صفحة 17،

يقول ( كلما جلست إلى فنجان قهوة) ويقول ( حضور العزلة فيّ)، ويقول ( ودور الغرباء في التأمل والكتابة)، هذه الجمل الثلاث مثلث إبداع وأسلوب خاص خطه الشاعر لنفسه، فالجلوس للقهوة سكينة وهدوء ودفء وكلها مدخل ضروري للقصيد،

ثم حضور العزلة حيث التجرد من كلّ شيء والذهاب إلى سوق عكاظه، ثمّ بعدها يأتي دور الغرباء وهم المحيط به ليكتبهم بتأملاتهم ويكمل بذلك القصيد.

( مقعد بصحبة القهوة وعزلة وتأمل غرباء) ثالوث القصيد حتى الآن وهذا يتكرر كلما سرنا قدما بين دفتي الديوان. ففي قصيدة ( أشتاق لاسمي) يقول ( مقعد في الحافلة، وجوه، ومشيت وحدي) وبعدها ينطلق حصان القصيد بالتأمل بين الوجوه ( أنقب عن أحاديث متخيلة بين الوجوه).

هو يرى خلف كلّ وجه قصة وغالبا تكون قصة متخيلة ومرتبطة بذاكرته، وقد تكون قصصا حقيقية ترصدها عينه التي بدورها ترسلها إلى ذاته على مقعد عزلته فيكتبها حكاية.

ويقول في صفحة 22( وأقفز بين الوجوه، فتسرقني الريح، إلى متاهات عدة، لأجدني على كرسيّ خلف طاولة في المقهى) وبذلك يكتمل المثلث بربط ما كان بفنجان قهوته.

ثمّ يقول: ( المبنى في المقهى يتسع لمدينة) هنا تتجلى رؤية الشاعر للأشياء بعين مختلفة، هو يرى المدينة عبر الزجاج فيأتي التصوير الجميل كأنّ هذا المبنى الصغير يتسع لكل المدينة بما أنها تحت بصره.

( الطاولة مدورة كأنها لقنة في بطن حوت) أظنها صورة أقلّ إبداعا من سابقاتها لعدم تطابق التشبيه.

يقول أيضا ( ألتصق بي) هذه كانت صورة موفقة جدا فحلة العزلة التي دخلها الشارع تجعله لا يجد أحدا في ذلك البرد ليلتصق به سوى نفسه وبرفيق غربته وتوأم روحه فنجان قهوته.

يقول الشاعر ( إيقاع غامض لا يشبهني )، صورة أخرى موفقة والتفاف ذكيّ على الفكرة، وبعد عن المباشرة، فالصوت فيه إيقاع واللكنة الأجنبية فيها الغموض، وهذا الغموض في ذلك الصوت لا يذكر اسمه كما عرفه هو فكان لا يشبهه، والربط هنا كان غاية في الابداع.

ولأن النادلة لا تتقن لفظ الاسم كما يعرفه هو، رآها وهي تحاول اتقان اللفظ كأنها تروّض حصانا بريا، فيقول ( كأنها تروض لحنا بريا) ولأن الترويض كان يخص الصوت فقد أدخل كلمة اللحن وهنا أود أن أتوقف قليلا على هذا الربط المتقن بين المفردات لتخرج الصورة والتركيب بأبهى الحلل. أقولها للأقلام المبتدئة أنْ هكذا تكون الصناعة، فأتقنوا صناعتكم.

ثمّ وبحنكة القاصّ يخلق الشاعر حوارا وصراعا من نوع خاص بينه وبين نفسه وحركة النادلة وذلك بإعادة صياغة الكلمات وربما بترديد أغنية شرقية أو بيت شعر عربي ليعود إلى شرقه الحبيب، فلا يعتاد اسما مشوها وهنا يبرز السؤال مجددا، ما دام السرد القصصي موجود والشخوص والحوار والمكان والزمان والتشويق والحبكة كلها في قصيدة واحدة، فأين الرواية من عالم الشاعر إيهاب بسيسو؟

وشارك في النقاش عدد من الحضور منهم: عبدالله دعيس، رائدة أبو الصوي وسوسن عابدين الحشيم.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات