“حمار الشيخ”نقد لاذع يدعو الى التغيير بقلم:عبدالله تايه

&

كتاب يتضمن أكثر من مائة من المقالات التي كتبها الكاتب جميل السلحوت في عموده في صحيفة “الحياة الجديدة” تحت عنوان “حمار الشيخ” منذ العام 1994م وحتى العام 1999م وضمنها آراء نقدية حول مختلف نواحي الحياة ، وأدخل في هذه المقالات الحمار “أبو صابر” رفيق حوار ونقد . والكاتب من مواليد جبل المكبر سنة 1949م . له “صور من الأدب الشعبي الفلسطيني” دراسة صدرت عن دار الرواد ـ القدس سنة 1982م . وكتاب “مضامين اجتماعية في الحكاية الشعبية” صدرت عن دار الكاتب ـ القدس 1983م . والمجموعة القصصية “المخاض” ، منشورات اتحاد الكتاب ـ القدس 1989م .

يوضح الكاتب سبب اختياره لصحبة حماره الذي سماه “أبو صابر” وتفضيله لصحبته على صحبة بني الإنسان لوفاء وميزات الصبر لدى الحمار ، فتنقّل معه وعلى ظهره إلى كل مكان أراد أن يوجه له رأياً أو نقداً ، وكان حماره على الدوام معينا له ومحاوراً فطناً . يقول الكاتب : “أثناء قراءتي لديوان الشاعر الذي يكاد النقاد يجمعون أنه أشعر شعراء العربية على مر العصور ، اكتشفت أن هذا الشاعر مع إقراري بشاعريته الفذة كان جاهلاً ، عندما قال :

أعزُ مكانٍ في الدُّنى سرجُ سابحٍ وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

فيبدو أن حكمته هذه كانت تناسب عصره ، أما عصرنا نحن فلم يعد عندنا رجال يُسرجون على الخيل ولا نقتني الخيل التي يُسرج عليها الرجال ، أما أنا فقد وجدت أن (خيرُ جليسٍٍ في الزمانِ حمارُ) لذا قررت أن أعتزل المطالعة وأن أحرقَ كافة كتبي وأن أضع العزيز منها على رفوف عالية لا تطولها أيدي أبنائي خوفاً من أن تفسد عليهم ولاءهم للمرحلة القادمة وإذا بحماري وكاتم أسراري يسألني : ماذا ستفعلون بالأدب الذي كنتم تطلقون عليه (أدب المقاومة) أو (الأدب الثوري) والكتب التي تدعو إلى الوحدة العربية و …. الخ هل ستطلقون عليها (الكتب الصفراء) كما فعلتم بغيرها سابقاً ، أم ماذا ؟ فأجبته بأنه رأى جوابي عن سؤاله بأمَّ عينيه ”

ودول حوض البحر المتوسط ، وجنوب شرق آسيا ، والدول الأفريقية ، ومناطق أخرى كثيرة ، لا تخلو من وجود الحمير . ولأن الحمار من الدواب المفيدة ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من موضع ففي سورة النحل آية (8) قال تعالى : “والخيل والبغال والحمير لتركبوها ” و “كالحمار يحمل أسفاراً ” لكن “حمار الشيخ” حمار نبيه متيقظ ، كثير الأسئلة والاستفسارات ويطلق بعض الناس الاسم (حمار) على بعضهم في مواقف النعت بالجهل ، وجاء في رسائل الجاحظ الجزء الأول والثاني في كتاب ـ البغال ـ أكثر من 181 صفحة عن البغال ، وورد فيها أن سليمان بن علي قال لخالد بن صفوان وقد رآه على حمار : ما هذا يا أبا صفوان ؟ قال : أصلح الله الأمير ، ألا أخبرك عن المطايا ؟ قال : بلى . قال : الإبل للحمل والزمل ، والبغال للأسفار والأثقال ، والخيل للطلب والهرب ، والبراذين للجمال والوطاءة ، وأما الحمير فللدبيب والمرفق .

ويقول الكاتب جميل السلحوت في التفريق بين سلوك الحمير وسلوك الإنسان : “ومن اكتشافاتي التي تثبتها الحقائق على أرض الواقع أن الحمير تعتز بحمرنتها أكثر من اعتزاز بني البشر بإنسانيتهم . أما أنا فإنني أجد أن حمرنة الحمير أكثر أصالة من إنسانية البعض فالحمير لا تخترق حقوق بني جنسها وتعتبرها من الأمور المسلم بها لأنها فطرت على ذلك . أما بنو البشر فإنهم كعالم الحيوان المفترس البقاء عندهم للأقوى ، فالقوي من البشر يضع قانونه كما يشاء ويحدد حقوق الإنسان كما يشاء أيضاً . ولذا فإنه يحصد أرواح الآلاف من بني جنسه لاختلاف في الجنس أو اللون أو المعتقد وهذا ما لا يوجد في جنس الحمير” .

ومن سخرية الكاتب من انتشار الهاتف الخلوي بين الناس الذين لا حاجة لهم إليه قوله :

“ومما يلفت الانتباه هذه الأيام انتشار الهاتف الخلوي بشكل ملفت للانتباه فرجل الأعمال والذي بلا عمل وحتى ربات البيوت أصبح الهاتف الخلوي ملازماً لهن ، وحتى أن البعض ممن لا يملكون شروى نقير وينامون على الحصير ، ولا تجد في بيوتهم خبز الشعير ، لا يسيرون إلا والهاتف الخلوي بيمناهم أو مسلحين به على خواصرهم” .

وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة تسمى (دلدل) وحمار يسمى (يعفور) وقرأنا حكاية حمار العزير الواردة في القرآن الكريم والتي كانت أجمل وأدهش آية حتى يتيقن العزير من قدرة الله على إعادة الخلق ، فصار الحمار من الحيوانات التي ستدخل الجنة ، قال الله تعالى : “كالحمار يحمل أسفاراً” ، وارتبط الحمار بالجهل أما “حمار الشيخ ” فيتصف بالفطنة والعين الناقدة والأذن الطويلة التي تلتقط هموم الناس وهو ليس مثل حمار الحكيم (توفيق الحكيم) الذي يقول على لسان الحمار:

“وجهلي جهل بسيط وجهل شيخي جهل مركب ”

فالحمار يشكو جهل شيخه الذي يركبه حتى أنه يتابع متظلماً “فمتى ينصف الدهر وأركب” .

ومن صفات الحمير الصبر ، و”حمار الشيخ” لا يصبر على ضيم ولا فساد ولا استغلال ، يقول الجاحظ أن من الخطأ حث الحمير على المشي والسفر بقولنا (حا) يذكر أن (حا) تقال للجمل ويقال (سأسأ) للحمار ، فقد سخر الأعرابي من صاحبه ورماه بالجهل قائلاً :

يقول للناقة قولاً للجمل يقول حا ثم يثنيه بحل

فصاحبه هذا أخطأ حين كان يقول (حا) للحمار في حين أنها تقال للجمل . وجاء في المعجم الوسيط : الحمار حيوان داجن من الفصيلة الخيلية ، يستخدم للحمل والركوب ، كما يقال للحمار عَرْد ، وإذا كان البعض لهم في مظهر الحمار رأي فما رأيهم بالغراب ؟ غادة السمّان الكاتبة المعروفة وضعت على غلاف أحد كتبها صورة الغراب لأنها رأت فيه مظاهر جمالية ، واعتبرته مظلوماً من الإنسان بوصفه نذير شؤم ، سألت أصحاب عن حكاية الحمار الذي نقول في وصفه (حمار قبرصي) قال أحدهم : أنه عاش في قبرص متنقلاً أكثر من عامين لم ير خلالهما حماراً ، يبدو أن التسمية قديمة دلت على قوة وصبر وجلد هذا النوع الذي انقرض هناك ، وكاتبنا في “حمار الشيخ ” جعل من حوار الحمار الذي اصطحبه في كافة الموضوعات التي طرحها بأسلوب طريف مجالاً لفكاهة النقد السياسي والاجتماعي والإنساني .

يذكر الكاتب كيف صنف له حماره الناس ، فئاتهم ومعادنهم ، بعد أن دخل الكاتب المستشفى وخرج متعافياً : “اسمع يا أبا صابر لن أسمح لك بالتطاول على أهلي وأصدقائي وإذا كنت فهيماً إلى هذا الحد فكيف تقيم أنت الأهل والأصدقاء ؟ فقال أبو صابر: من خلال المحنة التي مررت بها فأني وجدتهم ثلاثة أصناف هي : الصنف الأول : الصديق الصدوق الذي يكتم سرك ويحفظ غيبتك ، ويستر عورتك ، ويقف سداً منيعاً أمام من يحاولون التطاول على حدودك . أما الصنف الثاني : فهم الصديق العادي وهؤلاء فئة يريدون لك الخير ، وإن كانوا لا يكترثون بحصوله أو عدمه . أما الصنف الثالث والأخير : فهم الصديق اللدود وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين : القسم الأول : وهو الذي أقسم ولا يزال يقسم أغلظ الإيمان بأنه لم يعلم عن وجودك في المستشفى أثناء وجودك على سرير الشفاء ولا بعد خروجك منه ، وهؤلاء يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا عليك ، لكنهم عندما يرونك ينهالون على وجناتك قُبُلا . فهم مراؤون ، منافقون ، مخادعون ، كاذبون ، والعياذ بالله منهم ومن شر صحبتهم . القسم الثاني: فهم من أفنيت عمرك تستر عيوبهم وتبدل سيئاتهم حسنات ، وكنت الجدار المنيع الذي يحميهم
، غير أنهم لم يحفظوا عهداً ولا أبقوا ودا ، والسبب هو عقدة النقص التي يعانون منها ، ولا أمل في إصلاحهم لأنهم يعادونك دونما سبب ورحم الله المتبني عندما قال :

ولا تطمَعنَّ من حاسدٍ في مودةٍ وإن كنت تُبديها له وتُنيلُ

جاء في المعجم الوسيط : الحمار حيوان داجن من الفصيلة الخيلية ، وفي لسان العرب قيل عن الحمار أنه النهاق من ذوات الأربع أهلياً كان أو وحشياً ، و”حمار الشيخ” نهاقاً يلفت النظر إلى الخصال غير المستحبة في ناس اليوم ومعادنهم ، ولا يكتفي بالإشارة بل يوجه نقده اللاذع لهم ، وها هو يسخر من انتشار الدجالين الذين يعالجون الناس بطرق فيها من النصب والاحتيال ما فيها لابتزاز الناس ، فيتناول الكاتب الموضوع في أسلوب فكاهي داعياً إلى اجتثاثهم ويسخر منهم ويرمي بالسؤال تلو السؤال بعين ناقدة وانتباه طريف .

وكتاب “حمار الشيخ” الذي أصدره الكاتب جميل السلحوت وجمع فيه مقالاته الناقدة في حواراته مع الحمار تناول مواضيع مختلفة من ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية وعلمية وأدبية وقانونية ، وقد اتخذ من هذا الأسلوب الحواري طريقة للحديث حول الأمراض الاجتماعية ، والهموم الإنسانية ، والأوضاع السياسية ، والاقتصادية ، بأسلوب ساخر ناقد فيه فكاهة مصحوبة بآراء جادة ، وقد أنطق الكاتب “حمار الشيخ ” بما يعتمل في نفسه وما يجيش في داخله من غير مباشرة ولا خطابية ولا الألفاظ المعتادة من مثل (يجب أن .. علينا ..لا بد .. يستلزم .. إلخ ) التي يفر منها القارئ حتى وإن كان الموضوع هاماً وجاداً فضغط الحياة اليومية ومشاكلها وتعقيداتها التي تزداد يوماً بعد يوم تجعل من مثل هذه المعالجات في ” حمار الشيخ” تشبه الطرائف والفكاهات الساخرة التي تلفت النظر إلى الآراء وأوجه النقد والأمراض الاجتماعية دون نفور وبأسلوب محبب شيق ، فيضفي على القراءة جواً من الانبساط وليس الانقباض .

وحول الأوضاع السياسية نجد أن “حمار الشيخ” لا يروق له الحواجز التي يضعها الاحتلال للتضييق على تحركات المواطنين فيقول الكاتب : “قررت هذا اليوم أن أقوم بجولة في بعض قرانا كي أزور بعض الأصدقاء فامتطيت حماري وأنا أقول يا ألله يا كريم يسر لي أمري وسهل لي مهمتي فما دام الاحتلال موجوداً فإن حرية التنقل في وطننا ضرب من المقامرة ، فالحواجز العسكرية الثابتة على الطرقات والطيارة والدوريات العسكرية عدا عن المستوطنين والمستوطنات الذي ينخرون جسد الوطن كالسرطان لا يتركونك وشأنك” .

ويرى الكاتب أن الدوائر تدور على الجميع حتى وصلت إلى الحمير ، لذا نرى حماره يتظاهر بالمرض ، والتفت الكاتب إلى ظاهرة اجتماعية متفشية في بلادنا وهي ظاهرة التبوييز أو كما نقول التكشير .. فصارت الوجوه عابسة والناس مقطبي الجبين يستنكرون ويستكثرون على بعضهم مجرد الابتسام فما بالك بالضحك؟! ، وقد أفرد الكاتب لهذه الظاهرة مقالة يوضح بعدها الاجتماعي وينقدها ويسخر منها …وغيرها كثير من هذه المظاهر في حياتنا.

ولا شك أن كثيراً من الكُتاب في أزمنة سالفة قد استخدموا الحيوانات والطيور في حكايات على لسان الطير والحيوان ضمنوها الحكمة والنقد والرأي والمشورة وحسن التخلص والوفاء ورفض الظلم ومصائر الظالمين وكذلك صفات عديدة في الحث على الفضائل واجتناب القبائح والصفات الذميمة وأحاديث حول طباع الإنسان في حكايات عن الحيوان ، بعضها خوفا من عسف وظلم وبطش السلاطين الظالمين الجبابرة المتكبرين ، وبعضها تسلية أو تربية وتهذيباً للنفوس والأخلاق بأسلوب طريف يحبه الناس ويقبلون عليه ، مثل حكايات كليلة ودمنة وطوق الحمامة وغيرها .

إن هذا اللون من الكتابة الساخرة التي تتناول جوانباً هامة في حياتنا بمظاهرها المختلفة هو أسلوب أدبي جديد ونادر على كتابتنا الفلسطينية ، ويضفي على المقالة طرافة مع إعمال للفكر وتبصير بمواطن الداء وحث على التغيير .

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات