بدون مؤاخذة- مقام النّبيّ موسى تاريخ وحضارة

ب

من المعروف تاريخيا أن القائد الاسلامي الشهير صلاح الدين الأيوبي هو الذي ابتدع موسم النبي موسى، وذلك بعد قضائه على مملكة الصليبيين في فلسطين .والأيّوبيّين هم من شيّدوا مقام النّبي موسى -عليه السلام- في المنطقة الواقعة بين القدس وأريحا، وغيره من المقامات الدّينيّة في فلسطين خاصّة وفي بلاد الشّام عامّة.
وقد اختار القائد المجاهد صلاح الدين الأيّوبي أن يكون هذا الموسم في شهر نيسان-ابريل- من كل عام، وكان الموسم يمتد حوالي أسبوعين، وقد أخذ المجاهد صلاح الدين الاعتبار حين تحديده للموسم في هذا الوقت تواجد عدد كبير من الحجاج المسيحيين في المدينة المقدسة، وذلك للاحتفال بأعياد الفصح . وكان القرويون يتهافتون على القدس للمشاركة في هذا المهرجان، فيستمتعون بالمناظر الخلابة، ويقومون بالرقصات والزفات الشعبية، ويستذكرون أمجادهم الغابرة . ومعلوم كذلك أن مقام النبي موسى الذي اختاره المسلمون؛ ليكون ضريحا لهذا النبي ما هو إلا دير بيزنطي قديم لمعلم القديس – مار سابا – المسمى بالقديس استفانوس، وقد حوله الى مسجد الظاهر بيبرس، بعد أن زاد فيه القباب والمآذن، واستعمل المقام كمكان إقامة للمسلمين الذي كانوا يشدّون الرّحال إلى المسجد الأقصى في موسم الاحتفالات من البلدان البعيدة كالهند وباكستان وأفغانستان.
وفي أواخر الحكم العثماني في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، اتخذ الموسم مسارا قوميا جارفا ضد المستعمرين الانجليز والحركة الصهيونية، التي كانت تبيّت لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان يقود المهرجان مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، وسط موكب من البيارق والرايات، لكن الإشارة تجدر الى أن موسم النبي موسى، قد انقطع في عام 1939 وأخذ الناس يكتفون بالزيارة فقط .
مركز لعلاج المدمنين
وفي ثمانينات القرن العشرين اتّخذت إحدى الجمعيّات المقدسيّة جناحا من المقام لفطام وعلاج مدمني المخدّرات تحت إشراف أحد المشايخ. واستعملت طرقا بدائيّة في ذلك من خلال وضع “المدمن” في غرفة يغلقونها عليه، ويحرمونه من الطعام والماء لعدّة أيّام؛ ليصبح تركيزه على ما يبقيه على قيد الحياة أكثر من تركيزه على المخدّرات! وقد شاهدت ذلك بأمّ عيني عندما زرت المقام عام 1991 لعمل تقرير صحفي عن ذلك الموضوع.
زمن السّلطة الفلسطينيّة
وعندما قامت السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994،أعادت إحياء الموسم الذي استمرّ حتى العام 2002 عندما اجتاحت قوات الاحتلال المدن والبلدات الخاضعة لسيطرة السلطة. حيث خصّصت يوما لكلّ محافظة ، فيأتون جماعات ووحدانا، يحتفلون ويتعبّدون. وكان يشرف على أيّام الموسم من حيث التّرتيب والتّنظيم محافظا القدس وأريحا.
وقد عيّنت وزارة الأوقاف الدّينيّة في السّلطة الفلسطينيّة قيّما على المسجد، يرفع الأذان ويقيم الصّلاة في أوقاتها.
غير المتوقّع
وذات يوم من عام 1999 -كما أذكر- جاء إلى مقر محافظة القدس من يشكو أنّ القيّم على المقام، الذي كان يرتدي الجبّة والعمامة ويطلق ذقنه ويحلق شاربيه، قد أدخل إلى المقام عشرات الأرانب، وعشرات من طيور الدّجاج، فتوجّهت أنا ومحافظ القدس المرحوم جميل عثمان ناصر إلى المقام لاستطلاع الأمر، وتأكّدنا من صحّة الشّكوى، وتحدّثنا مع القيّم على المقام الذي حاول الدّفاع عن فعلته الشّنيعة، فحاول تبريرها بجهله عندما تساءل أمامنا:” من الأفضل أن نسمع عند صلاة الفجر صياح الدّيكة أم نباح كلاب البدو؟” ولم يرضخ لطلبنا بإخراج الدّجاج والأرانب من المقام إلا بعد تهديد المحافظ له بفصله من عمله وتقديمه للمحاكمة.
الجريمة المنكرة
لا أعلم حقيقة إن كان موظّف الأوقاف القيّم على المقام لا يزال موجودا أم لا؟ وإن تمّ الإستغناء عنه فإنّي أتساءل بقوّة عن أسباب ذلك؟ وإن ما زال موجودا فأين كان ليلة 25 ديسمبر الحالي عندما أقيم الحفل الماجن المستنكر والمدان في المكان الطّهور؟ وهل هناك فعلا جهة رسميّة سمحت بإقامة حفل العار هذا؟ وفي الأحوال كلّها يجب وضع النّقاط على الحروف، من خلالة تحديد المسؤوليّة عمّن سمح وعمّن أقام الحفل الماجن وعمّن شارك فيه وتقديمهم للمحاكمة؛ لينالوا العقاب المناسب، فالمكان مقدّس وله حرماته التي لا يجوز تجاوزها أو انتهاكها تحت أيّ مبرّر.
إنّ انتهاك حرمات الأماكن المقدّسة جريمة بكلّ المقاييس، والتّهاون مع من يمسّون بالمشاعر الدّينيّة جريمة أيضا.
ونظرا لأهمّيّة مقام النّبيّ موسى -عليه السّلام- الدينيّة والحضاريّة والتّاريخيّة، فقد قمت أنا وابن بلدتي الدّكتور محمد شحادة بجمع وتوثيق ما استطعناه جمعه عن موسم النبي موسى، كما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا في عرب السّواحرة، وضمنّاه في كتابنا “صور من الأدب الشذعبيّ الفلسطينيّ” الصادر عن دار الرّوّاد في القدس عام 1982. ونظرا لأهمّيّة الموضوع، فإنّني أعيد نشره في هذه المقالة.
موسم النّبي موسى في تراث السّواحرة
وكان أهلنا في السواحرة من بين المشاركين الرئيسيين في هذا الموسم ، حيث كانت لهم أغانيهم التي نحن بصدد تدوينها. كانت أغاني السواحرة تتسم بالروح الوطنية والنخوة والشهامة، فهم لأجل القدس، يبيعون أرواحهم فالبلاد لنا ، والقدس لنا ، أما الدخيل فليس له الا أن يترك أرضنا ويرحل :
عقيدنا منّا وفينا***على الحرايب كزِّنا
عينيك يا القدس الشريف***عندك لنبيع أرواحنا
صهيون وش لك عندنا *** روس السيوف محنيّه
هاذي البلاد بلادنا *** وبلاد أبونا وجدّنا
وما دمنا ابتلينا بالانتداب والاستعمار فليس لنا سوى الكفاح والصبر :
والحرب إلـُه درج درج*** والصبر مفتاح الفرج
وفي موسم الزيارة، كان المحتفلون يرددون التّهليل والتكبير في طريقهم، إلى مقام النبي، بينما يدعون لمن زار هذا المقام أن يعقبه لزيارة المسجد الابراهيمي في الخليل :
يا زو ار موسى وزوروا بالتهليل***وزوروا النبي موسى وعقبى للخليل
وكان الرجال يهزجون بأغنيات الثورة على هذا النحو :
يا شعبنا لا تهتم *** ورجالك في حرب وسلم
واحنا رجال الثائرين*** أكـّالين الخبز والتين
فالثوار كانوا يبتعدون الى رؤوس الجبال بعد أن ينزلوا بالمستعمر ضرباتهم وهناك لا يأكلون الا الخبز وحبات التين التي يلتقطونها عن شجيرات التين في رؤوس الهضاب .
قل تسمع يا صكّ البزر*** من كفّ عيال الشجعان
يا شيخ واحنا عزوتك*** لن أجى الشّاري يشتري
واتغلى بينا ولا تبيع*** نفزع لمدينتنا
يوم المدافع يرعدن
يوم المدافع يرمزن
وهذه الأغنية تحتقر الجبن أيام المعارك والدفاع عن الأرض والوطن ، فما قيمة الحياة بدون كرامة ، فمن لا أرض له ، لا وطن ولا كرامة له :
يا قاعد بين الحريم*** خايف على حالك تموت
واللي يموت خليه يموت*** والموت ولا الذليه
ولا هالعيشة الرديّه
وسعيد من ذهب لزيارة المقام، والكل يسأله عن أوصاف حجارة قبر النبي وقبته :
يا عمّنا يا بو خليل*** وافتح لنا باب الخليل
وافتح لينا باب الخليل*** تيعدّوا كل ارجالنا
****
يا زايرين النبي وش وصفة حجاره ***سعيد من راح لقبر النبي وزاره
يا زايرين النبي وش وصفة القبه***سعيد من راح لقبر النبي وحبه
وحتى الشيوخ الطاعنين في السن، صناديد وأبطال، لأجل نصرة القضية :
هاذي فلسطين حايطها بحر مالح*** فيها شيابها أبطال وجوارح
ولننظر هذه الأغنية التي تستهزأ بتعدد الزعامات والقيادات وتدعو الى الوحدة الوطنية :
يا قفّة الرّز ميلي ع العدس ميلي
كلنا روس ما فينا قنانير
****
ي القوقه”البومة” تجمع خشب والقبرة نجار
حتى الفسيسي فيده حامل منشار
ومن الأغنيات في موسم النبي موسى هذه الأغنية :
بالله يا خاتمي *** يا اللي أخذوك الناس
خذوك مني ذهب***ردوك عليا نحاس
وأغنيات في الحب والغزل :
ثلاث حمامات راحن للسما العالي
راحن يجيبن دوا لوليفي الغالي
وكأننا بأهلنا كانوا يطلقون أحياناً على فلسطين اسم حمده ، كما يفعل الآن بعض الشعراء فيلقبونها بـ ليلى كما في أشعار عبد اللطيف عقل أو سلمى كما في أشعار عبد الكريم الكرمي أو جفرا كما يفعل ذلك عز الدين المناصرة :

ملعون أبوه اللي ضرب – حمده – وبكاها
شلت يمينه ويا ريت الدود يرعاها
ولننتقل الى أغانٍ أخرى تدعو الشباب الى اليقظة وشحذ العزائم :
يا مطرق اللوز***يا ما قلبك غاوي
ارخيص لا تشتري*** دور على الغالي
****
شباب قوموا العبوا***والنوم وش منه
والنوم ملحوق عليه*** والموت ما عنه
****
شباب طل من*** الشرق صايح
شباب هيل المروه*** بوشكم رايح
ومره أخرى غزل غنائي بالفتيات وهذه المرة ببنت شيخ العرب :
يا بنت شيخ العرب*** يامّ العباه السودا
وابوكِ شيخ العرب*** حاكم على العوجا
ويا بنت شيخ العرب*** يامّ العباه الزرقا
وابوكِ شيخ العرب**** حاكم على البلقا
أما الأطفال فيودعون الذين يذهبون الى الموسم في هذا الحداء :
يا جمال ابو علي*** سلمن على النبي
والنبي قدامكن*** الله يجير اصحابكن
وهذه أغنيات الموسم ، حيث التضامن مع الأهل في القرى المجاورة *وحيث الدعوة الى الدفاع عن البلاد والمقدسات ضد الطامعين :
الهجن ي وليد الهجن*** الخيل السبق يرجدن
احنا نفزع لمدينتنا ***يوم المدافع يرعدن
صهيون جرد جنوده*** يريد يحتل المدن
المفتي يريد الحرب*** يذبح الصهيوني الكفاره
يريدون براق الحرم*** ويعملونه مزاره
****
يا حرّى على صور باهر*** حامت عليها الطياره
قل وين الزلمه الطيب*** يصمد ويحمل حماره
صور باهر ما نتعداها *** لو انا نموت بجواها
وفيما يلي أغاني الدلعونا في الموسم :

سيدي يا موسى ما أبيض حجارك
لولا الصبايا ما حدا زارك
***
سيدي يا موسى زرتك بنيه
والسنه يا سيدي الصبي ع ايديه
والله ما فوتك يا نور عيني
لو قطعوني لحم بصحونا
***
ومن باب الشباك لرميلك حالي
قل وانت السبب في اللي جرالي
ولروح للطبيب تيشوفوا حالي
قللي ومفارق نور العيونا
وهذه المواويل :

أوووف ، أووووف ، أوووووف
قل يا شجره في البيت وحاميكِ نمر
تكسرت الغصون من كثر الحمل
أوووف ، أووووف ، أوووف
قولوا حنا زرعنا الزرع واجا غيرنا وضمن
يا حسرتي غير التعب ما نالنا
أوووووووف …..
********
أووووف أووووف أووووف
قل ويا شجره في البيت وحاميكي اسد
قل يا ويلنا احنا زرعنا واجا غيرنا حصد
سوى التعب يا خيتي ما نالنا
أووووف
ورويت لنا هذه الحادثة الطريفة التي حدثت في احد مواسم زيارة مواسم النبي موسى، وقد كانت احدى النساء من بنات عرب لسواحرة وهي فتاة جميلة جدا تشارك في ذلك الموسم ذات مرة، وبينما كانت وسط الجموع هناك رآها احد الشباب من خارج السواحرة، ولكثرة جمالها قام وقطع بخنجره ” صفّة ” الفضة التي تلبسها على رأسها، فرآه عوض علان احد شيوخ السواحرة، فقام اليه على الفور وقطعه بسيفه نصفين دون ان يعرفه أحد، الا أنه بعد عشرين سنة من مقتل ذلك الشاب في الحداثة تبين ان أهله قد اهتدوا الى القاتل، وجاءت الجاهة والوجاهة وطيب السواحرة على القتيل، والطرافة في الحادثة إضافة الى ما تقدم هو انه اثناء وقوع الحادثة كانت اللحوم كالعادة تطبخ في القدور على الأثافي الكبيرة، وحينها حصل ارتباك في جموع الناس فجاءت احدى الساحوريات أو على الاصح ” السواحيريات ” واسمها عائشة السويحل ،فأخذت اللحم من القدور وصبت المرقة على الارض، مستغلة فرصة ارتباك الناس وحيرتهم فقال احدهم :
يا زوار موسى وزوروا بالدركه**عايشة السويحل اخذت اللحم وكبت المرقه
بينما دلعن اخر :
يا نبي موسى ما اسمر احجارك
لولا البنات ما حدا زارك
28-12-2020

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات