بدون مؤاخذة-بين الدولة القومية والدينية

ب
هناك جدل كبير حول ما تسعى اليه وتنشده ثورات الربيع العربي، فهل هي تريد دولة قومية أم دولة دينية؟ ولكي نكون موضوعيين في الاجابة على هذا السؤال علينا أن نعود الى الشعوب نفسها بدون تنظير وبدون فلسفة الأمور، فالثورات التي قامت بشكل عفوي، تؤكد أن الشعوب متقدمة على النخب السياسية والثقافية، وأن هذه الشعوب لم تعد تحتمل حكم الطغاة الذي أخرج الأمة من التاريخ، وحصد هزائم ما عاد السكوت عليها مقبولا، فثارت باحثة عن مكان يليق بها، تريد أن تحسن أوضاعها في مختلف المجالات، وتريد الحرية لأبنائها والمجد لأمتها، ويبدو أن جماعات الاسلام السياسي كانت أكثر تنظيما من غيرها من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، فركبت موجة غضب الشعوب الثائرة، واعتلت سدّة الحكم، بانتخابات ديموقراطية، مستغلة ضعف وانقسام القوى المنافسة، وخوف الشعوب من عودة الأنظمة البائدة، فرفعت شعارات برّاقة مغلفة بالدّين، وشرعت في سنّ قوانين لتأبيد تجيير السلطة لها بشكل لا يقبل النقض أو النقد، غير عابئة بحقوق الأقليات الدينية والعرقية، ووجدت قوى عظمى –الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج- تتفاهم معها وتحاول احتواءها.
العرب كأمّة: لو استعرضنا القوميات التي لا تزال بدون دولة واحدة موحدة في العالم، لوجدنا أنها: العرب، الأكراد، الكوريين، الأمازيغ والشيشان، ولكل قومية من هذه القوميات ظروفها الخاصة التي تحول دون قيام دولتها الواحدة الموحدة، ولو حصلت كل قومية منها على دولة واحدة حرة مستقلة، لساهم ذلك في استقرار العالم وبناء السلم العالمي. ودعونا هنا نأخذ العرب كنموذج، فتقسيم العالم العربي الى دويلات جاء كنتاج للحرب العالمية الأولى، وسعي الدول الاستعمارية الى تقاسم هذا العالم لنهب ثرواته وخيراته، ولموقعه الاستراتيجي أيضا، ولترسيخ هذا التقسيم جرت تغذية الاقليمية بشكل واضح، حتى أن جزءا كبيرا من الشعوب لم يعد يدري أنه جزء من الأمة، وامعانا في تأكيد هذا الفهم وجدنا بعض المروجين له يتكلم عن شعبه كأمّة يجب الحفاظ على خصوصيتها. وما الحديث عن وحدة الأمة العربية إلا نوع من الترف الفكري والاعلامي، ووجدنا من يدعو الى وحدة الأمة بحق وحقيقة يُحارَب وكأنه يعادي الشعوب، بل وجدنا جماعات دينية تدعو في أدبياتها الى اتهام من يدعو الى العروبة أو الى الديموقراطية بالكفر والخروج عن تعاليم الدين، وبالتالي يجب محاربته بل وقتله، ووجدنا بعض الجماعات تدعو الى بناء الدولة الاسلامية وليس الدينية، في محاولة منه لاسترضاء أو لإسكات الأقليات الدينية غير المسلمة. فهل هناك تناقض بين القومية والدين؟ وهل مخاوف الأعداء من الدولة الاسلامية أم من الدولة القومية؟ ولماذا؟
الدولة القومية والدولة الاسلامية: لم يعد خافيا على أحد تلك التفاهمات بين الاسلام السياسي وأمريكا ومن دار في فلكها، لا حبا في تلك الجماعات، ولا حبا في الاسلام، ولا تبعية من الاسلام السياسي لأمريكا أيضا، وانما هي المصالح المشتركة وان اختلفت في منطلقاتها وأهدافها، فالعالم الغربي بقيادة أمريكا كان يرى في الشعوب الاسلامية”الدرع الواقي من خطر الشيوعية” قبل انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية، وبعد ذلك خرج علينا صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية بـ”صراع الحضارات” الذي يرى فيه أن الخطر القادم على “الديموقراطيات الغربية”يتمثل في الاسلام والمسلمين، وها هم يتفاهمون مع الاسلام السياسي، بعد انهيار بعض الأنظمة الموالية لهم في ثورات الربيع العربي، كما حصل في تونس ومصر، فهل في هذا تناقض؟ وهل هي رغبة من أمريكا وحلفائها في بناء دولة اسلامية وإعادة دولة الخلافة؟ أم هي المصالح والنظرة الاستراتيجة بعيدة النظر؟ ولماذا لم توافق أمريكا وغيرها على بناء دولة القومية العربية؟ ولماذا تسعى الى اعادة تقسيم العالم العربي؟ وللتذكير فقد ذكر المفكر الكبير محمد حسنين هيكل في مقابلة أجرتها معه الصحفية لميس الحديدي قبل بضعة أيام أن دين راسك وزير خارجية أمريكا الأسبق تحدث معه عام 1952 بعدة ثورة 23 يوليو المصرية عن رغبة أمريكا في وجود دولة اسلامية ترتكز على الباكستان وتركيا ومصر، لتكون مقابل حلف الناتو في المنطقة، ولتقف في وجه خطر المد الشيوعي.
وللاجابة على هذه الاسئلة علينا أن نعي أن بناء امبراطورية اسلامية تجمع الشعوب الاسلامية كافة هو خيال أكثر منه واقعا، وأنه من المستحيل أن تلتقي مصالح شعوب ودول العالم الاسلامي على قاعدة دينية، لسبب بسيط هو أن الدولة الدينية لا تعترف بالقوميات، بل تتناقض معها، وقد أجمع الباحثون والدارسون العرب على أن أحد أسباب انهيار دولة الخلافة هو وصول غير العرب الى سدّة الخلافة، وهذا ما أكدوه سابقا على أسباب انهيار دولة الخلافة العباسية، كما أن أحد أسباب انهيار امبراطورية الاتحاد السوفييتي وتجزئته هو الظلم اللاحق بالقوميات الأخرى التي كانت جزءا منه.
في حين أن امكانية توحيد العالم العربي أكثر منطقيا وعقليا ولأكثر من سبب يجمع الشعوب العربية، يضاف الى ذلك أن الفكر القومي لا يتناقض مع الدّين، فاحدى شعارات القومية العربية” أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” والمقصود هنا هو الدين الاسلامي، والدولة القومية قادرة على استيعاب الأقليات القومية والدينية فيها، من منطلقات أن “الدين لله والوطن للجميع” وأن الثقافة الاسلامية العربية هي ثقافة الشعوب العربية بمسلميها ومسيحييها، والأقليات القومية فيها، وأن الثقافة القومية قادرة على استيعاب الثقافات القومية الأخرى التي تعيش بين ظهرانيها، وقادرة على إعطائها حقوقها القومية، واذا ما قامت الدولة العربية الواحدة بمساحتها الهائلة، وبثرواتها المختلفة، وبتعداد سكانها فانها ستصبح امبراطورية كبيرة وقوية تستطيع الوقوف أمام أطماع الآخرين، وتستطيع اقامة تحالفات مع الدول والشعوب الاسلامية الأخرى، على عدة أسس منها الدين الواحد، وستكون قادرة على ذلك كون اللغة العربية لغة القرآن، ومن هنا تنبع خطورة الدولة العربية على القوى الطامعة في المنطقة، لذا فهي تبذل قصارى جهدها في منع تحقيقها، وخروجها الى أرض الواقع، فهل ينتبه العرب لذلك؟
12-12-2012

جميل السلحوت:بدون مؤاخذة-بين الدولة القومية والدينيةهناك جدل كبير حول ما تسعى اليه وتنشده ثورات الربيع العربي، فهل هي تريد دولة قومية أم دولة دينية؟ ولكي نكون موضوعيين في الاجابة على هذا السؤال علينا أن نعود الى الشعوب نفسها بدون تنظير وبدون فلسفة الأمور، فالثورات التي قامت بشكل عفوي، تؤكد أن الشعوب متقدمة على النخب السياسية والثقافية، وأن هذه الشعوب لم تعد تحتمل حكم الطغاة الذي أخرج الأمة من التاريخ، وحصد هزائم ما عاد السكوت عليها مقبولا، فثارت باحثة عن مكان يليق بها، تريد أن تحسن أوضاعها في مختلف المجالات، وتريد الحرية لأبنائها والمجد لأمتها، ويبدو أن جماعات الاسلام السياسي كانت أكثر تنظيما من غيرها من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، فركبت موجة غضب الشعوب الثائرة، واعتلت سدّة الحكم، بانتخابات ديموقراطية، مستغلة ضعف وانقسام القوى المنافسة، وخوف الشعوب من عودة الأنظمة البائدة، فرفعت شعارات برّاقة مغلفة بالدّين، وشرعت في سنّ قوانين لتأبيد تجيير السلطة لها بشكل لا يقبل النقض أو النقد، غير عابئة بحقوق الأقليات الدينية والعرقية، ووجدت قوى عظمى –الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج- تتفاهم معها وتحاول احتواءها.العرب كأمّة: لو استعرضنا القوميات التي لا تزال بدون دولة واحدة موحدة في العالم، لوجدنا أنها: العرب، الأكراد، الكوريين، الأمازيغ والشيشان، ولكل قومية من هذه القوميات ظروفها الخاصة التي تحول دون قيام دولتها الواحدة الموحدة، ولو حصلت كل قومية منها على دولة واحدة حرة مستقلة، لساهم ذلك في استقرار العالم وبناء السلم العالمي. ودعونا هنا نأخذ العرب كنموذج، فتقسيم العالم العربي الى دويلات جاء كنتاج للحرب العالمية الأولى، وسعي الدول الاستعمارية الى تقاسم هذا العالم لنهب ثرواته وخيراته، ولموقعه الاستراتيجي أيضا، ولترسيخ هذا التقسيم جرت تغذية الاقليمية بشكل واضح، حتى أن جزءا كبيرا من الشعوب لم يعد يدري أنه جزء من الأمة، وامعانا في تأكيد هذا الفهم وجدنا بعض المروجين له يتكلم عن شعبه كأمّة يجب الحفاظ على خصوصيتها. وما الحديث عن وحدة الأمة العربية إلا نوع من الترف الفكري والاعلامي، ووجدنا من يدعو الى وحدة الأمة بحق وحقيقة يُحارَب وكأنه يعادي الشعوب، بل وجدنا جماعات دينية تدعو في أدبياتها الى اتهام من يدعو الى العروبة أو الى الديموقراطية بالكفر والخروج عن تعاليم الدين، وبالتالي يجب محاربته بل وقتله، ووجدنا بعض الجماعات تدعو الى بناء الدولة الاسلامية وليس الدينية، في محاولة منه لاسترضاء أو لإسكات الأقليات الدينية غير المسلمة. فهل هناك تناقض بين القومية والدين؟ وهل مخاوف الأعداء من الدولة الاسلامية أم من الدولة القومية؟ ولماذا؟الدولة القومية والدولة الاسلامية: لم يعد خافيا على أحد تلك التفاهمات بين الاسلام السياسي وأمريكا ومن دار في فلكها، لا حبا في تلك الجماعات، ولا حبا في الاسلام، ولا تبعية من الاسلام السياسي لأمريكا أيضا، وانما هي المصالح المشتركة وان اختلفت في منطلقاتها وأهدافها، فالعالم الغربي بقيادة أمريكا كان يرى في الشعوب الاسلامية”الدرع الواقي من خطر الشيوعية” قبل انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية، وبعد ذلك خرج علينا صموئيل هنينجتون رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية بـ”صراع الحضارات” الذي يرى فيه أن الخطر القادم على “الديموقراطيات الغربية”يتمثل في الاسلام والمسلمين، وها هم يتفاهمون مع الاسلام السياسي، بعد انهيار بعض الأنظمة الموالية لهم في ثورات الربيع العربي، كما حصل في تونس ومصر، فهل في هذا تناقض؟ وهل هي رغبة من أمريكا وحلفائها في بناء دولة اسلامية وإعادة دولة الخلافة؟ أم هي المصالح والنظرة الاستراتيجة بعيدة النظر؟ ولماذا لم توافق أمريكا وغيرها على بناء دولة القومية العربية؟ ولماذا تسعى الى اعادة تقسيم العالم العربي؟ وللتذكير فقد ذكر المفكر الكبير محمد حسنين هيكل في مقابلة أجرتها معه الصحفية لميس الحديدي قبل بضعة أيام أن دين راسك وزير خارجية أمريكا الأسبق تحدث معه عام 1952 بعدة ثورة 23 يوليو المصرية عن رغبة أمريكا في وجود دولة اسلامية ترتكز على الباكستان وتركيا ومصر، لتكون مقابل حلف الناتو في المنطقة، ولتقف في وجه خطر المد الشيوعي.وللاجابة على هذه الاسئلة علينا أن نعي أن بناء امبراطورية اسلامية تجمع الشعوب الاسلامية كافة هو خيال أكثر منه واقعا، وأنه من المستحيل أن تلتقي مصالح شعوب ودول العالم الاسلامي على قاعدة دينية، لسبب بسيط هو أن الدولة الدينية لا تعترف بالقوميات، بل تتناقض معها، وقد أجمع الباحثون والدارسون العرب على أن أحد أسباب انهيار دولة الخلافة هو وصول غير العرب الى سدّة الخلافة، وهذا ما أكدوه سابقا على أسباب انهيار دولة الخلافة العباسية، كما أن أحد أسباب انهيار امبراطورية الاتحاد السوفييتي وتجزئته هو الظلم اللاحق بالقوميات الأخرى التي كانت جزءا منه.في حين أن امكانية توحيد العالم العربي أكثر منطقيا وعقليا ولأكثر من سبب يجمع الشعوب العربية، يضاف الى ذلك أن الفكر القومي لا يتناقض مع الدّين، فاحدى شعارات القومية العربية” أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” والمقصود هنا هو الدين الاسلامي، والدولة القومية قادرة على استيعاب الأقليات القومية والدينية فيها، من منطلقات أن “الدين لله والوطن للجميع” وأن الثقافة الاسلامية العربية هي ثقافة الشعوب العربية بمسلميها ومسيحييها، والأقليات القومية فيها، وأن الثقافة القومية قادرة على استيعاب الثقافات القومية الأخرى التي تعيش بين ظهرانيها، وقادرة على إعطائها حقوقها القومية، واذا ما قامت الدولة العربية الواحدة بمساحتها الهائلة، وبثرواتها المختلفة، وبتعداد سكانها فانها ستصبح امبراطورية كبيرة وقوية تستطيع الوقوف أمام أطماع الآخرين، وتستطيع اقامة تحالفات مع الدول والشعوب الاسلامية الأخرى، على عدة أسس منها الدين الواحد، وستكون قادرة على ذلك كون اللغة العربية لغة القرآن، ومن هنا تنبع خطورة الدولة العربية على القوى الطامعة في المنطقة، لذا فهي تبذل قصارى جهدها في منع تحقيقها، وخروجها الى أرض الواقع، فهل ينتبه العرب لذلك؟12-12-2012

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات