بدون مؤاخذة- الثقافة الأبوية

ب
الثقافة الأبوية هي احدى افرازات عقلية القبيلة والعشيرة أيضا، ففي القبيلة شيخ القبيلة هو من يتحكم بمصيرها ومصير أبنائها، وقد يقودها الى الهلاك دون أن يعترض عليه أحد من أفراد القبيلة، لأن سياسة القطيع هي السائدة، وهي مغروسة في ذهن كلّ فرد، حتى أصبحت سلوكا، وامعانا في ذلك فان الخوف من موت شيخ القبيلة يبقى هاجسا يؤرق أبناءها، والخوف عليهم وعليها من الضياع، لأن ثقافة القبيلة تعتبر شيخها ظلّ الله في أرضه، وهذا ينعكس على دول القبيلة أو القبائل، تماما مثلما ينعكس على الأفراد والعائلات، واذا كان سداد الرأي محصور في شيخ القبيلة، أو في رأس الدولة، فانه أيضا محصور في رأس العائلة وحتى الأسرة، فالتربية القبلية تمنع الابن من الحديث أو ابداء الرأي في مجلس يتواجد فيه أبوه، حتى لو كان عمر الابن سبعين عاما فهو يعامل كطفل بوجود أبيه، واذا ما توفي الأب فان القيادة تنتقل للابن الذكر الأكبر، ولا وجود للاناث في عقلية القبيلة، وتقود هذه التربية الى اتكال الابن على الأب، أو الجدّ في حالة وجوده، أو الى الأخ الأكبر مما يولد الاتكالية، التي تورث الكسل والخمول وكبت الابداع الفردي، وقد يكبر الابن ويتزوج ويصبح أبا وهو لا يعرف شراء قميص له على سبيل المثال، لأن شراء القميص من تخصصات الأب الملهم. واذا ما أخطأ رأس القبيلة أو الأسرة فان براءته جاهزة بردها الى القضاء والقدر، مع ما يحمل هذا من فهم خاطئ للدين ولمفهوم القضاء والقدر.
وتنسحب ثقافة القبيلة التي تعصم “الكبير”عن الخطأ الى مختلف مناحي الحياة، فعلى المستوى الديني هناك ممّن يدّعون العلم بأمور الشريعة يحرّمون الاجتهاد، ويعتمدون في “فتاويهم” على كل شيء قديم وموروث من اجتهادات وتفسيرات الأقدمين، وليس على القرآن والسنة. وهناك من يغضب ويرغي ويزبد ويتنطع لمن يعلمون دينيا، ويدعون على سبيل المثال الى اعادة تفسير القرآن بما يتناسب والمستجدات العلمية وتطورات الحياة، أو يدعو الى تنقية السّنة النبوية من الأحاديث الموضوعة، بل انهم يتهمون أصحاب هذه الدعوات بالكفر، ويتناسون أن من فسروا القرآن، ودوّموا الأحاديث النبوية بشر يخطئون ويصيبون كبقية البشر.
وثقافة “عصمة الكبير” تنسحب على مختلف مجالات الحياة، دون الانتباه الى التطور العلمي والحياتي، فعلى سبيل المثال هناك من ورثوا مصانع عن آبائهم الذين أنشأوها في زمانهم، ودرّت ثراء على صاحبها الذي بناها وأدارها بطريقة تناسب عصره، وعند وفاة الأب الباني فان الورثة الذين التزموا بنفس طريقة الأب، ولم يواكبوا التقدم الصناعي لا يلبثون أن يخسروا الى درجة الافلاس أمام صناعات منافسة حديثة ومتطورة ورخيصة.
وكذا الأمر في الشأن الثقافي، فجيل الآباء لا يعترف بقدرات وابداعات الأبناء، بل لا يعيرها انتباها، وربما يخاف منها، ومثال على ذلك محليا “مبادرة شباب البلد” في جبل المكبر قضاء القدس، أبدعت فكرة أطول سلسلة قارئة حول سور القدس التاريخي، ونفذتها على أرض الواقع في 16 آذار 2014 بنجاح منقطع النظير، وهذا حدث غير مسبوق عالميا، ومع ذلك فان مبدعي هذه الفكرة الرائعة لم يجدوا الانتباه الكافي من “أبوات الثقافة” وممن يتحكمون بمؤسسات ثقافية تنفق الملايين سنويا، ولم يحاول أحد الاستفادة من قدراتهم الابداعية الخلاقة، تماما مثلما لم يجدوا تغطية اعلامية لائقة من وسائل الاعلام، وربما هناك من تخوّف من هذا النجاح الذي أبهر العالم، والسبب طبعا هو ثقافة القبيلة التي تغيب الصغير أمام جبروت الكبير.
ولا يفهمن أحد من هذا بأن على الأبناء أن يتمرّدوا على الآباء، بل عليهم الاستفادة من خبرتهم وتجاربهم، كما على الآباء أن يؤهلوا أبناءهم للحياة، وأن يطلقوا  عنان قدراتهم، وفي نفس الوقت على الآباء أن لا “يأخذوا دورهم ودور أبنائهم”.
1 أيار 2014

جميل السلحوت:بدون مؤاخذة- الثقافة الأبويةالثقافة الأبوية هي احدى افرازات عقلية القبيلة والعشيرة أيضا، ففي القبيلة شيخ القبيلة هو من يتحكم بمصيرها ومصير أبنائها، وقد يقودها الى الهلاك دون أن يعترض عليه أحد من أفراد القبيلة، لأن سياسة القطيع هي السائدة، وهي مغروسة في ذهن كلّ فرد، حتى أصبحت سلوكا، وامعانا في ذلك فان الخوف من موت شيخ القبيلة يبقى هاجسا يؤرق أبناءها، والخوف عليهم وعليها من الضياع، لأن ثقافة القبيلة تعتبر شيخها ظلّ الله في أرضه، وهذا ينعكس على دول القبيلة أو القبائل، تماما مثلما ينعكس على الأفراد والعائلات، واذا كان سداد الرأي محصور في شيخ القبيلة، أو في رأس الدولة، فانه أيضا محصور في رأس العائلة وحتى الأسرة، فالتربية القبلية تمنع الابن من الحديث أو ابداء الرأي في مجلس يتواجد فيه أبوه، حتى لو كان عمر الابن سبعين عاما فهو يعامل كطفل بوجود أبيه، واذا ما توفي الأب فان القيادة تنتقل للابن الذكر الأكبر، ولا وجود للاناث في عقلية القبيلة، وتقود هذه التربية الى اتكال الابن على الأب، أو الجدّ في حالة وجوده، أو الى الأخ الأكبر مما يولد الاتكالية، التي تورث الكسل والخمول وكبت الابداع الفردي، وقد يكبر الابن ويتزوج ويصبح أبا وهو لا يعرف شراء قميص له على سبيل المثال، لأن شراء القميص من تخصصات الأب الملهم. واذا ما أخطأ رأس القبيلة أو الأسرة فان براءته جاهزة بردها الى القضاء والقدر، مع ما يحمل هذا من فهم خاطئ للدين ولمفهوم القضاء والقدر.   وتنسحب ثقافة القبيلة التي تعصم “الكبير”عن الخطأ الى مختلف مناحي الحياة، فعلى المستوى الديني هناك ممّن يدّعون العلم بأمور الشريعة يحرّمون الاجتهاد، ويعتمدون في “فتاويهم” على كل شيء قديم وموروث من اجتهادات وتفسيرات الأقدمين، وليس على القرآن والسنة. وهناك من يغضب ويرغي ويزبد ويتنطع لمن يعلمون دينيا، ويدعون على سبيل المثال الى اعادة تفسير القرآن بما يتناسب والمستجدات العلمية وتطورات الحياة، أو يدعو الى تنقية السّنة النبوية من الأحاديث الموضوعة، بل انهم يتهمون أصحاب هذه الدعوات بالكفر، ويتناسون أن من فسروا القرآن، ودوّموا الأحاديث النبوية بشر يخطئون ويصيبون كبقية البشر. وثقافة “عصمة الكبير” تنسحب على مختلف مجالات الحياة، دون الانتباه الى التطور العلمي والحياتي، فعلى سبيل المثال هناك من ورثوا مصانع عن آبائهم الذين أنشأوها في زمانهم، ودرّت ثراء على صاحبها الذي بناها وأدارها بطريقة تناسب عصره، وعند وفاة الأب الباني فان الورثة الذين التزموا بنفس طريقة الأب، ولم يواكبوا التقدم الصناعي لا يلبثون أن يخسروا الى درجة الافلاس أمام صناعات منافسة حديثة ومتطورة ورخيصة. وكذا الأمر في الشأن الثقافي، فجيل الآباء لا يعترف بقدرات وابداعات الأبناء، بل لا يعيرها انتباها، وربما يخاف منها، ومثال على ذلك محليا “مبادرة شباب البلد” في جبل المكبر قضاء القدس، أبدعت فكرة أطول سلسلة قارئة حول سور القدس التاريخي، ونفذتها على أرض الواقع في 16 آذار 2014 بنجاح منقطع النظير، وهذا حدث غير مسبوق عالميا، ومع ذلك فان مبدعي هذه الفكرة الرائعة لم يجدوا الانتباه الكافي من “أبوات الثقافة” وممن يتحكمون بمؤسسات ثقافية تنفق الملايين سنويا، ولم يحاول أحد الاستفادة من قدراتهم الابداعية الخلاقة، تماما مثلما لم يجدوا تغطية اعلامية لائقة من وسائل الاعلام، وربما هناك من تخوّف من هذا النجاح الذي أبهر العالم، والسبب طبعا هو ثقافة القبيلة التي تغيب الصغير أمام جبروت الكبير. ولا يفهمن أحد من هذا بأن على الأبناء أن يتمرّدوا على الآباء، بل عليهم الاستفادة من خبرتهم وتجاربهم، كما على الآباء أن يؤهلوا أبناءهم للحياة، وأن يطلقوا  عنان قدراتهم، وفي نفس الوقت على الآباء أن لا “يأخذوا دورهم ودور أبنائهم”.1 أيار 2014

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات