الملهاة الفلسطينية”زمن الخيول البيضاء”

ا
صدرت في اكتوبر 2007 رواية :”زمن الخيول البيضاء” للاديب ابراهيم نصر الله عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ، تقع الرواية التي صمم غلافها ورسوماتها الداخلية الفنان التشكيلي البحريني احمد باقر في 510 صفحات من الحجم المتوسط .
بداية لا بد من التذكير بأن المؤلف مبدع متميز متعدد المواهب ، له باع طويل اثرى المكتبة العربية بأعماله الشعرية والروائية والنقدية ، فهو شاعر مطبوع صدر له اكثر من خمسة عشر ديوانا شعريا حتى الآن، وروايته – زمن الخيول البيضاء – هي روايته الثامنة ، كما ان له عدة كتب في النقد ، وترجمعت اعماله الروائية الى الانجليزية ، الايطالية ، الدنماركية ، والالمانية ، كما ترجمت بعض قصائده للغات اخرى منها البولندية ، التركية ، الفرنسية ، الالمانية ، الاسبانية ، والايطالية .
وقد حصل على عدة جوائز مرموقة عن اعماله الشعرية والروائية .
ومن الواضح لمن قرأ وتابع الأعمال الأدبية للمبدع ابراهيم نصر الله انه دائم التجديد في هذه الأعمال . وقد بلغ من الشهرة ما بلغ قبل هذه الرواية التي نحن بصددها ، فجاءت هذه الرواية الملحمية لتجعل منه نجم نجوم من كتب عن نكبة الشعبة الفلسطيني ، وحسب معلوماتي المتواضعة فإن روايته المحلمية لم تكن مسبوقة بأي عمل روائي يضاهيها ، كما انها غير متبوعة بما يضاهيها حتى الآن على الأقل ، فلقد قرأنا قبلها رواية “بير الشوم” لفيصل حوراني ورواية ” باب الشمس ” للروائي اللبناني الشهير الياس خوري ، وقرأنا بعدها – بعد زمن الخيول البيضاء – ورواية ” الصعود الى المئذنة ” للروائي المبدع احمد حرب التي هي عن فترة ما بين 1948 و 1967 ورواية ” ماء السماء ” للروائي المبدع يحيى يخلف ، ومع كل الابداع الذي جاء في الروايات الثلاث الا ان ” زمن الخيول البيضاء ” جاءت ملحمة روائية بكل المقاييس ، غطت مراحل ما قبل النكبة ، بفنية عالية ، وهذا بالطبع لا ينتقص من القيمة الابداعية للروايات التي ذكرناها .
الملهاة الفلسطينية :
يطرح الكاتب عدة ملاحظات بما يشبه المقدمة لروايته ، يذكر فيها انه بدأ مشروعه الروائي هذا في العام 1985 ” بدأت العمل عليها اعدادا وتسجيل شهادات وتكوين مكتبة خاصة بها ، ولكن افضل ما يحدث ان الامور لا تسير حسب رغباتنا ، اذ اصبح العمل الطويل عليها هو الباب الذي سندخل منه خمس روايات ضمن هذا المشروع ، وبهذا فإن الرواية التي كان من المتوقع ان تكون الاولى اصبحت الاخيرة ” ص5
ورواياته الخمس التي سبقت ” زمن الخيول البيضاء “هي : ” طفل الممحاة ” و ” طيور الحذر ” و ” زيتون الشوراع ” و ” اعراس آمنة ” و ” تحت شمس الضحى : .
واديبنا الذي لم يعش فترة النكبة ، فهو من مواليد عام 1954في مخيم الوحدات في الاردن ، استمع الى شهادات بعض من عاشوا النكبة ” شهود من اربع قرى فلسطينة حملوا الحلم ذاته ، وماتوا الميتة ذاتها غرباء ، هذه الرواية أهديها الى أرواحهم ”
عمي – جمعة خليل ، جمعة صلاح ، مرثا خضر ، كوكب ياسين طوطح . هذه الرواية تحية اليهم، وتحية لعشرات الشهود الذين لم يتوانوا عن تقديم خلاصات ذكرياتهم ، او استمعت الى بعض حكاياتهم ، مصادفة على مدى عشرين عاما ” ص 5
وهو يهديها ايضا ” للكتاب الفلسطينيين والعرب الذين ساهمت مذكراتهم وكتبهم في اضاءة الطريق لي ، وقد جرى تثبيت اسماء اعمالهم في نهاية الرواية ” ص 5
وهكذا فإن اديبنا مهد الطريق للرواية من خلال ما دونه من افواه من عاشوا المرحلة ، ومن خلال عشرات الكتب التاريخية والادبية التي كتبت عن تلك المرحلة .
والسؤال يعود مرة اخرى حول الملهاة ، فالقول المأثور بأن” التاريخ يعيد نفسه مرتين ، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل ملهاة” . فلماذا اسقط الكاتب المأساة ، وقبض على جمرة الملهاة ؟ وقد اثبت لنا الكاتب في ص509 في آخر الرواية ” الملهاة وجذورها ” كما جاءت في معجم لسان العرب ، وكأني به يهرب من المأساة بما تحمله من تراجيديا تنتهي بموت البطل ، الى الملهاة التي يريد ان لا تنتهي قبل ان يعود الحق الى اصحابه ، فمما جاء في لسان العرب ان ” الانسان اللاهي الى الشيء : الذي لا يفارقه وقال : لاهى الشيء أي داناه وقاربه . ولاهى الغلام الفطام اذا دنا منه . قال تعالى : ” لاهية قلوبهم ” اي متشاغلة عما يدعون اليه . وقال ” وانت تلهى ” اي تتشاغل.
وواضح هنا ان الكاتب يريد تكريس ” الملهاة ” ويريد ان يبقى الفلسطينيون والعرب متمسكين بالملهاة الفلسطينية الى ان يعود الحق الفلسطيني ، وقد تكرر في الرواية اكثر من مرة ما جاء على لسان خالد الحاج محمود ” انا لا اقاتل كي انتصر بل كي لا يضيع حقي ”
وعودة مرة اخرى الى ” زمن الخيول البيضاء ” فالأديب المؤلف يقسم روايته الى ثلاثة ابواب أسمى كل باب منها كتابا وهي : الكتاب الاول : الريح ، الكتاب الثاني : التراب ،والكتاب الثالث البشر. والكتاب الأول يتحدث عن احوال البشر في اواخر العهد العثماني ، ويتحدث الثاني عن فترة الانتداب البريطاني ، والثالث عن الغزو الصهيوني لفلسطين ،وهكذا فإن زمن الرواية يمتد لأكثر من سبعة عقود .
ويلاحظ ان عودة اديبنا الى زمن اواخر العهد العثماني لم يكن عبثا ، ولم يكن من باب اطالة الرواية ، بل هو ضرورة تمليها ضرورة فهم النتائج المأساوية التي اوصلت الى النكبة ، فالنتائج دائما هي محصلة المقدمات والأسباب .
فالمظالم التي عاشتها فلسطين ، وعاشها شعبها العربي الفلسطين على ايدي الاتراك العثمانيين ، مثلهم مثل بقية اجزاء العالم العربي والاسلامي الذي كانت تتشكل منه الولايات العثمانية ،أهلكت البلاد والعباد ، فقد انتشر الفساد ، وسادت المظالم ، ولم يكن يهم الامبراطورية المريضة سوى جمع الضرائب بشتى السبل لتمويل حروبها في مناطق مختلفة ، غير عابئة بأوضاع السكان وسبل معيشتهم ، وأوكلت الى بعض اعوانها المحليين هذه المهمة ،وهؤلاء تعدوا الحدود بشكل لا يقبله منطق ولا عقل ، لا يشغلهم سوى خدمة اسيادهم ، والاثراء الفاحش على حساب قوت الناس ، كما كانت تفرض التجنيد الاجباري على الشباب ، وتقودهم الى حروب خاسرة وغالبيتهم لم يعودوا منها ،اضافة الى اعدام كل من كان يُشك في ولائه، وكل هذه الأمور هي التي مهدت الطريق امام الجيش الانجليزي كي يدخل فلسطين بسهولة في اعقاب الحرب الكونية الثانية ليمهد لاقامة ” وطن قومي لليهود ” بعد ان تخلت بريطانيا عن وعودها للعرب الذين ثاروا على المظالم التركية ، فوأدت حلمهم في الاستقلال والتحرر القومي .
ان القارئ للفصل الاول يخرج بنتيجة مفادها ان الخروج على الأتراك كان مبررا ، فهم المسؤولون بأعمالهم السيئة عن هدم دولة الخلافة ، وهم المسؤولون عن دفع سكان ولايات دولة الخلافة للتحالف مع البريطانيين ضدهم ، أو على الأقل عدم الدفاع عن ولاياتهم أمام الغزاة الجدد .
أمّا الباب الثاني في الرواية فقد تحدث عن اوضاع البلاد في بداية عهد الانتداب البريطاني ، هذا الانتداب الذي سهل الهجرة اليهودية الى فلسطين، تمهيدا لاقامة دولة اسرائيل تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم ، ولم يكتف البريطانيون بذلك ، بل إنهم سمحوا للعصابات الصهيونية بالتدرب على السلاح وحمله ، في حين كانوا يعدمون الفلسطيني على رصاصة فارغة أو على سكين ،كما ان البريطانيين سلموا كافة معسكراتهم وأسلحتهم للعصابات الصهيونية-بما فيها من اسلحة ثقيلة كالدبابات ومدافع الميدان وحتى الطئرات الحربية- ليلة انسحابهم من فلسطين، ويلاحظ القارئ لهذا الباب ان البريطانيين اعتمدوا في بسط سيطرتهم على بعض المتنفذين وجُلّهم من الذين كانوا متعاونيين مع الأتراك لتنفيذ الاعتداءات والمظالم التي وقعت على الشعب الفلسطيني ، كما ان بعضهم كان من الاقطاعيين واصحاب المصالح المالية .
كما ان الكاتب طرح بطريقة ذكية وبفنية عالية ،دون مباشرة ودون خطابية، ان الكفاح الفلسطيني تركز في هذه المرحلة على مقاومة وطرد المستعمرين البريطانيين ، مع انه كان هناك الوعي الكافي لمخاطر الهجرة اليهودية ، وللأهداف الصهيوينة في فلسطين والمنطقة ، وقد رأينا في اكثر من مشهد كيف ان المقاومين الفلسطينيين لم يقتلوا أسراهم من اليهود الأصليين في هذه البلاد ، والذين كانت علاقاتهم أخوية مع الفلسطينيين العرب المسلمين والمسيحيين ، ففلسطين مهد الديانات السماوية ، وبلد التعدديات الثقافية ، وقد استشعر الفلسطينيون كما اليهود من اصل فلسطيني ان الشرور مصدرها اليهود المهاجرون من اوروبا ، كما تطرق الكاتب الى ان المستوطنيين اليهود قد استولوا على اراض فلسطينية شاسعة بالخداع ، وبدعم وحماية من المستعمرين البريطانيين.
ويتداخل الباب الثاني ” التراب ” مع الباب الثالث ” البشر ” ففي هذه المرحلة بنى اليهود المستعمرات الاستيطانية ، واقاموا الكيبوتسات الزراعية ، وبنوا مؤسسات الدولة حتى قبل قيامها .
وعندما ثبتت اقدامهم على الارض ، بدأوا اعتداءاتهم على القرى والمدن العربية المجاورة ، فقتلوا من قتلوا ، ودمروا ما دمروا ، واستولوا على مساحات جديدة من الاراضي ، ونشروا الرعب في البلدات العربية في محاولة منهم لاجبار الفلسطينيين على ترك ارضهم لكي ينجوا بأرواحهم، وكل ذلك بدعم ومشاركة من قوات الانتداب ، وبتحالف مع بعض العملاء ورجال الاقطاع .
ومن اللافت في ابواب الرواية الثلاثة ان أحد القواسم المشتركة فيها ان الفلسطينيين قاوموا الاحتلالات الثلاثة ، الأتراك والبريطانيين ، والمستوطنين الصهاينة ، وانهم – اي الفلسطينيين – تعرضوا لشتى انواع الاضطهاد والقمع من هذه الاحتلالات .
دور القيادات الروحية الأجنبية لبعض الاديرة :
على مدار ” الكتابين ” الثاني والثالث يُلاحظ كيف ان بعض ” الرهبان ” الاجانب خصوصا اليونانيين منهم ، الذين كانوا يرأسون – ولا يزالون مفروضين- على ابناء الطائفة الارثوذكسية ، قد استولوا على بعض الاراضي مستغلين جهل وبساطة الأهالي ، وقاموا بتسريبها للمهاجرين الجدد ، والكاتب في روايته لا ينطلق من منطلقات طائفية ، بل على العكس من ذلك ، طرح مواقف نضالية للمسيحيين من ابناء الشعب الفلسطيني الذين شاركوا في العملية الكفاحية المناهضة للمستعمرين البريطانيين وللمستوطنين اليهود ، وسقط بعضهم في معارك الكفاح ، كما ابرز المواقف الايجابية والمكافحة لبعض الرهبان العرب،وهو بهذا يؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني بمختلف دياناته وطوائفه،ويطالب بطريقة غير مباشرة بتعريب الكنيسة .
ويبدو ان دور رجال الدين الأوروبيين الذين يسيطرون على بعض الكنائس في بلادنا مستمر حتى ايامنا هذه ، فكلنا عشنا وشاهدنا كيف ان بطريركا يونانيا وآخر ارمينيا قد سربا بعض العقارات المهمة في مدينة القدس للمحتلين الاسرائيليين ، وهربوا من هذه البلاد التي احتضنتهم ، وقد واجهوا معارضة شديدة من اتباع كنائسهم العرب ، ومن رجال الدين المسيحيين العرب الذين يناضلون من اجل استعادة هذه العقارات بالطرق القانونية .
المكان :
تدور غالبية احداث الرواية في قرية ” الهادية ” التي تخيلها الكاتب ، وان كانت هذه الاحداث تمتد في طول فلسطين وعرضها ، مع ان الكاتب ذكر اسماء مدن وقرى عديدة حقيقية ، بعضها دمره اليهود بعد اقامة دولة اسرايل ، وبعضها لا يزال قائما ويبدو ان “الهادية ” هي مركز فلسطين ، بل هي قلب فلسطين ،وما لجوء الكاتب الى “تـَخَيـُّل ” الهادية الا محاولة هروب ذكية منه ، كي لا يحصر النضال الفلسطيني في مكان صغير بعينه ، فكل قرية وكل مدينة في فلسطين هي الهادية ، والعكس صحيح .
شخصيات الرواية :
يؤكد الكاتب في ملاحظاته في مقدمة الرواية الملحمية ان ” اسماء الشخصيات والعائلات غير حقيقية ، واذا ورد تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية ، فذلك بمحض الصدفة ” ص5 وهذا صحيح كما ورد في الرواية ، مع ان بعض الشخصيات المناضلة ، أو ” القيادات ” المناضلة أو المتعاونة مع المحتل ، كانت اسماؤها حقيقية ، وهي مدونة في كتب التاريخ ، كما هي مخزونة في الذاكرة الشعبية .
الخيول البيضاء :
الخيول البيضاء هي احد ابطال الرواية ، وقد شغلت مساحات واسعة من هذه الرواية ، كما كان لها اكثر من دلالة ، بحيث انها تضع القارئ امام عدة تساؤلات عن دورها ، وعن دلالاتها . ولكل قارئ حقه في فهمها كيفما يشاء ، حسب خلفيته الثقافية والاجتماعية وبيئته المحلية .
وفي تقديري ان لجوء الكاتب الى الخيول الأصيلة ، البيضاء الجميلة ، ليكون لها دور كبير في روايته ، انما جاء من باب تأكيده المتكرر على ” الأصالة ” فالخيول الأصيلة عدا عن جمالها الساحر ، هي خيول وفيّة لفارسها ، لا تتزاوج الا مع الأحصنة – جمع حصان – الأصيلة من بنات جنسها ، فمثلما لا تنقاد لغريب ولا تسمح له بامتطاء ظهرها ، فإنها لا تسمح لحصان غريب عن جنسها ان يتزاوج معها حتى ولو كان أصيلا هو ايضا .
وقد شاهدنا كيف ان العربي لا يفرط بفرسه الأصيلة ، وهو يعمل لها شهادة ميلاد متسلسلة من جهتي الأمّ والأب ، ونادرا ما يقدم على بيعها مهما دفعته الحاجة الى ذلك ، وكأنها فرد من افراد الأسرة أو العائلة ، واذا ما اضطر الى اهدائها الى عزيز عليه فإن العرف والعادة ان يعيد المهدى اليه أوّل مهرة تنجبها الى من أهداه إياها . وقد شاهدنا الخيول البيضاء ” الريحانية ” كيف شاركت في الافراح والاتراح وفي الكفاح حتى انها سقطت قتيلة في نفس المعركة التي سقط فيها فارسها شهيدا .
فهل اراد اديبنا ان يسحب ذلك على البشر ؟؟
وانا اقول ……. ربما .وأؤكد على هذه الـ ” ربما ” حيث شاهدنا ولا نزال نشاهد كيف ان بعض الابناء توارثوا الكفاح والجهاد والأصالة عن ابائهم وأجدادهم والعكس صحيح ايضا.
وتشبيه الانسان الجيّد والخيّر بالفرس الأصيلة ليس جديدا في هذه الرواية ، بل هو أصيل في ثقافتنا الموروثة سواء منها الرسمي أو الشعبي .
فنحن نشبه المرأة المحصنة الوفيّة بالفرس الأصيلة ، ونشبه الرجل الرجل بالحصان الأصيل ، وكثيرا ما نسمع مخاطبة النساء بـ :”أمك أصيلة خلّفت أصيلة ” ومخاطبة الرجال ” ببيك أصيل خلّف اصيل ”
وفي تقديري ان بطولة الخيول الأصايل في الرواية الملحمية ، واختيار الكاتب اسم روايته – زمن الخيول البيضاء – هي نقطة ذكية تسجل لصالح الكاتب
التراث الشعبي :
واضح ان اديبنا لديه مخزون ثقافي كبير ، فقد استعمل المثل الشعبي ، واستعمل الاغنية الشعبية ، والزغرودة الشعبية والعادات الشعبية في اكثر من موضع ، دون اقحام ، بل جاءت في مكانها الصحيح مما اسبغ على الرواية صفة الملحمية متعددة الجوانب والاهداف .
لغة الرواية :
لو لم نكن نعرف مسبقا ان اديبنا ابراهيم نصر الله شاعر مبدع ، لما احتجنا الى كثير من الذكاء كي نعرف ذلك من خلال لغة الرواية الشاعرية ، كما ان بلاغة اللغة وما ورد فيها من صور وتشبيهات اعطتها جمالية مدهشة ، فلغة الرواية سلسلة منسابة كمياه جدول عذب ، تشد القارئ اليها ، تدمجه فيها ، دون اثقال عليه . وعنصر التشويق جارف كسيل عرمرم ، فمع طول الرواية التي تزيد على الخمسمائة صفحة الا ان جماليات اللغة وسلاسة الأسلوب تأسر القارئ وتجبره على قراءتها مرة واحدة ، واذا ما تركها في مرحلة معينة لسبب ما …. فإنها تلاحقه وتشده اليها من جديد .
وقد لاحظت ان الكاتب كرر عبارتين اكثر من مرة ، ولم أعلم ان كان ذلك مقصودا من الكاتب ، أم كانت تأتي معه عفو الخاطر ، وهما عندما كان يقف صاحب الأصيلة امامها ” ينزل على ركبتيه ، يرفع قائمتها اليمنى ويقبل حافرها ، ثم يعيدها ويرفع اليسرى ويقبلها ويعيدها مكانها ”
ومع تعلق العربي بفرسه الأصيلة الا انني لم أسمع ، ولم أقرأ ، أن عربيا فعل ذلك الا في هذه الرواية ، مع انني شاهدت وسمعت وقرأت عن تقبيل الخيول الأصايل على جبينها .
اما العبارة الثانية المتكررة فهي وصف الجوّ الماطر لـ : تلبدت الغيوم وقذفت ما في جوفها من ماء دفعة واحدة .
الاسلوب مرة اخرى :
يلاحظ ان الكاتب قد قسم ملحمته الروائية الى ثلاثة كتب ، وقسم كل كتاب الى قصص أو ما يشبه القصص ، كل قصة لها عنوان منفصل ، وكل قصة مرتبطة مع الأخرى بخيط حريري ، انها مشاهد تصويرية مدهشة ، فالكاتب كان يرسم لوحات متداخلة ومتشابكة ، فقدم لنا مشهدا روائيا اجبرنا على الانخراط فيه ومعايشته من جديد ، والرواية اشبه ما تكون بفلم سينمائي .
وفي تقديري ان تقسيم الملحمة الروائية بهذه الطريقة ، جاء لخدمة العمل وادخال كافة الروايات والحكايات الشفهية والمقروءة التي عاشها ابناء الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة الممتدة من الربع الاخير للقرن التاسع عشر الى نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948والتى سمعها الكاتب من رواتها أو قرأها.
وفي النهاية : ان هذه الرواية الملحمية تشكل اضافة نوعية ، وعلامة بارزة في تاريخ الأدب الفلسطيني والعربي ، وترجمتها الى لغات اخرى ، يغني عن كثير من المناظرات السياسية والكتب التاريخية التي أرّخت للنكبة الفلسطينية . وهذه الرؤية الانطباعية لهذه الرواية لا تغني بأي شكل من الاشكال عن الدراسات النقدية المنهجية التي ستثريها .

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات