الشاعرة سلمى جبران في ندوة اليوم السابع

ا
القدس: 28 -7-2016 من رنا القنبر- استضافت ندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، الشّاعرة الحيفاويّة سلمى جبران، حيث ناقشت بحضورها ديوانها “لاجئة في وطن الحداد” المكوّن من أربعة أجزاء، كلّ جزء منها يشكل فصلا من سيرة الشّاعرة الشّعرية وهي”دائرة الفقدان”،”الحلم خارج الدائرة”،”متاهة الحبّ” و”حوار مع الذّات”، وجميعها صادرة عن “دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع” في العاصمة السّورية دمشق، بالتّزامن مع صدورها في حيفا.
بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال:
أربع مجموعات شعرية حملت العنوان العام أعلاه، وتخصصت بعنوان فردي لكل منها.
وهي تعرّف المجموعات الأربع بأنها “سيرة شعرية في أربعة فصول” مما يشير إلى أن كلّ مجموعة تشكّل فصلا في سيرة الشاعرة الشعرية.
سيطرت مفردات الحزن والفقد والحسرة والموت والاغتراب على هذه السّيرة في مقابل مفردات: التّحدي والإصرار على العيش والثّقة بالنفس. وهذه المفردات أو معانيها يجدها القارئ في ثنايا قصائد الشاعرة، التي جاءت على شكل مقطوعات سريعة بلغة سهلة أليفة لا تعقيد فيها؛ لأنها تسعى للتعبير عن ذات الإنسان وعاطفته بوضوح لا يحتمل الغموض، ولا الاختباء وراء الرمز أو اللغة المبهمة غريبة التركيب والاستعارة غير المألوفة، مما يشيع هذه الأيام في ما يكتبه عدد من الشّاعرات والشّعراء وهم يقلّدون قامات شعرية تعرف كيف تبني معمارها الفني وتختار لغتها.
في قصائد الشاعرة سلمى جبران بوح حزين، لكنه قوي لا يقبل الشّفقة. وفيها تحدّ لواقع قاس يحاصر المرأة: إنسانة وأرملة. وفيها وفاء لحبيب رحل، وأبقى لها سنوات عمر حزينة وأسرة تقوم على رعايتها.
المضمون واحد في قصائد الشاعرة، لكنه يتلوّن بأشكال وألفاظ، ويتكرر باستمرار وكأنّ الشاعرة قد كتبت قصيدة واحدة طويلة. فالمضمون الواحد ومستوى اللغة والأسلوب يوحي بهذا الحكم.
تميّزت الشاعرة بموسيقى قريبة من النفس، تعبّر عن حالة مزاجية إنسانية، تشعر بالقهر واللوم فتتحدى وهي تعبّر عن بنات جنسها هنا بالتأكيد.
وقال جميل السلحوت:
كلما مرّ اسم شاعرتنا أمامي يعيد إلى ذاكرتي صورة الشّاعر الرّاحل سالم جبران، أحد أبرز الشّعراء الفلسطينيّين في الدّاخل بعد نكبة العام 1948، وحسب معلوماتي هو عمّ شاعرتنا سلمى.
وقفت أمام عنوان ديوان شاعرتنا “لاجئة في وطن الحداد” متسائلا حول هذا العنوان الذي يحمل في ثناياه مفهوما فلسفيّا، ولا غرابة في ذلك فتأثرها واضح بجبران خليل جبران، تماما مثلما يحمل أكثر من دلالة، فالقراءة العابرة لهذا العنوان توحي بأنّ الوطن في حالة حداد، أمّا القراءة المتمعّنة فتعني أنّ الحداد وطن بحدّ ذاته، وأنّ صاحبة الدّيوان لاجئة في هذا الوطن، وإذا كان الوطن “مكان انتماء الانسان ومقرّه، وإليه انتماؤه، ولد به أم لم يولد”، وأنّ اللجوء يعني  “لجَأ  الشَّخْصُ إلى المكان وغيره: قصَده واحتمى به” فهل يعني هذا أنّ الحداد ملازم لشاعرتنا – وهذا ما لا نتمنّاه- بحيث أصبح ملاذها الأخير؟ لكنّ كلمة لاجئة تعني أنّ الحداد مؤقّت، لأنّ اللاجئ لا بدّ أن يعود إلى وطنه الأصليّ، وبالتّالي فإنّ شاعرتنا لا بدّ أن تعود إلى وطن الفرح- وهذا ما نتمنّاه لها-.
وسيجد القارئ تحت عنوان كلّ جزء من أجزاء الدّيوان “سيرة شعريّة في أربعة فصول” أيّ أنّها تكتب وتنشر مسيرتها الشّعريّة، ولا تكتب سيرتها الذّاتيّة، مع أنّ الشّاعر والأديب يكتب شيئا عن ذاته في نصوصه، وحبّذا لو أنّها ذيّلت كلّ قصيدة من قصائدها بتاريخ كتابتها، لتساعد القارئ على متابعة مدى تطوّر سيرتها الشّعرية، وإن كان الفقد مصاحبا لهذه السيرة والمسيرة، فهل الفقد هو من فجّر طاقاتها الشّعريّة، أم أنّه كان محرّضا لها للبوح بما اختزنه ويختزنه صدرها؟
وإذا ما انتقلنا إلى “الاهداء” وهو:” إلى كلّ امرأة فقدت، فتعثّرت إنسانة وتعثّرت أنثى”، وهذا إهداء موجع أيضا، فالشّاعرة التي فقدت زوجها في سنّ مبكّر، وذاقت مرارة ووجع هذا الفقد، تعي ماذا يعني هذا الفقد للمرأة كانسانة وكأنثى أيضا، خصوصا في المجتمعات الذّكوريّة، لذا فهي تتعاطف وبوعي وتجربة تامّين، مع بنات جنسها اللواتي يعانين من الفقد.
والقارئ لديوانها هذا سيجد أنّ الشّاعرة لا تزال تعاني من ويلات “الفقد”، رغم أنّها طرقت أبوابا من أغراض الشّعر المختلفة، فقد كتبت في  “الحزن- الفقدان- الحب – القبليّة – التقاليد الاجتماعيّة والعائليّة – العقليّة الأبويّة الذّكوريّة – الأمومة – النرجسيّة الذكوريّة– الوحدة – الغربة – المحبّة – التمرُّد – الحلم – الصّدق مع الذّات ومع الآخر – الوعي – اللاوعي – الرّوح – الحرّية – المعاناة – الحنين- الموت – الصّمت – الحوار مع الذّات – الجنون – اللغة والحروف – الضّعف – البدائيّة – الوطن كحلم ذاتيّ.” لكن الفقد لم يغب عن أجزاء الدّيوان الأربعة.
اللغة الشّعريّة: تمتلك شاعرتنا مخزونا لغويّا واضحا مصحوبا بثقافة شموليّة، ويظهر ذلك جليّا بلغتها الجميلة الانسيابيّة، وبصورها  الشّعريّة البلاغيّة اللافتة، وتأثّرها بالنّصوص الدّينيّة، واستلهامها في بعض قصائدها، ومع أنّها تكتب قصيدة النّثر، فإنّ الموسيقى والإيقاع تجعلها راقصة في غالبيّتها كما هي تفعيلات الشّعر الغنائيّة.
ويلاحظ القارئ أنّ شاعرتنا قد أدخلت “أل التعريف” على الفعل المضارع في أكثر من موضع، وأعتقد أنّ ذلك مقصود منها، فقد سبق أن استعملها الشّعراء العرب من قبل كقول الفرزدق:
مَا أَنْتَ بِالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ * وَلاَ الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرَّأْيِ وَالجَدَلِ.
يبقى أن نقول بأنّ الشّاعرة تكتب قصيدتها في لحظة شعور، فتبوح بما في داخلها بطريقة تبهر المتلقي، مع مرارة المضمون في غالبيّة القصائد.
وقال نمر القدومي:
عبر التّاريخ كانت الحكايات، منها السّيرة الذّاتيّة والإعترافات الرّوحانيّة، فهي الملاذ المُساعد على تذويب كل المآسي، وتجاوز كل أزمات الإنسان المقهور والمفجوع في تطلّعاته وطموحاته. إنّها بديل تساهم في تحقيق توازن نفسي وتصالح حقيقي مع طبيعة الخَلْق والحياة وإرادة السّماء. فإذا كان الواقع مرّا علقما، فبالحلم يتم تخطّي الغصّة والمرارة، فتنقشع الدّياجير، لأنَّ الحلم قادر أن يجلي صدأ القلوب وحزنها. من قرية “البقيعة” على الحدود اللبنانيّة، ومن بيت الأصالة والثّقافة، أطلّتْ علينا الشّاعرة “سلمى جبران” المتميّزة منذ نعومة أظفارها، البسيطة، الصّادقة، الواضحة،الصّريحة والمحترِمة للعلاقات الإنسانيّة.
مدينة “حيفا” كانت مركز نشاطها وحياتها، وقد خرجت علينا مؤخرا بمجموعتها الشِّعريّة “لاجئة في وطن الحِداد”.
خَلْف الحروف تسكن المعاني .. وكل الكلمات هنا تصف تسلسل المراحل الوجدانيّة للشّاعرة نظرا لِما عانته من تجارب صعبة. فقد نمّقتْ أديبتنا سردها بجودة عالية؛ فزاوجت بين التّميز اللغويّ من حيث انتقاء الكلمات والمعاني، وواقعيّة المضمون التي تعيشه روحها وجسدها، وكذلك عمق الدّلالة التي ترمي إليها. الشّاعرة “سلمى جبران” تطرح أمامنا أفكارها ومشاعرها بصوت جهوريّ، أمّا خيالها الواقعيّ فيسبح في فضاء رحب وثريّ يجرُّ القارئ إلى أفق جميل، وهي معتمدة بذلك على الرّموز والإيحاءات في قصائدها. ليس الشِّعر رأيا تعبّر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم. كل ذلك إنما يدلّ على ثقافة الشّاعرة وإتساع مداركها ورهافة حسّها، فهذه الدّواوين الأربعة كُتبتْ على مرِّ السّنين، وتحمل بين طيّاتها الحنين والعاطفة والأمل والثّورة والدافعيّة للتغيير. فمن بين الشّرايين تغزو كلماتها ذاك الحبر المنساب من بين أصابعها، وتبوح لنا عن ذاتيتها في قصائدها وفلسفتها في الحياة، وتلك النزعة الإنسانيّة من طهارة خُطاها وحلمها التي تعيش بدواخلها.
نجد في كلمات قصائدها ذلك النّور السّماوي المُتطبّع بالكتاب المقدّس وتعاليمه من ناحية، ونشتَمُّ عِطر الشّاعر والأديب “جبران خليل جبران” من ناحية ثانية. تعمّقتْ شاعرتنا في قصائدها ومعانيها حدّ القداسة، فكانت هناك الصّور المشتركة، والإلهامات المُضيئة، وكانت أيضا الحِكم والمنطق والفلسفة متواجدين، وكأنَّ الأب “جبران” والأبنة “سلمى” في خطّ المواجهة. إرتأيتُ لنفسي أن أقرأ بامعان وتمحيص ديوانها “حوار مع الذّات” الذي اعتبرته الأقرب إلى روحها، فخطاب النّفس هو الأصعب في الوجود. الشّاعرة تُعيد هيكلة كيانها نحو الأقوى معتمدة على التّحدي في داخلها، وكذلك على القوة الإلهية المؤمنة بها حقّ الإيمان، وأيضا محاربة الجهل المُتفشّي، فنشوة الحريّة تبقى بالابتعاد عنه، أمّا الإلتزام بالصّمت فهو يفوق كل الكلام. إنّها قصّة الحبيب السّاكن تحت التّراب دون عودة، إلاّ ذِكراه، وما صفحات الكتاب وحُب العيش في طيّاته، سوى تعويض لسعادة فاتت من عمرها. القراءة عندها تُحيي الرّوح وتبني لها الجسد القويم للمقاومة، وما أصعبها أيتها “السلمى” حين يفنى العمر والجسد ويتفجّر القلب جرّاء زيف في العطاء والمحبّة، وجرّاء معاملات كشفت الحقد في قلوبٍ عِشناها من قريب مع العامّة. أمّا في قصيدة “روح فتاة غجريّة”، تعترف “سلمى” بذلك الانصهار الرّوحاني في كتاب  جبران “الأرواح المتمرّدة” وقصّة “مرتا البانيّة” الفتاة اليتيمة يتركها الزمن في البراري، تفترش الأعشاب وتلتحف السّماء وتقتات من البذور،حتى نال منها ذلك الوحش الآدمي إبن الطّبقة الأرستقراطيّة ومعه أصدقاؤه، لتموت قهرا وفقرا في أقذر الأماكن! أمّا القصّة الثانية فكانت “خليل الكافر” الذي تحدّى الكنيسة وغطرستها في زمن الظُلم وفي زمن الجُبن، حتى باتت روحه في خطر لولا تدخّل بعض الشجعان وإنقاذه! إنَّ الصّراخ في وجه الباطل مسألة مبدأ من أجل الحريّة، وصراع الشّاعرة ضد الفقدان أماتها وأحياها بإرادتها القويّة، وجبروتها الشّامخة، بينما ذكرى الغائب تبقى تُطيّب زوايا حياتها.
ابتعدت الشّاعرة عن الطريقة التقليدية للقصيدة، إلاّ أنها أحسنت في تمسّكها بالقافية الموحدّة أو المختلفة وذلك حسب ما تمليه ذائقتها، وكأنَّ القصيدة تعبّر عن حالتها النّفسيّة، فجعلتها أحيانا حرّة غير ملتزمة. أما الثراء اللغويّ فكان مليئا بالألفاظ المأخوذة من كافّة نواحي حياتها وبيئتها؛ خاطبت الإنسان والمكان، وخاطبت السّماء والإنجيل، فكانت لها الألفاظ القاسية تُدافع بها عن نفسها الوحيدة في عالم الغاب، وكانت لها أيضا ألفاظ عاطفيّة وروحانيّة تستقي منها نشوة الإنتصار. وفيما يتعلّق  بالصّور البلاغيّة في قصائدها، فتجلّت بأبهى جمالها حين سطّرت شاعرتنا الرّائعة عنصر المكان، واختارت “السّفح الغربيّ” من جبل الكرمل، وتغنّتْ بالأطلال شوقا وعشقا لأيام شريك العمر والقلب، الذي هجر الحياة. هذه الصّور البلاغية والبديعيّة المجازية كانت حاضرة في انتظاره، حتى أغصان الشّجر الأخضر والخوف من أن يجفّ وييبس؟ كلُّ همٍّ وغمّة، وكلُّ خطوة وعودة، وفي كلّ فكرة وزهرة وكأس خمرة، تكون هناك يا “سلمى” في مقلتك دمعة تُعيدين صورة الماضي وتتجلّى لك الحقيقة. ففي ثنايا السّنين اختبأت الفرحة دون إبتسامة، وفي خفايا العيش ظهرت حقبات حزينة لكن دون دمعة. فمن كان يريد أن يرى غضبها للحق، فليقرأ قصائد كتبتها أيادي مرتجفة، ومدادها ممزوج بدموع حارقة، وقلب ينبض بهستيريّة حزينة. وما فخامة التّعبير “لاجئة” إلاّ بسبب فقدان حبيب وشريك العمر، وكأنّما خسارتها لوطن كان يحمي أفق أحلامها النديّة.
وقال عبدالله دعيس:
العاطفة في ديوان سلمى جبران
ما أن يشرع القارئ بتصفّح ديوان (لاجئة في وطن الحداد) للشاعرة سلمى جبران، والذي قسّمته إلى أربع مجموعات، ووصفته أنّه سيرة شعرية، حتّى يدور مع الشاعرة في دائرة الفقدان، والتي تظهر معالمها في كل قصيدة من قصائد الديوان، وعندما يهمّ بالحلم خارج الدائرة تجذبه متاهة الحبّ، ويقف يتأمّل حوار الشاعرة لذاتها، ليعود ويدور في نفس الدائرة، ويجد نفسه يصاحب الشاعرة بكامل أحاسيسه ومشاعره في رحلة اللجوء في وطن الحداد. هناك يجد امرأة تحمل أحلام الطفولة وعشق الصبا، تتلوّع بمرارة فقدان المحبّ، وتتلقّى سهام الحقد والحسد والشكّ ممّن يحيط بها، لتواجهها بروح المحبّة والإيمان، وتبقى متعالية على أدران الحقد مهما لحقها الأذى، ولتكون أمّا لأطفال فقدوا الأب، وتتحلّى بوفاء وإخلاص قلّ نظيره. سيرة رائعة لامرأة، عنوانها الحبّ والإخلاص وسلاحها الأيمان والصلاة، ورحلة مثيرة على أجنحة انفعالات الشاعرة وأحاسيسها وعواطفها الصادقة التي لا تخبو عبر قصائد الديوان العديدة.
تظهر العاطفة قويّة جليّة منذ أولى قصائد الديوان، وتستمرّ العاطفة بنفس القوّة حتى نهاية أجزائه الأربعة. تحيك الشاعرة دائرة الفقدان منذ قصائدها الأولى، فتشير إلى مواطن الحبّ في هذه الطريق وإلى دروب الآلام فيها، فيبدو حب الأرض والبساتين والهوى الذي عشش في فؤادها مذ كانت طفلة سعيدة به، ثم حياة ملؤها السعادة والعطاء، لتؤول إلى دروب الحياة الوعرة التي سلبتها حبيبها، لكنّها لم تسلبها الحبّ الكبير الذي تحمله في قلبها، ويبدأ البكاء، وتطغى عاطفة الألم والحزن، لكنّها لا تلبث أن تعود إلى ذكريات الطفولة وإلى ينابيع الوفاء والحبّ الكبير الذي يلبث في الفؤاد حتى ولو غاب جسد الحبيب، وتعود لتستقي من ينابيع الحبّ وتدور في هذه الدائرة قويّة مستعصية على الألم، مستمدّة القوة من ماضيها وإخلاصها وحبها وإيمانها بخالقها. فتخاطب حبيبها الذي غيّبه الموت فتقول:
يا حبيبي أنا لم أبقَ
وحيدة
أنت نور في فؤادي
أنت دمع وحياة
وقصيدة
أنت حلم لم يمت
أنت لحن يُطرب القلب
يغنّيه نشيده
فالعاطفة في ديوان سلمى جبران هي العنصر الأبرز والأكثر طغيانا على قصائدها، وأهمها عاطفة الحبّ: حبّ الزوج الراحل، وحب الأطفال، كما حبّ الوطن ورائحة ترابه بعد أمطار الخريف، وحبّها للحريّة والحياة، وحبّ الإله الخالق الذي يصاحبها ويعطيها القوّة والمحبّة التي تدفع بها الحقد. أما العاطفة الغائبة عن قصائدها فهي الكراهيّة، فبالرغم مما وصفته الشاعرة من إحاطة الحاقدين بها، وانتقادهم لها ولأسلوب حياتها، وتعرّضهم لها، إلا أنّها تواجههم دائما بالمحبّة، ولا يتسلل ولو في كلمة من كلماتها معنى يشي بكراهيتها أو يدفع القارئ إلى الكراهية؛ فكلماتها عنوانها المحبّة التي دائما ما تهزم الحقد والحاقدين.
أما عاطفة الحزن فهي حاضرة بارزة بقوّة في أنحاء الديوان، تنطق بها أحاسيس الشاعرة عندما تعبّر عمّا يجول في خاطرها، وتتدفّق مع انفعالاتها وكلماتها، لكنّ هذا الحزن لا تصاحبه نظرة سوداويّة، ولا يدعو إلى اليأس والقنوط. ومع أنّ سلمى جبران فاقت الخنساء في بكائها صخرا، إلا أنّ حزنها لم يكن رثاء بقدر ما كان ترسيخا لمعنى الحبّ والوفاء والتعالي على الحقد والتعلّق بالخالق. فعاطفة الحزن عند سلمى جبران مستوحاة من معاناة صادقة حقيقيّة.
يعود لي عشقي
فتنهض الأوجاع
من جديد
وأكتم الدموع
فدورة الحياة في
عواطفي قاسية
ودمعتي احتضارها أليم
والشاعرة قادرة على إثارة العاطفة في نفس القارئ بشكل جليّ، فهي تنقله إلى عالم مليء بالعواطف التي تتميّز بالصدق، حيث يشعر المتلقي بالعاطفة تتدفق مع كل كلمة من كلمات القصيدة ويعيشها بمشاعره ووجدانه. والعاطفة قويّة واضحة جليّة، حتّى أنها تطغى على النصّ الشعريّ وتسيطر على مشاعر السامع أو القارئ، وهي ثابتة تتكرّر في قصائدها، مع أنّ عدد القصائد كبير جدا، ولا تخبو في نفس القارئ حتّى بعد أن يقرأ عددا كبيرا من النصوص التي تدور حول نفس الموضوع وفي نفس الدائرة، لكنّها تبقى تثير نفس العاطفة بنفس القوة والاشتعال. والعاطفة في قصائد سلمى جبران تتصف بالسموّ، فهي تبثّ العواطف الإيجابيّة وتتعالى على العواطف السلبيّة، فهي تترفع عن الكراهيّة والحقد وحب الانتقام.
محبّتي للناس قد زرعتها
في داخلي فأورقت
فلن تقتلها الأحقادُ
لن يهلكها الزمان
وعاطفة الأمومة لديها قويّة متأجّجة، فتشتعل قصائدها بحنوّها على الأبناء، والذين تهبهم حنان الأمّ وحنان الأبّ الذي واراه التراب. وتتميّز قصائد سلمى جبران بالعاطفة الدينيّة الجيّاشة، فهي تلجأ إلى الله في كل حين، وعند كل خطب، وتستمدّ قوّتها منه،  وعندما تتفاقم الخطوب تعود إلى “بذرة حب تحميها أيد ربّانية.”
وانبرت القبيلةُ
من كؤوس السم تسقيني
ولكنّي أحس بأن
في قلبي محبة خالقي
تمتص من نفسي
سمومهم وتحييني
والشاعرة تركّز على مشاعرها الذاتية وترى العالم من خلال نفسها. أما المتلقي فلا يجد مشقّة في متابعة معاني الشاعرة والتأثر بعواطفها والدخول إلى أعماقها من خلال كلماتها البسيطة، ولغتها العذبة الرقراقة التي تبتعد عن الصور الشعريّة المركبة المعقّدة وتنساب بعفويّة وبموسيقى ممتعة للأذن والروح.
وكتبت نزهة أبو غوش:
في ديوانها  ” لاجئة في وطن  الحداد” دائرة الفقدان، تعزف قيثارة الشّاعرة الفلسطينيّة سلمى جبران  لحنًا منسابًا؛ لتحوّل أيامها أنغامًا، وحلمها صراعا وتحدّيًا، لكنّ جنونها في النّهاية يرمي بها إِلى التّهلكة.
العاطفة في قصائد الشّاعرة سلمى تحمل بين ثناياها عواطف مذبذبة، تتأرجح ما بين الحزن والفرح، وما بين الحبّ والخوف، القلق والحرمان، اليأس وخيبة الأمل، الشّوق والفقدان.
حلم  الشّاعرة بالماضي الزّاخر بالحب ما زال يأسرها ويبدد في ذاتها اليأس الأبديّ، لكنّه في الوقت ذاته يظلّ يؤرقها ويعذّبها ، حيث تشعر بأنّه يكبّل  حرّيّتها ويشعرها بالوحدة والألم.
لقد سيطرت عاطفة التّشاؤم على روح الشّاعرة “هل أقدر أن أدفن في نفسي ألمًا حيًّا لا يغفل؟
هل يعقل أن تنبت أزهار وورود في قفر مهمل؟” ص82
في ديوانها” دائرة الفقدان” عبّرت الشّاعرة سلمى جبران عن فرح طفولتها، وعن براءة  سعادتها  الّتي لم تحيها إِلا ساعة عابرة عاشتها بحلمها الدّفين. حلم بالرّفيق الّذي فقدته وانطوى من حياتها تحت تراب بلدتها.
إِن امتزاج روح الشّاعرة بروح  من أحبّت وفقدت، ولّد لديها الشعور بالعزاء؛ لأنّها تشعر بأنّ روحه تحملها وتطير بها إِلى أيّام الماضي بفرحه وألمه؛ لكن شعورها بالغربة ظلّ مسيطرًا عليها؛ لأنّها تعيش وسط دائرة  أو دوّامة من الفقدان.
عاطفة الخجل والارتباك عبّرت عنها سلمى جبران في قصيدتها” ذكريات”  حيث عواطف المراهقة المرهفة الحسّاسة. مشاعر نابضة بالحبّ العذريّ البريء الّذي ملأ قلبها الغضّ   المرتجف، فزادها تعلّقًا وطمأنينة. ” لا زلت أذكر طفلة/ زارتك تسأل عن كتاب النّحو/ تعلو وجنتيها حمرة  الخجل…/ فوقفت عند الباب/ ترقبها في عينيك/ بسمة عاشق ثمل.” ص74″
في نفس القصيدة عبّرت الشّاعرة  جبران عن خيبة أملها  بالحبّ وبالحبيب؛ بسبب الهجران الطّويل بقولها: “واليوم بعد الهجر ضاق/ الصّدر عن  حمل العواطف/ وانتهى  عهد الحنان” ص75.
عاطفة الشّاعرة جبران الجيّاشة  المرهفة، خلقت بداخلها احساس الشّاعر الّذي تكتبه القصيدة قبل أن يكتبها؛ فتؤنس وحدتها وتذوّب بداخلها الأحزان، لكنّ من خلال قراءتنا لقصائد أُخرى في الدّيوان، نشعر بأنّ  عاطفة الحزن لن تذوب  أبدًا في أعماق الشّاعرة، بل ازدادت  تدفّقًا: ” يمزّقني ويسرق غفوتي/ ويراني/ ويردّ لي ألم الفراق/ ويبتغي صبرًا/ فأجرع كأس أحزاني”  من قصيدة” في  كلّ موّال” ص 118.
تحاول الشّاعرة أن  تمحو بحبّها الجريح كلّ الحقد الّذي  يواجهها في هذا الكون؛ فتزداد به حرّيّتها. “فيظنّ من يرنو إليّ/ بأنّني أحيا ولكن …ما أزال أٌحاول / وأُمزّق الأحقاد في قلبي/ ويحرقها لهيب محبّتي” قصيدة: أنا لا أزال أُحاول. ص91.
في ديوان  ” دائرة الفقدان” تدرّج حبّ الوطن من روح الشّاعرة سلمى صادقًا مؤثّرًا، إِذ عاشت غربة بعد غربة، بعد هجرتها من قمم الجليل  “هل تقبلينني يا أُختُ في “زاروب “عكّا في الحمى؟/ أعيش غربة ثانية/ أجني بها محبّة الأوطان/ موسمًا فموسما”. قصيدة: “في زاروب عكّا”ص111.
لقد حمّلت الشّاعرة  جبران قصائدها كلّ آلامها وأحزانها، فكانت ملجأها؛  فأثقلتها  .
عاطفة صادقة احتوت جلّ العواطف السّابقة لدى شاعرتنا سلمى، فأكسبتها صدقًا وجمالًا وروعة؛ فهي محبّة الله سبحانه وتعالى، حيث برزت تلك العاطفة في عدّة قصائد في ديوانها ” دائرة الفقدان”. ” من كؤوس السّم تسقيني/ ولكنّي أحسّ /أنّ /في قلبي محبّة خالقي/ تمتصّ من نفسي/ سمومهم وتحييني” من قصيدة: أبكي فؤادًا مزّقوه ومزّقوني” ص85.
وقالت نزهة الرملاوي:
الشاعرة سلمى جبران تلوذ إلى الكلمات كلما هبت بها نيران الشوق، وألم الغياب والفقد، وما خرجت من دائرة الفقدان من سيرتها الشعرية، حتى رأيناها تحلم خارج تلك الدائرة، وتتوه حبا، ثم تتجاوز كل ماكتبت، فتبدأ بمحاورة ذاتها، في مجموعتها الشِّعريّة “لاجئة في وطن الحِداد”.
حملت الكتب وبدأت بقراءة العنوان، ( لاجئة في وطن الحداد ) تطرقت الشاعرة إلى الموت والغياب، فاستخدمت مصطلح الحداد؛ لتكوّن منه وطنا تلجأ إليه، في ساعات حزنها وافتقادها الذي ظهر للقارئين أبديا، لا خروج منه، وآثرت أن تكون لاجئة في وطن يلتزم الحداد، فاعترفت الشاعرة بأنها في دائرة مغلقة تشابك بها الأيمن والأيسر، ورغم شقها لطريق آخر، يدفعها الأمل والطموح، إلا أنها تعود إلى نفس الدائرة ( دائرة الألم والأرق والدموع) فتلقاها أعظم وأجمل، ولا أدري هنا لِمَ اختارت طريقا مظلمة وبقيت فيها، رغم وجود مخارج أخرى، قد ترى فيها الحياة.
تقول الشاعرة:
وأنوح أبكي ساعة
وتذيب جسمي لوعة الحسرات
فأعود للنبع المقدس
أنهل الأسفار والآيات
فيضج في صدري نشيدي
يغرق الكلمات في كلماتي
فيعيد في روحي الحياة
تهرب الشاعرة في كل مشهد وصورة من صورها الشعرية من واقعها المؤلم إثر افتقاد من أحبّت، وعشقت من الصغر، إلى كلمات نحسّها تتدفق ألما وحسرة، فتضفي جوّا من الكآبة والسّواد على معظم القصائد، وكأنّ الشاعرة تريد إقحام القارئ في حزنها وألمها، فلها ما أرادت، فلقد تميزت التعابير والمفردات بالإنتقاء ومحاورة الآخر، ووضعته في طرق متأزمة من الأحزان وتمزق النفس، وتمزيق للفرح الفاني، والحنين المتأجج، كل الكلمات حكت معاناة التألم في نفس الشاعرة، وفي نفس الوقت تميّزت القصائد بمفردات الايمان، الإله، المقدس، الأسفار، التراتيل، المذبح، التكوين، النور، الصلاة، المعبد، خشب الصليب، مما جعل القارئ يصاب بالملل.
أبدعت الشاعرة في وصف الطبيعة.
لاحقت الكاتبة القافية في معظم قصائدها، وربما أضعف ذلك المعنى.
تميزت القصائد بالنزعة الإنسانية، فحاكت القلب النبيل، والثورة على القيم المرتدة، ونسف الأفكار الرجعية، والنور الذي يفتت الحقد، والحب، وحاكت الواقعية في دوافعها للكتابة، وكانت الكلمات مفعمة بالايمان بالله، وكان الملاذ بعد احتضان الألم في ثنايا القصائد.
بقيت قصائد الشاعرة في وتيرة واحدة، إمرأة استوطن في قلبها الحزن، وسيطر على قصائدها، فنرى في استهلال معظم القصائد، بداية تدل على دخولنا إلى عالم حزين يائس؛
يخلقني العذاب من جديد
لوعتني بالحب..ما زال الحزن يحطم في قلبي..قلب يتيم، الغضب يؤجج في صدري لهبا…يتخبط في روحي الحزن..هل أهذي ؟ هل أحلم..أم أنّي في لحظة حزن…الموت يجسد في روحي…إلى آخره.
في بعض الأحيان، نجد في بعض القصائد دربا من التحدي للإرادة الإلهية، رغم الايمان الواضح في بعض القصائد، كقصيدة أبكي فؤادا مزقوه:
يا واعدا قلبي بجنات المحبة والحنين
قم وانتفض من بين طيات التراب
ورد لي كأسا
تعطر بالندى والياسمين.
من الملاحظ أن الشاعرة أعادت في حوارها مع ذاتها، قيودا همشت الفرح في داخلها وجعلتها في حلقات الألم ذاتها، والوحدة ذاتها، فترى درب الوحدة يصب لها خمر الهوى في كأس أحزانها، فيسكرها وينسيها.
امتازت القصائد ببساطة المفردات ووضوحها، وحملت عواطف جياشة، عاطفة الحزن والحنين للحبيب والحارة والطفولة، والتذمر من الفقد، فلا زالت الشاعرة تفتش عن نفسها، وتعترف بأنها زاوية مظلمة تريد أن تفضح سر وجودها.
احترمت شاعرتنا العلاقات الانسانية والوفاء للحبيب الغائب، وآثرت في غيابه العيش على ذكراه ، فجردت حقيقة نفسها فلي لحظات الحزن، وجرفت من قلبها كل حرارة الأنات، وهدأت.. لتفكر كيف ستحكي أوجاعها لحبيب يرقد في غرفة الأموات…3ص30.
في هذه القصيدة
( اللحظات الأخيرة) عبرت الشاعرة عما يختلج في صدر المنتظرين خارج الغرفة، فقد وجهتنا الشاعرة إلى غرفة الموتى، وكيف يتلظى المرتقب جمرا، لخروج طبيب، يسمح لنا فيه أن نرى من يغربون ولا يعودون؟ وكيف يتوقف الزمن ليرقب الحسرات؟ وعندما يشق الباب ويخرج الطبيب، يموت المحب الحيّ بموت الحبيب الراكض في صمت، حيث ينتظر دفء التراب، تصرخ الحبيبة وتمزق ثوبها، وتجمع من بقايا جرحها، حروف الصلاة، وترتوي من مياه الأحزان.
وكتب محمد عمر يوسف القراعين:
كل ما أعرفه عن الشاعرة، عدا تشابه اسمها مع القاضي سليم جبران، أنها كما يقول المصريون مفروسة أوي من التقاليد القبلية، والأعراف البالية، التي فرقت بينها وبين حبيبها المغدور، فلجأت إلى التخفيف عن آلامها وأحزانها، بالأنين والحنين، والدفاع عن المرأة مكسورة الجناح بشعر بسيط محبب، تغلب عليه الموسيقى، ويصلح أن يكون ديوانها بالنسبة لي، قصة أو حدوثة أتوقف عند بعض معالمها، التي تبدأ بالمناجاة في دائرة الفقدان:
“يا حبيبي أنا لم أبق وحيدة….أنت نور في فؤادي…. أنت دمع وحياة وقصيدة.
روحك الحرة…. تحييني تواسيني…. وتشفي سقمي…. يا فؤادا عز أن يناى…. فذاب ألما في ألمي.”
وعندما ترثي لحالها، تستقوي بالحب:” الحب يحول كلماتي…. إشعاعا يصهر أحقادا…. يحملها قلب غادر… يتجند في معركتي حبي… ليحول قفرا بيتا عامر.53″
كما أن الشعر يملأ حياتها كما تقول: “أحيا في الكون وحيدة… أحيا وحياتي فارغة… تملؤها بالحب قصيدة. “
وترى صورة حبيبها في متاهة الحب في جميع من حولها، مما يخفف وحدتها:” قد أعشق وجهك… في كل وجوه الناس… وقد يسكرني… لحن عتابي… لكن الصحوة… تقتلني حين… ألاقي الوحدة… في غرفة نومي… لما أوصدُ بابي.”
هذا يذكرني بهذا البيت:  عبق الجو من أريجك حتى خلت أنى نظرت أنت أمامي “
تتلذذ بالآلام والحرمان في أحلامها، تعيشها مع الشعر: “ألمي وحرماني تحول… لذة وأحال نومي… صحوة تنساب… بين عروقها أشعارُ… وأظل أعجز أن… أصد تدفقا منها… فلا يبقى لدى قلمي خيار.”
عندما يبلغ بها اليأس حدّا في الحلم خارج الدائرة، تحن إلى لحظات كانت عايشتها مع حبيبها، هيهات أن تعود: تهجرني حرارة في أضلعي… يدب بي جفافيَ العنيد… هل أستعيد لحظة… أحس فيها الكون ناهضا وزاخرا… يُفعمني جماله، فيبعث الحياة في دمي… هل أستعيد؟
مسكينة في حلمها، تحيا هموم المرأة منذ القدم:”يتهاوى في قلبي… جبل الهم ويسقط في هاويتي… يخترق كياني… يتدفق في قلبي زخم دماء… يتسرب في مجراها… كبت قرونِ.”
وتستمر في طريقها وحيدة وصادقة مع نفسها:” أسير لوحدي… بين حدائق ناري… وأخوض حياتي عارية… إلا من صدق … يصنع لي معياري… شائكةٌ ملآى… بالحقد دروبي… لكني أقسمت بأن الصدق خياري.”
وهي تحلم، لا تنسى أن تثور على القيود القبلية بإعلانها:”أن النساء إذا أحبت… لا ترى قبرا ولحدا… فهيامها ينمو… وغرامها يرقى… ويتخذ المحبة… والهوى دينا ومبدا.”
وتكرر ذلك في متاهة الحب حيث نراها ثائرة على التقاليد التي ترفضها:” حُلمي سرقتْه… منذ قرون… كل فُتُوات العُرْب… تركتني أحيا… في زنزانة عُرْف… وأعاني وأردد قسمي… أني لن أقبل بعد اليوم… بسجن هَدَمته… هَجَرته قيمي.”
وتعترف بأنها حقدت، ولكنها تسارع وتطلب المغفرة لمن حقد عليها: “يا رب اغفر لي… إن كنت رفضت… بأن أحيا للحقد ضحية… فأنا أعترف بأني… لا أقدر أن أنسى… من حاول دفني حية… أطلب للحاقد أن يشفى… خلصني منه… فأنا روح بشرية.”
تتناوبها الأفكار والوساوس وحيدة، ولكنها لن تساوم :” تتصارع كلماتي… في عتمة سجني… وتحاول تحطيم الجدران… وتقول لروحي… انطلقي من عتمة… كهفك وانتفضي… لن يحصر… روحك إنسان”
وترسم في شعرها صورة لنظم القبيلة التي تحجم دور الأنثى في هذه المتاهة:
“والتي عمرَت قصرا… ودست فيه أسرار الرجولة… واستفردت في عالمي… إذ حجمَت… أنثاي في كوخ… يليق بصورة… البنت الخجولة.”
في حوارها مع الذات، تكثر شاعرتنا من التأمل، فتخرج غالبا منتصرة في حوارها، وتحقيق ذاتها. تسخر من الصراعات التي عانتها وانتابتها وتنشد:” فأشد صاريتي وأجمع قوتي… لتعود لي نفسي أناجيها… وتقول لي: “لا تقربي دوامة الأحقاد وانسي… كل حاضرها وماضيها. فنجوت من دوامتي ونسيتها… وحييت روحي للهوى أعطيها.”
وقد بدأت ربيع عمرها تتمثل روح الفتاة المتمردة الغجرية، التي تستمر معها، لتحقق نفسها في الحياة، حيث تقول:”فحييت شتاء مراهقتي… متمردة أقهر نزواتي… أنسف كل قيود… الدنيا كي تبقى… الأنثى في جسدي أنثى… تقهر كل الأغلال القبلية”.
وتكرر في لحظة صدق:”جسدي تحلل في… عصارة موتنا القاسي… وروحي لم تعد… ترضى حياةً… خلف أسوار القبيلة… حطمتُها وهجرتها… وكفرتُ بالعرف المزيف… أحرقتْ روحي بقايا… صورة البنت الخجولة.”
وأخيرا، عاشقة هي، تطلب الحرية لها ولبنات جنسها ، حيث تقول:” أتعاطى العشق… أشرب كأسا… من خمر يخرجني… من عتمة أقبيتي… إني أتشهى طعم الحرية كي أرقى… كي يرقى عشقي… كي يُنتزع خمارُ الظلم… الأسود عن أوجه شعبي.”
وهاهي وصلت منتهى الحكمة، عندما أدركت أن الحاضر هو اللحظة التي يجب أن نحياها:   “ما أقسى أن نحيا… في حلم الماضي… أو في حلم الآتي! ما أقسى أن نلقى… عكس توقعنا.     وتقول أيضا: قد نغرق بين… ثواني الماضي… أو نصبح أسرى لحظات المستقبل… يتحول حاضرنا سجنا… ننتظر العودة للماضي… أو نحيا نحلم… بحياة أفضل.”
وهذا ما قالته أم كلثوم:   قد يكون الغد حلوا     إنما الحاضر أحلى
وكما ردد الخيام: لا تشغل البال بماضي الزمان   ولا بآت العمر قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته         فليس في طبع الليالي الأمان
اللغة سليمة، والشاعرة ملمة بموضوعها، ومطلعة على الشعر القديم والحديث، إذ تقتبس من هوميرس في قصيدتها، من وحي الأوديسة، ومن جبران، الأجنحة المتكسرة، في قصيدتها ، روح فتاة غجرية، ومن قصيدة، مضناك جفاه مرقده، في قصيدتها، حبي يتلاشى موعده. وقد يستغرب القارئ من هذا العدد من عناوين، تبلغ المائتين أو تزيد، في هذه السيرة الشعرية التي تلتزم أسلوب الشعر الحديث الموزون والمقفى، ويمكن قراءة معظم القصائد كشعر عمودي، دون أن يتبع بحور الخليل، كما يلاحظ تكرر القافية في القصيدة، وهذا التزام غير ضروري، مع إمكانية حذف بعض الكلمات، حتى لا يطغى السجع في بعض القصائد، وتغيير البعض الآخر من الكلمات للمحافظة على الموسيقى. وكثيرة هي القصائد الجميلة، والتأملات، مع غلبة الأنين والحنين، بالرغم من أنهم يحذرون من المرأة الأنانة الحنانة المنانة، الخفاقة الشداقة الحداقة.
وفي نهاية الأمسية قرأت الشّاعرة بعضا من قصائدها، وتسلمت درع ندوة اليوم السابع.

سلمى جبران في اليوم السابعالقدس: 28 -7-2016 من رنا القنبر- استضافت ندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، الشّاعرة الحيفاويّة سلمى جبران، حيث ناقشت بحضورها ديوانها “لاجئة في وطن الحداد” المكوّن من أربعة أجزاء، كلّ جزء منها يشكل فصلا من سيرة الشّاعرة الشّعرية وهي”دائرة الفقدان”،”الحلم خارج الدائرة”،”متاهة الحبّ” و”حوار مع الذّات”، وجميعها صادرة عن “دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع” في العاصمة السّورية دمشق، بالتّزامن مع صدورها في حيفا.بدأ النقاش ابراهيم جوهر فقال:أربع مجموعات شعرية حملت العنوان العام أعلاه، وتخصصت بعنوان فردي لكل منها.وهي تعرّف المجموعات الأربع بأنها “سيرة شعرية في أربعة فصول” مما يشير إلى أن كلّ مجموعة تشكّل فصلا في سيرة الشاعرة الشعرية.سيطرت مفردات الحزن والفقد والحسرة والموت والاغتراب على هذه السّيرة في مقابل مفردات: التّحدي والإصرار على العيش والثّقة بالنفس. وهذه المفردات أو معانيها يجدها القارئ في ثنايا قصائد الشاعرة، التي جاءت على شكل مقطوعات سريعة بلغة سهلة أليفة لا تعقيد فيها؛ لأنها تسعى للتعبير عن ذات الإنسان وعاطفته بوضوح لا يحتمل الغموض، ولا الاختباء وراء الرمز أو اللغة المبهمة غريبة التركيب والاستعارة غير المألوفة، مما يشيع هذه الأيام في ما يكتبه عدد من الشّاعرات والشّعراء وهم يقلّدون قامات شعرية تعرف كيف تبني معمارها الفني وتختار لغتها.في قصائد الشاعرة سلمى جبران بوح حزين، لكنه قوي لا يقبل الشّفقة. وفيها تحدّ لواقع قاس يحاصر المرأة: إنسانة وأرملة. وفيها وفاء لحبيب رحل، وأبقى لها سنوات عمر حزينة وأسرة تقوم على رعايتها.المضمون واحد في قصائد الشاعرة، لكنه يتلوّن بأشكال وألفاظ، ويتكرر باستمرار وكأنّ الشاعرة قد كتبت قصيدة واحدة طويلة. فالمضمون الواحد ومستوى اللغة والأسلوب يوحي بهذا الحكم.تميّزت الشاعرة بموسيقى قريبة من النفس، تعبّر عن حالة مزاجية إنسانية، تشعر بالقهر واللوم فتتحدى وهي تعبّر عن بنات جنسها هنا بالتأكيد.وقال جميل السلحوت:كلما مرّ اسم شاعرتنا أمامي يعيد إلى ذاكرتي صورة الشّاعر الرّاحل سالم جبران، أحد أبرز الشّعراء الفلسطينيّين في الدّاخل بعد نكبة العام 1948، وحسب معلوماتي هو عمّ شاعرتنا سلمى.وقفت أمام عنوان ديوان شاعرتنا “لاجئة في وطن الحداد” متسائلا حول هذا العنوان الذي يحمل في ثناياه مفهوما فلسفيّا، ولا غرابة في ذلك فتأثرها واضح بجبران خليل جبران، تماما مثلما يحمل أكثر من دلالة، فالقراءة العابرة لهذا العنوان توحي بأنّ الوطن في حالة حداد، أمّا القراءة المتمعّنة فتعني أنّ الحداد وطن بحدّ ذاته، وأنّ صاحبة الدّيوان لاجئة في هذا الوطن، وإذا كان الوطن “مكان انتماء الانسان ومقرّه، وإليه انتماؤه، ولد به أم لم يولد”، وأنّ اللجوء يعني  “لجَأ  الشَّخْصُ إلى المكان وغيره: قصَده واحتمى به” فهل يعني هذا أنّ الحداد ملازم لشاعرتنا – وهذا ما لا نتمنّاه- بحيث أصبح ملاذها الأخير؟ لكنّ كلمة لاجئة تعني أنّ الحداد مؤقّت، لأنّ اللاجئ لا بدّ أن يعود إلى وطنه الأصليّ، وبالتّالي فإنّ شاعرتنا لا بدّ أن تعود إلى وطن الفرح- وهذا ما نتمنّاه لها-.وسيجد القارئ تحت عنوان كلّ جزء من أجزاء الدّيوان “سيرة شعريّة في أربعة فصول” أيّ أنّها تكتب وتنشر مسيرتها الشّعريّة، ولا تكتب سيرتها الذّاتيّة، مع أنّ الشّاعر والأديب يكتب شيئا عن ذاته في نصوصه، وحبّذا لو أنّها ذيّلت كلّ قصيدة من قصائدها بتاريخ كتابتها، لتساعد القارئ على متابعة مدى تطوّر سيرتها الشّعرية، وإن كان الفقد مصاحبا لهذه السيرة والمسيرة، فهل الفقد هو من فجّر طاقاتها الشّعريّة، أم أنّه كان محرّضا لها للبوح بما اختزنه ويختزنه صدرها؟وإذا ما انتقلنا إلى “الاهداء” وهو:” إلى كلّ امرأة فقدت، فتعثّرت إنسانة وتعثّرت أنثى”، وهذا إهداء موجع أيضا، فالشّاعرة التي فقدت زوجها في سنّ مبكّر، وذاقت مرارة ووجع هذا الفقد، تعي ماذا يعني هذا الفقد للمرأة كانسانة وكأنثى أيضا، خصوصا في المجتمعات الذّكوريّة، لذا فهي تتعاطف وبوعي وتجربة تامّين، مع بنات جنسها اللواتي يعانين من الفقد.والقارئ لديوانها هذا سيجد أنّ الشّاعرة لا تزال تعاني من ويلات “الفقد”، رغم أنّها طرقت أبوابا من أغراض الشّعر المختلفة، فقد كتبت في  “الحزن- الفقدان- الحب – القبليّة – التقاليد الاجتماعيّة والعائليّة – العقليّة الأبويّة الذّكوريّة – الأمومة – النرجسيّة الذكوريّة– الوحدة – الغربة – المحبّة – التمرُّد – الحلم – الصّدق مع الذّات ومع الآخر – الوعي – اللاوعي – الرّوح – الحرّية – المعاناة – الحنين- الموت – الصّمت – الحوار مع الذّات – الجنون – اللغة والحروف – الضّعف – البدائيّة – الوطن كحلم ذاتيّ.” لكن الفقد لم يغب عن أجزاء الدّيوان الأربعة. اللغة الشّعريّة: تمتلك شاعرتنا مخزونا لغويّا واضحا مصحوبا بثقافة شموليّة، ويظهر ذلك جليّا بلغتها الجميلة الانسيابيّة، وبصورها  الشّعريّة البلاغيّة اللافتة، وتأثّرها بالنّصوص الدّينيّة، واستلهامها في بعض قصائدها، ومع أنّها تكتب قصيدة النّثر، فإنّ الموسيقى والإيقاع تجعلها راقصة في غالبيّتها كما هي تفعيلات الشّعر الغنائيّة. ويلاحظ القارئ أنّ شاعرتنا قد أدخلت “أل التعريف” على الفعل المضارع في أكثر من موضع، وأعتقد أنّ ذلك مقصود منها، فقد سبق أن استعملها الشّعراء العرب من قبل كقول الفرزدق: مَا أَنْتَ بِالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ * وَلاَ الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرَّأْيِ وَالجَدَلِ.يبقى أن نقول بأنّ الشّاعرة تكتب قصيدتها في لحظة شعور، فتبوح بما في داخلها بطريقة تبهر المتلقي، مع مرارة المضمون في غالبيّة القصائد.
وقال نمر القدومي:عبر التّاريخ كانت الحكايات، منها السّيرة الذّاتيّة والإعترافات الرّوحانيّة، فهي الملاذ المُساعد على تذويب كل المآسي، وتجاوز كل أزمات الإنسان المقهور والمفجوع في تطلّعاته وطموحاته. إنّها بديل تساهم في تحقيق توازن نفسي وتصالح حقيقي مع طبيعة الخَلْق والحياة وإرادة السّماء. فإذا كان الواقع مرّا علقما، فبالحلم يتم تخطّي الغصّة والمرارة، فتنقشع الدّياجير، لأنَّ الحلم قادر أن يجلي صدأ القلوب وحزنها. من قرية “البقيعة” على الحدود اللبنانيّة، ومن بيت الأصالة والثّقافة، أطلّتْ علينا الشّاعرة “سلمى جبران” المتميّزة منذ نعومة أظفارها، البسيطة، الصّادقة، الواضحة،الصّريحة والمحترِمة للعلاقات الإنسانيّة. مدينة “حيفا” كانت مركز نشاطها وحياتها، وقد خرجت علينا مؤخرا بمجموعتها الشِّعريّة “لاجئة في وطن الحِداد”.خَلْف الحروف تسكن المعاني .. وكل الكلمات هنا تصف تسلسل المراحل الوجدانيّة للشّاعرة نظرا لِما عانته من تجارب صعبة. فقد نمّقتْ أديبتنا سردها بجودة عالية؛ فزاوجت بين التّميز اللغويّ من حيث انتقاء الكلمات والمعاني، وواقعيّة المضمون التي تعيشه روحها وجسدها، وكذلك عمق الدّلالة التي ترمي إليها. الشّاعرة “سلمى جبران” تطرح أمامنا أفكارها ومشاعرها بصوت جهوريّ، أمّا خيالها الواقعيّ فيسبح في فضاء رحب وثريّ يجرُّ القارئ إلى أفق جميل، وهي معتمدة بذلك على الرّموز والإيحاءات في قصائدها. ليس الشِّعر رأيا تعبّر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم. كل ذلك إنما يدلّ على ثقافة الشّاعرة وإتساع مداركها ورهافة حسّها، فهذه الدّواوين الأربعة كُتبتْ على مرِّ السّنين، وتحمل بين طيّاتها الحنين والعاطفة والأمل والثّورة والدافعيّة للتغيير. فمن بين الشّرايين تغزو كلماتها ذاك الحبر المنساب من بين أصابعها، وتبوح لنا عن ذاتيتها في قصائدها وفلسفتها في الحياة، وتلك النزعة الإنسانيّة من طهارة خُطاها وحلمها التي تعيش بدواخلها.نجد في كلمات قصائدها ذلك النّور السّماوي المُتطبّع بالكتاب المقدّس وتعاليمه من ناحية، ونشتَمُّ عِطر الشّاعر والأديب “جبران خليل جبران” من ناحية ثانية. تعمّقتْ شاعرتنا في قصائدها ومعانيها حدّ القداسة، فكانت هناك الصّور المشتركة، والإلهامات المُضيئة، وكانت أيضا الحِكم والمنطق والفلسفة متواجدين، وكأنَّ الأب “جبران” والأبنة “سلمى” في خطّ المواجهة. إرتأيتُ لنفسي أن أقرأ بامعان وتمحيص ديوانها “حوار مع الذّات” الذي اعتبرته الأقرب إلى روحها، فخطاب النّفس هو الأصعب في الوجود. الشّاعرة تُعيد هيكلة كيانها نحو الأقوى معتمدة على التّحدي في داخلها، وكذلك على القوة الإلهية المؤمنة بها حقّ الإيمان، وأيضا محاربة الجهل المُتفشّي، فنشوة الحريّة تبقى بالابتعاد عنه، أمّا الإلتزام بالصّمت فهو يفوق كل الكلام. إنّها قصّة الحبيب السّاكن تحت التّراب دون عودة، إلاّ ذِكراه، وما صفحات الكتاب وحُب العيش في طيّاته، سوى تعويض لسعادة فاتت من عمرها. القراءة عندها تُحيي الرّوح وتبني لها الجسد القويم للمقاومة، وما أصعبها أيتها “السلمى” حين يفنى العمر والجسد ويتفجّر القلب جرّاء زيف في العطاء والمحبّة، وجرّاء معاملات كشفت الحقد في قلوبٍ عِشناها من قريب مع العامّة. أمّا في قصيدة “روح فتاة غجريّة”، تعترف “سلمى” بذلك الانصهار الرّوحاني في كتاب  جبران “الأرواح المتمرّدة” وقصّة “مرتا البانيّة” الفتاة اليتيمة يتركها الزمن في البراري، تفترش الأعشاب وتلتحف السّماء وتقتات من البذور،حتى نال منها ذلك الوحش الآدمي إبن الطّبقة الأرستقراطيّة ومعه أصدقاؤه، لتموت قهرا وفقرا في أقذر الأماكن! أمّا القصّة الثانية فكانت “خليل الكافر” الذي تحدّى الكنيسة وغطرستها في زمن الظُلم وفي زمن الجُبن، حتى باتت روحه في خطر لولا تدخّل بعض الشجعان وإنقاذه! إنَّ الصّراخ في وجه الباطل مسألة مبدأ من أجل الحريّة، وصراع الشّاعرة ضد الفقدان أماتها وأحياها بإرادتها القويّة، وجبروتها الشّامخة، بينما ذكرى الغائب تبقى تُطيّب زوايا حياتها.ابتعدت الشّاعرة عن الطريقة التقليدية للقصيدة، إلاّ أنها أحسنت في تمسّكها بالقافية الموحدّة أو المختلفة وذلك حسب ما تمليه ذائقتها، وكأنَّ القصيدة تعبّر عن حالتها النّفسيّة، فجعلتها أحيانا حرّة غير ملتزمة. أما الثراء اللغويّ فكان مليئا بالألفاظ المأخوذة من كافّة نواحي حياتها وبيئتها؛ خاطبت الإنسان والمكان، وخاطبت السّماء والإنجيل، فكانت لها الألفاظ القاسية تُدافع بها عن نفسها الوحيدة في عالم الغاب، وكانت لها أيضا ألفاظ عاطفيّة وروحانيّة تستقي منها نشوة الإنتصار. وفيما يتعلّق  بالصّور البلاغيّة في قصائدها، فتجلّت بأبهى جمالها حين سطّرت شاعرتنا الرّائعة عنصر المكان، واختارت “السّفح الغربيّ” من جبل الكرمل، وتغنّتْ بالأطلال شوقا وعشقا لأيام شريك العمر والقلب، الذي هجر الحياة. هذه الصّور البلاغية والبديعيّة المجازية كانت حاضرة في انتظاره، حتى أغصان الشّجر الأخضر والخوف من أن يجفّ وييبس؟ كلُّ همٍّ وغمّة، وكلُّ خطوة وعودة، وفي كلّ فكرة وزهرة وكأس خمرة، تكون هناك يا “سلمى” في مقلتك دمعة تُعيدين صورة الماضي وتتجلّى لك الحقيقة. ففي ثنايا السّنين اختبأت الفرحة دون إبتسامة، وفي خفايا العيش ظهرت حقبات حزينة لكن دون دمعة. فمن كان يريد أن يرى غضبها للحق، فليقرأ قصائد كتبتها أيادي مرتجفة، ومدادها ممزوج بدموع حارقة، وقلب ينبض بهستيريّة حزينة. وما فخامة التّعبير “لاجئة” إلاّ بسبب فقدان حبيب وشريك العمر، وكأنّما خسارتها لوطن كان يحمي أفق أحلامها النديّة.
وقال عبدالله دعيس:العاطفة في ديوان سلمى جبران ما أن يشرع القارئ بتصفّح ديوان (لاجئة في وطن الحداد) للشاعرة سلمى جبران، والذي قسّمته إلى أربع مجموعات، ووصفته أنّه سيرة شعرية، حتّى يدور مع الشاعرة في دائرة الفقدان، والتي تظهر معالمها في كل قصيدة من قصائد الديوان، وعندما يهمّ بالحلم خارج الدائرة تجذبه متاهة الحبّ، ويقف يتأمّل حوار الشاعرة لذاتها، ليعود ويدور في نفس الدائرة، ويجد نفسه يصاحب الشاعرة بكامل أحاسيسه ومشاعره في رحلة اللجوء في وطن الحداد. هناك يجد امرأة تحمل أحلام الطفولة وعشق الصبا، تتلوّع بمرارة فقدان المحبّ، وتتلقّى سهام الحقد والحسد والشكّ ممّن يحيط بها، لتواجهها بروح المحبّة والإيمان، وتبقى متعالية على أدران الحقد مهما لحقها الأذى، ولتكون أمّا لأطفال فقدوا الأب، وتتحلّى بوفاء وإخلاص قلّ نظيره. سيرة رائعة لامرأة، عنوانها الحبّ والإخلاص وسلاحها الأيمان والصلاة، ورحلة مثيرة على أجنحة انفعالات الشاعرة وأحاسيسها وعواطفها الصادقة التي لا تخبو عبر قصائد الديوان العديدة. تظهر العاطفة قويّة جليّة منذ أولى قصائد الديوان، وتستمرّ العاطفة بنفس القوّة حتى نهاية أجزائه الأربعة. تحيك الشاعرة دائرة الفقدان منذ قصائدها الأولى، فتشير إلى مواطن الحبّ في هذه الطريق وإلى دروب الآلام فيها، فيبدو حب الأرض والبساتين والهوى الذي عشش في فؤادها مذ كانت طفلة سعيدة به، ثم حياة ملؤها السعادة والعطاء، لتؤول إلى دروب الحياة الوعرة التي سلبتها حبيبها، لكنّها لم تسلبها الحبّ الكبير الذي تحمله في قلبها، ويبدأ البكاء، وتطغى عاطفة الألم والحزن، لكنّها لا تلبث أن تعود إلى ذكريات الطفولة وإلى ينابيع الوفاء والحبّ الكبير الذي يلبث في الفؤاد حتى ولو غاب جسد الحبيب، وتعود لتستقي من ينابيع الحبّ وتدور في هذه الدائرة قويّة مستعصية على الألم، مستمدّة القوة من ماضيها وإخلاصها وحبها وإيمانها بخالقها. فتخاطب حبيبها الذي غيّبه الموت فتقول:يا حبيبي أنا لم أبقَ وحيدةأنت نور في فؤاديأنت دمع وحياةوقصيدةأنت حلم لم يمتأنت لحن يُطرب القلبيغنّيه نشيده فالعاطفة في ديوان سلمى جبران هي العنصر الأبرز والأكثر طغيانا على قصائدها، وأهمها عاطفة الحبّ: حبّ الزوج الراحل، وحب الأطفال، كما حبّ الوطن ورائحة ترابه بعد أمطار الخريف، وحبّها للحريّة والحياة، وحبّ الإله الخالق الذي يصاحبها ويعطيها القوّة والمحبّة التي تدفع بها الحقد. أما العاطفة الغائبة عن قصائدها فهي الكراهيّة، فبالرغم مما وصفته الشاعرة من إحاطة الحاقدين بها، وانتقادهم لها ولأسلوب حياتها، وتعرّضهم لها، إلا أنّها تواجههم دائما بالمحبّة، ولا يتسلل ولو في كلمة من كلماتها معنى يشي بكراهيتها أو يدفع القارئ إلى الكراهية؛ فكلماتها عنوانها المحبّة التي دائما ما تهزم الحقد والحاقدين. أما عاطفة الحزن فهي حاضرة بارزة بقوّة في أنحاء الديوان، تنطق بها أحاسيس الشاعرة عندما تعبّر عمّا يجول في خاطرها، وتتدفّق مع انفعالاتها وكلماتها، لكنّ هذا الحزن لا تصاحبه نظرة سوداويّة، ولا يدعو إلى اليأس والقنوط. ومع أنّ سلمى جبران فاقت الخنساء في بكائها صخرا، إلا أنّ حزنها لم يكن رثاء بقدر ما كان ترسيخا لمعنى الحبّ والوفاء والتعالي على الحقد والتعلّق بالخالق. فعاطفة الحزن عند سلمى جبران مستوحاة من معاناة صادقة حقيقيّة. يعود لي عشقيفتنهض الأوجاع من جديدوأكتم الدموعفدورة الحياة في عواطفي قاسيةودمعتي احتضارها أليم والشاعرة قادرة على إثارة العاطفة في نفس القارئ بشكل جليّ، فهي تنقله إلى عالم مليء بالعواطف التي تتميّز بالصدق، حيث يشعر المتلقي بالعاطفة تتدفق مع كل كلمة من كلمات القصيدة ويعيشها بمشاعره ووجدانه. والعاطفة قويّة واضحة جليّة، حتّى أنها تطغى على النصّ الشعريّ وتسيطر على مشاعر السامع أو القارئ، وهي ثابتة تتكرّر في قصائدها، مع أنّ عدد القصائد كبير جدا، ولا تخبو في نفس القارئ حتّى بعد أن يقرأ عددا كبيرا من النصوص التي تدور حول نفس الموضوع وفي نفس الدائرة، لكنّها تبقى تثير نفس العاطفة بنفس القوة والاشتعال. والعاطفة في قصائد سلمى جبران تتصف بالسموّ، فهي تبثّ العواطف الإيجابيّة وتتعالى على العواطف السلبيّة، فهي تترفع عن الكراهيّة والحقد وحب الانتقام.محبّتي للناس قد زرعتهافي داخلي فأورقتفلن تقتلها الأحقادُلن يهلكها الزمان وعاطفة الأمومة لديها قويّة متأجّجة، فتشتعل قصائدها بحنوّها على الأبناء، والذين تهبهم حنان الأمّ وحنان الأبّ الذي واراه التراب. وتتميّز قصائد سلمى جبران بالعاطفة الدينيّة الجيّاشة، فهي تلجأ إلى الله في كل حين، وعند كل خطب، وتستمدّ قوّتها منه،  وعندما تتفاقم الخطوب تعود إلى “بذرة حب تحميها أيد ربّانية.”  وانبرت القبيلةُمن كؤوس السم تسقيني ولكنّي أحس بأنفي قلبي محبة خالقي تمتص من نفسيسمومهم وتحييني  والشاعرة تركّز على مشاعرها الذاتية وترى العالم من خلال نفسها. أما المتلقي فلا يجد مشقّة في متابعة معاني الشاعرة والتأثر بعواطفها والدخول إلى أعماقها من خلال كلماتها البسيطة، ولغتها العذبة الرقراقة التي تبتعد عن الصور الشعريّة المركبة المعقّدة وتنساب بعفويّة وبموسيقى ممتعة للأذن والروح.
وكتبت نزهة أبو غوش:في ديوانها  ” لاجئة في وطن  الحداد” دائرة الفقدان، تعزف قيثارة الشّاعرة الفلسطينيّة سلمى جبران  لحنًا منسابًا؛ لتحوّل أيامها أنغامًا، وحلمها صراعا وتحدّيًا، لكنّ جنونها في النّهاية يرمي بها إِلى التّهلكة.العاطفة في قصائد الشّاعرة سلمى تحمل بين ثناياها عواطف مذبذبة، تتأرجح ما بين الحزن والفرح، وما بين الحبّ والخوف، القلق والحرمان، اليأس وخيبة الأمل، الشّوق والفقدان.حلم  الشّاعرة بالماضي الزّاخر بالحب ما زال يأسرها ويبدد في ذاتها اليأس الأبديّ، لكنّه في الوقت ذاته يظلّ يؤرقها ويعذّبها ، حيث تشعر بأنّه يكبّل  حرّيّتها ويشعرها بالوحدة والألم.لقد سيطرت عاطفة التّشاؤم على روح الشّاعرة “هل أقدر أن أدفن في نفسي ألمًا حيًّا لا يغفل؟هل يعقل أن تنبت أزهار وورود في قفر مهمل؟” ص82في ديوانها” دائرة الفقدان” عبّرت الشّاعرة سلمى جبران عن فرح طفولتها، وعن براءة  سعادتها  الّتي لم تحيها إِلا ساعة عابرة عاشتها بحلمها الدّفين. حلم بالرّفيق الّذي فقدته وانطوى من حياتها تحت تراب بلدتها.إِن امتزاج روح الشّاعرة بروح  من أحبّت وفقدت، ولّد لديها الشعور بالعزاء؛ لأنّها تشعر بأنّ روحه تحملها وتطير بها إِلى أيّام الماضي بفرحه وألمه؛ لكن شعورها بالغربة ظلّ مسيطرًا عليها؛ لأنّها تعيش وسط دائرة  أو دوّامة من الفقدان.عاطفة الخجل والارتباك عبّرت عنها سلمى جبران في قصيدتها” ذكريات”  حيث عواطف المراهقة المرهفة الحسّاسة. مشاعر نابضة بالحبّ العذريّ البريء الّذي ملأ قلبها الغضّ   المرتجف، فزادها تعلّقًا وطمأنينة. ” لا زلت أذكر طفلة/ زارتك تسأل عن كتاب النّحو/ تعلو وجنتيها حمرة  الخجل…/ فوقفت عند الباب/ ترقبها في عينيك/ بسمة عاشق ثمل.” ص74″في نفس القصيدة عبّرت الشّاعرة  جبران عن خيبة أملها  بالحبّ وبالحبيب؛ بسبب الهجران الطّويل بقولها: “واليوم بعد الهجر ضاق/ الصّدر عن  حمل العواطف/ وانتهى  عهد الحنان” ص75.عاطفة الشّاعرة جبران الجيّاشة  المرهفة، خلقت بداخلها احساس الشّاعر الّذي تكتبه القصيدة قبل أن يكتبها؛ فتؤنس وحدتها وتذوّب بداخلها الأحزان، لكنّ من خلال قراءتنا لقصائد أُخرى في الدّيوان، نشعر بأنّ  عاطفة الحزن لن تذوب  أبدًا في أعماق الشّاعرة، بل ازدادت  تدفّقًا: ” يمزّقني ويسرق غفوتي/ ويراني/ ويردّ لي ألم الفراق/ ويبتغي صبرًا/ فأجرع كأس أحزاني”  من قصيدة” في  كلّ موّال” ص 118. تحاول الشّاعرة أن  تمحو بحبّها الجريح كلّ الحقد الّذي  يواجهها في هذا الكون؛ فتزداد به حرّيّتها. “فيظنّ من يرنو إليّ/ بأنّني أحيا ولكن …ما أزال أٌحاول / وأُمزّق الأحقاد في قلبي/ ويحرقها لهيب محبّتي” قصيدة: أنا لا أزال أُحاول. ص91. في ديوان  ” دائرة الفقدان” تدرّج حبّ الوطن من روح الشّاعرة سلمى صادقًا مؤثّرًا، إِذ عاشت غربة بعد غربة، بعد هجرتها من قمم الجليل  “هل تقبلينني يا أُختُ في “زاروب “عكّا في الحمى؟/ أعيش غربة ثانية/ أجني بها محبّة الأوطان/ موسمًا فموسما”. قصيدة: “في زاروب عكّا”ص111. لقد حمّلت الشّاعرة  جبران قصائدها كلّ آلامها وأحزانها، فكانت ملجأها؛  فأثقلتها  . عاطفة صادقة احتوت جلّ العواطف السّابقة لدى شاعرتنا سلمى، فأكسبتها صدقًا وجمالًا وروعة؛ فهي محبّة الله سبحانه وتعالى، حيث برزت تلك العاطفة في عدّة قصائد في ديوانها ” دائرة الفقدان”. ” من كؤوس السّم تسقيني/ ولكنّي أحسّ /أنّ /في قلبي محبّة خالقي/ تمتصّ من نفسي/ سمومهم وتحييني” من قصيدة: أبكي فؤادًا مزّقوه ومزّقوني” ص85.وقالت نزهة الرملاوي:الشاعرة سلمى جبران تلوذ إلى الكلمات كلما هبت بها نيران الشوق، وألم الغياب والفقد، وما خرجت من دائرة الفقدان من سيرتها الشعرية، حتى رأيناها تحلم خارج تلك الدائرة، وتتوه حبا، ثم تتجاوز كل ماكتبت، فتبدأ بمحاورة ذاتها، في مجموعتها الشِّعريّة “لاجئة في وطن الحِداد”.حملت الكتب وبدأت بقراءة العنوان، ( لاجئة في وطن الحداد ) تطرقت الشاعرة إلى الموت والغياب، فاستخدمت مصطلح الحداد؛ لتكوّن منه وطنا تلجأ إليه، في ساعات حزنها وافتقادها الذي ظهر للقارئين أبديا، لا خروج منه، وآثرت أن تكون لاجئة في وطن يلتزم الحداد، فاعترفت الشاعرة بأنها في دائرة مغلقة تشابك بها الأيمن والأيسر، ورغم شقها لطريق آخر، يدفعها الأمل والطموح، إلا أنها تعود إلى نفس الدائرة ( دائرة الألم والأرق والدموع) فتلقاها أعظم وأجمل، ولا أدري هنا لِمَ اختارت طريقا مظلمة وبقيت فيها، رغم وجود مخارج أخرى، قد ترى فيها الحياة.تقول الشاعرة:وأنوح أبكي ساعةوتذيب جسمي لوعة الحسراتفأعود للنبع المقدس أنهل الأسفار والآياتفيضج في صدري نشيدييغرق الكلمات في كلماتيفيعيد في روحي الحياةتهرب الشاعرة في كل مشهد وصورة من صورها الشعرية من واقعها المؤلم إثر افتقاد من أحبّت، وعشقت من الصغر، إلى كلمات نحسّها تتدفق ألما وحسرة، فتضفي جوّا من الكآبة والسّواد على معظم القصائد، وكأنّ الشاعرة تريد إقحام القارئ في حزنها وألمها، فلها ما أرادت، فلقد تميزت التعابير والمفردات بالإنتقاء ومحاورة الآخر، ووضعته في طرق متأزمة من الأحزان وتمزق النفس، وتمزيق للفرح الفاني، والحنين المتأجج، كل الكلمات حكت معاناة التألم في نفس الشاعرة، وفي نفس الوقت تميّزت القصائد بمفردات الايمان، الإله، المقدس، الأسفار، التراتيل، المذبح، التكوين، النور، الصلاة، المعبد، خشب الصليب، مما جعل القارئ يصاب بالملل.أبدعت الشاعرة في وصف الطبيعة. لاحقت الكاتبة القافية في معظم قصائدها، وربما أضعف ذلك المعنى.تميزت القصائد بالنزعة الإنسانية، فحاكت القلب النبيل، والثورة على القيم المرتدة، ونسف الأفكار الرجعية، والنور الذي يفتت الحقد، والحب، وحاكت الواقعية في دوافعها للكتابة، وكانت الكلمات مفعمة بالايمان بالله، وكان الملاذ بعد احتضان الألم في ثنايا القصائد.بقيت قصائد الشاعرة في وتيرة واحدة، إمرأة استوطن في قلبها الحزن، وسيطر على قصائدها، فنرى في استهلال معظم القصائد، بداية تدل على دخولنا إلى عالم حزين يائس؛يخلقني العذاب من جديدلوعتني بالحب..ما زال الحزن يحطم في قلبي..قلب يتيم، الغضب يؤجج في صدري لهبا…يتخبط في روحي الحزن..هل أهذي ؟ هل أحلم..أم أنّي في لحظة حزن…الموت يجسد في روحي…إلى آخره.في بعض الأحيان، نجد في بعض القصائد دربا من التحدي للإرادة الإلهية، رغم الايمان الواضح في بعض القصائد، كقصيدة أبكي فؤادا مزقوه:يا واعدا قلبي بجنات المحبة والحنينقم وانتفض من بين طيات الترابورد لي كأساتعطر بالندى والياسمين.من الملاحظ أن الشاعرة أعادت في حوارها مع ذاتها، قيودا همشت الفرح في داخلها وجعلتها في حلقات الألم ذاتها، والوحدة ذاتها، فترى درب الوحدة يصب لها خمر الهوى في كأس أحزانها، فيسكرها وينسيها.امتازت القصائد ببساطة المفردات ووضوحها، وحملت عواطف جياشة، عاطفة الحزن والحنين للحبيب والحارة والطفولة، والتذمر من الفقد، فلا زالت الشاعرة تفتش عن نفسها، وتعترف بأنها زاوية مظلمة تريد أن تفضح سر وجودها.احترمت شاعرتنا العلاقات الانسانية والوفاء للحبيب الغائب، وآثرت في غيابه العيش على ذكراه ، فجردت حقيقة نفسها فلي لحظات الحزن، وجرفت من قلبها كل حرارة الأنات، وهدأت.. لتفكر كيف ستحكي أوجاعها لحبيب يرقد في غرفة الأموات…3ص30.في هذه القصيدة( اللحظات الأخيرة) عبرت الشاعرة عما يختلج في صدر المنتظرين خارج الغرفة، فقد وجهتنا الشاعرة إلى غرفة الموتى، وكيف يتلظى المرتقب جمرا، لخروج طبيب، يسمح لنا فيه أن نرى من يغربون ولا يعودون؟ وكيف يتوقف الزمن ليرقب الحسرات؟ وعندما يشق الباب ويخرج الطبيب، يموت المحب الحيّ بموت الحبيب الراكض في صمت، حيث ينتظر دفء التراب، تصرخ الحبيبة وتمزق ثوبها، وتجمع من بقايا جرحها، حروف الصلاة، وترتوي من مياه الأحزان.وكتب محمد عمر يوسف القراعين:كل ما أعرفه عن الشاعرة، عدا تشابه اسمها مع القاضي سليم جبران، أنها كما يقول المصريون مفروسة أوي من التقاليد القبلية، والأعراف البالية، التي فرقت بينها وبين حبيبها المغدور، فلجأت إلى التخفيف عن آلامها وأحزانها، بالأنين والحنين، والدفاع عن المرأة مكسورة الجناح بشعر بسيط محبب، تغلب عليه الموسيقى، ويصلح أن يكون ديوانها بالنسبة لي، قصة أو حدوثة أتوقف عند بعض معالمها، التي تبدأ بالمناجاة في دائرة الفقدان: “يا حبيبي أنا لم أبق وحيدة….أنت نور في فؤادي…. أنت دمع وحياة وقصيدة.روحك الحرة…. تحييني تواسيني…. وتشفي سقمي…. يا فؤادا عز أن يناى…. فذاب ألما في ألمي.”
وعندما ترثي لحالها، تستقوي بالحب:” الحب يحول كلماتي…. إشعاعا يصهر أحقادا…. يحملها قلب غادر… يتجند في معركتي حبي… ليحول قفرا بيتا عامر.53″كما أن الشعر يملأ حياتها كما تقول: “أحيا في الكون وحيدة… أحيا وحياتي فارغة… تملؤها بالحب قصيدة. ”                                                                        وترى صورة حبيبها في متاهة الحب في جميع من حولها، مما يخفف وحدتها:” قد أعشق وجهك… في كل وجوه الناس… وقد يسكرني… لحن عتابي… لكن الصحوة… تقتلني حين… ألاقي الوحدة… في غرفة نومي… لما أوصدُ بابي.”             هذا يذكرني بهذا البيت:  عبق الجو من أريجك حتى خلت أنى نظرت أنت أمامي “تتلذذ بالآلام والحرمان في أحلامها، تعيشها مع الشعر: “ألمي وحرماني تحول… لذة وأحال نومي… صحوة تنساب… بين عروقها أشعارُ… وأظل أعجز أن… أصد تدفقا منها… فلا يبقى لدى قلمي خيار.”عندما يبلغ بها اليأس حدّا في الحلم خارج الدائرة، تحن إلى لحظات كانت عايشتها مع حبيبها، هيهات أن تعود: تهجرني حرارة في أضلعي… يدب بي جفافيَ العنيد… هل أستعيد لحظة… أحس فيها الكون ناهضا وزاخرا… يُفعمني جماله، فيبعث الحياة في دمي… هل أستعيد؟

مسكينة في حلمها، تحيا هموم المرأة منذ القدم:”يتهاوى في قلبي… جبل الهم ويسقط في هاويتي… يخترق كياني… يتدفق في قلبي زخم دماء… يتسرب في مجراها… كبت قرونِ.”                                                                                      وتستمر في طريقها وحيدة وصادقة مع نفسها:” أسير لوحدي… بين حدائق ناري… وأخوض حياتي عارية… إلا من صدق … يصنع لي معياري… شائكةٌ ملآى… بالحقد دروبي… لكني أقسمت بأن الصدق خياري.”وهي تحلم، لا تنسى أن تثور على القيود القبلية بإعلانها:”أن النساء إذا أحبت… لا ترى قبرا ولحدا… فهيامها ينمو… وغرامها يرقى… ويتخذ المحبة… والهوى دينا ومبدا.”                                                                                         وتكرر ذلك في متاهة الحب حيث نراها ثائرة على التقاليد التي ترفضها:” حُلمي سرقتْه… منذ قرون… كل فُتُوات العُرْب… تركتني أحيا… في زنزانة عُرْف… وأعاني وأردد قسمي… أني لن أقبل بعد اليوم… بسجن هَدَمته… هَجَرته قيمي.”     وتعترف بأنها حقدت، ولكنها تسارع وتطلب المغفرة لمن حقد عليها: “يا رب اغفر لي… إن كنت رفضت… بأن أحيا للحقد ضحية… فأنا أعترف بأني… لا أقدر أن أنسى… من حاول دفني حية… أطلب للحاقد أن يشفى… خلصني منه… فأنا روح بشرية.”تتناوبها الأفكار والوساوس وحيدة، ولكنها لن تساوم :” تتصارع كلماتي… في عتمة سجني… وتحاول تحطيم الجدران… وتقول لروحي… انطلقي من عتمة… كهفك وانتفضي… لن يحصر… روحك إنسان”وترسم في شعرها صورة لنظم القبيلة التي تحجم دور الأنثى في هذه المتاهة:”والتي عمرَت قصرا… ودست فيه أسرار الرجولة… واستفردت في عالمي… إذ حجمَت… أنثاي في كوخ… يليق بصورة… البنت الخجولة.”   في حوارها مع الذات، تكثر شاعرتنا من التأمل، فتخرج غالبا منتصرة في حوارها، وتحقيق ذاتها. تسخر من الصراعات التي عانتها وانتابتها وتنشد:” فأشد صاريتي وأجمع قوتي… لتعود لي نفسي أناجيها… وتقول لي: “لا تقربي دوامة الأحقاد وانسي… كل حاضرها وماضيها. فنجوت من دوامتي ونسيتها… وحييت روحي للهوى أعطيها.”                                                                         وقد بدأت ربيع عمرها تتمثل روح الفتاة المتمردة الغجرية، التي تستمر معها، لتحقق نفسها في الحياة، حيث تقول:”فحييت شتاء مراهقتي… متمردة أقهر نزواتي… أنسف كل قيود… الدنيا كي تبقى… الأنثى في جسدي أنثى… تقهر كل الأغلال القبلية”.                                          وتكرر في لحظة صدق:”جسدي تحلل في… عصارة موتنا القاسي… وروحي لم تعد… ترضى حياةً… خلف أسوار القبيلة… حطمتُها وهجرتها… وكفرتُ بالعرف المزيف… أحرقتْ روحي بقايا… صورة البنت الخجولة.”          وأخيرا، عاشقة هي، تطلب الحرية لها ولبنات جنسها ، حيث تقول:” أتعاطى العشق… أشرب كأسا… من خمر يخرجني… من عتمة أقبيتي… إني أتشهى طعم الحرية كي أرقى… كي يرقى عشقي… كي يُنتزع خمارُ الظلم… الأسود عن أوجه شعبي.”             وهاهي وصلت منتهى الحكمة، عندما أدركت أن الحاضر هو اللحظة التي يجب أن نحياها:   “ما أقسى أن نحيا… في حلم الماضي… أو في حلم الآتي! ما أقسى أن نلقى… عكس توقعنا.     وتقول أيضا: قد نغرق بين… ثواني الماضي… أو نصبح أسرى لحظات المستقبل… يتحول حاضرنا سجنا… ننتظر العودة للماضي… أو نحيا نحلم… بحياة أفضل.”                                                                  وهذا ما قالته أم كلثوم:   قد يكون الغد حلوا     إنما الحاضر أحلىوكما ردد الخيام: لا تشغل البال بماضي الزمان   ولا بآت العمر قبل الأوان                         واغنم من الحاضر لذاته         فليس في طبع الليالي الأماناللغة سليمة، والشاعرة ملمة بموضوعها، ومطلعة على الشعر القديم والحديث، إذ تقتبس من هوميرس في قصيدتها، من وحي الأوديسة، ومن جبران، الأجنحة المتكسرة، في قصيدتها ، روح فتاة غجرية، ومن قصيدة، مضناك جفاه مرقده، في قصيدتها، حبي يتلاشى موعده. وقد يستغرب القارئ من هذا العدد من عناوين، تبلغ المائتين أو تزيد، في هذه السيرة الشعرية التي تلتزم أسلوب الشعر الحديث الموزون والمقفى، ويمكن قراءة معظم القصائد كشعر عمودي، دون أن يتبع بحور الخليل، كما يلاحظ تكرر القافية في القصيدة، وهذا التزام غير ضروري، مع إمكانية حذف بعض الكلمات، حتى لا يطغى السجع في بعض القصائد، وتغيير البعض الآخر من الكلمات للمحافظة على الموسيقى. وكثيرة هي القصائد الجميلة، والتأملات، مع غلبة الأنين والحنين، بالرغم من أنهم يحذرون من المرأة الأنانة الحنانة المنانة، الخفاقة الشداقة الحداقة.وفي نهاية الأمسية قرأت الشّاعرة بعضا من قصائدها، وتسلمت درع ندوة اليوم السابع.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات