التعليم في فلسطين مشاكل وطموحات

ا

المنهاج الاسرائيلي في مدارس القدس العربية

يأتي قرار المعارف الاسرائيلية وبلدية”أورشليم” بتطبيق المنهاج الاسرائيلي على خمس مدارس من مدارس القدس العربية المحتلة في بداية العام الدراسي الحالي 2013-2014 ضمن سياسة تهويد كلّ شيء في هذه المدينة، لكن هذه المرّة فان التهويد يستهدف الانسان وثقافته، ويخطئ من يصدق الرواية الاسرائيلية أن أسرلة المنهاج الدراسي في مرحلة التعليم الالزامي جاء بناء على طلب الأهالي، أو ادارات وهيئات التدريس في تلك المدارس، بل هو مفروض فرضا، ولن يتوقف على المدارس الخمس المذكورة، بل ستتبعها بقية المدارس بشكل تدريجي ضمن خطة مدروسة ومحكمة. وللتذكيرفقط فان سلطات الاحتلال طبقت المنهاج الاسرائيلي على مدارس القدس العربية فور وقوع المدينة تحت الاحتلال في حرب حزيران 1967. وكانت النتيجة هو هروب الطلاب من المدارس الرسمية الى المدارس الخاصة، والى المدارس الفلسطينية الواقعة خارج حدود بلدية القدس حسب التقسيمات الادارية للمحتلين، حتى أن المدرسة الرشيدية-كبرى مدارس القدس الثانوية- كان عدد الطلاب فيها أحد عشر طالبا، وعدد المدرسين 33 معلما. ثم جرى تحويل المدرسة الى مدرسة صناعية في محاولة لجذب الطلاب، لكن الوضع لم يتغير، وفي تلك الفترة نشطت جمعية المقاصد الخيرية التي أسّسها المرحوم محمود حبيّة مع المرحوم حسني الأشهب مدير التربية والتعليم في محافظة القدس قبل وقوع المدينة تحت الاحتلال، نشطوا في تأسيس المدارس الخاصة التي سميت في حينه “مدارس حسني الأشهب” ومدارس الأوقاف الاسلامية، لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلبة في هذه المدارس التي كانت تدرس المنهاج الأردني المعدل المعمول به في بقية مدارس الضفة الغربية المحتلة.وفي محاولة من الاسرائيليين لفرض سيطرتهم على القدس العربية بعد قرار الكنيست الاسرائيلي في 28-6-1967 من جانب واحد في مخالفة واضحة للقانون الدولي، ولقرارات مجلس الأمن الدولي، ولرغبة المقدسيين الفلسطينيين، فانهم –أي المحتلين- كانوا معنيين بوجود تعليم رسمي تحت سيطرتهم، فانهم شكلوا لجنة لدراسة أسباب عدم التحاق الطلبة المقدسيين بالمدارس الرسمية، وكانت احدى النتائج التي توصلت اليها اللجنة أن الطلبة المقدسيين يريدون الحصول على شهادة الثانوية العامة-التوجيهي- وليس البجروت الاسرائيلي، لأنهم يلتحقون بالجامعات العربية، فقررت السلطات الاسرائيلية اعادة تطبيق المنهاج الأردني المعدل الى مدارس القدس العربية أسوة ببقية مدارس الضفة الغربية، مع الابقاء على اللغة العبرية-التي لم تحسب كمادة نجاح ورسوب- وعلى كتاب”مدنيات اسرائيل”للصف الابتدائي الرابع. وفي العام 1974 عاد المنهاج الأردني المعدل الى المدارس الرسمية في مختلف المراحل، وعاد حوالي 50% من الطلاب الى المدارس الرسمية، في حين بقي الآخرون في المدارس الخاصة وفي المدارس الفلسطينية المحيطة بالمدينة والواقعة خارج حدود البلدية؟ مع التأكيد أن الزيادة الطبيعية للسكان لم يصاحبها بناء مدارس لتستوعب هذه الزيادة، ولولا المدارس الخاصة لكان حوالي 50% من الطلبة المقدسيين في مرحلة التعليم الالزامي خارج المدارس حتى يومنا هذا، لعدم وجود صفوف دراسية تستوعبهم، حيث يبلغ النقص في عدد الصفوف الدراسية حوالي 2200 صف دراسي. وفي حينه صرح تيدي كوليك رئيس بلدية القدس وقتئذ أن البلدية والمعارف الاسرائيلية يسمحون للمدارس الخاصة في المدينة بمزاولة أعمالها لعدم قدرة المدارس الرسمية على استيعاب الطلبة، ولأنها توفر عشرة ملايين دولار سنويا على البلدية. وفرض المنهاج الاسرائيلي على الطلبة المقدسيين الفلسطينيين يعني أدلجتهم منذ نعومة أظفارهم على الفكر الصهيوني والقيم الدينية اليهودية، والولاء لدولة اسرائيل، وسلخهم عن ثقافتهم العربية وانتمائهم القومي، ويأتي قرار تطبيق المنهاج الاسرائيلي مكملا لمصادرة الأرض والتوسع الاستيطاني، ومحاصرة المدينة بالكامل ومنعها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي. حيث لم يبق ما يمكن تهويده سوى دور العبادة والعمل جار على تقسيم الأقصى أو هدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه.

للحفاظ على مسيرة التعليم في فلسطين

لن نتكلم هنا عن معاناة بناتنا وأبنائنا طلبة المدارس في مرحلة التعليم الالزامي، فهي كثيرة جدا، تتوزع بين عدم توفر مدارس نموذجية لغالبية الطلبة، وعدم وجود ملاعب حتى للاصطفاف الصباحي، وعدم توفر وسائل تعليم مساعدة، والنقص في المختبرات والمكتبات المدرسية، وعدم توفر الأمن والأمان للطالب في بيته وفي الطريق الى مدرسته وفي المدرسة….الخ.لكننا سنركز هنا على قضية عدم التزام جزء كبير من الطلبة بالدّوام المدرسي بدايته ونهايته، وعدم تقيدهم بقوانين التعليم، وعدم احترامهم لمدرّسيهم، و….هكذا، فما أسباب ذلك؟ وما هي الحلول؟ وفي الواقع أن هناك أكثر من سبب لذلك، منها ما يقف خلفه الاحتلال، ومنها سببه الأوضاع الاقتصادية المتردية في الأراضي الفلسطينية، ومنها عدم وجود قوانين رادعة، وسنتطرق هنا الى قوانين الردع، والردع هنا لا يعني العنف الجسدي أو اللفظي، فكثير من الطلاب وأولياء أمورهم فهموا قانون “عدم تعنيف الطالب” بطريقة معكوسة ومغلوطة، وفهموا أن عدم تعنيف الطالب يعني اعطاء الضوء الأخضر للطالب بتعنيف المعلم، وعدم احترامه، وعدم الالتزام بالدّوام المدرسي وغير ذلك، وفهموا أن كلّ شيء مباح للطالب حتى يكمل مرحلة التعليم الالزامي، و”أنّ القانون يحميه” وأنّ المعلم ملزم بقبول مسلكيات وتصرفات الطالب حتى لو تعرض لاعتداء جسدي من الطالب أو من بعض ذويه، وإلا فانه قد يفقد وظيفته، وقد يُجرّ الى المحاكم بعد تقديم شكوى للشرطة، عدا العطاوي والصلحات العشائرية وتبويس اللحى.وآمل هنا أن لا يفهمنّ أحد أنني أدعو الى إعادة معاقبة الطلاب بالتعنيف الجسدي أو اللفظي، أو فصل الطلبة المشاغبين في مرحلة التعليم الالزامي، كما كان يحصل مع أبناء جيلي في خمسينات وستينات القرن الماضي. بل أدعو الى وضع قوانين صارمة وتنفيذها على أرض الواقع لضبط مسيرة التعليم، وقد سبقتنا الى ذلك الدول-أوروبا وأمريكا- التي قلدناها في قانون”عدم جواز تعنيف الطلاب” فقد رافق تلك القوانين قوانين رادعة ضبطت العملية التعليمية دون تعنيف، وبذلك تقدّم التعليم عندهم ويتطوّر باستمرار لافت، وكانت النتائج نبوغ العلماء وما واكب ذلك من ثورة علميية تكنولوجية أذهلت العالم.وسأعطي أمثلة على ذلك مما شاهدته من قوانين تعليمية في أمريكا أثناء زيارتي لإخوتي هناك، وتحديدا في مدينة شيكاغو، التي يبلغ عدد الطلاب فيها أكثر من التعداد السكاني لشعبي جميعه، فقبل حوالي عامين كان علاء ابن شقيقي داود في الصف التاسع، في مدرسة نموذجية، تبعد عن بيته حوالى 3 كيلو متر، وفي الحيّ الذي يسكنه”بريدج فيو” وسكانه في غالبيتهم من المغتربين العرب وبعض المسلمين، واصطفّ علاء –في الحيّ وليس في المدرسة-مع ثلاثة أطفال عرب من جيله في مشاجرة صبيانية على زميل لهم من أصول تركيّة وبطحوه أرضا، وفي اليوم التالي تقدم الطالب تصحبه والدته بشكوى الى إدارة المدرسة، فأوقفت الادارة علاء وزملاءه عن المدرسة لمدة شهر حتى تبحث القضية، وعقدت جلسة تأديبية للطلبة حضرها مديرة المدرسة، والباحثة الاجتماعية، وضابط السلوك، وممثل عن مديرية التعليم، وممثل عن لجنة أولياء الأمور، وممثل عن البلدية، وطُلب من أولياء الأمور احضار محامٍ للدفاع عن الطلبة المتهمين بممارسة العنف ضد زميل لهم خارج حرمة المدرسة، وبعد الجلسة التأديبية التي حضرها محامٍ عن علاء تقاضى ألفي دولار، صدر القرار محذرا من خطورة الموقف، وبالتالي: نقل الطلبة”المعتدين” الى مدارس داخلية في ولاية أخرى، أو أن ينقلهم ذووهم الى مدارس خارج المقاطعة التعليمية لمدة سنتين، وتبين أن المدرسة الداخلية تقع في معسكر تدريب للجيش، وتطبق على الطلبة فيها القوانين العسكرية ومنها، اجبار الطالب في الخامسة صباحا ، على الركض مسافة أربعة كيلو مترات، واختار شقيقي داود –رأفة بابنه- أن ينقله الى مدرسة تبعد عن البيت أكثر من 40 كيلو متر، وكان يستيقظ في السادسة صباحا كي يوصل ابنه الى المدرسة، وليذهب بعدها الى عمله، وعند انتهاء الدوام المدرسي كان يترك عمله ليعيد ابنه من المدرسة.وعلاء الآن يتعلم في مدرسة ثانوية تبعد عن البيت حوالي كيلو متر، ويدرس فيها حوالي 3000 طالبة وطالب، والتعليم فيها هادئ ومنتظم مثل بقية المدارس، وهي لا تتهاون في أيّ صغيرة أو كبيرة، وفي بداية العام الدراسي الحالي كنت هناك، واتصلت موظفة من إدارة المدرسة بشقيقي داود تخبره عن مخالفة قام بها ابنه علاء، وتكرارها سيوجب عقابه، والمخالفة كانت أنّ علاء أخذ معه الكتاب المقرّر لإحدى المواد الدراسية ونسي أن يأخذ معه الدفتر.وعلمتُ بمخالفة أخرى وهي أنه تم توزيع ساندويتشات”هامبورغر”على الطلبة في وجبة الغداء، وأحدهم فلسطيني مسلم، وبعد أن أكل لقمتين سأل المعلمة إذا ما كانت اللحمة لحم خنزير، فأجابت بالايجاب…فألقى الساندويتش في سلة القمامة وصاح في وجه المعلمة: لماذا فعلتموها؟ ألا تعلمون أنني مسلم وأن لحم الخنزير حرام؟ ففصلوه من 22-5 حتى نهاية العام الدراسي لأنه صرخ في وجه معلمته، وسمحوا له بالعودة لتقديم الامتحانات النهائية، مع حرمانه من علامة الواجبات المنزلية وهي 40% من مجموع العلامات، ولولا حذر ادارة المدرسة من اعتبار القضية عنصرية دينيه لفصلوه كليا. ولولا أن الطالب مجتهد لرسب في صفّه.والأمثلة كثيرة، لكنها تأكيد على ضبط العملية التعليمية في مدارس طلابها بالآلاف وينحدرون من أصول مختلفة وثقافات مختلفة. وأن أولياء الأمور يراقبون أبناءهم الطلبة ويوجهونهم باستمرار خوفا من الوقوع في المحظور. فلماذا لا توجد عندنا قوانين رادعة للحفاظ على مسيرتنا التعليمية؟

التعليم مرّة أخرى

لا يمكن التعامل مع التعليم والمؤسسة التعليمية  بشكل عادي، فبالتعليم تنهض الشعوب والأمم، ولا شكّ أن الفارق بيننا وبين الشعوب المتقدمة هو فارق علمي، والشعوب المتقدمة علميا متقدمة في بقية مناحي الحياة المختلفة، كما أن أحد أسباب الهزائم التي نعيشها، والتي أضعنا فيها أوطانا، وخسرنا فيها أنهارا من الدماء الزكية هو الجهل وعدم التقدم العلمي، ولإغراقنا في الجهل فقد حولنا الهزائم الى انتصارات، وبرأنا أنفسنا من أسباب ذلك، وحملنا المسؤولية لغيرنا… والحديث هنا يطول ولسنا في مجال بحثه.

وما يهمّنا هنا هو التعليم الالزامي وكيفية الحفاظ عليه وتطويره، ولا بدّ هنا من التذكير بأهمية فاعلية أطراف العملية التعليمية وضرورة تشابكها لنجاح عملية التعليم، فالتعليم يقوم على التعاون بين الادارات المدرسية وبين أولياء الأمور، واذا كنا نصرّ على ضرورة وجود إدارات وهيئات تدريسية مؤهلة وذات كفاءة، إلّا أن هذا يتطلب أن يصاحبه قوانين تعليمية رادعة، وأولياء أمور معنيون بتعليم أبنائهم، ومن يتجول في محيط غالبية مدارسنا وخصوصا في القدس، سيجد طلابا من مختلف الأعمار يتسكعون في الشوراع في ساعات الصباح بعد قرع جرس بدء الدوام الدراسي، وبعضهم قد يضيّع أكثر من حصة دون اكتراث، ودون خوف من عقاب، وبعض الأطفال يخرجون من بيوتهم الى المدرسة بعد الثامنة، علما أن بيوتهم لا تبعد كثيرا عن المدرسة، فأين أمّهاتهم وآباؤهم؟ وما هو دورهم وحرصهم على تعليم أبنائهم؟ وبعض الطلبة في الاعدادية والثانوية يتسكعون في الطرقات يدخنون ويلهون، وإدارات المدارس ممنوعة من عقابهم، وأولياء أمورهم لا يهتمون بسلوك أبنائهم. بل إن بعض أولياء الأمور لا يعرفون الصّفّ الدراسي الذي وصل اليه أبناؤهم وبناتهم، وبعضهم يذهب الى المدرسة في نهاية العام الدراسي ليعتدي على المعلمين لأن ابنه أو ابنته رسب في الصف.

واذا ما دعت ادارة المدرسة الى اجتماع لأولياء الأمور لبحث قضايا تهمّ أبناءهم وبناتهم فان الاستجابة للدعوة شبه معدومة، وحتى في قضايا مخالفات الطلبة الفردية فان أولياء الأمور لا يستجيبون لدعوة اداراة المدرسة لبحث مخالفات ابنهم، ويصاحب ذلك عدم وجود قوانين رادعة ونافذة لمخالفات الطلبة، وكأن الالتزام بالدوام المدرسي، واحترام النظام والقانون أصبحت غير مهمّة، وحتى أن هناك طلبة يقومون بتكسير ممتلكات المدرسة من أبواب ونوافذ ومقاعد وغير ذلك دون رادع.

ومن اللافت والمؤسف أن بعض الطلبة يحملون في حقائبهم سكاكين وغيرها من الأدوات الحادة ليعتدوا بها على زملائهم، وهذه يأتون بها من بيوتهم، فأين دور الآباء والأمهات؟

وكثير من الطالبات والطلاب وفي مراحل عمرية مختلفة يحملون هواتف نقالة”بلفونات” علما أنهم ليسوا بحاجة لها، فمدارسهم لا تبعد كثيرا عن بيوتهم، ويستعملونها في الصف لسماع الأغاني، أو لإرسال الرسائل الصامته لبعضهم البعض، ولا ينتبهون للمعلم، وما يتبع ذلك من فشل في الدراسة، قد يصل الى التسيّب من المدرسة ليزداد عدد العاطلين عن العمل، وغير ذلك.

وبالتأكيد فان إدارات المدارس وهيئاتها التدريسية غير قادرة على ضبط العملية التعليمية بدون تعاون أولياء الأمور.

واذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فإن وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، والمؤسسات والجمعيات والأندية مطالبة بتوعية الجمهور حول أهمية التعليم، وحول المطلوب منهم للحفاظ على أبنائهم لتكميل دراستهم وللالتحاق بالجامعات، وكذلك لخطباء المساجد دور في هذا المجال، فبدلا من التركيز على زواج القاصرات وشتيمة من يخالفون الخطيب في الرأي، حبّذا لو يتم التركيز على التعليم وأهميته، لأنّ التعليم الصحيح هو مكمن الدواء لمشاكلنا على مختلف الصعد.

ولمّا كان البعض يطالب الجامعات بتخفيض معدلات القبول في مختلف الكليات، فيا حبّذا لو أنّهم يحرضون الطلبة على الاجتهاد ليحصلوا على معدلات عالية تؤهلهم للالتحاق بالجامعات.

كي تكتمل العملية التعليمية

طرحنا في الحلقات الثلاثة الماضية ضرورة التزام الطلبة بالدوام المدرسي والالتزام بالنظام، والحفاظ على ممتلكات المدرسة، والتعاون بين إدارات المدارس والهيئات التدريسية من جانب، وأولياء الأمور من جانب آخر، ورغم النواقص الموجودة في مدارسنا ودورها في إعاقة العملية التعليمية مثل: عدم وجود ملاعب في غالبية مدارسنا، وعدم وجود غرف صفيّة لائقة، وعدم وجود مختبرات ومكتبات ووسائل ايضاح، إلّا أن هذا يجب أن لا يمنعنا  من تعليم بناتنا وأبنائنا ضمن الظروف المتاحة لنا، مع العمل على تحسين هذا المتاح حتى نصل الى ما نصبو اليه، وقد طرح أستاذنا عبد المجيد حمدان مشكورا قضية التعليم بالاقناع وليس بالتلقين في تعقيبه على الحلقة السابقة، وهذه قضية مهمة تحتاج الى نسف أساليب التعليم القديمة، لنتساوى مع الشعوب المتقدمة، والتي تسير فيها العملية التعليمية بشكل رائع، وبالتالي فإن ارتفاع مستوى التعليم فيها ملحوظ بشكل لافت، ويصل الطلاب فيها الى الجامعات بمستوى جيد جدا، وحتى أن المناهج الجامعية وطرق التدريس في جامعاتهم تختلف عمّا عندنا كثيرا، وعلينا الاعتراف بأن خريجي جامعاتهم مؤهلون ويمسكون نواصي العلم أكثر من خريجي جامعاتنا، ولذلك أسباب عديدة، ومنها التعليم بالاقناع وطرق البحث العلمي وليس بالتلقين كما هو عندنا، وقد يستغرب بعضنا أن تكليف الطالب بعمل أبحاث في الدول المتقدمة تبدأ من الصف الابتدائي الأول بما يتلاءم وعمر الطالب ومرحلته التعليمية، وعمل الأبحاث يعني تحريض الطالب على استعمال العقل والتفكير، وزيادة المعلومات، لذا فان الوظيفة المنزلية التي تعطى للطالب قد تتفوق على المنهاج الدراسي المقرر، ولها 40% من المعدل السنوي العام. أي أن الطالب الذي لا يقوم بالواجب البيتي الذي يكلفه به المعلم سيرسب في صفه حتما، واذا ما بحث الطالب عن المعلومة بنفسه، فانها ستترسخ في عقله ويصعب عليه نسيانها، وهذا يقودنا الى قضية تعزيز المعلومة بمكافأة الطلبة المتفوقين خصوصا في أبحاثهم، فلا غرابة مثلا أن تجد في شهادات الطلبة النهائية معدلات لبعض المواد أكثر من الحدّ الأقصى، كأن تجد معدل طالب في الرياضيات مثلا 120%. وفي المرحلة الثانوية تجد طلابا قد أنهوا أكثر من 15 ساعة معتمدة للجامعة قبل التحاقهم بها، وهذا ما شاهدته بنفسي في أمريكا. والتعليم بالاقناع يصاحبه منهاج دراسي ملائم، ومن المحزن أن ترى أطفالا في مدارسنا يحملون حقائب مدرسية قد تفوق قدرتهم الجسدية في حملها، فالكتب المقررة مضخمة وفائدتها قليلة، بينما في الدول المتقدمة يركزون على المعلومة المفيدة وليس على عدد صفحات الكتاب، وقد يفاخر البعض منا بأنه يعرف على سبيل المثال أسماء عواصم مختلف دول العالم، دون أن يسأل أيّ منا نفسه عن الفائدة المرجوّة من تلك المعرفة، فهل يعلم العارفون منا أن الطالب الأمريكي ينهي الثانوية العامة وكل ما تعلمه من التاريخ لا يزيد عن أربع صفحات تتعلق بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، مثل سنة استقلالها وحدودها ومساحتها وعدد ولاياتها…الخ. بينما تجده يعرف في العلوم أضعاف ما يعرفه خريج مدارسنا. وفي الجامعة يعطى كلّ تخصص حقه في التوسع المعرفي.وسيكون لنا حديث عن المناهج الدراسية أيضا.

مناهجنا التعليمية

‏وإذا أراد المتابع المهتم أن يرى مدى عقم مناهجنا التعليمية، فهذا يتطلب منه أن يطلع على على نماذج من المناهج المطبقة في الدول المتقدّمة في مختلف المجالات، مع التأكيد على أن التعليم في بلداننا نحن العربان يعاني من مشاكل متداخلة، ما أن تخرج من إحداها حتى تدخل ما تلاها وهكذا الى أن تعود الى النقطة التي انطلقت منها، فمناهجنا مضخمة والنتائج المرجوّة منها غير مدروسة، وفي غالبيتها لا تتطوّر مع تطوّر الحياة، فمثلا مادّة التاريخ العربي تتكلم عن الدّولة الاقليمية، ولا تقدّم للطالب أن الوطن العربي دولة واحدة تقاسمها الغزاة الأوروبيون، ففي الشمال الافريقي استولى البريطانيون على مصر والسودان، واستولت فرنسا على دول المغرب العربي”تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا” في حين استولت ايطاليا على ليبيا، وفي المشرق تقاسمت فرنسا وبريطانيا منطقة الهلال الخصيب وبلاد الشام تنفيذا لاتفاقات سايكس بيكو عام 1916، فاستولت بريطانيا على العراق والأردن وفلسطين، في حين استولت فرنسا على سوريا ولبنان، كما احتلت بريطاني الساحل الجنوبي للجزيرة العربية فيما يعرف الآن جنوب اليمن، قطر، عمان، البحرين، والامارات العربية المتحدة.  وتبع ذلك في تشرين الثاني-نوفمبر- 1917 صدور وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان لهم ذلك في 15-5-1948 حيث تمّ الاعلان عن قيام دولة اسرائيل، وبدلا من ترسيخ فكرة الدولة العربية الواحدة هناك وصف لبعض الشعوب العربية الصغيرة بأنّها أمّة! وهذه عملية تعليمية تضليليّة وتجهيليّة للطالب، تكرّس الاقليمية والتشرذم.

أمّا المواد العلمية فتكاد تكون أمرا ثانويا في مناهجنا، ونحن هنا –أقصد العربان- نغرّد خارج السرب، فكثير من “مفكّرينا” خصوصا “المتأسلمين الجدد” يعتبرون العلوم الشرعية أساس العلوم، في حين أنّ العالم جميعه يعتبر الرّياضيات أساس العلوم، فلذلك هم غزوا الفضاء الخارجي، وداسوا وجه القمر بأقدامهم ورفعوا أعلامهم عليه، وهم في طريقهم لاستيطان المرّيخ، بينما نحن نسبح في بحور الجهل، ونخرج من دنيانا فقراء مهزومين تفتك بنا الأمراض، راضين بذلك على أمل النّعيم الذي ينتظرنا في جنّة الحياة الأخرى التي لا يعلم كنهها إلّا الله. ولم يتساءل “مفكّرونا” عن أسباب التقدم التكنولوجي الذي تعيشه الدول المتقدمة، تماما مثلما لم يتساءلوا عن أسباب التقدّم الاقتصادي الهائل في الدول المتقدّمة، فدولة مثل بلجيكا لا يزيد عدد سكانها عن سبعة ملايين شخص، ثرواتها تعتمد على صيد الأسماك وتصنيع الأخشاب من غاباتها، يعادل دخلها القومي دخل المملكة السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم. والحديث هنا يطول.

وإذا كان واضعو المناهج عندنا لجنة يتم اختيارها من وزارات التربية والتعليم، وتلتزم المدارس جميعها في الدولة بتعليم هذه المناهج، فإن دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تقسم الولايات الى مقاطعات تعليمية، وكل مقاطعة فيها لجنة لوضع المنهاج حسب الإطار التعليمي الذي يراه خبراء محترفون في الدولة، وتتابعه عاما بعد عام، بحيث أنّنا نجد  أكثر من منهاج في الولاية الواحدة، وعند دراسة النتائج في نهاية كلّ عام دراسيّ تهتم الوزارة بالمناهج التي أثبتت جدواها وتقدّمها للمقاطعات التعليمية الأخرى للاستفادة منها دون فرضها عليهم، وهكذا تتم المنافسة الشريفة بين لجان وضع المناهج للوصول الى الأفضل.

ويلاحظ أن المستوى التعليمي العلمي لطلاب الصف الابتدائي السادس عندهم يفوق المستوى العلمي لطلاب القسم العلمي في مدارسنا الثانوية.

وعدم تجديد المناهج التعليمية عندنا كارثة حقيقية، فعلى سبيل المثال حتى ثمانينات القرن الماضي كان طلابنا يدرسون أن عدد سكان مصر هو ثمانية عشر مليون شخص، وهو عددهم قبل ثورة يوليو عام 1952.

وضخامة مناهجنا التعليمية، تثقل كاهل الطالب، جسديا ونفسيا، مع مردود معلوماتي قليل، ففي بداية العام الدراسي الحالي 2013 رافقت شقيقي داود مع ابنه علاء الذي يدرس في احدى مدارس شيكاغو في الصف الحادي عشر، سلّمت المدرسة علاء ستة كتب هي المنهاج المقرر لهذا العام الدراسي، وهي في عدد صفحاتها لا تساوي عدد صفحات الكتب المقررة للصف الابتدائي الثالث عندنا، مع الفارق في المضمون والمستوى.

أمّا وسائل التعليم المساعدة فحدّث ولا حرج، فمثلا عند تعليم الطلبة هناك عن الثروة الحيوانيّة في أمريكا مثلا، فإنّه يظهر للطلاب على لوحة فلما يبثه “بروجيكتور” تظهر عليه خارطة الولايات المتحدة، وتظهر الحيوانات في أماكن تواجدها تمارس حياتها الطبيعية، وكأن الطلاب يشاهدونها على أرض الواقع، وكذلك بالنسبة للأنهار ومصادر المياه من أنهار وبحيرات  والثروة الزراعية وغيرها، وكذلك بالنسبة للمواد العلمية، فطلاب الصف الابتدائي الثالث مثلا يدرسون مبادئ الطاقة، وكيف تتحول من شكل الى آخر، وتقدمها المعلمات للطلبة مع التطبيق العملي على أجهزة مخصّصة وموجودة في المدرسة.

وقد فوجئت هذا العام بوجود مادة إضافية لطلبة الصف الحادي عشر في أمريكا تتعلق بالعلاقات العامة واللياقة في التصرفات، مثل كيف تجلس على طاولة السفرة وأين تضع الملعقة والشوكة والسكين، وفي أيّ يد تحمل كلّا منها، وكيف تقدّم “المملحة”لمن يشاركك المائدة إذا ما طلبها منك، حتى أنّ علاء بن شقيقي داود قال لي بأنهم يعلموننا كيف نحكّ رؤوسنا، أو كيف ننظف أنوفنا؟ وكيف نخاطب والدينا وإخوتنا ومعلمينا ومديرنا، وكيف نسير بصحبة أيّ منهم. إنّهم يعدون الطلبة للدخول الى مجال الحياة….وهكذا. فلماذا لا توجد أمور كهذه في مدارسنا؟ والحديث يطول.

ماذا نوفّر لأبنائنا الطلبة؟

مع أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، خصوصا في فلسطين المحتلة، إلّا أن هذا لا يعني أننا يجب أن نبتعد عن الصحيح، فبناتنا وأبناؤنا الطلبة محرومون من كلّ محفزات التعليم، فغالبية المدارس لا يوجد لها أبنية نموذجية مخصصة للدراسة، وهناك صفوف دراسية في غرف مستأجرة هي في الأصل مخصّصة للسكن وليس للتدريس، ولا يوجد ملاعب حتى للاصطفاف الصباحي، ولا توجد مختبرات ومكتبات مدرسية، ولا يوجد وسائل ايضاح، عدا عن المناهج غير الملائمة، والأمن الشخصي في فلسطين غير متوفر للطلبة في بيوتهم أو مدارسهم أو في الطريق ما بين البيت والمدرسة، وهناك مطالبة بل تطبيق لليوم الدراسي الطويل من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر، مع أن غالبية الطلبة لا يتوفر له ثمن “ساندويش فلافل” مما يبقيه جائعا حتى عودته الى البيت، ولا يتوفر له تدفئة في الشتاء، أو تهوية في الصيف.

وجزء من المعلمين غير مؤهل للتدريس، وغير متمكن من أساليب التدريس، وهكذا…ومع ذلك نطالب بناتنا وأبناءنا بالابداع والتفوق، فهل طلبنا قابل للتحقيق في ظلّ كلّ ما ذُكر؟

ولكي نقف على حقيقة وضعنا التعليمي المأساوي سأجري مقارنة مع دول متقدمة، فعلى سبيل المثال: لي قريب درس الاقتصاد في احدى الجامعات الأمريكية في شيكاغو، وفي السنة الدراسية الأولى وهي سنة تحضيرية حصل على العلامات كاملة دون نقصان، مما لفت انتباه أساتذته، خصوصا وأن معدله في الثانوية العامة كان 73% فقط حيث تخرج من احدى مدارس القدس الخاصة، فقررت ادارة الجامعة دراسة أسباب عدم حصوله على معدل عال في الثانوية العامة، فأرسلوه الى مدرسة مختلطة نموذجية، وطلبوا منه الدوام في الصف الثاني عشر خمسة أيام في الأسبوع بعد أن أمنوا له المبيت والطعام في فندق خمسة نجوم، وفي الأسب,ع الثاني أخذوه للدوام في الصف الثاني عشر في مدرسة بنات تشرف عليها كنيسة، وبعدها أعطوه نموذجا فيه 400 سؤال ليختار الاجابة الصحيحة من أربع إجابات للمقارنة بين المدرستين اللتين داوم في كل واحدة منهما خمسة أيام، وبين المدرسة التي درس الثانوية فيها في مدينة القدس المحتلة. وبعد ذلك درسوا الأسباب وخلصوا بالنتائج بأن مدارسنا غير مؤهلة للتدريس من جميع النواحي، وأنه لا ينجح فيها الا الطلبة النوابغ لعدم توفر أسباب النجاح.

وقد زرت أكثر من مدرسة في شيكاغو للاطلاع على الفوارق بين مدارسنا ومدارسهم، وقد حفزني على ذلك قبل أكثر من أربعة عشر عاما عندما جاءت رسالة من إدارة مدرسة يدرس فيها ابن شقيقتي فاطمة تطلب أحد الوالدين الى المدرسة لأمر يتعلق بابنهم، وكان في الصف الابتدائي الأول، فذهبت بصحبة شقيقتي لأتفاجأ بأن طلب الادارة كان يتمحور على عدم قبول ابن شقيقتي تناول وجبة الافطار في المدرسة، حيث أنه يتناولها في البيت لعدم علم والديه بأن المدرسة تقدّم إفطارا، وعجبت أنها تقدم وجبة غداء أيضا، وأن المدرسة لها ملاعب واسعة جدا، وفيها موقف يتسع لمئات السيارات، ولفت انتباهي أن الطابق الأول مجرد قاعة كبيرة في صدرها مطبخ ومكان للطعام، والبقية ليلعب فيها الأطفال في الأجواء الباردة، وفي الوسط هناك طاولات عليها دفاتر وأقلام ليأخذ الطالب منها حاجته مجانا، وأن مساحة كل صف 64 مترا مربعا، وفي حائطيه الجانبيين صفّ من النوافذ، وهو مجهز بأجهزة تكييف للبرد وللحرّ، ولا يجوز أن يزيد عدد طلاب الصف عن 27 طالبا، وأن هناك معلمين تزيد خبرتهم التعليمية عن عشر سنوات لتقوية الطلبة ضعاف التحصيل في أيّ مادة دراسية. ولفت انتباهي أن المدارس مخصصة لكلّ ثلاث سنوات دراسية لتكون أعمار الطالبات والطلاب متقاربة منعا لاستغلال الكبار للصغار، فمثلا هناك مدارس من الصف الأول الابتدائي الى الثالث ومدارس أخرى للصفوف من الرابع حتى السادس ودواليك.

وفي المرحلة الابتدائية هناك رحلتان مجانيتان سنويا في سيارات تتسع لخمسة وعشرين شخصا، ويحق للطالب أن يصطحب أحد والديه أو كليهما معه، وتقدم لهم وجبتا افطار وغداء، في الأولى يتعرفون على ملامح مدينة شيكاغو التي تبلغ مساحتها 28 الف كيلو متر، وفي الثانية يتعرفون على مناطق أخرى في ولاية الينوي التي تقع فيها شيكاغو، وفي المرحلتين الاعدادية والثانوية يزور الطلاب ولاية أخرى.

ومن خلال أسئلتي عن وجبات الطعام، وجدت أن الطلبة الفقراء يعفون من ثمن الوجبة الرمزي في مختلف المراحل التعليمية، بينما أبناء الأثرياء يدفعون مبلغا رمزيا لوجبة الغداء في الثانوية، فعلاء بن شقيقي داود الطالب في الصف الحادي عشر هذا العام الدراسي 2013-2014 يدفع دولارين ونصف ثمن وجبة الغداء؟

ورغم اتساع الملاعب اللافت فان الطلاب لا يصطفون في الصباح كما يحصل عندنا، بل يدخلون الى صفوفهم فور سماعهم صوت الجرس، ولا ينشدون للزعيم ولا يقرأون الفاتحة كما يحصل في مدارسنا.

ونظرا للقوانين التعليمية الصارمة والعادلة التي تربّى الطلاب وأولياء أمورهم على احترامها، فان التعليم يسير على ما يرام، فمدرسة علاء بن شقيقي داود فيها ثلاثة آلاف طالبة وطالب ثانوي، وتديرها سيّدة وغالبية هيئتها التدريسية نساء، وهي مدرسة مختلطة، ومع ذلك لا مشاكل ولا فوضى فيها.

المعلمون في مدارسنا

هناك مثل بريطانيّ يقول:”المعلم يولد معلما” “Teacher is born” فهل ينطبق هذا على أبنائنا وإخوتنا المدرسين؟ ويقول الباحثون التربويون أنه يجب أن تتوفر في المعلم ثلاثة أشياء هي: قوّة الشخصيّة، التحصيل العلمي والأسلوب، فاذا كان المعلم مؤهلا علميا وشخصيته ضعيفة أو لا يملك أسلوبا لايصال المعلومة للطالب، أو كلتيهما معا، فانه لن يستطيع القيام بواجبه، وإن توفرت هذه الشروط في المعلم فهل نوفّر له حياة كريمة كي يقوم بواجبه على أكمل وجه؟ فهل نحسن اختيار معلمينا؟ وهل هناك دورات متخصصة لتأهيل المعلمين؟ وهل رواتب المعلمين تفي لسدّ احتياجات أسرهم؟

في خمسينات وستينات القرن العشرين وما قبلهما كان للمعلم مكانة مرموقة، وكان دخله الشهري يفوق دخل عامل في السّنة، وكان المعلم يستطيع أن يبني بيتا، وأن يتزوج من خيرة الصبايا، ومن صبايا ذات جمال وحسب ونسب، بل إن ثقافتنا الشعبية كانت تتغنى بالمعلم، وكانت نساؤنا وأخواتنا وبناتنا يغنّين للعروس ليلة زفافها:

فوق راسك يا فلانه صحنين كزاز

يا هيبه ع عريسك هيبة استاذ

وحتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي تغنّى بدور المعلم في قصيدته الرائعة التي أنشدها في عشرينات القرن الماضي والتي مطلعها:

قم للمعلم وفّه التبجيلا…كاد المعلم أن يكون رسولا

وكانت الأمّهات والزوجات يفاخرن بأن أبناءهن وأزواجهن يعملون مدرّسين، أمّا هذه الأيام فقد انعكست الأمور، فقد تدنّى الوضع الاجتماعيّ للمعلم، وأصبح دَخْلُ العامل أضعاف دخل المعلم، بل إنّ مداخيلل المعلمين متدنّية الى درجة تجبر بعضهم على ممارسة عمل آخر لا يتناسب ومهنته، كأن يعمل سائق سيارة فورد، وقد يحمل بعض طلابه مقابل حصوله على شاقل أو شاقلين من كلّ واحد منهم، مما يفقد المعلم هيبته أمام طلابه تحت ضغط الحاجة. ومع ذلك نطالب مدرّسينا بأن يقوموا بواجبهم على ما يرام.

وعدم مساواة أجور المعلمين بأقرانهم ممن يحملون نفس المؤهلات ويعملون في وزارات أخرى بدرجة مدير فما فوق، خلق مشاكل اجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة.

في حين أن رواتب المعلمين في الدول المتقدمة رواتب مجزية تفي باحتياجات المعلم، فعلى سبيل المثال فان رواتب المعلمين في اسرائيل التي تحتلنا، والتي أهلكت البلاد والعباد، ودمّرت اقتصادنا، والتي جرت مساواتها بأجور المهندسين منذ العام 1982 تساوي ثلاثة أضعاف رواتب معلمينا في مدارس الضفة الغربية وقطاع غزة.

ونتناسى بأنه يجب تقديم حوافز للمعلم حتى يستطيع القيام بواجبه، وحتى يستطيع استكمال دراسته ليعزز قدراته العلمية.

يضاف الى ذلك أن بعض المعلمين يجبرون على تعليم مواد غير المادة التي درسوها في الجامعة، وهم يقبلون ذلك حرصا منهم على الحفاظ على وظيفتهم، ولعدم استغنائهم عن الراتب الذي لا يسدّ رمقهم نهاية كل شهر. وهذا يؤثر سلبا على آداء المعلم، وينعكس سلبا أيضا على الطلبة.

مواهب وإبداعات طالبات وطلاب المدارس

وفي محاولتنا المتواضعة لتشخيص الوضع التعليمي في بلادنا، وما يعانيه من مشاكل وعوائق لها تأثيراتها السلبية على حاضرنا ومستقبلنا، نجد أن لا مناص من التطرق الى إبداعات الطلبة الموهوبين التي يجري قبرها وهي في المهد لعدم وجود من يتبنّاها، مع التأكيد على أن الابداع لا يحظى بأيّة رعاية أو تشجيع، وأنّ معاناة المبدعين تفوق معاناة الآخرين، ونعني بالابداع هنا هي المواهب الأدبية من شعر وقصّة ورواية ومسرحية ونقد أدبي والفنون التشكيلية والنحت والتمثيل المسرحي والسينمائي والغناء وغيرها، ويحضرني هنا ما قاله أحد كبار الكتاب المصريين مازحا في حضرة ضيوفه الكتاب، عندما دخلت طفلته بنت الثلاث سنوات صالة الضيوف، وشرعت تلهو راقصة…فقال لها: ارقصي يا بنت الكلب ع شان تعيشي، فدَخْلُ راقصة عارية في ليلة واحدة يزيد عن ضعف دخل والدك طوال حياته!

وما يهمنا هو عدم وجود أيّ رعاية للمواهب الابداعية في مدارسنا، اللهمّ إلّا اذا كان أحد معلمي الطالب الموهوب ذا دراية بالموضوع، فيرعى طلابه الموهوبين تطوّعا منه، وعلى حساب وقته وجهده، وهذا ما يفعله أديبنا الرائع ابراهيم جوهر في أيّامنا هذه، حيث أنه يرعى طالباته وطلابه الموهوبين في فنّ الكتابة في مدرسة بيت صفافا الثانوية التي يعمل بها، فيوجههم ويصحح لهم، بل ويصطحبهم أحيانا الى ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني في القدس، ليقرأوا شيئا من ابداعاتهم أمام رواد الندوة، وليستمعوا الى توجيهاتهم أيضا، كما أن الأديب زياد خداش يرعى طلبته الموهوبين في المدرسة التي يعلم فيها، وربما هناك معلمون آخرون لم تصلني أخبار رعايتهم لطلابهم، لكنّها تبقى جهودا فردية لا علاقة للمنهاج وللمدرسة فيها. وأزعم أنّني كنت أرعى طلابي الموهوبين أثناء عملي كمدرس للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس ما بين 1977-1990. بل كنت أنشر نتاج بعضهم في الصحف والمجلات المحلية لتشجيعهم على مواصلة ابداعهم.

وللمقارنة غير المتكافئة بين اهمالنا للمواهب الصاعدة، والرعاية التامة بل والبحث عن المواهب في الدول المتقدّمة لرعايتها وتوجيهها سأذكر ما جرى مع علاء بن شقيقي داود المولود في جبل المكبر-القدس في 30-5-1995، والذي يعيش مع والديه في حيّ بريج فيو bridgeview في شيكاغو منذ العام 2000،  وهو حيّ اسلامي 90% من سكانه عرب غالبيتهم فلسطينيون، والباقون من مسلمي دول جنوب شرق آسيا، وفيه جمعية باسم جمعية الأقصى الخيرية، بنت مسجدا ضخما في الحيّ وقاعة للمناسبات، ومدرسة اسلامية باسم مدرسة”جمعية الأقصى الخيرية الاسلامية” ودرس علاء في المدرسة الاسلامية التي تحرص على تربية طالباتها وطلابها على القيم والمبادئ الاسلامية، وتعلمهم اللغة العربية كلغة ثانوية، وتتقاضى رسوما عالية على الطلبة تصل الى 600 دولار شهريا عن كلّ طالب، وقد طبعت المدرسة ثلاثة كتب لعلاء بغلاف مقوّى وورق صقيل وطباعة أنيقة محلّاة بالرسومات، في السنوات الابتدائية الثلاثة الأولى، أي كتاب في كلّ عام، وكلّ كتاب عبارة عن قصّة كتبها الطفل علاء، طبعتها المدرسة دون علم والديه، في حين أن كتابنا وأدباءنا يعانون الأمرّين حتى يجدوا من يطبع لهم نتاجهم الأدبي.

أمّا محمد ابن شقيقتي فاطمة وهو طالب مبدع في المواد العلمية، فقد استدعت المدرسة والديه بعد أن أنهى الصف الابتدائي الثالث، وعرضت عليهما ارساله الى مدرسة متخصصة للطلاب النوابغ في الرياضيات في نفس المدينة شيكاغو، حيث ستحضر معلمة بسيارة خاصة تأخذه من البيت صباحا وتعيده بعد الدّوام، لكن والديه –لسوء حظّه- رفضا ذلك. وهو الآن يدرس العلوم في احدى الجامعات تمهيدا لدراسة الطب… وعند سؤالي عن المدارس المخصّصة للموهوبين، تبين لي وجود مدارس متخصّصة في مختلف المجالات من المواد التعليمية والعلوم الانسانية والآداب والفنون.

فكم من المواهب تضيع في مدارسنا؟ وكم من المواهب عندنا لا تتاح لها فرصة الظهور؟ خصوصا البنات اللواتي يزوجهنّ أولو أمورهن في سنّ مبكرة؟ مع التأكيد على أن الابداع عندنا يرتكز على الجهد الفردي، وهو متاح للذكور أضعاف ما هو متاح للإناث نظرا لمجتمعنا الذكوريّ الذي يعطي حرية الحركة للذكور أكثر من الإناث.

وعلينا أن نتذكّر بأنّ الأدباء والشعراء والباحثين والفنانين في الدول المتقدّمة قد يغتني أحدهم لطباعته كتابا واحد، بينما عندنا فإن الأديب أو الشاعر قد يطبع مؤلفاته على حساب رغيف الخبز المرّ الذي يأكله هو وأسرته، وقد يفني عمره مديونا، بل ان وضعه الاقتصادي قد ينعكس سلبا على أسرته.

وقد شاهدت مطاعم وفنادق كبرى في أمريكا تعطي الكاتب خصما 50% من فاتورة الحساب اذا ما كان يحمل بطاقة عضوية من اتحاد كتاب في بلده وبغض النظر عن جنسيته ودينه ولونه، ويتسابق زبائن الفندق أو المطعم لأخذ صور تذكارية معه إذا ما عرفوا ذلك.

وامعانا منّا في محاربة الابداع فانه ليس سرّا بأن نرى ونشاهد ونسمع على شاشات بعض الفضائيات العربية، ومن على منابر المساجد من يحارب الإبداع ويعتبره حراما، فالرسم حرام والنحت حرام والقصّ الذي يخالف الواقع حرام، والشّعر من وحي الشيطان، والتمثيل والغناء حرام، ومناصرة المبدعين وتشجيعهم حرام، ومرتكب الحرام إمّا فاسق أو كافر، وللتذكير فقط فإن شاعرنا العالمي العظيم الراحل محمود درويش، قد شُتم في حياته وبعد مماته من بعض التكفيريين دون أن يرفّ لهم جفن، ودون أن يجدوا من يحاسبهم على ذلك، وأن الروائي الراحل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب قد تعرّض هو الآخر في أواخر حياته عام 1995 للطعن من تكفيريين في محاولة منهم لقتله،  بل إن هناك حكومات عربية واسلامية تفتح ملفات تحقيق للمبدعين، فمجرد حمل القلم أو اقتناء كتاب معين تهمة أمنية، قد تودي بصاحبها الى الهلاك أو السجن لسنوات طويلة، وقد تكون سببا في فصله من عمله، ما لم يكن مسبّحا بحمد السلطان.

لحلّ ضائقة الأبنية المدرسيّة

هناك حقيقة علينا الاعتراف بها وهي: أنّنا نستطيع تشخيص المشاكل التي نعاني منها، لكننا لا نستطيع وضع الحلول لها، وان استطعنا ذلك فإننا لا ننفذ، والسبب هو الاتكالية التي نتربى عليها، والتي سادت كسلوك وكثقافة، فالابن يبقى طفلا مهما كان عمره ما دام والده على قيد الحياة، واذا ما توفي الوالد فان دوره ينتقل الى الأخ الأكبر وهكذا، وهذا ينطبق على العائلة الكبيرة وعلى العشيرة أيضا، فما دام كبير العائلة أو شيخ القبيلة حيّا فانه مطالب بتحمّل مسؤولية العائلات والقبيلة وحلّ مشاكلها، وحتى الأحزاب الوطنيّة والدّينيّة عندنا هي انعكاس لمفهوم العائلة والعشيرة والقبيلة، ولا نبالغ اذا ما قلنا بأن الدّول في بلداننا هي تحالف “قبلي سياسي” اللهمّ إلّا اذا انفردت القبيلة الكبرى بالحكم، أي أنّنا لا نزال بعيدين عن بناء الدولة المدنية، دولة سيادة القانون التي تنهض بشعبها. وبنية مجتمعاتنا العشائرية تقودنا الى أن يتكلّ الكلّ على الكلّ، فالخير لصاحبه والشرّ على الجميع، وليتنا نتحمل مسؤولية شرّ أعمالنا، ولو تحمّلناها لوجدنا لها حلولا مناسبة، وحتّى على مستوى الدّول فإنّنا اذا ما هُزمنا و-هزائمنا كثيرة والحمد لله- فإنّنا نحمّل الهزيمة الى غيرنا، فدعونا نتذكر الهزيمة الماحقة التي منينا بها في حرب حزيران 1967 والتي أورثتنا كوارث كبيرة، فمصر حمّلت الهزيمة لسوريا التي كان يتسلل عبر حدودها الى اسرائيل مقاومون يقومون بتفجيرات وغيرها، وسوريّا وبعض الدّول العربيّة حمّلت الهزيمة لمصر كونها الشقيقة الكبرى، وكون جزء من جيشها كان يحارب في اليمن لتثبيت النظام الجمهوريّ الذي أسقط النّظام الملكي، والمملكة الأردنية الهاشمية وجدت نفسها في معمان حرب لا خيار لها فيها،  والاعلام العربي والشعوب العربيّة وبعض القادة العرب حمّلوا المسؤولية للاتحاد السوفييتي، والعسكريون العرب حمّلوا المسؤولية للسّلاح السوفييتي، لكنّ أحدا لم يعترف بالهزيمة الكارثيّة، فاعتبرتها الأنظمة نكسة سيتبعها نهوض ونصر، بل إن الأحزاب التي تعتبر نفسها “طليعيّة” زاودت على الأنظمة واعتبرت نتيجة الحرب نصرا! لأنّ اسرائيل لم تستطع اسقاط النظامين التقدميّين في مصر وسوريا! وكأن بقاء نظام الحكم في مصر وسوريا في حينه أهمّ من ضياع وطن، وتدمير جيوش ووقوع آلاف الضّحايا، ورضوخ شعب تحت احتلال بغيض.

وتغيّر النظام لاحقا في مصر بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وفي سوريا بالانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضد الرئيس نور الدّين الأتاسي، لكن الأرض والشعب اللذين وقعا تحت الاحتلال لا يزالان يعانيان من ذلّ الاحتلال وبطش المحتل.

ما علينا ولنعد الى استكمال موضوعنا حول التّعليم في بلداننا، وخاصة في وطننا فلسطين، لعلنا نستطيع الوصول الى حلول لبعض المشاكل التي تواجه تقدّم مسيرتنا التعليمية، فمن المشاكل التي نواجهها هو النّقص في الغرف الصّفّيّة في مدارسنا، وعدم وجود ملاعب وساحات للمدارس وغيرها.

ومع معرفتنا جميعنا أنّنا لا تزال في مرحلة التّحرّر الوطني، وأنّ قيام السّلطة الفلسطينية في العام 1994 كنتاج لاتّفاقات أوسلو التي وُقّعت في أيلول-سبتمبر- 1993، هي مقدّمة لبناء دولتنا المستقلّة، وأنّ هذا لا يعني أنّنا تحرّرنا من الاحتلال، فالاحتلال لا يزال يسيطر على كلّ شبر من أرض دولتنا العتيدة، وأنّ السّلطة لا تزال تعاني من فقر الموارد، بل إنّها وقعت في مديونية عالية، ومن أسباب ذلك هو استمرار الاحتلال وعدم استقلالية الاقتصاد الفلسطينيّ، ومع ذلك فإنّنا نتعامل معها وكأنّها دولة حرّة مستقلة وذات سيادة، ونطالبها بتوفير كافّة الخدمات وفي مختلف المجالات للشعب، وهذا أمر مشروع لكنّ الواقع مختلف تماما، فالسلطة التي تستدين لدفع رواتب موظفيها، بالتأكيد هي عاجزة عن توفير جميع متطلّبات شعبها، وما يهمّنا هنا هو توفير الأبنية المدرسيّة النموذجيةّ وملحقاتها من ملاعب وغيرها في جميع مدننا وقرانا ومخيّماتنا. والسّؤال هنا هو: أين دور المجتمع المحلّيّ؟ وأين دور المغتربين الفلسطينيّين الأثرياء؟

قبل سنوات شاهدت في قرية مخماس احدى قرى شمال شرق القدس مدرسة نموذجيّة ذات ملاعب لائقة تقع في أحسن موقع في القرية، وأخبرنا أبناء القرية أن مغتربا من أبنائهم تبرّع بالأرض وأقام البناء المدرسي. وعلمت بأن مغتربا من قرية بيت عور قضاء رام الله قد بنى هو الآخر مدرسة اعدادية للقرية، وبالتأكيد أنّ هناك مغتربين آخرين في مناطق أخرى قد قاموا بأعمال مشابهة، لكنّ هذا لا يكفي، بل إنّ هناك سوءا في التخطيط “التبرعيّ” أيضا. فمثلا هناك من تبرعوا ببناء مساجد، مع وجود مساجد تغطّي حاجة المنطقة التي بنيت فيها المساجد الجديدة، واذا ما أخذنا الناحية الدينيّة بأنّ بناء مسجد صدقة جارية، فإنّ بناء مدرسة أو مستشفى هو صدقة جارية أيضا، فلماذا لا نقدّم الأولويات؟

وقد عشت وشاهدت في الجزء الشرقيّ من قريتي”السواحرة”قضاء القدس تجربة فريدة قام بها المجلس المحلي قبل بضع سنوات، عندما اشترطت احدى الجهات المموّلة وجود أرض لبناء مدرسة ثانوية للبنات، فاقترح أحدهم شراء أرض بعينها، وشرع بجمع تبرعات لثمن الأرض تحت شعار “اشترِ مترا وأوقفه صدقة جارية عن روح قريبك أو قريبتك المتوفى” وقد نجحت الفكرة أيّما نجاح، وتم جمع عشرات آلاف الدنانير ثمنا للأرض، حتى أن بعض المتبرعين كانوا يأتون طواعية للمجلس متبرّعين دون أن يطلب أحد منهم ذلك. وتم بناء مدرسة نموذجيّة، وتمّ بناء مقرّ للمجلس المحليّ أيضا. فلماذا لا تعمّم التجربة على المناطق الأخرى؟ فأن تشعل شمعة خير ألف مرّة من أن تلعن الظلام.

وفي الجزء الغربي من قريتي قام عدد من الشابّات والشّباب الواعد هذا العام 2013 بتأسيس جسم ثقافي أسموه “مبادرة شباب البلد-جبل المكبر” وأوّل أعماله كان تأسيس مكتبة عامة اعتمدت على التبرّع بالكتب، فجمعوا أكثر من ثمانية آلاف كتاب، والمكتبة مفتوحة لطلبة المدارس والجامعات ولغيرهم، كما أنّهم يرعون المواهب الشابة ويشجّعونها، فلماذا لا يتمّ تعميم التجربة أيضا.

لنضمّد جراحنا التعليمية

واذا ما اقتنعنا كشعب بأنّنا عاقدو العزم على تطوير مسيرتنا التعليمية ضمن المتاح لنا، فإنّنا لن نعدم المبادرات الخلّاقة التي يأتي بها بعض منّا، فالعمل التطوعي”العونة” هي واحدة من موروثنا الشعبي الأصيل، ومما لا شكّ فيه بأنّها تتطور حسب تطور المرحلة المعاشة، فقد عاشها ومارسها أجدادنا في حراثة الأرض، ومواسم الحصاد وقطف الثمار، ومارسوها في بناء البيوت، وتمارسها الأجيال المعاصرة في قطف ثمار الزيتون مثلا، وفي تنظيف الشوارع والمقابر وغيرها، وفي الأزمان الغابرة وجدنا من مارسوا تعليم الصبيان في الكتاتيب داخل المساجد وفي بيوتهم، وزمن الانتداب  وما بعده وجدنا من يتبرع بأرض لبناء مدرسة، أو من يتبرع ببيته ليكون مدرسة حتى يتم بناء مدرسة وهكذا، وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى ظهرت المدارس الشعبية لتكون بديلا للمدارس التي كان المحتلون يغلقونها، وشعوبنا معطاءة لكنها تحتاج الى القيادات الخلّاقة التي تعلق الجرس، ولدينا من الحرفيين والمختصين – في مختلف المجالات- أعداد كبيرة، فعلى سبيل المثال في قريتي –السواحرة قضاء القدس- قام المرحوم الشيخ حسين السرخي ومن بعده ابنه الشيخ عطا في أواخر العهد العثماني وبدايات الانتداب البريطاني، بفتح بيتهم في منطقة “الحرذان” كُتّابا لتعليم الصبيان أصول القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن الكريم، ومثلهم فعل المرحوم الشيخ أحمد علي منصور في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين بفتح كُتّاب في مسجد زاوية العلويين التي بناها مجموعة من أبناء البلدة بطريقة التبرع و”العونة” ، وقام المرحوم داود علي احمد عبده –وهو من أوائل من أنهوا تعليمهم الجامعي من أبناء القرية- في خمسينات القرن الماضي بفتح شارع على حسابه الخاص من مدخل الشيخ سعد الى قمّة الجبل، ليخدم بيوت الحيّ التي كانت قائمة في حينه، وساعده في ذلك من تطوّعوا بجهدهم وتطوعهم للعمل المجاني”العونة”، كما استقطب وزارة الزراعة في حينه لزراعة الأشجار المثمرة بطريقة هندسيّة علمية، واستفاد من ذلك من استجابوا له، فزرعوا عشرات الدونمات باللوزيات والزيتون.

وبالتأكيد فإن هناك أعمالا مشابهة في قرى وتجمعات سكانية أخرى.

وإذا ما صدقت النّوايا فإن القرى والتجمعات السكانية التي تعاني من نقص في الغرف الصّفيّة في مدارسها، ومن عدم وجود ملاعب وساحات وغيرها قادرة على التبرع والمشاركة في العمل لتوفير الأرض المناسبة، ولبناء المدارس النّموذجية التي يحتاجونها، فهل سنتحرّر من البكاء على الأطلال، ونتحرّر من سطوة الانتظار لمن سيدعمنا من دول شقيقة ودول لها أطماعها السياسية والاقتصادية في بلادنا، وعلينا أن نتحرر من سطوة المتدخلين بشؤوننا الداخلية، والذين يخطّطون لتحويل شعبنا الى مجموعة من المتسولين الذين ينتظرون الدعم في نهاية كلّ شهر، وبالتالي فإنهم يهدفون الى عرقلة حقّنا في التحرر والاستقلال وبناء دولتنا المستقلة بعاصمتها الأبديّة القدس الشريف. واذا ما توفّرت المدارس النموذجية، وهذا ليس خيالا، بل هي حقيقة قابلة للتنفيذ، فإنّ هذا يتطلب العمل على تنفيذ تعليم نموذجي أيضا، وإذا كنّا كشعب غير غير قادرين مرحليا على إيجاد مناهج دراسيّة تواكب العصر، فإن تحقيق هذا الهدف أيضا ليس أمرا مستحيلا، فممارسة العملية الديموقراطية، وإذا ما وصلنا الى درجة من الوعي متحرّرة من سطوة العائلة والقبيلة، فإننا سنكون قادرين على اختيار ممثلين أكفياء للشعب قادرين على تحمّل المسؤولية، وقادرين على عمل إجراءات التغيير اللازمة.

وفي انتظار ذلك فإننا قادرون أيضا وبشكل فوري على المساهمة في تطوير العملية التعليمية والنهوض بها، فعلى سبيل المثال فإنّ كلّ تجمع سكاني قادر على العمل الجماعي لشراء ما بين 30 الى 40 جهاز حاسوب-كمبيوتر- وتزويد مدرستهم بها، وهذا سيجبر وزارة التربية والتعليم على تعيين مدرّس لذلك، فالحاسوب أصبح من متطلبات العصر التي لا يمكن الاستغناء عنها في مختلف المجالات، وأتذكر هنا ما قاله شاعرنا العظيم الراحل محمود درويش عام 1991 في مقابلة مع مجلة”أخبار الأدب” الناطقة باسم اتحاد الكتاب المصريين، فقد قال: أخشى أن ندخل القرن الحادي والعشرين ونحن أمّيين وأنا أوّلكم، فأنا لا أستطيع كتابة قصيدتي إلّا بقلم حبر سائل، فالأمّيّة لم تعد الأمّيّة الأبجدية وإنّما أمّيّة استعمال الحاسوب. ومن محاسن الصّدف أن ذلك العدد من المجلة حمل خبرا قصيرا مفاده”أنّ اليابان احتفلت بالانتهاء من أمّيّة الحاسوب وذلك بأن آخر شخص ياباني تعلم استعمال الحاسوب هو امرأة في الحادية والتسعين من عمرها. ويجدر التذكير هنا بأن استعمال الحاسوب وشبكة الاتصالات العنكبوتية-الانترنت- يضع العالم جميعه بين يدي الانسان وفي بيته، كما أنها تمكن الطلبة والدارسين والباحثين بالحصول على المعلومات التي يريدونها.

ولا يفوتنا هنا أهمية بساتين ورياض الأطفال في إعداد الأطفال وتهيئتهم لدخول المدارس، وكل تجمع سكانيّ عندنا قادر على التبرع ببناء روضة أطفال وتجهيزها بما تتطلبّه من وسائل مساعدة كالمراجيح والمنفّخات التي يحتاجها هذا الجيل، فالأطفال بحاجة الى أن يعيشوا طفولتهم ببراءة، وبحاجة الى توجيه ورعاية إضافة الى رعاية البيت، وبدلا من تركهم يمارسون شقاوة الطفولة البريئة في الحارات، علينا أن ننظمهم وأن ندربهم في صفوف البستان ورياض الأطفال، فأطفال اليوم هم شباب ونساء ورجال المستقبل الذين سيبنون الوطن.

وسائل الايضاح في التعليم

يعتقد بعض من لا علاقة لهم بالعملية التعليمية أن وسائل الايضاح أمر زائد عن الحاجة، وهذه مغالطة كبيرة، ودعونا نأخذ الخريطة الجغرافية كمثال على أهمية وسائل الايضاح، كونها موجودة في المدارس جميعها، فلو افترضنا عدم وجودها، وشرحنا للطلاب عن موقع الدول العربية في الكرة الأرضية، وكيف أن الأقاليم العربية متجاورة وتمتد من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي، وذكرنا للطلاب حدود كل دولة عربية، فكيف سيستوعب الطالب هذا إن لم تكن أمامه خريطة للعالم؟ وكيف سيستوعب ضخامة البحار والمحيطات، وكيف سيستوعب تقسيمات الكرة الأرضية الى دول؟ وكيف سيستوعب وجود مياه اقليمية في البحار ومياه دولية أيضا؟ وكيف سيستوعب منبع الأنهار وامتدادها والدول التي تعبرها؟ وأين تصبّ هذه الأنهار؟ وكيف سيستوعب كيفية التنقل بين الدول برّا وبحرا وجوّا؟

وكذلك بالنسبة لمجسّمات الحيوانات مثلا، خصوصا تلك التي لا تعيش في الدولة التي يعيش الطلبة فيها، فان لم تكن هناك أفلام عن حياة الحيوانات وأدوات لعرضها فان امكانية تخيلات الطلبة لشكل الحيوان، وخصائصه ستكون مشوّشة، وقد أجرى أحد العلماء تجربة على أطفال مكفوفين، فجعلهم يتلمسون بعض الحيوانات الأليفة التي يعرفونها كالأغنام والحمير والخيول، ثم وصف لهم بعض الحيوانات كالفيل والأسد والنمر والفهد، دون أن يذكر شيئا عن أحجامها، فتخيّل الأطفال المكفوفون أن حجم الأسد -كونه الأقوى بين الحيوانات- يعادل حجم بناية من عشرة طوابق، وتخيّلوا حجم الفيل أضعاف ذلك. وقد شاهدت درسا في احدى المدارس النموذجية للصف السابع عن الثروة الحيوانية في افريقيا، فعرض المعلم فيلما عن هذه الحيوانات، وأين تتواجد؟ وكيف تعيش؟ وكيف تتصارع فيما بينها على البقاء؟ وكيف تنتقل من مكان الى آخر، بل وكيف تعبر الحدود بين الدول في فصول معينة طلبا للماء والكلأ، وكيف أن الحيوانات المفترسة ترافق الحيوانات آكلة الأعشاب في هجراتها، لأنها هي الأخرى تريد أن تواصل حياتها بافتراس الحيوانات آكلة الأعشاب، وبعد عرض الفيلم شرع المعلم يطرح أسئلة على الطلاب عمّا شاهدوه في الفيلم، فكان استيعابهم للموضوع لافتا للانتباه، على عكس الطلاب الذين اعتمدوا على الكتاب المقرّر وشرح المعلّم فقط.  وكذا كان الأمر بالنسبة للأنهار وتتبع مساراتها من المنبع الى المصب.

وفي المواد العلمية سأعطي مثالا متواضعا يعرفه الجميع عن وسائل التعليم المساعدة، فلولا وجود “الفرجار” والمسطرة والمنقلة كيف يمكن لطالب أن يرسم دائرة مثلا؟ وكيف يمكنه أن يعرف حجم الزوايا بدون منقلة؟ وكيف يمكنه أن يرسم مربعا أو مستطيلا أو مثلثا بدون مسطرة؟ وهكذا.

وكذلك الأمر بالنسبة للمختبرات التعليمية التي تشكل أكثر أهمية بالنسبة للطلبة.

ملاعب المدارس وأهميتها

تكلمنا سابقا عن ضرورة وجود ملاعب وساحات واسعة في المدارس، ووجود الملاعب ضرورة قصوى كي تكتمل العملية التعليمية، وليس من أجل الاصطفاف الصباحي كما يعتقد البعض، أو من أجل النشيد الصباحي، أو قراءة الفاتحة لاعداد الطلاب للبدء بالحصة الأولى،  كما يحدث في الكثير من مدارسنا، وقد شاهدت في أمريكا وبعض الدول الأوروبية ملاعب وساحات واسعة جدا لكلّ مدرسة، وليس لمدرسة معينة، كما توجد مواقف سيارات واسعة جدا هي الأخرى يستعملها معلمات ومعلمو المدرسة ومن يأتي من أولياء أمور أو ضيوف بغض النظر عن سبب زيارتهم، وفي جنبات أبنية المدارس مساحات مزروعة بالورود، ومع ذلك فإنّ الطلّاب لا يصطفّون صباحا ولا ينشدون أيّ شيء، بل يدخلون الى صفوفهم فور سماعهم صوت جرس المدرسة، والملاعب عندهم مخطّطة لبعض الألعاب مثل كرة السلّة وكرة اليد وغيرها، وهناك مساحات أخرى ليمارس الطلّاب فيها ألعابهم الخاصّة كيفما يشاؤون.

ومع المعرفة المسبقة بالفوارق بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم، وامكانياتنا المادّيّة وامكانياتهم، إلّا أنّ هذا لا يمنع أن تكون لنا طموحاتنا التي يجب أن نسعى لتحقيقها حسب الامكانيات المتاحة لنا، فأطفالنا يستحقون الكثير، ومتطلباتهم لا تقلّ عن متطلبات أقرانهم من الشعوب الأخرى المتقدمة.

وملاعب المدارس يجب أن تكون مساحتها كافية لحركة الطلّاب، وليتعلموا فيها أصول بعض الألعاب المعروفة ككرة السلّة وكرة القدم وكرة اليد وغيرها، ولتفريغ الطاقات الجسديّة لديهم، فمن المعروف أنّ في الأطفال والفتيات والفتيان طاقات جسدية لا يمكن تفريغها إلّا باللعب، ومع عدم وجود ملاعب وساحات في المدارس وفي غيرها، فإنّ طاقات الطلّاب تبقى حبيسة، وهذا يؤثّر على قدراتهم الاستيعابية، ومن اللافت أن بعض أسباب المشاجرات بين بناتنا وأبنائنا الطلّاب هو عدم وجود ملاعب وساحات كافية، إن وجدت أصلا، وذلك كأن يصطدم طالب يركض بلا سبب بزميله.

وتتعدى سلبيات عدم وجود الملاعب المدارس بكثير، ولكي ندرك بعض تلك السلبيّات علينا أن ننتبه الى الأسباب التي تمنع عدم فوز شابّاتنا وشبابنا على المستوى الفردي، وعلى مستوى الفرق الرياضية، وحتى المنتخبات الوطنية الرياضية في المهرجانات والمسابقات الرياضية الدولية كالألمبياد وغيره، بل إنّهم لا يصلون الى مراحل متقدمة في تلك المباريات، وهذه ليست مسؤوليّتهم، بل لعدم توفر امكانيات المنافسة لهم، وأوّلها عدم وجود ملاعب وأندية متخصّصة، وعدم وجود مدرّبين محترفين أيضا، ولعلّه من المفجع حتى عدم فوز الخيول العربيّة في السباقات الدولية، والتي تفوز منها يكون فارسها في الغالب غير عربي.

ومع ترديدنا كثيرا مقولة”العقل السليم في الجسم السليم” إلّا أن ثقافة مجتمعاتنا العربية في الرياضة وأهميتها تكاد تكون معدومة، بل إنّ هناك من يحاربها، فأثناء انعقاد دورة الأولمبياد في جنوب افريقيا قبل بضع سنوات، خرج خطيب صلاة الجمعة في إحدى مساجد قريتي، واعتبر الأولمبياد وفنون الرياضة جميعها مؤامرة استعمارية لإفساد بنات وأبناء المسلمين!  ولمّا ذكّرته بعد ذلك بالحديث النبوي الشريف”علّموا أبناءكم الرّماية والسّباحة وركوب الخيل” وهي الرياضة التي كانت معروفة وقتئذ، ردّ عليّ”سماحته” بأن هذا من الأحاديث الموضوعة! وعندما سألته عن كيفية الاستجابة لمتطلبات الأطفال والفتيان والشّباب الجسديّة لمنعهم من الانحراف؟ أجابني: عليهم التوجه الى المساجد ليتعلموا أمور دينهم، فذلك يحصّنهم ويفيدهم ويحميهم من أيّ انحراف! فاستفزتني إجابته، وكتبت موضوعا هادئا حول خطبته والحوار الذي دار بيني وبينه، نشرته إحدى الصحف المحلية وعشرات المواقع الألكترونية، وبعدها فوجئت بمقالتي منشورة في إحدى المواقع الألكترونية الناطقة باسم أحد الأحزاب الدينية تحت باب”تقيؤات على شكل مقالات”! وذلك للتحذير منها وكأنّني كفرت من خلال تلك المقالة.

حصّة التربية

معروف أن لكل صفّ دراسيّ حصّة تربية تُعطى لواحد من معلمي الصّف، والنتائج المنظورة للجميع هو أنّ مربّي الصّف يعدّ شهادات ذلك الصّف، ويعفي نفسه من أيّ دور آخر، وبعض المعلمين يرى في حصّة التربية عبئا لا يقوى على حمله، لأنه لا يعرف كيف يشغلها، وأكثريّة المعلمين يحوّلونها الى المادّة التي يدرّسونها للصّف، وكأنّهم في سباق مع الأيّام لإنهاء المنهاج المقرّر سواء فهم الطلاب أم لم يفهموا، لكنّ حصّة التربية لم توضع من أجل هذا…وعلينا أن ننتبه لاسمها، وهو”حصّة تربية” وليس”حصّة تعليم” ولنتذكر بأن اسم الوزارة المشرفة على التعليم هو”وزارة التربية والتعليم” أيّ أن التربية تسبق التعليم. وللمدرسة دور كبير في بلورة وترسيخ المفاهيم التربويّة إن أحسنّا التربية.

فحصّة التربية هي مجال مفتوح للمعلم للاطلاع على المشاكل التي يعاني منها الطلاب بشكل فردي أو جماعيّ، وقد تكون هناك مشكلة لطالب مع أحد المعلمين، وأنّ الطالب يشعر بظلم يلحق به من معلم، فعلى المربّي أن يستمع للطالب بانتباه وهدوء، فإن كان مظلوما فعلى المربّي أن ينصقه وأن يعمل لرفع الظلم عنه، وإن كان الطالب مخطئا في فهمه فعلى المربّي أن يصحّحه بهدوء، ومن خلال حصّة التربية يمكن للمعلم أن يكتشف مواهب طلابه، وعليه أن يسألهم مباشرة عن مواهبهم، وأن يوجّههم الوجهة الصحيحة لتنمية هذه المواهب، وأذكر أنه في إحدى حصص التربية أثناء ممارستي مهنة التدريس في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس، أن سألت الطلاب عن مواهبهم، فأجابني أحدهم بأنه يهوى الغناء، فأوقفته أمام الطلبة وطلبت منه أن يسمعنا شيئا من غنائه، فأسمعنا أغنية شعبية بدايتها موّال، وكان صوته عذبا، وفي الأغنية صفّق الطلاب وردّدوا لازمة الأغنية معه، فهرع مدير المدرسة في حينه الأستاذ والمربي راتب الرّابي، وتمشّى قرب نوافذ الصّف يستطلع الأمر، وبعد انتهاء الحصّة وكانت الأخيرة، سألني عن سبب الغناء في الصّف، فشرحت له الموضوع فاستحسنه وأعجب به، مؤكدا أنه لم يمرّ بهذه التجربة في سنوات عمره التي قضاها في التعليم، والتي كانت تزيد على سنوات عمري في حينه. والمهم في هذا الحدث أنّني وجهت الطالب المذكور بأن يذهب الى مركز القدس للموسيقى ليتعلم الغناء على أصوله، وليتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية.

كما اكتشفت مواهب الطلبة الابداعية ومنها موهبة طالب في الرسم والتخطيط، ووجهته الى مركز الواسطي لتنمية موهبته، وقد أكمل دراسته في كلية الفنون في إحدى الجامعات الايطالية وحصل على شهادة الأستاذية”الدكتوراة” في الفنون، وهو الآن يدرّس الفنون في إحدى جامعاتنا المحلية. كما اكتشفت طلابا يكتبون القصّة القصيرة.

كما أنّ المدرّسات والمدرّسين مطالبون بتوضيح مرحلة البلوغ للطالبات وللطلاب وما يصاحبها من تغيّرات بيولوجيّة وفسيولوجيّة على جسم البالغ، وما يتبعها من مرحلة المراهقة، وكيفية التعامل مع هذه المرحلة العمرية.

ولكي نكون منصفين فإن المعلم قد يكون مربّيا لصف لا مواهب ابداعية فيه، ولا مشاكل تتعلق بالدراسة عند أيّ من طلابه، فكيف سيشغل المدرّس حصّة التربية؟ والجواب هو أن لا يشغلها بتدريس أيّ من مواد المنهاج، فهناك مشاكل أخرى عامّة تشغل بال الطلاب وتأخذ وقتا من تفكيرهم، وهي كثيرة جدا ومتجدّدة باستمرار مثل اقتحامات المتطرفين اليهود للمسجد الأقصى، والأزمة السورية وتهديد أمريكا بتدمير سوريا، وثورة الشعب المصري، ومحاولات تأجيج الصّراع الطائفي في المنطقة وغيرها.

ولا يفوتنا هنا أن من فوائد حصّة التربية-اذا ما أحسن المعلم استغلالها- أنّها تكسر الحاجز الروتيني بين المعلم المربّي وتلاميذه، ويكسب ثقتهم من خلالها، وبالتالي فانهم يكونون صادقين معه في كل الأحوال، وهذا ينعكس إيجابا على تحصيلهم العلمي.

ويبقى السّؤال وهو: هل يجري اعداد المعلمين لكيفية اشغال حصّة التربية، أمْ أن فاقد الشيء لا يعطيه؟

التعليم المختلط

لا حاجة لنا للتذكير بالاختلافات بين الشعوب والأمم من حيث المنابع الثقافية والدّين والعادات والتقاليد والتراث وغيرها، فهذه من بدهيّات الأمور،  لكن يجدر بنا التنويه الى أنّ الإبداع والعلوم والفنون تبقى ملكية عامّة للانسانية جمعاء، وإذا كان من حق الشعوب والأمم بأن تفاخر بأصولها العرقية وانتماءاتها الدينية والثقافية، إلّا أنه ليس من حقها أن تتعالى على غيرها من الشعوب في أيّ شيء، وعليها أن تحترم ديانات وثقافات غيرها، وهذا لن يتمّ إلّا بالإنفتاح على غيرها من الشعوب والأمم خصوصا بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بسبب تقدّم وسائل الاتصالات والمواصلات، فهل نحن العربان منفتحون على غيرنا من الشعوب؟ والجواب بالنفي قد يغضب بعض المنغلقين منّا خصوصا أولئك الذين يعتبرون أنفسهم المالكين الوحيدين للحقيقة، وعدم انفتاحنا له أسبابه التي تتحمل الحكومات وزرها وليس الأفراد، وسأعطي مثالا على انغلاقنا ما نشرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة”اليونسكو” قبل بضع سنوات، وممّا جاء فيه أن الترجمات في اسبانيا-60 مليون نسمة- من اللغات الأخرى الى اللغة الاسبانية في العام الواحد، يعادل ما تُرجم الى اللغة العربية من عهد الخليفة المأمون حتى أيامنا هذه، علما أن اسبانيا من أفقر الدول الأوروبية. ولن نخوض كثيرا في هذا المجال هنا. حيث أن موضوعنا عن التعليم المختلط، ففي الكثير من الدول-خصوصا أوروبا وأمريكا- التعليم مختلط في مختلف مراحله،  وعندنا التعليم مختلط حتى الصّف الابتدائي الرابع، وفي هذه الصفوف تأنيث للتعليم حيث أن المدرسين في غالبيتهم إناث، بعد أن أثبتت الدراسات والأبحاث بأن جدوى تعليم الأطفال في سنّ مبكرة من قبل معلمات أكثر جدوى منها من قبل معلمين، لأن طبيعة الإناث فيها عاطفة أكثر من الذكور، وأنّ الأطفال بحاجة الى حنان الأمومة الذي يتوفر في الإناث حتى لو كنّ عازبات، ولا يتوفر بنفس النسبة في الذكور حتى لو كانوا آباء.

ودار جدل كبير حول قبول التعليم المختلط حتى في هذه المرحلة العمرية المبكرة، لكنّه مرفوض تماما عندنا بعد هذا العمر، وهناك جدل ديني حول الاختلاط بين الجنسين فيما بعد ذلك، ويتمحور الجدل حول كون المدارس أماكن خاصّة أم أماكن عامّة؟ فاذا كانت عامّة فإنّ التعليم المختلط مسموح، وإن كانت خاًصّة فانه ممنوع، وحتى أيامنا هذه فإن كفّة من يعتبرون المدارس أماكن خاصّة هي الرّاجحة، في حين أن التعليم مختلط في الدّول غير الاسلامية ومنها الدّول المتقدّمة في مختلف المجالات، وقد شاهدت مدارس ثانوية مختلطة في أمريكا، وفيها الطالبات والطلاب يرتدون ما شاؤوا من الملابس، فهناك طلاب ذكور بسراويل “بنطلونات” قصيرة، وشعور طويلة، وهناك طالبات صبايا يرتدين آخر الموديلات من ملابس قصيرة، وصدورهن نافرة ومحاسنهن بارزة، وهناك طالبات مسلمات محجّبات أيضا، ولا أحد يحتجّ على ملابس أحد، لأنّها قضية شخصيّة، ومع ذلك فلا مشاكل بين الذّكور والإناث، والخروقات”الأخلاقية” عندهم –حسب أخلاقياتنا وليس أخلاقياتهم- قد تكون في نسبتها أقلّ من الخروقات في بلداننا، لكنّها تتم عندهم علانية وفي وضح النّهار، بينما تتم عندنا بطريقة سرّية، بل يجري التستر والتكتم عليها في كثير من الحالات، وعندهم ثقافة أن الإنسان يبقى طفلا حتى سنّ الحادية والعشرين، وأن السّن المناسب للزواج هو أربعة وعشرون عاما للإناث وأكثر من ذلك للذكور، ومن يتزوج قبل ذلك فإنّ نظرة المجتمع له كنظرتنا لطفل لم يبلغ الخامسة من عمره ويقول ببراءة الطفولة بأنّه سيتزوج، وهو لا يفقه معنى الزّواج. واختلاط الجنسين في مختلف المراحل العمرية يجعل نظرة كلّ جنس للجنس الآخر عاديّة، لذلك لا تجد طلّابا أو غير طلّاب يتسكعون في الشوارع بحثا عن “صيد” من الجنس الآخر-كما يحصل في بلداننا-، ولا تجد مشاجرات بين الطلبة أو بينهم وبين غيرهم في صراع بعضهم على فتاة. ولا تجد شبابا يتسكعون بالقرب من المدارس للتحرّش بالطالبات، ولا يعرفون الغمز واللمز وهزّ الأكتاف ونفخ العضلات، وعندهم تثقيف”جنسي” علمي ويتدرج حسب عمر الطلاب، بينما الجنس عندنا من المحرّمات”تابو”.

وعدم الاختلاط له مشاكله التي أثبتت الدّراسات أنّها أكثر من الاختلاط، وقد شاهدنا في بلداننا نحن العربان أمورا محزنة بهذا الخصوص، بل ومضحكة –من باب شرّ البليّة ما يضحك-، فمثلا في إحدى دولنا العربية لا يسمح للأنثى بقيادة السّيّارة، في حين يسمح لها بالسفر مع سائق أجنبيّ لإيصالها الى جامعتها، أو مكان عملها أو الى السوق وغيره. كما وجدنا من يفتي بإرضاع المرأة العاملة لزميلها كي تصبح أمّه في الرضاعة، وبالتالي يجوز له الاختلاط بها! كما وجدنا من يفتي بزواج القاصر حفاظا على العفّة! وكأنّ مجتمعاتنا مصابة بالهوس الجنسي.

ومن العجائب هو الفهم الخاطئ لمفهوم الشرف، وحصره في بضعة سنتيمترات بين فخذي الأنثى! فهل السّرّاق واللصوص والنّصّابون والمحتالون والكذّابون والخونة أشراف؟ وهل الشّرف حكر على الأنثى وحدها؟ وهل الذّكور أشراف مهما فعلوا؟ وهل هناك تحديد واضح لمفهوم الشرف؟

ومن عجائب الانغلاق الثقافي عندنا أننا نجد بين ظهرانينا من يخطب ويكتب ويحاضر وينظر بأن الدّول الغربيّة منحلة أخلاقيا وينخرها الفساد! ولا يكلّف نفسه بسؤال نفسه: كيف وصلت الى هذه القوّة في مختلف المجالات إذا كانت كذلك؟ ولماذا نحن بهذا الضعف وهذه الهزائم ما دمنا نحن أصحاب الأخلاق الحميدة والشرف الرّفيع، وما دمنا أصحاب العلم والمعرفة؟ وهل الخروقات الأخلاقيّة لم تكن موجودة في زمن دولة الخلافة الاسلاميّة أم لا، أم أنّ لكلّ قاعدة شواذ عند الشعوب والأمم جميعها؟ ولو عدنا الى ثقافتنا الاسلامية وتساءلنا عن الحقوق والدّور التي أعطاها الاسلام للمرأة؟ فهل نعطيها ما أعطاها الله، أمْ أن العادات والتقاليد البالية هي التي تحكمنا؟ وما هي منابع العلم والدّين التي ينهل من ينابيعها من يدعون الأجنبيّ لتدمير واحتلال بلدانهم، ويزعمون أنّ الله يسخّر قوات “الناتو” لخدمة الاسلام والمسلمين؟

التعليم المسائي

مشاكل التعليم في بلادنا متعدّدة متداخلة ومتشابكة لتوصلنا الى درجة المأساة، ومن هذه المشاكل التعليم المسائي المنتشر في قطاع غزّة الذّبيح، هذا القطاع البالغة مساحته 380 كم مربع يعيش فيه مليون وثمانماية وثلاثون ألف شخص، وهو محاصر برّا وبحرا وجوّا منذ حزيران 2006، ونظرا لاكتظاظ عدد السكان، وعدم وجود مدارس لاستيعاب الأعداد المتزايدة للطالبات والطلاب، فإنّ التعليم في العديد من مدارس القطاع يتمّ على “ورديتين” واحدة صباحية والثانية بعد الظهر وتمتد الى ساعات المساء، وأكثر ما أخشاه أن يصبح ثلاث دوريات، فمعروف أنّ أعداد السكان في الأراضي الفلسطينية تتضاعف كلّ أربعة عشر عاما، لكن لا يصاحب هذه الزيادة نموّ اقتصاديّ، ولا تطوّر في الخدمات الأساسية مثل التعليم والصّحة وغيرها.

ففي الدّول المتقدّمة يبنون المدارس والمستشفيات وغيرها من المؤسسات الضرورية لتستوعب المستفيدين منها لخمسين سنة قادمة، وهذا ما لا يحصل في بلاد العربان لغياب التخطيط العلميّ المدروس، أمّا نحن في فلسطين فإنّ الاحتلال قد أوقعنا في مشاكل ومصائب تنوء بحملها الجبال، وليس تدمير اقتصادنا الوطني ومنع أيّة بوادر ومحاولات لتحسينه بأقلّ هذه المشاكل، واذا ما قمنا بحلّ مشكلة النّقص في الغرف الصّفّيّة في مكان ما عندنا، فإنّ حلولنا تكون ترقيعيّة وآنيّة، لا نلبث أن نقع في أصعب منها في العام القادم، مثل استئجار غرف لسدّ النقص الحالي، أو بناء الغرف الناقصة في أحسن الأحوال، لكنّ هذا النّقص يتضاعف في العام القادم لازدياد عدد الطلاب نتيجة للتكاثر الطبيعي للسكان. وقد تقود الحاجة في السنوات القليلة القادمة الى التدريس على دوريتين في مدارس الضّفة الغربية المحتلة كما هو جار أيضا في قطاع غزّة، إن لم نستبق الأمر ببناء مدارس جديدة وبشكل سريع. والأوليّة طبعا يجب أن تكون لحلّ هذه القضيّة في قطاع غزة، لأنّ المشكلة موجودة فيه منذ الآن. ونقص الغرف الصفيّة في القدس العربية المحتلة يصل الآن الى 1800 صف دراسي، وهناك العديد من البنايات السكنيّة المستأجرة من قبل المدارس الرسميّة والأهليّة الخاصّة، وهي أبنية غير مؤهلة لتكون صفوفا دراسيّة، لأنّها لم تُبن أصلا لهذا الهدف، وإنّما بنيت لتكون بيوتا للسكن، ومعروف أنّ بلدية الاحتلال تضع قيودا تعجيزية على البناء العربي في المدينة المقدسة، إن لم تمنعه أصلا، وما يهمنا هو التعليم من خلال “ورديتين” واحدة صباحية والأخرى مسائية، فهل التعليم المسائي يؤتي ثماره المتوخّاة؟ وهل توجد الاستعدادات النفسيّة والجسديّة للطلاب ليبدأوا حصّتهم الأولى بعد الساعة الواحدة ظهرا؟ وهل تتوفر لهم أماكن لائقة ومؤهلة كي يقضوا نصف يومهم الأوّل فيها؟ وما هي استعدادات المعلمات والمعلمين النفسيّة والجسديّة أيضا لبدء عملهم بعد الظهيرة؟ وهل المدارس التي يتم التعليم الصباحيّ فيها تكون مؤهلة من ناحية النظافة والترتيب لاستقبال طلاب جدد بعد انصراف طلابها منها بدقائق؟ والاجابة على هذه الأسئلة هي النفي المؤكد. وهذا يعني فشل العملية التعليمية، ويعني أيضا أن الطلاب ومعلميهم ضحايا لأمور لا خيار لهم فيها، ولاعلاقة لهم بأسبابها. ومن هنا تنبع الضرورة الملحة والعاجلة لحلّ هذه المشاكل، وهي بالتأكيد بناء مدارس جديدة. واذا كنّا نردّد مقولة “للضّرورة أحكام” فعلينا أن ندرك أن ليس كلّ الأحكام عادلة.

الحوافز التعليميّة في مدارسنا

من المحزن أن العملية التعليمية عندنا ترتكز على التلقين وحشو المعلومات في رأس الطالب، ولا تلبث أن تتبخر من رأسه بعد تقديمه للامتحان، ولو جرى اشغاله بالبحث عنها واقناعه بها لبقيت مترسخة في عقله ووجدانه مدى حياته، ويبدو أن مقولة أحد الفلاسفة”أنا أفكر إذن أنا موجود” غير موجودة في بلاد العربان، بل بالعكس فان من يفكر قد يُضطهد على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة، وهذا ما جرى لفلاسفة “العصر الذهبي الاسلامي” حيث اتهم الكثيرون منهم بالزندقة واضطهدوا لأن من عاصروهم لم يفهموهم، ولهذا فإنّه لم يظهر مفكرون عرب منذ ابن خلدون”1352م-1382-وهو بالمناسبة أمازيجي- وليس عربيا، ينتجون ثقافة عالمية سوى الراحل ادوارد سعيد  ” نوفمبر 1935 القدس – 25 سبتمبر 2003″وللتذكير فإنّه ولد في القدس وتلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية وعاش ومات فيها. ومفيد هنا أن نتساءل عن الأصول العرقية لبعض فلاسفة وعلماء وفقهاء”العصور الذهبية” في التاريخ العربي والاسلامي أمثال سيبويه ونفطويه والفارابي والنيسابوري وغيرهم كثيرون، فلماذا لم يكونوا عربا؟ ولماذا واضع أصول النحو العربي ليس عربيا؟ وهذه التساؤلات ليست من باب التعصب القومي، أو التقليل من شأن القوميّات الأخرى، وإنّما للبحث عن الأسباب التي تلجم العقل العربي وتمنعه من الابداع!

وما دام موضوعنا عن التعليم المدرسي فلماذا لا نبحث ونعمل على تطوير التعليم في بلداننا؟ ولماذا لا نستفيد من تجارب وخبرات الشعوب الأخرى المتقدمة في مجال التعليم، ما دمنا مستهلكين لسلعهم ومنتوجاتهم الصناعية وحتى الزراعية التي هي نتاج التطوّر العلميّ عندهم؟ أم أنّنا سنحافظ على ما نحن فيه من واقع لا يسرّ الصديق ولا يغيظ الأعداء؟

فعملية التعليم عندنا تقوم على قهر الطالب ومحاصرة قواه العقليّة وحصرها وقولبتها في معلومة المنهاج الدراسيّ دون تفكير بالجدوى. فلا نخطط لحاضرنا ولا لمستقبلنا ونتغنى بـ “بأمجاد الماضي”دون تمحيصها. وننسى بل ربما لم تسمع الغالبية العظمى منّا بمقولة أحد المفكرين”بأن الله خلق عيني الانسان في مقدمة رأسه كي يرى ما أمامه وليس خلفه”.

ومع ذلك هل نعزز ونشجع الطالب في فهم واستيعاب ما نريده منه في التعليم، أم أنّ أساليبنا التعليميّة تقوم على التهديد والوعيد؟ ففي الواقع أن الأساليب التعليميّة عندنا قائمة على التهديد والوعيد، وفي أيامنا هذه ومع وجود قوانين تمنع التعنيف الجسدي واللفظي للطلاب، إلّا أنه من السهل أن ترى الكثيرين من معلماتنا ومعلمينا يدخلون الصفوف الدراسية وفي أيديهم عصيّ مختلفة الأشكال والأنواع، ويبدو أن أسلوب التهديد والوعيد ثقافة سائدة عندنا، فعلى سبيل المثال فان من يستمع لخطب صلوات الجمعة والأعياد في مساجدنا، سيجد لهجة التهديد والوعيد هي السائدة، وكأن الخطيب في حرب مع المصلين، وغالبية الخطب”الدعويّة” تقوم على التهديد بعذاب يوم القيامة في نار أقلّها “سقر” وهو”جمرة اذا وضعت تحت الكعب غلى منها الدماغ”! وقليل جدا ما نسمع الخطب عن الثواب للمؤمنين، حتى أنّ بعض الظرفاء كتب ذات يوم معقبا على ذلك” من يستمع الى خطب المساجد عندنا يعتقد بأن الله لم يخلق عذاب الآخرة إلّا لتعذيب المسلمين”! وأسلوب التهديد والوعيد سائد عندنا في البيت أيضا، بين الأزواج بعضهم البعض، وبينهم وبين الأبناء، ثمّ في المدرسة والمسجد، وحتى في الجهاز الوظيفي، وحتى في علاقة الحكومات مع المواطنين.

ويكاد الثواب والمكافأة تكون معدومة عندنا، وإن وجدت فهي بشكل بسيط وهزيل، وقد يدعو الى السخرية. وللتدليل على سياسة تعنيف الطلبة عندنا والتي لم تتبدل مع تطور الحياة أذكر أنّني كتبت وأنا في الصف الابتدائي الرابع”1958-1959″موضوعا في التعبير في البيت بناء على طلب المعلم، وعندما قرأه المعلم سألني: من كتب لك الموضوع أمّك أم أبوك؟ فأجبته ببراءة طفل: والله أنا من كتبه, ولم أجبه وقتها؛لسبب لا أعرفه الآن بأن والديّ أمّيّان، فانهال عليّ ضربا بعصا في يده وهو يردد” غشّاش وتكذب أيضا” فالتفت الى صراخي من الألم معلم الدّين فأمسك بزميله المعلم وهو يسأله: لماذا تضرب هذا الطالب فهو مجتهد، فأخبره بالقصّة، فقال معلم الدين: إنّه مجتهد ويكتب الاجابة بعبارات قويّة في أوراق الامتحانات، وبإمكانك أن تختبره بكتابة موضوع أمامك، فاصطحبني المعلم غاضبا الى غرفة المعلمين وأعطاني ورقة وقلما، وطلب مني تحت التهديد بأن أكتب موضوعا أختاره أنا، وكان اليوم ماطرا فنظرت الى نافذة الغرفة وحبّات المطر ترتطم بزجاجها فوصفت له المطر ووضعت عنوانا للموضوع”يوم ماطر” كتبت صفحة بسرعة وناولتها للمعلم فلمّا قرأها “كافأني” بلطمة من يده على رقبتي وهو يردد” هذا كاين شاطر يا تيس”! وفي آخر العام الدراسي كافأت إدارة المدرسة الطلبة الأوائل في كلّ صف بتقديم طابة صغيرة ملونة لكلّ واحد منهم ثمنها “قرش ونصف القرش” ومع بساطة الجائزة وقيمتها المدّية، إلّا أن مردودها الايجابي على نفسية ومعنويات مستحقيها كانت كبيرة جدا.

في حين كان المربّون والمدراء يكتبون في خانة الملاحظات بشهادة الطلبة الراسبين، بمن فيهم طلبة الصف الأوّل الابتدائي”لا فائدة ترجى من تعليمه”! فهل يوجد إحباط لطفل أكثر من هذا الاحباط؟ وهل تغيّرت أساليب التعنيف والتهديد والوعيد في أيّامنا هذه، وهل يوجد تعزيز للطلبة المتفوقين؟ والجواب لا أعتقد ذلك.

ولكن تم استحداث حفلات تخريج لآخر صفّ في المدرسة لتركه المدرسة وانتقاله الى مرحلة أخرى، ويتمّ فيها استئجار قاعة فاخرة، تجبى تكلفتها من الطلبة، ويدعى الى هذه الحفلات مسؤولون تربويون وسياسيون ووجهاء وأولو أمر الطلاب الخريجين، تلقى فيها خطابات رنّانة تشيد بادارة المدرسة ومعلمّيها، وأمنيات بالتوفيق للطلبة، أي أن حفلة التخريج تكون لتعزيز دور الادارة والهيئة التدريسيّة، وليس لتعزيز ثقة الطلاب الذين سيغادرون المدرسة.

ودعونا نتساءل كم من معلمينا من يثني على الطالب المجتهد بكلمة حسنة في صفّه على الأقلّ وأمام زملائه؟ وكم من الآباء عندنا من يشتري لعبة مكافأة لطفله المجتهد عندما يأتيه بشهادة آخر العام الدراسي متفوّقا؟ وكم منهم من يشتري له كتابا يناسب أو لا يناسب عمره لينمّي عنده هواية المطالعة مثلا، ويشجعه على زيادة المعرفة؟

وهل جرى تدريب معلمينا وتوعيتهم بضرورة الثناء على الطلبة المجتهدين، وملاطفة وتعزيز قدرات الطلبة غير المجتهدين؟ وهل جرّب معلمونا حلاوة مردود ذلك على علاقتهم بطلابهم؟

الزواج المبكر في مدارسنا

قانون التعليم الالزامي يحفظ للطفل حقه في التعليم الالزامي حتى نهاية المرحلة الثانوي، فهل يحصل الأطفال على حقهم هذا؟ وهل يوجد قانون يحمي قانون التعليم الالزامي؟ وهل أطفالنا جميعهم يبقون حتى نهاية المرحلة الثانوية؟

وفي الواقع فإن هناك تسرّب واضح للطلبة في مدارسنا، ففي القدس العربية التي يطبق عليها القوانين الاسرائيلية فإن نسبة التسرب من المدارس كما نشرتها جمعيّتا” عير عميم”-مدينة الشعبين- و”جمعية حقوق المواطن في اسرائيل”، في بداية العام الدراسي 2013-2014

فان 36% من الطلاب لا ينهون المرحلة الثانوية، وأن 13% من الطلبة يتركون الدراسة سنويا من المراحل والصفوف المختلفة، وأنّ أعلى نسبة تسرب تكون في الصفين العاشر والحادي عشر.

ولهذا التسرب أسباب عديدة منها الزواج المبكر، وهذا الزواج معروف في أوساط شعبنا وفي الشعوب العربية الأخرى، وبشكل متفاوت، وتنشر وسائل الاعلام بين الفينة والأخرى أخبارا دامية ومأساوية حول الزيجات المبكرة خصوصا عندما يتم تزويج طفلة قاصرة من رجل في سنّ والدها أو جدّها، مثلما يحصل في بعض البلدان العربية، وزواج القاصرات من كبار السنّ في فلسطين تكاد تكون معدومة، فالعروسان القاصران متقاربان في العمر في فلسطين، وفي الأحوال جميعها فإنّ “العروس الأنثى القاصر” هي الضحية دائما، ولهذه الزيجات أسباب تكمن خلفها منها العادات والتقاليد وجهل الوالدين في بعض البيئات المحلية، والفهم الخاطئ للدين، واستشهاد بعض المتأسلمين بزواج الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من أمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما،  ويتناسون مثلا أنّ ما أبيح للرسول لم يُبَحْ لغيره، فمثلا فقد جمع عليه الصلاة والسلام بين تسع زوجات، بينما لا يجوز للمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات، ومن اللافت ما ذكره أحد”المشايخ” في شهر أيلول 2013 في  برنامج”للنشر” الذي يقدمه الاعلامي طوني خليفة على فضائية “الجديد”اللبنانية والذي كان “زواج القاصرات” موضوع الحلقة حيث قال الشيخ” بأنه يجوز عقد زواج طفلة ابنة يوم اذا ارتضى وليّها ذلك! لكن لا يجوز الدخول بها حتى تكبر وتستطيع تحمّل ذلك!

والذي يهمّنا هنا أن الزواج المبكر سبب من أسباب تسرّب الطالبات والطلاب من المدارس، وليس مجال حديثنا هنا عن مخاطر الزواج المبكر والنتائج السلبية المترتبة عليه، لكن عن دوره في انتزاع حقوق القاصرين التعليمية، فغالبية المتزوجات والمتزوجين يتركون المدرسة بعد زواجهم مباشرة. وقد شاهدت حالات زواج لطفلات بعد انهائهن مرحلة الدراسة الابتدائية، بينما كان الزوج الطفل في الاعدادية، وهناك حالات قليلة من المتزوجين في سنّ مبكرة واصلوا تعليمهم بعد الزواج. حيث لا يوجد نصّ قانوني يمنع المتزوجين من استكمال دراستهم، لكن الأعراف والعادات تمنع ذلك خصوصا للاناث، والتي يتاح لها أن تواصل تعليمها المدرسي بعد زواجها فإنّها لا تلبث أن تترك المدرسة إذا ما حملت، فهي لا تستطيع تحمل متاعب الحمل والانجاب ورعاية طفل والدراسة، وإذا ما عاد القاصرون الى مدرستهم فإن بعضهنّ وبعضهم يتحدثون عن العلاقة الحميمة مع الشريك، ممّا يثير غرائز زميلاتهن وزملائهم الجنسية في سن مبكرة، وما يترتب على ذلك من مشاكل مدرسية واجتماعية. وأعرف حالات كهذه حصلت في قريتي.

تسرّب الطلاب من المدارس

يشكل تسرّب الطلاب من المدارس في فلسطين ظاهرة ملحوظة خصوصا في القدس العربية، التي تخضع لسلطة الاحتلال المباشرة، وتطبق عليها القوانين الاسرائيلية، وقد جاء في تقرير لجمعيّتيّ” عير عميم”-مدينة الشعبين- و”جمعية حقوق المواطن في اسرائيل”، في بداية العام الدراسي 2013-2014  بأنّ 36% من الطلاب العرب في القدس لا ينهون المرحلة الثانوية، وأن 13% من الطلبة يتركون الدراسة سنويا من المراحل والصفوف المختلفة، وأنّ أعلى نسبة تسرب تكون في الصفين العاشر والحادي عشر.

وتطرق التقرير إلى نسب التسّرب من المدارس في “القدس الشرقية”، التي تصل إلى 13% من إجمالي عدد الطلاب الفلسطينيين في المدينة، ومن خلال مقارنته بنسبة التسرب عام 2011 في جهاز التعليم الرسمي اليهودي القطري وصل إلى 2.6%، وبنسبة التسرب في جهاز التعليم العربي القطري بلغ 4.6%، ونسبته في “القدس الغربية” بلغ 1% فقط.

وجاء في التقرير أن النقص في غرف الدراسة في القدس الشرقية يصل الى 2200 صف دراسي.

وهذه النسبة أعلى منها بكثير في بقية مدارس المناطق الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران 1967،  وقد جاء في تقرير لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية عن التسرب ما يلي:

“بلغ عدد المتسربين الإجمالي 15148 طالب وطالبة في العام 1999/2000 انخفض إلى 9395 طالب وطالبة في العام 2003/2004 بمعدل انخفاض 38%. بشكل عام انخفضت معدلات التسرب من المدارس الفلسطينية من 1.8%من مجموع عدد الطلبة في العام 99/2000 إلى 0.9% في العام 2033/2004.” وهذا يعني أنه يتم العمل على معالجة تسرب الطلاب من المدارس في مناطق السلطة الفلسطينية، على عكس القدس التي لا تبذل فيها أيّة جهود لمعالجة الوضع.

ولتسرب الطلاب من المدرسة في فلسطين أسباب منها: اقتصادي، اجتماعي، المنهاج، المدرسة، عدم متابعة أولي الأمر لأبنائهم، ضعف التحصيل الدراسي للطالب، الزواج المبكر، البطالة المتفشية بين الخريجين الجامعيين، وغيرها.

وهناك ظاهرة يجب الانتباه لها، وهي أن الاناث في جامعاتنا المحلية يشكلن نسبة الثلثين تقريبا، وتعليم الاناث ظاهرة ايجابية يجب تعزيزها وتشجيعها، لكنها تطرح سؤالا عن عدم مواصلة الطلبة الذكور لتعليمهم، وهي قضية لها أسبابها أيضا، منها قرب سوق العمل الاسرائيلي خصوصا في القدس، وحصول العمال على أجور مرتفعة، وضعف التحصيل العلمي للوالدين وما يقوده الى عدم استيعاب فوائد التعليم، فهناك آباء يرون مصلحة ابنهم في تعلم صنعة حرفية ما مفضلين إياها على مواصلة التعليم. والعادات والتقاليد التي تسمح بعمل الذكور في المجالات المختلفة، ولا تسمح بذلك للاناث. ومنها قرب الجامعات المحلية الى بيت الطالبات مما يتيح لها الالتحاق بالجامعة والعودة الى بيت والديها في نفس اليوم، ومنها أيضا اشغال الطالبة في التعليم حتى يأتيها نصيبها في الزواج.

ويجدر الانتباه الى عدم توفر المدارس المتخصصة والمؤهلة لذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه سبب من أسباب عدم التحاق أعداد منهم بالمدارس، كما لا توجد مؤسسات لرعاية الطالبات والطلاب الفقراء وأسرهم، فكثيرا ما نشاهد أطفالا يبيعون محارم ورقية وغيرها عند اشارات المرور ومفارق الطرق في بحثهم عن رغيف الخبز المرّ لهم ولأسرهم.

التعليم اللامنهجي

للتعليم اللامنهجي أهميّة توازي التعليم المنهجي، بل هي من تعزز التعليم المنهجي، وتشحن الطلاب بدوافع تحبّبهم بالمدرسة وبالمعلم وبقدرات لاستيعاب المنهاج، والمقصود بالتعليم اللامنهجي طبعا هو أيّ نشاط مدرسي خارج المنهاج الدّراسيّ المقرّر، وقد يكون خارج المدرسة أيضا، ويلاحظ في مدارسنا نوع من السّباق بين المعلمين لمن  “يفوز”بانهاء المنهاج المقرّر أولا، ليحظى برضا المدير والمشرف التربوي وغيرهم. ولو أجرينا دراسة على “الفائزين” بالسّباق لوجدنا طلابهم أقلّ استيعابا وفهما للمادة التعليمية من غيرهم. وفي كثير من مدارسنا يحصرون التعليم اللامنهجي في رحلة مدرسية ليوم واحد، كانت في غالبيتها الى البحر الميت قبل انحسار مياهه لأكثر من سبب، ونظرا لتعطّش الطلاب الى اللهو في المياه بعد حرمانهم من الوصول الى مياه البحر المتوسط، لكن من حقنا أن نتساءل عن عدد المدارس التي تخصّص يوما في السّنة لكلّ صف مدرسي للتعرف على المكان الذي يعيش فيه سواء كان قرية أو مخيما أو مدينة؟ وهل يعرف المعلم نفسه المكان إن كان من خارجه؟ وهل يوجد عندنا نشاط مدرسي تحت باب اعرف وطنك؟ وهل يتم اصطحاب الطلبة للتعرف على الأمكنة المجاورة؟ وهل يتم اصطحاب الطلاب الى المدينة الأقرب للتعرف على معالمها الحضارية والأثرية والتاريخية والدينية؟ ولنتساءل كم مدرسة في القدس تصطحب طلابها للتعرف على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرهما من دور العبادة في المدينة، وللتعرف على أسوا ق المدينة وحاراتها وأزقتها ومساطبها وزواياها وتكاياها، وكم منهم من تمتع بالنظر الى المدينة المقدسة من خلال جولة دائرية من على سورها التاريخي؟ وهل يتم تخصيص يوم دراسي لكل صفّ للقيام بعمل تطوعي كتنظيف المدرسة والشوارع العامة في الحيّ أو القرية أو المخيم، أو لتنظيف المقبرة؟ وكم مدرسة تنتبه الى ضرورة مرافقة مدرّس للصف الدّراسي لزيارة زميل مريض يرقد في المستشفى أو البيت؟ أو للتعزية بوفاة أحد والديه مثلا؟ وكم مدرسها فيها فرقة للدبكة الشعبية وفرق رياضية؟ وكم مدرسة تشرك طلابها ليوم واحد في قطف الزيتون في موسمه؟ وكم مدرسة تأخذ طلابها الى المسرح لحضور عرض مسرحي مثلا، وتتركهم يحاورون الممثلين؟ أو تأخذهم لنشاط ثقافي والتعرف على أديب أو شاعر ومحاورته؟ أو تدعو الشاعر أو الكاتب الى المدرسة للقاء الطلاب والحوار معهم؟ وهل وزارة التربية والتعليم توجه ادارات المدارس لذلك؟ ففي العمل التطوعي أهمية كبيرة لتعليم الطلاب العطاء ومساعدة الغير، وفي زيارة المدن عدا عن الترفيه معرفة للتاريخ والجغرافيا والحضارة، وفي حضور المسرحيات واللقاءات الثقافية تنمية للمواهب الثقافية، وتحريض غير مباشر للطلاب على المطالعة الخارجية، وفي زيارة المريض والتعزية بالمتوفي تقوية للعلاقات الاجتماعية بين الطلاب أنفسهم وهكذا، وهذا تعليم أيضا، لكنّ الأهم هو كسر الروتين الذي يعيشه الطالب في يومه الدراسي، فمعروف أن الطالب يترك بيته منذ طفولته المبكرة ليقضي يومه أو عددا من ساعاته في المدرسة، ويستمر في ذلك اثنتي عشرة سنة حتى ينهي المرحلة الثانوية، وفي هذه الفترة لا يعرف غير ذلك، وكثير من الطلاب يعتقد أن المدرسة عقاب له، وأن الدّوام فيها هذه السنوات كلها عملية شاقة، ولهذا عدّة أسباب منها النظام التعليمي، وأساليب التدريس والمنهاج، وغيرها، لكنّ الأهم هو أنّه لم يجرّب غيرها. فلماذا لا نكسر له هذا الروتين المملّ؟

التدبير المنزلي

معروف أن مجتمعاتنا مجتمعات ذكوريّة، فالذّكور مميزون في كلّ شيء، وتبدأ التربية الذّكورية حتى والطفل جنين في رحم أمّه، فهي تفاخر بانّها حامل بجنين ذكر، وتحمد الله ليل نهار على ذلك، بل وتؤكّد المرأة الحامل بأن حملها خفيف لا يؤثر عليها شيئا لأن جنينها ذكر، وعندما يولد يستقبل استقبال الفاتحين، وتهدهده والدته بأغان شعبية فيها تنمية للثقافة الذكورية، وتقليل من شأن الأنثى، بل وتغني له مفاخرة بعضوه الذكري.

والأمّ تعتني عناية فائقة بمولودها الذكر” الاولاد بدهم دلال”، بينما البنات الإناث لا يحظين بهذه الرعاية، يقول المثل:” البنات مثل خُبّيزة المزبلة” أي يكبرن بسرعة وبدون عناية، وهناك تحذير من تدليل البنت”دلّل ابنك بغنيك، ودلّل بنتك بتخزيك” وليت ثقافتنا الشعبية تترك البنت لتعيش بدون دلال، بل تدعو الله ليميتها رحمة بذويها” اللي بتموت وليته من حسن نيته”! بينما تدعو الأمهات بطول العمر لأبنائهن الذكور، فتقول لابنها الذكر” ان شاء الله بتدفنّي بيديك” وتردّد نفس القول للابن الذكر عندما يتشاجر مع شقيقته” ان شاء الله بتدفنها بيديك”. وثقافتنا الشعبية لا تعتبر البنات خَلَفًا، وليس من الصعوبة أن تسمع أناسا يخاطبون امرأة أنجبت عددا من البنات بدعاء” الله يعوّض عليك” والمقصود بالعوض هنا الأبناء الذكور. وقد يتزوج الرجل من امرأة أخرى لأن الأولى لم تنجب أبناء ذكورا، مع أنّه ثبت علميا أنّ انجاب الذكور والاناث هي مسؤولية الرجل وليس المرأة، وقد أدرك العرب الجاهليون ذلك، فإحدى الزوجات ردّت على زوجها عندما لامها لأنها أنجبت بنتا:” مثلما تزرع تحصد” فلماذا لا نعلم أبناءنا في المدارس العلم الصحيح حول الذكر والأنثى.

ويربّى الطفل الذكرعلى التعالي في التعامل مع الإناث، بمن فيهم والدته التي أنجبته، وهي تكون سعيدة وراضية بذلك. وأمّه هي أول من يغرس في ذهنه هذا السّلوك.

وفي فلسطين تحرص مدارس الاناث على تعليم الاناث “التدبير المنزلي” وهذا أمر جيّد، بل هناك أقسام للتدبير المنزلي في بعض المدارس الثانوية، وغالبا ما يتم الحاق الطالبات ذوات التحصيل العلمي المتدني في هذه الأقسام، ويبقى السّؤال لماذا لا يتم تعليم الطالبات في أقسام التدبير المنزلي المواد العلمية الأخرى؟ أم أنّنا حكمنا عليهن أن يكن محاصرات ومحصورات في مطبخ البيت سواء كنّ عازبات أو متزوجات؟ ولماذا نكرّس تعليميّا أن العمل المنزلي تخصص أنثوي؟ ولماذا لا يكون حصة تدبير منزلي للطلاب الذكور أيضا؟ وماذا يضيرنا لو علمنا الطالب وعودناه بأن يعمل لنفسه أو له ولأسرته كوب شاي أو فنجان قهوة؟ أو أن يساعد والدته في شؤون البيت، تمهيدا لمساعدته لزوجته مسقبلا، في الدول المتقدمة هناك معاهد جامعية لتعليم فنون الطبخ والطبيخ، وروّادها ذكور وإناث، يفنون أعمارهم بعد تخرجهم يعملون في مطابخ المطاعم والفنادق وغيرها. ومن الأمور المألوفة أن تشاهد رجلا يساعد زوجته في اعداد الطعام وتقديمه للضيوف، ومن المألوف عندنا أن المرء اذا ما زار صديقا له، ولم تكن ربّة البيت أو إحدى البنات موجودة أن يعتذر صاحب البيت عن عدم قدرته على تقديم فنجان قهوة لضيفه لعدم وجود أحد يعمله! فهل صاحب البيت أحد أم لا؟

ومن المألوف في بلادنا أيضا أن تجد ذكورا يعملون طباخين أو غسّالي صحون، أو عمّال نظافة في مطعم أو فندق أو غيرها، وعندما يعودون الى بيوتهم يمارسون سيادتهم على الإناث في بيوتهم سواء كن أمّا أو زوجة أو أختا..الخ. وعليهن أن يقدّمن له كلّ ما يريد،  مع أن هذه الأنثى قد تكون عاملة في مهنة أخرى كطبيبة أو مهندسة أو ممرضة أو معلمة..الخ. ولا خيار أمامهن سوى تلبية طلبات”السيد المطاع” فهكذا تربّى وتعلّم، وهنّ أيضا تربين على الدّونية وعلى السمع والطاعة.

واذا كانت العادات والتقاليد والثقافة السائدة تنمّي فوقيّة الذكور منذ ولادتهم، تماما مثلما تربّي الأنثى على الدّونية وطاعة الذكر في الأحوال كلّها، فلماذا لا تقوم المدرسة بتهذيب وتقويم  العلاقة بين الجنسين من خلال التعليم؟”فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر”.

المعلم يتعلم

المعلم الجادّ والناجح هو من يطوّر أدواته التعليمية وتحصيله العلمي بشكل مستمر، وبامكان المعلم أن يزيد تحصيله الثقافي من خلال مطالعاته الخارجية في مختلف المجالات، وأن يواكب المستجد في العلوم خصوصا فيما يتعلق بتخصّصه، وأن يكتسب أساليب تعليمية جديدة من خبرته وخبرات زملائه، ونحن نطالب المعلمين بذلك نعرف أيضا معاناتهم، والظلم اللاحق بهم، وأستذكر هنا مقولة للأديب المصري الراحل عبد الرحمن الخميسي عندما سألته إحدى الصحفيات في مقابلة معه: لماذا كتاباتك  كلّها عن الكادحين والعمّال والفلاحين؟ ألم تشاهد في حياتك منظرا جميلا؟ ألم تحبّ امرأة؟ فأجابها بألم: كيف تطلبين من انسان جائع أن يصف لك روعة السماء؟

ومع ذلك فإنّ المعلمين مطالبون بتنمية قدراتهم وتغذيتها باستمرار، وهذا ما طبقته ولا أزال على نفسي، وأثناء ممارستي للتعليم ما بين 1977-1990 زاملت عشرات المعلمين وعرفتهم عن قرب، ولم يكن أيّ منهم يطالع كتابا خارج المنهاج، لكنّني عرفت غيرهم عددا قليلا من المعلمين يطالعون ويحرصون على تثقيف أنفسهم، واذا كانت امكانيات المعلمين لا تسمح لهم بزيادة تحصيلهم العلمي، وظروف بعضهم لا تسمح له بتثقيف نفسه، فإن الأبواب مفتوحة أمامه للاستفادة من تجربته التعليمية، وحتى التعلّم من طلابه، وأنا شخصيا تعلمت من طلابي أشياء كثيرة سأذكر منها بعض الأمثلة:

–        عند بداية ممارستي لمهنة التعليم كمدرس للغة العربية  في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس، في أوّل أيلول 1977 لم تكن كتب المنهاج متوفرّة للطلاب في الأيام الأولى من العام الدّراسي، فقرّرت أن أعطي الصف العاشر حصّة في النحو من الكتاب المقرّر، وكانت عن الجملة الاسمية”المبتدأ والخبر” فوقفت أمام الطلاب وشرعت أشرح الدّرس بعناية فائقة، وكأنّي ألقي قصيدة أحفظها غيبا، والطلاب يصغون باهتمام زائد، وفي الدّقائق الخمس الأخيرة من الحصة فتحت المجال لأسئلة الطلاب بعد أن قلت لهم بأن بامكان من لم يفهم شيئا أن يسأل عنه، فلم يسأل أحد منهم! ولمّا طرحت سؤالا لم يجب عليه أحد أيضا! وتكرّر الأمر نفسه في ست شعب صفّيّة أخرى!

وفي اليوم الثاني تكرّر الشيء نفسه! فسألت الطلاب غاضبا عن أسباب عدم فهمهم، فوقف واحد منهم واسمه كمال وقال: يبدو يا أستاذ أنّك متمكن جدّا من المادة، لكنك تعلم بعدم وجود كتب معنا، وأنت لا تستعمل السّبّورة- اللوح- ولا تعطينا فرصة لكتابة ملاحظات، فحبّذا لو أنّك تكتب لنا على اللوح، فذهلت ممّا قاله، ولمت نفسي، وشرعت أكتب القاعدة النحوية على اللوح مع الأمثلة والتطبيق عليها مع الشرح، وطلبت منهم أن يكتبوا في دفاترهم أيضا، وعندها فهم الطلاب الدّرس وتفاعلوا معه، وسألوا عليه، ولولا ذلك الطالب ما كنت أعرف حينئذ أهميّة السّبّورة في التعليم، وتبين لي لاحقا أن ذلك الطالب الذي علّمني وأفادني لم يكن مجتهدا، ورسب في الصّف العاشر ثلاث سنوات وفصل من المدرسة لتكرار رسوبه.

–        وذات يوم من بداية عام دراسيّ كنت أقرأ أسماء الطلاب في الصف الذي عُيّنت مربيّا له، وكان أحدهم لا يستمع ويتدحث مع زملائه ويضحك بصوت مرتفع، فسألته عن اسمه للفت انتباهه، وأجابني: اسمي رياض، لكنه واصل الضحك، فلفتّ انتباهه مرّة أخرى، ومع ذلك لم يتوقف عن شقاوته، فطلبت منه أن يأتي ويقف بجانبي قبالة الطلاب، ففعل ما طلبت، وعندها قلت له: اضحك كيفما تشاء الآن حتى تفرغ حاجتك الى الضحك، فعبس الطالب وتأتأ دون أن يقوى على نطق شيء، وهدّدته بالعقاب إن لم يضحك، فازداد عبوسا وعلت تكشيرة وجهه، واحمرّت وجنتاه، وكاد يبكي، فصرفته الى مقعده، وبعدها التزم الهدوء الزائد طيلة العام الدّراسي، فتعلّمت من هذه الحادثة بأنّ باستطاعة المعلم الحاذق أن يردع الطالب المشاغب بدون عقاب جسدي.

–        وفي الأسبوع الأوّل من بداية عام دراسيّ، أعطيت الطلاب وظيفة بيتية تتعلق بمادّة النحو العربي، وفي الحصّة التالية قرّرت عقاب من لم يقوموا بواجبهم البيتي عقابا رمزيا بضربهم على باطن كفّيهم ضربا خفيفا بمسطرة خشبية، ووبختهم كلاميا واصفا إيّاهم بـ”التيوس”، وبعد انتهاء الحصّة لحق بي أحد التلاميذ واسمه شوكت واستأذنني بأدب جمّ قائلا: هذا هو اليوم الأوّل لي في المدرسة، وبالتالي لا علم لي بالوظيفة البيتية، وأنا طالب مجتهد، وستثبت لك الأيّام ما أقوله، فلمته على عدم إخباره لي بأنّ يومه هذا هو اليوم الأوّل له في المدرسة، ولأنّه مدّ يده لي لأعاقبه دون أو يوضح لي ذلك، فأجابني:

–        لقد مددت لك يدي بدون اعتراض كي لا يُسجّل عليّ بأنّني عصيت معلّما في يوم من الأيّام! فاستحيت من جوابه، وشعرت بندم شديد أرّقني يوما بكامله، وفي اليوم التالي اعتذرت له أمام زملائه في الصّف وأشدت بأخلاقه الحميدة، وتبين لي لاحقا بأن هذا الطالب ذكيّ الى درجة النبوغ، وكان من الأوائل في الثانوية العامّة، وحصل على منحة لدراسة الطب في احدى جامعات ألماني، وهو الآن طبيب اخصائيّ بجراحة الأعصاب الدّقيقة في احدى المستشفيات الألمانية. وما كان بامكان هذا الطالب أن يتعلّم تعليما جامعيا لولا اجتهاده وحسن خلقه، فهو من أسرة فقيرة لا تسمح أوضاعها الاقتصادية بتعليمه والانفاق عليه.

وقد تعلمت من هذا الطالب ثقافة اعتذار المعلم لتلميذه إن أخطأ بحقه حتى ولو عن دون قصد، وهذا لا ينتقص من حق المعلم شيئا، بل بالعكس فإن الاعتذار عن الخطأ يعزّز مكانة المعلم أمام طلّابه، ويزيد ثقتهم به.

كما تعلمت من هذا الطالب ضرورة التأنّي وعدم الحكم على الأمور بسرعة.

وذات يوم من بداية عام دراسي دخلت الصفّ الدراسي، وتكلمت مع أحد الطلاب جملة فيها حرف الكاف، ولفظته بلهجتي القروية مثل ch بالانجليزية، واذا بطالب قروي يصيح غاضبا وفرحا بأحد الطلاب ويقول له: “اذا كنت رجلا تمسخر على الاستاذ” والتفت إليّ قائلا” هذا  الطالب يستهزئ بلهجتي الفلاحية، ويريدني أن أتكلم لهجته المدينية” ووجدتها فرصة كي أشرح للطلاب اختلاف اللهجات، وأن اللهجة عبارة عن استعمال خاطئ للغة، وأن أقرب اللهجات للغتنا الفصحى هي لهجة أبناء البادية، لعدم تأثرها باللهجات التي تأثرت بالاختلاط بأقوام أخرى، وأن أحد الأسباب المهمة لانتشار اللهجات المحكية”العامية” هي دخول العجم في الاسلام كنتاج للفتوحات الاسلامية، وعندما تعلموا العربية كونها لغة القرآن الكريم، لم يتقنها بعضهم، وكذلك بسبب التجار الأعاجم الذين كانوا يؤمون المناطق العربية لبيع بضاعتهم، أو كطريق تجاري الى مناطق أخرى في قارتي آسيا وافريقيا. ولا يعني هذا أن جميع الأعاجم لم يتقنوا العربية، بل ان بعضهم أثرى الثقافة واللغة العربية، فسيبويه مثلا صاحب”الكتاب” هو من وضع قواعد اللغة العربية، والبخاري صاحب كتاب”صحيح البخاري” من أشهر من دوّنوا الأحاديث النبوية مع أنه من الأعاجم.

وفي بداية عام دراسي آخر، سألت طالبا وسيما وطويل القامة في الصف العاشر”الأوّل الثانوي” عن اسمه، فتأتأ واهتزت حنجرته وهو يلفظ اسمه، حتى خلته يكاد يختنق، فصحت به غاضبا: ألا تعرف اسمك؟ واذا بطالب نبيه يجلس في المقعد الأول يكتب لي على ورقة”عنده حالة مرضيّة يا استاذ” ويعطيني إيّاها، فلمت نفسي، وحاولت مداعبة الطالب المذكور لكنه لم يستطع التلفظ بأيّ كلمة، وبعد انتهاء الحصة اصطحبت الطالب النبيه معي خارج الصّف، وسألته عن حالة زميله، فشرح لي بأنه طالب يتيم الأب، فقد توفي والده وهو في السنة الأولى من عمره، وتزوجت والدته من آخر، ولم يتقبل زوج الأمّ الطفل اليتيم، وكان يعنفه ضربا وشتائم، وفي يومه الأول في المدرسة، ضربه المعلم بقسوة، فأصبحت عند عقدة من الكبار، أما مع أبناء جيله فهو شرير وعنيف ومنطلق بصورة مبالغ فيها.

شكرت الطالب النبيه على ما أفادني به، وأخبرت بقية زملائي بقصة ذلك الطالب، وطلبت منهم معاملته بلطف زائد، وأخذت أتقرب منه، وأشجعه، حتى أنني حرضته على شتيمة من لا يعجبه من الكبار اذا كان في ذلك راحة له، وبعدها اصطحبته الى طبيب نفسي، وتكلفت علاجه دون أن أذكر ذلك لأيّ شخص، فعاد الى العيش في كنف أحد أعمامه، وعاد الى وضعه الطبيعي، وأكمل تعليمه الجامعي، وهو الآن صاحب مكتب محاسبة ومتزوج وله عدد من الأبناء، وموفق في حياته. وعندما يقابلني صدفة يعانقني ويقول لي:”أنا مدين لك بحياتي”، وهو دائم الحديث بامتنان مع معارفه عمّا عملته له…فتعلمت من تلك الحادثة الصبر والأناة وعدم تعجّل الأمور، وتذكرت قوله تعالى”فأمّا اليتيم فلا تقهر”.

وذات عام دراسي، جاء طالب يتيم الأب، من مدرسة خاصّة راسبا في الصف الحادي عشر، والمرحوم والده وعمّه أصدقائي، وسبب رسوبه لم يكن مبررا، فقد أكمل الطالب ورسّبه المدير لخلافات شخصية بينه وبين عمّه الذي ترك التدريس في تلك المدرسة، وقد تعاطفت كثيرا مع ذلك الطالب لأكثر من سبب منها كونه مظلوم، وشعرت بأبوّة ومسؤولية تجاهه، وذلك لصداقتي مع المرحوم والده ومع عمّه، وبدوره تقرّب مني كثيرا لأنه لقي بي حنان الأبوّة الذي يفتقده، وفي بداية الفصل الدراسي الثاني، فحصت دفاتر الطلبة لأتأكد من قيامهم بواجبهم المنزلي، وحلّهم لأسئلة قواعد اللغة العربية، وكان المفاجأة أن الطالب قد فتح أمامه دفتر العام الماضي في المدرسة السابقة، فعاقبته هو وثلاثة طلاب آخرين لم يقوموا بواجبهم المنزلي بضرب كل واحد منهم ضربتين على باطن يديه، ضربت زملاءة بطريقة موجعة، بينما ضربته هو بطريقة تمثيلية لا تؤذي طفلا ابن يومه،  وبعد أقل من دقيقتين قال لي الطالب الذي يجلس بجانب ذلك الطالب اليتيم، بأنه يقع ولا يستطيع الجلوس، وأنّه يشعر بصداع، فطلبت منه أن يذهب الى الادارة لتعطيه حبتي دواء للصداع، ولم يستطع الوقوف على رجليه، فطلبت من طالبين أن يساعداه، فأمسكا تحت ابطيه حتى أوصلاه المدير، فأعطاه حبتين مضادتين للصداع فابتلعهما، وتقيأ وارتمى على الأرض، فظنّه المدير مصابا بالبرد وبدون افطار، واشترى له ساندويتش من الكافتيريا وعلبة كولا، لكن وضعه ازداد سوءا، فاصطحبه الى عيادة طبية قريبة، واتصل بعمّه كي يحضر ليعيده الى البيت، وقام الطبيب بفحصه وكتب له دواء لانفلونزا الأمعاء كما شخّصه، وأعطاه ابرة وكتب له دواء، وبينما هو في سيارة عمّه دخل في حالة اغماء، فأسرع به عمّه الى مستشفى هداسا، وهو من أكثر المستشفيات تقدّما في الشرق الأوسط بل في العالم، وبقي في حالة غيبوبة لمدة ست وخمسين يوما، وكان يردّد في غيبوبته وبصوت عال” أنا أحب الاستاذ جميل”فسأل الأطباء عن علاقته بالاستاذ جميل، وكان عمّه يرد بأنه صديق للعائلة ومدرس له، وكان خوف الأطباء أن يموت مخنوقا بابتلاع لسانه، وكنت في غاية القلق، فقد كنت سببا في إيذاء هذا الطالب، وبعد أن أفاق من غيبوبته، خرج الى بيته معافى، فذهبت بصحبة المدير لزيارته والاطمئنان عليه، فحمّلته والدته القهوة ليقدمها لي، ولمأ رأني من مدخل الصالون وقعت الصينية من يديه، وسقط على الأرض مغمى عليه، فحمله عمّه وأعاده الى المستشفى، وبقي في غيبوبة لمدة شهر كامل، خرج بعدها معافى، وعندما عاد الى المدرسة، ازداد تعلقا بي، وتبادلت ومعلما آخر بحيث هو يعلم الصف الذي يتواجد فيه الطالب المذكور، وأنا أعلم الصف الآخر، لكن الطالب رفض قبول المعلم الآخر، بل وشتمه شتائم بذيئة، فعدت لتعليم الصف نفسه، ولشدّة تعلق ذلك الطالب بي، كان عندما يشتري ساندويتشا، أو علبة عصير من كافتيريا المدرسة أثناء الفرصة، كان يشتري لي مثلها ويحضرها لي في غرفة المعلمين، ولا يخرج قبل أن يتأكد من أنني أكلت الساندويتش وشربت العصير، ولم يكن يقبل اعتذارا. ولم أرتح نفسيا الا بانتهاء العام الدراسي.

وبينما هو في المستشفى حدثني زملاؤه الطلبة بأنه كان يقول لهم بأنني صديقه، وأنه يستطيع من خلالي أن ينجّح أو يرسّب الطالب الذي يريده، وهذا أوحى لي بأن معاقبتي الشكلية له أمام زملائه، وبناء على تخيّلاته قد شكلت له صدمة عصبية.

وقد تعلمت من تلك الحادثة أن أضع حاجزا ولو شفيفا بيني كمعلم وبين طلابي. وأن لا أعاقب أي طالب جسديا بعدها.

والحديث يطول عمّا تعلمت من تلاميذي.

30-10-2013

تعليق واحد

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات