أنا العشق ومنك المطر في اليوم السابع

أ

القدس- ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس اليوم الخميس سردية الكاتب وليم فوسكرجيان بعنوان:
“أنا العشق .. ومنك المطر”-أقاويل .. آخر الترامذة- للكاتب وليم فوسكرجيان، ويحمل غلاف السردية التي تقع في ١٣٦ من القطع المتوسط
لوحة للفنان الفلسطيني فايز الحسني.
قال جميل السلحوت:
صنّف الكاتب نصوصه في هذا الكتاب بأنّها “سرديّة” والسرد هو:” الطريقة التي يُعرض بها العمل النثري أيًّا كانَ نوعه”. وبناء على هذا التّعريف فإنّنا نجد أنفسنا أمام سرديّات وليس سرديّة واحدة، أي أنّنا أمام سرد متقطّع. وبهذا فإنّ الكاتب قد جانب الصّواب عندما صنّف كتابه هذا “سرديّة.”
اللغة: معروف أنّ الكاتب فوسكرجيان يحترف الموسيقى، ويجيد العزف على أكثر من آلة موسيقيّة، وهذا ينعكس على كتاباته، فهو يختار مفرداته بعناية فائقة، لتكون ذات إيقاع موسيقيّ، وهذا يسجّل للكاتب وعليه، فهي له بجماليّاتها وموسيقاها، وعليه عندما يلجأ إلى الإكثار من تكرار بعض الكلمات وبعض الجمل، وكأنّه في وصلة غناء طربيّة.
والكاتب فوسكرجيان ليس جديدا على الكتابة، فقد صدرت له بضعة كتب قبل هذا الكتاب، وبعضها صنّفه على اعتبار أنّه قصص قصيرة، مع أنّه لا تنطبق عليه شروط القصّة. ولو أنّه أعطاها قليلا من العناية لكانت قصصا.
والمتابع لكتابات فوسكرجيان سيجد أنّه يركّز بالعزف على جماليّات اللغة أكثر من تركيزه على إبداع صنف أدبيّ كالقصّة أو الأقصوصة، ويبدو أنّ هذا نابع من احترافه للموسيقى. كما يلاحظ أنّ الكاتب لم ينتبه إلى قدراته في كتابة قصيدة النّثر، فبعض فقرات نصوصه قصائد نثريّ تعجّ بالموسيقى والإيقاع.
ويلاحظ أنّ الكاتب قد وقع في بعض الأخطاء اللغويّة مثل ” وتهمس في أذنيّ الّتين لم تأكلا طعاما” ص9، والصّحيح “اللتين”.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
“أنا العشق ومنكِ المطر” عنوان يخدع القارئ فيوحي له بسرديّة وجدانيّة وعواطف جيّاشة، وما أن نقلّب صفحات الكتاب حتى نجد صور الضباب والغيوم ،السّماء السّوداء الظلم والفقر وملامح الحزن والموت والقلق ،العشق المكبّل الذّي لا يستطيع الطيران فهو مقيّد بحواجز الاحتلال والجدار الذّي لا يمنح المحبين لحظة العناق.
المكان في فلسطين عامّة،يجعل الكاتب المدينة مجهولة ، “في مكان ما، في أيّ مدينة ما” إلاّ أنّ المكان يتنقل ما بين الإسفلت ،الحافلة، والغرفة. ومن خلال السّرديّة وصور المدينة نرى الجدار، وتفتيش الهويّة، نسمع صراخ الجنود.
ما يميّز هذه السّرديّة هو جماليّة الصورالبلاغيّة، أنسنة الجماد، واستنطاق أعضاء الجسم بالهمس والقول، فيستنطق عمود الكهرباء في القول، والجريدة حين تهمس في الأذن، وباب الغرفة والجدران حين يحدّقان في العيون، والحقيبة حين تحادث الشجر وعناق الفنجان، والباب الخشبي حين يقرأ الجريدة، وعقارب السّاعة حين تحتسي بعض الماء، والثّياب حين تهمس بالأُذن، والنافذة تلوك بعض التبغ، واستنطاق الطبيعة فالرّيح تهتف للمطر، وأيضا تأكل الطعام مع العصافير،والأرض تهتف
تظهر الرّمزيّة في هذه السّرديّة “فالمطر “هو رمز للفرج المرتقب والخلاص من الإحتلال والعذاب، هو غودو في انتظار الحريّة والفرح”ينتظرون على قارعة الزّمان المطر الآتي من حقول الأيام البعيدة”، “ومنذ قرون وقرون ونحن نناشد القدر أن يأتي المطر، وعلى سحاب أبيض إن شاء”.
“الذّباب الأسود” رمز لجنود الإحتلال في اقتحامهم المستمر للبيت الفلسطيني الذّي لا يعرف الأمان في بيته، خاصة في ساعات اللّيل المتأخرّة.
“الأب” رمز للشهداء وللأسرى وللقائد المنتظر الذي سيعود يوما.” أبي مسافر ولم يعد إلى بيتنا حتى يومنا هذا”. “الّليّل” رمز للظلم السائد من قبل المحتلّ، تظهر العاطفة في السّرديّة، حيث نجد همسات الحزن ومشاعر الطبقة الكادحة من الفقراء، فالأنفاس ساخنة وغاضبة ،والمشاعر من الدّاخل تحترق وتشتعل، بكاء ذليل، عاطفة تجاه الوطن والتمسّك بالأرض رغم العذاب “هنا سأظل وهنا سأبقى”، عاطفة جيّاشة تجاه الأُمّ، مشاعر الوحدة ومشاعر الحب. “أفتح عينّيه وأمّي مش قدامي مش قدامي”.
جاءت اللّغة بسيطة سهلة ذات لغة شعريّة ممتعة، مشبعة بالصور البلاغيّة الجميلة والخيّال، فالكاتب يدهشنا حين يجعل من الجماد حركة وله صوت كما في صورة الجدار حين يحاور الترمذي. استخدم كثيرا الأضداد “البعيدة والقريبة”، ومضاعفة الفعل في الجملة(يحدقون يحدقون، ساقطة ساقطة.
“كانت الطبيعة حاضرة في السّرديّة(الشّمس، القمر الريح، العصافير، الأشجار”وكذلك الفصول الأربعة.
وبالرّغم من جماليّة السّردية إلاّ أن الكاتب بالغ كثيرا في تكرار المفردات(أعمدة الكهرباء، القمامة المدينة، النهر الأزرق ..الخ) ومفردات السّنين(قرون أعوام ، سنين) وأيضا في تكرار ذات النص مرتين في ذات الصفحة، ثم يعيده في الصفحة التاليّة، وهذا يضعف النّص في عدم تجديد الكاتب للجمل المكرّرة.كمافي صفحة 59 و58.
أخطأ الكاتب بتفسير معاني الكلمات تحت النّص وهذا في رأيي استخفاف بعقل القارئ، الذّي يتوجب عليه أن يبحث عن المعنى بنفسه، وقد بالغ في ذلك حين فسّر كلمة “بكره” التّي جاءت في العاميّة، فهل هنالك من لا يعرف معنى “بكره؟
كما وفاجأنا الكاتب بنصوص بالعاميّة التّي يمكن اعتبارها غنائية، فبرغم جمالها إلاّ أنّها كانت دخيلة على النصوص مقتحمة.
أمّا من ناحيّة الإخراج الفنّي للكتاب، فبعض بدايّة الصفحات تبدو خالية وتبدأ الأسطر من المنتصف.
وقال ابراهيم جوهر:
“وليم فوسكرجيان” المتخيّل في سرديّة الترمذي عالم من الجمال والحب والموسيقى:
“وليم” موسيقيّ يعزف ضاربا الأوتار بريشته لتشدو وتعبّر وتبكي أو تفرح.
وهو يضرب الألفاظ هنا لتصطف قوافل من معان وموسيقى ولوحات.
في لغته موسيقى وصور ورسائل وخيال وظلال وأبعاد يدفع قارئه ليحيا في أجوائها متسائلا تارة لاهثا يلاحق الإيقاع السريع الذي يحاول أن يعيد المارد إلى قمقمه.
إنّه يواصل بنيانه الخاص باللغة الخاصة منذ مجموعته الأولى “مطر طين وليل أسود”-
1989م.، فاللغة خاصة بنبرتها ودلالاتها وكذا المضامين التي تنتظر قارئا حاذقا ليقف على كمّ الجمال فيها وكمّ الحزن والغربة.
أن يكتب موسيقيّ يعني أنّ اللغة سترقص وتبكي وتضحك وأنّ القارئ سيقول:
ما أجملك!
يدخلنا الكاتب “وليم فوسكرجيان” في أجواء عالمه الغريب ذي الزمن الممتد عبر قرون وقرون غير المعترف بعدد أيام الأسبوع فتصير ثمانية والجهات خمسا والسماوات مائة. وهناك حيث الليل ليل ليس كالليل ولا عمود الكهرباء عمودا يقوم بدوره…عالم غريب عجيب متخيّل تارة وحقيقي أخرى رسمه الكاتب ليقول أمرا ويوصل رسالة وينتقد وضعا قائما ويشير إلى عالم من الأحلام المشتهاة.
عالم “وليم” هنا هو ما بنته الهلوسات الناتجة عن لؤم الحياة، وهو نافذة الهروب من قسوة الواقع. بناه الكاتب بالكلمة والرمز والموسيقى والأغنية والحلم وجدران الزنزانة وجنون الشّارع وعواء حيواناته وتغريد طيوره وحبر جرائده وكتبه ودقّات ساعة صدره المعلّبة هناك حيث الحب والكره والعزيمة والبكاء: هناك موطن الأسرار ونبع الحياة.
يجد القارئ لغة رمزية فيها تبادل بين معطيات الحواسّ لدى الكاتب وراويه الترميذي، فاليد عابسة والجرائد تبتسم والظّلال تعزف والأنفاس تندلق…
ينقل الكاتب اغتراب الإنسان المعاصر في البلاد ويؤنسن الجماد ويفتت الزمن والجهات والفصول والسّاعات وكأنّه يعيد بناء العالم وفق رؤاه الخاصة ليحلّ المطر المنتظر.
وكتبت هدى خوجا:
صورة الغلاف سيّدة الأرض بعينين واسعتين بزرقة البحر، تملأ أحضانها بيوت المدينة بنظرة حزن، والوجه منقسم بلون إشراقة الصباح والنصف الآخر بغروب الرّبيع وشمسها.
يطغى على الغلاف اللون الليلكي البنفسجي الّذي يرمز إلى الحزن مع اللون الأزرق بعلو إلى السّماء، ولباس مطرّز بشكل تراثيّ أصيل يرمز للوطن والأرض.
سردية جميلة تسرد عن المدينة وأي مدينة معشوقة هكذا؟
أبدع الكاتب في الوصف والقسمات العتيقة بريشة فنان
تكرار جميل ومحبب بالسّرديّة مثال : “من المطر والمطر والمطر والمطر” ص20
” للمرّة المائة بعد المائة ص31
لكننا لن نأبه بكل هؤلاء ”
وهؤلاء
وهؤلاء
وهؤلاء”ص42
” زجاج النافذة الصّغيرة والوحيدة
في غرفتي الصّغيرة والوحيدة” ص44
” عيناه صامتتان
شفتاه صامتتان
ثيابه صامته
صامته صامتة ص 45
ينتاب السّرديّة أحاسيس عميقة ساخنة ودافئة ” همساته الدّافئة انفاسه السّاخنة”ص45، صور معبّرة مثال” وعندما أعود إلى بيتنا الّذي يسكن قرب النّهر الأزرق العينين، أضع في يديّ أمّي الحبيبة، كلّ حبّات المطر، والّتي كنت أخبئها لها في جيوب معطفي الّتي لا عدّ لها ولا حصر”ص50. ظهرت الألوان جليّة وواضحة الأسود والرّمادي والأبيض والأزرق، أيّها الإسفلت الأسود العينين والشّفتين، والمزروع في أحشائك اللّيل، والمطر الموعود”ص8
” وجه مغرّق بالسّواد” ” وعينان رماديّتان ” ص10″ الذّباب الأسود” ص16
وبالضّباب الأسود المنبعث من جسده المحترق.. ص17. وسيجارة صفراء اللّون ص11″ ونحن نناشد القدر: أن يأتي المطر، وعلى سحاب أبيض، إن شاء.
الأعداد والأرقام تظهر جليّة وواضحة، أتحسّس جيوبي العشرة والعشرين والمائة” ص10، والأرقام خمسة أربعة ،أجد نفسي داخل تللك الحافلة، وهي تنطلق .. ثانية ..ورابعة.. وعاشرة ..وعشرين.. إلى مكان ما.. في المدينة .
” ذلك الشّرطيّ ، يحدّجني بعينيه الجاحظتين والشّرستين ثانية. وخامسة..
وعاشرة. مائة عام ” ومنذ أكثر من مائة عام ، ومنذ أكثر وأكثر من مائة عام
ومنذ أكثر وأكثر وأكثر من مائة عام .
تكرار لتثبيت الفكرة والحدث والحق في المدينة وأكثر في أحد جيوب “البالطو النّص” الّذي أرتديه في الفصول الخمسة من كل عام ” ص 32، أهو الربيع العربيّ الفصل الخامس؟ هل تمّ إضافة الرّبيع العربي خامسا.
الماضي والذّكريات تظهر واضحة وجليّة مثال: وبعض جرائد أمس وأكثر من أمس. والفصول تزداد في السّردية ويظهر جمال المدينة مع جميع الفصول، من جمال الأزهار في المدينة والأشجار والفراشات والطّيور الّتي تملأ أزقّة وسماء مدينتنا، وفي فصل الصّيف تعود أسراب الطّيور للمدينة المهاجرة، وفي الخريف زراعة سنبلة لتنبت قمحا، ثمّ أنشودة لتنبت عصافير وطيورا.
وفي الشّتاء يزداد المطر على مدينتنا
ولكن رغم مرور الفصول هل من أمل
“لكنّ عينيّ وشفتيّ ، مليئتان بالأسى والحزن
فأبي مسافر، ولم يعد لبيتنا حتّى يومنا هذا،
الشّمس قالت لي ” أنّه سيعود يوما”
سيعود يوما سيعود يوما.
وكتب الدّكتور عزالدين أبو ميزر:
والسرد كما تقول الكاتبة سارة حسّان هو أسلوب من الأساليب المتّبعة والمعروف بأسلوب السرد، وفيه يقوم الكاتب بتحويل المعلومة إلى كلام مع ترتيب الأحداث. ليس المقصود هنا الكلام غير المنتظم الذي لا يوجد فيه ترتيب للأحداث، أو ذلك الذي فيه انعدام للانسجام بين كلماته وجمله ومعانيه. وفي السرد تتلاشى الحاجة لشرح أفكار أو لتلخيص المراد أو إعطاء مواعظ، وذلك لأنّ السرد يظهر كلّ ما هو مراد، وإن حصل ذلك فهو زيادة وحشو لا فائدة منه، بل قد يُسبّب ضعفا لهذا الأسلوب، وله تأثير سلبيّ على بُنية النص وتركيبته. وعامل الزمن في السرد عامل مهم.
وليس موضوعنا هو السرد وأنواعه وأساليبه وما يجب فيه وما لا يجب؛ لنحاكم النصوص التي بين أيدينا، فتكون اسما على مسمّى أو أنّ في ذلك تجاوزا وخروجا، حيث أنها نصوص وليست نصا واحدا، وهي سرديّات، وليست سرديّة واحدة من جهة، ولسنا بالمتخصّصين في هذا المجال أو ذاك، وإنما نحن قرّاء نتذوّق الجمال الأدبي أينما وُجد، وبالأسلوب الذي كتب فيه أيّ كان، من جهة أخرى، ولذلك أترك لكلّ قاريء التقييم بحسب هذه المعايير.
إنّ كل قراءة تعطي للقاريء نوعا من المعرفة والشعور والذّائقة سلبا أو إيجابا. لقد قرأت ما سمّاه الكاتب سردية، وهي سرديات، إذا انطبق الوصف عليها، وما سمّاه أقاويل…. آخر الترامذة أكثر من مرّتين؛ والذي لم يعرّفه لنا أهو لانتسابه لترمذ المدينة المعروفة، بعد أن نفى عنه القرب من الترمذيّ مصنّف كتاب الجامع؛ أم لنسب آخر وقطع الحرث والنّسل وجعله الآخر الذي ما بعده بعد؟
وهل الأقاويل هي السرد؟
والأقاويل وردت في القرآن الكريم في الآية: “ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل” وهي إمّا جمع الجمع من قول، أقوال، أقاويل، ومن مثل أبيات أباييت. وإمّا “وهذا ما أميل له” هي من مفرد (أُقوولة) بضمّ الهمزة من مثل: أعجوبة، أسطورة، أكذوبة، أغرودة، أنشودة.
وجاءت في سياق الدّلالة على الشيء المفترى والمكذوب، ولست أدري مدى انطباق هذا العنوان على محتوى ما كتب الكاتب، أهو أقاويل أم سرديّات؟
مما لا شك فيه أنّ الكاتب متمكن ومتمرس في الكتابة، وعنده من الصور البيانية والخيال الشيء الكثير والعبارات الشاعريّة الجميلة، وإن لم أرَ
من الدهشة إلا القليل. فلم أنتظر حدثا ولم يفاجئني بشيء لا يخطر على البال أو لا يمكن توقّعه.وهذا أوّل شيء أقرأه للكاتب ولم أقرأ له من قبل أي شيء فأقارن بينها، فلكل كاتب مزاجيته والظرف الذي كتب فيه، والنصوص أيّا كانت، وأنا أتكلّم عن نفسي في النصوص الشعرية، فأنا أحيانا أكتبها وفي أحايين أخرى هي تكتبني.
وعودة إلى كاتبنا الجميل والذي لا أشك بموهبته وقدرته، وأنا كعاشق للغة العربية وجمالها والموسيقى التي تنساب من كلماتها لحظة النطق بها وإشباع حروفها ما يعطيها مساحة من التنفّس، يجعلك لا تحس بتعب أي حرف من حروفها، أو تشعر بأنه أُجهِدَ وبدأ يلهث إن أسرعت في نُطقه، والله الذي ليس كمثله شيء والقادر على كل شيء جعلها وعاء يحمل أجمل معانيه وصاغ بحروفها المسترسلة كالشلال كلامه.
بيد أن الكاتب العزيز أصابني بالذعر والخوف لا عليّ وإنّما على غيري ممن ليس له في اللغة باع، ولم يصل درجة اليقين في إيمانه بها بعد، حين أظهرها عاجزة برغم ما فيها من الترادف، والذي لا يوجد في لغة أخرى على الأرض، فاستعمل كلمة خشن وخشنة عشرات المرّات، كوصف لأكثر من شيء وكلمة اندلق ويندلق عشرات مثلها. وكرّر كلمات وصيغَ جملٍ مرّات ومرّات، كما هي وفي أكثر من نصّ، حتى حفظناها عن ظهر قلب. “إلا إذا كان هذا هو قصد الكاتب أن يحفّظنا إيّاها غصبا” وأشكّ في ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
في مدينة أي مدينة
منذ ليلة أكثر من أمس
كلمة نزق
تلوكها شفتاي بضراوة
المزروع في احد جدران الغرفة
الغرفة التي بها شباك واحد صغير
ملابس رخيصة لا يكترث لها أحد
فمي،شفتي،ياقة قميصي،ربطة عنقي،الحارات،الطرقات،حاويات الزبالة،القطط، الخ.
المرّة المئة بعد المئه
أسفلت الطريق الأسود
عدا عن شقلبة الكلمة وضدّها، أو في صفتين متتابعتين تقديما وتأخيرا مثل:
“القريبة والبعيدة، والبعيدة والقريبة، الكريهة والسافلة، سخطا وضيقا، جيوب معطفي والذي يلتصق بجسدي منذ يوم ولادتي”
والكثير الكثير الذي قلنا عنه في أول المناقشة أنه حشو لا فائدة منه بل يسبب ضعفا في الأسلوب، وله تأثير سلبي على بنية النّص وتركيبه.
والزّمن عنده أحيانا هو الحال، وأحيانا أخرى لقرون خلت. ومرات لزمن غير معروف، وكما سبق في تعريف السرد فإنّ الزّمن عامل مهمّ وأساسيّ فيه.
يحتوي الكتاب على مقطوعات غنائيّة لابأس بها وباللهجة المحكية، وتحتوي على مقطوعات غاية في الجمال والروعة والموسيقى، لم يشر الكاتب أهي فلوكلور فلسطيني توارثته الأجيال أم أنّ له يدا فيه لست أدري. وإضافته إلى مجموعة الأقاويل أضفى عليها لونا من البهجة والحلاة والصدق لا الأقاويل. ولم أجد فيها من التكرار والشقلبة إلا النزر اليسير لمرّتين أو لثلاث مرّات لذا تطرّق الشك إليّ وإلا لكنت جزمت.
ولن أتحدث عن الأخطاء اللغوية فهي موجودة في أكثر الاصدارات في هذه الأيام لاسباب كثيرة لا مجال لذكرها.
وقالت نزهة أبو غوش:
الرّمزيّة في سرديّات الكاتب فوسكرجيان
يغلب الطّابع الرّمزي على أُسلوب الكاتب، فنجده قد أنطق الشارع والمدينة وأعمدة الكهرباء والجرائد ولفائف الدّخان والسّاعة والبالطو و.إلى آخره .لقد أسقط الكاتب عواطفه على الأشياء، فجعلها تنطق بحزنه، ووحدته، وغربته، وسخطه، وغضبه.
أرى بأِنّ أُسلوب التّجسيد أو التأنيس هذا قد أضاف بعدا لُغويا وجدانيّا يدخل إِلى قلب القارئ وعقله، ويصوّر له الرّمزيّة الّتي يقيسها بمفهومه الحضاري والثّقافي، وتجربته الانسانيّة الشّخصيّة في الحياة.
إِنّ استخدام (البالطو) الملتصق بجسد الكاتب منذ ولادته هو تمسكّه القويّ وانتمائه القوي لجماعته وأهله بقيمهم وعاداتهم وأُصولهم، فهو غير قادر أبدا أن يتنصّل منها مهما طال به الزّمن.
الجرائد القديمة هي رمز للأحداث والتّاريخ الّذي يكرر نفسه بالمآسي والآلام والسيطرة والعنجهيّة، وسلب الأموال والأملاك، فهو يتمنّى الجديد؛ لأنّه ملّ وكره هذا القديم الجديد المتجدّد.
من خلال رمزيّات الكاتب فورسكرجيان نسمع آهاته وشكواه من الزّمن، فنرى أنّه قد علّقها على عقارب السّاعة القديمة قبل مئة عام، ووجه العجوز المترهّل، تخرج الآهات عبر الدّخان الّذي ينفثه المعطف والسّاعة والجدران الحزينة وجيوب المعطف و….
تظهر نظرة التّشاؤم من خلال رمزيّة السّواد، الاسفلت الأسود، والمطر الأسود، والضباب الأسود وغيرها.؛ أمّا التّفاؤل فقد عبّر عنها من خلال النّافذة الصّغيرة الّتي ضحكت، ومن خلال أعمدة الكهرباء المنتصبة في الشارع، ربّما تضيء يوما ما.
أمّا الخزانة الّتي حُشر بها ثمانية عشر يوما فتدلّ على السّجن الذي فرضه عليه الأعداء.
لقد عبّر الكاتب عن الصّمت وغلق الأفواه والخوف والتّردّد من خلال النّوم ” والحجارة والجدران الّتي تملا شوارع قلبي… نائمة” لم أحاول ولو لمرّة واحدة أن أقول للخبز والماء…لا. ” أين الأحرف اللعينة المزروعة في باحة فمي منذ قرون وقرون…” ص124.
أمّا المطر فهو رمز النّقاء والعطاء والخير والحياة، الكاتب يطلب من محبوبته أو معشوقته المطر مقابل عشقه لها” أنا العشثق.. ومنك المطر” عنوان الكتاب المملوء بالرومانسيّة.
لغة السّرديّات لغة موسيقيّة جميلة يغلب عليها الايقاع الشّعري بتفعيلاته المختلفة ذات الرّتم المحبّب.
أدخل الكاتب نصوصا عامّية جميلة تحمل الحزن والقهر الّذي في داخله؛ لكنّي لم أُحبّذ دخول هذه النّصوص، وأرى انّها دخيلة على السّرديّات باللغة الفصحى.
نسب الكاتب كلماته إِلى ترمذيّ قديم يعشق زوجة أمير البلاد، وعمل عدّة وظائف عالية ومتدنّية، لم أر ضرورة لمثل هذا التّرابط؛ لأنّها لم تضف للنّصوص شيئا حسب رأيي الشخصي.
وكتبت رفيقة عثمان:
يُمكن تصنيف الجنس الأدبي لهذه النصوص، تحت ما يُسمى بالنثر الفني، أو الكتابة الفنيّة؛ بحيث نهج الكاتب في سرد نثري لقصائده المتعدّدة؛ والمتحرّرة من قيود وقوانين القصائد العربية المُقفيّة.
عبّر الكاتب في نثرياته عن خلجات مشاعره المختلفة، بطريقة عفوية دون قيود؛ باستخدامه اللغة الشعرية، والتكرار في الكلمات والجمل مرارصا وتكرارا دون أن يبعث الملل في نفس القارئ، ناهيك عن زركشة نثرياته المحسنات البديعية، وأنسنة الأماكن. كما ورد صفحة 70 ” والمقعد المثير للشفقة، ترتسم ابتسامة بلهاء فوق شفتيه المترهلتين”. صفحة 22 ” الواح خشبيّة مذبوحة من الوريد إلى الوريد”. “قطع طوب ذات عيون جاحظة”، هنالك العديد من هذه الأمثلة؛ التي زادت من جماليات النصوص الفنيّة. استخدم الكاتب لغة التضاد بالصفات مثل: البعيدة والقريبة، القريبة والبعيدة. ضراوة والهدوء.
امتازت لغة النصوص النثرية بالسهولة والوضوح، حيث طوّع الكاتب اللغة الفصحى للتعبير عن نثرياته، ما عدا ثلاث نثريات، عبّر عنها باللهجة العامية؛ علْما بأن اللهجة العامية لم تنتقص من جمالية النصوص، بل العكس هو الصحيح، برأيي هذه النثريات تصلح للغناء والتلحين. تلك القصائد: كما ورد صفحة: يا شتا صفحة 71- 78 ، وصفحة 86 – 96 نثرية “يمّة”، وصفحة 97- 107 نثرية “بدينا”.
ورد خطأ في تكرار نثرية “بدينا” مرتين.
احتوت النثريات الفنية على مضامين مختلفة، ما بين المعاناة ، والعشق، والتغني بالفصول الأربعة؛ الفقر، السجن، المدينة، المطر؛ كافّة هذه المضامين غلبت عليها العاطفة الحزينة، ذات النغم الحزين، كذلك مشاعر الغضب، واليأس، والسوداوية. كما ورد صفحة 42 ” ربما هناك في أحد شوارع قلبي المكتظ بالاشواق.. والأحلام، والأحزان.”، كذلك صفحة 68 “أتطلع اليه بحزن.. ويتطلع الي بنزق”.
اتشحت النثريات باللون الأسود، والذي تكرّر مرارا وتكرارا في النثريات؛ كما ورد صفحة 56 “الملابس السميكة، والاحذية المغرقة في السواد والكثير من الأطعمة”.
جمع الكاتب ما بين السواد والحزن والظلام؛ كما ورد صفحة 81 ” لم يكن هناك مسمار واحد في تلك الخزانة اللعينة.. أعلق عليه .. أحزاني الحزينة. وآهاتي المُغرقة بالسواد. وسخطي الصاخط.. وغضبي الغاضب”. كذلك كما ورد صفحة 96 “وظلام رمادي اللون، يُغرقان سماء المدينة، وحاراتها، وأزقتها، وبيوتها، ومنازلها بسواد فظ لا حدود له”. صفحة 108 ” والأحزان التي ترتدي الثياب البالية”، صفحة 109 ” الذين يصرّون ، أن يرتدوا ملابسهم المُغرقة في السّواد تلك … عشرين سنة أخرى”.
خصّص الكاتب نثرية بعنوان : “إسفلت أسود” 85 ” فصول من العشق والأحزان.. تملأ المكان.. تملأ المكان”. برأيي اتسمت هذه النثرية بالسوداوية والضبابية، والظلام، كلها تعبر عن الأحزان، يشعر القارئ بأن موسيقى صاخبة تلازم هذا النص ذات لحن حزين، كما ورد في نهاية النثرية: “وظلال الغروب الرمادية، تملأ الأفق بترانيمها الوحشيّة” صفحة 83. كذلك صفحة 130 “والرجال الذين يزرعون الغضب الأسود في أرحام نسائهم”.
تكرّرت صفة الصمت في معظم النثريات، والسكون في نهايتها، مما يدل على الغموض والإبهام، لبعض النصوص، والتي من الصعب أن يفهم القارئ القصد الذي يرنو إليه الكاتب. كما ورد صفحة 85 “فمي مغلق بمسامير لعينة”.، صفحة 114 ” أقف جامدا في مكاني، وظلال سوداء تتراقص أمام عيني.”. كذلك صفحة 45 “عيناه صامتتان.شفتاه صامتتان “.
في السرديّة المقدسيّة، استخدم الكاتب بعض التناص الديني، كما ور صفحة 20 ” منذ قرون ونحن نناشد القدر: أن يأتي المطر، وعلى سحاب إن شاء، أو ننتظر وعد الرب لنا كما جاء في كتبه العشر. “اسقط على شعبي يوما، ومن غير السماء، ومن بطون صخور الجبال. بحار وأنهار، وأنهار وبحار من المطر”. كما ورد صفحة 126 ” آه أيها السيد المُخلّص – يُقال أنه منح العذارى الحب والخصب اللذين تتحدث عنهما كتب الآخرين “. كذلك ” وغضبي مصلوب على الجدران الخمسة” صفحة 119.
سخّر الكاتب الظواهر الطبيعيّة؛ إضافة جماليّة أخرى؛ لسرد نصوصه الفنيّة. مثل الأمطار وفصل الشتاء، وكافة فصول السنة، حيث أفرد الكاتب لكل فصل نثرية خاصة به؛ فتتناغم اللغة وجماليات الطبيعة واللحن الحزين، ليؤلف سيمفونيّة موسيقيّة ذات رتم حزين.
في هذه السردية الجميلة، لم يذكر الكاتب اسم المكان والزمان ( الزمنكيّة)؛ لكن من الممكن معرفة المكان، نظرّا لمعرفة انتماء الكاتب، ومكان إقامته هي مدينة القدس: كمكان استوحى منها سرديته المقدسية؛ بينما الزمان تكرّر ذكره بعدّة نثريات هو منذ قرون سابقة، غير محدّدة.
خلاصة القول: سردية ” انا العشق وأنت المطر” للكاتب وليم فوسكرجيان، تعتبر سردية جميلة ، ذات نغم لغوي وموسيقي متناغم؛ عبّرت عن المشاعر الحزينة ، والبؤس، والضجر من الحياة، من خلال أفكار تخص الكاتب لوحده من تجاربه الخاصّة وإبداعه المتفرّد.
على الرغم من معارضة بعض الادباء لهذا الجنس الفنّي من الكتابة؛ إلا أن الكاتب نجح في التعبير الصادق عن مشاعره، كما يعبّر عنها الشعراء.
سردية جديرة بالقراءة والاستمتاع بها، نرجو ان يتحفنا الكاتب وليم بنثريات إبداعيّة أخرى.
وكتب محمود شقير:
سردية مكونة من لوحات عديدة؛ بطلها رجل يعيش في مدينة نعرفها من خلال بعض الإشارات الدالة.
هذه السردية التي كتبها وليم فوسكرجيان تتخفف من التفاصيل الواقعية عبر الاستعانة باللغة الشعرية، وبالتكرار الذي يصيب حينا ولا يصيب حينا اخر.
وثمة استعانة بالفانتازيا التي تلجأ إلى مط الزمن وتكثير الممارسات، وإلى التلميح بدلاً من التصريح. ثمة أخطاء لغوية في النص.
وكتبت رائدة أبو الصوي:
حالة من التمرد طرحها الكاتب بأسلوب جميل، انتقاء كلمات ليست كالكلمات، انطاق الجمادات، سخرية في بعض الأحيان، تكرار لافت لبعض المصطلحات.
موسيقى وانتقاء للسرد
أسلوب الكاتب يصلح للترجمة، القاريء للسردية في أيّ مكان في العالم يشعر بالاستمتاع، حبات البرتقال الشهية، المشاعر الانسانية، الطاقة الايجابية، العلاقات الانسانية تجدها في السردية، بساطة بالسرد وابداع بالأفكار المطروحة .
تطرق للجبال والتلال والهضاب والبحار والأنهار والطرقات والحارات والأزقة والبيوت وأعمدة الكهرباء، حتى صناديق القمامة تطرق لها في السردية بأسلوب راق يدل على أن الكاتب إنسان حساس، لديه ذوق واحترام للقاريء، السردية كقطعة من ماس كلما قرأتها وجدت فيها بريقا جاذبا، تحلق بك في فضاء واسع، فضاء رحب .
نثر حلو عندما كتب عن الشتا
يا شتا ال جاي من البعيد ، وتارك وراك .. أيام وسنين الغربة
الك منا … الساكنين في هالديرة حكايات كثيرة .
عن اللي صاروا مسافرين ولسّه … ما رجعوا .
وفي ص 105 عندما كتب لليل
يا ليل ..
طوّل ع السهرانين ولا تخلي عينيهم تنام .
الفجر … لسّه جاي من السفر .. خليه يرتاح اشوي
الحب والمقت ودقات الساعة والفم المغلق بمسامير ساخنة … وحريق آخر يندلع … في كلّ داخلي .

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات