“أمّ الروبابيكيا” مسرحية رائعة اكتملت فيها شروط النجاح

&

جذب اسم الأديب الكبير الراحل أميل حبيبي الجمهور المقدسي لحضور مسرحية “أم الروبابيكيا” التي عرضت على خشبة المسرح الوطني الفلسطيني في القدس. وإذا كانت وصية إميل حبيبي أن يكتب على شاهد قبره “باق في حيفا” فان نتاجه الأدبي سيبقى شاهدا على مأساة شعبه، وقد كان مسرح الميدان في حيفا على قدر كبير من الذكاء عندما اعتبر”ام الروبابيكيا” اعتبرها هند الباقية في واد النسناس احد اشهر أحياء حيفا، والذي لا يزال يحتضن عائلات عربية فلسطينية بقيت على ارض الوطن، وهذا تزاوج ذكي ما بين الإنسان والمكان، فإميل حبيبي الذي أبدع بطريقة ساخرة في رسم معاناة شعبه ووطنه في نتاجه الأدبي، إنما كان يكتب جزءا من حياته الشخصية كطبيعة الأدباء في كل العالم، إنهم يكتبون جزءاً من شخصيتهم وحياتهم.
لكن البقاء في حيفا هذه المرّة اخذ بعداً آخر ايجابيا عندما تزاوج النص الإبداعي مع فنانة مبدعة هي روضة سليمان، فكبر العمل وكبر البقاء، ليصبح دعوة للبقاء في فلسطين، وليس في حيفا وحدها، وان كانت حيفا هي العروس التي يحن إليها ويعشقها الجميع، ويأخذ هذا العمل المجد من جميع أطرافه، نص مسرحية قوي ، فنانة قديرة تقوم بتمثيله هي روضة سليمان، وموسيقي يملك أدواته الفنية بقدرة واقتدار هو يوسف حبيش، ومخرج مشهود له بالكفاءة هو يوسف ابو وردة.
وتكامل العمل الإبداعي في هذا العمل المسرحي هو الذي دفع بعض المشاهدين إلى طلب إعادة عرضه مرات أخرى، والقدرات الفنية العالية لروضة سليمان هو الذي سيربط اسمها باسم إميل حبيبي في ذهنية المشاهدين المقدسيين، الذين كان منهم من يشاهدونها لأول مرة مثل كاتب هذه السطور.
لقد كانت روضة سليمان اسما على مسمى، فأبكتنا على الوضع المأساوي الذي نعيشه ، وأضحكتنا من رحم مأساتنا، وذلك عندما حملت النص الساخر الذي كتبه الراحل أميل حبيبي إلى خشبة المسرح.
ومسرحية “ام الروبابيكيا” مأخوذة عن قصتين لأميل حبيبي كتبهما بعد حرب حزيران 1967 مباشرة وهما “ام الروبابيكيا” و “النورية” وتتحدث عن امرأة فلسطينية اسمها هند لم تلجأ إلى لبنان مع من لجأوا في النكبة الكبرى عام 1948، وبقيت في بيتها في وادي النسناس في حيفا ، وتدبرت أمور حياتها بما كانت تبيعه من فراش ولحف، وما وقعت يداها عليه من الأثاث والأمتعة العربية المنهوبة، حيث كانت تقوم بإصلاحه بعد أن تحتفظ ” بكنوزها” التي كانت تجدها في الفراش على أمل إعادتها لأصحابها عندما يعودون .
وكانت العودة غير الدائمة على غير المتوقع ، عندما بدأ اللاجئون بعد هزيمة حزيران 1967 يعودون الى وادي النسناس لزيارة بيوتهم التي سكنها غيرهم ، ينظرون إليها من الخارج، يتحسرون، يبكون، ثم يعودون إلى بلاد الغربة، إلا أن بيت هند الذي بقي مفتوحا لمن بقوا في وادي النسناس لم يطرق بابه احد.
وهند التي ظن بها الناس الظنون وهي تنتظر زوجها وأبناءها تكشف عن حب قديم بينها وبين احد الباقين، إلا أنها لم تجرؤ على البوح له بحبها، وهي تستعيد ذكريات طفولتها وصباها في واد النسناس .
وهذا العمل هو الوجه الآخر لرائعة الأديب المرحوم غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا”
كان الراحل أميل حبيبي موسوعي المعرفة والإطلاع على التراث الأدبي العربي، وأكثر ما تأثر به هو “رسالة الغفران” وصاحبها أبو العلاء المعري، التي قرأها حبيبي عشرات المرات كما صرح بذلك أكثر من مرة ، وقد كان التأثر واضحا في إبداعاته، ومنها هذا العمل المسرحي، كما أن أميل حبيبي يملك ثقافة شعبية واسعة أيضا انعكست في هذا العمل أيضا، فهند وهي تستعيد ذكريات طفولتها وصباها، رددت عدداً من الاغاني الشعبية التي يرددها اطفال فلسطين، كما استعملت بعض التعابير والاقوال الشعبية، ومن هنا جاء الخلط ما بين العامية والفصحى في مسرحية ” ام الروبابيكيا”
ولشدة تأثر الفنانة روضة سليمان بشخصية اميل حبيبي، فقد جعلتني انا المشاهد أرى اميل حبيبي على خشبة المسرح، حيث اندمجت في شخصيته فقامت بتقديم حركاته وطريقة جلوسه وطريقة حديثه بفنية عالية، فسخرت من قمة المأساة، وبكت كثيراً في محاكاة للشاعرة العربية المخضرمة في عصري الجاهلية وصدر الاسلام، جسدت شخصية الخنساء التي بكت شقيقيها صخر ومعاوية اللذين قتلا في الجاهلية وأبناءها الأربعة في الإسلام، لكنها بقيت تبكي أخاها صخراً حتى ماتت. لقد أجادت روضة سليمان السخرية كما أجادت البكاء، ساعدها في ذلك الإيقاع الموسيقي المتناغم والمحسوب بشكل دقيق ليناسب حركاتها وصوتها على خشبة المسرح، لقد كانت قدرتها واضحة أيضا في استعمال لغة الجسد، كما ان الديكور الذي اوحى بحي وادي النسناس في حيفا ، التي خلعت أبواب بيوته ونهب اثاثها ومتاعها في نكبة العام 1948.
وكان للإضاءة دور في نجاح المسرحية ، وتأثيراتها كانت واضحة ولافتة بشكل واضح، فمثلا عندما طرقت احد الابواب سائلة عمن في داخل البيت ارتفعت الإضاءة من خلف الباب الملقى على الارض.
ويؤخذ على هذه المسرحية بداية دخول الممثلة الى خشبة المسرح ، فلم تكن موفقة، ولو انها جلست على الخشبة لكان الوضع اكثر نجاحا.
وهذه المسرحية تجيب على السؤال الذي يقول ” اين جمهور المسرح ” ؟ ؟ والجواب اعطني مسرحا جيدا وخذ تواجداً وحضوراً جماهيريا واسعا ومكثفا، فكل التحية للقائمين على هذا العمل الرائع وفي مقدمتهم الفنانة روضة سليمان، والموسيقي يوسف حبيش،والمخرج يوسف ابو وردة وعلى امل اللقاء بهم في عروض أخرى، وفي اعمال اخرى، والرحمة كل الرحمة على روح اميل حبيبي .

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات