جميل السلحوت
لوحة الغلاف: للفنّان التشكيليّ محمد نصر الله
منشورات مكتبة كل شيء –حيفا 2018.
ملاحظة: هذه الرّواية محض خيال، وكلّ الأسماء الواردة فيها خياليّة، وإذا تشابهت مع أسماء موجودة على أرض الواقع فهي محض صدفة.
كما يجدر التّنويه أنّ اللهجة المحكيّة، أسماء الأعلام والكنية لم تخضع لقواعد اللغة.
أمضى عامين خلف الأبواب المغلقة، التهم فيها ما تيسّر له من كتب، فقد رأى الكتاب خير جليس له، لم يكن انعزاليّا ولا انطوائيّا، بل العكس هو الصّحيح، فقد كانت البسمة تعلو محيّاه بطريقة لافتة، يشارك في النّقاشات التي تدور بين الأسرى، يعزّي نفسه بأنّ سنتين من عمره ضريبة بسيطة يدفعها للوطن، وشعاره الذي لم يبح به لأحد كان: “من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته.” فكثير من الأسرى محكومون مؤبّدات وسنوات طويلة، ولا يزدادون إلا عنفوانا.
عندما أطلق سراحه من سجن شطّة غربيّ مدينة بيسان، وجد والدته، شقيقيه، شقيقته، وبضعة أشخاص من بلدته في انتظاره عند باب السّجن، تسابقوا لاحتضانه، وتقبيل وجنتيه، انزوت والدته وشقيقته خلفهم، الوالدة المسنّة بقيت جالسة على الأرض، وشقيقته تقف بجانبها، كانت أمنيته أن يقبّل يدي والدته ووجنتيها، أن يضمّها وتضمّه قبل الآخرين، لكنّه لم يستطع ذلك، فقد سبقها الشّباب إليه، شكّلوا حاجزا بينه وبينها، حتّى صافحهم جميعهم، أمسك شقيقه حاتم يده اليمنى وقاده إلى حيث تجلس الوالدة، عندما رأى سهيل والدته، ترك يد أخيه وانطلق كالسّهم إليها، تصدّت له شقيقته فاطمة، واحتضنته، بلّلت دموع الفرح التي تساقطت من عينيها وجنتيه، أفلت منها، ركع أمام والدته التي فتحت يديها لتضمّه إلى صدرها، أمسك يدها اليمنى وقبّلها، فأحنت رأسها على رأسه، تقبّل جمجمته، تشمّ رائحته، رفع رأسه، أحاط رقبتها بيديه وتبادلا القبلات على الوجنتين، ويداها تحيطان بكتفيه، وهو يردّد:
– كيف حالك يمّه؟
– الله يرضى عليك يا سهيل يمّه، كيفك يا حبيبي؟
– أنا بخير يمّه، أريد رضاك ورضا الوالد، أين الوالد؟
أمسك يد والدته اليمنى يعينها على الوقوف، في حين أمسك حاتم تحت إبطها الأيسر، استقلّوا السّيّارات في طريقهم إلى قريتهم بيت حنينا، جلس بجانب والدته في المقعد الخلفيّ للسّيارة، في حين جلست شقيقته فاطمة بجانب شقيقها حاتم الذي يقود السّيارة، عادوا عبر طريق الأغوار، مرّوا بقناة للمياه قريبة من الشّارع، منظر لفت انتباههم جميعهم، فسألت فاطمة:
– من أين تأتي مياه هذه القناة؟
حاتم: هذه من نبع السّخنة القريب من هنا، وأشار إلى الجهة الغربيّة.
قال سهيل:
– لا تتوقّف يا حاتم إلا باب بيتنا في بيت حنينا، فأنا مشتاق للوالد.
حاتم: إن شاء الله.
تنهّدت أمّ حاتم وقالت: أبوك في مستشفى “المطّلع” يمّه يا سهيل، سنتوجّه إليه فورا قبل أن نصل البيت، فهو ينتظرك بشوق كبير.
بهت حاتم وسأل بلهفة:
– ماذا قلتِ؟ أبي في المستشفى؟ منذ متى؟ ومِمّ يعاني؟
حاتم: مشكلة صحّيّة بسيطة، عنده التهاب رئويّ، دخل المستشفى أوّل أمس.
سهيل بلهجة حزينة: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
مدّت أمّ حاتم يدها اليسرى، طوّقت بها رقبة سهيل، لم تشبع من تقبيل خدّيه، وهي تقول: لا تخف يا ولدي أبوك بخير، وسيتحرّر من المستشفى قبل نهاية هذا الأسبوع.
فاطمة: ما هي أخبار من تركتهم خلفك يا سهيل؟
سهيل: كيف تكون أوضاع من في السّجون، زفت والحمد لله؟
أمّ حاتم: ربنا يفرج عن الجميع، ويا ربّي أمهاتهم يفرحن برؤيتهم كما فرحت برؤيتك، وإن شاء الله بعد ما تستريح سنفرح بزفافك، والله يمّه إنّي باحلم ليل نهار أشوف اولادك.
ضحك سهيل وقال: الزّواج ليس سباقا يمّه.
قال حاتم باسما: عين أمّك على مديحة بنت خالتك تريدها زوجة لك.
سهيل: أنا لن أتزوّج قبل أن أنهي دراستي الجامعيّة.
ضحكت شقيقته فاطمة وقالت: هذا الصّحيح.
لكزتها أمّها على رأسها وهي تقول:
– أنت لا دخل لك.
ردّت فاطمة: كيف لا دخل لي؟ وهل أنا أتكلّم عن زواج شخص غريب؟ يكفي، أنا زوجتموني ومنعتموني من استكمال دراستي الجامعيّة؟
ينظر سهيل أمامه وإلى الجبال التي تحيط بالأغوار من الجهة الغربيّة، لم ينس النّظر إلى الجبال الشّرقيّة، مرتفعات مدينة السّلط الأردنيّة، في انثناءة الشّارع رأى نهر الأردنّ ينساب بانحناءة مدهشة، التهم المنظر البديع وتساءل:
أين تذهب مياه النّهر فهو يبدو كسيل مياه عاديّ؟
تنحنح حاتم وقال:
– تسحب إسرائيل مياه النّهر إلى النّقب، ألا تعلم ذلك؟
لم يجب سهيل فعيناه تبتلعان منظر الأغوار، رأى مزارعين أردنيّين يعملون في حقولهم في الجانب الشّرقيّ من النّهر، انتبه لوجود نقطة مراقبة لجنود أردنيّين تربض على تلّة مرتفعة، لم يتكلّم شيئا فجمال المنطقة يأسره، شعر بغصّة تخنقه وهو يرى الأرض ما بين الشّارع والنّهر لا حياة فيها، فهو يعلم أنّ هذه الأرض مغلقة في وجوه أصحابها منذ الاحتلال. انتعش عندما رأى الخضروات والأشجار في منطقة وادي الفارعة تتواصل حتّى مدينة أريحا، سألته والدته:
بِمَ تفكّر يا بنيّ؟
– لا أفكّر بشيء يمّه، لكنّني أمعن النّظر بجمال الطّبيعة في بلادنا، يا إلهي كم هي جميلة!
قال حاتم: بعد أن ترتاح سأصطحبك بجولة نزور خلالها بلادنا كلّها.
ابتسمت فاطمة وسألت:
– هل ستصطحبونني معكم؟
ضحك سهيل وقال:
– أنت وزوجك وابنك، والوالدة والوالد ستكونون في المقدّمة.
ضحكت أمّ حاتم وقالت:
– الله يرضى عليكم، احنا راحت علينا، ما عدنا قادرين على مشقّة السّفر.
أمسك سهيل يدها وقبّلها وهو يقول:
– ربنا يعطيكم الصّحة، لا تزالان شابّين أنت والوالد.
– الله يرضى عليكم، مش رايحين ناخذ دورنا ودور غيرنا، ويا ربّ حسن الختام.
سألت فاطمة: ما الذي يعجبك في هذا الغور يا سهيل؟
سهيل مستغربا: ألا ترين شيئا من هذا الجمال العديد؟
فاطمة: أنا لا أسأل عن نفسي، ولكنّني أسألك عمّا يلفت انتباهك أنت بعد سنتين قضيتهما بين جدران صمّاء؟
سهيل: المرء لا يعرف قيمة الشّيء إلا بعد أن يفقده، والأسرى يفتقدون الأشياء كلّها، قد تستغربون إذا قلت لكم بأنّ التّراب والحجارة والصّخور وكلّ مكوّنات الطبيعة جميلة جدّا، يا إلهي كم كنت أشتاق أن أمدّ نظري في السّهول والبطاح؛ لأرى الطّبيعة، حتّى التّراب جميل، والله لو أنّه يؤكل لأكلت منه حتّى الشّبع، من كثرة ما اشتهيت رؤيته ودوسه بقدمين حافيتين، لكّنّني آكله بعينيّ، ولا أشبع منه.
مدّت أمّ حاتم يدها تتحسّس جبين سهيل، وهي تبسمل وتحوقل، رآها حاتم بمرآة السّيّارة، وضحك عندما سمعها تسأل سهيل:
– هل أنت بخير يا ولدي؟
سهيل: أنا بألف خير وأنت بجانبي يمّه.
ضحكت فاطمة التي كانت تدير وجهها إلى الخلف؛ لتشبع ناظريها من شقيقها سهيل، وقالت:
وحّدي الله يمّه.
– لا إله إلا الله.
سأل سهيل مندهشا: لماذا تضحكين يا فاطمة؟
أمّ حاتم: اتركها يا ولدي، فهذا جيل والعياذ بالله منه.
عادت فاطمة تسأل حاتم:
– هل تعرف لماذا تتحسّس أمّك جبين سهيل؟
حاتم: اتركيها يا فاطمة، فهي تشتاقه كما تشتاقين طفلك، وهذا حقّها.
فاطمة تضحك قهقهة وتقول:
– لا علاقة للأشواق بذلك.
سهيل: اتركيها وشأنها يا فاطمة، فقد أتعبناها كثيرا، ونسأل الله أن نستطيع ردّ بعض فضائلها علينا.
فاطمة: تتحسّس جبينك؛ لتتأكّد إن كانت عندك حرارة أم لا، بعد أن سمعتك تتكلّم عن أكل التّراب بالعينين، وهي تريد أن تطمئنّ على صحّة قواك العقليّة!
انفرط حاتم وسهيل ضاحكين ممّا قالته فاطمة. التفت سهيل إلى والدته ضاحكا؛ ليسألها عن صحّة ما قالته فاطمة، فوجدها قد أسندت رأسها على حافّة المقعد الخلفيّ العليا وغفت، قبّل يدها اليسرى التي كانت بيده اليمنى، وضعها بلطف على المقعد، ابتعد عنها كي لا يزعجها اذا ما تحرّكت، وقال لأخويه:
– اتركا الوالدة بحالها فقد غفت تعبة.
الشّباب المرافقون في السّيّارة الأخرى الذين شاركوا في استقبال سهيل عند بوّابة السّجن، يغنّون بأصوات عالية، يقودون سيّارتهم بسرعة فائقة، ثمّ ينتظرون على الرّصيف حتّى يلحق بهم حاتم، قالت أمّ حاتم:
– الله يرضى عليك يمّه قل لهم يخفّفوا السّرعة، بلاش يحصل شي نندم عليه لا سمح الله.
عند مدخل العوجا من الشّمال توقّفت سيّارة الشّباب، نزل منها مسعود، أشار لحاتم بالتّوقّف وقال:
– سيروا خلفي، لا تحاول أن تتجاوزني يا حاتم، في شارع المنتزهات، توقّف حيث أقف، وذلك لأمر هامّ، وعاد إلى سيّارته قبل أن يسمع الجواب.
قالت فاطمة: اللهمّ اجعله خيرا.
حاتم: لا تخافي، لا يوجد ما يقلق.
استيقظت أمّ حاتم من غفوتها وسألت:
– وين وصلنا يا اولاد.
حاتم: نحن على مرمى حجر من أريحا.
التفتت إلى سهيل وسألته:
– وين سارح يمّه؟
سهيل ضاحكا: أنا سارح في بحر حبّك يمّه.
قالت فاطمة مازحة:
– احذر الغرق، فقلب الأمّ أكبر من بحار الكرة الأرضيّة.
حاتم: الغوص لاستخراج لآلئ حنان الأمّ سيبوء بالفشل.
سألت أمّ حاتم: شو جاب البحر على بالكم يا اولاد؟
فاطمة: أنت يا أمّي.
أمّ حاتم مستنكرة: أنا؟ يا عيب الشّوم، والله في حياتي ما وقّفت عند شطّ البحر إلا مرّة وحيدة، يوم تزوّجنا أخذني -أبوكم الله يشفيه- على بحر يافا، واتغدّينا سمك، وبعدها راحت البلاد وراح البحر معها.
ضحكت فاطمة وقالت:
– لا تحلفي بالله يمّه، هل نسيتِ عندما ذهبنا سويّة إلى “عين الفشخة” وسبح الأولاد في البحر الميّت، ويومئذ أنت جلست على الشّاطئ ووضعت قدميك فيه؟
أمّ حاتم: البحر الميّت يمّه مش بحر، هذا بركة كبيرة، البحر المزبوط بحر يافا، الله يرحم أيّام العزّ.
انقطع حديثهم عن البحر عندما توقّف حاتم خلف سيّارة مسعود في شارع المنتزهات في أريحا.
نزل مسعود وصحبه من سيّارتهم، ونزل حاتم وسهيل أيضا، اتّجه سهيل إلى شجرة زنزلخت معمّرة، احتضن ساقها الضخم كعاشق يحتضن حبيبته، التفت إليه المارّة دون أن يقول أحد منهم شيئا، سائحة أجنبيّة التقطت له صورة، انتبهت له أمّه فنادت حاتم وقالت له:
– دير بالك ع أخوك، الولد عقله “مزموع”.
ضحك حاتم وقال: لا تخافي عليه يمّه.
اقترب مسعود من فاطمة وأمّ حاتم، فتح لهما أبواب السّيّارة لتنزلا، مدّ يده لأمّ حاتم وهو يقول:
– هات يدك يمّه لأساعدك على النّزول.
– خليني مرتاحه يمّه.
– سنرتاح هنا قليلا وبعدها سنغادر.
أشار إلى الجميع بأن يدخلوا إلى المنتزه؛ ليتناولوا طعام الغداء.
حاول حاتم وسهيل أن يثنياه عن مراده، إلا أنّه أقسم أغلظ الأيمان بأن لا يسمح لهم بالتّحرّك قبل أن يتناولوا طعام الغداء.
جلسوا جميعهم على طاولتين ضمّهما لهم النّادل حتى أصبحتا كطاولة واحدة. طلب مسعود من النّادل أن يأتيهم بأطباق من مختلف السّلطات المتوفّرة، وأن يجهّز لهم ما يكفي من المشاوي.
انتبه سهيل إلى أنّ غالبية زبائن المنتزه من اليهود، كلّ أسرة تجلس على طاولة منفردة، أطفالهم يلعبون داخل المنتزه، الشّارع أيضا يعجّ بالسّيّاح اليهود، تنهّد ولم يتكلّم شيئا، الحزن يعتصر قلبه، فهؤلاء الغرباء شرّدوا شعبنا، احتلّوا بلادنا ويتجوّلون فيها كيفما يشاؤون.
اقترب من الطّاولة طفل يهوديّ لا يتجاوز عمره الثّالثة، ابتسم لسهيل فاحتضنه، وأشار إليه بأن يأخذ ما يشاء من الطّاولة وهو يقول:
– يا إلهي ما أجمل براءة الأطفال!
التقط الطّفل ورقة خسّ وقضمها، وهو يحاول النّزول للعودة إلى والديه، التفتت والدة الطّفل إلى سهيل وقالت باسمة وهي ترفع كأسها:
– شكرا لك. هل تشرب معنا كأس ويسكي بصحّتك؟
– شكرا لك، أنا لا أشرب الخمور.
آسفة قالت له وزوجها يهمس لها:
– المسلمون لا يشربون الخمور.
ردّت عليه: كيف لا يشربونها. انظر إلى تلك الطاولة، الزّوج يشرب الويسكي، زوجته تشرب الكولا، وأطفاله يشربون العصير.
– هم أحرار فيما يشربون، فليس من حقّ أحد على أحد أن يفرض عليه شيئا.
التفت إليه مسعود وسأله بالعبريّة:
– وهل أنتم أحرار في فرض احتلالكم علينا؟
ردّت عليه الزّوجة:
– نحن لا دخل لنا بالسّياسة، وكل ما نريده هو أن نعيش ونربّي أبناءنا بسلام.
سهيل: دعك يا مسعود من هذا النّقاش السّفسطائيّ، فقد يكونون هم أنفسهم ضحايا للأكاذيب.
أحضر النّادل صحنين كبيرين من الشّواء، وضع مسعود كمّيّة من “الشّقف، الكباب ونصف دجاجة مشويّة” في الصّحن أمام سهيل، ومثلها أمام أمّ حاتم وفاطمة، وهو يقول:
– أهلا وسهلا بالجميع.
قال سهيل: لا شهيّة لي، فقد تناولت ما استطعت من السّلطات.
وقالت أمّ حاتم: هذا كثير يمّه، وين نحطّه؟
فقال لها مسعود: كلي ما تستطيعين يمّه، ألف صحّة وعافية.
تناولت باصبعيها السّبّابة والابهام قطعة كباب، وضعتها في فمها، ثمّ تناولت رغيفا “كماجه” وفتحته، عبّأته بالشّواء، وضعته على جانب من الطّاولة، وعادت تأكل من الصّحن، همست لها ابنتها فاطمة تسأل:
– لمن تريدين هذا الرّغيف يا أمّي؟
– هذا لابوك يمّه، الله العليم إن طعام المستشفى لا يكفيه.
ضحك حاتم وقال:
– “ما يحنّ ع العود إلا قشره” يمّه، لا تخافي على الوالد، فقد أوصيت النّادل أن يعدّ له طبقا من المشاوي بدون بهارات.
مسعود: أمّ حاتم معها حق، و” اللي ما له قديم ما له جديد”.
ألحّوا على سهيل كي يستزيد من الشّواء، لكنّه لم يأكل سوى قطعة كباب، وقطعة لحم صغيرة، ومثلها من الدّجاج، فقال لهم:
– أخشى من عواقب هذا الطّعام على معدتي، فمنذ عامين لم أتذوّفه.
قالت فاطمة: لا تجبروه على شيء فهو أدرى بمصلحته.
قام سهيل عن المائدة، غسل يديه في الحمّام، ذهب إلى الحديقة الخلفيّة للمنتزه، شرع يتحسّس أشجار الحمضيّات، يلتفت إلى الجهات الأربعـة، استقرّ نظره على دير قرنطل، الذي يقع في حضن جبل التّجربة، أثار منظر الدّير فيه أشجانا دون أن يعلم “أنّ المسيح -عليه السّلام- قضى 40 يوما وليلة صائما متعبّدا في هذا المكان، حيث اعتكف في هذا الجبل، ولحقه الشّيطان – كما ذكر إنجيل لوقا- وفي هذا المكان قال المسيح للشّيطان: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.”
” تمَّ بناء الدّير فوق الكهف الذي أقام فيه المسيح -عليه السّلام-، واْوّل من فكّر في المحافظة على قدسية المكان الملكة هيلانة، حيث أقامت عليه تشييدا قديما منذ عام 325 للميلاد.
تأسّس هذا الدّير على يد الأرشمندريت افراميوس سنة 1892م، ثم جُدّد عدّة مرّات، لتصعد إلى هذا الدّير هناك طريق واحد، وهو ممرّ شديد الانحدار وصعب تسلّقه، ويوجد حوالي (30-40) كهفا على المنحدرات الشّرقيّة للجبل سبق أن سكنها الرّهبان والنّساك في سنوات الاضطهاد، التي تعرّض لها المسيحيّون، وأمّا الدّير فيبدو وكأنة مُعلّق بالهواء.”
هذه ليست المرّة الأولى التي يرى فيها سهيل دير قرنطل، فقد سبق أن زاره مرّتين ضمن رحلات مدرسيّة وهو طالب في الثّانويّة، لكن هذه هي المرّة الأولى التي يندهش فيها برؤية ذلك المكان، ندم على أنّه لم ينتبه في حينه لما قاله المدرّس عن تاريخ هذا الدّير، ذهل من انحدار الجبل الذي يكاد يكون واقفا بشكل شبه عموديّ، ومن تآكل الصّخور عند مجرى سيل الماء، الذي تأتي مياهه شتاء من الأمطار التي تتساقط على بعض قرى شرق مدينتي رام الله والبيرة، وتواصل جريانها إلى البحر الميّت، منظر الصّخور الصّوّانيّة الورديّة يأسر الألباب.
تمنّى لو كانت بحوزته “كاميرا” ليلتقط صورا لهذا المنظر البديع، اتّخذ قرارا في سرّه بأن يزور الدّير في قادم الأيّام.
صحا على نفسه عندما قال له حاتم:
هيّا بنا يا سهيل.
– إلى أين؟
– إلى مستشفى أوغستا فكتوريا “المطّلع” لزيارة الوالد، ومن هناك إلى البيت، فالأهل والأصدقاء ينتظرون وصولك.
عند الحاجز العسكريّ المقام على مدخل مدينة أريحا أوقفهم الجنود لفحص الهويّات، بقيت بطاقة سهيل محجوزة عند المخابرات، كلّ ما يملكه هو ورقة صغيرة من سجن شطّة، مكتوب فيها اسمه ورقم هويّته، وورقة أخرى لمراجعة شرطة المسكوبيّة في القدس في اليوم التّالي. قرأ جندي ورقة سهيل وسأل:
– ليش كنتِ مسجون؟
– لا أعرف.
– كم يوم كنتِ في السّجن؟
– منذ عامين.
– سنتين وما بعرف ليش؟ انزلي من سيّاغه “السّيّارة”.
ترجّل سهيل من السّيّارة، جمعت والدته قواها، نزلت هي الأخرى وهي تقول: الله يلعن أبوكم وأبو اليوم اللي شفناكم فيه، شو بدكم من الولد؟
صاح بها الجنديّ: أنتَ حجّه لازم برجع سيّاره، ممنوع ينزل إنتَ.
لحقت بسهيل وهي تقول للجنديّ:
– إن شاء الله بتنزل عليك سخطه من ربنا تسخطك وتسخط اللي خلّفوك.
حاول جنديّ آخر إعادتها إلى السّيارة بالقوّة، لكن الضّابط زجره، وهو يسأل بالعبريّة عمّا يحدث، ولمّا عرف الحقيقة من الجنديّ قال له:
– اتركهم يذهبون، لو بقيت عليه مشاكل لما أخرجوه من السّجن.
عادا إلى السّيّارة وأمّ حاتم ترجمهم بلعناتها، وتستغفر ربّها.
سهيل يدرك تماما أنّه خرج من السّجن الصّغير إلى سجن كبير، وأنّ سنين عجافا تنتظر شعبه، تقادحت عيناه شررا وهو يتململ في مقعد السّيّارة، تذكّر زملاءه الذين تركهم خلف الأبواب المغلقة وسط لهيب جوّ لا يرحم صيفا، وبرد قارس شتاء، لا توجد أغطية كافية، ولا ملابس تقي من عوامل الطّقس، عدا عن البعّوض الذي يمصّ دماءهم، ويقض مضاجعهم ليلا، كأنّه يتبادل الأدوار مع الذّباب الذي يهاجمهم نهارا. لا بأس بيوم كهذا، بالتأكيد فإنّه لا بدّ لهذا الليل من آخر، وستعود المياه إلى مجاريها.
دخل القلق إلى عقل أمّ حاتم، كأنّه يحاول سرقة فرحتها بتحرير سهيل، تململت في مكانها وهي تعدّ خرزات مسبحتها مُسبّحة محوقلة، وإذا بها فجأة تقول بصوت مسموع:
– والله خايفه يظلّوا دايرين ورا هالولد.
ضحك حاتم وسألها:
– حسبتك نائمة يمّه، ماذا تقولين؟
تجاهلت سؤاله وقالت بصوت خافت وكأنّها تخاطب نفسها:
– “حسبي الله على الظّلام واولاد الحرام”.
أمسك سهيل يدها وقبّلها وهو يقول:
– توكّلي على الله يمّه، و”لا تحسبي حسابا لأحد.”
– والله يمّه هذول “اولاد حرام لا بناموا ولا بخلّوا النّاس تنام.”
التفتت إليها فاطمة وقالت:
– ارتاحي يمّه، لا تخافي على سهيل، لو أنّهم يريدون منه شيئا لما أطلقوا سراحه.
أمّ حاتم: من وين تيجي الرّاحة يمّه، “ابن الحيّة ما بنحط في العبّ.”
في مستشفى “المطّلع” كان أبو حاتم يتمشّى في حديقة المستشفى، في انتظار وصول سهيل، احتضنه عندما وصلوا، جلسوا على مقعد خشبيّ في حديقة المستشفى، جاءت ممرّضة، طلبت من أبي حاتم أن يذهب معها إلى قسم الأشعّة، حيث ينتظره الطّبيب المختصّ، التفت أبو حاتم إليهم وقال:
عودوا إلى البيت الآن، فهناك كثيرون ينتظرون وصولكم منذ ساعات الصّباح، أنا بخير وسأتحرّر من المستشفى غدا صباحا كما قال الطّبيب.
في مفترق الطّرق الذي يصل إلى بيت حنينا القديمة غربا، وإلى قرية حزما شرقا، أقام عشرات الشّبّان حفلا كما الأعراس، منذ ساعات الصّباح الأولى، يرقصون، يهزجون يغنّون فرحين بتحرير سهيل، النّساء اتّخذن طريق دار المعلّمين الجانبيّ مكانا لهنّ، المسنّات منهنّ يجلسن على الأرض تحت أشجار السّرو، كلّ بضع دقائق تهاهي إحداهنّ بأعلى صوتها، وعندما تنهي مقطوعتها تنطلق الزّغاريد من عشرات النّساء الأخريات، وممّا قالته الحاجّة زعرورة خالة سهيل:
هاي يا سهيل يا اسمراني عيّروني فيك
هاي ويا كل ما عيّروني زاد حبّي فيك
هاي ولاركب جواد الخيل واسرى فيك
هاي ويا ع ضو قمره وما خللي الجار يدرى فيك
——–
هيه يا مرحبا يا عزازي
هيه ويا ميتين حمرا تزازي
هيه يا واللي ما تفرح لطلّة سهيل
هيه ويا تنكسر كسر القزاز
الصّبايا يرتدين أجمل الفساتين، شعورهنّ تتدلّى بتسريحات مختلفة، كلّ واحدة منهنّ تريد أن تنفرد بتسريحة شعر تميّزها عن الأخريات، كريمات التّجميل كانت لافتة على وجوههنّ، يرقصن ويغنّين. بعض الشّباب يسترق النّظر إليهنّ عندما يمرّون قريبا منهنّ، وهنّ أيضا يرقصن رقصات على ألحان أغان تنطلق من مسجّلات اصطحبها عدد منهنّ، تتعمّد بعض العزباوات منهنّ، الرّقص إذا ما مرّ شابّ أعزب، بعض المسنّات ينهرن بدلع قريباتهنّ من الصّبايا؛ كي يحتشمن قليلا في الرّقص، ليس من باب الحياء بمقدار ما يرغبن بلفت انتباه أمّهات وقريبات الشّباب العازبين، كي ينتبهن لجمال بناتهنّ، على أمل أن يقع النّصيب بالزّواج.
عندما مرّت دورية عسكريّة من الشّارع توقّفت قريبا من الشّباب، أحد الشّباب يعزف على الأرغول لحنا شجيّا، وقف شاب بجانبه، وغنّى بلحن شجيّ:
ما بتحلى الدّبكة ولا الغنّيّة
الا بتحرير الأرض العربيّة
وما بننسى الضّفّة وغزّه الأبية
والقدس ديرتنا ونور العيونا
مجموعة من الشّباب تلتفّ حوله بشكل دائريّ، يدبكون دبكات شعبيّة منتظمة، ترجّل ضابط يجيد العربيّة، لكنّه كما يبدو لم يسمع كلمات الأغنية جيّدا، أو ربّما فهمها وتجاهل ذلك، اقترب من الشّباب وقال:
– مبروك عرسكم، لكن ممنوع عليكم الاقتراب من الشّارع، وتعطيل حركة السّير.
ردّ عليه أحدهم:
– لا تخف، نحن لا نرقص في الشّارع.
انصرف الجنديّ وعاد إلى السّيّارة حيث كان، بقيت الدّوريّة واقفة، وكأنّ الجنود قد استطابوا هذه الرّقصات والدّبكات الشّعبيّة. لم ينصرفوا إلا بعد ما يزيد على ربع ساعة.
شيوخ البلدة يجلسون تحت أشجار التّين والزّيتون التي تحيط ببيت أسرة سهيل، ينتظرون وصوله. طال انتظارهم فقد تجمّعوا منذ العاشرة صباحا، بعضهم غفا مسندا ظهره على جذع شجرة زيتون معمّرة، والبعض الآخر تمدّد متكئا على كوعه، تبادلوا الأحاديث عن أيّام زمان، وعن ذكريات مرحلة الشّباب، بعضهم لعبوا “السّيجة”، ومن أرهقه الانتظار منهم، توسّد حجرا وغفا متدثّرا بعباءته، بعد العصر قال المختار أبو عيسى:
– يا خوفي انهم ما أطلقوا سراحه.
ردّ عليه أبو عطا وهو يسند ظهره إلى جذع زيتونة معمّرة:
– فال الله ولا فالك يا رجل.
تنحنح أبو محمّد وقال:
– هؤلاء يتعمّدون إذلال البشر، فربمّا لن يطلقوا سراحه قبل الغروب.
عاد أبو عطا وقال: أبو حاتم في المستشفى، وأكيد راحوا يزوروه، فمن غير المعقول أن يصلوا هنا قبل أن يشاهد سهيل أباه في المستشفى.
المختار أبو عيسى: والله جبتها يا أبو عطا، هذي غابت عنّي.
في هذه الأثناء وصل سهيل ومن معه مفترق الطريق الرّئيس، فقال حاتم:
ما رأيكم أن نواصل سيرنا حتّى البيت، وسيلحق بنا الشّباب.
فقالت أمّه: عيب يمّه، كيف نتركهم وهم قد أمضوا يومهم ينتظرون أخاك للسّلام عليه؟
اقتنع حاتم بما قالته أمّه فتوقّف، نزل سهيل من السّيارة بصعوبة، فقد التفّ الشّباب حول السّيّارة كلّ منهم يريد احتضانه، حملوه على الأكتاف وساروا به غربا باتّجاه البيت، هاهت الحاجّة زعرورة:
آه ويا مرحبا من طلّ
آه ويا زي الهلال ولا هلّ
آه ويا خلّوا اعداهم وراهم
آه ويا زي الورق ع التّل
أنزلوه حيث تقف النّساء على رصيف الشّارع، صافحهنّ جميعهنّ، المسنّات أخذنه بالأحضان، وقبّلت كلّ منهنّ وجنتيه، أمّا الصّبايا فبعض القريبات منهنّ قبّلنه قبلات أخويّة، في حين اكتفى البعض الآخر منهنّ بالمصافحة يدا بيد.
مشت النّساء خلف الرّجال، وسهيل في المقدّمة محمولا على الأكتاف، كانت زفّة عريس كاملة.
الشّباب يغنّون ويرقصون، النّساء خلفهم يغنّين، يهاهين، يزغردن، وشابّة تضرب بيديها على الطّبلة “الدّربكّة”. سهيل يدور بعينيه وكأنّه يرى المنطقة للمرّة الأولى، يريد استكشافها، رأى جمال الطّبيعة الذي لم ينتبه له من قبل، عقله مشتّت تجوبه أفكار كثيرة، لم يستسغ أن يحمله الشّباب على أكتافهم، رجاهم أن يتركوه يمشي بينهم ومعهم، لكنّ رجاءه كان مجرّد صرخة في الفضاء، لم يتوقّع أن يحظى بهذا الاستقبال، كان تعبا مرهقا، علت وجهه تكشيرة عندما تذكّر ما قاله له نمر الموسى زميله في الأسر، فقد قال له:
لا تنس أن تأكل حبّة تين خضريّ باسمي، اقطفها بيدك عن الشّجرة، ضعها في فمك وأنت تقول: حبّة التّين هذه آكلها نيابة عن نمر الموسى.
وتذكّر ما قاله داود العلي:
سلّم على المسجد الأقصى وادع ربّنا قائلا:
اللهمّ لا تحرمنا صلاة في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين.
انتبه له مسعود فسأله:
– لماذا لا تصفّق وتضحك وتغنّي كما الآخرين؟
لم يجب ولسانه حاله يقول:
” والذي في القلب” في القلب”. والله يعلم ما في الصّدور.
عندما وصلوا الوادي على طرف القرية من جهة الشّرق فاجأتهم دوريّة عسكريّة، توقّفت في الشّارع، نزل منها الجنود، اعتلوا السّلسلة الحجريّة القريبة التي تعلو الشارع من الجهة الشّماليّة، أسلحتهم مشرعة وجاهزة للإطلاق، انتبه لذلك مسعود، فتقدّم المسيرة، طلب من الشّباب أن يعزفوا عن الأغاني الوطنيّة وأن يردّدوا خلفه، وشرع يدبك ويغنّي:
أرنبنا اسم الله عليه نايم ومسبل ذينيه
جابر يلله يحرق والديه واحرمنا من الشّيخ أرنب
أرنبنا في الحاكوره مقرمع كلّ البندوره
جابر ضربه فاشوره قضت على الشّيخ أرنب
قال يومٍ روّح سعيد ولاقى الأرنب شهيد
قال لمّوا البواريد تانوخذ ثار الأرنب
وأجت الدّوله والدّرك مقسّمين أربع فِرّق
جابر ملعون الطّرق وأجرم في حقّ الأرنب
ونزل الضّابط والشاويش وعملوا ع الأرنب تفتيش
وانت ي جابر لا تحكيش وادفع حقّ الأرنب
يا ابن عمّي يا سعيد وانت قرابه مش بعيد
واصبر عليّ لبعد العيد تنحوّش حقّ الأرنب
ومن الجورة ودير ياسين جين النّسوان يعزّين
حسبنه ها الحجّ أمين واثريته الشّيخ أرنب
أجت صفيّه وأنيسه عملن للأرنب ونيسه
وعملن للأرنب ونيسه عملوا له رز وجريشه
ترجم جنديّ من أصول يمنيّة بعض كلمات الأغنية للضّابط، فقال الضّابط:
يبدو أنّهم في حفل زفاف، دعوهم يمرّون. أشار إلى مسعود أن يتقدّم منه، وقال له:
يُمنع اغلاق الشّوارع، هذه المرّة سأتسامح معكم.
لم يجبه مسعود وعاد مع الشّباب يغنّي.
عندما وصلوا بيت أبي حاتم، وقف من يتواجدون جميعهم لاستقبال سهيل، النّساء وقفن أمام البيت، والحاجّة خضرة تقول لهنّ:
– اتركن الرّجال يسلموا عليه، وبعد أن ينتهي منهم بيجي يسلّم عليكن.
أطلق عدد من الشّباب سلسة من المفرقعات والألعاب النّاريّة، فردّت عليهم الدّوريّة العسكرية بوابل من قنابل الغاز الخانق والمسيل للدّموع، ارتفعت في سماء القرية سحابة من الدّخان الأسود الخانق، التفّ الشّباب إلى الشّارع العامّ؛ ليرجموا الجنود بالحجارة، لكنّ الجنود ابتعدوا من المكان.
بعد أن صافح سهيل عددا من الرّجال، توجّه لمصافحة “الختيار” أبو عطا الذي كان يسند ظهره إلى جذع زيتونة معمّرة، مادّا رِجليه إلى الأمام، انحنى سهيل أمام أبي عطا جالسا على ركبتيه، أمسك بيد أبي عطا اليمنى، مدّ رأسه ليقبّل وجنتيه، لكنّ الرّجل هوى على جانبه الأيمن، تحسّس سهيل وجه أبي عطا بيده اليمنى، فوجده باردا لا حياة فيه، التفت إلى الآخرين وقال بصوت مرتجف:
– يبدو أنّ أبا عطا ميّت يا إخوان!
تقدّم المختار أبو عيسى وأخرون تجاه أبي عطا، تحسّس وجهه، ضرب كفّا على كفّ وهو يقول:
– إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوّة إلا بالله.
ثمّ قام بتمديد أبي عطا، أغمض عينيه، لفّ كوفيته من تحت ذقنه، عقدها فوق رأسه كي لا يبقى فمه مفتوحا، طلب من الشّباب أن يأتوا بسيّارة لحمل أبي عطا إلى المستشفى لتأكيد وفاته.
ذهل الحضور ممّا جرى، تقدّمت أمّ عطا من جثمان زوجها باكية تندب حظّها، وقالت:
الله يرحمك يا زين الرّجال، قتلوك –الله لا يسامحهم-، ويلعن أبو اليوم اللي شفناهم فيه، خرج من البيت سالما معافى، قتلوه قبل أن تتحقّق أمنيته برؤية أبنائه المغتربين ورؤية سهيل حرّا طليقا.
أمّا أبو محمّد فقد قال ودمعتان تنحدران على وجنتيه:
– الله يرحمه، قتلوه بالغاز السّام الذي ألقوه علينا.
المختار أبو عيسى:
– انتهى عمره و-الله يرحمه-.
أبو محمّد: لا داعي لنقله إلى المستشفى، فإكرام الميّت دفنه.
أمّ عطا: كيف ندفنه واولاده في أمريكا؟
أبو محمّد: هذا حال الدّنيا، وكلنا رايحين نموت.
أبو عيسى: أبو محمّد معه حقّ، لا داعي لنقله إلى المستشفى، خلّي الشّباب يفتحوا القبر ع شان ندفنه.
مسعود: دعونا ننقله للمستشفى، لنتأكّد من سبب الوفاة.
المختار: وإذا تأكّدنا من سبب الوفاة شو رايحين نعمل؟
مسعود: إذا مات من الغاز سنحمّل المسؤوليّة للاحتلال.
أبو محمّد: يا عمّي “إذا غريمك القاضي لمين تشتكي”؟
أبو محمّد: يا جماعة المرحوم خلص عمره، وكان تعبان من زمان، واتركوا هالكلام بلاش نقع في مصايب أكبر.
أمّ عطا بلهجة منكسرة:
– الله يسامحك يا أبو محمّد، أبو عطا عمره ما كان تعبان، والله طول عمره حصان.
أبو محمّد: ليش يا أختي؟ الحصن كمان بتموت. وأبو عطا -الله يرحمه- من أعزّ النّاس عندي، وهو عِرق عيني، والرّجل شبع من عمره.
التفت مسعود إلى المختار أبي عيسى وسأل:
– كم سنة عمر أبي عطا؟
المختار: والله يا عمّي بالضّبط ما بعرف، لكن والعلم عند الله هو من مواليد 1900 تقريبا، وهو أكبر منّي بحوالي عشر سنين.
مسعود: إذن هو من مواليد 1900 يعني عمره سبعين سنة. يعني مش كبير كثير.
المختار: مرّة قبل حوالي سبع سنين، اشتكى من ضيق في التّنفّس، وأخذته للمستشفى في رام الله، نام في المستشفى حوالي أسبوع، وقتها الدّكاترة قالوا له: عندك جلطة في القلب ومرّت يا عمّ، فانتبه لحالك، استمر على الدّواء، واترك التّدخين، لكنّه –الله يرحمه- ما صدّقهم، كان ياخذ الدّواء يوم ويوم لأ، وما ترك التّدخين.
مسعود: إذا كانت عنده جلطة، فهذا يعني أنّ الغازات الخانقة هي من قتلته.
أبو محمّد: شو رايحين نستفيد من هالكلام؟ لا تكبروا الأمور، واكرام الميّت دفنه.
مسعود: أرى أن نأخذه إلى المستشفى لنتأكّد من سبب الوفاة؟
أبو محمّد: كيف نتأكّد يا عمّي؟
مسعود: التّشريح يبيّن سبب الوفاة.
أمّ عطا: يا كشل راسي، ناخذه للمستشفى عشان يقطعوه! شو صار لك يا خالتي يا مسعود؟ هذا كلام لا يمكن القبول به.
مسعود: إذن دعونا ندفنه.
منذ أن تأكّد لسهيل أنّ أبا عطا مات، تقدّم منه، قبّله على جبينه، وقبّل يديه وهو يقول:
الله يرحمك وإن شاء الله الجنّة مثواك، ثمّ ذهب وجلس على حجر تحت شجرة التّين القريبة من باب البيت، جاءته النّساء يصافحنه وهو مندهش ممّا يجري.
أمّ عطا وجّهت حديثها للمختار أبي عيسى قائلة:
– خلينا ننقله لبيته أوّلا، وهناك بنغسله وبنكفنه، وبتدفنوه.
أبو عيسى: هذا الصّحيح.
أحضروا حمّالة الموتى من المسجد، نقلوا الجثمان وهتافات التّكبير والتّهليل تصدح حوله، وفجأة ظهرت أكثر من عشر سيّارات محمّلة بالجنود، أحاطوا بالمنطقة وأسلحتهم مشرّعة، ترجّل ضابط من سيّارته وسأل:
– وين مختار؟
اقترب منه أبو عيسى وقال: أنا المختار.
الضّابط: اسمع يا مختار، سننقل جثمان الميّت إلى بيت إيل، ومن هناك للتشريح في “أبو كبير” ع شان نعرف سبب موته.
المختار: التّشريح في ديننا حرام.
الضّابط: ناس من بلدكم بيقولوا انه الجيش قتله بالغاز، وهذا كلام مش صحيح. سنأخذ الميّت معنا، وانت كمان لازم تروح معنا، احنا ما بدنا مشاكل.
ثمّ التفت إلى جنوده وقال لهم بالعبريّة “تفيئوا أوته” أي أحضروه.
انقض الجنود على الجثمان وحملوه، ومشى المختار مع الضّابط.
في بيت إيل قرب رام الله، سأل المختار:
– وين الحاكم العسكريّ؟
أخذه الضّابط إلى مكتب الحاكم العسكريّ، فقال المختار:
– يا خواجا أبو عطا مات –الله يرحمه- ولو تأخّر جنودك نصّ ساعة كان دفنّاه.
الحاكم العسكريّ: وصلتنا أخبار أنّ ناس عندكم بقولوا انه الجيش قتله بالغاز، وهذا كلام خطير، بدنا نبعث الجثمان للتّشريح في “أبو كبير” ع شان نعرف السّبب الحقيقي للوفاة.
المختار: يا خواجا التّشريح حرام في ديننا، والمرحوم كان عنده جلطة ع القلب، ولو الغاز بقتل كان متنا جميعنا، الله يخليك خلينا ندفنه ونخلص من كلام النّاس.
الضّابط: ممكن توقّع انّه ما يحصل مشاكل عندكم، وتاخذ الميّت وتدفنوه فورا السّاعة قبل بكرة.
المختار: ماشي بأوقّع والباقي على الله.
تكلّم الحاكم العسكريّ بالعبرية مع الضّابط لاعداد وثيقة يوقّع عليها المختار، تفيد بأنّ أبا عطا قد مات مريضا بالقلب، وأنّه يتعهّد بالدّفن الفوريّ للميّت دون مشاكل، وأنّه يتحمّل مسؤوليةّ أيّ تطوّرات في الموضوع، ثمّ طلب من جنديّ أن يطلب سيّارة اسعاف من مستشفى رام الله؛ لتعيد الجثمان إلى بيت الفقيد.
وقّع المختار على الوثيقة المكتوبة باللغة العبريّة بعد أن ترجمها له الضّابط، وعاد مع الجثمان في سيّارة الاسعاف.
دفنوا أبا عطا في مقبرة القرية، بعد السّاعة التّاسعة ليلا، والجنود يحيطون بالقرية من كلّ الاتّجاهات، كانوا يطلقون صليات رصاص غير منتظمة من أماكن مختلفة لارهاب الأهالي، وأحيانا كانوا يطلقون قنابل إضاءة تنير المنطقة، لكن لم يحصل احتكاك مع الأهالي.
لم يشارك سهيل في الجنازة بناء على طلب الجميع، أمضت والدته ليلتها وهي تندب حظّها العاثر، خوفا منها على ابنها سهيل، فوفاة أبي عطا المفاجئة أحبطت مخطّطاتها بالاحتفال بتحرير سهيل. أمّا سهيل فقد بقي جالسا على كرسيّ خشبيّ أمام البيت، والدته وشقيقاته يجلسن معه، لم تعد به رغبة بالكلام، فقد التزم الصّمت، حاولت شقيقته فاطمة اخراجه من حالة الشّرود الذّهني التي يعيشها، فقالت:
– رحمة الله على أبي عطا، عمره انتهى، “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖفَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ”، وهذا نصيبه.
قالت أمّ حاتم: الله يرحمه، لو صبر ع الموت يومين ثلاثة ع شان نفرح بطلعة سهيل من السّجن.
ابتسم سهيل وسأل مستغربا:
– وهل الانسان يموت بخاطره؟
أمّ حاتم: لكن وفاته كانت حلوة!
سهيل ضاحكا: وهل في الموت حلاوة؟
فاطمة: “يا ربّ لا تميتنا إلا وغبرة الدّنيا على رجلينا” مات أبو عطا بهدوء وكأنّه نائم، لم يثقل على أحد، وهذا فضل من الله. وكلنا سنموت مهما بلغنا من العمر. والله يرحمك يا أبا عطا.
ثمّ التفتت لسهيل وسألت:
– كيف الحياة في السّجون يا سهيل؟
سهيل: السّجن قتل لإنسانية الإنسان ولا أتمنّاه لأحد.
– كيف يقضى الأسرى أيّامهم؟
التفت إليها سهيل، وقال: هذا ليس وقت الكلام عن السّجون.
في هذه الأثناء عاد حاتم ومعه العشرات شيبا وشبّانا ممّن شاركوا في تشييع جثمان أبي عطا، بعضهم احتضن سهيل للمرّة الثّانية، جلسوا على كراسي صغيرة مشدودة بالقشّ في السّاحة الصّغيرة أمام البيت، في حين دخلت أمّ حاتم وبناتها إلى البيت.
أخذوا يتمازحون، فقال مسعود:
– أخشى أن تنقسم القرية إلى قسمين، قسم يجلس في هذه السّاحة احتفالا بخروج سهيل من السّجن، وقسم سيجلس في بيت العزاء.
تكلّم سهيل بصوت خافت وقال:
– لن تنقسم البلد، فهناك أولويّات، أنا سأجلس في بيت العزاء من بعد صلاة الظّهر حتّى ينفض المعزّون كافّة في ساعات الليل، وسأستقبل المعزّين وأودّعهم، حتّى تنتهي أيّام العزاء الثلاثة، فأبو عطا فقيد للجميع.
ابتسم المختار أبو عيسى وقال:
– الله يرضى عليك يا سهيل، طول عمرك عاقل.
قال حاتم: غدا سيخرج الوالد من المستشفى، وسنستمع لرأيه.
سهيل: الوالد أعقل منّا جميعنا، وإذا ساعده وضعه الصّحّيّ، سيكون أوّل من يستقبل المعزّين، ولا يمكن أن يوافق على احتفالات بوجود عزاء. ولا داعي للفرح؛ فمئات الأسرى يعانون الأمرّين خلف الأبواب الموصدة.
المختار أبو عيسى: اسمعوا يا شباب، الحياة كالدّولاب لا تتوقّف، ومن سننها أنّها تحمل المتناقضات، فهناك من يموت وهناك من يولد، وهناك من يفرح، ومن يحزن، وهناك من يسعد ومن يشقى….يعني أنّ الحياة مستمرّة. ومن عاداتنا أن نتكاتف في السّرّاء والضّراء.
أبو محمّد: بارك الله فيك يا أبو عيسى، كلامك جواهر.
مسعود: الله يرحم الأموات ويعطي الصّحة والعمر للأحياء.
لم يسبق للقرية أن شهدت عزاء أكبر من العزاء بأبي عطا، فقد توافد المئات من المناطق المجاورة للسّلام على سهيل، وتهنئته بالخروج من السّجن. في الأيّام الثّلاثة الأولى من الافراج عن سهيل، والعزاء بأبي عطا، تواجد سهيل في بيت العزاء، فالتبس على البعض إن كان من يأتون من مناطق خارج القرية قد جاؤوا للتّعزية بأبي عطا أم للسّلام على سهيل، وهذه الكثرة دفعت أمّ عطا للمفاخرة بسمعة أبي عطا الطّيبة، وسمعة أبنائهما المغتربين في أمريكا، فكانت تقول للنّساء:
– الله يرحمه، والله سمعته كانت مثل المسك، وكلّ الناس بحترموه وبحبّوه.
تكتم أمّ حاتم ابتسامتها وتقول: الله يرحمه.
فهي تعرف أنّ المعزّين من خارج القرية يأتون للسّلام على ابنها سهيل، وهم لا يعرفون أبا عطا، وهو لم يكن يعرفهم أيضا. لكنّ أمّ عطا تحاول التّأكيد على أهمّيّة الفقيد حيّا وميّتا، فتكرّر قولها:
– والاولاد –الله يرضى عليهم- ما بقصروا مع أيّ شخص، فهم في غربتهم ما بتركوا فرح أو كَرِه إلا بشاركوا فيه.
فقالت فاطمة شقيقة سهيل:
– “كل شي دين حتّى دموع العينين”
وسألت بخبث:
– إذا كان أبناؤك –حفظهم الله- يشاركون الآخرين أفراحهم وأتراحهم في الغربة، فكيف يعرف النّاس هنا ذلك؟
أمّ عطا: “الشّمس ما بتتغطّى في غربال” يمّه يا فاطمة.
تتغامز النّساء حول حديث أمّ عطا، في حين تنظر أمّ حاتم نظرات عتاب لابنتها فاطمة؛ لتنهرها عن الاستمرار في هذا الحديث.
لكنّ أمّ عيسى زوجة المختار، لم تفوّت الفرصة لأمّ عطا، فوجّهت حديثها إليها قائلة:
– مليح انه أبو عطا مات ع شان تعرفي قيمته يا امّ عطا.
تنتفض أمّ عطا وتقول:
– يا عيب الشّوم، شو هالحكي يا امّ عيسى؟ والله أبو عطا –الله يرحمه ويسامحه- كان تاج فوق راسي، وكنت -الّله يرحمه- أرعاه مثل ما بترعى الإمّ ابنها المفطوم.
تتدخّل أمّ حاتم وتقول:
– وحّدن الله يا بنات النّاس، ما فيه داعي لهذا الحكي.
تطوي أمّ عطا خرقتها على فمها غاضبة، وتدير وجهها إلى ناحية أخرى.
في مجلس الرّجال، بعد ساعات المساء عندما يبقى أقارب الفقيد وبعض من أبناء القرية، يتسامرون ويسرد بعضهم ذكرياته مع الفقيد. فقال ابن خالته عبد الحميد:
– رحمة الله عليك يا أبو عطا، شو كنت طيّب، بتعرفوا يا إخوان انّه كان لمّا يخلص حراثة أرضه، يجيب حماره ويحرث معي لحاله دون طلب منّي.
فردّ المختار أبو عيسى:
– ليش هو بقي أرض للحراثة يا عبد الحميد؟
عبد الحميد: الأرض مكانها يا مختار.
المختار: صحيح الأرض مكانها، لكنكم بعتوها، وما عادت لكم.
ضحك عبد الحميد وقال:
– أوّل واحد باع انت يا مختار، والنّاس تبعوك.
المختار: أنا أرضي بجانب الشّارع العامّ بعتها بسعر مليح، وبنيت للاولاد دار، وفتحت دكّان.
عبد الحميد: وأبو عطا باع أرضه، ع شان يشتري تذاكر لاولاده ليسافروا لأمريكا. وربنا وفّقهم ورايحين يجيبوا مصاري أكثر من ثمن الأرض مرّات.
كان سهيل يصغي باحترام شديد لكلام المسنّين من أبناء البلدة، ولمّا ركّزوا في حديثهم على بيع الأراض والسّفر لأمريكا قال:
– يا حجّاج، الأرض كنز متجدّد، من باع أرضه سيأتي يوم يندم فيه على ذلك. والسّفر إلى أمريكا أو غيرها خطيئة، لأن البلاد بحاجة إلى أبنائها.
المختار: ليش الندم يا عمّي؟ أنا أرضي وعر ما بتصلح للزّراعة، بعت الدّنم فيها بخمسمية دينار قبل ست سنين، والعلم عند الله سنة 1964.
سهيل: وما هو سعر الدّونم في الأرض المجاورة لها الآن؟
المختار: سعر الدّونم الآن –والعلم عند الله- 1200 دينار.
سهيل: سيأتي يوم سيزيد فيه سعر الدّونم على مليون دينار، ولن تجدوه.
المختار: شو صار لعقلك يا عمّي؟ والله اليهود ما بشتروه بالمليون مثل ما قلت.
سهيل: بيع الأرض لليهود حرام ومرفوض تماما، وأنا أقول الأرض محدودة، وسيرتفع سعرها باستمرار، ومن باع كي يسافر إلى أمريكا، فلن يجني في أمريكا-إن وفّقه الله- فارق ارتفاع سعر أرضه، عدا عن غربته، وتعبه وشقائه وبعده عن أهله.
أبو حاتم سعيد بكلام ابنه سهيل:
– الله يرضى عليك يا سهيل، والله كلامك عين العقل.
أراد أبو عدنان صرف الحضور عن الحديث حول الأرض فقال:
– هل تعلمون يا إخوان أنّنا لا نعرف قيمة الانسان إلا عندما يموت؟
فردّ عليه مسعود متسائلا:
كيف؟
أبو عدنان: رحم الله أبا عطا، فقد كان من خيرة الرّجال، وربّنا –سبحانه وتعالى- اختاره إلى جواره بطريقة مريحة.
ضحك مسعود وسأل:
– هل في الموت راحة؟
أبو عدنان: نعم، فموت الانسان في شيخوخته وهو بكامل قوّته، لم تفتك به الأمراض والشّيخوخة فضل ورضوان من الله.
عبد الحميد: أبو عطا لم يؤذ أي انسان في حياته، وكان من الأجاويد.
شعر المختار بالغيرة فقال ساخرا:
– صحيح كان من الأجاويد، فكل ضيوف القرية كانوا ما بعرفوا غير بيته!
ضحك مسعود وقال:
في طفولتي قطفت حبّة تين من إحدى شجراته، فرآني قبل أن أقطف الحبّة الثّانية، وطاردني ولم يحمني منه سوى رِجليّ، حيث ولّيت هاربا وشتائمة تتبعني كالقذائف.
قال أبو عدنان: هذا هو اليوم الأخير في العزاء، و”الميّت لا تجوز عليه إلا الرحمة” “اذكروا محاسن موتاكم” وتصبحون على خير.
قالها وانصرف، فتبعه الآخرون وهم يضحكون.
أغلقت أمّ عطا الباب خلفهم وهي تقول:”طريق تاخذ وما تردّ”.
**********
تحرص أمّ حاتم أن تجلس بجانب ابنها سهيل، لا تريد أن تفارقه، فوجوده في السّجن عامين “هدّ حيلها” كما كانت تردّد دائما، تحضنه وتقبّله وكأنّه طفل رضيع، تشمّ رائحة ملابسه، ينتعش قلبها، يدبّ النّشاط في جسدها النّحيل، لا تريد أحدا أن يطبخ ويعدّ طعام سهيل غيرها، حتّى أنّها ترفض مساعدة ابنتها فاطمة، أو كنّتها زوجة بكرها حاتم، وهذا أمر لم تسترح له فاطمة فقالت لأمّها:
– واجبك علينا يمّه، ارتاحي واطلبي ما تريدين، وسيكون أمامك دون نقاش، فهل يعقل أن تعملي أنت في المطبخ، وأنا جالسة أنتظر الطّعام كالأطفال؟
أمّ حاتم: الله يرضى عليك يمّه، انت مش عارفه بعدك شو معنى طبيخ الأمّ!
والله مرّه في زيارة سهيل في السّجن –الله لا يعيد هذيك الأيّام- سألته إذا بطعموهم وللا لأ؟ فردّ عليّ: “الله يلعن أبوهم وأبو أكلهم، والله لقمه من بين يديك أحسن من كلّ أكل الدّنيا.” ومن يومها ما استطعمت بلقمه أكلتها، وطلبت من ربنا يطوّل عمري، حتّى يطلع سهيل من السّجن، على شان أظلّ أطبخ له، وأعوضه عن كل هذيك الأيّام السّودا.
استمع سهيل لما قالته أمّه، امتلأ وجدانه حنانا من حنانها، تمنّى من الله العمر المديد لها، وأن يقدر على خدمتها، وسدادها جزءا بسيطا من أفضالها عليه، قبّل يديها، وقال لها:
– يمّه –الله يحفظك لنا- حقّك علينا، وأنا في خدمتك ما حييت، فقد تعبت ما فيه الكفاية، ويجب أن ترتاحي الآن.
– صلّ على النّبيّ يمّه، ليش شايفني تعبانه؟ والله وأنا باطبخ لكم، باشوف حالي غزاله تطارد في البراري.
ضحك أبو حاتم وسأل ساخرا:
– ليش ظهرك احدب يا غزاله، ورجليك بضربوا ببعض مثل ملقط الجمر؟ خلّي الشّباب يريحوك وارتاحي.
ضحك الأبناء ممّا قاله الأب، إلا سهيل فقد كان حريصا على مشاعر والدته، ويشعر بتأنيب الضّمير كون أمّه تتحامل على نفسها، تجمع قواها، في محاولة منها لإسعاده وتعويضه عن عذابات السّجن، هو يعلم تماما بأنّ الأبناء- مهما بلغوا من العمر- يبقون أطفالا في عيون والديهم، وها هو يرى نفسه طفلا من جديد في حضرة والديه.
مرّ أكثر من أسبوع بعد انتهاء عزاء أبي عطا، والنّاس يتوافدون إلى بيت أبي حاتم للجلوس للسّلام على سهيل، وبعضهم -خصوصا الشّباب- جاء مرّات ومرّات، يجلسون على الكراسي في باحة البيت الخارجيّة، يتمازحون، يستعيدون ذكرياتهم، يسألون عن زملاء لهم لا يزالون خلف الأبواب الموصدة، بعضهم يبقى حتّى ساعات متأخّرة من الليل.
والدا سهيل فخوران وسعيدان بهذه المحبّة التي يحظى بها ابنهما سهيل من هؤلاء النّاس، لكنّ أمّه رأت فيمن يمضون الليل ساهرين مع سهيل حاجزا يحول بينها وبين ابنها، الذي أنهكها غيابه سنتين عنها، صحيح أنّها كانت تجلس معهم سعيدة بهم، لكنّ هذا يمنعها من الاقتراب من سهيل واستنشاق رائحته. في حين أنّ أبا حاتم كان يستمع لأحاديثهم بانتباه شديد، لأنّه يخاف منهم على سهيل، فقد شمّ رائحة أسرار بين بعضهم وبين سهيل، وهذا سبب كاف بالنّسبة له، فربّما سيكونون سببا في إعادة سهيل إلى السّجن مرّة أخرى.
يصلّي أبو حاتم صلاة العشاء، يجمع قواه مستعينا بعصاه، يعود إلى فراشه وينام، في حين تبقى أمّ حاتم ساهرة مع الشّباب حتى يغلبها النّعاس وهي جالسة على الكرسيّ، بعدها يمسك حاتم يدها؛ ليعيدها إلى سريرها، فترفض أحيانا وهي تقول:
– مالكم؟ أنا مش نعسانه.
وأحيانا أخرى يغلبها سلطان النّوم فتنقاد طواعية.
تستيقظ أمّ حاتم عند أذان الفجر، تصلّي، تعدّ القهوة، تضع فنجانا لها بجانب فراشها، تقدّم فنجانا لزوجها، تحمل فنجانا آخر على صينيّة، تتّجه إلى غرفة سهيل، لا تجده على سريره، فهو يفترش الأرض، يلتحف بطّانيّة قديمة وينام تحت شجرة الزّيتونة القريبة، تجده نائما، تضع صينيّة القهوة بجانبه، تعود إلى البيت، تحمل فنجانها، تجلس بجانب سهيل، تحتسي قهوتها وهي تراقب أنفاسه، تدعو له بالسّلامة وطول العمر، تحرص على عدم ازعاجه، عندما تنقشع عتمة الليل، تضع فنجان القهوة على الأرض أمام سهيل، تحمل الصّينية وتبتعد حافية القدمين، تدور حول بعض أشجار التّين، تقطف عددا من ثمارها المشبعة بالنّدى، وبعضها يتشقّق قليلا دلالة على النّضج. في بستان البيت ثلاثة أنواع من التّين، من كلّ صنف شجرتان، تقطف من كلّ صنف حوالي عشر ثمرات، ولها تسميتها لأصناف التّين كما بقيّة الفلاحين، وهي “الموازي، السّماري، والخضري” في حين هناك تسميات وأنواع أخرى لا تعرفها هي ومنها: “العسّالي، والعناقي، والخضاري، البياظي، والخرطماني، والخرّوبي”.
تأتي بالصّينيّة المجلّلة بالتّين، تضعها بجانب فنجان القهوة، تنتظر استيقاظ سهيل، وعندما ينهض، تقول له قبل أن ينتبه لها:
– نوم العوافي يمّه، يسعد صباحك، التّين والقهوة قدّامك، كُلِ التّين يمّه قبل على شان معدتك، كُلْ، صحتين وعافية، خليني آكل معك.
يردّ سهيل على تحيّة الصّباح بتكاسل، يذهب إلى الحمّام، يغسل يديه ووجهه، يطرح تحيّة الصّباح على والده، يعود إلى أمّه، يجدها في انتظاره، يطرح عليها تحيّة الصّباح، ويقول:
– ما رأيك يمّه أن نذهب بالصّينيّة إلى الوالد؛ لنأكل معا نحن وإيّاه؟
فتردّ عليه: لا تقلق به يمّه، لقد أخذت له صحنا من التّين “الموازي” الذي يحبّه.
يتناول سهيل حبّة التّين الأولى وهو يقول:
– لا داعي لما تقومين به يا أمّي، انتظريني حتّى أستيقظ، وسأقطف التّين لي ولك وللوالد ولكلّ الأسرة.
– أنا مش تعبانه يمّه، وراحتي إنّي أشوفك تاكل ومبسوط.
– والله يمّه أنا مبسوط برؤيتكم.
– بس يمّه قل لي: ليش ما تنام في غرفتك وعلى تختك أريح لك، بلاش – لا سمح الله- تقرصك عقرب، وللا تعضّك أربعينيّة.
– توكّلي على الله يمّه، والنّوم على التّراب مريح جدّا، وأفضل من أحسن التّخوت في العالم.
أعدّت أمّ حاتم وجبة الفطور، قلت بيضتين، وضعت في صحن كمّيّة من زيت الزّيتون، وفي صحن ثالث كمّيّة من الزّعتر المطحون وعددا من أرغفة الخبز، حملتها على صينيّة كبيرة، خرجت بها حيث تتحلّق الأسرة حول سهيل تحت شجرة الزّيتون، وما أن خرجت من باب البيت حتّى رآها سهيل فأسرع إليها، حمل الصّينيّة عنها، وهو يسأل:
– لماذا لم تناديني يمّه كي أحملها عنك؟
– الله يرضى عليك ويعطيك حتّى يرضيك يا بعد عمري. وعادت إلى المطبخ لتأتي بإبريق الشّاي.
جلسوا حول المائدة، قال أبو حاتم:
– سمّوا بالرّحمن.
لكنّ سهيل لم يمدّ يده إلى المائدة، فانتبه له أبوه وسأله:
– لماذا لا تأكل يا سهيل؟
– سآكل يا أبي عندما تجلس أمّي معنا.
بعد الفطور واحتساء الشّاي قال أبو حاتم:
– يابا يا سهيل، حطّ عينيك على البنت اللي بتعجبك، خلينا نفرح فيك.
قبل أن يتكلّم سهيل سبقته والدته وقالت:
– أه والله يمّه هاي مديحة بنت خالتك، والله مثل البدر، مزيونه ومتعلمه وبتشتغل معلمة.
سهيل: لِمَ العجلة يا أبي؟ لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي الجامعيّ.
الوالد: بتتزوّج وبتتعلّم يابا، وكثير تعلّموا وهم متزوجين.
– أنا بعدي صغير يابا، والزّواج ليس غنيمة يتسابق عليها الشّباب.
أمّ حاتم: شو صغير يمّه؟ والله صار عمرك واحد وعشرين سنة.
سهيل: وهل هذا العمر فاته قطار الزّواج يمّه.
أمّ حاتم: يمّه- الله يرضى عليك، وأنا بعمرك كنت مخلفه أربعه.
– كم كان عمركِ عندما تزوّجتِ؟
– كنت بنت اربعتش، وأبوك أكبر منّي بأربع سنين، بعدين لا تنس إنه مديحة عمرها قريب من عمرك، وطلبوها شباب كثيرين، وكانت ترفضهم، والعلم عند الله، انها هي وخالتك زعرورة حاطّات عينيهن عليك، وخالتك والله بتحبّك مثل ما بتحب اولادها، ومديحة فرحت لمّا طلعت من السّجن كأنّك جوزها وزياده.
– يمّه أنا لا أرغب في الزّواج قبل أن أنهي تعليمي الجامعي.
– يعني نترك مديحة يروح خيرها لغيرنا.
أبو حاتم: إذا ما بدّك مديحة يابا اختار البنت اللي بتعجبك.
أمّ حاتم: شو بتقول يا أبو حاتم؟ ليش فيه هناك بنات أحسن من مديحة؟
سهيل: يمّه مديحة أحسن منّي، وأمّها خالتي أعزّها وأحترمها مثلك تماما، ولو أردت الزّواج فلن أتزوّج لا من بنات أخوالي ولا من بنات أعمامي.
أمّ حاتم: يا سواد ليلك يا صفيّة! شو صار لك يمّه؟ ومالهم اخوالك وخالاتك؟
– يمّه هم على رأسي وعيني، لكنّ الزّواج من بنات الأقارب يجلب أكثر من مشكلة، وقد يورث عاهات بالأبناء.
أبو حاتم: شو العاهات اللي بتتكلّم عنها يا ولد؟ هاي امّك بتعرف انت وغيرك انها بنت خالي، وانت واخوتك وخواتك –ما شاء الله عليكم- شو ناقصكم؟
سهيل: يا جماعة، أنا قلت أنّني لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي الجامعي، لا مديحة ولا غيرها.
قالها وانصرف من الجلسة.
فقالت أمّ حاتم: يا حسرتك يا صفيّة، الله أعلم شو صار لعقل الولد في السّجن؟
أبو حاتم: “الملافظ سعد” يا صفيّه، ليش الحسرة والكلام الفاضي، اتركي الولد يرتاح، ويفكّر، وبعدها عند ما يشوف البنات المحومرات والمبودرات، والمشمرات رايح يطلب الزّواج لحاله.
أمّ حاتم: لكن مديحة “ما بتطلع من بين ايدين غانمين”.
أبو حاتم ساخرا: خلّي الغنيمه لك ولأهلك.
أمّ حاتم: إذا سهيل ما بدّه يتزوّج، خلينا نخطب مديحة لعلي.
– شو صار لك يا صفيّه، علي بعده ولد ما خلّص المدرسه.
– شو عليه بنخطبها له، والسّنه الجايّه بخلّص المدرسة وبنزوجه.
– الله يعينِك على عقلِك، مديحة بتلقى نصيبها، وعلي تيكمّل تعليمه بلقى نصيبه.
في هذه الأثناء وصل مسعود بسيّارته، طرح التّحيّة وسأل:
– أين سهيل؟
أجاب أبو حاتم: سهيل بتحمّم، تفضّل يا عمّي.
أحضرت أمّ حاتم القهوة، وضعت فنجانا أمام مسعود فقال:
– شكرا، سلمت يداك، إن شاء نشرب القهوة بعرس سهيل.
أمّ حاتم: ربنا يسمع منّك، والله يرضى عليك يا خالتي تقنعه يتزوّج، هذا الولد “راسه وألف سيف” ما بدّه يتزوّج إلا تيخلص الجامعة.
مسعود: التّعليم مهمّ يا خالتي.
أمّ حاتم: المشكله مش في التّعليم يا خالتي، وإيمتا التّعليم صار يمنع النّاس من الزّواج، احنا بدنا نزوجه على شان نفرح فيه ونشوف اولاده قبل ما “ربنا ياخذ وداعته”.
مسعود: أطال الله أعماركم، ولا تخافي سيتزوّج.
أمّ حاتم: بدنا يتزوّج مديحة بنت خالته، بلاش يسبقوه عليها، الله وكيلك أجاها شباب كثير ورفضتهم.
مسعود: لا تخافي يا خاله، فالبنات كثيرات.
أمّ حاتم: شو هالكلام يا مسعود، وين في بنات أحسن من مديحة؟
أبو حاتم ضاحكا: أكيد ما فيه بنت أحسن من مديحة؛ لأنها بنت أختك، اسمعي يا صفيّة، خلّي الولد على راحته.
– شو داعي لهالكلام؟ ليش شايفني حامله عصا وباضرب فيه؟ خاف ربّك.
مسعود: توكّلوا على الله.
جاء سهيل، صافح مسعود وجلس، فقال مسعود:
– هيّا بنا.
سألت أمّ حاتم: وين ع باب الله؟
ردّ سهيل: نحن ذاهبان إلى المسجد الأقصى للصّلاة.
هزّ أبو حاتم رأسه وقال ساخرا لأنّه يعرف أنّهما لا يصلّيان:
– ربنا يقبل منكم…ادعوا لنا!
في حين قالت أمّ حاتم: الله يهديكم.
ما أن انطلقت بهما السّيارة، وعينا أمّ حاتم تلاحقهما، حتّى قالت لأبي حاتم وهي تنبش التّربة بعود التقطته عن الأرض:
– بتعرف شو مخوّفني يا ابو حاتم؟
– يا رب استر، خير إن شاء الله؟
– والله خايفة سهيل يهجّ من البلاد.
– وين يهجّ.
– يلحق ربعه في أمريكا.
– اتركي هالحكي الفاضي، سهيل ما بفكر بهيك شي.
– وللا ليش ما بدّه يتزوّج مديحة؟
سأل أبو حاتم بلهجة غاضبة:
– “شو محرق بصلتك” على مديحة؟ إن شاء الله عمرها ما تزوّجت، رايحه تلقى نصيبها، فكفّي شرّك عن هالولد.
– يا خوفي انّك بتلف مع سهيل من وراي ع شان تزوجه بنت أخوك.
ردّ عليها بلهجة ساخره:
– يا خوفي انّك مخرفنه ومش لاقيه حدا يطبّبك. روحي انصرفي، نقرتِ راسي.
عند جبل المشارف ذهل سهيل من رؤية مئات الأبنية الاستيطانيّة يجري بناؤها غرب الشّارع وشرقه وتمتدّ باتّجاه الشّمال، على شكل مقصّ يحيط بقرية شعفاط المجاورة، وتعمل قوسا حول واد الجوز ومنطقة الشيخ جرّاح، فتمتد حولهما من الشّمال، وتتواصل من شرقهما باتّجاه مستشفى “هداسا ماونت سكوبس” والجامعة العبرية.
فقال له مسعود: يبدو أنّهم لم يكتفوا باستيطان حارتي الشّرف والمغاربة، من الجهة الغربيّة للمسجد الأقصى.
سهيل: أذكر أنّهم هدموا تلك الحارتين.
مسعود: والآن أكملوا بناء حيّ استيطانيّ كامل، وأسكنوا فيه مستوطنين.
سهيل: لن يدوم لهم ذلك، وسيضطرّون قريبا للانسحاب منها غصبا عنهم. وأضاف: دعنا نتجوّل في شوارع القدس، أسواقها، حاراتها، دور عبادتها، يا إلهي كم أشتاق القدس!
مسعود: القدس حزينة. هل تعلم أنّهم غيّروا اسم شارع بور سعيد، وأطلقوا عليه اسم “شارع الزّهراء” والمحلّات في هذا الشّارع تحوّلت في غالبيتها إلى بارات ومراقص ترتادها العاهرات والشّواذ، ومتعاطوا المخدّرات والمنحرفون.
سهيل: وهل يرتادها عرب؟
مسعود: نعم كثير من المراهقين والمنحرفين، وجدوها فرصتهم لتفريغ شهواتهم المكبوتة.
سهيل: لا حول ولا قوّة إلا بالله.
مسعود: وباب العمود لم يعد كما تعرفه.
سهيل: “دوام الحال من المحال”
مسعود: القدس مدينتنا، ونستطيع التّجوّل فيها يوميّا دون عناء، فما رأيك أن نذهب إلى يافا، تكتحل عيوننا برؤيتها، ونتناول وجبة سمك في أحد مطاعمها.
– فكرة جيّدة، لكن بشرط أن لا نتأخّر فيها كثيرا، ففي ساعات المساء يأتي من يسهرون في بيتنا.
– لا تهتمّ بذلك، متى تريد العودة سنعود؟
في الطّريق إلى يافا يجوب سهيل المناطق المحاذية للشّارع بعينيه، يكاد يرسمها في مخيّلته، سبق له وأن زار يافا مرّة واحدة بعد حرب حزيران، لكنّه لم ينتبه لسحر المنطقة، فسياط الهزيمة كانت تجلده، تسلب الجمال من ناظريه، اعتقل بعد مرور عام على الهزيمة، أثناء مشاركته في مظاهرة احتجاجيّة انطلقت من المسجد الأقصى، ألقوا القبض عليه عندما التفّت قوّة شرطيّة من حارة السّعديّة، فباغتتهم من الخلف وسهيل تحت قوس باب العمود، حاول الهروب منهم، لكنّه سقط مغشيّا عليه تحت تأثير عصا غليظة هوت على رأسه.
في يافا أوقف مسعود السّيارة قريبا من ميناء المدينة المهجور، مشيا جنوبا باتّجاه مكاتب الميناء المهجورة، ملفّات ورقية تظهر من نوافذ مكسور زجاجها، الغبار يعلوها بشكل لافت، الصّخور في المنطقة المجاورة للمكاتب، والتي يسيران عليها، تآكلت بفعل المياه التي تعلوها من اصطدام المياه بالصّخور، فيتطاير رذاذ الماء إلى الطّريق التي تشبه الشّارع غير المعبّد، فغدت ملساء، يسهل الانزلاق عليها، فتراجعا إلى الخلف عائدين وسط هدير مياه البحر التي تعزف ألحانها الصّاخبة.
عند المنارة اتّجها جنوبا، مرّا بمخبز أبو العافية الشّهير، ثمّ اتّجها يمينا إلى ما بات يعرف بالمنطقة السّياحيّة، حيث كان هناك شباب وشابّات، يلهون ويرقصون، بعضهم يتابدلون القبل، وبعض منهم يعزف على قيثارة، واصل سهيل ومسعود سيرهما، حتّى خرجا من زحام الأبنية التي تشي بمجدها السّابق، عندما كانت عامرة بمن ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، أطلّا على هضبة تعلو البحر، فيها عدد من المطاعم، رأيا لافتة لمطعم واسع تحمل اسما عربيّا، فقصداه، وما أن دخلا المطعم حتّى فوجئا بالأستاذ عبد الحق، والمهندس فؤاد المحمود ابني قريتهما، كانا يتناولان طعامهما في المطعم، فهبّا لاستقبالها، وأجلساهما معهما على طاولة تشرف على البحر.
جاء النّادل بعد أنّ صفّق له المهندس فؤاد، طالبا منه أن يلبّي طلبات مسعود وسهيل، فسأله مسعود:
ما اسم حضرتك؟
– فايز.
– هل عندكم سمك بحريّ؟
– نعم…وصلتنا قبل قليل كمّيّة من سمك اللوكوس، لكنّه غالي الثّمن.
التفت إليه فؤاد وسأله مستغربا:
– وهل سألك أحد عن ثمنه حتّى تقول ذلك؟ أحضر للأستاذين ما يريدانه.
اعتذر النّادل وقال: حاضر.
فقال مسعود: أحضر لكلّ منّا سمكة لوكوس.
– هل تريدان شيئا آخر؟
سهيل: ماء لو سمحت.
الأستاذ عبد الحقّ: أحضر ماء و”كولا” وسلطات، وصحن مشاوٍ أيضا.
سهيل: لا داعي للمشاوي فلن يأكلها أحد.
المهندس فؤاد: هات المشاوي والسّلطات.
والتفت إلى سهيل ضاحكا وقال: لا تخف سنأكلها.
تداولوا الحديث حول مواضيع شتّى، وهنا وجّه الأستاذ عبد الحق السّؤال لسهيل:
– ما الذي تنوي عمله يا سهيل؟
بعد لحظة صمت أجاب سهيل:
– سأكمل تعليمي الجامعيّ، لكنّني أخشى أن لا يعطوني تصريحا للالتحاق بإحدى الجامعات العربيّة.
مسعود: طبعا لن يعطوك تصريحا.
سهيل: سينقلعون من بلادنا بإذن الله قبل بدء العام الدّراسيّ القادم.
الأستاذ عبد الحق: يا ليت ذلك يحصل، مع أنّه أمنية بعيدة المنال.
المهندس فؤاد: اسمع يا سهيل، لقد سمعت من مصدر موثوق أنّ معهد بيرزيت، سيتحوّل قريبا إلى جامعة، وأنصحك بالالتحاق بهذا المعهد، وأنا على ثقة بأنّ المعهد سيتحوّل إلى جامعة قبل أن تنهي السّنتين الدّراسيّتين، وستواصل تعليمك فيه حتّى الحصول على الشّهادة الجامعيّة الأولى.
سهيل يقول بلهفة: أسأل الله أن يتحقّق ذلك، لكن إن لم يحصل فما العمل؟
الأستاذ عبد الحق: تدرس السّنتين، ستنفرج الأمور خلالها، وبعدها ستكمل في الجامعة الأردنيّة.
سهيل: هذه فكرة رائعة.
المهندس فؤاد: اكسب الوقت يا سهيل، سجّل في المعهد قبل فوات الأوان.
– متى يبدأ التّسجيل؟
– بدأ منذ بداية شهر تمّوز الحالي، بعد اعلان نتائج التّوجيهي، وإذا ما حسمت أمرك، ولا مانع لديك، فسأصطحبك معي غدا إلى المعهد للتّسجيل، فأنا أعرف عددا من المسؤولين عنه.
– شكرا لك. غدا سأتوجّه إلى المعهد.
– سأصطحبك معي.
– لا داعي لذلك، فلديك أعمالك.
– عملي في رام الله، لا خوف عليه.
– شكرا لك… كيف سنلتقي؟
– كن جاهزا في الثّامنة صباحا، وسآتيك إلى البيت.
– شكرا لك.
– لا شكر على واجب، ونحن في خدمة النّاس الطّيّبين الشّرفاء مثلك.
مسعود: ماذا ستدرس؟
– الرّياضيّات.
– بالتّوفيق.
صباح اليوم التّالي استيقظ سهيل عند أذان الفجر، جلس حتّى انبلج الفجر، عبّأ صحنا من التّين، وضعه أمام والديه، اتّجه إلى المطبخ ليعدّ قهوة الصّباح، فقالت له أمّه:
– القهوة جاهزة يمّه، أنا وأبوك شرب كلّ واحد منّا فنجانين.
احتسى سهيل قهوة الصّباح، استحمّ…ارتدى ملابسه، جلس على كرسيّ أمام البيت يفكّر. لحقت به والدته، سألته:
– وين النّيّة يمّه؟
– سأذهب للتّسجيل في كلّيّة بيرزيت.
تنهّدت تبتلع همومها وقالت:
– والله يمّه لو تتزوّج وتشتغل مع حاتم أحسن لك من الكلّيّات ومن التّعليم.
– توكّلي على الله يمّه.
ومن الدّاخل خرج أبو حاتم يتوكّأ على عصاه وقال:
– معك مصروف يا سهيل؟
– نعم معي.
– من وين؟
– أعطاني حاتم.
– الله يرضى عليك وعليه.
أمّ حاتم: هذا سهيل يا أبو حاتم بدّه يروح يسجّل في كلّيّة بيرزيت.
– الله يوفقه.
– ومديحة بنت خالته، شو نعمل معها؟
– مديحة في بيت أهلها و”اللي عند أهله ع مهله”.
– يعني خلص ما بدكم إيّاها؟
– إذا سهيل مقتنع فيها، باطلبها له بعد ما أحلق لحيتي والبس.
سهيل: أنا قلت لكم أنّني لن أتزوّج قبل أن أنهي الجامعة، في السّاعة الثّامنة سيصطحبني المهندس فؤاد معه إلى معهد بيرزيت؛ كي أسجّل فيه.
دخلت أمّ حاتم إلى المطبخ، رتّبت ما تبقّى من ثمار التّين في صحن زجاجيّ؛ لتقدّمه للمهندس فؤاد فور وصوله، غلت قهوة جديدة، وفي خاطرها أن تطلب المساعدة من المهندس فؤاد؛ كي يقنع سهيل بقبول الزّواج من مديحة بنت خالته.
وصل المهندس قبل الثّامنة بخمس دقائق، ركض سهيل لاستقباله، دعاه لاحتساء القهوة، وأمّ حاتم تطلب منه النّزول وهي تقول:
– قهوتك جاهزه يمّه يا فؤاد.
لكنّه خيّب ظنّها عندما جلس سهيل بجانبه، وانطلقا والمهندس يقول:
– شكرا لك يا خالة، لقد شربت قهوتي في بيتي.
جلست أمّ حاتم حزينة وهي تشتم المهندس وتقول:
– “فرحنا للقرد تَيْونّسنا كشف عن قفاه وخوّفنا”.
**********
في مكتب التّسجيل في البناية القديمة للمعهد الجامعيّ، تعانق المهندس فؤاد مع الدّكتور حنّا، عرّفه على سهيل، وأضاف: سهيل يريد أن يسجّل في المعهد.
الدّكتور حنّا: – مع الأسف- انتهى التّسجيل يوم أمس.
المهندس فؤاد: للضّرورة أحكام، سهيل أنهى الثّانويّة العامة عام 1967، والحرب حالت دون مواصلته لتعليمه الجامعيّ، وفي ذكراها الأولى اعتقل وحكم عليه بالسّجن لمدّة عامين، ولم يتحرّر من السّجن سوى قبل أسابيع قليلة.
الدّكتور حنّا: إذا كان وضعه هكذا سنتخطّى القانون وسنسجّله.
سهيل: شكرا لك يا دكتور.
الدكتور حنّا: ماذا ستدرس يا سهيل؟
– رياضيّات.
المهندس فؤاد: سمعنا أنّ المعهد سيتحوّل إلى جامعة، وسيمنح لخرّيجيه الشّهادة الجامعيّة الأولى.
الدّكتور حنّا: هناك دراسات جدّيّة حول ذلك، ونأمل أن نتغلّب على المشاكل خلال العامين القادمين.
سهيل: وإذا لم يتحوّل، ما العمل؟
الدّكتور حنّا: ستكسب عامين جامعيّين، ويمكنك الالتحاق بعدهما بالجامعة الأردنيّة، وإن شاء الله سينتهي الاحتلال قبل نهاية العامين.
المهندس فؤاد موجّها حديثه لسهيل: هل أحضرت الشّهادات المطلوبة للتّسجيل؟
سهيل: نعم أحضرت شهادة التّوجيهي، وشهادة الميلاد.
الدّكتور حنّا: أعطني إيّاها. ضغط على جرس بجانبه، دخلت فتاة هيفاء فرعاء، ناولها شهادات سهيل وهو يقول:
– سجّليه، مع إعفائه من رسوم التّسجيل، واطلبي لنا ثلاثة فناجين قهوة.
شكره المهندس فؤاد وقال بأن لا داعي للقهوة.
ابتسم الدّكتور حنّا وهو يقول:
– سهيل ضيف علينا، سنحتسي القهوة بمعيّته، يكفيه أنّه قدّم سنتين من عمره من أجلنا. والتفت إلى سهيل وسأله:
– في أيّ سجن كنت يا سهيل؟
– تنقّلت في عدّة سجون، حتّى استقرّ بي المطاف في سجن شطّة قرب بيسان.
– ما أخبار الشّباب في السّجن؟
– صعبة جدّا، لكنّهم يقضون أيّامهم الرّتيبة، وهم على قناعة بزوال الاحتلال.
خرجا من الجامعة وفؤاد سعيد بتقديمه خدمة لسهيل، بينما سهيل مشغول بنفسه، فهل سيتحقّق حلمه بالدّراسة الجامعيّة؟ لو لم تقع تلك الحرب اللعينة، وما أعقبها من نتائج كارثيّة، لكان الآن يدرس الهندسة المدنيّة، ولتخرّج مهندسا مثل فؤاد، لكنّ الأماني شيء، والواقع شيء آخر، وها هو الآن يريد دراسة الرّياضيّات، لعدم وجود الهندسة في معهد بيرزيت، وإن تيسّرت الأمور سيعمل مدرّسا في إحدى المدارس، بدلا من أن يتخرّج مهندسا، ويعمل مقاولا كما كان يحلم. وعزاؤه في ذلك كما كان يسمع من والده” بَلا “بلاء” أهون من بَلا، وكساح أهون من عمى”. قطع حبل تفكيره المهندس فؤاد عندما قال له:
– هل تعلم يا سهيل أنّك أحسنت الاختيار باختيارك دراسة الرّياضيّات؟
– كيف؟
– الرّياضيّات أساس العلوم، وإذا ما انفرجت الأحوال، وخلصنا من الاحتلال، فبإمكانك مواصلة دراسة أكثر من موضوع.
– مثل ماذا؟
– قد تدرس الهندسة، الاقتصاد، ومختلف العلوم.
– كان حلمي أن أدرس الهندسة المدنيّة، لكنّ الحرب وما نتج عنها دمّرت أحلامي.
– سيزول الاحتلال حتما، وستتحقّق أحلامك، ونتائج الحرب ليست عليك وحدك، فشعبنا جميعه عانى من ويلات الحرب.
وهنا أوقف المهندس فؤاد السّيّارة قرب بناية فارهة في رام الله، وقال وهو يشير إلى البناية:
– مكتبي في هذه البناية يا سهيل، سنمكث فيه قليلا وبعدها سنعود إلى قريتنا.
سأل سهيل على استحياء:
– هل يمكنني أن أستأذن بالانصراف؟
المهندس فؤاد ضاحكا:
– طبعا لا. هل مللت من صحبتي يا سهيل؟
– معاذ الله يا رجل، بالعكس، أنا سعيد بوجودي معك، لكنّني لا أريد أن ألهيك عن عملك.
– لا تخف على عملي، فهو على ما يرام.
عند ساعات الظهيرة قاد المهندس فؤاد سيّارته وسهيل يجلس بجانبه، وقف أمام منتزه البردوني وقال لسهيل:
– هيّا يا سهيل، سنتناول وجبة الغداء.
نزل سهيل لأنّه لا خيارات أخرى أمامه، جلسا على طاولة بجانب الشّارع، سهيل يراقب المارّين في الشّارع، عندما جاء النّادل، أشار المهندس فؤاد لسهيل أن يطلب ما يشاء، فقال سهيل:
– أنا لا أريد شيئا!
ضحك المهندس وقال للنّادل:
– أحضر مختلف أنواع السّلطات، وصحنا من المشاوي.
لا رغبة لسهيل في طعام أو شراب، ولا حتّى في الكلام، مدّ ناظريه إلى الشّارع المجاور كأنّه يحصي عدد المارّة والسّيّارات التي تعبره، عبس وجهه عندما رأى دوريّة عسكريّة تمرّ، رأى الفضاء ضيّقا كما كان يراه في غرفة السّجن، الهواجس ترهق مخيّلته، انتبه المهندس فؤاد لشرود سهيل، فسأله ضاحكا في محاولة منه لإخراجه ممّا هو فيه:
– بِمَ تفكّر يا سهيل؟
– لا أعرف.
– هل تعجبك فتيات رام الله؟
– كلّ النّساء جميلات، لكنّهن لا يعنين لي شيئا.
– هل يفكّر المعتقلون بالنّساء؟
ضحك سهيل وقال: طبعا فهم مثل بقيّة البشر.
– هل يتكلّمون في الجنس؟
– المتزوّجون يكثرون من الأحاديث الجنسيّة؟
– والعازبون؟
– العازبون يلتزمون الصّمت حياء.
ضحك المهندس وقال وهو يبتسم:
– طبعا، فكما قال المثل: “عزوبيّة دهر، ولا رُملة شهر”.
سادت لحظة صمت، فعاد المهندس فؤاد يسأل:
– هل لك تجارب مع النّساء يا سهيل؟
ردّ سهيل بسؤال: ماذا تقصد بتجارب؟
– قصدي هل اكتشفت عالم المرأة؟
– كيف أكتشفه وأنا لا زلت عازبا؟
– ألا تفكّر بالزّواج؟
– في هذه المرحلة لا أريد الزّواج.
– سمعت من بعض أهل القرية أنّك ستتزوّج مديحة ابنة خالتك، هل هذا صحيح؟
ابتسم سهيل وقال:
– بالتّأكيد ليس صحيحا، لأنّني لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي الجامعيّ.
بعد أن تناولا طعامهما، خرجا باتّجاه السّيّارة، فسأل المهندس فؤاد:
– هل تريد أن ترى شيئا أو تقضي مصلحة ما في رام الله يا سهيل؟
– شكرا لك، أريد العودة إلى البيت، وإن كنت مشغولا سأستقلّ الباص.
– إذن نأكل “البوظة” في محلّات رُكب، وبعدها سنعود إلى القرية.
– لا داعي لذلك، فلم يعد مكان للبوظة في معدتي.
– لا تخف… فالطّعام يجد له مكانا في المعدة.
في اليوم الأوّل للعام الدّراسيّ، استيقظ سهيل مع الشّفق الصّباحيّ، أعدّ قهوة الصّباح بيديه، احتسى فنجانه، استحمّ، استبدل ملابسه، خرج من البيت، مشى على قدميه حتّى وصل الشّارع الرّئيس، الذي يصل بين القدس ورام الله، استقلّ الحافلة في طريقه إلى رام الله، ومن هناك استقلّ الحافلة إلى بيرزيت، لم يكن في الحافلة سوى السّائق، جلس في المقعد الأخير، راقب الطّالبات والطّلاب وهم يصعدون إلى الحافلة، اكتملت حمولة الحافلة في أقلّ من ربع ساعة، انطلق السّائق بالحافلة بعد أن أشعل المذياع وصوت فيروز يصدح:
مرّيت بالشّوارع … شوارع القدس العتيقة
قدام الدّكاكين … البقيت من فلسطين
حكينا سوى الخبريّة وعطيوني مزهريّة
قالوا لي هيدي هديّة من النّاس النّاطرين
ومشيت بالشّوارع … شوارع القدس العتيقة
اوقف عباب بواب صارت وصرنا صحاب
وعينيهن الحزينة من طاقة المدينة
تاخدني وتودّيني بغربة العذاب
……………………………..
استمع الطّلبة لفيروز وأشجانها، اندمج سهيل مع الموسيقى الحزينة، وصوت فيروز الباكي، فنزلت دموعه رغما عنه. خرج من صوته حشرجة، لفتت انتباه فتاتين تجلسان في المقعد أمامه، التفتتا إليه تستطلعان الأمر، فسألته إحداهما:
– ماذا يبكيك يا أخي؟ هل تتألّم من شيء؟
مسح دموعه بكمّ قميصه وأجاب:
– لا…. لا أعاني من أيّ شيء.
واصل الاستماع للأغنية، جالت في ذاكرته القدس القديمة بمقدّساتها، أسواقها، حاراتها، أزقّتها، سورها العظيم، عبق تاريخها، ضحك لحظة وهو يرى نفسه متجوّلا في المدينة، وبكى لحظات لما آلت إليه أحوال مدينته.
بعد أن عبروا قرية سردا، وفي الوادي الذي يليها، فاجأهم حاجز عسكريّ، توقّفت الحافلة، صعد إليها جنديّان، أنزلوا الشّباب من الحافلة، فحصوا بطاقاتهم، سأل أحدهم “سهيل بعربيّة ركيكة:
– وين أنت بروخ؟
سهيل: إلى معهد بيرزيت.
– هل أنت طالب هناك؟
– نعم.
– هل لديك ما يثبت ذلك؟
أخرج له سهيل شهادة التّسجيل وقدّمها له دون كلام. نظر إليها الجنديّ وقال بلهجة آمرة لسهيل ولشابّين آخرين:
– قفوا هناك.
ثمّ أمر سائق الحافلة بمواصة رحلته. لكن فتاة طلبت من السّائق أن يتوقّف، وقالت لزميلاتها وزملائها:
انزلوا جميعكم من الحافلة، فليس مقبولا أن نترك خلفنا ثلاثة من زملائنا، فاستجابوا لها.
تقدّم منهم ضابط وسأل:
– لماذا نزلتم من الحافلة، فأنا لم أطلب منكم ذلك؟
ردّت عليه فتاة قائلة وهي تشير إلى زملائها الموقوفين:
– نزلنا كي لا يبقى زملاؤنا وحدهم.
تقدّم منها الضّابط غاضبا وطلب بطاقتها، تفحّصها وسألها:
– ما اسمك؟
– اسمي في بطاقة الهويّة معك.
– لكنّني أسألك: ما اسمك؟
نظرت إليه باستعلاء ولم تجبه، فتح البطاقة، رأى اسمها وقال بتؤدة وهو يهزّ رأسه:
– ناريمان جريس! أنت مسيحيّة…أليس كذلك؟
ردّت عليه متسائلة بسخرية:
– وما شأنك بديانتي؟
التفت إليها وقال:
– لا دخل للمسيحيّين بما يجري، خذي بطاقتك واذهبي إلى الباص.
– أنا فلسطينيّة عربيّة ولن أذهب إلا مع زملائي كافّة.
– إذن اذهبي وقفي معهم، فلن أسمح لكم بمواصة المسير.
أخذت بطاقتها، وذهبت لزملائها وهي تقول:
– احتلال يحفر قبره بيدي جنوده.
في حين أثار موقفها اعجاب زملائها، فقال سهيل بصوت منخفض:
– كم فتاة تساوي عشرات الرّجال!
عشرات السّيارات تقف باتّجاهي الشّارع، صرخ ضابط الحاجز قائلا، وجنوده يعتلون المرتفع القريب، شاهرين أسلحتهم:
– لن أسمح لأحد بالمرور.
لم يكترث له أحد، استلّ سلاحه وهو يقف في منتصف الشّارع، أطلق صلية رصاص في الفضاء وهو يشتم ويزمجر، ثمّ أشار لجنوده بأن ينزلوا من المرتفع، استقلّوا سيّاراتهم وقفلوا عائدين إلى رام الله. فقالت ناريمان ضاحكة:
– هل رأيتم كيف انصرفوا خائبين.
اعتلوا الحافلة يتضاحكون، ناريمان تقف بجانب باب الباص مفسحة المجال لزملائها، كي يدخلوا قبلها، طلب منها سهيل أن تدخل الحافلة قبله إلا أنّها أجابته مازحة:
– ادخل أنت أوّلا يا ابني!
صعدت إلى الحافلة، سارت خلف سهيل، جلست بجانبه على المقعد قبل الأخير، وتبادلت معه أطراف الحديث، سألته:
– هل أنت طالب في معهد بيرزيت؟
– نعم.
– ما اسم حضرتك؟
– سهيل مصطفى المحمود.
– أنا اسمي ناريمان جريس.
– تشرفنا.
– يبدو أنّك طالب جديد، فلم أشاهدك في العام المنصرم.
– نعم، أنا طالب جديد، سجّلت لدراسة الرّياضيّات.
– وأنا سنة ثانية رياضيّات، سأتخرّج هذا العام.
– سمعت أنّ معهد بيرزيت سيتحوّل إلى معهد جامعيّ، هل هذا صحيح؟
– هذا كلام يتردّد منذ بضعة أشهر، لكنّه لم يتحقّق حتّى الآن، وآمل أن يتحقّق فعلا.
– هذه أمنية غالية، وآمل أن نخلص من الاحتلال قريبا، لنواصل تعليمنا الجامعيّ، فالشّعوب تنهض بالتّعليم فقط.
– إذا خلصنا من الاحتلال سأواصل تعليمي في الجامعة الأردنيّة، أو في إحدى الجامعات المصريّة.
– وأنا سأفعل ذلك.
وقفت الحافلة أمام البناية القديمة للمعهد، نزل الطّلبة متدافعين كأنّهم في سباق، باستثناء ناريمان وسهيل، فقد التزما مقعدهما حتّى نزل آخر طالب. دخلا حرم المعهد، جلس سهيل على مقعد في السّاحة، في انتظار الحصّة الأولى، بينما جلست ناريمان بجانب طالبيتين على مقعد في الجهة المقابلة له، كن يتحدّثن وناريمان تشير بعينيها لهنّ إلى سهيل، شعر أنّها تتكلّم عنه، لكنّه لم يكترث بذلك.
في الفصل الدّراسيّ انتحى سهيل جانبا في الزّاوية الخلفيّة، لا يعرف أحدا من الطلبة، ولا أحد منهم يعرفه، هناك شبيهون له جاؤوا من بعض القرى البعيدة، يشعرون بغربة المكان والانسان في البدايات، ثمّ لا يلبثون أن يتأقلموا مع واقعهم الجديد، ويبنون علاقات ومعارف جديدة.
نظر سهيل إلى زملائه في الصّفّ، فوجدهم يصغرونه بثلاث سنوات على الأقلّ، انشغل بحساب حول عمر الانسان، وماذا يعني ضياع ثلاث سنوات من عمره؛ بسبب هذا الاحتلال؟ قطع حبل أفكاره عندما راودته فكرة مفادها أنّ الاحتلال شبيه بالسّرطان، الذي ينخر جسد الانسان، إن لم يتمّ استئصاله من بداياته، وهذا الاحتلال هو سرطان الوطن.
بعض الطّلاب لم يجدوا تفسيرا لفارق العمر بينهم وبين سهيل إلّا باتّهام سهيل برسوبه المتكرّر في سنوات الدّراسة، بينما رأت الطالبات أنّ سهيل أكثر نضجا وعقلانيّة من بقيّة الزملاء.
عندما دخل الأستاذ عبد الحقّ الفصل في منتصف النّهار، بعد أن بدأ محاضرته انتبه لسهيل فقطع حديثه قائلا:
– كيفك يا سهيل؟
– الحمد لله.
– عليك الآن أن تنسى سنوات السّجن، وتبدأ حياتك الدّراسيّة كأنّ شيئا لم يكن.
لم يتكلّم سهيل شيئا، لكنّ الأستاذ قال للطلبة الذين اشرأبّت أعناقهم نحو سهيل:
– هذا زميلكم سهيل أفنى من عمره سنتين في سجون الاحتلال، وهو متحمّس لمواصلة دراسته التي انقطع عنها بسبب الحرب. كلام الأستاذ هذا قطع دابر عشرات التّكهنات حول عمر سهيل، الذي ارتسمت له صورة ورديّة في مخيّلة كلّ واحد من زملائه.
في الفرصة الصّباحيّة، اشترى سهيل “ساندويتش” جبنة صفراء، وزجاجة “كولا”، جلس يأكل على مقعد في السّاحة تحت ظلّ شجرة، تقدّمت منه فتاتان واحدة من بنات صفّه، والثّانية سنة ثانية، تحمل كلّ واحدة منهما زجاجة عصير، صافحتاه وجلستا بجانبه دون استئذان، قالت إحداهما:
– أنا سوسن وهذه صديقتي أسمهان.
– أهلا بكما.
– نتشرّف بوجودك بيننا.
– شكرا لكما.
قالت أسمهان على استحياء:
– هل قابلت في السّجن شخصا اسمه حسين الخطيب، محكوم مدى الحياة؟
– نعم قابلته في سجن الرّملة.
– هل تعلم أنّه خطيبي؟
شهق سهيل من المفاجأة، مدّ يده إليها وصافحها للمرّة الثانية وقال:
– تشرّفت بك يا أختي، فخطيبك من خيرة الشّباب، لا تخافي، لن يطول عمر الاحتلال وسيتحرّر حسين والأسرى كافّة قريبا بإذن الله.
– أنا على ثقة بذلك، لكن طمئنّي عنه.
– حسين من خيرة الشّباب، وهو شابّ مثابر، أنهى دراسة الصّيدلة في جامعة القاهرة، سنة الحرب، وعاد في دوريّة مسلّحة للمقاومة، وجرح ووقع أسيرا.
– صحيح، لقد خطبني عندما كان طالبا في السّنة الرّابعة، واتفقنا على الزّواج بعد أن ينهي دراسته، فوقعت الحرب ووقعنا تحت الاحتلال.
– نعم وهو يحتفظ بعدد من صور خطبته، ويتمعنّ بصورتك يوميا.
– حبيبي حسين، وأنا أضع صورته فوق رأسي على السّرير، وأحتضنها كثيرا.
وهنا جاءت ناريمان ضاحكة، وقفت أمامهم، ابتسمت لسهيل، وتعرّفت على سوسن، أمّا أسمهان فهي تعرفها منذ بداية العام الدّراسيّ المنصرم.
واصل سهيل الحديث فقال لأسمهان:
– عندما تزورينه، بلغيه سلامي، وقولي له بأنّني التحقت بمعهد بيرزيت، ونسأل الله أن يكون الفرج قريبا، وستتزوّجان، ونفرح بكما.
فقالت سوسن مازحة:
– وسنرقص وسنغنّي بفرحكما.
سهيل: إن شاء الله.
ناريمان: سأعمل لكما عزومة خاصّة. ثمّ وجّهت حديثها لسهيل:
– ما رأيك أن تستأجر بيتا في بيرزيت، ففي ذلك توفير للوقت، وراحة من نكد المواصلات؟
– سأفكّر بذلك.
– في بيت خالتي شقّة صغيرة منفصلة مع منافعها، تصلح لطالب أو اثنين، بإمكانك استئجارها قبل أن يحجزها طلاب أخرون، في العام الماضي استأجرتها طالبتان، تخرّجتا في نهاية العام الدّراسيّ، أجرتها الشّهريّة خمسة دنانير.
– سأفكّر بالموضوع.
– فكّر على راحتك، وأنا سأحجزها لك حتّى نهاية هذا الشّهر، دعنا نكون “جيران” فأنا أسكن مع خالتي.
– يشرّفني جوارك.
فقالت أسمهان: إن لم يستأجرها سهيل، سنستأجرها أنا وسوسن.
فقالت ناريمان مازحة:
– خالتي لا تؤجّر البنات.
ضحكوا جميعهم، وعادوا إلى صفوفهم فرحين.
فكّر سهيل بما قالته ناريمان، تساءل بينه وبين نفسه عن الأسباب التي تدعو ناريمان للاهتمام به! تذكّر موقفها مع الحاجز العسكريّ، فشعر بسعادة غامرة، ابتسم عندما تذكّر ابتسامتها العذبة، وعفويّتها الزّائدة.
بعد انتهاء الدّوام استقلّ الطّلاب الحافلة قاصدين رام الله، جلس سهيل كعادته في زاوية المقعد الخلفيّ، لحقت به سوسن وجلست بجانبه، عندما دخلت ناريمان الحافلة، جالت بناظريها ثمّ جلست في مقعد عند منتصف الحافلة، بدت وكأنّها صديقة للطّلبة جميعهم، تمازح هذا وتبتسم لتلك، عندما مرّ أحد المعلّمين بناريمان ابتسم لها وهو يقول:
– كيفك يا مختارة؟
سأل سهيل سوسن:
– لماذا قال لها الأستاذ “يا مختارة”؟
سوسن: ناريمان طالبة نشيطة ورائعة، تعمل على تأسيس اتّحاد طلاب للمعهد، وبالتّالي فهي تختلط بالجميع وتحاول استقطابهم، وفي بعض المناسبات المعروفة تدعوهم للاضراب والتّظاهر. فالطلاب جميعهم يتحدّثون عن جرأتها في العام الماضي في ذكرى وعد بلفور، فقد قادت مظاهرة، وتمّ اعتقالها لمدّة أسبوع، لكنّها لم تخف ولم تتراجع، فدعت إلى لقاء بمناسبة ذكرى قرار التّقسيم، تحدّثت فيه عن أسباب رفض الفلسطينيّين له.
استمع سهيل لما قالته سوسن ولم يتكلّم، فقد كان مشغولا بالأشجار والأبنية والجبال المحيطة التي تهرب إلى الخلف، تاركة الطريق مفتوحة للحافلة لتنهبها، وسط النّسيم الذي يتسلّل من النوافذ، يعبث بشعور الصّبايا، المتطاير دون انتظام، فترتفع الأيدي النّاعمة بدلال لتزيحه عن الوجه، وكأنّها لعبة يحلو تكرارها.
توقّفت الحافلة مرّات قليلة؛ لينزل منها عدد من الطّلبة العائدين إلى بيوتهم. عند المنارة وسط رام الله، نزلوا جميعهم، مشى سهيل بتثاقل تجاه سيّارات الأجرة العاملة على طريق رام الله- القدس.، جلس بجانب السّائق، أشعل سيجارة بعد أن استأذن من السّائق وبقيّة المسافرين، ضحك السّائق وقال لسهيل:
– دخّن يا عمّ، هذه المرّة الأولى التي أسمع فيها مسافرا يستأذن؛ كي يشعل سيجارته، يبدو أنّك لست من هذه البلاد.
سهيل: بل أنا منها ولن أغادرها ما حييت.
قالت عجوز تجلس في المقعد الخلفيّ:
– الله يرضى عليك يا خالتي، ويخلّيك لأمّك، والله نسمة هواء من هالبلاد بتسوى كلّ العالم.
في الطّريق استمعوا لنشرة الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانيّة، وجاء فيها أنّ توتّر العلاقات بين التّنظيمات الفلسطينيّة والجيش الأردنيّ قد بلغ ذروته، وأنّ احتمال حرب أهليّة قد بات وشيكا، فقال السّائق:
– هذا كلام هراء، من المستحيل أن يحصل اقتتال في الأردنّ.
فسأله راكب يجلس خلفه؟
– لماذا؟
– لأنّ الأردنّ وفلسطين توأمان سياميّان.
– لكنّ أيدي الفتنة طويلة.
– عن أيّ فتنة تتكلّم يا رجل؟
– الأعداء يعرفون كيف يشعلون الحروب.
قالت المرأة العجوز: الوضع مخيف، وربنا يستر.
لم يتكلّم سهيل، لكنّه كان يستمع لكلّ كلمة، يبتلع ريقه الجافّ، يفتح نافذة السّيّارة، يسحب نفسا عميقا من نسيم عليل تخطّى حدود البحر، وحمل معه عبق روائح بيّارات البرتقال، التي ما عادت لمن يملكونها، وهم من زرعوها، ولم يتبقّ لهم منها سوى ذكريات تعزف لحن الخلود على أفئدة أنهكها التّشرّد.
ابتسم مع ذاته لخاطرة طرقت ذاكرته، بينما النّقاش يحتدم بين السّائق والرّكّاب، فسأله أحد الرّكّاب:
– هل أعجبك كلامي يا أستاذ؟
– عفوا لم أنتبه لما قلت.
– كيف لم تنتبه وأنا رأيتك تبتسم؟ فهل ابتسمت سخرية من كلامي؟
– وحّد الله يا رجل، هل البسمة أصبحت حراما؟
قال السّائق وهو يضحك:
– صلّوا على النّبيّ يا إخوان، فنحن نتكلم عن احتمال حرب أهليّة في الأردن، فلا تقلبوها حربا حقيقيّة في سيّارتي.
فردّ عليه سهيل:
– الحروب الأهليّة أخطر من الحروب مع الأعداء، ونسأل الله أن يبعدها عن الأردنّ وعن الأقطار العربيّة كافّة.
فقالوا من خلفه: آمين يا ربّ العلمين.
عندما وصل سهيل إلى تقاطع الطّرق الذي يوصل إلى بيته، طلب من السّائق التّوقّف، وقبل أن يخطو خطوة على الرّصيف سمع رجلا في السّيّارة يقول: ” طريق تاخذ وما تردّ”.
**********
صباح يوم الجمعة مرّت به وهو يمشي قاصدا الشّارع الرّئيس، ليستقلّ الحافلة إلى القدس، أوقفت سيّارتها قريبا منه، أشارت إليه لتحمله معها إلى القدس، دخل السّيّارة مبتسما وهو يقول:
– صباح الخير يا مديحة.
– صباح الخيرات.
– إلى أين أنت ذاهب؟
– إلى القدس.
– أعرف أنّك ذاهب إلى القدس، لكنّ سؤالي هو:
– هل أنت مشغول بعمل أو موعد معيّن؟
– وماذا يعنيك ذلك؟
– لا شيء، لكنّني أسألك، فإذا لم تكن لديك ارتباطات، كي أدعوك لنحتسي القهوة بمعيّتك.
ردّ ضاحكا: لا بأس، سنحتسي القهوة.
– منذ خروجك من السّجن وأنا أتحيّن الفرصة؛ لأحظى بالجلوس معك.
– يشرّفني أن أجلس معك، ولا تنسي صلة القرابة بيننا، وأنّ بإمكانك أن تحضري لبيتنا متى تشائين، والعكس صحيح أيضا.
– أعرف ذلك، لكن لا حول ولا قوّة إلا بالله.
لم يعلم سهيل سبب حِرص مديحة على الجلوس معه، شعر بنوع من القلق فربّما تفتح معه ما تردّده والدته باستمرار، حول رغبتها بزواجه من مديحة، فهو غير راغب بالزّواج في هذه المرحلة من مديحة ولا من غيرها. فاحتار في اختيار الصّيغة المناسبة للرّد عليها، إذا ما تكلّمت في الموضوع، دون أن يجرح مشاعرها.
دخلت مديحة إلى فندق “أميركان كولوني” التّاريخي، أوقفت سيّارتها في موقف السّيّارات الخاصّ بالفندق، وقالت لسهيل:
– تفضّل.
نزل سهيل من السّيّارة، مشى بجانب مديحة كطفل يسير مع أحد والديه، فلم يسبق له أن دخل هذا المكان، جال المكان بناظريه، فضّ عذريّة الصّمت متسائلا:
– ماذا سنفعل هنا يا مديحة؟
– سنشرب القهوة كما أخبرتك.
– دخلا البناء القديم، سارت به إلى مكان الجلوس المكشوف، الذي تحيط به الجدران، جلسا على طاولة تظلّلها شجرة زينة، سألته:
– ماذا تريد أن تشرب يا سهيل؟
– ألم تقولي بأنّنا سنشرب القهوة؟
ضحكت وهي تقول:
– لكن بإمكانك أن تشرب ما تريد، فالهدف هو الجلوس؛ كي نتحدّث.
راود سهيل شعور غريب لم ينتبه لأسبابه إلا بعد أن دخلا هذا المكان، فهو لا يملك سوى عشر ليرات اسرائيليّة، ولا يعرف ثمن فنجان القهوة في هكذا أمكنة، ومن غير المعقول أن تدفع امرأة عنها وعنه، فقد تربّى على أنّ “الرّجال قوّامون على النّساء.”
جاء النّادل فقالت له مديحة دون أن تستشير سهيل:
– أحضر لنا “بوظة” لو سمحت.
وعندما انصرف النّادل قالت لسهيل:
– لديهم “بوظة” فاخرة، سنأكل “البوظة” في هذا اليوم القائظ، وبعدها سنشرب القهوة، سنذهب إلى مطعم كي نتناول غداءنا، وربّما سنتناوله هنا، – حسب رغبتك- فأنا من دعوتك وأنت ضيفي.
فقال سهيل وعقله محصور في الليرات العشرة، التي لا تكفي بالتّأكيد لدفع الحساب، وتركيزه منصبّ على اختيار جواب لا يجرح مشاعرها إذا ما طرحت قضيّة زواجهما:
– لا داعي لذلك.
عندما جاء النّادل بالبوظة قالت مديحة:
– هل أنت مرتاح في هذه الجلسة يا سهيل؟
– نعم إنّه مكان جميل، وهذه هي المرّة الأولى التي أدخله فيها.
– أنا سعيدة بوجودي معك، فأنت أخ كريم، وأعتبرك مثل اخوتي تماما مثلما هي أمّك خالتي مثل أمّي.
– يسعدني ذلك، وأنا أعزّك وأحبّك كأختى.
قالت مديحة ووجهها تعلوه حمرة الحياء:
– أنا أثق بوعيك وقدرتك على تحليل الأمور وتفهّمها بطريقة صحيحة، لقد كنت أنتظر الافراج عنك ساعة بساعة، وأنا أقول بأن لا أحد سيفهمني أكثر منك يا سهيل.
– خيرا يا مديحة، لقد أثرت فضولي؛ لأسمع ما تريدين قوله.
– في الواقع منذ دخولك السّجن، وخالتي أمّ حاتم وأمّي تتحدّثان عن زواجك منّي، دون أن يأخذ أحد رأيك أو رأيي في الموضوع.
طأطأ سهيل رأسه، ونزل عرقه من شدّة الحياء، لكنّ مديحة أخرجته ممّا هو فيه عندما واصلت حديثها قائلة:
عندما كان يأتيني أحدهم خاطبا، كنت أرفضه، فكانت أمّي وخالتي أمّ حاتم تفسّران ذلك فرحتين، بأنّني يستحيل أن أقبل الزّواج من أيّ شخص غير سهيل، وهذا أراحني من أسئلة كثيرة حول عدم موافقتي على أيّ خاطب. وعندما تحرّرت أنت من الأسر، كثر اللغط والقيل والقال، وحصلت سجالات كثيرة بين أمّي وأمّك، فخالتي أمّ حاتم كانت تشعر بالحرج وهي تقول لأمّي، بأنّ سهيل يرفض الزّواج من مديحة أو من غيرها، وهو يريد أن يكمل تعليمه الجامعيّ، في حين تمتعض أمّي من سماع ذلك، وتقول لخالتي أمّ حاتم؛ بأنّ الحقّ عليّ- أي على أمّي- وعلى بنتي مديحة لأنّنا انتظرناه. ومع ذلك كنت أقول لخالتي: “اسمعي يا خالتي، والله أنّني أحبّ سهيل مثل أيّ واحد من أشقّائي، أشتاقه كما أشتاق أشقّائي في غربتهم، تألّمت كثيرا لاعتقاله، كنت أنتظر أن تنتهي مدّة محكوميّته؛ كي يتحرّر ويعيش حياته طليقا مثل بقيّة خلق الله.” وللأسف الشّديد، كانتا تفهمان من كلامي هذا عكس ما كنت أعنيه.
وباختصار يا ابن الخالة، فلقد كنت سعيدا بموقفك من الزّواج، وأتمنّى أن تكمل تعليمك الجامعيّ، وأن تتزوّج الفتاة التي تحلو لك، وتدخل قلبك وتسعدك.
ردّ عليها سهيل وهو منكّس رأسه:
– سعيد بما سمعته منك يا مديحة، فنحن تربّينا سويّة، وأنا أعتبرك مثل أختي، ولو كنت أرغب بالزّواج لما وجدت أفضل منك، لكنّك تعلمين بأنّ من لا يتعلّم في هذه الأيّام فلن يستطيع العيش، وأنت تعلّمت في معهد متوسّط، وتعملين الآن مدرّسة، وإن شاء الله سيكون نصيبك مع شابّ أفضل منّي بكثير.
ردّت مديحة باسمة: وعندما يتقدّم لخطبتي من أراه مناسبا، فستكون مستشاري الأوّل، وشقيقي الذي أنجبته خالتي.
سهيل: ستجدينني بجانبك دائما.
جاء النّادل فقالت له مديحة:
– أحضر لنا فنجاني قهوة عربيّة، بدون سكّر.
فقال سهيل: أنا قهوتي “سكّر قليل”.
عادت مديحة تسأل:
– هل تعتبرني مثل أختك حقّا يا سهيل، أم هو مجرّد مجاملات ستذروها الرّياح؟
– وهل عندك شكّ في ذلك؟
– من جانبي أنا على ثقة تامّة بأنّك مثل أخي.
– وأنا أيضا أعتبرك مثل أختي.
– إذن لا فرق بيننا؟
– وهل أنت قلقة من هذا حتّى تسألين هكذا أسئلة؟
– أبدا، ولكن ليطمئنّ قلبي.
– “حطّي في بطنك بطّيخة بارده”
– إذن من حقّي أن أتعامل معك كأخت.
– طبعا.
فتحت حقيبتها، أخرجت منها ألف ليرة اسرائيليّة، قدّمتها لسهيل وهي تقول:
– أخي الحبيب سهيل، أنت تحرّرت من السّجن قبل عدّة أسابيع، والتحقت بمعهد بيرزيت، وهذا مبلغ زهيد من أختك مديحة، أقدّمه لك طواعية.
انتفض سهيل وقال:
– لست بحاجة لها، فأخي حاتم يقدّم لي ما أحتاجه دون أن أطلب منه.
– لقد قلتها بلسانك، أنّ أخاك حاتم يساعدك، فلماذا لا تقبل مساعدة أختك مديحة؟
– لأنّني لست محتاجا للمساعدة.
– هل أفهم من هذا أنّك تقول بلسانك عكس ما تضمر في سريرتك؟
– أعوذ بالله من أفكارك السّوداويّة.
– اسمع يا سهيل، لو كنت أنا السّجينة، وقدّمت لي مساعدة، سأقبلها شاكرة، إلا إذا كنت لا تعتبرنا إخوة.
صمت سهيل برهة من الوقت وبعدها قال:
– سأقبلها منك كدين أسدّده عندما أعمل وتتيسّر أموري.
ضحكت مديحة وقالت:
– أنا موافقة، سأعتبرها دينا –كما قلت- وسأقبل أن تعيدها لي بعد أن تسدّد ديون حاتم عليك!
وضعت المبلغ في يده، وضعه في جيبه على استحياء. عندما أحضر النّادل القهوة، طلب منه سهيل أن يأتي بفاتورة الحساب. التفتت إليه مديحة وقالت:
– أنا دعوتك وأنا من سأدفع الحساب.
فقال سهيل: هذا مستحيل.
فسألت مديحة: لِمَ مستحيل؟ هل ترى عيبا في ذلك؟ أخشى أنّك تتعامل معي “كحرمة” لا حول لها ولا قوّة.
ضحك سهيل وهو يقول مازحا:
– لا بأس، ادفعي يا أختي.
خرجا من الفندق ومديحة تسأل:
– أين تحبّ أن نتناول غداءنا؟
– في بيتنا.
– في البيت لن نأخذ راحتنا في الحديث.
– بالعكس، من خلال غدائنا سنحقّق أكثر من هدف.
لم تدعه مديحة يكمل، فقاطعت حديثه تسأل:
– وهل للغداء في البيت أهداف؟
– أريد من غدائنا في البيت أن ترى خالتك أمّ حاتم أنّنا أخوان، كي تترك الحديث عن زواجنا مقتنعة، وبعدها سنشرب القهوة في بيتكم، كي تفهم خالتي زعرورة الكلام نفسه.
– مديحة: هذه فكرة جيّدة، هيّا بنا إلى البيت.
عندما وصلا مفترق الطرق الذي يوصل إلى بيت حنينا القديمة، مرّا بالحاجّة حمدة الجابر، حيث كانت تجلس على حجر، أمامها مجموعة أغراض معبّأة في أكياس بلاستيكيّة، ترفع عصاها لكل سيّارة تعبر الشّارع مشيرة إليها، لتقلّها إلى بيتها، أوقفت مديحة سيّارتها بجانبها، نزل سهيل ليحمل لها أغراضها، أمسك يدها وأدخلها في المقعد الخلفيّ للسّيّارة وهو يقول:
– على مهلك يا خالتي.
عندما جلست في السّيارة، مسحت بطرف “خرقتها” العرق المتصبّب على جبينها ووجنتيها، ابتسمت وقالت:
– كيف حالكم يمّه؟
ردّا بصوت واحد: الحمد لله نحن بخير.
– والله يمّه أكثر من ساعتين وأنا قاعدة تحت الشّمس ما واحد وقّف لي، حتّى الباص مرّ فاضي ما وقف.
ردّ سهيل عليها: كان الله في عونك يا خالة.
ابتسمت الحاجّ حمدة وقالت باسمة:
– الحمد لك يا ربّي، والله إنّي مبسوطة لكم، أيوه هيك بدّي إيّاكم.
سألتها مديحة: عمَّ تتكلّمين يا حاجّة؟
– أتكلّم عنك وعن سهيل يمّه، الحمد لله اللي ربنا هداكم وجمعكم مع بعض.
مديحة: ماذا تقصدين؟
– أقصد انه شملكم التمّ، وان شاء الله بنفرح فيكم عن قريب.
سهيل: يا حاجّة، مديحة قريبتي وبنت خالتي، وهي مثل أختي تماما.
– الله يرضى عليكم يمّه، خلّوا الطابق مستور حتّى تتزوّجوا، والله هالأيّام النّاس “بحبّلوا بنت البيت”!
غضبت مديحة وصاحت بها:
– عن أيّ ستر، وأيّ “حَبَلٍ” تتكلّمين يا حاجّة؟ هل أنت مجنونة؟
– أستغفر الله العظيم، ليش ما تفهمي الكلام يا بنت؟ أنا مبسوطة لك ولسهيل، انكم رجعتوا لبعض، وإن شاء الله نفرح فيكم عن قريب.
مديحة: يا حاجّة، افهمي الكلام، أنا وسهيل مثل الأخوة، وكلّ منّا سيلقى نصيبه.
ضحكت الحاجّة حمدة وقالت:
– ربنا يجيب اللي فيه الخير، والله يمّه يا مديحة، عمّك أبو حاتم تزوّج خالتك صفيّة، ودخل عليها وهو دايما يقول للناس اللي كانوا يشوفوهم في كروم التّين لحالهم: “صفيّة مثل أختي!” وفي “ليلة ما فيها ضوّ قمر” وللا النّاس بقولوا مصطفى المحمود خطب صفيّة، وثاني يوم تزوّجها! وبعد ثماني شهور خلّفوا حاتم، الله يرحم هذيك الايّام. نزليني يمّه عندك وصلنا الدّار، ما بدّي أحط بذمتي، و”الكلام بزيد ما بنقص.”
أوقفت مديحة السّيّارة، نزل سهيل، ساعد الحاجّة حمدة على النّزول ، حمل أغراضها وأوصلها باب بيتها وهو يقول في سرّه:
– أعوذ بالله من شرور لسانك!
في حين قالت لها مديحة: “طريق تاخذ ما ترد”.
عندما أوقفت مديحة السّيّارة أمام بيت أبي حاتم، أطلّت أمّ حاتم برأسها من نافذة المطبخ، وما أن رأت مديحة بجانب سهيل حتّى أطلقت زغرودة، جعلت أبا حاتم يصحو من غفوته تحت شجرة الزّيتون المجاورة، فجلس مدهوشا وسأل:
– شو صار يا امّ حاتم؟
– فتّح عينيك وبتلقى الجواب.
– انا مفتّح لكن مش فاهم شي.
في هذه الأثناء ركضت أمّ حاتم لتستقبل مديحة، ضمّتها إلى صدرها، أشبعتها تقبيلا وهي تقول: أهلا بالغالية.
مشت مديحة باتّجاه أبي حاتم لتصافحه، جلست على كرسيّ تحت شجرة الزّيتون قبالة أبي حاتم وقالت:
– جئت أنا وسهيل لنخبركم أنّنا تعاهدنا أن نكون كالأخوة، فسهيل يريد أن يكمل تعليمه، ولن يتزوّج قبل ذلك، وأنا أيضا لن أتزوّج في هذه المرحلة.
لطمت أمّ حاتم وجهها براحتي يديها وهي تقول:
– يا فضيحتك يا صفيّة! شو أقول لزعرورة وبقيّة النّاس.
مديحة: بعد أن نتناول طعام الغداء بمعيّتكم، سأذهب أنا وسهيل إلى بيتنا، وأنا سأخبر أمّي بقرارنا، فلا تقلقي بذلك يا خالتي.
أمّ حاتم: يا سواد وجهك يا صفيّة، “أصغر منّك طبّك، واصبر ع وعد ربّك” جيل والعياذ بالله.
صاح بها أبو حاتم قائلا:
– أعوذ بالله من هيك نسوان، دايما “مثل الغراب ما بتنعق إلا بالخراب” شو هالكلام الفاضي اللي دايما بتردّديه يا صفيّة؟ “كل شي بخناق، إلا الجيزه باتّفاق.” روحي جهزي الغداء، ولا تخليني أسمع صوتك.
فرح سهيل ومديحة بما قاله أبو حاتم، قالت مديحة:
– سأساعدك في تحضير الغداء يا خالتي.
فردّت عليها: لا تساعديني ولا بساعدك، خليني بحالي.
ومن هناك، عندما سمعت الحاجّة حمدة زغرودة أمّ حاتم، قالت لكنّتها:
– اسمعي يمّه، من وين الزّغرودة اللي طلعت؟
– يبدو أنّها من بيت أبي حاتم.
ضحكت الحاجّة حمدة ملء شدقيها وقالت بلهجة الواثق:
– والله كنت عارفه.
– ماذا كنت تعرفين يا عمّة؟
– كنت أعرف أنّ سهيل ومديحة بدهم يتزوّجوا.
– وكيف عرفت؟
– شفتها قاعدة معه في السّيارة مثل البسّة اللي قاعدة في حضن بسّ في شهر شباط.
ضحكت الكنّة ممّا قالته حماتها، وسألتها بلهجة ساخرة:
– ومن منهما يموء يا عمّة؟
– يا بنت ما بدها مسخرة، شباب بدهم يتزوّجوا، وربنا يستر عليهم.
منذ أن تحرّر سهيل من الأسر ووالدته وشقيقته فاطمة تحضّر كلّ منهما ما طاب ولذّ من طعام، حتّى أنّ سهيل قال لها ذات يوم:
– لا تتعبي نفسك يمّه، فنحن لسنا في مزرعة تسمين!
لم تفهم عليه، فسألت:
– شو يعني.
– لا شيء، أريدك أن ترتاحي.
– والله ما برتاح يمّه إلا لمّا أشوفك مبسوط، وبتمنّى تاكل الطبخة كلها.
في ذلك اليوم الذي وصلت فيه مديحة، أعدّت أمّ حاتم “المسخّن” في الطابون البلدي، وبعد أن جهّزت المائدة سألت:
– تيجوا تاكلوا في الدّار وللا أجيب الأكل عندكم؟
التفت أبو حاتم لمديحة وسألها:
– شو رايك يا عمّي؟
– مثل ما بدكم، وين بتقعدوا تاكلوا باكل معكم.
فنادى أبو حاتم: هات الأكل هان يا صفيّة.
قالت مديحة: رائحة طبيخ خالتي أمّ حاتم تفتح الشّهيّة.
أبو حاتم: أهلا وسهلا بك يا عمّي وكلي حتّى تشبعي.
تناولوا طعامهم بشهيّة مفتوحة، باستثناء أمّ حاتم فقد رفضت أن تذوقه.
سألها سهيل: لماذا لا تأكلين معنا يمّه؟
– ما لي نفس في الأكل.
قال أبو حاتم دون اكتراث:
– طبّاخ السّم بذوقه يا صفيّة! كلوا، صحتين وعافيه.
بعد أن تناولوا طعامهم، احتسوا القهوة، وقالت مديحة:
– سلمت يداك يا خالتي، سنتناول أنا وسهيل طعام العشاء في بيتنا، وسنرى ماذا ستطبخ زعرورة أختك لسهيل، ما رأيكما أنت وعمّي أبو حاتم أن تذهبا معنا لنتعشّى بمعيّتكما؟
وضعت أمّ حاتم يدها على خاصرتها وسألت:
– امّك معها خبر انّه سهيل رايح معك عندها.
– لا. لكن لدينا وقت للعشاء.
قال سهيل: لا أعتقد بعد هذا الغداء أنّنا سنحتاج عشاء.
مديحة: خالتك لن تسمح لك بالخروج قبل أن تتناول عشاءك عندها. وأتمنّى أن يرافقنا العمّ أبو حاتم والخالة أمّ حاتم.
قال أبو حاتم: “أنا من هالمراح ما فيه رواح”. إذا صفيّة لها خاطر تروح معكم الله يسهّل عليكم وعليها.
أمّ حاتم: ليش أروح؟ شو أقول لزعرورة؟ وللا بدكم أقول لها انّه مش قادرين نقنع اولادنا يتزوّجوا؟ خلّوني في همّي وحلّوا عنّي.
أحضر سهيل سلّة صغيرة وقال:
– سأملأ هذه السّلّة تينا لخالتي زعرورة.
قامت مديحة عن كرسيّها وهي تقول:
– سأساعدك يا سهيل.
سهيل: لا داعي لذلك.
وقفت مديحة أمام شجرة تين، نظرت إليها، قطفت ثمرة واحدة، قشّرتها وابتلعتها، وهذا ما فعلته بالثّمرة الثّانية والثّالثة، فقال لها سهيل مازحا:
– هل أتيت لمساعدتي أم لتأكلي؟
ضحكت وهي تقول:
– لكلا الأمرين معا.
تابعت أمّ حاتم حركات وضحكات سهيل ومديحة، التفتت لأبي حاتم وهمست في أذنه:
– شوف كيف بنطنطوا مع بعض مثل طير الشّنّار، والله لو الله بدّه يسعدهم، لتزوّجوا وانستروا، لكن الله أعلم شو مكتوب عليهم.
ردّ عليها أبو حاتم:
– اتركي الاولاد لحالهم، لا تخافي عليهم، بعرفوا مصلحتهم أكثر منّي ومنّك.
– والله بعدهم جاهلين يا حسرة قلبي.
ردّ أبو حاتم غاضبا:
– والله ما فيه أجهل منك، لا بتعرفي تسكتي ولا بتعرفي شو تحكي.
– استغفرك يا ربّ وأتوب إليك، مش عارف شو عملت لك، دايما حاطط قرينتك عليّ، ولا شي معجبك.
في هذه الأثناء أحضر سهيل صحنا زجاجيّا، ملأه بالتّين، وضعه أمام والديه وهو يقول:
– تفضّلوا يا حجاج.
أبو حاتم: الله يرضى عليك.
سهيل: الآن نستأذنكم بالذّهاب إلى خالتي زعرورة.
أمّ حاتم: سلّمْ عليها، واسألها عن زوجها واولادها.
أبو حاتم موجّها كلامه لمديحة:
– صحيح يا عمّي شو اخبار أبوك واخوتك؟
– أنت تعلم أنّني لا أعرف والدي، ولا هو يعرفني، فقد سافر إلى أمريكا وأمّي حامل بي، وأخي عامر يبعث كلّ شهر رسالة فيها شيك بمبلغ خمسمائة دولار للوالدة، ويقول أنّهم بخير. وكلّ شهرين أو ثلاثة يتحدّثون هاتفيّا مع الوالدة.
– بدهم أخوتك يتزوّجوا وللا دايرين مع الأمريكيّات؟
– عامر تزوّج بنت من دير دبوان، مولودة في أمريكا، وأنجب منها ولدا وبنتا، وسمير وفؤاد لم يتزوّجا حتّى الآن.
– وأبوك ما بتكلّم معكم؟
– لا.
– يا خسارتك يا أبو عامر، والله كان مليح وهو في البلاد، لكن يبدو أنّ “الغربة تضيّع الأصل”. يا عمّي سلمي عليهم عند ما يحكوا معكم.
– الله يسلمك.
قالت مديحة: هيا بنا يا سهيل.
استقلّا السّيارة، وغادرا المكان، وأمّ حاتم تتبعهم وهي تردّد:
– يا ربّ تجعل مديحة من نصيب سهيل.
يقع بيت أمّ عامر بجانب الشّارع الرّئيس الموصل بين القدس ورام الله، قريبا من دار المعلّمين، عندما أوقفت مديحة السّيّارة أمام البيت، أطلّت والدتها من النّافذة، وعندما رأت سهيل يترجّل من السّيارة قفزت حافية القدمين لاستقباله، حضنته وقبّلت وجنتيه وهي تقول:
– أهلا وسهلا ومليون مرحبا، والله زمان عن هالطّلّه الحلوة.
ومن الدّاخل علا صوت الحاجّة حمدة:
– وين نطّيتِ مثل “اللي قرصته حيّة يا امّ عامر؟
سألت مديحة أمّها:
– صوت من هذا يمّه؟
– هذه الحجّة حمدة.
– أعوذ بالله منها، ماذا تريد؟
– لا ترفعي صوتك بلاش تسمعك وتزعل.
دخلوا البيت، تحاملت الحاجّة حمدة على نفسها، وقفت وهي تتّكئ على عصاها، احتضنت مديحة وسهيل، قبّلتهما وهي تقول:
– سبع بركات يمّه، والله فرحت لكم مثل فرحتي باولادي، ومن ساعة ما شفتكم في السّيّارة، وقلبي برفرف فرح من فرحتكم، وما قدرت أصبر، قلت لازم أكون أوّل واحد يبارك لزعرورة وصفيّة.
مديحة: تباركين بماذا يا خالتي؟ قلنا لك أنّني وسهيل كالأخوة.
– معكم حقّ يمّة، النّاس كلامهم كثير، لا تحكوا لأيّ انسان حتّى ربنا يتمّم على خير، وبعدها الكلّ رايح يعرف.
مديحة: ماذا سيتكلّمون ويعرفون؟ قلت لك مرّات أنا وسهيل كالأخوة، وبالقلم العريض: لن نتزوّج من بعضنا، هل تفهمين الكلام؟
أمّ عامر: “الزّواج قسمة ونصيب” يا حجّة، وعندما يقع النّصيب الكل رايح يعرف، فوحدي الله، واتركي هالكلام.
– يعني أنا غلطانه اللي فرحت لكم وجيت أبارك لكم. الحقّ عليّ، معناه ما ظلّ لي مقعد عندكم، بخاطركم.
مديحة: مع السّلامة.
أمّ عامر وهي تغمز بعينها لابنتها:
هداك الله يا حجّة، والله ما انت طالعة قبل ما تشربي كاسة شاي أو فنجان قهوة.
– بيني وبين قهوتكم وشايكم الله.
مديحة: مع ألف سلامة.
وجّهت أمّ عامر كلامها لابنتها:
– وصليها بسيّارتك يمّه.
تجاهلت مديحة كلام أمّها، بينما كانت الحاجّة حمدة تقول:
– باعرف الطّريق وما بدّي حدا يوصّلني.
فقالت مديحة: معك حق! امشي فالمشي مفيد لصحّتك.
ضحك سهيل وهو يقول:
– صدق من قال: “هذا حامل ذقنه، وهذاك متغلّب فيها.”
أمسكت أمّ عامر بيد الحاجّة حمدة، ساعدتها في نزول درجات مدخل البيت، بينما قالت مديحة:
– “طريق تاخذ وما تردّ.”
**********
بصعوبة بالغة وبمساعدة من مديحة، استطاع سهيل اقناع خالته زعرورة أن لا تحضّر له طعام العشاء، بعد أن قطع وعدا أن يأتيها زائرا قبل نهاية الأسبوع، وأن يحدّد موعدا مسبقا لذلك؛ كي تحضّر له عشاء يليق بأسير محرّر.
سهر سهيل في بيت خالته حتّى منتصف الليل، عندما استأذن بالخروج، رافقته مديحة لتوصله بسيّارتها، انتظر والداه عودته، حيّاهما ودخل إلى غرفته لينام. تمدّد على فراشه، قطع دابر الليل باستعادة شريط يومه السّابق، نزلت جرأة مديحة على قلبه بلسما، فهي فتاة جريئة، تعرف ما تريده جيّدا، شتم العادات والتّقاليد التي “طوّبت” اسمه على مديحة منذ ولادتها، هو يكبرها ببضعة أشهر، منذ أطلقت صرختها الأولى معلنة قدومها لهذه الحياة، قالت أمّه لشقيقتها زعرورة كما تروي دائما:
عروس يا أمّ عامر، هذه من نصيب سهيل، والحمد لله على سلامتك وسلامتها.
انبهر سهيل بجرأة مديحة عندما أعلنت على رؤوس الأشهاد، بأنّ سهيل مثل أخيها، قالت ذلك مرّات كثيرة في العام الأخير، وبهذا أراحته من عناء خصومات عائليّة قد تحصل؛ بسبب عدم رغبته بالزّواج منها أو من غيرها. لكنّ تساؤلات دقّت بمطرقتها على رأسه، فهل من المعقول أن مديحة قد وقعت في شراك قلب شابّ آخر؟ ومن سيكون؟ فقد سمع أنّ بضعة شباب قد طرقوا بابها خاطبين، فرفضتهم جميعهم، فمن تريد؟ وهل موقفها الأخويّ منه مناورة لتحرّضه على التّمسّك بها، أم أنّها تعني ذلك حقّا؟ تقلّب في فراشه بعد أن هجر النّعاس عينيه، لكنّه غفا في الهزيع الأخير من الليل، فهاجمته كوابيس لم يعد يذكر منها شيئا عندما استيقظ صباحا.
عندما وصل معهد بيرزيت في ساعات الصّباح، سأل صاحب بقالة صغيرة إن كان يعرف بيتا للإيجار، فأشار له إلى بيت يقع على مرتفع يمكن رؤيته من المكان، في الفرصة الصّباحيّة عند السّاعة العاشرة صباحا، طرق سهيل باب ذلك البيت، أطلّت عليه مسنّة أنيقة، لا تزال تحتفظ بمسحة من جمال، طرح عليها تحيّة الصّباح وقال:
– أنا طالب في المعهد، وقالوا لي بأنّ لديك بيتا للإيجار.
ردّت عليه باسمة:
– تفضّل يا ابني.
قادته من باب داخليّ إلى شقّة صغيرة ملتصقة ببيتها وقالت له:
– هذه الشّقّة مكوّنة من غرفة للنّوم، مطبخ وحمّام صغير، صالون وبرندة، لها مدخل منفصل، افحصها وإن أعجبتك سنتكلّم.
دار سهيل في الشّقة بشكل سريع، وقف قليلا في البرندة يستطلع المنطقة، وعاد إليها قائلا:
– نعم أعجبتني.
– اسمع يا ولدي: كما ترى هي شقّة متواضعة مفروشة، صحيح أنّ أثاثها قديم، لكنّها تصلح لسكن طالب أو طالبين، أنا أسكن مع ابنتي في الشّقّة المجاورة، وأبنائي الثّلاثة مغتربون في الخارج، إنّ أردت استئجار هذه الشّقة فأهلا بك، بشرط الحفاظ على الهدوء، فنحن لا نريد مشاكل.
– أنا لست صاحب مشاكل يا خالة.
– قصدي أن لا تجعل هذه الشّقّة مقهى للشّباب، يثيرون الضّجة ويزعجون الجيران.
– أفهمك جيّدا، وستجدينني مثل أيّ واحد من أبنائك. كم تريدين أجرة شهريّة لها؟
– هل ستسكنها وحدك أم مع طالب آخر؟
– وحدي.
– إذن يكفي منك خمسة دنانير شهريّا. ما اسمك يا ابني؟ على بركة الله. خذ المفتاح.
– اسمي سهيل مصطفى المحمود، من بيت حنينا.
– أهلا بك يا ولدي، وأنا اسمي ليلى “أمّ حنّا”.
– تشرّفت بك يا خالة، سأستلم الشّقة غدا، وسأدفع لك أجرة شهرين مقدّما. اتركي المفتاح معك حتّى يوم غد، سأستلمه بعد أن نكتب العقد.
– أنا لا أكتب عقود إيجار مع الطّلاب.
– كما تريدين يا خالة، والآن أستأذن منك لأنّه عندي حصّة دراسيّة.
– رافقتك السّلامة.
عندما عاد سهيل إلى بيت والديه في بيت حنينا، أخبرهم بأنّه استأجر بيتا في بيرزيت، مقابل خمسة دنانير في الشّهر، ضربت والدته كفّا على كفّ وقالت:
– يا حسرة راسك يا صفيّة، ما صدّقنا وانت تطلع من السّجن، وبدّك تشرد عنّا؟
سهيل: ما هذا الكلام يا أمّي؟ أريد أن أكون قريبا من المعهد، سأرتاح من مشاكل المواصلات، سأكسب الوقت للدّراسة، سأعود إليكم مساء كلّ خميس، وسأبقى حتّى صباح السّبت من كلّ أسبوع.
حاتم: توكّل على الله، وأجرة البيت ومصروفك عليّ، المهمّ أن تكون مرتاحا.
أبو حاتم: الله يرضى عليكم ويوفّقكم.
سهيل: أجرة البيت بسيطة، خمسة دنانير في الشّهر.
حاتم: ما تحتاجه “عندي ولازم ذمّتي” ولا تبخل على نفسك.
أمّ حاتم: احنا ما بدنا فلوس، بدنا سهيل يظل عندنا.
أبو حاتم: المهم دير بالك على حالك وعلى دراستك. ولا تهتم لكلام امّك لأنها “ما بتعرف الخير من الشّر”.
سهيل: أمّي حبيبتي، وكلامها على رأسي قبل عيني.
لم تتكلّم أمّ حاتم، فقال لها أبو حاتم:
– قولي له: “الله يرضى عليك.” وللا هاي صعبة عليك؟
أمّ حاتم: الرّضا في القلب مش في اللسان، وربنا عارف الصّحيح.
**********
عندما عادت مديحة إلى بيتها بعد أن أوصلت سهيل إلى بيته، وجدت أمّها في انتظارها، فسألتها:
شو قصتك انت وسهيل؟
– عادي سهيل ابن خالتي ومثل أخي.
– ألم يعرض عليك رغبته بالزّواج منك؟
– أنا سبقته وقلت له بأنّه مثل أخي بالنّسبة لي، وهو بدوره قال بأنّه لا يفكّر بالزّواج قبل أن ينهي تعليمه الجامعيّ.
– يا خيبتي، شو أقول لصفيّة؟
– لا تقولي لها شيئا، فأنا قلت لها ما سمعته أنت.
– يا ريتني ما سمعت هالكلام.
– لماذا؟ الزّواج قسمة ونصيب. لكنّني أريد أن أسألك عن الحاجّة حمدة؟ هل هي مجنونة؟
– ليش يا بنتي؟
– قلت لها بدل المرّة عشر مرّات بأنّني وسهيل كالأخوة، لكنّها لم تصدّق، وجاءت لك تبارك وكأنّنا خطبنا.
– الحجّة حمدة يا بنتي مسكينة وطيبة، بتحبّ الخير للجميع. وبتتصرف بنيّة حسنة.
– بل هي سيّئة النّوايا لو تعلمين ماذا قالت لي ولسهيل؟
– شو قالت؟
– قالت: أنّ أبا حاتم وخالتي صفيّة كانت بينهما علاقة قبل أن يتزوّجا، وأنّ خالتي صفيّة خلّفت حاتم بعد ثمانية أشهر من الزّواج!
– الله يحرق شيبها، من وين جابت هالخبر؟
– سؤالي، هل كلامها صحيح أم لا؟
– حتّى لو كان صحيح، بعد هالعمر وهالخلفة شو هالكلام الفاضي؟ وللا “بعد ما شاب ودّوه ع الكتّاب”؟
– هل يعني هذا أنّ كلامها صحيح؟
– عيب يا بنت هالكلام، واتركيك من الحكي الفاضي.
صدرت همهمة من مديحة، وذهبت لغرفة نومها وهي تقول:
– تصبحين على خير يمّه.
من غرفة نومها سمعت والدتها وهي تقول لنفسها:
– الله يقطع لسانك يا حمدة، اللي عمرك ما بتتركي هالعادة.
شعرت مديحة بقلق احتارت في فهم أسبابه، فلم تعد قادرة على النّوم رغم أنّ السّاعة تجاوزت الواحدة صباحا، أخذت حمّاما دافئا، تمدّدت على سريرها، أغمضت عينيها لعلّ سلطان النّوم يغزو عينيها، لكن دون جدوى.
تتضارب الأفكار والمخاوف في رأسها، وما عادت قادرة على تمييز الخطأ من الصّواب، فهل تعجّلت في ابلاغ سهيل أنّهما كما الأخوة؟ صحيح أنّها تعرف سهيل منذ ولادتها، لم تكن حواجز بينهما، فقد لعبا مع بعضهما البعض مرّات كثيرة، ابتسمت عندما تذكّرت كيف غطّت رأسها بحطّة خالتها صفيّة البيضاء الشّفّافة، وأطلقت طرفها على وجهها كما “غمغام” العروس، وجلست تحت الزّيتونة المعمّرة أمام بيت خالتها صفيّة، وهي تقول لسهيل أن يجلس بجانبها ليلعبا “عريس وعروسه”، هي براءة الطّفولة، لكنّها تساءلت عن الأسباب التي منعتهما من استكمال لعبتهما في هذه المرحلة.
لقد اكتشفت في يومها الذي مضى وسامة ورقّة سهيل، وحياءه المحبّب، كأنّها تتعرّف عليه للمرّة الأولى، فلامت نفسها كثيرا، لأنّها لم تنتبه لذلك من قبل، لكنّها عادت توبّخ نفسها، على أفكارها المشتّتة، وأقنعت نفسها بأنّه لو أنّ كلّ فتاة استسلمت لشبقها أمام كلّ شابّ أعجبها أو أعجبته، لسادت البهيميّة الحيوانيّة المجتمع البشريّ.
انقلبت على وجهها في الفراش، شبكت كفّيها ووضعتهما تحت رأسها، لترفع أنفها عن الوسادة كي لا تختنق، عادت عصا القلق تجلدها من جديد، وهي تلوم نفسها على قطع خطوط هاتف الزّواج بينها وبين سهيل، فهل هي تحبّه حقيقة دون أن تدرك ذلك، أم أنّها تشعر به أخا تفتقده؟ خصوصا وأنّها لم تعش مع أشقّائها سوى بدايات طفولتها، قبل أن يختطفهم أبوها ويطير بهم إلى أمريكا، تاركا إيّاها تلطم وجه الوحدة التي عانتها والدتها بعيدا عن الزّوج والأبناء، لم تكن تعي أسباب دموع والدتها، التي كانت تتساقط على وجهها وهي تحتضنها على السّرير، تهدهدها كي تنام. وحتّى يومها هذا لم تستطع تفسير تلك الدّموع، فهل كانت بكاء على أطلال ذكريات عاشتها، أم بكاء على حظّها التّعيس؟
اختنقت بدموعها عندما راودها خيال مريض هاتفا بقوّة التّجربة:
هل سيكون حظّك في الزّواج كحظّ أمّك يا مديحة؟
يا إلهي كم هي مؤلمة جلدات سياط هكذا أسئلة!
لكنّ السّؤال الذي قضّ مضجعها حقيقة هو البحث عن أسباب تفكيرها بسهيل، فهل هو الحبّ الدّفين الذي لم تستطع حتّى مجرّد التّفكير به؟ وهل هو يفكّر بها كما تفكّر به، أم هي مجرّد وساوس شيطانيّة تغزوها كلّما تذكّرت حبّها الذي تحاول الهروب منه؛ لخوفها من يوم سيأتي وستنسف فيه كلّ أمنياتها رغما عنها وعن غيرها؟
أشعّة الشّمس الذّهبيّة تتسلّل دون استئذان من أطراف ستارة النّافذة الشّرقيّة، تصطدم بالحائط المقابل، فترتسم خيوطا قزحيّة على شكل بيت العنكبوت، استطابت عينا مديحة المنظر، فابتسمت له وغفت. لكنّ والدتها قطعت هدوء الغفوة عندما فتحت باب الغرفة وهي تقول:
– قومي يمّه بلاش تتأخّري عن شغلك.
تجاهلت مديحة صوت والدتها، واصلت نومها الهادئ، لكن والدتها لم تتركها وشأنها، فهي تطلق نداءات اليقظة كلّ بضع دقائق، ممّا دفع مديحة أن ترفع صوتها بلهجة احتجاج:
– اتركيني لوجه الله، فلن أذهب إلى العمل هذا اليوم.
فعادت الأمّ تسأل:
– هل أنت مريضة يمّه؟
– لست مريضة، ولن أذهب إلى العمل، أريد أن أنام.
خرجت أمّ عامر من غرفة مديحة وهي تقول:
– شو صار للبنت؟ أخاف الله انّه صابتها عين!
جلست أمّ عامر تسبّح بحمد الله، تسحب خرزات مسبحتها واحدة تلو أخرى، عندما تصل شاهد المسبحة تعاود الكرّة من جديد، لكنّها توقّفت فجأة وقالت بصوت مسموع:
– الله يقلع عينيك يا حجّه حمدة، والله ما حسد البنت غيرك.
سمعتها مديحة من داخل غرفتها، فابتسمت وقالت لنفسها:
والله ما حسد مديحة غير مديحة نفسها، التي تشغل نفسها بأمور لا شأن لها بها.
تحاملت على نفسها، قامت من سريرها تتثاءب، غسلت يديها ووجهها، غلت فنجاني قهوة، واحدا لها والثّاني قدّمته لوالدتها، التي بدورها سألتها:
– شايفتك مش مبسوطة، خير يمّه؟
– أنا بخير ولا يوجد ما يقلق.
– لكنّني آراك ذابلة.
ضحكت مديحة وسألت:
– لم أفهم “ذابلة”هذه.
– يعني مش منوره مثل كل يوم.
– عندما أرتدي ملابسي سترينني كالزّهرة المتفتّحة.
– الله يرضى عليك ويوفقك.
ركبت مديحة سيّارتها وانطلقت إلى مدرستها مشتّتة الأفكار.
في غرفة المعلّمات جلست صامتة على غير عادتها، بعض زميلاتها يمزحن ويضحكن، قطعت حبل أفكارها سوسن عندما اقتربت منها وقالت لها مازحة:
– ما هذا الوجوم يا مديحة؟ هل أنت مريضة؟
– لا، لست مريضة.
فضحكت وقالت:
– إذن أنت عاشقة!
– بل أنا حائرة.
– فيمَ أنت حائرة؟
– في أشياء كثيرة.
– عندما تحتار الشّابّة في أمر ما، فهذا يعني أنّها تقف أمام بوّابة طريق الزّواج، خصوصا إذا جاءها أكثر من خاطب.
– يبدو أنّك لم تجدي ما تعملينه، فقرّرت أن تشتغلي بي.
– بل إنّي أراك على غير عادتك، وأريد أن أساعدك على الخروج مِمّا أنت فيه.
ردّت عليها مديحة ساخرة:
يبدو أنّك قد أصبحت باحثة اجتماعيّة أو طبيبة نفسيّة.
ابتسمت سوسن وتساءلت مداعبة:
– ولِمَ لا؟
– أرجوك اتركيني وحدي.
في هذه الأثناء قُرع الجرس إيذانا ببدء الحصّة الأولى، قامت مديحة متثاقلة، ذهبت إلى فصلها الدّراسيّ، لم تطرح تحيّة الصّباح على تلميذاتها مثلما اعتادت، قالت لتلميذات الصّفّ:
– أنا مريضة وتعبة جدّا، بإمكان كلّ واحدة منكن أن تطالع أو تكتب ما تشاء، لكنّي لا أريد أن أسمع أيّ صوت.
جلست على الكرسيّ، شبكت يديها على الطاولة، ثنت رأسها عليهما.
خرجت المديرة من مكتبها على صوت الشّغب الصّادر من صفّ مديحة، دخلت الصّف دون أن تطرق الباب، سألت المعلّمة مديحة:
– ما بك يا مديحة؟
– لا أعرف، قواي خائرة.
أرسلت المديرة تلميذة لتستدعي المعلّمة وداد من غرفة المعلّمات، حيث أنّه لا يوجد عندها حصّة، طلبت من مديحة أن ترافقها، وفي غرفة الإدارة طلبت من المراسلة أن تغلي كأس مريميّة لمديحة.
عندما رشفت مديحة الرّشفة الأولى من الكأس، شعرت بغثيان، وبحاجتها إلى التّقيّؤ، فقالت لها المديرة:
– يبدو أنّك مريضة، هيّا لآخذك إلى الطّبيب.
ردّت مديحة بصوت واهن:
– شكرا لك، سأذهب إلى الطّبيب وحدي.
قالتها وهي تنهض، اتّجهت إلى سيّارتها وانطلقت عائدة إلى البيت، وهناك تمدّدت على سريرها وغفت.
**********
رتّب سهيل ملابسه كلّها في حقيبة متوسّطة الحجم، حملها معه في ساعات الصّباح في طريقه إلى معهد بيرزيت، ليس عنده تلك الملابس التي تحتاج عناء التّرتيب، هي مجرّد بضعة “غيارات” داخليّة، بنطالان غير البنطال الذي يرتديه، ثلاثة قمصان ومعطف. أوصلها إلى البيت الذي استأجره، دفع خمسة دنانير إلى “أمّ حنّا” بدل أجرة شهر واحد، فرفضت استلامها وهي تقول:
– سلامة خيرك يا ابني، أنا أستلم أجرة البيت نهاية كلّ شهر.
سلّمته مفتاح البيت، شكرها وعاد إلى المعهد سريعا. هناك وجد الطّلبة غاضبين بسبب اندلاع المعارك بين المقاومة الفلسطينيّة والجيش الأردنيّ. ناريمان تتكلّم بلهجة غاضبة وتقول:
– طريق فلسطين تمرّ عبر العواصم العربيّة.
ولمّا كرّرتها مرّات ومرّات، قال سهيل:
– ما يجري في الأردنّ الشّقيق مؤلم جدّا، وخسارة للجميع، ويجب أن يسود العقل، وطريق فلسطين معروف للجميع، ولا يمرّ بالعواصم العربيّة، علينا أن لا ننسى مطلقا وحدة الدّمّ التي تجلّت بين المقاومة والجيش في معركة الكرامة قبل عامين، وكلّ ذرّة تراب في القدس مجبولة بدماء الشّهداء فلسطينيّين وأردنيّين وعرب آخرين.
قاطعت ناريمان كلامه وقالت:
– هذا كلام انهزاميّ، لا نريد سماعه.
ابتسم سهيل ابتسامة صفراويّة وقال:
– لا تسكبوا الزّيت على النّار، فكلّ خلاف لا يستفيد منه إلا الأعداء.
قالها وانسحب من التّجمّع كي لا يغوص في متاهات الكلّ خاسر فيها. عندما بدأت الحصّة الأولى، لم يدخل الطلبة إلى صفوفهم، خرجوا في مظاهرة تجوب شوارع البلدة داعية إلى حماية المقاومة، انسحب سهيل بهدوء إلى البيت الذي استأجره. تمدّد على السّرير، فتح المذياع، تابع الأخبار بقلب نازف.
هتف الطلبة ساعة من الزّمن، وتفرّقوا دون أن يصطدموا بأحد.
ذهبت ناريمان إلى بيت خالتها ليلى، فقالت لها الخالة:
أجّرت الشّقّة الصّغيرة لطالب يدرس في المعهد.
قالت ناريمان: جئت إليك لأقول لك بأنّ طالبا محترما في المعهد يريد استئجار بيت في آخر الشّهر.
– كلّ شيء قسمة ونصيب، لو أخبرتني ذلك قبل تأجيره، لما أجّرته.
– ما اسم الطالب الذي استأجر البيت؟
– اسمه سهيل من بيت حنينا، لا أذكر اسم عائلته.
قفزت ناريمان فرحة وقالت:
– 100% هو الطّالب نفسه الذي قلت لك عنه. هذا طالب أمضى في السّجن عامين، وتحرّر قبل أسابيع قليلة.
– إذا كان سجينا، فسأعفيه من الأجرة، فلست بحاجة إلى الأجرة.
– دعينا نتأكّد منه، هيّا بنا.
– اذهبي إلى الباب الخارجيّ واطرقي الباب عليه، فإن كان هو الطالب الذي تقصدينه، اطرقي على الباب الذي يفصلنا عنه؛ كي ألحق بك.
عندما فتح سهيل الباب، تفاجأ بوجود ناريمان أمامه، دعاها للدّخول. فقالت ضاحكة:
وأخيرا لحقت بك، ألم أقل لك بأنّنّي سأحجز لك بيت خالتي حتّى آخر الشّهر.
– كلّ البيوت واحدة، سواء كان بيت خالتك أو بيت غيرها.
طرقت ناريمان الباب الخشبيّ الذي يفصل الشّقّتين، فجاءت خالتها واستأذنت بالدّخول، فقالت ناريمان لسهيل:
– هذه هي خالتي التي قلت لك عنها. فلم تستطع الهروب ممّا قلته لك، فقد استأجرت بيتها دون أن تعلم أنّها خالتي.
قالت أمّ حنّا: هذه الليلة سنتعشّى ممّا تيسّر في البيت، وغدا سأجهّز عشاء خاصّا لك يا ولدي، ماذا تحبّ أن تأكل:
– لا داعي للغلبة يا خالة، وحقّك عليّ.
– وهل يعقل هذا يا بنيّ، أنت ضيفي.
– بارك الله بك يا خالة.
قالت ناريمان ضاحكة:
– سنتعشّى الليلة وغدا بمعيّتك يا سهيل.
التفت إليها ولم يتكلّم.
في هذه اللحظات صدرت حركة في بيت أمّ حنّا، فقالت لناريمان:
– أكيد هذه جورجيت، ناديها كي تتعرّف على سهيل.
جاءت جورجيت، صافحت سهيل، أشارت ناريمان إلى سهيل وقالت:
– هذا زميلنا في المعهد اسمه سهيل مصطفى المحمود.
ثمّ أشارت لجورجيت وقالت:
– هذه الدّكتورة جورجيت ابنة خالتي أمّ حنّا.
قال سهيل: أهلا بكم، عن إذنكم أريد أن أذهب دقيقتين إلى البقالة لأشتري بنّا، شايا وسكّرا.
طلبت أمّ حنّا من ناريمان أن تعدّ القهوة في بيتها، وتحضرها إلى شقّة سهيل، لكنّ سهيل قال:
– أنتنّ ضيوفي وأنا سأغلي القهوة بيديّ.
مازحته ناريمان وقالت له:
– ما قلتَه هو الأصول.
عندما عاد سهيل يحمل أغراضه، وجد فنجان قهوة في انتظاره، فقد غلت ناريمان القهوة في بيت خالتها.
سأل سهيل جورجيت:
– أين تعملين يا دكتورة؟
في مستشفى “المطّلع” أوغستا فكتوريا في القدس.
– هل تعودين إلى هنا يوميّا؟
– لا فهناك مناوبات ليليّة، أنام في سكن الأطبّاء في المستشفى، أعود إلى البيت مساء كلّ سبت، وأبقى حتّى صباح يوم الإثنين.
قالت أمّ حنّا لسهيل:
أرجو أن تشعر كأنّك مثل أبنائي تماما، فلا تخجل من طلب أيّ شيء منّي يا بنيّ، واعتبرني مثل أمّك.
– شكرا لك يا خالة، وأنا في خدمتك.
– الله يحفظك لأمّك يا ولدي، تشرّفنا بمعرفتك، واسمح لنا بالمغادرة، فلا نريد أن نثقل عليك.
– وأنا تشرّفت بكنّ وسعيد بمعرفتكنّ.
عادت أمّ حنّا إلى بيتها، وهي تقول:
سأترك الباب الموصل إلى شقّتنا مفتوحا يا ولدي، سنعدّ لك ولنا عشاء سريعا، وسأعدّ لك عشاء خاصّا يوم غد.
– شكرا لك يا خالة، ولا أريد إلا راحتك وسلامتك.
قالت جورجيت: ما رأيكما أن نجلس في البرندة؟
– فكرة رائعة.
ردّت ناريمان.
البرندة تطلّ على قرية جفنا، التي تربض في الوادي تحت بيرزيت، تليها عين سينيا، وفي بطن الجبل شرقا هناك قرية “دورا القرع” وعلى الجبل المقابل لبيرزيت يتربّع مخيّم الجلزون، ومن البرندة يمكن رؤية قرية أبو قشّ، سألت الدّكتورة جورجيت:
هل سبق وأن دخلت قرية جفنا يا سهيل:
– لا، – مع الأسف-.
– أنا أدعوكم لنتناول عشاءنا فيها مساء غد حيث يوجد مطعم ومتنزّه، فما رأيكم؟
تلكّأ سهيل بالإجابة، فهو لا يملك تكلفة العشاء. فواصلت جورجيت قائلة:
لا مجال للتّردّد سأهاتف الدّكتور إلياس لمرافقتنا.
سهيل: من هو الدّكتور إلياس؟
جورجيت: خطيبي.
ناريمان مازحة: رائع، أنت تجلسين مع خطيبك، وأنا وسهيل وخالتي نكون “الاشبين” لكما.
بعد هنيهة نادت أمّ حنا:
– العشاء جاهز يا أولاد.
أمسكت جورجيت يد سهيل وهي تقول:
– تفضّل يا أخي، أنت في المقدّمة.
مشى سهيل على استحياء، تناولوا عشاءهم، جلسوا يحتسون القهوة، فتحت ناريمان حديثا حول أحداث عمّان، فقال سهيل:
اسمحوا لي، أريد أن أنام.
فسألته ناريمان: تريد أن تنام، أم أنّك تهرب من الموضوع؟
التفت إليها بنظرات عتاب ولم يتكلّم شيئا، في حين قالت جورجيت لناريمان:
– يا إلهي، كم تحبّين الثّرثرة!
ضحكت ناريمان وهي تسأل جورجيت:
– كيف رأيت هذا الشّابّ سهيل؟
– واضح أنّه شابّ خجول، تحكمه أخلاقيّات القرية، لكنّه لا يلبث أن ينطلق بعد أن يتعرّف جيّدا على النّاس وعلى البلدة.
– كان سجينا لمدّة عامين، وبالتّأكيد فإنّه اختلط بنوعيّات مختلفة في السّجون.
– هذا لا يعني أنّه سيجيد الاختلاط ببقيّة النّاس، وبسبب السّجن ربّما يحتاج إلى إعادة تأهيل.
– ماذا تقصدين بإعادة التّأهيل؟
– المعتقلون يتعرّضون أثناء التّحقيق إلى تعذيب جسديّ ونفسيّ كبيرين، وفي السّجون يحشرون في ظروف لا إنسانية، وهذا يؤثّر على نفسيّاتهم.
– إذن ما العمل مع سهيل؟
– من خلال تواجدنا معه سأحاول فهم نفسيّته، وسأعمل على كسر كلّ الحواجز التي يتخوّف، أو يحذر منها. لكن لا تلحّي عليه كثيرا يا ناريمان.
ناريمان: من الملاحظ أنّه يطالع كثيرا، وعنده ثقافة مميّزة.
– الانسان كتلة مشاعر، ويتأثّر بكثير من الأمور.
– هل تلاحظين أنّه لا يقوى على النّظر في وجوه النّساء عندما يتكلّمن معه، بينما رأيته جريئا جدّا مع الشّباب.
– هذا نتاج أخلاقيّات القرى في بلادنا، وما يترتّب عليها من عدم اختلاط وغير ذلك.
– أنا متأكّدة أنّه لم يذهب لينام، ولا يمكن أن ينام مبكّرا، لكنّه انسحب من الجلسة لأسباب لا أفهمها.
– انسحب من ثرثرتك وطول لسانك، ولا يريد الاصطدام معك.
أطفأ سهيل الأضواء في شقّته، فتح التّلفاز لمتابعة الأخبار المؤلمة التي تتوارد عن الاقتتال في عمّان، شرع يراجع حساباته في العلاقة مع أصحاب البيت الذي يستأجره، فهو يحبّ الوحدة، لا يملك المال لمجاراتهم، فهم كما يبدو أثرياء، أعجبته أمّ حنّا بطيبتها الزّائدة وحنانها الذي يذكّره بحنان أمّه وخالته زعرورة، رأى مديحة ابنة خالته في ناريمان بانطلاقها وجرأتها، في حين رأى الحكمة والرّزانة في الدّكتورة جورجيت. غلى فنجان قهوة، أشعل سيجارة، جلس على البرندة يتمعّن بالطّبيعة الخلّابة، يبحث عن أسباب ليجد فيها مبرّرا للاعتذار عن عزومة الغد، لكنّه في النّهاية قرّر أن يلبّي الدّعوة، وأن يدعوهم لوليمة في بيت والديه في بيت حنينا مساء الجمعة القادم.
عند ساعات عصر اليوم التّالي طرقت الدّكتورة جورجيت الباب على سهيل،
استأذنت منه كي تدخل هي وخطيبها إلى شقّته ليتعارفا، وطلبت منه أن يكون جاهزا في السّادسة مساء كي يذهبوا للعشاء في جفنا. جلسوا في البرندة يحتسون القهوة التي حملتها معها جوجيت، فقال سهيل:
– لا داعي لإحضار القهوة يا دكتورة معك، فيمكنني إعدادها هنا.
ردّ عليه الدكتور إلياس:
– لا فرق يا سهيل في إعدادها هنا أو هناك، فأمّ حنّا تعتبرك كابنها، وأنا وجوجيت نعتبرك أخانا.
أضافت جورجيت قائلة وهي تضحك:
– وناريمان اعتبرها بنت خالتك مثلما هي ابنة خالتي.
سهيل: تشرّفت بكم وبمعرفتكم. لكن لي طلبا عندكم أرجو أن تستجيبوا له:
الدّكتور إلياس: طلبك مستجاب سلفا، ما هو؟
سهيل: يوم الجمعة القادم سنتناول الغداء في بيتنا في بيت حنينا.
جورجيت: لا داعي لذلك.
سهيل: هي فرصة للتّعارف بينكم وبين أسرتي.
الدّكتور إلياس: يشرّفنا ذلك، لكنّنا نكون في العمل يوم الجمعة، ما رأيك أن نؤجّله ليوم الأحد.
سهيل ليست مشكلة.
وهنا دخلت ناريمان ترتدي فستان سهرة فاخر. سمعت ما قالاه فسألت:
– ما الذي ستؤجّلونه ليوم الأحد؟
فأجابتها جورجيت: سنتناول طعام الغداء في بيت أسرة سهيل في بيت حنينا.
فسألت ناريمان: هل أنا مدعوّة معكم؟
جورجيت مازحة: الدّعوة لك ونحن سنذهب بمعيّتك.
ناريمان: سأحضر أنا بصحبة بابا وماما، فهما يحبّان حياة الرّيف.
سهيل: نتشرّف بكم وبمن يأتي معكم.
الدّكتور إلياس: ماذا يعمل والداك يا سهيل؟
– أبي مزارع يفلح الأرض، وهو شيخ الآن، لا يمارس عملا، يشغّل عمّالا في الأرض ويشرف عليهم. ووالدتي ربّة بيت، كانت تساعد والدي في زراعة الأرض.
جورجيت: العمل في الأرض أشرف عمل، وفيه متعة فائقة.
ناريمان: أمنيتي أن أعمل في الأرض، ومتعتي عندما أعتني بحديقة بيتنا.
جورجيت: لعلّ نصيبك يكون في الزّواج من فلاح يعمل في الأرض.
ردّت ناريمان بلهجة التّحدي:
– الزّواج من فلاح يعمل في الأرض، أفضل من الزّواج من طبيب يعمل في أجساد البشر.
ضحك الدّكتور إلياس وقال:
– هذه ضربة مزدوجة يا ناريمان.
ناريمان مازحة: “من يطرق الباب يسمع الجواب”.
الدّكتور: وهل الزّواج من فلاح شتيمة حتّى تغضبين؟
ناريمان: من قال لك بأنّني غاضبة؟ بالعكس أنا في منتهى الرّضا.
جورجيت تسأل: ما رأيك يا سهيل؟
سهيل: عندما أفكّر بالزّواج سيكون لي رأي.
إلياس: اذهبي لأمّك يا جورجيت، فإن كانت جاهزة دعونا نذهب الآن إلى المتنزّه.
في متنزّه جفنا، جلس الدّكتور إلياس على رأس الطّاولة، خطيبته الدّكتورة جورجيت على يمينه، أمّ حنّا على يساره، سهيل على يسارها، في حين جلست ناريمان على يمين جورجيت.
الدّكتور إلياس يرتدي بدلة سوداء، قميصا أبيض ويضع ربطة عنق حمراء، الدّكتورة جورجيت ترتدي بدلة سوداء هي الأخرى، تنورتها طويلة، تضع منديلا على رقبتها يتدلّى كربطة العنق، أمّ حنّا ترتدي فستانا طويلا، تضع قليلا من أحمر الشّفاه. ناريمان ترتدي فستان سهرة طويل، مفتوحا من طرفيه بموازاة الرّكبتين، شعرها غجريّ فاحم، يتطاير مع نسيم الهواء، عيناها عسليّتان، حاجباها محفوفان، هيفاء، نحيلة الخصر، ناهدة الصّدر. أمّا سهيل فكان يرتدي بنطال “جينز” وقميصا “نصف كمّ”.
جاء النّادل يسأل:
– ماذا ستشربون؟
أشار الدّكتور إلياس لسهيل وسأل:
ماذا ستشرب يا سهيل؟
– مثلما تشربون أشرب.
الدّكتور: أنا سأشرب كأس عرق.
دون تفكير قال سهيل:
– لا ضير سأشرب كأس عرق مثلك.
طلبت الأخريات كأس نبيذ لكلّ واحدة منهنّ.
قال الدّكتور للنّادل: أحضر زجاجة عرق، وزجاجة نبيذ.
لم يسبق لسهيل أن تناول أيّ نوع من المشروبات الرّوحيّة، أو جالس من يحتسونها، لكنّه اعتبرها فرصة لتجريبها، عندما صبّ الدّكتور كأس العرق الأوّل لسهيل، رفع كلّ واحد منهم كأسه وأمّ حنّا تقول:
– في صحّة الجميع.
كرع سهيل كأسه جرعة واحدة، تنحنح لشعوره بحرقة في حنجرته، سكب له الدّكتور كأسا آخر، أضاف إليه قليلا من الماء والثّلج. وتأكّد أن سهيل يشرب الكحول للمرّة الأولى.
بدأ سهيل يوزّع نظراته على بيوت القرية القديمة، فقد رأى فيها عبق تاريخ يشهد على حضارة متوارثة عبر أجيال، لم تلفت انتباهه البيوت الحديثة رغم أنّها قليلة، تماما مثلما لم تلفت انتباهه مثيلاتها في بيرزيت أو في أيّ مكان آخر. قالت له أمّ حنّا:
– جفنا يا ولدي واحدة من قرانا الفلسطينيّة القديمة، عدد سكّانها حوالي ألفي شخص، غالبيّتهم من المسيحيّين، أهلها يهتمّون بالزّراعة، وكما تلاحظ فيها أشجار زيتون معمّرة، لكنّ جفنا تشتهر بزراعة المشمش أكثر من غيرها، وإلى الجنوب من هنا تلك البيوت التي تراها جزء من مخيّم الجلزون، حيث يسكن لاجئون ممّن هجّروا من ديارهم في نكبة العام 1948. أمّا إلى الشّرق من هنا فتلك قرية عين سينيا.
شكر سهيل أمّ حنا على هذه المعلومات، في حين قالت ناريمان:
– سأستلم سيّارتي التي اشتراها لي أبي يوم غد، وسأعمل لك يا سهيل أنت والخالة أمّ حنّا جولة في هذه المناطق في النّهار؛ لترى المنطقة كما هي.
انتبه سهيل للمرّة الأولى لجمال ورقّة ناريمان، في هذا الفستان الذي ترتديه رآى قامتها أطول ممّا كانت عليه وهي ترتدي البنطال، حكّ جبينه متمعنّا وكأنّه يسائل نفسه إن كان ما يراه حقيقة أم بفعل كأس العرق.
أرادت ناريمان أن تجرّ سهيل إلى الكلام، فقالت له:
– لم تحدّثنا عن قريتك بيت حنينا يا سهيل، أم تريدنا أن نزورها دون أن نعرف عنها شيئا؟
سهيل: بيت حنينا بلدة فلسطينيّة تقع شمال مدينة القدس، تبعد عنها حوالي 8 كم، تحدّها شعفاط من الجنوب والرّام وبيرنبالا من الشّمال، وتصل أراضيها إلى مطار قلنديا، بعد الاحتلال تمّت مصادرة أغلبيّة أراضيها، حيث يجري الآن بناء منطقة صناعيّة على أراضي “عطروت” كما يجري التّخطيط لبناء مستوطنة في أراضي “النّبي يعقوب”، وفي قريتي معهد معلّمين كمعهد بيرزيت، لكنّه مغلق منذ حرب حزيران. وتتميّز بيت حنينا بأراضيها الزراعية الخصبة المشهورة بزراعة القمح والتّين والزّيتون.
الدّكتور إلياس: هل صحيح أنّ غالبيّة “الحناينة” مهاجرون في أمريكا؟
سهيل: نعم صحيح.
أمّ حنّا: الهجرة إلى أمريكا وغيرها خلّفت لنا مشاكل كثيرة.
ناريمان: ألا تفكّر بالهجرة إلى أمريكا يا سهيل؟
سهيل: أعوذ بالله، فبلادنا أفضل من أمريكا ومن وغيرها.
الدّكتور إلياس: الحياة في بلادنا لها ميّزاتها العظيمة والمغرية، لكن الاحتلال أفسد كلّ شيء.
ناريمان: لذا يجب التّمسّك بأرض هذا الوطن مهما كان الثّمن.
أمّ حنّا: حسبي الله ونعم الوكيل على من كانوا السّبب.
قال سهيل لناريمان: لم تحدّثينا عن مكان سكناك ونشأتك يا ناريمان.
ضحكت ناريمان وقالت: أنا أصولي فسيفساء فلسطينيّة بامتياز، فجدّتي لأبي أردنيّة من بلدة الحصن قرب مدينة إربد، وجدّي لأبي من بيت جالا، وجدّتي لأمّي من قرية الطّيبة قرب رام الله، وجدّي لأمّي من قرية عين عريك، أبي ولد في حارة النّصارى في القدس، وأمّي ولدت في رام الله هي وخالتي ليلى وبقيّة أخوالي، تزوّجا في القدس، وسكنا في الشّيخ جراح، حيث ولدت أنا وأشقّائي في ذلك البيت، الذي تحيط به حديقة ورود جميلة، فيها شجرة زيتون معمّرة، وشجرة “أسكيدنيا”. وأبي يملك بقّالة في باب خان الزّيت في القدس القديمة.
ضحك سهيل وقال:
– جميل هذا التّنوّع في المناطق التي تنحدر منها أسرتك يا ناريمان.
الدّكتور إلياس: أنا عائلتي جميعها من القدس باستثناء جدّتي لأبي فهي لبنانيّة من بيروت، تزوّجها جدّي الذي كان يعمل تاجرا.
أمّ حنّا: رحم الله أيّام زمان يا ابني، فلم تكن هناك حدود ولا دول، كان الواحد منّا يسافر من القدس يحتسي قهوة الصّباح في عمّان، يتناول فطوره في الشّام، وغداءه في بيروت، يعود ليتناول عشاءه وينام في القدس، وهذه الأيّام وما رافقتها من مصائب صار التّنقّل بين رام الله والقدس وبيت لحم تحفّه المخاطر.
ناريمان: الاحتلال لن يدوم، وستعود المياه إلى مجاريها.
أمّ حنّا: لن يزول الاحتلال ما دام العرب متفرّقين.
سهيل: سيتوحّد العرب تحت قيادة الرّئيس جمال عبد النّاصر.
الدّكتور إلياس: الرّئيس عبد النّاصر يحارب على أكثر من جبهة، والمشاكل التي تواجهه أكبر من امكانيّاته وإمكانيّات مصر العروبة.
أرادت جورجيت أن تصرفهم عن الحديث في السّياسة فتساءلت:
– دعونا من السّياسة فلها أهلها، وقد جئنا هنا لنرتاح في جلسة عائليّة هادئة.
فوّت سهيل الفرصة على ناريمان التي فتحت فمها لتردّ على جورجيت، فسألها هي والدّكتور إلياس:
– ما هي ميّزات أن يعمل الدّكتور وخطيبته الدّكتورة في نفس المستشفى؟
الدّكتور إلياس: لم نجرّبها، فجورجيت تعمل في مستشفى أوغستا فكتوريا”المطلع”، وأنا أعمل في المستشفى الحكومي “الهوسبيس” في القدس القديمة، ولا نلتقي إلا في عطلة نهاية الأسبوع.
ناريمان ضاحكة: بسبب هذا تبقيان في شوق دائم لبعضكما البعض!
جورجيت مازحة: ونشتاقك أيضا يا ناريمان.
سهيل مبتسما: بناء على ذلك سيشتاقني والداي وإخوتي بعد سكني في بيرزيت.
وضعت أمّ حنّا يدها على رقبة سهيل وقالت:
الوالدان يا ابني يشتاقان أبناءهما ليل نهار، حتّى ولو كانوا يسكنون معهما في نفس البيت، قالتها ومسحت دموعا سالت على خدّيها.
فقال الدّكتور الذي فهم سبب دموعها:
– لا تحزني يا خاله، فكلّنا أبناؤك، وسيعود أولادك قريبا إن شاء الله.
قالت ناريمان: يا خالتي جورجيت ابنتك، وأنا، إلياس وسهيل كلّنا مثل أبنائك.
أمّ حنا: العذراء تحميكم، لكن الانسان يشتاق لأبنائه جميعهم.
سهيل: أنت أمّي الثّانية يا أمّ حنا، واعتبريني مثل ابنك.
– الله يخليك يا ابني لأمّك.
قام الدّكتور إلياس وخطيبته يتمشّيان في محيط المنتزه، وقف سهيل متثاقلا على سور المنتزه من الجهة الشّرقية يستطلع المكان، لحقت به ناريمان، وقفت بجانبه، التفت إليها وقال:
جمالك فاتن يا ناريمان.
ضحكت ناريمان بدلع وقالت:
– عيناك جميلتان وتريان الجمال.
– هذا الفستان تبدين فيه هيفاء سامقة.
– وهل أنا قصيرة بدون الفستان؟
– ما قصدت هذا، لكنّ الفستان يليق بك أكثر من البنطال.
– “لكلّ مقام مقال” ففي المعهد أراعي كوني طالبة علم، وسط طلاب كثيرين، وهذه الليلة سهرة عائليّة، لذا فأنا أستعرض أنوثتي في هكذا سهرات.
– تسريحة شعرك كموج البحر الهادئ، وابتسامتك مغرية.
– شكرا لك، في هذه الليلة للمرّة الأولى شعرت بسحر ابتسامتك الخجولة يا سهيل. فلم أشاهدك تبتسم من قبل.
– هذه السّهرة الأسريّة أدخلت الفرحة إلى قلبي، فشكرا لكم.
– الشّكر للدكتور إلياس وللدّكتورة جورجيت على دعوتهما لنا.
– حقّا إنّهما عروسان متحابّان ورائعان.
عند السّاعة العاشرة ليلا عادوا إلى بيرزيت، ذهب سهيل إلى شقّته، رافضا دعوة أمّ حنّا له لشرب القهوة.
في البيت قالت ناريمان:
– يبدو أنّ سهيل أصبح مخمورا، فقد شرب ثلاثة أرباع زجاجة العرق.
التفت إليها الدّكتور الياس وقال:
– سهيل لن يكون مخمورا ولو شرب بئر خمر هذه الليلة، وأجزم بأنّه يشرب الكحول لأوّل مرّة، وبالتّالي فإنّ دمه نقيّ من الكحول.
قال الدّكتور إلياس: سأحمل فنجان قهوتي وفنجانا له؛ لنحتسيهما سويّا.
فقالت ناريمان: اذهب إليه قبل أن ينام، وسألحق بك بعد أن أعدّ القهوة.
غيّرت ناريمان ملابسها، ارتدت بدلة رياضة تستعملها كمنامة، غلت القهوة، صبّت فنجانا لخالتها وفنجانا لجورجيت، حملت الصّينيّة ولحقت بالدّكتور، كانا يجلسان في الصّالة، سهيل يفتح الزّرّين العلويين في قميصة، صبّت القهوة لها ولهما، جلست قبالتهما، انتبهت للشّعر الذي على صدر سهيل، فتنهدّت لاشتعال أنوثتها، غضّت النّظر كي لا ينتبها لها.
بعد أن احتسيا القهوة استأذن الدّكتور إلياس بالانصراف قائلا:
– أسمحا لي، سأعود الآن إلى القدس.
بقيت ناريمان جالسة قبالة سهيل، فقال لها:
– الحلو يبقى حلوا حتّى لو ارتدى كيس خيش؟
تظاهرت بالبراءة فسألته:
– ماذا تقصد؟
لا شيء، هي مجرّد جملة عابرة.
فقالت له: طبعا أنت وسيم مهما ارتديت.
فردّ عليها: وأنت حسناء مهما ارتديت أيضا، وأنا لم أنتبه لجمالك إلا هذه الليلة.
– هل انتبهت لجمالي لأنّني جميلة حقّا، أم بفعل العرق الذي شربته؟
ضحك وقال: إذا كان العرق ينبّه الحواسّ فهذا أمر جيّد.
– أخشى أن تراجع حساباتك عندما ينتهي مفعول العرق.
– عن أيّ حسابات تتكلّمين؟
– لا شيء، هل تشعر بالنّعاس؟
– أبدا، لماذا تسألين؟
– إن كنت تريد النّوم، فسأتركك لتنام.
– وهل ينعس المرء وهو يجلس مع غيداء مثلك.
– ربّما، فما يدريني؟
كانت تنقل نظراتها بين الشّعر اللافت على صدره وذلك النّامي على ذراعيه. انتبه لنظراتها الحييّة، لكنّه لم يعرف أين ترسلها، فلم يسبق له أن انتبه لأنوثة أيّ فتاة، ولا يعرف كيف تفكّر النّساء بالرّجال، لكنّها طمعت برؤية المزيد فقالت له:
– أرجو أن لا تكون منزعجا من جلوسي معك.
– بالعكس أنا سعيد بوجودك.
– إذن خذ راحتك، الطقس حارّ وبإمكانك أن تخلع قميصك، وأن تستبدل بنطالك.
– أنا مرتاح، لكنّني سأخلع القميص بسبب حرارة الجوّ.
وهنا طرقت الباب جورجيت وقالت لناريمان:
– ألا تريدين النّوم؟ اتركي سهيل لينام هو الآخر.
قال لها سهيل: تفضّلي يا دكتورة فلا يزال الوقت مبكرا على النّوم.
جورجيت: اذن دعونا نجلس على البرندة، فالطّقس حارّ.
قال سهيل: هيّا بنا. حمل كرسيّين واحدا له والثّاني للدّكتورة، وقال لناريمان:
– احملي أنت كرسيّكِ.
شعرت ناريمان أنّ الدّكتورة جورجيت قد أفسدت جلستهما، في حين تظاهر سهيل بعدم المبالاة.
قال سهيل لجورجيت:
– أغبطك على الدّكتور إلياس، فهو شابّ كامل الأوصاف، وأتمنّى لكما السّعادة.
– شكرا لك وعقبى لخطبتكما أنت وناريمان. لكن لا تفهماني خطأ، أقصد أن يجد كلّ منكما نصفه الآخر.
ضحك سهيل وقال:
– أنا لا أفكّر بالزّواج قبل أن أنهي تعليمي الجامعي.
بينما التزمت ناريمان الصّمت.
وقف سهيل وسأل:
– هل ترغبان بشرب القهوة؟ أستأذنكما لإعداد القهوة.
فقالت جورجيت:
– اجلس مكانك ناريمان هي أصغر واحد فينا وهي من ستعدّ القهوة.
ردت عليها ناريمان وهي تغمز سهيل بطرف عينها:
– لماذا لا تعدّينها أنتِ، قالتها وهي في طريقها إلى المطبخ.
بينما قالت جورجيت ضاحكة:
– لا بأس سأعدّها أنا، إن كنت ترين في إعدادها تعبا لك.
لكنّ سهيل قال: لا أنت ولا هي، أنا من سأعدّ القهوة.
أمسكت جورجيت به وقالت وهي تضحك:
– ناريمان ستعدّها لكنّها تحبّ المناكفة.
شربوا القهوة، سهيل وجورجيت يتابدلان الحديث، ناريمان تلتزم الصّمت، فقالت لها جورجيت مازحة:
– إن كنت ناعسة يا ناريمان اذهبي لتنامي.
فردّت عليها ناريمان بلهجة ساخرة تحمل روح المداعبة:
– أنا جالسة في بيت سهيل، وليس في بيتك حتّى تطردينني.
فقال سهيل: أهلا بكما، فالبيت بيتكما وأنا ضيفكما.
استأذنتا بالانصراف عند السّاعة الواحدة صباحا، فقال سهيل:
– لا يزال الوقت مبكرا، لِمَ العجلة؟
جورجيت: بوركت، فأنا سأذهب إلى عملي في السّادسة صباحا، وأنتما ستهذبان إلى المعهد أيضا، والأيّام بيننا.
انصرفتا وبقي سهيل في البرندة، يطفئ سيجارة ويشعل أخرى، فقد سيطرت ناريمان على قلبه وعقله. لم يذهب إلى الفراش إلا بعد أن سمع أذان الفجر ينطلق من مسجد القرية. غفا وحلم بأنّه ينام وناريمان في فراش واحد، فتمنّى لو أنّ حلمه طال. في الشّقّة المجاورة كانت ناريمان تحلم أنّها عروس في ليلة دخلتها، لم تتبيّن ملامح وجه العريس، لكنّ الشّعر كثيف على صدره وذراعية وساقيه.
**********
تعيش مديحة عذاباتها وحدها، تتظاهر بالقوّة أمام الآخرين، لكنّها هشّة في دواخلها حزن عميق، تشكّ في الأمور كلّها، ما عادت قادرة على التّمييز، فهل فكّ ارتباطها الوهميّ مع سهيل لصالحها أم ضدّها؟ تظاهرت بالشّجاعة التي باتت تراها تهوّرا لا تعرف إلى أيّ مدى سيصل بها.
من جهة ثانية فهي تحتفظّ بسرّها الذي لم تبح به لأيّ إنسان، فعواقبه قد تكون وخيمة، وربّما سيكون سببا في قتلها إن باحت به، تشعر بالسّعادة عندما تخلو بنفسها، وتستذكر ذلك اليوم، لكنّها كثيرا ما تلعنه، وتتمنّى لو أنّه مرّ بحياتها مرّا عابرا، ولم يترك له أيّ أثر.
تستذكر تلك الرّحلة المدرسيّة التي شاركت فيها مع تلميذاتها، واستقرّ بهن المطاف في مكان خالٍ على الضّفّة الشّرقيّة لبحيرة طبريّا، البحيرة أمامهنّ، مدينة طبريّا على شاطئها الغربيّ، تتسلّق المرتفعات الغربيّة، إلى شمال البحيرة حيث الحولة التي جرى تجفيفها، تعلوها بلدة الخالصة، التي باتت تعرف باسم “كريات شمونه”، يواصل المنحدر ارتفاعه بشموخ؛ ليصل إلى قمّة سلسلة جبال الجرمق، التي تمتدّ شرقا حتّى تعانق جبل الشّيخ، وتمتدّ غربا لتغسل قدميها بمياه البحر المتوسّط عند رأس النّاقورة. خلفهنّ حيث الشّرق منحدر شديد مرتفع، تعلوه هضبة الجولان السّوريّة، تنساب منها جداول مياه عذبة تصبّ في البحيرة، وإلى الجنوب منهنّ نهر اليرموك حيث منطقة الحمّة، التي تقابل بلدة “أمّ قيس” الأردنيّة، المكان هادئ فيه بعض الأشجار المعمّرة التي يستظلّ بها المستجمّون، هناك مقاعد خشبيّة للجلوس، انتشرت البنات على شاطئ البحيرة، وسط تحذيرات المعلّمات بعدم الابتعاد عن الشّاطئ لأكثر من ثلاثة أمتار، حيث لا يزيد عمق المياه عن سبعين سنتيمتر. زميلاتها أشعلن موقد الفحم لشواء اللحوم، وبعض التّلميذات فعلن الشّيء نفسه.
احتجّت بعض التّلميذات فهنّ فتيات في المرحلة الثّانويّة، قال بعضهنّ أنّهن يجدن العوم في الماء، فقد تعلّمن السّباحة في Y.M.C.A. “جمعيّة الشّبّان المسيحيّة” في القدس الشرقيّة، التي تخصّص ساعات يوميّة للنّساء، وقفن أمامها بلباس البحر، خلعت مديحة ملابسها وبقيت في لباس البحر مثلهنّ، مع أنّها لا تجيد السّباحة، مشت في البحيرة حتّى وصلت المياه إلى سرّتها، وقفت هناك تراقب تلميذاتها، يقابلها على بعد 50 مترا منها معلّمة أخرى، تزجران من تحاول من التّلميذات تجاوز ذلك البعد والغوص في المياه العميقة، على مقربة منهنّ هناك رحلة مدرسيّة لطلاب، من مدرسة بنين لم يعرفن من أيّ مكان هم. كان الطلاب ومعلّموهن يأكلون التّلميذات والمعلّمات بعيونهم، تظاهرن بعدم الاكتراث، الطّلاب الذين يجيدون السّباحة يخوضون في مياه البحيرة، يلتفّون حول تجمّع الطالبات، وسط صراخ معلّميهم عليهم للعودة إلى مكانهم، بعض التّلميذات اللواتي يجدن السّباحة، تخطّين الحدود المرسومة لهنّ، غصن في المياه سعيدات وسط تضارب أمواج البحيرة الهادئة، متجاهلات نداءات معلّماتهنّ بالعودة، حاولت مديحة أن توهم التّلميذات وغيرهنّ بأنّها تجيد السّباحة، فكانت تمدّ جسمها في المياه الضّحلة، وكأنّها تسبح، لم تنتبه لنفسها وهي تحاول العودة إلى الشّاطئ، فرمت نفسها بالاتّجاه المعاكس، غاصت في المياه العميقة دون أن تقصد ذلك، انطلقت منها صرخة خوف طالبة النّجدة، تقدّمت منها تلميذة تجيد السّباحة محاولة انقاذها، أمسكت مديحة بالتّلميذة وكادتا تغرقان معا، وسط صراخ بقيّة التّلميذات، تقدّم منهما معلّم شابّ أمسك بشعر كلّ واحدة منهما بيد وهو يعوم على ظهره، أمسكت به مديحة والرّعب يملأ قلبها، فاضطر لضربها بقدمه ضربة أفقدتها الوعي، تخلّصت التلميذة منها وعامت وحدها عائدة إلى الشّاطئ، جرّ المعلّم مديحة إلى الشاطئ، هناك أمسك بقدميها ورفعها إلى الأعلى طالبا من إحدى زميلاتها أن تضربها على ظهرها كي يخرج الماء الذي ابتلعته من جوفها، ثمّ مدّدها على ظهرها، طلب من زميلاتها أن ينفخن في فمها، ليدفعن الأكسجين إلى رئتيها، فلم يفهمن عليه، سحب نفسا عميقا وهو يجثو على ركبتيه، وضع شفتيه على شفتيها ونفخ في جوفها، كان يسحب شهيقا من أنفه وينفخ في فمها، حتّى عادت إلى وعيها، ضربها بلطف على خدّيها وهو يسأل:
– هل أنت بخير؟
أجابت وهي ترتعد من شدّة الخوف:
– ماذا جرى؟ أين أنا؟
طلب من التّلميذات ومن المعلّمات أن يبتعدن عنها، لتستطيع استنشاق الهواء النقيّ، أجلسها وهو يسند ظهرها بيده وقال:
– لا تخافي، أنت بخير.
هنا وصلت سيّارة اسعاف، نزل المسعفون، فحصها طبيب وقال:
– هي بخير. لا داعي للقلق.
سألها إن كانت تريد الذّهاب إلى مستشفى طبريّا زيادة في الاطمئنان، لكنّها شكرته، وقفت متظاهرة بالقوّة وقالت:
– أنا بخير، شكرا لكم.
قال المعلّم “المنقذ”: الحمد لله على السّلامة، وأستأذنكم الآن.
شكرته المعلّمات على ما قام به، أقسمن عليه بأن يتناول طعام الغذاء معهنّ.
اعتذر بشدّة، لكنّهنّ لم يقبلن منه عذرا، فتناول سيخا من الشّواء وهو واقف،
سألته إحداهنّ:
– من أيّ مدرسة أنتم؟ وما اسم حضرتك؟
– اسمي سامي متري، نحن من المدرسة الإبراهيميّة في القدس.
استرجعت مديحة قواها، شكرته وهي تقول:
– شكرا لك، أنا مدينة لك بحياتي.
– لا شكر على واجب، والشّكر لله الذي يهب الحياة لمن يشاء، وينزعها ممّن يشاء. فرعاية الله وبركات العذراء مريم وابنها يسوع هي من أنقذتك.
انصرف سامي، وعيون مديحة تلاحقه، رسمت تفاصيل جسده وحركاته في مخيّلتها، حمدت الله كثيرا أنّ سخّر لها هذا الشّابّ لانقاذها من غرق محقّق.
أمّا هو فلم ينتبه لمديحة إلا بعد أن استعادت وعيها بشكل كامل، رآها حسناء فاتنة، لا حول لها ولا قوّة.
مازحت المعلّمات زميلتهنّ مديحة بعيدا عن التّلميذات، فقالت شيماء ضاحكة:
– لم تغرقي لكنّك كسبت قبلة عميقة على الفم، وهذا من فوائد الغرق!
وقالت أسمهان: ومن تغرق تحظى بدفء حضن رجل منقذ!
ازداد ضحكهنّ وسط ذهول مديحة، التي ما زالت تعيش حالة رعب، فسألت مستغربة:
– عمّ تتحدّثن أيّتها المعتوهات؟
فقالت رائدة بابتسامة خبيثة:
– نتكلّم عن شهرزاد في ألف ليلة وليلة، عندما كادت تغرق لولا أن أنقذها شهريار بشكل مفاجئ، فأنعشها بقبلة عميقة، وعضلات مفتولة أحاطها بها. ومن شدّة تعلّقها به، كادت تغرقه معها، لولا أنّه سبّاح حاذق، فعاجلها بضربة من قدمه على صدغها، حتّى استطاع الافلات منها.
وقالت المعلّمة حنان مازحة:
“وميّت الغرق شهيد” يبدو أنّ الله لم يكتب لك الشّهادة يا مديحة.
ضحكت المعلّمات قهقة وقالت شيماء: “يوم عليها ولا ألف تحتها”.
جاءت رانية التّلميذة التي حاولت انقاذ المعلّمة فقالت:
– حاولت انقاذك يا معلّمتي، لكنّك أمسكت بي، وضممتني بين يديك حتّى كدت أغرق معك، لولا ذلك المعلّم قويّ العضلات الذي يجيد السّباحة، فأفلتني من بين يديك، ولو لم تمسكي بي، وأعقتني عن الحركة لسحبتك إلى الشّاطئ بهدوء.
ربتت مديحة على كتف تلميذتها، قبّلتها وهي تقول:
– شكرا لك يا حبيبتي، واعذريني، فلم أعرف كيف أتصرّف وقتئذ، لخوفي من الغرق وجهلي بالسّباحة.
لم تعد شهيّة لمديحة في طعام أو شراب، كلّ ما فعلته أنّها جلست واجمة، تسترجع ما جرى لها، جلست معها زميلتها شيماء، تواسيها في محاولة منها للتّخفيف عنها، وصرفها عن التّفكير بالغرق، وممّا قالته:
– لماذا لم يعلمّنا أهلنا السّباحة كي نواجه هكذا مواقف؟
قالت مديحة: لم أكن أعلم أنّ هناك مسبحا في جمعيّة الشّبّان المسيحيّة يخصّص ساعات للنّساء، لكنّني سأرتاد ذلك المكان وأتعلّم السّباحة بعد أن أستعيد عافيتي.
شيماء: هذه فكرة جيّدة، سنعرضها على زميلاتنا، كي نتعلّم السّباحة بشكل جماعيّ.
مديحة: بعضهّن سيرفضن من منطلقات دينيّة.
شيماء: وهل سباحة المرأة أمام نساء أخريات حرام؟
مديحة: لا أعرف، لكن على الأقلّ السّباحة في الأماكن العامّة مثل شواطئ البحار حرام بالتّأكيد.
شيماء مستغربة: وهل سباحة النّساء حرام حتّى لو كنّ بلباس بحر شرعيّ؟
مديحة: لم أسمع بملابس بحر شرعيّة من قبل.
شيماء: بعض”الشّيوخ” يفتون” بأمور دينيّة دون علم، فيحلّلون ويحرّمون على هواهم، وعلى أهواء سلاطينهم.
شكّلت حادثة مديحة نكسة للرّحلة المدرسيّة، أثّرت على نفسيّات الطالبات والمعلّمات، فخرجت الطالبات من البحيرة على غير رغبة منهنّ، تناولن طعامهنّ، طلبت المعلّمات منهنّ أن ينصرفن إلى الحافلات، للقيام بجولة في مدينة طبريّا، اتّجهت الحافلات شمالا للقيام بجولة دائريّة حول البحيرة -حسب تعليمات المعلّمات للسّائقين-، عند زاوية البحيرة الشّماليّة الشّرقيّة، علا صوت بعض الطالبات -اللواتي سبق لهنّ أن زرن المنطقة مع ذويهنّ-، يطالبن بالصّعود إلى هضبة الجولان السّوريّة، أسكتتهنّ المعلّمة شيماء عندما قالت:
– سنخصّص قريبا يوما آخر لرحلة إلى الجولان، وفي شمال مدينة طبريّا مررن بالجامع الكبير، وهو جامع عظيم بناه ظاهر العمر الزّيداني في القرن الثّامن عشر الميلاديّ، ويعرف بالجامع الزّيدانيّ والجامع الفوقانيّ، وكذلك مررن بجامع الجسر الذي يقع في الحارة الغربيّة على ساحل البحيرة، وهما مهجوران منذ نكبة العام 1948.
عندما وصلن أطلال قرية سمخ جنوب المدينة والبحيرة، والتي لم يبق منها سوى بقايا من مشروع “روتنبرغ” للكهرباء، قالت المعلّمة شيماء للطّالبات:
من هنا الطريق إلى منطقة الحّمّة، حيث ينابيع المياه المعدنيّة، التي تصبّ في نهر اليرموك، أحد روافد نهر الأردنّ، وقبالتها بلدة “أمّ قيس” الأردنيّة، حيث يوجد فيها هي الأخرى ينبوع مياه معدنيّة، ليس بعيدا عن الحمّة الفلسطينية، وسنزور الحمّة في رحلة قادمة، سنقضي فيها يوما كاملا. ثمّ اتّجهت الحافلات جنوبا، تجاه بيسان، ومنطقة الأغوار وصولا إلى مدينة أريحا.
التزمت مديحة الهدوء في الباص، فقد غفت في كرسيّها أو تظاهرت بالنّوم، فلم يعد بها رغبة بالحديث مع أحد، لكنّ زميلاتها لم يتركنها وشأنها، فقد حاولن ممازحتها، وإخراجها من حالة الاكتئاب التي أصابتها.
في القدس انصرفت الطّالبات والمعلّمات إلى بيوتهنّ، استقلّت مديحة سيّارتها وعادت إلى بيتها مرهقة، في البيت سردت لوالدتها ما جرى لها في بحيرة طبريّا، ولولا يقظة معلّم من مدرسة أخرى؛ لغرقت وماتت في البحيرة. وبّختها والدتها لنزولها في البحيرة وهي لا تعرف السّباحة، لكنّها بقيت مصغية دون كلام، انتبهت للوالدة عندما ابتسمت وسألت:
– بتعرفي العادة المعروفة عندما ينقذ شابّ فتاة من الغرق؟
– لا أعرف شيئا.
– العادة يا بنتي أنّها تكون من نصيبه.
– كيف؟
– بقولوا أنّه لولاه لماتت، وع شان هيك، بقدموها عروس له بدون مهر!
ضحكت مديحة وسألت:
– ما السّبب؟
– لأنّها انكشفت عليه وانكشف عليها. شو اسمه يمّه اللي أنقذك؟ عرفتيه وعرفتِ من وين هو؟
ضحكت مديحة وقالت:
– اسمه سامي يمّه.
الأمّ: سامي؟ والله اسمه حلو. إن شاء الله يكون نصيبك معه.
– اسمه سامي متري يمّه، معلّم مدرسة مسيحيّ من القدس يمّه.
– مسيحي وللا مسلم، كلّهم من خلق الله يمّه.
– لكن ما هي العادة إذا كانت الغريقة متزوّجة؟
– المتزوجه بتصير اخته بعهد الله!
عادت مديحة تضحك وسألت:
– هل هذا يعني أنّ نصيبي هو الزّواج من مسيحي يمّه؟
– شو قلتِ يا بنت؟ ما بجوز المسلمة تتجوّز مسيحي.
– أنت من قلتِ يمّه وليس أنا.
– يا خيبتي من بنات هالوقت! إيمتا قلت أنا يا بنت؟ شو جاب المسيحيّين على بالك؟
– قلت لك يا أمّي أنّ من أنقذني مسيحيّ اسمه سامي متري.
– شو معرّفني أنا يا بنت؟ “كل واحد على دينه ربنا يعينه”.
استأذنت مديحة، استحمّت، غيّرت ملابسها، ارتدت منامتها وذهبت إلى فراشها.
فكّرت مديحة كثيرا بما قالته أمّها بخصوص العادات “من ينقذ فتاة غريقة تكون من نصيبه”، فسامي -كما رأته- شابّ وسيم، طويل القامة، مفتول العضلات، قمحيّ البشرة، فيه شهامة الفرسان القدامى، لكنّها لن تكون من نصيبه لاختلاف الدّيانة، تساءلت إن كان سامي يعرف هذه العادة التي تكلّمت عنها أمّها! أو هل سيجد من يقولها له؟ مع أنّ كلا الأمرين سيّان، فاختلاف الدّين سيحول دون تطبيق العادة المتعارف عليها، وبالتّالي فإنّ أهلها لن يقدّموها لسامي ” هديّة ما من وراها جَزِيّه”. لكنّ هذا لن يمنعها من الاتّصال بسامي؛ لتشكره على انقاذه لها، فرقم هاتف المدرسة حيث يعمل معروف للجميع. وهذا ما ستفعله في اليوم التّالي، عندما تعود إلى مدرستها.
في المدرسة استعادت مع زميلتها شيماء حادثة غرقها، وكيف أنقذها ذلك المدرّس الشّابّ من موت محقّق، استشارتها بخصوص الاتّصال به؛ لتشكره. فقالت شيماء:
– نعم، شكره واجب، خصوصا أنّك كنت في حالة هلع يومها، ولم تشكريه كما يجب.
– كيف أشكره وأنا لم أكن بكامل وعيي، وغير مستوعبة لما حصل؟ سأحصل على رقم هاتف مدرسته من السّكرتيرة، وسأتّصل به الآن.
على الجانب الأخر من الهاتف ردّ سامي:
– مرحبا. من معي؟
– مرحبا بك، أنا المعلّمة مديحة التي أنقذتها من الغرق في بحيرة طبريّا أوّل أمس، أريد أن أشكرك من صميم قلبي، فأنا مدينة لك بحياتي.
– لا شكر على واجب، وشكرا للرّبّ على سلامتك.
– من سوء حظّي أنّني لم أتعرّف عليك، وتشرّفني معرفتك.
– أتشرّف أنا بمعرفتك أيضا، وبإذن الله سنلتقي ذات يوم.
– هل تقبل دعوتي لك، كي نحتسي القهوة سويّا، ولأشكرك وجها لوجه.
– هذا يسعدني، في أيّ مكان تقترحين؟
– في بيتنا، أنا أسكن في بيت حنينا مع والدتي.
– لا داعي للبيت، ما رأيك أن نلتقي في مكان هادئ مثل فندق” الأميركان كولوني”؟
– لا بأس، متى؟
– هل يناسبك أن نلتقي في السّاعة الثّانية من بعد ظهر هذا اليوم، بعد انتهاء الدّوام؟
– رائع، اتّفقنا. إلى اللقاء.
طلبت مديحة من زميلتها شيماء أن ترافقها في ذلك اللقاء، فوافقت بعد تردّد.
مرّت السّاعات بتثاقل مزعج، عندما انتهى الدّوام المدرسيّ في الواحدة والنّصف، توجّهت مديحة وشيماء إلى “الأميركان كولوني”، اقترحت شيماء أن تذهبا مشيا على الأقدام، فمدرسة دار الطفل العربيّ ليست بعيدة عن الفندق، إلا أنّ مديحة أصرّت على الذّهاب في السّيارة. لم يسبق لأيّ منهما أن دخلت الفندق قبل هذه المرّة. عند المدخل الرّئيسيّ للبناية القديمة، سارتا ببطء شديد تستطلعان المكان، على يمينهما مكتب الاستقبال وغرفة السّفرة، وعلى يسارهما غرفة جلوس، إلى أمامهما حديقة مفتوحة تتوزّع فيها طاولات وكراسي صغيرة، حديقة مستطيلة الشّكل، ليست كبيرة، فيها بعض الورود وبعض أشجار الزّينة التي تظلّل بعض الطّاولات، اختارتا الجلوس على طاولة في الحديقة قبالة المدخل الرّئيس؛ لتريا الأستاذ سامي عندما يدخل، لكنّ الشّكّ ساورهما بأنّه ربّما يكون في انتظارهما في مكان ما في الفندق، حسمت مديحة الأمر عندما قالت لشيماء:
– لا تقلقي، إن كان موجودا، فبالتّأكيد سيبحث عنّا.
دقائق قليلة وإذا به يدخل الباب الرّئيس منتصب القامة، ابتسم عندما رآهما، ابتسمت له مديحة وقفزت تستقبله عند باب الحديقة، صافحته بحرارة، دعته للجلوس، عرّفته على زميلتها شيماء، فقال:
– أذكر أنّني رأيتها عند بحيرة طبريّا، وقد كانت خائفة عليك.
قالت مديحة وحمرة الحياء تعلو وجهها: في الواقع أنا عاجزة عن التّعبير عن مدى شكري لك، فلولاك لكنت في رحاب الله.
سامي: الأعمار بيد الله، والشّكر للرّبّ الذي كتب لك عمرا جديدا.
شيماء: الحمد لله، لا يموت انسان قبل أن ينتهي عمره.
مديحة: أنا أعيش مع والدتي في بيتنا ببيت حنينا، أبي وإخوتي مغتربون في أمريكا، وعندما حدّثت أمّي عن انقاذك لي، حمدت الله كثيرا، وشكرتك من قلبها، وطلبت منّي أن أدعوك لوليمة في بيتنا، ويشرّفني أن تكون أنت وشيماء في ضيافتنا.
– أتشرّف بذلك، سأزوركم عندما تحين فرصة مناسبة، ولا داعي للوليمة. أنا اسمي سامي يوسف متري من حارة النّصارى، أعيش مع والديّ، لي ثلاث شقيقات متزوّجات.
– أتمنّى عليك تحديد موعد للزّيارة.
– إن شاء الله، سنتّفق عليها لاحقا، سجّلي رقم هاتفي في البيت عندك، أعطني رقم هاتفك إذا لم يكن عندك مانع.
تبادلا أرقام الهواتف، احتسيا القهوة، سأل سامي:
– هل ترغبان بتناول الغداء؟
استدرك وقال: هذا ليس استشارة، وإنّما المقصود أن تطلبا ما تريدان.
لم يعطهما فرصة للكلام، صفّق بيديه للنّادل وقال له:
– ماذا طبختم للغداء هذا اليوم؟
– طبخنا محاشي” بطاطا، كوسا، باذنجان، فلفل، بصل” وبإمكانكم أن تطلبوا أيّ شيء آخر.
التزمت مديحة وشيماء الصّمت حياء، فقال سامي:
– أنا أريد محاشي، ماذا تردن يا أنسات؟
نحن لا نريد شيئا.
عاد سامي وقال للنّادل:
– لا تسمع منهما، أحضر لكلّ منهما صحن “محاشي”.
سألته شيماء: ماذا تُعلّم يا أستاذ؟
– أنا أدرّس الرّياضيّات، علما أنّني تعلّمت الهندسة المدنيّة، لكن الاحتلال قلب حياتنا رأسا على عقب.
مديحة: الاحتلال سينتهي قريبا بإذن الله.
تناولوا طعامهم، احتسوا القهوة مرّة أخرى بعد الغداء، حاولت مديحة دفع الحساب، لكنّ النّادل قال لها:
– الحساب دفعه الأستاذ سامي.
أصرّت على الدّفع، لكن النّادل رفض بشدّة بناء على إشارة من سامي الذي يعرفه.
تحدّثوا في أمور مختلفة، ضحكوا قهقهة عندما قال سامي لمديحة:
– هل تعلمين أنّك كنت ستغرقينني أنا والطالبة، لولا أنّني ضربتك بقدمي على صدغك، وسحبتك من شعرك، أعتقد أنّك فقدت الوعي من قوّة الضّربة، وليس من ابتلاع الماء.
مديحة: ارتعبت ولم أعرف كيف أتصرّف، فالحياة غالية.
سامي: طبعا أنا أخذت دورة انقاذ في السّباحة، في جمعيّة الشّبّان المسيحيّة، وضرب الغريق بالقدم من قبل المنقذ، تعلّمناها في الدّورة.
استأذنت شيماء ومديحة بالانصراف، وهما تقولان:
– الجلسة والحديث معك ممتعة للغاية، لكنّنا سننصرف لضيق الوقت.
سامي: سعدت بكما، وآمل أن نلتقي مستقبلا.
غادرتا المكان وبقي سامي جالسا.
قالت شيماء: يبدو أنّك غير محظوظة يا مديحة.
– لِمَ؟
– لو كان سامي مسلما، وفزت به عريسا- كما قالت أمّك- لكنت أسعد النّساء، فالشّابّ فيه كلّ مواصفات فارس الأحلام الذي تحلم به أيّ فتاة.
تظاهرت مديحة باللامبالاة وقالت: حتّى لو كان مسلما، فلا يعني هذا أنّه سيكون من نصيبي.
– المشكلة أنّ الدّين الإسلاميّ يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم.
– الزواج “قسمة ونصيب” وسامي ربّما يكون متزوّجا.
– لا يبدو عليه أنّه متزوّج، فقد انتبهت لعدم وجود دبلة زواج في يده.
– كثيرون من شباب اليوم لا يضعون دبلة الخطبة والزّواج؛ ليوهموا الفتيات أنّهم عازبون.
– لكنّ الرّجل يبدو مهذبّا وحيّيا. ولم نرَ منه إلا كلّ خير.
انتظرت مديحة أسبوعا كاملا مهاتفة من سامي؛ ليحدّد موعدا للدّعوة التي وجّهتها له لزيارتهم في البيت، لم تستطع الانتظار أكثر، فاتّصلت به في ساعات المساء، ردّت على الهاتف والدته، فقالت مديحة:
– مساء الخير، هل يمكنني الحديث مع الأستاذ سامي؟
– مساء النّور يا ابنتي، من أنت؟
– أنا زميلته مديحة.
أمسك سامي “التّلفون” وجاء صوته عذبا كخرير مياه هادئ، وقال:
– أهلا ست مديحة، كيفك؟
ردّت ضاحكة: أهلا بك، أين أنت يا رجل، والدتي تنتظر زيارتك؟
– ما دمت مصرّة، فلا بأس من تلبية الدّعوة، هل يناسبكم بعد ظهر يوم الجمعة القادم.
– نعم يناسبنا، سننتظرك في السّاعة الواحدة ظهرا.
– هذا وقت غداء، سأكون في السّاعة الثّالثة.
– لا، الوالدة مصرّة أن تتناول غداءك في بيتنا، فإذا بقيت مصرّا على السّاعة الثّالثة، فتعال دون غداء لنتغدّى سويّة.
– ما دامت الأمور هكذا، لا بأس، سأكون في السّاعة الواحدة.
– شكرا لك لتلبية الدّعوة، ونحن في الانتظار.
قرّرت مديحة أن تعدّ طنجرة “محشي”، فهي على قناعة بأنّ سامي يحبّ هذه الطّبخة، بعد أن شاهدته يأكلها بشهيّة في “الأميركان كولوني”، لكنّ والدتها قرّرت تحضير “المسخّن” أيضا.
يوم الجمعة، اصطحب سامي والدته معه، قال لها:
– سنتناول طعام الغداء في بيت فتاة من بيت حنينا، فمن غير اللائق أن أذهب وحدي، لأنّها تسكن مع والدتها وحدهما، فأبوها واخوتها مغتربون في أمريكا.
هناك استقبلتهما مديحة، والدتها وزميلتها شيماء.
– احتضنت والدة مديحة أمّ سامي وقبّلتها، ثمّ احتضنت سامي بحنان أموميّ، قبّلته وهي تقول:
تسلم إيديك يا خالتي، معروفك مع مديحة ما بنتسى.
– لا شكر على واجب يا خالة.
احتسى كلّ منهم كأس شاي بالمريميّة، بعدها تناولوا الغداء، أحبّ سامي ووالدته “المسخّن” مع خبز الطابون المشبّع بزيت الزّيتون، لم يتذوّقا طعم المحشي، رغم إلحاح مديحة عليهما، ممّا جعلها تشعر بالامتنان لحنكة والدتها التي أصرّت على اعداد “المسخن”، قال سامي وهو يتناول المسخّن:
أنا أحبّ الأكلات الشّعبيّة، وأينما يتواجد “المسخّن” مع خبز الطّابون فإنّه يطغى على غيره من الطّعام.
قالت شيماء: صحّة وعافية، لكنّ المحشي من أكلاتنا الشّعبيّة أيضا.
ردّت أمّ سامي: صحيح، لكنّ “المسخّن” لا يتوفّر دائما، وأنا لا أعرف كيفيّة إعداده، ونحن لا نستعمل الطّابون.
قالت أمّ عامر-والدة مديحة-:
– أهلا وسهلا بكم يا اختي، إيمتا ما أجا المسخّن على بالكم، البيت بيتكم، تلفنوا قبل بيوم، حتّى أجهّزه.
سامي: باركك الله يا خالة.
بعد الغداء وأثناء احتساء القهوة، عادت أمّ عامر تتحدّث عن انقاذ سامي لمديحة، ضحكت وهي تقول:
– في الزّمانات كانت العادة، إنّه الشابّ اللي بنقذ بنت من الغرق، بتكون من نصيبه، بقدموها له “هديّة ما من وراها جَزيّة”. ولولا إنّه في الدّين حرام المسلمه تتزوّج مسيحي، لقلت يا بنيّي يا سامي: مديحه مبروكه عليك.
احمرّ وجه مديحة من كلام والدتها، ارتبكت وطأطأت رأسها حياء، ازداد خفقان قلبها، وقالت لأمّها:
– ما الدّاعي لهذا الكلام يمّه؟
لكنّ أمّ سامي تداركت الموقف فقالت:
– العذراء تحمي مديحة، ما شاء الله عليها.
ابتسمت شيماء وقالت:
– ربنا يحمي الجميع.
أمّ سامي: “المؤمن يتّكل على الله لأنَّ كلّ شيء هو بيده. فليُلقِ كلٌّ منّا على الربِّ همّه، فهو معيلنا الوحيد في هذه الحياة.”
مديحة: “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”.
شعر سامي بالحرج فقال:
– لا فرق بين مسلم ومسيحيّ، و”الكل على دينه الله يعينه.”
استأذن سامي للانصراف هو ووالدته:
قالت شيماء: لا تشعر بالحرج يا سامي من كلام أمّك أو كلام أمّ عامر، فكلّ الأمّهات هكذا، يحرصن دائما على تأمين مستقبل بناتهنّ وأبنائهنّ قبل الرّحيل الأخير.
سامي: أطال الله أعمار الأمّهات كلّهنّ، فكل واحدة منهنّ نبع حنان لا ينضب.
أمّ سامي: هل أنت متزوّجة يا شيماء؟
– نعم أنا متزوّجة وأمّ لطفلين.
– ليحفظهما الرّب لك.
– شكرا لك، لكن لماذا تسألين؟
مديحة مازحة: لعلّها كانت تريد أن تخطبك لابنها!
أمّ سامي: لا يا بنتي، سألتها بسبب جرأتها في الحديث عن الزّواج، فلو كانت عزباء مثلك، لما تحلّت بهذه الجرأة.
سامي ضاحكا: أنا أعزب ولا أستحي من الحديث عن الزّواج.
شيماء مازحة: ليت كلّ العذارى في هذا الزّمان حيّيات مثلك!
سامي: الحديث معكنّ ممتع جدّا، لكن قبل المغادرة نتمنّى عليكنّ أن تحدّدن موعدا لزيارتنا.
أمّ عامر: نتشرّف يا ابني، في الوقت المناسب سنزوركم إن شاء الله.
– ومتى سيحين الوقت المناسب؟
– رتّب أنت ومديحة وأنا جاهزة.
– بإذن الله، والآن اسمحوا لنا بالمغادرة.
– شيماء مازحة: هل أنا مدعوّة؟
– سامي: أنت أوّل المدعوّين.
ركضت مديحة إلى المطبخ، جاءت بكيس ورق في داخله صحن، رافقت الضّيفين لوداعهما عند سيّارة سامي، وضعت الكيس في الكرسيّ الخلفيّ، سألها سهيل:
– ما هذا؟
– سلامة خيركم، هذا “مسخّن”غداء للعمّ أبي سامي.
أمّ سامي: لا داعي لذلك يا ابنتي، فقد تركنا له وجبة جاهزة.
مديحة: سلامة خيركم، لا شيء من قيمتكم.
ابتسم سامي وقال:
– شكرا لك يا مس مديحة، هذا مقبول منك أنت تحديدا.
ردّت الابتسامة بمثلها وأدارت ظهرها عائدة للبيت وهي تقول:
– مع السّلامة، وآمل أن تشرّفونا بزيارتكم مرّات ومرّات.
سامي: لن نزوركم مرّة أخرى قبل أن تزورونا.
قالها وانطلق بسيّارته كالسّهم.
اختلت شيماء بمديحة وقالت:
– لو كان سامي مسلما ووقع النّصيب بينكما لاختلفت أمور كثيرة.
مديحة: حتّى لو كان مسلما، فمن قال لك بأنّني سأقبل الزّواج منه؟
نظرت إليها شيماء نظرة استغراب وقالت:
– لا تعتقدي لحظة واحدة أنّني لا أفهم الأمور، فعيناك كانتا تتكلّمان قبل لسانك، جسدك كان ينضح حبّا بكل حركة قمتِ بها، وسامي رغم كلامه القليل إلا أنّ ملامحه كانت تنطق عمّا في قلبه وعقله.
مديحة: القضيّة ليست بهذه البساطة.
شيماء: ولا تحتاج إلى تعقيد أكثر من اللازم أيضا.
مديحة: أيّ تعقيد يا شيماء؟ الإسلام يحرّم على المسلمة الزّواج من غير المسلم، هذا شرع الله.
– لا خلاف على ذلك، لكنّ غير المسلم يعلن إسلامه إذا أراد الزّواج من مسلمة.
– وهل انقطع الأزواج حتّى يتمّ بين أتباع ديانات مختلفة، ومن يتحمّل تبعات ذلك من مشاكل قد تصل حدّ القتل؟
– أعرف أكثر من حالة زواج مختلط بين أتباع ديانتين، وهذا لا يقتصر على الإسلام والمسيحيّة فقط، بل يتعدّاه إلى اليهوديّة أيضا. أعرف مهندسا أبوه مسلم وأمّه يهوديّة، وآخر والده مسيحيّ وأمّه يهوديّة، وهناك مسلمون كثيرون هاجروا إلى دول أوروبّيّة وأمريكيّة، وعادوا بزوجات مسيحيّات ويهوديّات. ولم يعترض أحد على زواجهم.
– ثقافات الشّعوب الغربيّة تختلف عن ثقافتنا في الشّرق.
– الحساسيّة الزّائدة من زواج عربيّ بيهوديّة، استفحلت فقط بعد نكبة العام 1948، وما نتج عنها من مصائب حلّت على شعبنا.
– لكن الزّواج المختلط بين المسلمين والمسيحيّين العرب في بلادنا، يواجه مشاكل كثيرة، قد تصل إلى القتل أحيانا، وأنا أقصد هنا زواج المسلم بمسيحيّة، أمّا زواج المسيحي من مسلمة فهذا حرام.
– الكنيسة ورجال الدّين المسيحيّ أيضا لا يسمحون بالزّواج المختلط. والعادات والتّقاليد أيضا لا تسمح بهكذا زواج. في المحصّلة لا دخل لنا بهكذا قضايا، وكما قال المثل: “لا تنام بين القبور، ولا تحلم أحلام مزعجة”.
– كلّه قسمة ونصيب و”إذا وقع القدَر، عمي البصر”، وأعتقد أنّ سامي هو الآخر يتصرّف بعفويّة، وأنّ الزّواج ليس واردا في حساباته.
مديحة تتساءل باستغراب:
– عن أيّ قدر تتكلّمين يا شيماء.
– اسمعي يا مديحة، إرادة الله فوق كلّ شيء، و”المكتوب على الجبين” بتشوفه العين”. وممّا يروى عن تاريخ أسرتي، أنّه عندما ولدت المرحومة جدّة أمّي، وضعوها في مهدها المربوط في حبل بين حائطين؛ ليسهل تحريكه، وعندما كانت تبكي وهي في مهدها، وجدّتي مشغولة بعمل ما، كان لجدّتي ابن عمّ شابّ، يشفق عليها، فيداعبها ويهزّ بها مهدها؛ فتسكت.
وذات يوم رأته والدته التي كانت تكره جدّتي، فطلبت من ابنها ساخرة، أن يواصل مداعبته للمولودة، لعلّها تكون من نصيبه! ودارت الأيّام، وكبرت المولودة، وكانت من نصيبه فعلا، فقد تزوّجها، بعد أن توفّيت زوجته التي لم تنجب. ولا يزال شيوخ العائلة يتندّرون بتلك القصّة ويردّدون بشكل دائم: “كل كلمة وعليها مَلَك.”
تتظاهر مديحة باللامبالاة ممّا تقوله شيماء، فتقول بلسانها ما يخالف قناعاتها، لكن في داخلها تغلي موجات عشق لم تتبلور ملامحه بعد، وإن كان يرتسم على شكل صورة سامي، التي لم تفارق مخيّلتها منذ أن أنقذها من الغرق في بحيرة طبريّا. كلام صديقتها شيماء يدغدغ عواطفها، لكنّها تتظاهر بالسّذاجة كي لا تستبق الأحداث، فأنّى لها أن تعرف إن كان سامي يفكّر مثلها أم لا؟ صحيح أنّها ترى فيه فارس أحلامها، لكنّها سمعت الكثير من تجارب زميلات حول أحلامهنّ بفارس الأحلام، كثيرات بنين آمالا على شباب كثيرين، لم يكن وارد عندهم خيالات العذارى، فلا يلبثون أن يتزوّجوا من أخريات، فتتبخّر أحلام من كنّ ينتظرنهم، تاركة شروخا في نفسيّات أرهقها الكبت والحرمان، ومع ذلك فخيالها يقودها إلى التّفكير بالمستحيل، فالإسلام يحرّم زواج المسلمة من غير مسلم، ومن سيضمن لها أن يسلم سامي ويخلص في إسلامه حتّى يستطيع الزّواج منها؟ حتّى لو أسلم فإنّ اسمه عائلته “متري”غير مألوف عند المسلمين! لم تبح بما يدور في رأسها لصديقتها المقرّبة شيماء، وذلك خوفا من أن تصبح مضغة تتناولها الألسن؛ فتحرق سمعتها في مجتمع تنتشر فيه الاشاعات، التي تجد من يبني عليها، ويتحدّث بها وكأنّها حقيقة مؤكّدة.
تظاهرت مديحة بعدم استيعاب ما سمعته عن جدّة شيماء، فسألتها:
ماذا تقصدين بحكاية جدّتك؟
– أقصد أنّ بعض الكلام الذي يطلق أحيانا بطريقة عبثيّة، قد يكون نبوءة تتحقّق لاحقا، كأنّ ملاكا يتلقّفها ويضعها في اللوح المحفوظ. ومن يدري أن يصبح حديثنا عن زواجك من سامي حقيقة واقعة؟
مديحة حائرة: تبّا لذلك اليوم الذي شارفت فيه على الغرق في بحيرة طبريّا، وقادنا إلى الحديث عن وَهْمٍ لا نعرف أين سيصل بنا، على كلّ حال سأقطع علاقتي بسامي نهائيّا.
**********
بدأت التّحضيرات في بيت أبي حاتم للوليمة صباح يوم الجمعة، بعدما علمت أمّ حاتم بها من ابنها سهيل، طلبت من ابنتها فاطمة وكنّتها زوجة حاتم، أن يعددن ورق دوالي، محاشي “كوسا وباذنجان وفلفل”، وتكفّلت هي باعداد “المسخّن” فهي لا تثق بقدرات “بنات اليوم” في إعداده كما يجب! كما طلبت من فاطمة أن تقوم بكنس البيت ومحيطه بشكل جيّد، استعدادا لاستقبال الضّيوف.
قالت أمّ حاتم لزوجها:
– والله يا ابو حاتم سهيل ما هو قادر يوصف قدّيش جماعته طيبين، ناس محترمين كثير، وبتعاملوا مع سهيل كأنّه ابنهم وزيادة.
أبو حاتم: “كلّ النّاس خير وبركة.”
نادت أمّ حاتم ابنها سهيل وسألته:
– مين يمّه اللي رايحين ييجوا؟
أبو حاتم: شو هالسّؤال يا صفيّة؟ أهلا وسهلا بالجميع.
– ما اختلفنا لمن العزومة، لإمّ حنّا، اللي ساكن عندها سهيل، مين رايح ييجي معها؟
سهيل: أمّ حنا، وابنتها الدّكتورة جوجيت، خطيبها الدّكتور إلياس، وبنت أختها اسمها ناريمان، طالبة في المعهد تدرس معي.
أمّ حاتم: أهلا وسهلا، بشرفونا.
اتّصل سهيل بمديحة بنت خالته زعرورة:
– مرحبا يا ست مديحة.
– أهلا سهيل.
– دعوت الأسرة التي أسكن عندها في بيرزيت؛ لتناول طعام الغداء عندنا بعد غد الأحد، ويشرّفنا أن تكوني أنت والخالة أمّ عامر موجودتين معنا.
– شكرا لك، لكن إذا دعوت أنت أصدقاءك، فما شأني أنا؟
– الدّعوة أسريّة وليست دعوة أصدقاء، المدعوّون هم سيّدة مسيحيّة فاضلة، وابنتها وخطيبها وبنت أختها. وستكونين في غاية السّعادة معهم.
– لا بأس، سأحضر أنا، ولا أعرف إن كانت الوالدة ستوافق على الحضور أم لا، فهي لا تحبّذ الخروج من البيت، بسبب هرمها.
على الجانب الآخر، ذهبت الدّكتورة جورجيت، ناريمان، وأمّ حنّا منذ الصّباح إلى صالون للسّيدات لتمشيط شعورهنّ، وعمل مكياج. اتّصلت جورجيت بخطيبها الدّكتور إلياس، طلبت منه أن يحضر لبيرزيت؛ ليذهبوا جميعهم سويّة إلى بيت حنينا. فردّ عليها بأنّه سيلتقيهم هناك.
فقالت جورجيت: من غير اللائق أن نذهب منفردين، سنذهب في سيّارتين، أنا وأنت في سيّارة، وناريمان والوالدة في سيّارة ناريمان.
– إذا كان رأيك هكذا، فسأحضر، وما المانع أن نذهب أربعتنا في سيّارة واحدة؟
– لا، سنذهب في سيّارتين؛ لنأخذ راحتنا في الكلام.
– لا بأس سأكون عندكم في السّاعة الثّانية عشرة ظهرا.
صباح يوم السّبت ذهب سهيل وحاتم إلى رام الله، اشتريا بدلة، قميصا وربطة عنق لكلّ منهما، واشترى سهيل حذاء جديدا. في الواحدة والرّبع ظهرا وصل الضّيوف، وقفوا لاستقبالهم، أوقفوا السّيارتين بجانب البيت، تقدّمتهم أمّ حنّا، ناريمان جورجيت فالدّكتور إلياس. احتضنتهنّ أمّ حاتم وقبّلتهن، أشار لهم سهيل إلى صالون البيت، لكنّ ناريمان قالت:
– ما رأيكم أن نجلس على الكراسي تحت شجرة التّين تلك؟
الدّكتور إلياس: فكرة جميلة.
حاتم: على راحتكم، أهلا بكم.
قام سهيل بالتّعريف على الضّيوف وعلى أهله، وعندما وصلت مديحة قال:
– هذه مديحة بنت خالتي، معلّمة مدرسة.
نظرت إليها ناريمان التي كانت تجلس بجانبها وسألتها؟
ماذا تدرّسين يا miss؟
– لغة انجليزيّة.
– أنا لا أزال طالبة رياضيّات سنة ثانية في معهد بيرزيت.
– وأنا تخرّجت من معهد بيرزيت.
– تشّرفنا.
انتبهت النّساء لملابس الضّيفات و”مكياجهنّ” حتّى أمّ حنّا بدت أصغر من عمرها، فهي ترتدي فستانا أزرق اللون، يمتدّ قليلا تحت ركبتيها، تضع أحمر الشّفاه، وجهها دائريّ كالقمر البدر، عيناها كحيلتان، شعرها أملس ناعم، مصبوغ بلون خمريّ. جورجيت ترتدي بنطال جينز وقميص “نص كم”، مكياجها عاديّ، شعرها أسود فاحم. ناريمان ترتدي قميصا ورديّا، تنّورة سوداء قصيرة، تضع صبغة شفاه خمريّة تتناسب ووجهها القمحيّ، شعرها أشقر اللون يتطاير مع النّسيم حول وجهها كأنّه يعزف سيمفونيّة الخلود. أمّا الدّكتور إلياس فكان يرتدي بنطال “جينز”، بلوزة سوداء، وينتعل حذاء رياضيّا.
انتبهت أمّ حاتم لناريمان، أعجبت بأناقتها، فسألتها:
– كم سنة عمرك يا بنتي؟
– 20 سنة، أنا أدرس مع سهيل في المعهد.
– ما شاء الله عليك. إن شاء الله بتكوني من نصيبه.
ابتسمت ناريمان ابتسامة مجاملة ولم تقل شيئا. انتبه أبو حاتم لما قالته زوجته، فقال لها ليصرفها عن مواصلة الحديث في الموضوع:
– روحي يا صفيّة شوفي شو صار في الغداء؟
بينما قالت مديحة:
– ما رأيك يا miss ناريمان أن نتمشّى بين الأشجار؟
– ناريمان هيّا بنا.
عندما وقفتا سأل أبو حاتم:
– وين يا بنات؟
مديحة: سنتمشّى قريبا بين الأشجار.
– لا تبتعدن فالغداء جاهز.
ثمّ قال لمديحة: لا تاكلن تين قبل الغداء؛ لأنّه ثقيل ع المعدة، وبسدّ الشّهيّة.
عندما ابتعدن قليلا سألت ناريمان مديحة:
– هل أنت خطيبة سهيل؟
– لا، سهيل ابن خالتي ومثل أخي. وكلانا لا نؤمن بزواج الأقارب.
سألت مديحة: منذ متى تعرفين سهيل يا ناريمان؟
– منذ أقلّ من ثلاثة أسابيع، عند بداية العام الدّراسيّ في المعهد.
– سهيل شابّ خلوق ورائع. هل هو مستأجر في بيتكم؟
– لا، هو مستأجر في بيت خالتي أمّ حنا، استأجر شقّة صغيرة من خالتي.
– ومن يسكن مع خالتك؟
– خالتي تسكن مع ابنتها الدّكتورة جورجيت، التي تعمل في مستشفى “أوغستا فكتوريا”، تعود إلى البيت مساء السّبت، وتغادر صباح الاثنين، لذا أنام أنا عند خالتي؛ كي أؤنس وحدتها، فأبناؤها خارج البلاد.
– وأنا أبي وإخوتي مغتربون في أمريكا، وأعيش أنا ووالدتي وحدنا.
– يا إلهي كيف تشتّت شعبنا! وخالتي ترى سهيل مثل أبنائها.
– وأنت كيف ترينه؟
ضحكت ناريمان وأجابت مازحة:
– أنا أراه مثل ابن الجيران! لكن سهيل شابّ حييّ، خلوق، قليل الكلام.
– سهيل من خيرة الشّباب، وهو مصرّ على إكمال تعليمه الجامعيّ.
– كلّ الاحترام، من لا يتعلّم ستواجهه مصاعب كثيرة في الحياة.
وهنا سمعن صوت سهيل ينادي عليهنّ، بأنّ الغداء جاهز.
جلسوا على المائدة ومديحة تتمنّى في سرّها أن تكون ناريمان من نصيب سهيل؛ لأنّ زواجه من مسيحيّة سيكون فاتحة خير، ستسهّل زواجها من سامي إن وقع النّصيب. فزواج المسلم من مسيحيّة لا تعترضه عراقيل كبيرة مثل زواج المسلمة من مسيحيّ. لم يجلس سهيل على المائدة؛ ليتناول طعامه مع الجميع، فقد بقي واقفا كما النّادل؛ لتقديم أيّ خدمة يطلبها الضّيوف، في حين بقيت شقيقته فاطمة وزوجة أخيه حاتم جالستين في المطبخ.
سألته جورجيت: لماذا لا تجلس وتتناول طعامك يا سهيل؟
– لقد سبقتكم، استيقظت متأخّرا وتناولت فطوري قبل أقلّ من ساعتين.
التفتت إليه ناريمان وقالت:
– أنت تستيقظ قبل بزوغ الشّمس، فكيف استيقظت هذا اليوم عند الظّهيرة؟ اجلس وتناول طعامك.
ثمّ انتبهت لعدم جلوس فاطمة وزوجة حاتم فسألت:
– أين الصّبايا؟ لماذا لا يشاركننا تناول الطّعام؟
تنهّدت أمّ حاتم وقالت:
– لا تخافي عليهن يا خالتي، رايحات ياكلن أكثر منّي ومنك بعد ما يرتاحن، يمّه “الطّبّاخه بتشبع من ريحة الطّبخه”.
الدّكتور إلياس: لماذا بقي العمّ أبو حاتم جالسا تحت الشّجرة، ولم يشاركنا الطّعام؟
حاتم: الوالد يتناول طعامه متأخّرا، بعد أن يصلّي العصر، ولا يتناول وجبة العشاء.
نظرت جورجيت إلى ناريمان نظرة توحي لها بأن تسكت.
في حين قال الدّكتور إلياس:
– هذا الطّعام لذيذ شهيّ، أفضل بكثير ممّا تقدّمه المطاعم.
حاتم: صحتين وعافية.
تظاهرت مديحة بأنّها مشغولة بتناول طعامها، بينما كانت تراقب نظرات سهيل وناريمان؛ لترى إذا ما كان بينهما علاقة ما.
بعد أن تناولوا طعامهم عادوا يجلسون على الكراسي تحت الشّجرة، بينما طلبت ناريمان من مديحة أن ترافقها في جولة على الأقدام داخل القرية.
تحدّثتا بأمور كثيرة بما فيها الزّواج، فسألت مديحة:
– هل يجوز للمسيحيّين أن يتزوّجوا مسلمات؟
ناريمان: الزّواج المختلط له أبعاده الخطيرة في بلداننا العربيّة، فالمسيحيّ إذا تزوّج مسلمة قد يتعرّضان للقتل، إذا لم يعتنق المسيحيّ الإسلام قبل الزّواج. والمسيحيّة إذا تزوّجت مسلما، ربّما تتعرّض للقتل هي الأخرى، وتغضب عليها الكنيسة وأسرتها، وقد تتعرض للمقاطعة وللبراءة من أسرتها ومن الكنيسة وأتباعها. والكارثة فيما لو حصل الزّواج وفشل بعد ذلك، وتعرّضت للطّلاق، فإنّها ستتعرّض لضياع كامل، فلا أحد يتعرّف عليها، “يعني لا مع ستّي بخير، ولا مع سيدي بخير”.
مديحة: الإسلام يحلّل للمسلم أن يتزوّج مسيحيّة أو يهوديّة، وأن تبقى على دينها، أمّا المسلمة فلا يجوز لها الزّواج من غير السلم، فممّا ورد في القرآن الكريم:
“وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) البقرة/221.
وقال تعالى: ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) الممتحنة/10.
ناريمان: وهل تعتبرون المسيحيّين كفّارا؟ ألا تعلمون أنّهم أصحاب ديانة سماويّة؟ حسب معلوماتي فإنّ الإسلام لا يعترف بنبوّة موسى وعيسى -عليهما السّلام- وبديانتيهما فحسب، بل يعتبرها قضيّة إيمانيّة، وكافر من ينكر ذلك.
مديحة: كلامك صحيح، ومعاذ الله أن أكفّر أحدا، لكنّنا نؤمن أنّ الإسلام هو الدّين الصّحيح ونسخ الدّيانتين السّماويّتين السّابقتين له.”وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.” ومع ذلك فأنا لا أُكفّر أحدا، ولا أزكّي عند الله أحدا، سواء كان مسلما أو من أصحاب الكتاب.
ناريمان: هذه قضايا دينيّة معقّدة، و”كل واحد ع دينه ربنا يعينه.”
مديحة: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”
أفضل شيء أنّ المسلمين والمسيحيّين، في بلداننا العربيّة، أبناء شعب واحد وأمّة واحدة، وهذا ما يجب أنّ نحافظ عليه، والتّعايش بين أتباع الدّيانات أمر مطلوب. لأنّ “الدّين لله والوطن للجميع.”
ناريمان: أصولنا وتاريخنا وحضارتنا وقضايانا واحدة، والطّائفيّة بغيضة.
جلست أمّ حاتم وأمّ حنّا في البيت وحدهما، في حين جلس الباقون في جلسة دائريّة تحت شجرة زيتون.
قالت أمّ حاتم: والله يا اختي أم حنّا، بنتك ناريمان ما شاء الله عليها، ربنا يحميها، مزيونة وأمّورة مثل الغزال.
أمّ حنا: ناريمان بنت أختي مش بنتي، أنا جورجيت بنتي.
أمّ حاتم: بنت الأخت مثل البنت تماما، والله أنا باحب مديحة بنت اختي مثل ما باحبّ بنتي.
– وناريمان والله مثل ابنتي.
– نفسي يا اختي أمّ حنا أفرح بسهيل قبل ما أموت، يا ريت يلقى بنت حلوة مثل ناريمان ويتزوجها.
ضحكت أمّ حنّا وقالت:
– لا تستعجلي عليه، فهو أدرى بمصلحته أكثر منّي ومنك.
أمّ حاتم: والله ناس كثير من بلدنا سافروا لأمريكا، تزوّجوا مسيحيّات ويهوديّات، انستروا معهن وخلّفوا منهن، وعندما بيجوا زيارة الكل بحطهن هنّ واولادهن على رووسهم.
أمّ حنّا: أمريكا دولة علمانيّة، القانون يحمي رعاياها جميعهم بغضّ النّظر عن ديانتهم وأصولهم، وعاداتهم تختلف عن عاداتنا.
أمّ حاتم: لكن ليش احنا الله ساخطنا؟
أمّ حنا: نحن العرب تحكمنا العادات والتّقاليد أكثر ممّا يحكمنا الدّين!
أمّ حاتم: يوم المنى أشوف سهيل عريس على ناريمان، “ونيّال من جمع راسين على وساده”!
أمّ حنّا: كيف سيكون سهيل وناريمان عروسين وهو مسلم وهي مسيحيّة؟ هذا مستحيل، وكلّ منهما سيلقى نصيبه من أتباع ديانته.
انتهت الزّيارة وانصرف الضّيوف عند أذان المغرب. التفّوا جميعهم حول أبي حاتم، فقالت أمّ حاتم لسهيل:
– تعال يمّه اقعد جنبي، شفت قديش ناريمان حلوة ومزيونه؟
سهيل: ما دواعي هذا الكلام يمّه؟ ناريمان بنت مسيحيّة، ولا شيء يربطني بها.
مديحة: اسمع يا ابن خالتي، إذا كنت ترغب في الزّواج، فناريمان فيها كلّ المواصفات الحسنة، التي يتمنّاها أيّ شابِ في فتاة أحلامه، وديننا لا يحرّم زواج المسلم من مسيحيّة.
سهيل: أولّا أنا قلت لكم بأنّني لن أتزوّج قبل أن أنهي تعليمي الجامعيّ.
وثانيا: الزّواج من ديانة مختلفة يخلق مشاكل نحن في غنى عنها.
حاتم: كثيرون من أقاربنا المغتربين في أمريكا تزوّجوا مسيحيّات ويهوديّات، ولم يعترض عليهم أحد.
مديحة: مشكلة الزّواج المختلط عندنا وليست في أمريكا، لدينا عادات يصعب فهمها، والتّفريق عندنا لا يضع العراقيل أمام الزّواج بين أتباع ديانتين فقط، فهناك فوارق طبقيّة واجتماعيّة أيضا، وهناك من يضع عراقيل وحواجز تمنع الزّواج بين أبناء المدينة والقرية والبادية.
ضحك أبو حاتم وقال: بتعرفوا انّه النّوري في بلادنا عند ما يزعل من بنته بقول لها: والله لأزوجك لفلّاح، والفلّاح يهدّد بنته بتزويجها من مدني؟
حاتم: مسيحيّو بلادنا منفتحون أكثر من مسلميها، وأعرف أكثر من حالة تزوّج فيها مسلم من مسيحيّة، ولم تحدث مشاكل تذكر.
أبو حاتم: مسيحيّو بلادنا عرب مثلنا، وعاداتهم وتقاليدهم مثل عاداتنا، وانا سمعت عن بنت مسيحيّة من رام الله، كانت بدها تتزوّج مسلم، وأبوها رماها من ظهر الدّار وماتت، بنات المسلمين ولا أكثر منهن إذا سهيل ناوي يتزوّج، ما بدنا مشاكل.
حاتم: أنا أعرف مسيحيّا أحبّ مسلمة، وأعلن إسلامه وتزوّجها، وأهله كانوا فخورين بأنّهم كسبوا للإسلام مسلما جديدا.
سهيل: “مش كلّ مرّة بتسلم الجرّة”، وعلى رأي مثلنا الشّعبيّ “إذا أسلمت سارة ما بزيدوا المسلمين ولا بنقصوا النّصارى”.
أمّ حاتم: نسيت أقول لكم، أنا اعرف واحد من شعفاط تزوّج مسيحيّة اسمها رزان، وما حصل أي مشاكل مع أهلها وأهله.
حاتم: إذا كان والدها يحمل فكرا مستنيرا، هو واخوانه ووالدهم من قبلهم، فإنّهم لا يفرّقون بين مسلم ومسيحيّ.
أبو حاتم: وأنا أعرف واحد من أبناء العائلات المقدسيّة، تزوّج بنت قرويّة زميلة له في العمل، وأهله قاطعوا عرسه، مع انّه كلهم مسلمين، وبعد ما خلّف منها ثلاثة أبناء هدّدوه بحرمانه من الميراث إن لم يطلّقها، فخضع لهم وطلّقها مع انها أجمل وأفهم وأعقل من بناتهم.
التقطت أذنا مديحة ما قاله حاتم فسألت بخبث:
– ولماذا لا يتقبّل المسلمون المتنوّرون زواج بناتهم من مسيحيّين؟
حاتم: لأنّ الدّين الإسلاميّ يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم.
أبو حاتم: مش عارف شو الدّاعي لكل هالكلام؟ “هذا حامل لحيته، وهذاك متغلّب فيها” سهيل بقول إنّه ما بدّه يتزوّج مسلمه ولا مسيحيّه، فاتركونا من هذا الكلام الفاضي.
ضحكوا ممّا قاله أبو حاتم، استأذنت مديحة وعادت إلى بيتها، وانفضّت الجلسة.
**********
جاهدت مديحة نفسها كي تنسى سامي، فزواجها منه ليس سهلا، ويصعب تحقيقه، لأنّ الإسلام يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم، عدا أنّها لم تسمع كلمة من سامي توحي بأنّ قلبه يخفق لها. قرّرت أن تتخلّص من ذكراه بعمل ما يشغل وقت فراغها، بعد تفكير طويل حسمت أمرها بضرورة تعلّم السّباحة، كي لا يحصل لها ما حصل في بحيرة طبريّا مرّة أخرى.
توجّهت إلى جمعيّة الشّبّان المسيحيّة في القدس بصحبة صديقتها شيماء، حيث استطاعت اقناعها بأن تتعلّما السّباحة معا، توجّهتا إلى قسم الاستقبال في جمعيّة الشّبّان، استفسرتا عن طريقة التّسجيل، دفعتا الرّسوم، وانتظرتا في قسم الاستقبال تحتسيان القهوة، حيث عليهما الانتظار لمدّة ساعة حتّى يحين وقت النّساء في المسبح.
دخلتا المسبح بكامل ملابسهما على استحياء، رأتا نساء من مختلف الأعمار يعمن في البركة بلباس البحر، الذي اتّخذ أشكالا عديدة، بعض الطفلات يضعن إطارات مليئة بالهواء تحت الإبط؛ لتحميهن من الغرق، ومن خلاله يتعلّمن السّباحة.
ابتسمت لهنّ معلّمة السّباحة وهي تصافحهنّ، طلبت منهما أن تستبدلا ملابسهما، وأن ترتديا ملابس البحر بعد أن تضع كلّ منهما ملابسها في خزانة صغيرة مخصّصة لذلك، بعدها رافقتهما إلى طرف المسبح حيث يتدرّج عمق المياه من 30 سنتيمتر، إلى متر ونصف قبل أن ينتقل إلى المياه العميقة. تردّدت مديحة كثيرا قبل النّزول إلى المسبح، فما جرى في بحيرة طبريّا لا يزال يسيطر على مخيّلتها، جلست على حافّة البركة حيث المياه المنخفضة، مدّت قدميها في الماء بدلال، لسعتها برودة الماء، شرحت لهنّ المدرّبة مبادئ السّباحة، كيفيّة الاسترخاء، حركة اليدين والسّاقين، تغطية الشّعر الطّويل كي لا يلتفّ على الوجه والعيون، حاولت كسر الحاجز النّفسيّ عند مديحة بعد أن سردت عليها شيماء ما جرى لها في بحيرة طبريّا. حاولت شيماء أن تعوم في المسبح عرضا على عمق 150 سنتيمتر، لكنّها لم تتجرّأ على الاقتراب من المياه الأكثر عمقا. اقتربت شيماء من مديحة، شجّعتها على النزّول إلى المياه، لكنّها رفضت بشدّة. ركّزت مديحة نظراتها على طفلة في الخامسة من عمرها، كانت تقف على حافّة البركة بجانب المياه العميقة، تقفز مع قريناتها الطّفلات وسط قهقهة تنطلق في فضاء المسبح كسيمفونيّة عصافيريّة، قالت لشيماء:
– ليتنا وجدنا في طفولتنا المبكّرة من يعلّمنا فنون العوم في الماء.
شيماء: لم يفت الوقت فبإمكاننا التّعلّم في هذا العمر.
مديحة: “التّعليم في الصّغر كالنّقش في الحجر.”
شيماء: في بلاد الفرنجة يعلّمون الأطفال السّباحة قبل أن يتعلّموا المشي، وفي بعض البلدان يغطّسون المولود الجديد في مياه الأنهار أوالبحار فور ولادته.
مديحة: في بلادنا هناك من يعلّمون أطفالهم السّباحة قبل أن يبلغوا الثّالثة من أعمارهم، ولو وجدنا من يعلّمنا لما حصل لي ما حصل في بحيرة طبريّا، ولولا وجود سامي في المكان على غير موعد، لغرقت ومتّ.
شيماء: “الأعمار بيد الله.” قالتها وأمسكت يد مديحة على حين غرّة، سحبتها إلى الماء بقوّة، صرخت مديحة رعبا، شتمت شيماء شتيمة ما كانت لتجرؤ على التّلفّظ بها لو تواجد في المكان رجال.
انتبهت المدرّبة فنظرت نظرة عتاب إلى شيماء، نزلت إلى الماء، أمسكت يدي مديحة، طلبت منها أن تتمدّد في الماء دون خوف وأن تحرّك ساقيها، قادتها إلى مستوى عمق 150 سنتمتر، ومديحة ترتعب خائفة، شجّعتها، مشت أمامها مرّتين على عرض المسبح، وفي الشّوط الثالث تركتها وهي تقول لها:
لا تخافي حرّكي الآن يديك كما تحرّكين ساقيك، وأنا سأعوم بجانبك.
مكثتا في المسبح ساعة، وعندما خرجتا، زوّدتهما المدرّبة بالبرنامج حيث السّاعات المخصّصة للنّساء.
أخذن حمّاما سريعا في المكان المخصّص، غيّرتا ملابسهما، خرجتا إلى الصّالة حيث يجلس بعض نزلاء الجمعيّة، وبعض من يرتادون المكان لأسباب مختلفة، جلستا في الصّالة الخارجيّة المطلّة على الشّارع العامّ -طريق نابلس- الذي يوصل إلى باب العمود. طلبت كلّ منهما كأس شاي، وهنا مرّت المدرّبة، نادتها شيماء وأصرّت عليها للجلوس لاحتساء ما تريد، وليتمّ التّعارف بينهنّ.
جلست المدرّبة معهنّ وطلبت كأس شاي هي الأخرى.
شيماء: أنا اسمي شيماء الفارس، وزميلتي مديحة السّلمان.
المدرّبة: أهلا بكما، أنا اسمي كريستين متري.
نظرت مديحة إلى شيماء فاتحة عينيها على اتّساعهما مندهشة، وسألت كريستين:
هل لك أخ اسمه سامي؟
– نعم.
– ماذا يعمل؟
– معلّم في المدرسة الإبراهيميّة.
سقط نور قلب مديحة دهشة على وجهها، التفتت إلى شيماء التي كانت تبتسم، مدّت يدها اليمنى تصافح كريستين من جديد وهي تقول:
– أهلا بك “صدفة خير من ميعاد”.
تنهّدت مديحة وسط دهشة كريستين التي لم تفهم ما يجري، نظرت إلى شيماء التي تداركت الموقف قائلة:
– حدّثتك عن غرق مديحة في بحيرة طبريّا، فالشّابّ الذي أنقذها هو سامي متري، وبالصّدفة عرفنا هنا أنّك شقيقته.
ضحكت كريستين وخاطبت مديحة مازحة:
– هذا يعني أنّك مدينة لنا بحياتك.
شيماء: سبحان من يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير.
مديحة: لن أنسى فضل سامي عليّ ما حييت. وحادثة غرقي هي ما دفعنا لنتعلّم السّباحة.
كريستين: إذن شكرا لبحيرة طبريّا التي حاولت ابتلاعك!
شيماء: بل الشّكر لسامي الذي أنقذها.
كريستين: أنا وسامي وأخواتي تعلّمنا السّباحة في هذا المكان قبل أن نبلغ الثّالثة من أعمارنا، وأنا وسامي واصلنا السّباحة كرياضة هامّة في بناء الجسم السّليم، وأصبحت منقذة ومدرّبة سباحة قبل سبع سنوات، عندما بلغت الثّامنة عشرة من عمري، في حين يشغل سامي مدير المسبح، والمشرف عليه. ويداوم هنا بعد انتهاء دوامه المدرسيّ.
شيماء: سامي شابّ رائع دمث وخلوق.
كريستين: سامي بمثابة الشّمعة التي تضيء حياتنا وحياة والدينا.
شيماء: ليحفظه الله لكم.
استأذنت كريستين للمغادرة لارتباطها بموعد آخر.
غادرت شيماء ومديحة المكان، فسألت شيماء:
لقد مضى أكثر من شهر على دعوة سامي لنا للغداء في بيتهم، يبدو أنّه لم يتابع دعوته.
مديحة: لا…فهو يهاتفنا يوميّا، فأردّ عليه مقلّدة صوت أمّي:
– مديحة مش هون يا ابني. يحاول الاستفسار، لكنّني أتظاهر بعدم السّمع وأردّد بأنّني لم أسمع الكلام حتّى يملّ ويغلق الهاتف.
شيماء: هذا تصرّف غير لائق، لماذا تتصرّفين هكذا؟
– ليست لي رغبة في تلبية دعوته، ولا أريد أن أبقي على أيّ تواصل معه.
– أنت مخطئة، ولا داعي لذلك.
– لست مخطئة، فطيف الرّجل لا يغيب عن مخيّلتي، وأخشى إن استمرّت العلاقة معه أن توصلنا إلى ما لا تحمد عقباه، فالرّجل من أتباع ديانة أخرى، ولا أمل في الزّواج منه.
– هناك علاقات إنسانيّة لا علاقة لها بالحبّ والزّواج، وأنت مدينة للرّجل بحياتك، فلتكن علاقة صداقة عائليّة بريئة.
– أخاف أن يدخل الشّيطان بيننا، ونتورّط بمشاكل نحن في غنى عنه.
– لماذا نفترض الأسوأ دائما؟ ولماذا نحمّل الشّيطان أخطاءنا وخطايانا؟ وكيف لا نلجأ إلى الرّحمن الرّحيم في أزماتنا؟
– نحن مسيّرون ولا خيار لنا، و”المكتوب على الجبين بتشوفه العين.”
– من يعتقد أنّنا مسيرون، يلغي العقل الذي هو جوهرة الانسان، فالله خلق لنا العقل لنميّز الخير من الشّرّ. وتصرّفاتنا بفعل إرادتنا وليست قضاء وقدرا.
مديحة ساخطة: بناء على ما قلته فإنّني قرّرت قطع الاتّصال بسامي بعد تفكير عقلانيّ.
شيماء ساخرة: ومن قال لك بأنّ سامي يحلم بك؟
– لا شأن لي بسامي، فليحلم أو لا يحلم فهذا شأنه.
**********
لم يعد سهيل يقوى على عدم رؤية ناريمان ولو ليوم واحد، فقد بات على قناعة بأنّ الزّواج لا يحول دون استكمال الدّراسة، صحيح أنّه لم يكن ينتبه للنّساء، لكن ذلك يبدو انغلاقا وتقوقعا على الذّات لم يجد له تفسيرا مقنعا.
تتحلّى ناريمان بجرأة عفويّة زائدة، تتصرّف بثقة عالية، لم يعد سهيل قادرا على تفسير حرصها على زيارته في شقّته الصّغيرة في بيرزيت، فهل تشتاقه كما يشتاقها؟ تأتي إليه بسبب ودون سبب، تفتح حديثا من لا شيء، تنطلق ضحكاتها لتكسر حاجز الصّمت، لا يستطيع سهيل مجاراتها حتّى في الكلام، فهو يستمع أكثر ممّا يتكلّم. تزوره وتجالسه كلّ يوم، في عطلة نهاية الأسبوع إمّا أن تصحبه معها في رحلة إلى مدينة في الدّاخل، وتكون خالتها أمّ حنّا أو إحدى زميلاتها معهما، وإمّا أن تهاتفه لساعات وهو في بيت والديه.
تتطرّق ناريمان إلى مواضيع مختلفة أثناء لقاءاتهما، أحيانا تجرّه إلى الحديث عن الحبّ والزّواج، وعند النقطة الحاسمة تهرب من الموضوع، تفتح موضوعا عن الدّراسة أو في السّياسة، وبهذا تغلق أبوابا تراوده نفسه على الحديث بها، فيضيع اتّجاه بوصلته، لكنّ طيف ناريمان لم يعد يفارق مخيّلته.
قبل انتهاء العام الدّراسيّ بشهر واحد، طرقت باب شقّته في ساعات المساء الأولى، رحبّ بها وهي تقول:
– جئت أحتسي فنجان قهوة بمعيّتك.
– أهلا وسهلا.
قال لها وهو يتّجه إلى المطبخ لإعداد القهوة، لم تعرض عليه هذه المرّة أن تعدّ القهوة، اتّجهت إلى البرندة وجلست تنتظره.
قبل أن ترشف الرّشفة الأولى من فنجان القهوة، التفتت إليه وقالت:
– نحن على عتبة انتهاء العام الدّراسيّ، وبعدها سنفترق، فما رأيك بأن نقوم كلّ يوم أحد برحلة إلى مدينة في الدّاخل تكون بمثابة حفل الوداع، سنزور حيفا أوّلا، نزور حديقة البهائيّين، ونقف على قمّة الكرمل، نستذكر أمجاد المدينة، نعوم في بحرها؟
قطع حديثها قائلا:
– موافق دون ذكر التّفاصيل.
ضحكت وقالت: شكرا للرّب الذي أطلق عقدة لسانك.
فردّ باسما: وشكرا لطول لسانك.
– إذن كن جاهزا في السّادسة صباحا من يوم الأحد القادم.
ردّ بخبث مقصود:
– هل ستكون الخالة أمّ حنّا مستيقظة في السّادسة صباحا؟
– سنذهب وحدنا.
– وبقيّة زميلاتك اللواتي تحرصين على اصطحاب واحدة منهنّ؟
– قلت لك سنذهب وحدنا. إلا إذا كنت تخاف من مرافقتي، عندها بإمكانك أن تحضر حارسا معك؟
استغرب ما قالته وسأل:
– حارس! مثل من؟
– مثل مديحة بنت خالتك زعرورة، أو شقيقتك فاطمة، أو والدتك.
لم يجد جوابا، فقالت كي تخرجه من صمته وذهوله:
– أنا كنت أصطحب خالتي أمّ حنّا، وواحدة من زميلاتي حارستين لي! أمّا الآن فأنا مطمئنّة، وما عدت بحاجة إلى حراسة.
– ممّن كنت تخافين؟
أجابت ضاحكة: كنت أخاف أن تتجرّا عليّ عندما نكون وحدنا! لكنّني على قناعة تامّة بعد هذه الأشهر أنّنا كالأخوات!
استفزّته بكلماتها هذه فسأل بلهجة متهدّجة:
– كالأخوات أم كالأخوة؟
– كلا الافتراضين سيّان!
شعر سهيل أنّها تستفزّ مكامن ذكورته ورجولته، تأكّد أنّها تبادله المشاعر نفسها، لكن أيّا منهما لم يعلّق الجرس، استجمع شجاعته وسأل:
– سمعت أنّ عمّتك متزوّجة من مسلم، هل هذا صحيح؟
– نعم صحيح، من قال لك ذلك؟
– ذات يوم سمعت طالبة تقول لزميلاتها عندما مررت بهما، بأنّ سهيل ربما يتّزوّج ناريمان، فتساءلت الأخرى: كيف سيتزوّجها وهما من ديانتين مختلفتين؟ فردّت عليها: بأنّ عائلة ناريمان لا تمانع الزّواج المختلط، فعمّة ناريمان متزوّجة من مسلم.
– هذا الزّواج حصل قبل أن أولد أنا.
– ما اسم الرّجل المسلم الذي تزوّج عمّتك؟
– اسمه حمدان خالد اليافاوي.
– لماذا تسأل عنه؟
– لا شيء أريد أن أتعرّف عليه، ماذا يعمل؟
– مهندسا زراعيّا، يسكن في رام الله. قريبا من الحسبة القديمة، وهو عضو في المجلس البلدي لمدينة رام الله.
– فكّر قليلا وقال:
– دعينا نتكلّم بصراحة يا ناريمان.
– تفضّل.
– هل تقبلينني زوجا لك؟
ضحكت ناريمان وقالت:
– لكنّك قلت بأنّك لا تفكّر بالزّواج، فماذا جرى لك؟
– بصراحة كنت أفكّر بعدم الزّواج قبل أن أنهي دراستي الجامعيّة، لكنّني بعد أن عرفتك، لم تغيبي عن خيالي لحظة، وأرى أنّك الفتاة الوحيدة التي تناسبني كزوجة.
– لكنّك تعلم أنّني مسيحيّة.
– نعم أعلم ذلك، وأصلّي لله أن يوافق أهلك على زواجنا.
– أجابت بثقة تامّة: لن يوافقوا بسهولة. وأهلك لن يوافقوا أيضا. هل يوافق والداك وعائلتك على زواجك من مسيحيّة؟
– أهلي لا مانع لديهم، فأمّي منذ رأتك وهي تدعو الله أن تكوني من نصيبي.
– هل يعني هذا أنّك تطمع بالزّواج منّي تلبية لرغبة أمّك؟
– لماذا تفسّرين الأمور هكذا وتعقّدينها؟ أنا بصراحة متناهية أحبّك، ومقتنع بك كزوجة –إن كنت توافقين على ذلك- وأهلي يوافقون على ذلك ويتمنّونه. وآمل أن تقبلي ذلك أنت أيضا، وأن يوافق أهلك على ذلك.
– بصراحة، دعني أفكّر بطلبك، وبكيفيّة التّغلب على مشكلة اختلاف الدّيانة، فهناك عراقيل يجب التّغلّب عليها، فوالداي واخواني وأقاربي لن يوافقوا على ذلك، وكاهن الكنيسة لن يوافق أيضا، وسيضع عراقيل كثيرة.
– لذلك سألتك عن زوج عمّتك المسلم؛ لأستفيد من تجربته في زواجه من عمّتك، وكيف تغلّب على الصّعاب؟ وسأستعين به لتسهيل الأمور.
– لا تتكلّم معه قبل أن أستشير والدتي، وأستنير برأيها، فإن وافقت، سأطلب منها أن تقنع أبي وإخوتي بذلك.
– هل ستتفهّم والدتك ذلك؟
– لا أعرف، لكنّني أعتقد أنّها ستتفهّم الأمر جيّدا؛ لأنّها دائما تردّد أمام أبي:
– زواج ابتسام أنجح زواج في بنات العائلة.
– من هي ابتسام؟
– قلت لك، إنّها عمّتي المتزوّجة من حمدان اليافاوي.
– وهل لديك فكرة عمّا سيكون عليه موقف والدك وأشقّائك؟
– أبي وإخوتي مثقّفون، يحملون فكرا قوميّا، يؤمنون بأن “الدّين لله والوطن للجميع” لا يفرّقون بين مسيحيّ ومسلم، لكنّهم يحترمون العادات والتّقاليد، ويعارضون الزّواج المختلط.
– أسأل الله أن يسهّل الأمور.
ضحكت ناريمان وقالت: المشكلة في مجتمعنا هي موقف الأديان.
سهيل: إذا وقع النّصيب فستبقين على ديانتك. ولن أكرهك على اعتناق الإسلام.
ناريمان: لكن لماذا لا توافقون على زواج المسلمة من مسيحيّ؟
– لأنّ الإسلام يحرّم على المسلمة الزّواج من غير المسلم.
– يا سيّدي “كل واحد على دينه الله يعينه”. لكن دعنا نلغي رحلة الأحد إلى حيفا، وانتظر جوابا منّي.
– لماذا تلغين الرّحلة؟
ضحكت وقالت: كي لا يكون الشّيطان ثالثنا!
– لا مكان للشّيطان بيننا، فنحن نتحدّث عن الزّواج.
**********
يدرك سامي تماما أنّه يستحيل عليه الزّواج من مديحة؛ لأنّ الدّين الإسلاميّ يحرّم زواج المسلمة من غير المسلم، هو يعلم ذلك منذ نعومة أظفاره، لكنّ قلبه متعلّق بها منذ أن رآها عندما أنقذها من الغرق في بحيرة طبريّا. عندما زارها في بيتها بصحبة والدته، أوحت له لغة العيون أنّها تبادله المشاعر نفسها، لكنّ اختلاف الدّيانة يحول دون ذلك، فهم عدم ردّها على مهاتفته لها أنّها تتهرب منه، لإيمانها بأنّ هذه المشاعر لن تتكلّل بالزّواج، وقد تكون عواقب ذلك وخيمة، قرّر حسم الأمور معها، هاتفها وعرض أن يلتقيا لبحث قضيّة هامّة، وافقت بعد تردّد أن يلتقيا في اليوم التّالي في صالة الأميركان كولوني. وهناك قال لها:
– أرجو أن تفهميني جيّدا يا مديحة، إذا أعلنت إسلامي فهل تقبلينني زوجا لك؟
خفق قلب مديحة لكلامه، فقد عزف لها على الوتر الذي تطرب له، لكنّها حبست عواطفها كي تمتحن صدق ما قال، ولتزيده تمسّكا بها فردّت عليه:
عندما تعلن إسلامك سيكون لكلّ حادث حديث.
– أنا سأعلن إسلامي لأجلك أنت، فأريد منك موقفا واضحا.
– قلت لك بعد أن تعلن إسلامك سيكون لكلّ حادث حديث.
– أنا جادّ فيما أقول، وأرجو أن تعطيني الضّوء الأخضر بالموافقة.
– وأنا أقول لك بمنتهى الجدّيّة أنّه بعد إعلانك لإسلامك سنتحدّث بالزّواج.
– أنا أعتبر كلامك موافقة، وخلال أسبوع سأعلن عن إسلامي.
– القضيّة ليست بهذه البساطة، وحتّى لو أعلنت اسلامك، فسنجد من يضع العراقيل التي يصعب تخطّيها.
افترقا وعاد سامي كالمضروب على رأسه، تذكّر ما قالته والدته لوالدتها:
” العذراء تحمي مديحة، ما شاء الله عليها.”
استغلّ الفرصة عندما قالت له والدته أنّها تنتظر بشوق يوم زفافه، وتتوق لرؤية أبنائه، فقال لها:
عندما أجد الفتاة المناسبة سأتزوّج يا أمّي.
ردّت عليه مستغربة: الفتيات كثيرات يا بنيّ.
– لكنّني لم أجد الفتاة التي تناسبني يا أمّي.
– “الزّواج قسمة ونصيب” يا ولدي، انتبه للفتيات وستجد نصيبك.
– انتبهت وخفق قلبي لفتاة يصعب عليّ الزّواج منها.
– وهل هناك فتاة ترفض الاقتران بك؟ ماذا ينقصك؟
– لا تنخدعي كثيرا بابنك يا ستّ الحبايب، فهناك كثيرات يرفضن الزّواج منّي.
– “كل فولة ولها كيّال” يا ولدي، وعندما يقع النّصيب فلن يستطيع بشر ردّه.
– كلامكِ صحيح، لكنّ قلبي خفق لفتاة مسلمة، فما عاد قلبي يخفق لغيرها من النّساء، وأنت تعرفين عواقب زواج المسيحيّ من مسلمة في بلادنا.
– إيّاك من التّفكير بالزّواج من مسلمة، “ابعد عن الشّرّ، وغنّي له”.
– ” كلّ عقدة ولها حلّال” وإذا أعلنت إسلامي لن تكون هناك مشاكل.
انتفضت كالملدوغة وسألت: ماذا قلت يا ولد؟ لا أريد سماع هذه الكلمة منك مرّة ثانية، هل تريد أن تغيّر ديانتك من أجل امرأة؟ يا خسارة تربيتي لك!
– هناك مسيحيّون أعلنوا إسلامهم وتزوّجوا مسلمات.
– لا شأن لنا بهم. فلا تغضبني وتغضب الرّب بهذا الكلام السّخيف.
– كلّ البشر أبناء الله يا أمّي، فالرّب واحد وإن اختلفت الدّيانات.
وضعت إشارة الصّليب المقدّس، وصرخت غاضبة:
– أحذّرك من مغبّة هكذا تفكير، وإن فعلتها فإنّنا سنتبرّأ منك.
– أرجوك يا أمّي، افهمي وجهة نظري، إذا أعلنت إسلامي بشكل صوريّ حتّى أتزوّج من المسلمة التي يخفق لها قلبي، وسأبقى على ديانتي في سرّي، فما المانع؟
– تغيير الدّيانة ليس سهلا يا سامي، ولا مزاح فيه، ولا تنس أنّ المسلمين يقتلون من يسلم ويرتدّ عن الإسلام.
– لا تعقّدي الأمور يا أمّي، كيف سيعلمون ما في قلبي. فالله وحده من يعلم ما في السّرائر.
– لا تكن مغفّلا يا ولدي، فهذه بلاد مقدّسة ولا يخفى فيها شيء، ولعلمك فإن غيّرت دينك بشكل صوريّ كما تقول، وتزوّجت من تريد، فإنّها أوّل من يفضح سرّك عند أيّ خلاف بسيط بينك وبينها.
– أمرك عجيب يا أمّي، دائما تقولين أنّنا والمسلمون إخوة، ولك صديقات مسلمات، تشاركيهنّ ويشاركنك الأفراح والأتراح، فهل تبطنين موقفا آخر؟
– يا ابني، نعم المسلمون إخوتنا وأبناء شعبنا، وشركاؤنا في الوطن، أحبّهم ويحبّوننا، لكن لكلّ منّا دينه، وعلينا أن نحترم الخصوصيّة الدّينيّة.
– هذا فهم عجيب، أين حرّيّة المعتقد؟
– يا ولدي حرّيّة المعتقد لا تعني تغيير الدّيانة، و”كل واحد على دينه الله يعينه” نحن نحترم الإسلام والمسلمين، نفتخر بديننا، وعليهم أن يحترموننا وأن يحترموا ديننا أيضا.
استمرّ كلّ من سامي ووالدته على رأيه، انتهى النّقاش بينهما وكلّ منهما غاضب من الآخر.
لم ينم سامي ليلته، فتغيير الدّيانة ليس أمرا سهلا، وسيثير ردود فعل لا يمكن توقّعها، ومن المحتمل أن يعلن كاهن الطّائفة براءة الكنيسة وأتباعها منه، وسيعلن مقاطعته، سيخسر أسرته، وسيخسرعلاقات وصداقات مع كثيرين من أبناء الطّائفة، لكنّه حسم الأمر وقرّر اعلان إسلامه، وأنّه سيتحمّل النتائج المترتّبة على ذلك، إذا ما تأكّد من موافقة مديحة على الزّواج منه.
في اليوم التّالي تعمّد سامي الجلوس على شرفة صالة جمعيّة الشّبان المسيحيّة الخارجيّة ساعة انتهاء الوقت المخصّص للنّساء في المسبح، جلس على كرسيّ أمام طاولة، ظهره إلى الجهة الشّماليّة، حيث يراه من يخرج من المسبح، أمامه فنجان قهوة، وضع ساقا على ساق وتظاهر بقراءة الصّحيفة، سمع أصوات النّساء وهنّ خارجات من المسبح عبر الممرّ المؤدّي إلى الشّارع العام -طريق نابلس- تظاهر بعدم الانتباه. انتبهت له شيماء، فلكزت مديحة بخاصرتها تلفت انتباهها إليه، تظاهرت مديحة باللامبالاة، إلا أنّ شيماء رفعت يدها لسامي وقالت:
– كيفك أستاذ سامي؟
ابتسم وقال: أهلا بكما، تفضّلا.
تجاهلت شيماء الأمر، لكنّ مديحة أمسكت بيدها، صعدت الدّرج بها وهي تقول:
– سنجلس عدّة دقائق نحتسي القهوة وننصرف.
عندما وصلتا حيث يجلس، وقف لاستقبالهما وبسمة عريضة ترتسم على وجهه، مرّت بهم شقيقته كريستين مدرّبة السّباحة، فدعاها لشرب القهوة، فاعتذرت بحجّة أنّها على عجلة من أمرها، لكنّها ما لبثت أن عادت وجلست معهم عندما قال لها:
– تعالي حتّى أعرّفك على هاتين الصّديقتين العزيزتين.
جلست كريستين وقالت:
– تعرّفت عليهما عندما اشتركتا في المسبح.
فقال سامي مازحا: إذن أنا الغريب بينكنّ، نشرب القهوة وأترككنّ.
ردّت عليه مديحة بالطريقة نفسها:
– هل مللت الجلوس معنا، أم أنّك تريد الهروب منا حتّى تغادرنا بهذه السّرعة؟
سامي: العكس هو الصّحيح، لكنّني أخاف أن أعكّر صفوة هدوء جلستكنّ.
احتست كريستين القهوة وانصرفت. التفت سامي إلى مديحة وسأل:
– هل أخبرتك والدتك أنّني اتّصلت بك مرّات عديدة؛ كي نرتّب موعدا تشرفوننا به في بيتنا.
مديحة: نعم أخبرتني.
– لماذا لم تعاودي الاتّصال؟
– لأنّه لا داعي لذلك، ولا مبرّر لتلبية دعوتك لنا على الغداء؛ لسبب بسيط هو أنّ الوليمة ليست دَيْنا حتّى يتمّ سدادها.
ابتسم سامي وقال: القضيّة ليست دَيْنا ولا سداد دين، وإنّما هي احترام، وفرصة للتّعارف، فوالدتي تسأل عنك وعن والدتك باستمرار، حتّى الوالد يشتاق للتّعرّف عليك من كثرة حديثي ووالدتي عنك أمامه.
مديحة: شكرا لك ولوالديك.
شيماء: بما أنّني كنت من المدعوّين، فإنّني أصرّ على تلبية الدّعوة، مع أنّ أيّا منكما لم يطلب منّي ذلك، وإذا لم تلبّي دعوة سامي يا مديحة أنت ووالدتك، فإنّني أدعوكم جميعكم لبيتي، وفرصة لسامي ووالدته كي يتعرّفا على زوجي وأطفالي.
سامي: آمل أن تلبّي مديحة ووالدتها دعوتي، ويشرّفنا أن تكوني معهما أنت وزوجك وأطفالك يا ستّ شيماء، وبيتنا مفتوح لكم جميعكم دائما.
التفتت مديحة إلى سامي وقالت ضاحكة:
– سنكون عندكم ظهر يوم الجمعة القادم، هل يناسبكم ذلك اليوم؟
– سنتشرّف بوجودكم.
– ابتسمت مديحة ولم تتكلّم، في حين راودت شيماء أفكار متناقضة.
– سامي: سعادتنا بكم ستكون كبيرة.
عندما انصرفتا قالت شيماء لمديحة: نظراتك لسامي لم تكن بريئة، آمل أن لا تنجرّي وراء عواطفك، فتحصل تطوّرات ستندمين عليها.
مديحة: ماذا تقصدين بما قلت؟
– أقصد أنّ لغة العيون بينك وبين سامي قد تعدّت البراءة.
– لا أخفي عليك أنّ نبض قلبي يزداد عندما أراه.
– استعملي عقلك ولا تنجرّي خلف عواطفك.
– “المكتوب ع الجبين بتشوفه العين”.
– أنصحك بالابتعاد عن هكذا تفكير فقد يكلّفك حياتك.
**********
في اليوم التّالي سأل سامي زميله الأستاذ راسم النّجار:
– كيف يستطيع المرء أن يعتنق الإسلام؟
ابتسم الأستاذ راسم ابتسامة عريضة وقال:
– ينطق بالشّهادتين، ويلتزم بالشّرع الإسلاميّ بقناعة وإيمان.
– وهل هذا يكفي؟
– نعم يكفي.
قال سامي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.
تفاجأ الأستاذ راسم ممّا سمعه، احتضن سامي وقال:
– أهلا بك أخا مسلما، ونفع الله المسلمين بإسلامك، لكن يترتّب عليك أن تعلن إسلامك في إحدى المحاكم الشّرعيّة، كي تحصل على شهادة بأنّك مسلم.
– كيف يتمّ ترتيب ذلك؟
– غدا سأرافقك إلى المحكمة الشّرعية في شارع صلاح الدّين في القدس، وهناك تعلن إسلامك أمام القاضي الشّرعيّ.
– شكرا لك.
ذهب سامي مع الأستاذ راسم إلى المحكمة الشّرعيّة، كتب طلبا للقاضي الشّرعيّ جاء فيه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
فضيلة قاضي المحكمة الشّرعيّة في القدس الشّريف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المستدعي: سامي يوسف متري- حارة النّصارى- القدس
الموضوع: طلب اعلان إسلامي بين يديْ فضيلتكم.
أنا الموقّع اسمي أدناه سامي يوسف متري، من مدينة القدس، أتقدّم لفضيلتكم بطلبي هذا، لأعلن إسلامي بين يدي فضيلتكم عن قناعة وإيمان.
آملا أن ينال طلبي هذا القبول عند فضيلتكم.
القدس في:2-5-1971
التّوقيع
سامي يوسف متري
سلّم سامي الطلب إلى حاجب المحكمة، الذي أدخله بدوره إلى القاضي الشّرعيّ. انتظر دوره، فقد كان القاضي مشغولا بعقود زواج، ومعاملات شقاق ونفقة.
عندما نادى الحاجب على اسم سامي، دخل إلى غرفة القاضي برفقة الأستاذ راسم، طرحا السّلام وجلسا قبالة القاضى بعد أن أشار لهما بالجلوس.
سأل القاضي: من منكما سامي يوسف متري؟
سامي: نعم سيّدي.
– ماذا تريد.
– اعتنقت الإسلام يوم أمس، ونصحني زميلي الأستاذ راسم بأن أسجّل ذلك في محكمتكم الموقّرة.
– هل أعلنت إسلامك عن إيمان أم لك مصلحة بذلك؟
– طبعا عن إيمان، وعن أيّ مصالح تسأل فضيلتكم؟
– هناك بعض الأخوة المسيحيّين يعلنون إسلامهم شكليّا، من أجل الزّواج بمسلمة.
– أنا أعلنت إسلامي مقتنعا بذلك، وبعد تفكير طويل، ولا توجد في ذهني أيّ مسلمة للزّواج، لكنّني بالتّأكيد سأتزوّج مسلمة عندما يقع النّصيب.
– اسمع يا ابني، لا نريد أن نكون سببا في مشاكل لك ولغيرك، وستواجه مشاكل كثيرة، ولا أريدك أن تكون سببا في إثارة نعرات طائفيّة.
– أعرف ذلك، ومستعدّ لتحمّل النتائج المترتّبة على ذلك مهما كانت.
– هل يعلم والداك بذلك؟
– نعم أخبرتهما بذلك.
– هل وافقا؟
– وافقا أم لا فهذه قضيّة إيمانيّة تخصّني وحدي” وكل شاة بعرقوبها معلّقة.”
– هل تعرف ما يترتّب عليك إذا أعلنت إسلامك؟
– نعم، فلقد اطّلعت على مبادئ الإسلام، قرأت القرآن الكريم، درست التّاريخ الاسلاميّ، السّيرة النّبويّة، تأثّرت بمسلكيات وأخلاقيّات بعض زملائي وأصدقائي المسلمين، وفي مقدّمتهم الأستاذ راسم، مدرّس التّربية الإسلاميّة.
التفت القاضي إلى الأستاذ راسم وسأله:
– ماذا تقول بزميلك هذا يا أستاذ؟
– كلّ خير، وأشهد له بالصّدق والخلق الحسن.
عاد القاضي يقول لسامي:
هل تعلم أنّك إذا أعلنت إسلامك يا بنيّ، فلا يمكنك التّراجع عن ذلك، وإذا تراجعت فهذا اسمه ردّة وعقوبتها القتل.
سامي: سيّدي القاضي، أنا أعلنت إسلامي طائعا مختارا، فلا تعقّدوا الأمور عليّ.
ابتسم القاضي وقال: هل تعرف الشّهادتين؟
سامي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.
– إذن انطقها إيمانا واحتسابا مرّة أخرى.
– أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله.
وقف القاضي وصافحه مهنّئا، وهو يدعو له بالصّلاح والتّقوى، في حين وقف الأستاذ راسم وعانقه مهنّئا بأن هداه الله إلى الإسلام.
قال القاضي: آمل أن أراك من روّاد المسجد الأقصى للصّلاة فيه، فالصّلاة في الأقصى ثوابها عظيم.
سامي: المسجد الأقصى في القلب، وهو عنوان عروبة فلسطين.
القاضي: يا بنيّ، ما لنا وللعروبة، المسجد الأقصى جزء من العقيدة، فهو أولى القبلتين ومعراج الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وأحد المساجد الثّلاثة التي تشدّ إليها الرّحال، مصداقا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: “لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِد: المَسْجِدِ الحَرَام وَمَسْجِدِي هَذَا-المسجد النّبويّ- وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى”.
تصبّب سامي عرقا وهو يقول:
– نفعنا الله بعلمك سيّدي القاضي.
القاضي: انتظرا في غرفة الانتظار، كي يطبع لكم الدّيوان شهادة “إعلان إسلامك”.
حمل سامي شهادة إسلامه إلى مكتب وزارة الدّاخلية، في شارع ابن بطّوطة، حيث كانت ستوديوهات الإذاعة قبل الاحتلال، غيّر الدّيانة في بطاقة هويّته، عاد إلى بيته، بعد أنّ قرّر أن يجعل تغيير الدّيانة طيّ الكتمان، لم يحسب حسابا لأحد، لكنّه يتقيّد بعادات وتقاليد المجتمع، ابتسم بينه وبين نفسه عندما استذكر أنّه يؤمن بوجود الله، يحترم الدّيانات جميعها، لم يذهب يوما ليصلّي في الكنيسة باستثناء تلك المرحلة التي كانت تصطحبه فيها والدته إلى الكنيسة أيّام طفولته، وها هو يعلن إسلامه في المحكمة الشّرعيّة؛ ليتزوّج الفتاة التي دخلت قلبه دون استئذان، ولن يذهب إلى المسجد أيضا إلا في بعض أيّام الجمعة مع زميله سامر؛ ليكون له عونا عندما يتقدّم لطلب يد مديحة.
صمّم على تأجّيل فكرة طلب مديحة لعدّة أشهر حتّى لا يشكّك البعض بصحّة إسلامه، لكنّه في الوقت نفسه صمّم أن يجدّد خيوط الاتّصال بها؛ ليخبرها بأنّه أعلن إسلامه أمام القاضي الشّرعيّ.
**********
في العطلة الصّيفيّة لم يلتق سهيل بناريمان، ولم يعد يعلم عنها شيئا، يحترق شوقا لها، فقد قرّرت الابتعاد عنه لاختبار صدق مشاعره تجاهها، ذهب إلى مستشفى “أوغستا فكتوريا” ليسأل عنها الدّكتورة جورجيت ابنة خالتها، تظاهر بأنّه جاء لعيادة صديق مريض، التقى الدّكتورة في إحدى ممرّات المستشفى، صافحها، سألها عن خطيبها الدّكتور إلياس، وأتبعها بسؤال عن والدتها “أمّ حنّا” وناريمان، طمأنته بأنّهم جميعهم بخير، ودعته إلى مكتبها.
طلبت قهوة لها وله، وهما يحتسيان القهوة فاجأته سائلة:
– أين وصلت الأمور بينك وبين ناريمان؟
– عن أيّ أمور تسألين؟
ابتسمت مستغربة ردّة فعله فقالت:
– استشارتني ناريمان حول إمكانيّة زواجها منك، وحول ردود الأفعال على هكذا زواج بسبب اختلاف الدّيانة بينكما، قالت ذلك وصمتت.
كان يغلي شوقا لمعرفة المزيد فسألها وهو يطأطئ رأسه حياء:
– وماذا أيضا؟
ابتسمت وهي تقول:
– البقيّة عندكما؟
– ماذا تقصدين؟
– إن كنتما تحبّان بعضكما حقيقة فلا أحد يستطيع أن يمنعكما.
– ناريمان بالنّسبة لي فتاة أحلامي، ولن أتزوّج غيرها، لكنّني أريد زواجا لا يكون سببا في مشاكل لها ولأسرتها.
– وناريمان تبادلك المشاعر نفسها، أعتقد أنّكما ستستطيعان التّغلّب على أيّة عراقيل، مع أنّ تحقيق مرادكما لن يكون سهلا.
– والداي وأسرتي لا يتدخّلان بخياراتي، جميعهم ينتظرون موافقتي على الزّواج من الفتاة التي سأختارها، والصّحيح أنّ والدتي انبهرت بناريمان عندما رأتها، ومنذ ذلك الحين وهي تحثّني على الزّواج منها.
– وما موقف والدك وبقيّة اخوتك وأخواتك؟
– سيكونون سعداء بذلك.
– أقصد هل لهم موقف من اختلاف الدّيانة بينك وبين ناريمان؟
– مطلقا لا، فكثيرون من أقاربنا وأبناء قريتنا تزوّجوا مسيحيّات أمريكيّات بغربتهم في أمريكا، وأنجبوا منهنّ أبناء، عادوا بهنّ إلى البلاد، وحظين باحترام وحبّ الجميع. وإذا ما وقع النّصيب بيني وبين ناريمان –وهذا ما أتمنّاه- فبإمكانها أن تبقى على دينها. لكن هل سيقبل والدا ناريمان زواجي منها كما سيتقبّل أهلي ذلك؟
– أعتقد أنّهما سيعارضان، لكن لماذا لا تسأل ناريمان هذا السّؤال؟
– سألتها، وقالت بأنّها ستبحث القضيّة مع من تثق بهم من أبناء عائلتها، وستعمل على تذليل الصّعاب، لكنّ العطلة الصّيفيّة بدأت ولم أعد ألتقيها، ولا أعرف كيف سألتقيها؟
– العام الدّراسيّ الجديد سيبدأ بعد أيّام قليلة، وستلتقيان.
– لكنّ ناريمان تخرّجت هذا العام.
– ضحكت الدّكتورة جورجيت وقالت:
– ستلتقيها في الشّقّة التي تسكنها، فأنت تعرف أنّها تنام عند الوالدة، أم أنّك سلّمت الشّقة، ولم تعد بك رغبة بالسّكن فيها؟
– بالعكس فأنا مرتاح جدّا فيها، ولم أتركها في العطلة، فكتبي وأغراضي بقيت فيها، يستحيل أن أجد جارة أفضل من الخالة أمّ حنّا، فهي مثل أمّي تماما، وهي إنسانة عظيمة تعاملني كأنّني ابنها.
– أتمنّى لك ولناريمان التّوفيق.
– لكن كيف يمكنني لقاءها؟
– لقاؤك بها لا يحتاج تفكيرا ولا تساؤلات.
– كيف؟
– ألم تقل أنّك لا زلت تحتفظ بالشّقة التي استأجرتها من الوالدة في بيرزيت؟
– نعم.
– اذهب إلى شقّتك، فأنت تعلم أنّها تنام عند الوالدة وتعلم أنّها خالتها.
ضرب سهيل على جبينه وقال:
– يا لغبائي! كيف لم أنتبه لذلك؟ سأسافر الآن إلى بيرزيت.
استأذن وخرج.
في بيرزيت دخل سهيل شقّته، طرق الباب على أمّ حنا، فرفعت صوتها تسأل:
– مَنْ؟
– أنا سهيل يا خالة.
– تفضّل يا ولدي.
دخل سهيل بيت أمّ حنّا، صافحها وهو يقول:
– اشتقت لك يا خالة، فجئت للاطمئنان عليك.
– أهلا بك يا بنيّ، كيف حال أمّك وأهلك؟
– كلّهم بخير، ويهدونك السّلام.
– سلّمك الله وسلّمهم.
– ما أخبار الدّكتورة جورجيت وخطيبها وناريمان؟
– الدّكتورة وخطيبها في عملهم، وناريمان ذهبت إلى محلّ البقالة؛ لتشتري لنا بعض الأغراض.
– أنا عدت يا خالة إلى الشّقة؛ لترتيبها قبل بدء العام الدّراسيّ، ولأطمئنّ عليك، سأنام فيها هذه الليلة.
– أهلا بك، فالبيت بيتك، والشّقة نظيفة ومرتّبة، ناريمان تفتح نوافذها وتنظّفها مرّتين في الأسبوع.
استأذن سهيل بالانصراف، عاد إلى شقّته، وضع في المسجّل شريط أغان لفيروز، رفع صوت المسجّل متعمّدا وفيروز تصدح بصوتها الملائكيّ:
موعود ……بعيونك أنا موعود
وشو قطعت كرمالهن ضيع وجرود
انتِ عيونك سود وما انًك عارفة
شو بيعملوا فيّي العيون السود
ع هدير البوسطة ال كانت ناقلتنا
من ضيعة حملايا لضيعة تنورين
تذكرتك يا عليا وتذكرت عيونك
يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين.
عادت ناريمان، سمعت صوت فيروز يشدو من شقّة سهيل، ازداد نبض قلبها، توجّهت إلى الباب الفاصل بين الشّقّتين، سمعت صوت سهيل يغنّي مع فيروز، فتحت الباب دون أن تطرقه وسهيل يردّد:
يخرب بيت عيونك يا “ناريمان” شو حلوين.
دخلت ضاحكة وهي تقول:
– بل عيونك هي الأحلى يا سهيل.
قفز سهيل من مكانه، صافحها، قبّل جبينها، حاول أن يطبع قبلة على شفتيها فنهرته قائلة:
عيب عليك. هذا المكان لم يحن قطافه بعد.
ارتدّ إلى الخلف خائبا، جلس على استحياء، فسألته:
– أين كنت؟ كيف أمضيت العطلة؟
– أمضيتها أفكّر بك ليل نهار. وأنتظر الجواب منك.
– وأنتِ لماذا لم تسألي؟
ردّت عاتبة: وهل كنت تنتظرني كي أذهب إلى بيتكم للسّؤال عنكَ؟ لماذا لم تعد إلى شقّتك إن كنت معنيّا؟
– قد لا تصدّقين، أنّ الشّقّة في بيرزيت مرتبطة بعقلي الباطن، بالسّكن أثناء الدّوام في المعهد، وغابت في العطلة الصّيفيّة عن مخيّلتي.
ضحكت ناريمان وقالت: يبدو أنّ التّفكير قد استهلك جينات الذّكاء عندك.
سهيل: المهمّ طمئنيني، هل رتّبت الأمور مع والدتك؟ هل أستطيع أن آتي بأهلي لطلب يدك؟
تمهّل فالأمور ليست بهذه السّهولة، أخبرت أمّي بذلك، فاستشاطت غضبا وكادت أن تضربني، أمسكت بشعري بيدها اليمنى وهزّتني بقوّة وهي تسأل:
– أين تعرّفت عليه؟ وكيف؟
هدّأت من روعها، وأجبتها بأنّني عرفتك في المعهد، ومن خلال سكنك في بيت خالتي أمّ حنّا، فشتمتني وشتمت خالتي، وعادت تسأل:
– هل حصل بينك وبينه شيء يا بنت؟
أجبتها بالنّفي، وأكّدت لها بأنّك شابّ خلوق، تتمنّاك كلّ الفتيات، وأنّك عرضت الزّواج عليّ دون مقدّمات، وقلت لها بأنّني لم أعطك جوابا قاطعا، حتّى آخذ رأي والدتي.
سهيل: ما العمل؟ كيف سنحلّ هذه العقدة؟
ناريمان: ننتظر، لنرى كيف سنتدبّر أمورنا.
في اليوم التّالي جاءت والدة ناريمان لزيارة أمّ حنّا، دخلت البيت غاضبة، سألت أمّ حناّ:
– من هو الشّاب الذي يستأجر شقّتك المجاورة؟
– شاب مؤدّب من بيت حنينا.
– من أين أتاه الأدب، لو كان مؤدبّا لما فعل ما فعل؟
– ذهلت أمّ حنّا ممّا سمعت، فسألت:
– ماذا فعل؟
– طلب من ناريمان أن يتزوّجها!
– هل اكتفى بطلب الزّواج أم مسّ بناريمان؟
– لا هو ولا غيره يستطيعون المسّ بناريمان، لكن كان عليه أن يعرف حدوده، فهو يعرف أنّنا من ديانة مختلفة، ولو كان عاقلا ومؤدّبا لما فكّر بالزّواج من ناريمان لاختلاف الدّيانة.
– إذا ثبت صحّة ما تقولين، فسأطلب منه الرّحيل، فلا تنقصني مشاكل.
– وهذا ما جئتك من أجله.
عندما عاد سهيل إلى الشّقّة، جاءت إليه أمّ حنا عابسة الوجه، قالت له:
– كيفك يا ابني؟
– الحمد لله أنا بخير.
– اسمع يا ولدي، عليك أن تغادر الشّقّة خلال أسبوع، ابحث عن بيت آخر، فأنا لا أريد مشاكل في بيتي.
– ماذا جرى يا خالة؟ عن أيّ مشاكل تتحدّثين؟
– سمعت أنّك تتحدّث مع ناريمان عن الزّواج، وهذه قضيّة ستتمخّض عن مشاكل أنا في غنى عنها.
– صدّقيني يا خالة أنّه لم يحصل بيني وبين ناريمان إلا كلّ خير، وأنا أفكّر بالزّواج منها، فهل الزّواج حرام؟
– الزّواج ليس حراما ولا عيبا يا ولدي، لكن الزّواج بين الدّيانات إن لم يكن حراما فهو غير مقبول، وبإمكانك الزّواج من بنات دينك، لذا أرجوك أن ترحل من بيتي بهدوء.
– أنا لن أتزوّج ناريمان أو غيرها دون رضاها ورضا وموافقة والديها.
– رضوا أم لم يرضوا هذا شأنهم، عليك الرّحيل من البيت، والله يوفقك ويبعدك ويسعدك.
استأذن سهيل وانصرف مضطربا حائرا. أثناء انتظاره لحافلة الرّكّاب، مرّت به ناريمان، توقّفت بجانبه، جلس في السّيارة بجانبها، وقال لها:
انطلقي بنا إلى أريحا، هناك تطوّرات يجب بحثها.
في الطّريق حدّثها عمّا قالته له خالتها أمّ حنّا، بدا غاضبا ومتوتّرا، فقالت له ناريمان:
تريّث قليلا يا سهيل، فإن لم نستطع تذليل العقبات، فسنتزوّج رغما عن الجميع، وبعدها سيراجعون حساباتهم وسيرضون.
– كيف سنتزوّج غصبا عن الجميع؟ أنا لا أرضى أن أختطفك، فهذا فعل شائن يمسّ بسمعتك وسمعتي.
– هل أفهم من كلامك أنّك غير جادّ بالزّواج منّي؟
لطم سهيل وجهه بيديه، وقال:
– لماذا تفهمين الأمور بهذا الشّكل؟ أنا سأتوجّه اليوم إلى بيت حمدان اليافاوي زوج عمّتك، وسأطلب منه المساعدة؛ لتذليل الصّعاب، فإن تمكّن من ذلك فهذا هو المطلوب، وإن لم يتمكّن فلكل حادث حديث.
– افعل ما تريد. وأنا في الانتظار، والآن دعنا نعود.
أنزلته قريبا من بيت حمدان اللفتاوي، وانطلقت عائدة إلى بيتها.
طرق سهيل باب بيت حمدان اليافاوي، فتح له الباب ابنه البكر راتب، سأله:
هل العمّ أبو راتب موجود؟
– نعم موجود، تفضّل.
قاده إلى صالون البيت وقال له:
– أهلا بك سأخبر الوالد بأنّك في انتظاره.
جاء أبو راتب، وقف سهيل وصافحه وهو يقول:
اسمي سهيل مصطفى المحمود، من بيت حنينا، جئت إليك لتساعدني في أمر هامّ.
– أهلا بك، إن كنت أستطيع المساعدة فلن أبخل عليك بها، ما قضيّتك.
شرح له سهيل قضيّته، وطلب منه المساعدة في تذليل العقبات.
تنهّد أبو راتب وسأل:
لماذا اخترت الأصعب يا عمّ، فالمسلمات كثيرات، لكن هل أنت متأكّد من صدق مشاعرك تجاه ناريمان؟ هل تبادلك هي المشاعر نفسها؟ وهل أهلك موافقون على زواجك منها؟
– نعم يا عمّ، فلن أتزوّج غير ناريمان، وإن لم يحصل لنا نصيب بالزّواج، فسأمضي حياتي عازبا، هي تبادلني المشاعر نفسها. وأهلي يعرفونها ويتمنّون زواجي منها.
– هل تعلم أنّ ناريمان عندما تقبل الزّواج منك بأنّها تضحّي بكلّ شيء من أجلك، وبالتّالي إذا وقع النّصيب، فعليك أن تقدّر هذه التّضحيات.
– ستكون في عينيّ يا عمّ.
– هل يعلم والداها برغبتكما بالزّواج؟
– حسب معلوماتي فإنّ والدتها وخالتها تعرفان ذلك، ولا أعلم إن كان غيرهما يعلم أم لا.
– طلبك يصعب تحقيقه، ومع ذلك سأذهب إليهم هذا المساء، وآمل أن تكون طريقي سهلة، سأخبرك بالرّد غدا، هل تستطيع المرور عليّ غدا في السّاعة الثالثة بعد الظّهر؟
– طبعا يا عمّ، وأنا شاكر لك سلفا. وأستأذنك بالمغادرة.
شرح أبو راتب لزوجته ابتسام الموضوع، طلب منها أن ترافقه لزيارة بيت شقيقها، لكنّها رفضت وهي تقول:
– يكفيني ما جرى لنا عندما تزوّجنا، لا أريدهم أن يشكّكوا بأنّني أشجّع بنات العائلة على الزّواج من مسلمين.
في بيت والد ناريمان، قال أبو راتب لخالد جريس والدها:
– جئت إليك يا أبا جمال لطلب يد ناريمان لشابّ زميل لها في الدّراسة اسمه سهيل مصطفى المحمود، وهو شابّ مهذّب من أسرة كريمة من بيت حنينا.
امتعض أبو جمال وقال بعد لحظات من الصّمت:
– الزّواج المختلط يخلق مشاكل كثيرة، أنت أدرى بها يا أبا راتب، ولا نزال نعاني من زواجك أنت وابتسام رغم مرور أكثر من عشرين سنة عليه، فمجتمعنا تحكمه العادات والتّقاليد، التي لا تقبل هكذا زواج، ومع ذلك فقد فاجأتني بهذا الطّلب الغريب، فليس من السّهل معاداة الكنيسة والطّائفة، ولا أعرف موقف ناريمان وأمّها وإخوتها وأختها، فاعطني فرصة كي أستمزج الآراء رغم أنّ هذا الطّلب قد سمّ بدني.
– من حقّك أن تستشير من تريد يا أبا جمال، لكن إذا لم تكسر أنت وأمثالك هكذا عادات وتقاليد، فمن سيكسرها؟
– “اللي إيده في النّار مش مثل اللي بتدفّا عليها” يا أبا راتب. مع ذلك انتظر منّي الرّدّ سريعا.
في هذه الأثناء دخلت والدة ناريمان وكأنّها تحمل جبلا من الهموم على كاهلها، فقالت لزوجها:
ناريمان تريد ذلك الشّابّ يا خالد، وأدعو الله أن يريحنا منها قبل أن تتزوّجه.
أبو جمال: لماذا تتمنّين الموت للبنت؟ ربّنا خلق البنات للزّواج، فإن لم تتزوّج من تريد وتحبّ فممّن ستتزوّج؟
أمّ جمال: ألم تجد من تتزوّجه غير مسلم، لتجعلنا مضغة للكنيسة ولأتباعها؟
ابتسم أبو راتب ابتسامة صفراويّة، وسأل أمّ جمال بعد أن وقف استعدادا للمغادرة وسأل ساخرا:
وهل زواج المسيحيّة من مسلم أصبح شتيمة وعارا؟ فهل يوجد زوجان متّفقان أكثر منّي ومن زوجتي، علما أنّني مسلم وهي مسيحيّة؟ وهل تعتبرون مصاهرتي لكم عارا؟ على كلٍّ الرّأي رأيكم وأنا أستأذن للمغادرة.
اعتذر له أبو جمال وقال: المسلمون إخوتنا وأبناء شعبنا ووطننا، لكنّها العادات التي تحكم تصرّفاتنا، أرجو ألّا تغضب ممّا قالته أمّ جمال.
غادر أبو راتب بيت صهره أبي جمال نادما؛ لأنّه زجّ نفسه في قضيّة لا ناقة له فيها ولا جمل، ومع ذلك فإنّ شكوكا قد راودته بأنّ أبا جمال سيحسم الأمور لصالح الزّواج، واعتبر أنّ ما قالته أمّ جمال ليس إلا دفاعا عن نفسها، وخوفا من أن يتّهمها أحدهم أنّها شجّعت ابنتها.
اجتمعت أسرة أبي جمال كاملة، سأل ناريمان أمامهم بلهجة غاضبة:
– هل أنت مقتنعة بالزّواج من ذلك الشّابّ المسلم؟
– الشّابّ خلوق وكلّ الفتيات يتمنّين الزّواج منه، أنا لم أعطه أيّ جواب، وعلاقتي به علاقة بريئة، وإن رأيتم أنّ هذا الزّواج غير مناسب فالأمر لكم.
فراس شقيق ناريمان: هل تعلمين عواقب هكذا زواج إن تمّ؟
– نعم أعرفها، وأعرف أنّ المسلمين ليسوا غيلانا، وأسمعكم دائما تنظّرون بأنّكم لا تفرّقون بين مسلم ومسيحيّ، وأمّي تقول بأنّ زواج العمّة ابتسام من حمدان أنجح زواج من بين بنات العائلة، ومع ذلك فالرّأي لكم.
أبو جمال: “غُلب بستيره ولا غُلُب بفضيحه” أكثر ما أخشاه إن لم يتمّ الزّواج بالطّريقة الصّحيحة، أن يتمّ كما تزوّجت ابتسام قبل أكثر من عشرين سنة.
جمال شقيق ناريمان: وكيف تزوّجت العمّة ابتسام؟
أبو جمال: خطيفة! ولم نوافق عليه إلا عندما أنجبت ابنها البكر راتب، بعد سنتين وبعد الفضائح.
ناريمان: يستحيل يا أبي أن أتزوّج خطيفة، أنا لست من النّساء التي تجلب العار لأهلها وذويها.
أبو جمال: هذا الكلام قالته عمّتك ابتسام في حينه، ولهذا فأنا سأتّصل بأبي راتب الآن؛ كي يأتينا بذلك الشّابّ؛ لنتعرّف عليه؛ ولنرى إن كان مناسبا أم لا.
جمال: من المستحيل أن يتمّ هكذا زواج، وسنمنع ناريمان من الخروج من البيت، وإذا لم ترتدع سأقتلها وسأقتل ذلك التّعيس الذي لم يجد له عروسا من بنات دينه.
أبو جمال: اهدأ يا جمال، ولا أريدك أن تتكلّم هكذا كلام مرّة أخرى، لأنّه دمار عليك وعلينا جميعنا.
أمّ جمال: كلام جمال صحيح، وسأجعل البيت سجنا لناريمان، كي لا تتواصل مع ذلك الشّابّ ولا مع غيره.
لم تستطع نادية شقيقة ناريمان كبت مشاعرها، فبكت بصمت، دموعها تنساب غزيرة على وجنتيها، لم تتكلّم شيئا، لكنّها انفجرت حزنا، فغادرت الجلسة إلى غرفة نومها باكية، وحشرجة صوتها تقطع حبال الصّمت.
أبو جمال: السّجن ليس حلّا، وهكذا زواج سيجلب لنا العار، وعلينا اقناع ناريمان بالمخاطر المحدقة بها وبنا، كي تتخلّى عن فكرة الزّواج من غير أبناء دينها وطائفتها.
جمال: إن لم تقتنع بالعقل ستقتنع بالقوّة.
التفتت ناريمان لشقيقها جمال غاضبة وسألت:
من أنت حتّى تسجنني وتهدّد بضربي وقتلي؟
غضب جمال وانتفض واقفا، جرّها من شعرها وصفعها على وجهها صفعة قويّة، وهو يصرخ ويهدّد بأنّه سيقتلها، قام أبوه وصفعه على وجهه، خلّصها من بين يديه وهو يقول له:
هذه ابنتي وأنا المسؤول عنها، ولا دخل لك بها.
صرخت ناريمان في وجه شقيقها جمال وقالت باكية:
سأتزّوجه غصبا عنك وعن غيرك، وإن لم توافقوا على ذلك فهذا شأنكم، وستتحمّلون عواقبه.
خرج جمال من البيت غاضبا يتهدّد ويتوعّد، فصاحت بها أمّها وهي تمدّ يدها اليمنى باتّجاهها تتوعّد:
اخرسي، لا تفتحي فمك بأيّ كلمة وإلا سأقصّ لسانك. قالتها وخرجت من صالون البيت ترتعد غضبا.
أمسك أبو جمال يد ابنته ناريمان أجلسها بجانبه، وهو يقول لها اهدئي يا بنيّتي.
شرب كأس ماء بارد، تنفّس عميقا، وسأل ناريمان بلهجة مرتجفة:
اصدقيني القول يا ابنتي، ما مدى علاقتك بذلك الشّابّ؟
– علاقتي به لا تتعدّى اعجاب كلّ منّا بالآخر عن بعد.
– هل تحبّينه؟
– نعم، قلبي يخفق له، أفرح عندما ألتقيه وأحادثه، ولا أعرف إن كان هذا حبّا أم لا.
– إذا وقع النّصيب بينكما وتزوّجتما هل أنت واثقة أنّه يحبّك، أم هي نزوات شباب؟
– صدّقني يا أبي لو أنّك تتعرّف عليه فإنّك سستحبّه، فهو شابّ خلوق حييّ كما العذارى.
– إذا تقدّم لك شابّ غيره، هل ستوافقين عليه؟
– إذا لم أتزوّج سهيل فلن أتزوّج غيره.
– ألهذه الدّرجة أنت متعلّقة به؟
– نعم، أنا متعلّقة به إلى أبعد الحدود.
– وهل هو يحبّك؟
– بالتّأكيد، ولولا أنّه يحبّني لما عرض عليّ الزّواج.
– غفرانك ربّي، اسمعيني يا ابنتي، أريدك أن تهدئي لمدّة أسبوع، لا تتّصلي به، ولا تردّي على اتّصالاته، ولا تستفزّي أخاك وأمّك، اتركي الأمر لي لأدرسه بعناية، وبعد أسبوع ستهدأ الأمور، وإن شاء الله سيهدينا الله لما فيه الخير.
أصغت ناريمان لأبيها، شعرت بقلقه وحيرته، تألّمت من أجله، فكّرت قليلا وقالت: لك ما تريد يا أبي، لن أخرج من البيت، ولن أهاتف أحدا، ولن أردّ على مهاتفة أحد، وأتوسّل إليك أن تمنع أخي جمال من ضربي، وأن يتوقّف عن إهانتي.
مضى ذلك اليوم والحزن يخيّم على بيت الأسرة، كلّ منهم يجلس وحده ويحاسبها، فأبو جمال وزوجته استلقى كلّ منهما على طرف سريرهما متجاهلا الآخر، ناريمان ونادية في غرفتهما، كلّ منهما على سريرها، تمدّدت نادية على السّرير، تدثّرت بشرشف خفيف وهي تدير وجهها تجاه الحائط؛ كي لا ترى أحدا، في حين تمدّدت نادية على ظهرها بعد أن وضعت وسادتين أخرتين تحت رأسها وكتفيها. عند منتصف الليل طرق جمال باب البيت، وهو يشتم بلهجة بطيئة متهدّجة، فتح له أبوه الباب، دخل يترنّح من تأثير الخمور التي احتساها، كان يتّكئ على الحائط وهو يجرّ ساقيه خلفه كعربة ثقيلة يجرّها بغل هرم، صفعه أبوه على وجهه وهو يقول: اخرس لقد فضحتنا، فارتمى في صالة البيت وهو يشتم ناريمان، أعدّت له والدته فنجان قهوة مرّة، احتساه وهو يهذي، تارة يضحك وتارة يبكي، يضحك وهو يهذي حول لقائه بصديقته في مكان خال، ويبكي وهو يشتم شقيقته ناريمان؛ لأنّها ستجلب العار للأسرة إذا ما تزوّجت مسلما. لم تخرج ناريمان ونادية من غرفتهما، لكنّهما كانت تسمعان كلّ شيء، التفتت ناريمان لشقيقتها نادية وقالت:
أخونا جمال يبيح لنفسه أن يسكر حتّى الثّمالة، وأن ينتهك أعراض النّاس، ويحرّم عليّ الزّواج، ويهدّدني بالقتل إن تزوّجت مسلما!
في الصّباح اتّصل أبو جمال بصهره حمدان اليافاوي وقال له:
أرجو منك يا أبا راتب أن تتفهّم حساسيّات هكذا زواج، وأنت أدرى النّاس بموقف الكنيسة، والعادات والتّقاليم بخصوص الزّواج المختلط بين الدّيانات، لذلك أستميحك عذرا، فخلال الأسبوع القادم سأعمل على تذليل العقبات، وآمل أن أنجح بذلك.
أبو راتب: لا بأس، سأردّ جوابا لذلك الشّاب بما قلته يا أبا جمال.
لم ينم سهيل تلك الليلة، فقد بات خيال ناريمان مخيّما عليه، استعاد شريط ذكرياته معها منذ اللحظة الأولى التي رآها فيها، ومع ثقته بأنّها ستكون زوجته إلّا أنّ شكوكا راودته، فاختلاف الدّيانة بينها وبينه قد يكون سببا وجيها للحيلولة دون زواجهما، وتخطّي هذا الحاجز المنيع ليس سهلا، في اليوم التّالي نهض من فراشه مبكرا، لم يستسغ أن يطرق باب حمدان اليافاوي في ساعات الصّباح؛ ليستمع منه ردّ والدي ناريمان، لكنّه ارتأى أن يزوره في مكتبه ببلديّة رام الله، فمقرّ البلديّة مكان عامّ يرتاده المواطنون في ساعات الدّوام، وهناك في مقرّ البلديّة استقبل أبو راتب سهيلا بابتسامة عريضة، وما أن رآه سهيل حتّى قال:
– بشّرني يا عمّ.
أبو راتب: انتظر قليلا فوالد ناريمان طلب مهلة أسبوع لتدبير الوضع، وبعد أسبوع آمل أن يكون الجواب إيجابيّا.
صمت سهيل قليلا، قال وهو يحيط لحيته باصبعيه الابهام والسّبّابة:
“ما باليد حيلة”، سأنتظر، قالها وخرج رغم الحاح أبي راتب عليه لاحتساء فنجان قهوة بمعيّته.
في اليوم التّالي أيضا، استيقظ جمال شقيق ناريمان عند ساعات الظّهيرة، فتأثير الخمر أصابه بصداع، قام من فراشه متثاقلا، شعر بتأنيب الضّمير عندما التقت عيناه بعيني أمّه، استحمّ بماء بارد، استبدل ملابسه وخرج من البيت دون أن يكلّم أحدا، لم يلتفت لوالدته عندما سألته عن خروجه من البيت قبل أن يتناول فطوره.
عندما عاد أبو جمال الى بيته بعد ظهر ذلك اليوم، بدا عليه التّعب والحيرة، تناول طعام الغداء بمعيّة زوجته، ابنتيه وابنه فراس، توجّه إلى الصّالون وجلس، لحقت به زوجته وهي تحمل فنجاني قهوة لها وله. جلست قبالته دون أن تتكلّم شيئا، رشف الرّشفة الأولى من فنجان القهوة وقال لها:
اسمعي يا سعاد، نحن في مشكلة حقيقيّة، فالخيارات المطروحة أمامنا بخصوص زواج ناريمان أحلاها مرّ، فزواجها من ذلك الشّابّ المسلم سيضعنا في مواجهة الكنيسة والطّائفة، ومعارضتنا لزواجها قد تدفعها للهروب معه – كما فعلت عمّتها ابتسام- والزّواج غصبا عنّا وعن غيرنا، وعندها سنحمل عارها، وسجننا لها في البيت ليس حلّا، ولا أريد أيّ خصومة بينها وبين شقيقيها جمال وفراس، فما رأيك؟
أمّ جمال: أسأل الله أن يميتها ويريحنا منها “فالموت سترة”.
أبو جمال: لن تموت بدعواتك، ولا سمح الله أن تموت، فهي فلذة كبدي. وعلينا أن نستعمل العقل للخروج من هذا المأزق، فناريمان تحبّ ذلك الشّابّ المسلم، ومتعلّقة به، ومن حقها أن تتزوّج ممّن تحبّ.
– وماذا سنقول لكاهن الكنيسة ولأتباعها؟
– لن نقول لهم شيئا، وإن ارتكبت إثما بزواجها من مسلم، فالله من يحاسبها وليس الكنيسة.
– ناريمان بنتك وأنت حرّ بما تقرّره لها!
– هي من قرّرت، وليس أنا، ووقوفنا ضدّ زواجها ممّن تحبّ قد يوقعنا ويوقعها بمصائب نحن في غنى عنها.
– أنا لا رأي لي، وإذا وقع النّصيب وتزوّجت من ذلك الشّاب، فلا دخل لي، وإذا ما لامني أحد بعد ذلك، فسأقول له بأنّك أنت من وافقت على ذلك رغم معارضتي.
– قولي ما تشائين، لكن لا أريدك أن تتلفّظي بأيّ كلمة معارضة على هذا الزوّاج أمام أبنائك.
وهنا دخلت ناريمان وشقيقتها نادية، فقد استمعتا من الصّالة لحديث والديهما، فقالت نادية:
ما دامت ناريمان تحبّه وهو يحبّها، فلا أرى مانعا من زواجهما، بغض النّظر عن اختلاف الدّيانة، وهذا رأي أخي فراس أيضا عندما تناقشت وإيّاه في الموضوع، أمّا جمال فهو عصبيّ متقلّب المزاج دائما، وأعتقد أنّ غضبه يوم أمس، وصفعه لناريمان كان تحت تأثير كلامكما، خصوصا كلام الوالدة.
أمّ جمال: هذا المساء سنستطيع اقناع جمال بالموافقة، وأعتقد أنّه نادم على ما فعله بالأمس، وهذا ما شاهدته من ملامحه هذا اليوم، وما دمتم موافقين فبإمكانكم الحديث معه عندما يعود إلى البيت.
أبو جمال: أنا غاضب عليه؛ لأنّه صفع أخته، ولن أكلّمه بالموضوع.
نادية: اتركوا الأمر لي. وأنا متأكّدة أنّها سيوافق.
أبو جمال: غدا سأرى صهرنا حمدان، وسأطلب منه أن يأتينا بالشّابّ، فإن رأيته مناسبا سأبارك له ولناريمان.
عندما التقى أبو جمال صهره حمدان، أخبره أنّ الأمور شبه جاهزه، طلب منه أن يأتيه بالشّابّ للتّعرّف عليه، فهاتف حمدانُ سهيلا وأخبره بالموضوع، فطار فرحا وسأله: هل أستطيع أن آتيك الآن؟
فردّ عليه: تعال في الرّابعة يعد ظهر غد.
في بيت قديم برام الله التّحتا، مسقوف بالقرميد، ورثه خالد جريس”أبو جمال” عن أبيه الذي بدوره ورثه عن جدّه، جلس هو وزوجته وابناه جمال ونادية في انتظار أبي راتب وسهيل في صالون البيت. استقبلهما بفتور.
قام أبو راتب بالتّعريف على سهيل. فالتفت أبو جمال إلى سهيل وقال:
– أهلا بك، سمعت أنّك كنت سجينا أمنيّا، هل سجنت لأنّك في تنظيم مقاوم؟
– نعم سجنت بتهمة الانتماء لحركة فتح.
– تبّا لهذا الاحتلال الذي لم نشاهد منه إلا الويلات.
– لن يطول عمر هذا الاحتلال يا عمّ.
– دعنا ندخل في الموضوع الذي جئت من أجله، هل أنت متأكّد من صدق مشاعرك تجاه ناريمان؟ فالزّواج ليس لعبة.
– أعرف ذلك يا عمّ، وناريمان في عينيّ.
– بالتّأكيد أنّك تعلم الصّعوبات التي سنواجهها بسبب اختلاف الدّين، أنا لا أفرّق بين مسلم ومسيحيّ، فجميعنا أبناء شعب واحد، لكنّ العادات والتّقاليد لن تتركنا وشأننا.
– بالنّسبة لأهلي لا تحفّظات لديهم على زواجي من ناريمان، ففي قريتنا تزوّج مغتربون كثيرون من مسيحيّات، أنجبوا منهنّ، وعادوا بهنّ إلى القرية، ولم يعترض أحد، إذا وقع النّصيب وتزوّجت ناريمان فستبقى على دينها، سأحترم معتقداتها، ولن أجبرها على شيء يمسّ بمعتقداتها الدّينيّة.
ضحك أبو جمال وقال:
نحن يا أستاذ سهيل تربّينا على احترام المعتقدات الدّينيّة، لا فرق عندنا بين إنسان وآخر بسبب الدّين، فالمعتقدات والإيمان تخصّ الانسان وحده، ونشارك المسيحيّين والمسلمين أعيادهم ومناسباتهم الدّينيّة، مع أنّنا نوصف بأنّنا غير متديّنين، أختي ابتسام تزوّجت الأخ حمدان قبل أكثر من عشرين عاما، وهي سعيدة بزواجها، وأبناؤها مسلمون، وأنا أفتخر بهم. اعترض البعض على هذا الزّواج، لكنّهم ما لبثوا أن استوعبوه بعد أن أصبح أمرا واقعا؛ وإذا ما كنت ترغب حقيقة بالزّواج من ناريمان، فآمل أن تكون على قناعة تامّة، وهذا ما قلته لها أيضا، أرجو أن تعلم أنّنا وناريمان سنعاني من هذا الزّواج، فأريد أن يكون زواجكما زواجا دائما، حتّى آخر يوم في حياتكما.
سهيل: ناريمان ستكون عينيّ اللتين أرى بهما طريق الحياة يا عمّ، ولن يفرّقني عنها إلا الموت.
أبو جمال: أتمنّى لكما التّوفيق، متى ستأتي وأهلك لطلب يدها؟
سهيل: في اليوم الذي تحدّده لنا يا عمّ.
– هل يناسبك يوم الأحد القادم؟
– نعم يناسبني، لكن ما هي عاداتكم في هكذا مناسبة، كي نلتزم بها؟
– عاداتنا متشابهة، لكن بسبب اختلاف الدّيانة، فإنّني أريد إشهار هذه الطلبة، وسأعتبرها خطوبة أيضا، سأدعو لها عددا من الأقارب والأصدقاء، ومن جانبكم تحضر أنت ووالداك وأسرتك، ومن تريدون من أقاربكم وأصدقائكم، سأبني خيمة في السّاحة الخلفيّة للبيت، سيجلس فيها الرّجال، وستجلس النّساء في البيت وفي ساحته الأماميّة.
– هذا يسعدني، لكن ما هي طلباتكم الأخرى؟
ضحك أبو جمال وقال:
– البنات لسن تجارة يا سهيل، الزّواج سنّة الحياة، مطلوب منك أن تحضر خاتمي الخطوبة، واحد لك وواحد لها، ولا شيء غير ذلك، وبالنّسبة للحلويّات، العصائر والمشروبات الغازيّة سنحضرها نحن.
سهيل: أرجوك يا عمّ، الحلويّات والعصائر سنحضرها نحن، فهكذا تقتضي العادات.
ابتسم أبو جمال وقال: ناريمان ابنتي يا سهيل، ومن حقّنا أن نفرح بها وأن نوزّع الحلوى في خطبتها.
سهيل: بوركت يا عمّ، بل سأحضرها أنا، ولن أبخل على ناريمان بشيء، أريدها أن ترفع رأسها أمام زميلاتها وقريباتها.
– لن نختلف على هذا، قالها وفي نيّته أن يشتريها قبل الأحد، وأن يضع سهيل أمام الأمر الواقع.
استأذن سهيل بالانصراف، بعد أن شكرهم، خرجت معه ناريمان لتوصله بسيّارتها، فلم يعترض. اتّفق معها أن تنتظر منه مكالمة هاتفيّة في الثّامنة مساء. نزل على بعد حوالي خمسين مترا من بيتهم، استدارت بسيّارتها وعادت طريقها وهو يلوّح لها بيده مودّعا.
بعد صلاة المغرب جمع سهيل أسرته “الوالدين، الشقيقين حاتم وعليّ والشّقيقة فاطمة” وقال لهم:
– لقد قرّرت الزّواج من ناريمان.
أطلقت أمّ حاتم زغرودة وهي تقول:
– الحمد لله اللي هداك واقتنعت بالزّواج، ناريمان بنت كاملة الأوصاف.
أبو حاتم: ناريمان بنت مسيحيّة، ولا نريد مشاكل.
سهيل: لن تكون هناك مشاكل، فوالداها وأسرتها موافقون على الزّواج، أنا جلست معهم واتّفقنا.
حاتم: ما دامت تعجبك فألف مبروك.
فاطمة: ناريمان فتاة ذكيّة جميلة، وأسأل الله أن تتمّ الأمور على خير.
أبو حاتم: إذا البنت وأهلها موافقين، هذا ما نتمنّاه. وربنا يجييب اللي فيه الخير.
سهيل: اتّفقت معهم أن نذهب لطلبتها يوم الأحد القادم، ولا يوجد لهم أيّ طلبات سوى دبلة الخطوبة، أبوها أصرّ بأن يكون “الحلو” على حسابه.
أبو حاتم: المثل يقول: “إذا حبيبك عسل، لا تلحسه كلّه” العادات لا تسمح أن يكون “الحلو” على حساب أهل العروس، وما دام أهلها بهذه الطّيبة، فهذا يتطلّب أن نحفظ كرامتهم، اشتروا للعروس مصاغ ذهب وكسوة أفضل من كلّ بنات جيلها، وبكره اشتروا الحلويات والعصير، وابعثوها لبيت أبوها قبل ما يشتريها. ولا تقصروا بواجبهم، وشوفوا شو عاداتهم، وجهزوا بناء عليها، ع شان يرفعوا روسهم أمام قرايبهم ومعارفهم.
خرج حاتم إلى بيته القريب، وعاد بعشرة آلاف دولار، وضعها أمام سهيل وهو يقول:
لا تبخل عليها بشيء، اشترِ لها ما تريد، وإذا لم تكفِ هذه فخير الله كثير.
أمّ حاتم: خذ “المخمّسيّة” تبعتي مع سلسالها عند الصّايغ، خلّيه يلمّعها وقدّمها لها.
أبو حاتم: خلّي “المخمّسيّة” نقوط لها يوم العرس.
سهيل: أبوها لم يطلب سوى دبلة الخطوبة.
أبو حاتم: يخلف عليه، يظهر انّه رجل طيّب، ولازم نردّ ع الطّيب بطيب أكثر، اعمل مثل ما قلت لك.
فاطمة: يبدو أنّ والدها ميسور الحال، بدلالة أنّه اشترى لابنته سيّارة.
أبو حاتم: ربنا يزيده من خيره، و”اللي بقدّم… بقدّم قيمته”.
حاتم: هذا الصّحيح.
بعد أن انفضّت الجلسة، هاتف سهيل ناريمان وقال لها:
دعينا نلتقي غدا في التّاسعة صباحا؛ لنشتري بعض الحاجيّات التي تلزم للخطبة.
– لن نشتري غير خاتمي الخطوبة.
– لا بأس سنتكلم غدا. أين سنلتقي؟
– انتظرني غدا سآتي لآخذك من البيت.
وصلته في التّاسعة صباحا، بينما انتظرها هو قبل ذلك بنصف ساعة على الشّارع العامّ، ابتسمت له وهي توقف سيّارتها بجانبه وتقول:
– صباح الخير، تفضل يا أستاذ سهيل.
جلس بجانبها وقال: صباح الخير حبيبتي ناريمان.
دغدغ عواطفها بهذه الكلمة السّاحرة، فسألته:
– إلى أين المسير؟
– إلى رام الله.
– ما رأيك أن نقضي يومنا في يافا، ونعود قبل الغروب، نشتري الخاتمين، “وكان الله بالسّر عليما.”
– يافا سنزورها لاحقا، دعينا نكمل استعداداتنا قبل الأحد.
ردّت عليه بابتسامة خبيثة وقالت:
– حاضر يا سي السّيّد.
ضحك وقال: تسلمين يا سيّدة النّساء. وأضاف سنذهب إلى محلّ الصّياغة “السّعادة” قرب المنارة في رام الله، فالكلّ يشيد بمجوهراته، أم أنّك تريدين الذّهاب إلى محلّ صياغة آخر.
عادت تمزح فقالت:
– أنت الرّجل المطاع، ولن أعصي لك أمرا.
ردّ عليها بنبرة استياء قائلا:
– حبيبتي ناريمان، هذا ليس وقت مزاح.
– من قال لك بأنّني أمزح؟ أنا جادّة فيما أقول، فأنا مطيعة لك حتّى قبل أن نخطب.
أوقفا سيّارتهما أمام منتزه البردوني، مشيا باتّجاه محلّ “السّعادة” للمجوهرات، دخل أمامها وهي تمسك بيده، فقالت له مازحة:
– Ladies first يا سي السّيد، التفت إليها ولم يتكّلّم، طرح تحيّة الصّباح على صاحب المحلّ وقال له:
نريد مصاغا ذهبيّا يليق بأحلى عروس.
– هل تريدانه طاقم ذهب، أم ليرات ذهبيّة؟
ناريمان: لا هذا ولا ذاك، نريد خاتمي خطوبة فقط.
سهيل: لا تسمع كلامها لو سمحت، دعنا نرى الطّواقم الذّهبيّة التي لديك؟
– هل تريدان طاقم ذهب أصفر عيار 21، أم تريدانه ذهبا أبيض مرصّعا بقطع من الألماس؟
احتجّت ناريمان وسألت غاضبة: ما هذا يا سهيل؟ أنا لا أريد إلّا دبلة الخطوبة فقط.
ضغط على يدها بنعومة وهمس في أذنها مازحا:
– اصمتي ولا تقاطعي “سي السّيّد”.
عرض الصّائغ أمامهما ثلاثة أطقم من الذّهب الأصفر، ومثلها من الذّهب الأبيض (كلّ طاقم يتكوّن من سلسال عريض “مدندش”، زوج حلق، إسورة، خاتم و”دبلة”)، كلّ طاقم يختلف عن الآخر بطريقة صياغته.
التفت سهيل إلى ناريمان وقال لها:
– اختاري ما يعجبك، أم أنّك تريدين قلادة من الليرات الذّهبيّة.
بقيت ناريمان مصرّة على موقفها، فهي لا تريد إلا دبلة الخطوبة، لكنّ سهيل لم يستجب لطلبها، غضبت وخرجت من المحلّ، لحق بها وهو يقول لصاحب المحلّ:
سأعود بها بعد قليل.
أمسك ذراعها وقال لها:
– اسمعيني جيّدا، هذا المصاغ حقّ لك، ومستحيل أن أقبل أن تكوني أقلّ من أيّ عروس في رام الله.
– من قال لك أنّني سأتزوّج بلا مصاغ ذهبيّ؟ أبي قال لي لا تشتري غير دبلة الخطوبة، وأنا سأشتري لك المصاغ الذي تريدينه، ولا نريد الاثقال على سهيل، فهو لا يزال طالبا.
– ومن قال لك ولأبيك أنّكما تثقلان عليّ؟ المصاغ في بلادنا حقّ شرعيّ للعروس على العريس، ولن أهرب من الحقّ الواجب عليّ، وأبوك حرّ في ما يشتريه أو لا يشتريه.
– لكنّ أبي سيغضب منّي ومنك.
– إذا غضب أبوكِ فسنردّه للصّائغ، دعينا نكسب الوقت، لا تضيّعي يومنا سدى.
– رجعت معه على غير قناعة، دخلت المحلّ وكشرة تعلو وجهها، فبدت ساحرة الجمال، تمعّنت في الأطقم الذّهبيّة المعروضة، أشارت إلى واحد من اللون الأصفر، وإلى واحد من اللون الأبيض وسألت:
– كم ثمن كلّ واحد من هذين؟
– على حسب وزنه.
– تقريبا؟
– لا تقريبا ولا غيره، سأزنهما الآن.
– وضع كلّ واحد على ميزان الذّهب الحسّاس، سجّل الوزن على ورقة، استعمل الآلة الحاسبة لمعرفة مجموع الثّمن وقال:
– الأصفر ثمنه 600 مائة دينار، والأبيض فيه ستّ فصوص ألماس، واحد على الخاتم هذا هو، وواحد على “الدّبلة” كما ترون، وأربع على السّلسال، على كلّ جانب اثنتين، ثمنه 2500 دينار.
قالت ناريمان وفي نيّتها أن توفّر على سهيل:
– سآخذ الأصفر، بينما كانت عيناها على الأبيض.
تناول سهيل السّلسال الأبيض، وضعه على عنقها وهو يقول:
– قفي أمام المرآة وانظري، اللون الأبيض يليق عليك أكثر من الأصفر.
لم يعطها فرصة للرّد، قال للصّائغ:
– نحن نريد الأبيض.
أمسك الخاتم ليقيسه عل اصبعها البنصر، كان ضيّقا إلى حدّ ما، فقال الصّائغ:
هذه ليست مشكلة، سأوسّعه الآن. وهذا ما حصل.
قال سهيل: معنا دولارات، كم سعره بالدّولار؟
الصّائغ: الدّينار يساوي ثلاثة دولارات، المجموع 7500 دولار، ومنّي “نقوط” 100 دولار لكلّ منكما.
وضع الصّائغ العقد في علبة جذّابة، طواها بغلاف جميل، وقال لهما:
ألف مبروك، ناوله سهيل 7300 دولار، شكره واستأذن بالانصراف.
قالت ناريمان: تمهّل يا سهيل، وقالت للصّائغ:
– يبدو أنّك نسيت أن تعطينا فاتورة.
اعتذر لها، وشكرها لأنّها ذكّرته، كتب الفاتورة. فعادت ناريمان وقالت:
– نسينا أن نشتري دبلة الخطوبة لك يا سهيل.
ابتسم سهيل وشكر هو الآخر ناريمان؛ لأنّها ذكّرته، طلب من الصّائغ “دبلة” فضّة، فاحتجّت ناريمان وقالت بل دبلة ذهب.
لم يتكلّم سهيل، جاء الصّائغ بعدد من “الدّبلات” الذّهبيّة، ووضعها أمامهما وهو يقول:
– اختارا ما يعجبكما؟
اختارت ناريمان واحدة، أمسكت ببنصر سهيل تقيسها، فجاءت على المقاس.
وزنها الصّائغ وقال: هذه ثمنها خمسة عشر دينارا، ثمّ قال لهما:
اختارا أيضا “دبلة فضّيّة” هديّة منّي. فاختارا واحدة.
خرجا من محلّ الصّياغة وسهيل يقول:
سأضع عند الخطوبة “دبلة” الفضّة؛ لتتناسب مع “دبلتك وخاتمك. ضحكت ناريمان وقالت:
– هذه فكرة جيّدة فالحضور سيظنّونها ذهبا أبيض.
مشى سهيل وناريمان تضع يدها بيده، إلى محلّ حلويّات، طلب منه أن يعدّ له 25 كغم بقلاوة مشكّلة، على أن تكون جاهزة عصر السّبت القادم، سألته ناريمان:
– لِمَ هذا؟
ردّ مخادعا: سآخذها لبيتنا.
عادا بعدها إلى منتزه البردوني، وهناك تناولا وجبة الغداء. ودّعها سهيل وهو يقول:
نلتقي عصرا بعد أن أقضي أعمالا خاصّة.
قالت ناريمان: ألا تريدني أن أكون معك؟
– نعم لا أريدك فهذه أمور تخصّني وحدي.
– صافحته مودّعة، استقلّت سيّارتها وعادت إلى بيتها.
ذهب سهيل إلى محلّ لبيع السّكاكر، اشترى 300 منفضة مزخرفة من انتاج مصنع الزّجاج في الخليل، مخصّصة “كمطبّقيّات” لمناسبات الأفراح، اشترى 10 كغم شوكلاته، ومثلها ملبس محشوّ باللوز، وأخرى حامض حلو من النّوع الفاخر، دفع ثمنها وقال لصاحب المحلّ:
جهّزها وسأعود لأخذها بعد ربع ساعة.
توجّه إلى محلّ للبقالة، اشترى 15 صندوق مشروبات غازيّة، في كلّ صندوق 24 زجاجة، و 15 صندوق عصير، أحضر سيّارة “بك أب” صغيرة، حمّلها فيها، عاد ليأخذ أغراضه من محلّ السّكاكر، حمّلها أيضا وطلب من السّائق أن يسير باتّجاه رام الله التّحتا حيث بيت أهل ناريمان.
أنزلها أمام البيت، قرع الجرس، ففتحت له ناريمان الباب، رحّبت به ودعته للدّخول، فقال لها اتركي الباب مفتوحا كي ندخل الأغراض. تفاجأت ناريمان بذلك، رفعت صوتها مستنكرة ما قام به، خرجت والدتها على صوتها تستطلع ما حدث، تفاجأت هي الأخرى بما رأت، لكنّها وجدت نفسها هي وناريمان يساعدن سهيل في ادخال المشتريات. لم يكن أبو جمال”والد ناريمان” وإخوتها موجودين.
في صالون البيت عاتبت أمّ جمال سهيل، وقالت له -مع أنّها كانت سعيدة وفخورة بما قام به- :
يفترض بك يا ولدي أن تلتزم بما قاله لك أبو جمال.
فردّ عليها قائلا: الواجب واجب يا خالة، ولن أتخلّى عن واجبي، وناريمان أغلى من مال الدّنيا كلّه. والبقلاوة سأحضرها عصر السّبت.
امتلأت ناريمان زهوّا بنفسها، همّت بتقبيله لولا وجود أمّها، استغربت ما قاله حول البقلاوة وسألته:
– ألم تقل أنّها لبيتكم؟
سهيل: نعم قلت ذلك كي لا أدخل معك في نقاش لا جدوى منه في الشّارع أمام النّاس.
استأذن سهيل بالانصراف، وخرج، تبعته ناريمان وأصرّت على إيصاله بسيّارتها، فوافق، سألها:
– هل تعرفين محلّا للملابس النّسويّة الجاهزة؟
– المحلّات كثيرة.
– خذينا إلى واحد منها.
– لماذا؟
– كي نشتري فستان الخطوبة.
– سأشتريه أنا على ذوقي.
– من قال عكس ذلك؟
– دعك من هذا الهراء، وفي نيّتها أن تشتريه مع ملابس أخرى في غيابه؛ كي توفّر عليه ثمنها.
عرف سهيل نواياها، قرّر أن يحتال عليها، فسألها:
– ما رأيك أن نذهب غدا في رحلة إلى يافا؟
– فكرة جيّدة. جهّز نفسك في الثّامنة صباحا سأكون عندك.
انتظرها سهيل صباح اليوم التّالي، عند مفترق الطّرق على الشّارع الرّئيس، ضحكت عندما رأته، جلس بجانبها لمواصلة المسير، التفّت بسيارتها يمينا باتّجاه بيت سهيل، سألها:
– ماذا جرى لعقلك؟ إلى أين أنت ذاهبة؟
ردّت بدلال وغنج: إلى بيت العزّ، أريد أن أشرب القهوة صحبة عمّي أبي حاتم، والخالة صفيّة.
قال: لو خبّرتِني بذلك لانتظرتك في البيت.
ردّت عليه ضاحكة: وما أدراني أنّك ستحمل النّدى على ظهرك.
عندما وصلا البيت، خرجت أمّ حاتم على صوت هدير السّيّارة، رأت ناريمان فركضت باتّجاهها مرحّبة، ضمّتها وأشبعتها تقبيلا، تقدّمت ناريمان، صافحت أبا حاتم وقبّلت وجنتيه. قبل أن تجلس عادت إلى السّيّارة، أخرجت من جيبها الخلفيّ بدلة سوداء مغطّاة بنايلون شفيف، وكيسي نايلون أسودين، عادت لتجلس بجانب أبي حاتم وأمّ حاتم تتبعها، بينما دخل سهيل إلى الحمّام.
قالت أمّ حاتم لناريمان: نوّرتِ بيتك ومحلّك يا حبيبتي.
– شكرا يا خالة.
أشارت أمّ حاتم إلى الأغراض التي أنزلتها ناريمان وسألت:
– شو هذا يمّه؟
هذه بدلة وقمصان لسهيل نسيها معي في السّيارة!
– إن شاء الله بتتهنّوا يمّه.
عندما رأى سهيل ما أتت به ناريمان، شعر بحرج كبير، سألها:
– ما هذا يا ناريمان.
غمزت له بعينها كي يسكت، لكنّه تجاهل الغمزة وعاد يسأل، فردّت عليه:
هذه هديّة من أبي إليك، مساء أمس اشترينا فستان الخطوبة، وملابس أخرى.
ردّ سهيل حائرا: لا حول ولا قوّة إلا بالله، فكّرت أن نشتريها اليوم من يافا.
ناريمان: أعلم نواياك ففوّتّ الفرصة عليك.
قال أبو حاتم: الدّنيا أخر وقت، صارت العروس تِكسي العريس!
ناريمان مستغربة: ما الخطأ في ذلك يا عمّ؟ فتجاهل سؤالها.
في الرّابعة من بعد ظهر يوم الأحد وصلت الجاهة، حوالي ثلاثين رجلا وامرأة وعدد من الأطفال يتقدّمهم سهيل وأبوه. استقبلهم أبو جمال، زوجته وأبناؤه على الرّصيف، في المكان المخصّص لجلوس الرّجال كان في استقبالهم عدد من الرّجال أيضا، وعند النّساء حصل الشّيء نفسه.
عرّف سهيل على من جاؤوا معه، وعرّف أبو جمال على أقربائه وأصدقائه، وضع شقيق العروس فنجان قهوة سادة “مُرّة” أمام أبي حاتم، فأشار إليه أن يضعه أمام المختار. وقف المختار، بسمل وحمدل وقال:
– الأخ الفاضل خالد جريس وأهله الكرام، جئنا نطلب يد ابنتكم صاحبة الصّون والعفاف ناريمان لابننا سهيل مصطفى المحمود، على سنّة الله ورسوله، ونحن جاهزون لطلباتكم كافّة.
وقف خالد جريس والد العروس وقال:
– أهلا بكم، نتشرف بمصاهرتكم، ومباركة ناريمان على سهيل، ولا طلبات لنا.
المختار: المهر حقّ فرضه الله للمرأة.
ابتسم والد ناريمان وقال:
– مهر ناريمان المعجّل دبلة الخطوبة، واستلمناها، والمؤجّل دينار أردني واحد.
المختار: وعلى هذه النّيّة نقرأ الفاتحة.
فتح الحضور جميعهم، مسلمون ومسيحيّون كفوف أيديهم، لقراءة الفاتحة، باركوا للعريس ولذوي العروسين. زغردت والدة العريس، فقالت لها والدة العروس:
مباركة عليكم ناريمان، أرجو الاكتفاء بزغرودة الفرح هذه، فلا مكان للغناء والوطن محتلّ.
وزّعوا الحلويّات والعصائر، وأعطوا كلّ شخص “مطبّقيّة” ملفوفة بالتّلّ، والشّبر، جهّزتها ناريمان وشقيقتها نادية.
انصرف المدعوّون، بقي سهيل ووالداه، شقيقته وشقيقاه، وأصرّت ناريمان على مديحة ووالدتها أن تبقيا أيضا. اصطحبهم أبو جمال إلى منتزه”نعّوم” لتناول طعام العشاء، وهناك اتّفقوا أن يكون الزّفاف في أوّل يوم جمعة من شهر آذار، على أن يجري في بيت والد العريس كما اقترح أبو حاتم، حيث يتناول المدعوّون طعام الغداء، دون غناء أو موسيقى. قال سهيل بأنّ العروسين سيقضيان شهر العسل في حيفا.
وافق أبو جمال على ذلك، مع أنّ زوجته كانت ترغب أن يكون الزّفاف في قاعة أحد الفنادق، فقال لها زوجها:
– لا داعي للقاعات ما دام الزّفاف سيتمّ بلا موسيقى وغناء، والأعراس الشّعبيّة جميلة جدّا.
صباح اليوم التّالي استيقظت أسرة خالد جريس حنّا؛ لتجد سيّارته وسيّارة ابنه جمال قد تحطّم زجاجهما الأماميّ، في حين كان زجاج سيّارة ناريمان جميعه محطّما، وإشارة صليب مرسومة على مقدّمتها، صرخت أمّ جمال هلعا، نهرها زوجها وطلب منها أن تهدأ، استيقظ جمال على صراخ والدته، عندما رأى زجاج السّيّارات المحطّم، هدّد بمعاقبة الجناة، أشعل أبو جمال سيجارة، وقال لزوجته وأبنائه، اهدأوا ولا تتكلّموا في الموضوع مع أيّ انسان، استمعوا لما يقال فقط، وأكثر ما أخشاه أنّ هناك أيادي تلعب في الخفاء لإشعال نار الفتنة، ولا بدّ أن يظهر الجاني يوما.
**********
لم يعد سامي يطيق صبرا، قرّر أن يحسم الأمر مع مديحة، اتّصل بها هاتفيّا في ساعات المساء، فجاء صوتها ناعسا:
هالوووو.
– مرحبا كيفك؟
– أنا بخير، شكرا لك. وأنت؟
– وأنا بخير أيضا، أردت أن أخبرك شيئا بدون مقدّمات.
– تفضّل.
– لقد أعلنت إسلامي. من أجل أن أتقدّم لطلب يدك، فما رأيكِ؟
– أجابت مرتبكة: فاجأتني بالموضوع. أعطني فرصة للتّفكير.
– ما رأيك أن نلتقي غدا في “الأميريكان كولوني”؟ هل تناسبك السّاعة العاشرة صباحا؟
– نعم، يناسبني.
– لا تحضري شيماء معك، دعينا نتكلّم وحدنا دون أن يعكّر أحد صفو جلستنا.
– لا بأس سأحضر وحدي.
لم يناما ليلتها، بقي كلّ منهما يفكّر بالآخر، ويفكّر بكيفية التّغلب على أيّ مشكلة تعترضهما.
انتظر سامي في باحة الأميركان كولوني منذ السّاعة التّاسعة، وصلت مديحة قبل العاشرة بربع ساعة، استقبلها قائلا:
– يبدو أنّك لم تأخذي حاجتك من النّوم.
ردّت مكابرة: بالعكس نمت أكثر من المعتاد.
– دعينا ندخل في الموضوع، منذ أن رأيتك وطيفك يسيطر على حواسّي جميعها، لا تغيبين عن وجداني لحظة واحدة، أعرف جيّدا استحالة زواجنا بسبب اختلاف الدّين، وبناء عليه قرّرت اعتناق الإسلام.
مدّ يده إلى جيبه، أخرج شهادة اعلان إسلامه وبطاقة هويّته، وضعهما أمامها وقال:
– تأكّدي من ذلك، آمل أن تبادليني المشاعر نفسها، وإذا لم يكن مانع عندك، فسأتقدّم لطلب يدك، متى وحسبما تريدين، وأنا جاهز لطلباتك جميعها.
– الزّواج ليس مزحة يا سامي، دعنا نفكّر جيّدا بالموضوع.
سامي: فكّرت كثيرا، كبتّ عواطفي مدّة طويلة، واتّخذت قراري بعد تفكير عميق، وأنتظر الجواب منك.
مديحة: والدتي اعتبرتك مثل أبنائها منذ رأتك، وتتمنّى دائما لو أنّك مسلم حتّى تتزوّجني. أبي واخوتي -كما تعلم- مغتربون في أمريكا.
سامي: سنتكتّم على الموضوع ستّة أشهر على الأقلّ، فقد أخبروني في المحكمة الشّرعيّة أنّه لا يجوز لي الزّواج من مسلمة قبل مرور ستّة أشهر على اعتناقي للإسلام؛ كي يتأكّدوا أن لا مصلحة شخصيّة لي عندما اعتنقت الإسلام.
مديحة: إذن سنترك الأمور حتّى مرور ستّة الأشهر.
سامي: حسنا، وبعدها استشيري من تريدين، وأنا جاهز لتنفيذ كلّ ما تطلبينه منّي.
مضت الأشهر السّتّة فألحّ سامي على مديحة أن تحدّد يوما لطلبة يدها.
قالت له: أعطني فرصة يومين. سأستشير خالي، مع أنّه رجل بسيط لا رأي له، لكن لا بدّ من استشارته ولو من باب رفع العتب، سأخبر خالتي صفيّة وزوجها وأبناءها، فهم أقرب النّاس لنا.
عندما تأتي للطلبة أحضر معك مسلمين، وإذا استطعت أن يكون معهم شيخ معمّم.
– سأحاول ذلك.
عادت مديحة إلى البيت قلقة جدّا، قالت لوالدتها:
– هل تعلمين أن سامي أعلن إسلامه منذ ستّة أشهر؟
– الحمد لله اللي ربنا هداه. والله انّه شبّ نشمي.
– ألا تزالين عند موقفك بأنّ من ينقذ فتاة عزباء من الغرق تكون من نصيبه؟
– طبعا يا بنتي، وإذا سامي أسلم صحيح، وتقدّم لك ورضيتِ فيه، سبع بركات عليك وعليه.
– لكن ماذا سيقول أهل البلدة يمّه؟
– طز عليهم ولا تسألي عنهم، مسلم تزوّج مسلمة، وللي مش معجبه يضرب راسه في الحيط.
– سامي سيأتي لطلب يدي بعد صلاة الجمعة القادم، ما رأيك؟
– أهلا وسهلا يمّه، ربنا يجيب اللي فيه الخير. خلينا نخبّر خالك ابراهيم، وخالتك صفيّة وزوجها واولادها، ع شان يحضروا.
بعد يومين اتّصلت مديحة بسامي وقالت:
– الأمور جاهزة تماما، تعالوا للطلبة بعد صلاة الجمعة القادم.
خفق قلب سامي فرحا، أراد التّأكّد ممّا سمع، فطمأنته مديحة بأنّ الأمور ستكون على ما يرام، واعتذرت عن مواصلة المحادثة لوجود أناس في بيتها.
اتّصل سامي بالأستاذ راسم، اتّفق معه على لقاء بعد ساعة في صالة الفندق الوطني بشارع الزّهراء في القدس، أخبر والديه بقراره، فعارضاه بشدّة. اتّجه إلى الفندق الوطنيّ لانتظار زميله الأستاذ راسم، مرّت الدّقائق ثقيلة كيوم حارّ من أيّام شهر تمّوز- يوليو-، عندما وصل الأستاذ راسم، أخبره سامي بالموضوع، طالبا منه المشاركة في الطّلبة، والنّصيحة بما يجب عمله.
فكّر الأستاذ راسم قليلا وسأل سامي:
– اصدقني القول يا سامي، هل أعلنت إسلامك إيمانا واحتسابا، أم من أجل أن تتزوّج هذه الفتاة التي تقول عنها؟
سامي: صدّقني أنّني أعلنت إسلامي عن إيمان وقناعة، وهذه الفتاة صديقة شقيقتي، وهي من عرّفتني عليها قبل أسبوع، بعد أن تكلّمت معها عن امكانيّة زواجنا. يشرّفني أن تكون أنت والمدير وبعض الزّملاء بمعيّتي في الطّلبة.
– لن نخذلك، غدا ادعُ المدير ومن تريده من الزّملاء.
– سأفعل ذلك، وسننطلق من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة، لكن هل بإمكاني دعوة شيخ ذي مركز دينيّ مرموق ليتكلّم باسمي؟
– سأفكّر بمن سندعوه. وسأحاول أن أدعو القاضي الشّرعيّ الذي أشهرت إسلامك أمامه.
– هذه فكرة رائعة، هل بإمكانك تحديد موعد سريع لنا معه، لندعوه؟
– سنتوجّه إلى بيته هناك دون موعد.
– ألا يزعجه ذلك؟
– سنتذرّع بعدم معرفتنا برقم هاتف منزله.
– إذن هيّا بنا ننطلق الآن. أين يسكن الرّجل؟
– بيته في شعفاط ومعروف للجميع.
سامي متردّد وخائف أن لا يقبل القاضي الشّرعيّ ذلك، وصلا بيت القاضي ورجلاه ترتجفان، في صوته بحّة خوف وقلق، شجّعه الأستاذ راسم، رحّب بهما القاضي الذي خرج إليهما بثوب”دشداش” حاسر الرّأس، شرح له الأستاذ راسم الموضوع، التفت الشّيخ إلى سامي وقال:
– اسمع يا بني، أعراض النّاس ليست لعبة، فإن كنت واثقا برغبتك في الاقتران بهذه الفتاة، وتعلم أنّ الزّواج للسّكن والطمأنينة، وبناء أسرة مسلمة على أسس إسلاميّة سليمة، فلا مانع عندي أن نطلبها لك، أمّا إذا كانت لك أهداف أخرى، فالله وحده يعلم ما في الصّدور.
سامي: طبعا يا مولانا، ويشهد الله أنّ نيّتي صافية، وهدفي من الزّواج لتحصين النّفس، وبناء أسرة كبقيّة خلق الله.
الشّيخ: على بركة الله، إذن ننطلق من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة.
سامي: حيّاك الله يا مولانا وشكرا لك.
بعد أن خرجا من بيت القاضي الشّرعيّ، عادا إلى صالة الفندق الوطنيّ، وهناك سأل سامي:
– ما المطلوب منّي يا أستاذ راسم في هكذا قضيّة؟
– لا شيء، إذا وقع النّصيب وتمّت الموافقة، سنقرأ الفاتحة، وسنحدّد يوما للخطبة.
– هل يمكنني أن أُحضر بعض أقاربي معي يوم الطّلبة؟
– ضحك الأستاذ راسم وقال:
– طبعا تستطيع أن تدعو من تشاء.
– والدي لن يحضر لأنّه شيخ هرم، وحركته بطيئة، وأمّي ستبقى بجانبه!
– شافاه الله وأطال عمره.
شكر سامي الأستاذ راسم وافترقا.
عاد سامي إلى بيته، دعا شقيقاته، فدوى، سناء وكريستين لحضور الخطبة هنّ وأزواجهنّ. رفضت والدته وشقيقته فدوى المشاركة في الطّلبة، وهدّدن أن لا يحضرن الخطوبة والزّواج. حاول زوج فدوى أن يثنيهما عن رفضهما، لكنّهما بقيتا على عنادهما، ولمّا يئس من اقناعهما قال:
– الأمور ستمشي بكما وبدونكما.
ركع سامي أمام والدته، قبّل يديها وهو يقول باكيا:
– أتوسّل إليك يا أمّي، لا تنغصّي عليّ يوم فرحي، يجب أن تكوني أوّل الحاضرين.
ردّت عليه غاضبة: من يترك دينه من أجل امرأة ليس ابني ولا أعرفه، ولا يهمّني إن تزوّج أو لم يتزوّج.
اقتربت منه كريستين دامعة أمسكت يده، قادته بعيدا عنها وهي تقول:
– دعك منها يا سامي، سيأتي يوم ترضى فيه.
يوم الجمعة التقى سامي الأستاذ راسم، مدير المدرسة وثلاثة من زملائه، توجّهوا إلى المسجد الأقصى، صلوا تحيّة المسجد، وصلّى سامي مثلهم، ركع وسجد مثلهم تماما. بعد الصّلاة التقوا القاضي الشّرعيّ، ساروا مجتمعين إلى السّيارت التي أوقفوها في شارع باب الأسباط، مرّوا من شارع الزّهراء حيث تنتظرهم ، شقيقتا سامي كريستين وسناء، وزوجاهما، وزوج فدوى التي رفضت المشاركة في صالة الفندق الوطني، توجّهوا جميعهم إلى بيت حنينا، تتقدّمهم سيارة سامي الذي يعرف بيت العروس، بجانبه جلس القاضي الشّرعيّ، وفي المقعد الخلفيّ جلس المدير والأستاذ راسم.
في بيت العروس كان في استقبالهم زوج خالتها وأبناؤه وخالها ابراهيم، وقفت فاطمة ابنة خالة مديحة تستقبل النّساء وتقودهن إلى الدّخول من باب جانبيّ، ليجلسن في المكان المخصّص للنّساء.
صبّ سهيل فنجان قهوة ووضعه أمام القاضي الشّرعيّ، بسمل الشّيخ وحمدل وحوقول وقال:
“يقول تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.
ويقول صلّى الله عليه وسلّم:” تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة” وقال عليه الصّلاة والسّلام: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”.
الإخوة الكرام: جئنا نطلب يد كريمتكم، صاحبة الصّون والعفاف مديحة محمد سلمان، لأخينا في الإسلام سامي بن يوسف متري، على سنّة الله ورسوله، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يلقى طلبنا هذا قبولكم.
ردّ أبو حاتم: أهلا بكم، وتشرّفنا بحضوركم، مباركة مديحة لسامي، على مهر معجّل قيمته 300 غرام ذهب عيار 21، ومؤجّل قدره 5000 دينار أردني. على أن يجهّز لها سكنا مستقلا لائقا.
شكره الشّيخ وقال: على هذه النّيّة الفاتحة.
قرأوا الفاتحة، المسيحيّون مدّوا هم الآخرون أيديهم، والله أعلم إن قرأوا الفاتحة أم لم يقرأوها.
باركوا لسامي، غير أنّ خال العروس سأل:
– شو اسم العريس من غير شرّ؟
القاضي: سامي يوسف متري؟
– ” متري”؟ شو هالإسم؟ من وين جبتوه؟ هل هو مسلم؟
– نعم هو مسلم والحمد لله، أعلن إسلامه أمامي في المحكمة الشّرعيّة.
قال خال العروس ساخرا:
– يعني أسلم ع شان يتجوّز البنت! شو هالحكي الفاضي؟
نهره أبو حاتم، وطلب منه السّكوت فسكت، واعتذر أبو حاتم للحضور عمّا قاله خال العروس.
القاضي: سنكتب عقد الزّواج، مَنْ وكيل العروس؟
أبو حاتم: خالها ابراهيم هو وكيلها.
القاضي: خذوا لي وللوكيل ولشاهدين طريقا لنسمع رأي العروس.
انصرفت الجاهة والمستقبلين، لكنّ مديحة أصرّت على بقاء شقيقات سامي، كما بقي هو الآخر بناء على طلب سهيل الذي عاد يرحّب به من جديد.
بعد أن أصبح في الصّالة متّسع، اقترح سهيل أن تأتي مديحة لتجلس بجانب خطيبها، هي وشقيقات سامي، أمّها وخالتها صفيّة، فاطمة شقيقة سهيل وشيماء صديقة مديحة.
قام سهيل بتعريف الضّيوف على شقيقتيه وزوجيهما. كما قام سامي بالتّعريف على والدته وشقيقاته.
بعد لحظة صمت قصيرة أشارت مديحة إلى سهيل قائلة:
– سهيل ابن خالتي، شقيقي الذي لم تلده أمّي، هو عريس أيضا، خطب قبل أسبوع فتاة مسيحيّة اسمها ناريمان خالد جريس.
سامي: ألف مبروك، أعرفها وأعرف أسرتها الكريمة، سمعت أنّ شابّا مسلما خطبها، وها أنا الآن أتشرّف بمعرفته.
قالت كريستين شقيقة سامي مازحة:
– هذا يعني أنّ سهيل خطب مسيحيّة، ووافق على خطبة ابنة خالته من مسيحيّ!
رمقها سامي بنظرة عتاب حادّة وقال:
– خطيب مديحة ابنة خالة سهيل أعلن إسلامه.
عادت كريستين تسأل بخبث:
وهل اعتنق سهيل المسيحيّة قبل أن يخطب ناريمان؟
رمقتها شقيقتها سناء وقالت موبّخة:
– ماذا جرى لعقلك يا كريستين؟ ما لنا ولهذا الكلام الفارغ؟
أراد سامي أن يغيّر الموضوع فسأل:
– متى ستتزوّجان يا سهيل؟
سهيل: اتّفقنا مبدئيّا أن نتزوّج في أوّل يوم جمعة من شهر آذار القادم.
سامي: بعد إذنكم هل يمكنني غدا اصطحاب مديحة لنشتري لها المصاغ؟
سهيل: مديحة الآن زوجتك، بإمكانك اصطحابها معك متى شئت.
زعرورة والدة مديحة: استغفر الله العظيم، شو قلت يمّه يا سهيل؟ وحّد ربّك، كيف صارت زوجته قبل ما يتزوّجوا؟
سهيل: كتبا عقد زواجهما قبل قليل يا خالة. هل نسيتِ ذلك؟
– لم أنسَ، لكنّ الزّواج لن يتمّ قبل اشهاره.
سامي: لك ذلك يا خالة، دعونا نحدّد يوما للخطبة، وآخر للزّفاف.
مديحة: هذا الوقت لا مكان للغناء والرّقص فيه، الخطبة ستكون مع ليلة الحنّاء، في مراسيم بسيطة احتراما للعادات، وحفل الزّفاف كما يراه سامي وأسرته، وأقترح أن يتمّ أيضا دون غناء وموسيقى.
سامي: ما رأيكم يا مديحة أن نتزوّج بعد أسبوعين؟
سهيل لخالته زعرورة: ما رأيك يا خالة أنت ومديحة؟
زعرورة: الرأي لمديحة.
احمرّ وجه مديحة حياء ولم تتكلّم.
فقال سهيل: “السّكوت علامة الرّضا” توكّلوا على الله.
“انتهت”
جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران 1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة شهور.
– عمل محرّرا في الصحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع الناس، ورئيس تحرير لصحيفة الصدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع الناس”
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لاتحاد الصحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامة في محافظة القدس في السلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني.
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012″.
– أحد المؤسسين الرئيسيين لندوة اليوم السابع الثقافية الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني والمستمرة منذ آذار العام 1991وحتى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسسات منها: وزارة الثقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطني الفلسطيني، ندوة اليوم السابع، جمعيّة الصداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائرية، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنشر والتوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.
شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثقافي في احتفالية “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثقافة الفلسطيني في احتفالية الجزائر “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية للعام 2015″.
– ملتقى الرواية العربية، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017؟
اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النهار- رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنة الجحيم- رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
– هوان النعيم. – رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا- رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
– “اللفتاوية” رواية لليافعين. دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2017.
قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
– باسل يتعلم الكتابة، قصة للأطفال، منشورات الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
أبحاث في التّراث.
– شيء من الصراع الطبقي في الحكاية الفلسطينية .منشورات صلاح الدين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشعبي الفلسطيني – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعية في الحكاية الفلسطينية .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.
بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002
– ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017.
أدب ساخر:
– حمار الشيخ.منشورات اتحاد الشباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع – القدس2003.
أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.
أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة التالية لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس :
– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
– نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.