مسرحية أبو جابر الخليلي صرخة مدوية فهل من يسمع؟

م

 

اعتراف:
مطلوب ممن يريد الكتابة عن أي عمل مسرحي أن يشاهده أكثر من مرة، وان يجلس مع مقدمي العمل ليستوضح منهم بعض الأمور، قبل أن يكتب، فانا شخصيا شاهدت هذا العمل قبل حوالي أربعة شهور، فلم استوعبه ولم اكتشف بعض خباياه إلا عند مشاهدتي له للمرة الثانية، والنقاش حول العمل المسرحي ضروري ومفيد للمشاهد، وللكاتب، ولطاقم العمل وبعد مشاهدتي له للمرة الثانية فإنني أرى أن في استمرارية عرضه فائدة للجميع.. مشاهدين ومن ضمنهم الكتاب، وفنانين وفي مقدمتهم القائمين على هذا العمل.
مدخل :
هذا العمل المسرحي الذي قدمه وأخرجه الفنان كامل الباشا عن قصة الأديب توفيق فياض، ويقوم بتمثيله الفنان عماد مزعرو، يقدم لنا قصة إنسان شعبي مقدسي، عاش في القدس القديمة زمن الانتداب البريطاني، وفي العهد الأردني، وبعد وقوع المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران 1967 مباشرة.
وبطل المسرحية ” أبو جابر الخليلي” عمل زمن الأردن في الشرطة السرية، كان مخلصا في عمله لكن الضابط وجه له تهمة الانتماء لحركة القوميين العرب وفصله من عمله، وذلك انتقاما منه بعد أن رآه أبو جابر في موقف لا أخلاقي وقدم به تقريرا.
وبعد وقوع المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي اعتقله الإسرائيليون وعذبوه على نفس الملف الأردني.
أبو جابر احد حراس المدينة يجوب شوارعها وطرقاتها التي يعرفها عن ظاهر قلب، فهاله ما رأى فيها من انتشار للرذيلة، من مخدرات ودعارة وشذوذ جنسي، حتى أن شارع الزهراء المعروف حاليا، والذي كان اسمه شارع بورسعيد قبل الاحتلال انتشرت فيه الحانات، وراجت فيه الرذيلة، كما أن أسواق وأزقة القدس القديمة أصبحت مرتعا لمتعاطي ومروجي المخدرات والمومسات والشاذين جنسيا، والفلسطينيون كانوا في حالة صدمة وذهول من هول الهزيمة التي تعرضوا هم وأمتهم لها .
وأبو جابر هذا الإنسان البسيط لم يتركه المحتلون يعيش ويحقق أحلامه البسيطة بهدوء ، فقد تعرض للاعتقال والتعذيب بدون سبب ، وتعرض للإهانات والمس بكرامته بدون سبب أيضا، انه في ضغط دائم، مما دفعه إلى الانفجار، دون أن تحدد المسرحية أي الطرق سلك في رفضه للواقع الذي يعيشه والمحرض له طبعا هو الاحتلال.
وشخصية أبو جابر تنهض من برزخها لتروي لنا قصتها، انه ينهض من الموت ليقول الحكاية التي عاشها في بداية سقوط المدينة المقدسة تحت الاحتلال .
الأداء الفني:
واضح أن الفنان عماد مزعرو يستفيد من خبراته الفنية ويصقل تجربته، يساعده في هذا العمل مخرج متميز يملك أدواته الفنية بدراية وعلم ويطوعها في أعماله الفنية انه الفنان كامل الباشا.
لقد جسد عماد مزعرو أكثر من شخصية على خشبة المسرح، جسد شخصية الإنسان البسيط، وجسد شخصية المحقق الإسرائيلي، وشخصية متعاطي المخدرات، وشخصية رواد بنات الهوى، وشخصية الحارس الإسرائيلي .. الخ.
ساعده في ذلك المؤثرات الضوئية، والغناء الذي قدمته الفنانة المبدعة ريم تلحمي، لقد كان للمؤثرات الصوتية تأثير واضح على المشاهد كانت تجعله يعيش أجواء الحدث، مثل صوت خرير المياه وهدير الرعد وضربات حبات المطر على النوافذ والأبواب للدلالة على أن الطقس ماطر.
الديكور:
تميز الديكور الذي أعده عماد سمارة ببساطة شديدة وذات إيحاء للبيت الشعبي البسيط، كرسي صغير، طاولة مغطاة تشبه الصندوق القبر معا، “تواليت”،عصا شعبية، وعند المدخل إكليل من الزهور يحمل نعيا من حراس القدس لأبي جابر.
الإخراج والتقنيات:
عمد المخرج كامل الباشا الذي اعد النص مسرحيا عن قصة الأديب توفيق فياض، أن يرسم في هذا العمل موقفا إنسانيا لحياة المقدسيين الفلسطينيين في بداية الاحتلال ليطلق بطريقة غير مباشرة صرخة تحذيرية مدوية تقول “إن الضغط يولد الانفجار” ويبدو انه استفاد من أحداث سنوات الاحتلال الطويلة، والتي رافقتها انفجارات كثيرة ومؤلمة لطرفي الصراع، وكأني به يتساءل: “أما آن للاحتلال أن يرحل كي يتوقف سيل الدماء الذي يسلب طرفي الصراع إنسانيتهم” ؟
لقد وظف المخرج أدواته البسيطة لخدمة النص ولخدمة أداء الممثل، ولجذب جمهور المشاهدين لمتابعة الحدث على خشبة المسرح، فابو جابر ميت من اللحظة التي يدخل فيها المشاهدون الى قاعة العرض حيث يصادفهم إكليل الورد الذي ينعى فيه حراس القدس أبا جابر الخليلي، والفنانة ريم تلحمي تردد بكائية شعبية فلسطينية تنعى فيها الميت، والممثل يخرج من تحت الصندوق الذي استعمله من تأثيرات الإضاءة ليصبح قبراً، انه ميت يخرج من القبور، واستعمل الصندوق ليكون سريراً ينام عليه أبو جابر بجانب زوجته يتناجيان ويتحدثان في امورهما الخاصة، واستعمل “الدمية الجثة” لترمز لأكثر من شخصية، كما استغل المخرج الإضاءة والتقنيات الصوتية بطريقة جيدة ومؤثرة، فعندما كان أبو جابر يصاب بالرعب ويتخيل الأشباح، كان التلاعب واضحا في الإضاءة لنشاهد على خلفية المسرح أكثر من ظلّ لأبي جابر ونسمع مؤثرات صوتية ، انه يعيش وسط أشباح حقا، وعندما يستقيم الوضع نرى نافذة على خلفية المسرح، وبابا على يمين المسرح كل ذلك باستعمال الإضاءة ، وللعصا كان دور أيضا، فأبو جابر يتوكأ عليها أحيانا ، ويستعملها للدفاع عن نفسه أحيانا أخرى .
استعمال التراث :
قدمت الفنانة ريم تلحمي بصوتها الجميل أكثر من أغنية شعبية تخدم العمل ففي البداية قدمت بكائية مؤثرة، وفي الحلم بزفاف جابر قدمت أغنية شعبية تقال في هذه المناسبات ” الهيلمان… الهيلمان” ثم غنت للقدس الأسيرة .
لكنه وخلال العرض قدم الفنان مزعرو لحنا بدون كلمات ” للهجين ” البدوي بطريقة ساخرة، وكان بالامكان تقديم ” الهجين ” بكلمات ” الهجين ” الواضحة، فنصوصه كثيرة، وكان يجدر أن يقدم بطريقة جدية، فهو من التراث الشعبي لفئة كبيرة من أبناء شعبنا والشعوب العربية المجاورة، كما انه ورد خطأ في أغنية الندب والبكاء الذي قدمها الفنان مزعرو قبل نهاية العرض بقليل، وهذا الخطأ يتمثل في أن البكائيات على الميت في المفهوم الشعبي الفلسطيني تقدمها النساء وليس الرجال، فالرجال يرثون ولا يبكون .
أما الخطأ الثاني فكان في كلمات البكائية المعروفة والتي تقول :
مات والبقر ينعى عليه
مات والمسّاس بين ايديه
ياما حرث ياما درس
ياما هال التبن عليه

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات