كنان يتعرف على مدينته-رواية للفتيات والفتيان

ك

جميل السلحوت

كنان يتعرّف على مدينته

رواية للفتيات والفتيان

وصلتْ حافلةُ الرّحلةِ المدرسيّةِ لطلّاب الصّفّ التّاسع حيَّ المصرارةِ المقابلَ لباب العمود الشّهير، والذي يشكّلُ البابَ الرّئيس للقدس القديمة.
طلبت المعلّمةُ ديمةُ من تلاميذها أن يجلسوا على الدّرج المقابلِ لباب العمود؛ لتقولَ لهم بعضَ المعلوماتِ عن المدينة المقدّسة، وقفت أمامهم وقالت:
تبلغُ مساحةُ المدينةِ القديمة “كيلومتر” مربّعًا واحدًا، ويحيط بها هذا السّورُ العظيمُ الذي بناه السّلطانُ العثمانيُّ سليمانُ القانونيّ بين 1538- 1553م، وتختلفُ ارتفاعاتُ السّورِ وسماكةُ جدرانِهِ من موقع إلى آخر حسب التّضاريسِ الطّبيعيّةِ للأرض، ومتوسّط ُسمكِ الجدران (متران) وذلك لتحقيق غرضين رئيسيين:
أوّلُهما لمقاومة قذائف المدفعيّة، والثّاني لاستخدام أعلى السّور كممرّات علويّة تسهّلُ حركةَ الدّفاعِ عن المدينة وحراسة الأسوار أيضا.
وقد استُخدِمت الأحجارُ الجيريّةُ في بناء السّور الحاليّ، وبينما كانت المداميكُ السّفليّةُ من أحجار كبيرة، اسْتُخدِمت حجارةٌ أصغرُ حجمًا في تشييد الأجزاءِ العلويّةِ من البناء.
وأضافتِ المعلّمةُ ديمة:
ويوجدُ في سور القدسِ القديمة أحدَ عشرَ بابًا، سبعةٌ منها مفتوحةٌ وهي:
– باب الخليل- باب يافا الواقع في الجدار الغربيّ.
– الباب الجديد- باب السّلطان عبد الحميد الثّاني الكائن في الجانب الشّماليّ للسّور، وعلى مسافة حوالي مائتي مترٍ تقريبًا إلى الغرب من باب العمود، بإمكانكم رؤيته من هنا، إنّه هناك قالتْ وهي تشير بيدها إليه.
– بابُ العمود- باب دمشق-، وهو البابُ الذي أمامكم، ويقعُ في منتصف الجدارِ الشّماليِّ لسور القدس.
– بابُ السّاهرة الواقع في الجدار الشّماليِّ من سور القدس، وعلى بعد نصف كيلومتر شرقيّ باب العمود.
– باب المغاربة الواقع في الزّاوية الجنوبيّةِ من سور القدس وهو أصغر أبوابِ القدس.
– باب النّبيّ داود ويقعُ في الجدار الجنوبيِّ لسور القدس.
– باب الأُسود (الأسباط) الواقع في الجدار الشّرقيّ لسور القدس.
أمّا الأبوابُ الأربعةُ المغلقةُ فجميعها تقعُ في الجهتين الجنوبيّةِ والشّرقيّةِ للمسجد الأقصى، وهي أيضا تقعُ ضمنَ أسوارِ المسجدِ التي تعدُّ في الوقت نفسِهِ جزءا من سور مدينةِ القدس وهي:
–باب الرّحمة وباب التّوبة، الباب الذّهبيّ الواقع على بعد عشرات الأمتار جنوبيّ باب الأُسود (الأسباط)، وهناك من يسمّيه باب الجنائز؛ لأنّهم كانوا يخرجون الجنائزَ منه بعد الصّلاة عليها في المسجد الأقصى؛ لدفنها في المقبرة المجاورةِ وهي مقبرة باب الرّحمة.
– الباب المفرد الواقع في الجدار الجنوبيِّ من السّور قُرْبَ الزّاويةِ الجنوبيّةِ الشّرقيّة.
– الباب الثّلاثيّ الواقع في الجدار الجنوبيّ، والذي يلي الباب المفرد مباشرة.
– الباب المزدوج الواقع في الجدار الجنوبيّ للسّور، ويتألّف من مدخلين، وقد تمّت إعادةُ بناء هذه الأبواب الثّلاثة “المفرد والثّلاثي المزدوج” في العهد الأمويّ.
وهنا وقف كنانُ وسأل:
من بنى مدينةَ القدسِ يا معلّمتي؟
ردّت المعلّمة: بناها الملكُ اليبوسيُّ العربيُّ ملكي صادق، واتّخذها عاصمةً لمملكته.
عاد كنانُ يسألُ: متى بناها؟
المعلّمة: قبل أكثر من ستّة آلاف عام.
والآن دعونا ندخل المدينة؛ لنذهبَ إلى المسجد الأقصى، وهناك سنتكلّمُ شيئًا عن هذه المدينةِ العظيمة.
طلبت المعلّمةُ ديمةُ من تلاميذها أن يصطفّوا اثنين اثنين، وأنْ يُمسكَ كلُّ واحدٍ بيد زميلِه، وأن يمشيَ بعضُهم وراءَ بعض، حتّى يصلوا ساحاتِ المسجدِ الأقصى، مشتْ أمامهم في حين مشت زميلتُها زينبُ خلفهم.
دخلوا بابَ العمود، ساءهم منظرَ الجنودِ الأغرابِ الذين يوقفون المارّةَ ويفتّشونهم، لكنّهم لم يتكلّموا معهم، تحسّسَ كنانُ البابَ العظيمَ بيده اليسرى وقال لزميله فارس:
دخلتُ هذه المدينةَ عشراتِ المرّات مع والدي وأمّي، وكلّما دخلتُها أشعرُ بمهابة لا أجدُ تفسيرًا لها، يُدْهشُني كلُّ شيءٍ في هذه المدينةِ العظيمة، لكنّني لا أعرفُ شيئًا عن تاريخها، لم يخطرْ ببالي أن أسألَ أبي أو أمّي عن بعض معالمِها، ولا أعلمُ إن كانا يعرفان تاريخَ المدينةِ أم لا، وهذه فرصتُنا لنستمعَ من معلّماتنا عن بعض الجوانبِ التّاريخيّةِ لهذه المدينة.
بعد أن تخطّوا بابَ العمودِ داخلَ المدينة، رأوا سوقين ينفرجان كشعبةِ النّقافة، توقّفت المعلّمةُ ديمةُ عند مدخل السّوقِ الأيسر، التفتتْ إلى تلاميذها وقالت:
سندخلُ من هنا، هذا اسمُه طريقُ الواد، وهو أقربُ الطّرقِ إلى المسجدِ الأقصى من هذا المكان.
التفتَ كنانُ إلى معلّمتِه زينب وسألها وهو يشير إلى سوق خانِ الزّيت:
لماذا لا نذهبُ من هذا السّوق، فهو يوصلُ أيضا إلى المسجد الأقصى؟
ردّت المعلّمةُ زينبُ: بابُ خانِ الزّيتِ مكتظٌ بزوّار المدينةِ والمتسوّقين دائما، وطريقُ الوادِ أسهلُ لنا.
بعد أن ساروا حوالي خمسمائة متر، دخلت المعلّمةُ ديمةُ إلى سوق على يسارها، وقالت: هذا طريقُ بابِ المجلسِ الإسلاميّ، سندخلُ منه إلى المسجد الأقصى.
قبلَ الدّخولِ إلى المسجد أشارتِ المعلّمةُ ديمةُ إلى بوّابة على يمينها وقالتْ:
في هذا الحوشِ يسكنُ أبناءُ الجاليةِ الإفريقيّة، وأشارتْ إلى بابٍ مفتوحٍ على دَرَجٍ في اليسار وقالتْ:
وتلك بنايةُ المجلسِ الاسلاميِّ الأعلى، حيثُ توجدُ مكاتبُ دائرةِ الأوقافِ الاسلاميّة.
سأل سنان: ما المقصودُ بالجاليةِ الافريقيّة؟
ردّت المعلّمةُ زينب: إنّهم مسلمونَ أفارقة، شدّوا الرّحالَ في مواسمِ الحجِّ إلى المسجدِ الأقصى، وسكنوا بجوارِهِ طلبًا للعبادة، وليتباركوا بالمكان.
سأل كنان: كيف تُشدُّ الرّحالُ إلى المسجد؟ ولماذا؟
ردّت المعلّمةُ زينبُ قائلةً: سأشرحُ لكم ذلك داخلَ المسجد.
عندما اكتملَ دخولُ التّلاميذِ إلى ساحةِ المسجدِ الأقصى جمعتهم المعلّمتان أمامهما، وتلت المعلّمةُ ديمة بخشوعٍ وبصوتٍ مسموع:
“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” صدق الله العظيم.
وأضافت المعلّمةُ ديمة: وهذا المسجد هو قبلةُ المسلمينَ الأولى، ومعجزةُ الإسراءِ والمعراجِ جعلتْه مسجدًا إسلاميّا خالصًا بقرارٍ ربّانيّ.
قال كنانُ وهو يشيرُ إلى قبّة الصّخرة:
دعونا الآنَ نذهب إلى المسجد.
ردّت المعلمةُ زينب: نحن الآنَ داخلَ المسجد، فكلُّ هذه السّاحات والباحات التي ترونَها، جزءٌ لا يتجزّأُ من المسجد، وقبّةُ الصّخرةِ هي مسجدٌ داخلَ المسجدِ الأقصى، وهناك بنايةُ المسجدِ القبليّ، وتبلغُ مساحةُ المسجدِ الأقصى مئةٌ وأربعةً وأربعينَ دونما ومائتين وخمسينَ مترًا.
عاد كنانُ يسأل: أينَ الصّخرةُ التي عرجَ منها الرّسولُ محمّدٌ عليه الصّلاةُ والسّلامُ إلى السّماواتِ العُلى؟
أجابت المعلّمةُ زينب:
لقد بنى الخليفةُ الأمويُّ عبدُ الملكِ بن مروان ذلك المسجد، حولَ الصّخرةِ التي عرج منها الرّسولُ محمّدُ صلوات الله وسلامه عليه إلى السّماء، فهي أعلى مكان في باحاتِ المسجد، وسترونَها الآن عندما ندخلُ مسجدَ قبّةِ الصّخرة، لكنْ قبلَ ذلك، دعونا نذهبُ إلى “مطاهر” المسجدِ لنتوضّأ، كي يصلّيَ كلٌّ منّا ركعتين تحيّةً للمسجد.
توضّأَ التّلاميذُ في “المطاهرِ” المخصّصةِ للرّجال، وتوضّأت المعلّمتانِ في “المطاهرِ” المخصّصةِ للنّساء.
خلعوا جميعُهم أحذيتَهم وتركوها عندَ بابِ مسجدِ الصّخرة، دخلوا المسجدَ والمعلّمتان تقولان بخشوع:
“أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أنّ محمّدا عبدُهُ ورسولُهُ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم.”
بعضُ التّلاميذِ قالوا مثلما قالت معلّمتاهم، والبعضُ الآخرُ تدافعَ لدخولِ المسجد.
قالت المعلّمةُ ديمة: بإمكانِ كلِّ واحدٍ منكم أن يصليَ ركعتي تحيّة المسجدِ هنا، أمّا أنا وزميلتي زينبُ فسندخلُ إلى المغارةِ الّتي في الصّخرةِ؛ لنصلّيَ فيها.
بعد صلاةِ تحيّةِ المسجدِ شرعَ التّلاميذُ يتفحّصون زخرفةَ المسجد، أعجبتْهمُ الفسيفساءُ التي تزيّنُ جدرانَه، قرأ بعضُهم بعضًا من الآياتِ القرآنيّةِ المكتوبةِ بماءِ الذّهبِ على الجدران.
سأل كنانُ شيخًا معمّمًا:
هل لك يا عمّ أن تشرحَ لنا شيئًا عن هذا المسجد؟
ابتسمَ الشّيخُ وقال:
” هذا المسجدُ “قبّة الصّخرة” بناه الخليفةُ الأمويُّ عبدُ الملكِ بن مروان ما بين عامي “66هـــ – 72هـ، الموافق 685م –691م.”
وهنا خرجتِ المعلّمتانِ ديمةُ وزينبُ من المغارةِ بعد أن أدّيتا ركعتي تحيّة المسجد، وقفتا بجانب تلاميذِهما، واستمعتا معهما لما يقولُهُ الشّيخُ الذي أضاف:
” وإذا ما انتبهنا لهذا المسجد، سنجدُ أنّه بناءٌ مثمّن الأضلاع، له أربعةُ أبواب، تعالوا معي نعدُّ أضلاعَهُ، وفي داخله تثمينةٌ أخرى تقومُ على دعامات وأعمدةٍ إسطوانيّةٍ كما ترونَها، في داخلِها دائرةٌ تتوسّطُها “الصّخرةُ المُشرّفةُ”، التي عرجَ منها النّبيُّ محمّدُ – صلّى الله عليه وسلّم- إلى السّماء في معجزةِ الإسراءِ والمعراج، وترتفعُ هذه الصّخرةُ كما ترونَ نحوَ مترٍ ونصفٍ عن أرضيّةِ البناء، وهي غيرُ منتظمةِ الشّكل، يتراوح قطرُها بين 13 و 18 مترًا، وتعلو الصّخرةُ في الوسَطِ قبّةٌ دائريّةٌ بقطر حوالي 20 مترًا، مطليّةٌ من الخارجِ بألواحِ الذّهب، إرتفاعها 35 مترًا، يعلوها هلالٌ بارتفاع خمسةِ أمتار.”
سألَ كنانُ على استحياء:
هل صحيحٌ يا شيخَنا ما يقولُهُ البعضُ، بأنّ هذهِ الصّخرةَ تقفُ في الهواء؟
ابتسمَ الشّيخُ وسأل: ما اسمُك يا بنيّ؟ ومنْ قال لك ذلك؟
كنان: اسمي كنانُ عصام واسمُ أمّي أمينة، وهذا الكلامُ سمعتُهُ من شيخٍ عجوزٍ عندما جئتُ مع والدي لصلاةِ الجمعة.
ابتسمَ الشّيخُ ابتسامةً عريضةً وقال:
هذا الكلامُ غيرُ صحيحٍ يا بنيّ، فالصّخرةُ ثابتةٌ في الأرض، وكما ترون لقد تمَّ بناءُ رُواق هذا المسجد الذي ترونَه؛ لتصبحَ الأرضُ مستويةً عند بناءِ هذا المسجد، وهذه الصّخرةُ هي الأعلى بين الصّخور، وتُعتبرُ هذه المنطقةُ أقربَ نُقطةٍ في الكرةِ الأرضيّةِ إلى السّماء.
وأضاف الشيخ: وهذا المسجدُ من أقدس مقدّساتِ المسلمين، وهو أحد المساجد الّتي تشدّ إليها الرّحال، فالرّسولُ عليه الصّلاة والسّلام يقول:
” لا تشدُّ الرّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.”
سأل كنان: ماذا يعني شدُّ الرّحال؟
أجاب الشّيخ: شدّ الرّحال تعني العزمَ على السّفر، ونحن المسلمين نشدُّ الرّحالَ في الحجّ إلى عرفات والطّواف حول الكعبة المشرّفة، ونزورُ المسجدَ النبويَّ في المدينة المنوّرة، والمسجدَ الأقصى في القدس، وقبل احتلالِ القدس في حرب حزيران 1967م كان مئاتُ آلافِ الحجّاجِ المسلمينَ يزورونَ المسجدَ الأقصى، ويصلّونَ فيه، وهم في طريقِهم إلى الحجّ، أو أثناءَ عودتهِم إلى ديارهم، وذلك لفضلِ الصّلاةِ في هذه المساجد، فقد جاء في الحديثِ النّبويِّ الشّريف:” الصّلاةُ في المسجد الحرامِ بمائةِ ألفِ صلاة، والصّلاةُ في مسجدي بألف صلاة، والصّلاةُ في بيت المقدس بخمسمائة صلاة”.
سأل كنان: أيُّ مسجدٍ المقصود بـ “مسجدي هذا”؟
الشّيخ: المقصودُ هو المسجدُ النّبويُّ في المدينةِ المنوّرةِ.
شكرت المعلّمتان الشّيخَ على ما أوردَهُ من معلومات حولَ قبّةِ الصّخرة.
خَرَجَ التّلاميذُ مع مُعلمتيهم إلى ساحة المسجد، أخذوا يتراكضون ويلعبون، بعضُهم أخذ يتمعّنُ مسجدَ الصّخرةِ من الخارج، عندَ الجدارِ الشّرقيِّ للمسجد كان شابٌّ يحفرُ اسمَهُ بمسمارٍ فولاذيٍّ على حجارةِ الرّخامِ في حائط ِ المسجد، وعلى مسافةٍ قريبةٍ منه هناك شابّتان تكتبان اسميهما على الجدار، اقتربَ كنانُ وثلاثةٌ من زملائِه من الشّاب، وجدوهُ قد حفر بالمسمار اسمَهُ، ورسمَ قلبًا يخترقُهُ سهم، ثمّ اسمَ فتاةٍ، اختطفَ كنانٌ المسمارَ من يدِهِ وهو يقول:
هذا مكانٌ مقدّسٌ وتاريخيٌّ لا يجوزُ تشويهُهُ أو تدنيسُهُ.
التفتَ الشّابُّ إلى كنانَ غاضبًا مهدّدًا متوعّدًا وصاحَ قائلا:
لماذا خطفتَ مسماري بهذهِ الوقاحة؟
كنان: قلتُ لك بأنّ ما تقومُ به هو الحماقةُ بعينِها.
رفعَ الشّابُّ يدهُ وصفعَ كنان، هجم التّلاميذُ عليه دفاعّا عن زميلِهم كنان، ركضت المعلّمتان زينبُ وديمةُ لوقف المشاجرة، سبقهما رجلان من حرّاس المسجدِ كانا يغذّان الخطى باتّجاهِ المسجد القبليّ، أمسكَ الحارسان بالشّابّ، وقالا للتّلاميذ:
ما تقومون به عيبٌ لا يليقُ بقدسيّة المكان.
قال كنانُ للحارسين: تعالا وانظرا ماذا فعلَ هذا الأحمقُ بجدارِ مسجد الصّخرة؟
عندما رأى الحارسان الحفرَ على حجر الرّخامِ بالمسمار الفولاذيّ، سألا الشّابّ بلهجةٍ توبيخيّة:
هل تدركُ خطورةَ ما فعلتَ؟ هل تعي قدسيّةَ المكانِ؟ عمرُك أكثرُ من عشرين عامًا وتقومُ بالاعتداء على حرمةِ هذا المسجدِ العظيم؟
التفتَ الحارسان إلى التّلاميذ وقالا:
شكرًا لكم أيُّها الفتيانُ الرّائعون؛ لأنّكم أخذتم مسمارَ العارِ من هذا المعتدي الآثم، جميلٌ ما فعلتموه، وبوركتْ سواعدُكم التي تدافعُ عن المقدّسات.
شعرَ الشّابُّ بالخطيئة التي ارتكبها، ذابَ خجلا وقال:
أعتذرُ لكما يا عمّاه، وأعتذرُ لهؤلاء الفتيةِ الرّائعين، فما كنتُ أدركُ خطورةَ عملي الشّنيع، وأعدُكم بأن لا أفعلَ ذلكَ مرّةً أخرى، بل سأمنعُ من يفعلُ مثلما فعلتُ إذا رأيتُه.
أطلقَ الحارسان سراحَ الشّابِّ بعد أن توعّداه بالعقوبة إن عاد إلى خطيئتِهِ مرّة أخرى.
هربتِ الشّابّتان اللتان كانتا تكتبان اسميهما على حائطِ المسجدِ بحبرٍ أسود، رأى الحارسان ما خطّتْهُ الشّابّتان على جدار المسجد، فقال أحدُهما:
لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله، ومضى في طريقه؛ ليحضرَ نفطًا وليفة؛ كي يمحوَ ما كتبتْهُ تلك الفتاتان اللتان لا تعيانِ خطورةَ ما فعلتَا. في حينِ أخرجَ زميلُهُ من جيبه ورقةً وقلمًا، وسجّلَ اسمي الفتاتين وهو يردّد: “عدوٌّ عاقلٌ خيرٌ من صديقٍ جاهل.”
افتخرت المعلّمتان بتلاميذهما، جمعتا التّلاميذَ، شكرتاهم على وعيِهم وحكمتهِم وردعهِم لذلك الشّابِّ الطّائش، الذي اعتدى على حرمةِ المسجدِ العظيم.
وفي هذه اللحظةِ انطلقَ أذانُ الظّهرِ من مآذنِ المسجدِ الأقصى، أخذَ التّلاميذُ ينظرون إلى مآذن المسجد الأقصى، سألتهم المعلّمةُ ديمة:
من منكم يعرفُ عددَ مآذنِ المسجدِ الأقصى؟
نظر الطّلابُ بعضهم في وجوه بعضهم ، ولم يتكلّموا، ابتسم كنانُ وقال:
للمسجد الأقصى أربعُ مآذن.
أثنتْ عليه المعلّمتان وقالتا له:
أنت تلميذٌ نجيبٌ يا كنان.
عادت المعلّمةُ ديمة تسأل:
من منكم يعرفُ أسماءَ هذه المآذن؟ ومتى بُنِيَت؟
لم يعرفْ أحدٌ منهم الإجابةَ الصّحيحة، لكنّ كنانَ قال ضاحكًا وهو يشير إلى المآذن:
هذه مئذنةٌ وتلك مئذنةٌ وتلك وتلك…انظروا إليها.
ضحكت المّعلمتان زينبُ وديمةُ والتّلاميذُ من إجابة كنان، وقالت المعلّمة ديمة:
اذهبوا الآن لصلاةِ الظّهرِ في المسجدِ القبليّ، حيثُ يصلّي الرّجال، وأنا وزميلتي زينب سنصلّي في مسجدِ قبّةِ الصخرة، سنلتقي بعدَ الصّلاةِ هنا، وسأقولُ لكم أسماءَ مآذنِ المسجد.
جزءٌ من التّلاميذ لم يذهبوا للصّلاة، انتشروا في باحات المسجدِ مبهورين، ركضوا كأنّهم يسابقون الزّمنَ لاكتشافِ معالمِ المسجد.
بعدَ الصّلاةِ عادَ التّلاميذُ ومعلّمتاهم، وتجمّعوا عند الحائطِ الشّرقيِّ لمسجد قبّة الصّخرة، اقترحت المعلّمة زينب أن يذهبو للجلوس تحتَ قبّةِ الإمامِ الغزاليّ، وهناك قالت المعلّمةُ ديمة:
والآن سأتحدّثُ لكم عن مآذن المسجدِ الأقصى:
” للمسجد الأقصى أربعُ مآذن، بُنيت جميعُها بين عامي 677 هــ – 769 هــ في العهد المملوكي، حيثُ تَقعُ ثلاثةٌ منها في الجهة الغربيّةِ من المسجد، تبدأ من بابِ الغوانمة ثمّ بابِ السّلسلة ثمّ بابِ المغاربة، والمئذنة الرّابعة تقعُ في الجهة الشّماليةِ بين باب الأسباط وبابِ حطّة. ولا توجد مآذنُ في الجهتين الجنوبيّة والشّرقيّة، وأضافتْ وهي تشيرُ إلى المآذن:
– المئذنة الفخريّة: وهي الواقعة قرب باب المغاربة، فوق الطّرف الشّماليّ الغربيّ لجامعِ النّساء، وقد سُمّيت بذلك نسبةً إلى الشّيخ القاضي شرف الدّين بن فخر الدّين الخليليّ، ناظر الأوقاف الإسلاميّة في مدينة القدس في تلك الفترة، والذي أشرف على بنائها وعلى بناء المدرسة الفخريّة القريبة منها.
– مئذنة باب السّلسلة: تقعُ هذه المئذنةُ قُرْبَ بابِ السّلسلة، وأُطْلِقَ عليها أيضا منارةُ المحكمة، وتمّ بناؤها في عهد الأميرِ سيف الدّين تنكز النّاصريّ.
– مئذنة باب الغوانمة: وتقعُ في أقصى غرب باب الغوانمة، ويرجعُ بناؤها إلى السّلطان الملكِ حسام الدّين لاجين عام 697 هــ، وهناك من يُعيدُ بناءَها إلى العهد الأمويّ.
– مئذنة باب الأسباط: تقعُ هذه المئذنةُ بين بابي الأسباط وحطّة، وتُسمّى أيضا “مئذنة الصّلاحيّة”، وقد بُنيت في عهد السّلطانِ المملوكيّ الملكِ الأشرف شعبان.
بعد ذلك قالت المعلّمةُ ديمة:
دعونا الآنَ نقومُ بجولةٍ سريعة، لنرى أبوابَ المسجدِ الأقصى، وبعدها سنصلّي صلاةَ العصر في المسجد، ثمّ نستقلُّ الحافلة؛ لنعودَ إلى مدرستنا في جبل المكبّر.
سارت المعلّمةُ ديمةُ أمام التّلاميذ، بينما سارت المعلّمةُ زينبُ خلفهم.
قالت المعلّمةُ ديمة:
عددُ بوّاباتِ المسجد الأقصى خمسةَ عشرَ بابا، منها خمسٌ مغلقة.
أمّا الأبوابُ المفتوحةُ فهي كالآتي، وسنمرّ من أمامها واحدًا تلو الآخر، وسنبدأ بالأبواب الواقعة في الجهة الشّماليّة وهي:
– باب الأسباط.
– باب حطّة.
– الباب العتم: ويعرف هذا الباب أيضا بتسمياتٍ أخرى، هي باب شرف الأنبياء، وباب الدواداريّة، وباب فيصل.
وأمّا الأبوابُ الواقعةُ في الجهة الغربيّةِ فهي على التّرتيب من الشّمال إلى الجنوب كما يلي:
– باب الغوانمة: ويُعْرَفُ أيضا باسم باب درجِ الغوانمة وباب الخليل.
– باب النّاظر.
– باب الحديد: وقد عُرِفَ أيضًا بباب أرغون، نسبةً للأمير أرغون الكامليّ الذي قام بإعادة بنائه، ومعنى كلمة أرغون بالتّركيّة الحديد.
– باب القطّانين.
– باب المطهرة: وقد عُرِفَ هذا البابُ أيضًا باسم باب السّقايةِ وباب المتوضّأ .
– باب السّلسلة: وهو مكونٌ من بوابتي السّلسلة والسّكينة.
– باب المغاربة: وقد عُرِفَ هذا البابُ أيضًا باسم بابِ حارةِ المغاربة، وباب البراق وباب النّبيّ.
أمّا الأبوابُ المغلقةُ وتقعُ في الجهة الجنوبيّة:
يقومُ في السّور الجنوبيّ للأقصى ثلاثةُ أبوابٍ مغلقة، وتمّ إغلاقُها عندما حرّرَ صلاحُ الدّين الأيوبيّ القدس من الفرنجة، وذلك لحماية أمنِ الحرمِ الشّريفِ من غزوات الفرنجةِ المتكرّرة .
وهذه الأبواب المغلقة هي:
– الباب المنفرد.
– الباب الثّلاثيّ.
– الباب المزدوج.
وأمّا الأبوابُ المغلقةُ الواقعةُ في الجهة الشّرقيّةِ فهي بابان:
– الباب الذّهبيّ: وقد عُرف هذا البابُ في المصادر التّاريخيّة الإسلاميّة المبكّرة باسم باب الرّحمة وباب التّوبة، وهناك قبرا الصّحابيّين الجليلين: شدّاد بن أوس وعبادة بن الصّامت رضي الله عنهما.
– باب الجنائز: سُمِّي كذلك لخروج الجنائز منه قديمًا إلى مقبرة الرّحمة، بعد الصّلاة عليها في المسجد.
بعدَ صلاةِ العصر اقترحت المعلّمةُ زينبُ أن يخرجوا من باب الأسباط، للابتعاد عن زحمة أسواقِ المدينة، وافقتْها المعلّمةُ ديمة مربيّةُ الصّف، عندما خرجوا من باب الأسباطِ هاتفتِ المعلّمةُ ديمة سائقَ الحافلة، وطلبتْ منه أن يأتيَهم على الشّارع العامِّ قبالةَ باب الأسباط.
وقف كنانُ أمامَ لوحةٍ موجودةٍ على الواجهة الجنوبيّةِ الدّاخليّةِ للباب، وتبلغُ مساحةُ هذه اللوحة 80 x 40 سم. حاول قراءتَها لكنّهُ لم يفهمْ منها شيئا، استعان بمعلّمته زينب، فأخرجتْ كتيّبًا من حقيبتِها وقرأتْ:
” هذه اللوحةُ مكتوبةٌ بخطّ الثّلثِ العثمانيِّ وحالتُها جيّدة، وإن كان السّطرُ الثّاني يعاني من تآكلِ بعضِ الحروف.”
فقال كنان: هذه حروفٌ عربيّةٌ يا معلّمتي.
ابتسمت المعلّمةُ زينب وقالت:
العثمانيّون كتبوا لغتَهم بالحروف العربيّة، وتحوّلوا إلى الحروف اللاتينيّة، بعد هدمِ دولةِ الخلافةِ العثمانيّةِ عام 1924م، وبعد أن تبنّتْ تركيّا العلمانيّةَ في دستورها.
أمّا ترجمةُ هذا النّصِّ إلى العربيّةِ فهي:
“أمر بإنشاء هذا السّورِ المبارك مولانا السّلطانُ سليمانُ بن السلطان سليم خان.. خلّدَ اللهُ ملكَه في سنة 945 هجريّة.”
وأضافتْ: “ومن الأسماء المشهورةِ لهذا الباب: باب الأسود، ويعود هذا لوجود أربعة سباع، اثنين شمال عقد الباب واثنين جنوبه. وهذه السّباعُ في الواقع هي “شعارُ” السّلطانِ المملوكيّ بيبرس (658-676 هـ /1260-1277 م)، وهذا الشّعارُ كان يُنقشُ على ممتلكات الظّاهرِ بيبرس من عمائرَ ونقودٍ، وأدواتٍ، كما كان جاريًا في العصرِ المملوكيّ.
وقد نُقِلتْ هذه السّباعُ من أنقاض الخانِ الذي أسّسه الظّاهرُ بييرس في ظاهر القدس، إلى الجنوب الغربيِّ من باب الخليل، حيثُ محطّة سكّة الحديد القديمة.
نظرَ التّلاميذُ إلى الأسود المنحوتةِ على الباب بإعجابٍ شديد، التقطت المعلّمةُ لهم صورًا جماعيّةً تذكاريّة.
وفي أثناء دخولِهم الحافلةَ سألَ كنانُ المعلّمةَ ديمة مربّية صفّه:
متى سنعودُ إلى المسجد الأقصى مرّةً ثانية، فهناك أشياءٌ كثيرةٌ لم نرها؟
ابتسمت له المعلّمة ولم تُجِبْهُ.
في الحافلة اتّفقَ كنانُ، وزميلاهُ عبدالله وجمال أن يقضيا يومي العطلة في الأسبوع “الجمعة والأحد” في القدس، يزورون مساجدَها، كنائسَها، زواياها، تكاياها، أديرتَها، أسواقَها ومعالمَها التّاريخيّة.
قال جمالُ: القدسُ القديمةُ مدينةُ صغيرة، نستطيعُ زيارةَ كلّ شيء فيها خلالَ يومٍ واحد.
ردّ عليه كنانُ ساخرًا: وكيف نستطيع ذلك يا جمال ما دمنا لم نستطعْ مشاهدةَ كلِّ شيءٍ خلالَ يوم في المسجدِ الأقصى وحدَه؟
ابتسمت المعلّمة زينب التي كانت تستمعُ لحديثهم وقالت:
كلُّ حجرٍ في القدس له تاريخ، وكلُّ بنايةٍ شاهدٌ على حضارة الآباء والأجداد، فالقدسُ مهدُ الدّياناتِ السّماويّة، وهي تزخرُ بكنوزِ حضارةٍ متعدّدةِ الجوانب. ومَنْ يُريدُ زيارتَها زيارةً فاحصةً متمعّنةً سيكلّفه ذلك سنواتٍ وليس أيّامًا.
قال كنان: سنزورُها مرّةً أخرى يومَ الأحدِ القادم، أيُّ مكانٍ تنصحيننا أن نزورَهُ يا معلّمَتي؟
ردّتِ المعلّمةُ زينب: اليوم زرتم المسجدَ الأقصى، وأنصحُكم في المرّة القادمةِ أن تزوروا كنيسةَ القيامة، فهي من أشهرِ الكنائسِ المسيحيّةِ في العالم.
شكرها التّلاميذُ الثّلاثةُ على معلوماتها، وعلى النّصيحة التي قدّمتْها لهم.
عاد التّلاميذُ إلى بيوتهم فرحين، دخل كنانُ البيتَ سعيدًا مختالا، طرحَ السّلامَ على والديه وعلى شقيقتِه بنان وشقيقه سنان أيضًا. وقبلَ أن يجلسَ قال:
هذا اليومُ قضيناه في المسجد الأقصى، صلّينا الظّهرَ والعصرَ فيه، عرفنا معلوماتٍ جديدةً عنه.
أمّ كنان مندهشة: وهل هناك معلوماتٌ جديدةٌ عن المسجد الأقصى؟
كنان: للمسجد الأقصى تاريخٌ طويلٌ حافلٌ لا يعلمُه كثيرون، وقد شرحتْ لنا المعلّمةُ بعضًا منه.
التفتَ كنانُ إلى شقيقته بنان وسألها:
هل تعرفين المسجدَ الأقصى يا بنان؟
بنان: نعم أعرفُهُ، وقد زرتُه أكثرَ من مرّةٍ مع والدتي، وأبي وجدّتي، وصلّيتُ فيه أيضا.
كنان: في أيّ مكان صلّيتِ؟
بنان: صلّينا في مسجد الصّخرةِ المشرّفة؟
كنان: هل تعرفين من بنى مسجدَ الصّخرة؟
بنان: هذا مسجدٌ قديمٌ لا أعرف من بناه.
قال كنان بفخر: بناه الخليفةُ الأمويُّ عبد الملك بن مروان.
سألتْ أمُّ كنان وهي سعيدةٌ بمعلومات ابنها:
من قال لك ذلك يا كنانُ؟
كنان: هذه معلومةٌ قالتْها لنا معلّمتي ديمة، وأنا أريدُ أن أعرفَ كلَّ شيءٍ عن مدينتي القدس، فهي مدينةٌ عظيمةٌ مقدّسة.
قال له أبوه: جميلٌ أن تهتمَّ بتاريخ القدسِ يا كنان، وفي مكتبتِنا الصّغيرةِ كتبٌ تاريخيّةٌ كثيرةٌ عن القدس، بإمكانك الاطلاع عليها.
وقف كنانُ أمام مكتبتِهم البيتيّة، اختارَ كتابَ”المفصّل في تاريخ القدس لعارف العارف” حملَهُ وقال:
ابتداء من هذه الليلة، وبعد أن أنتهي من واجباتي المدرسيّةِ، سأقرأُ هذا الكتاب، وعندما أنتهي منه، سأقرأُ غيرَهُ، والتفتَ إلى والديه وقال:
في أيّام العطلةِ الأسبوعيّةِ سنذهبُ أنا وعبدُالله وجمالُ لزيارة بعض معالمِ القدس، فهذه المدينةُ تسحرُ من يدخلُها.
سأله أبوه: وماذا ستزورون بعد زيارتِكم للمسجد الأقصى؟
كنان: سنزورُ كنيسةَ القيامةِ يومَ الأحدِ القادم.
أبو كنان: أحسنتُم يا بنيّ، فالقدسُ مهدُ الدّياناتِ السّماويّة.
نام كنانُ ليلتَهُ يحلمُ بالمدينة القديمة، قارنَ بينها وبين المدنِ الأخرى التي زارها من قبل، صحيحٌ أنّه فرح كثيرا برؤيته للبحر عندما زار يافا، وحيفا، سحرَهُ المكانُ عندما وقفَ على قمّةِ جبلِ الكرملِ بحيفا، وتأكّدَ بأنّ عكّا لا تخافُ هديرَ البحر، عندما رأى أمواجَ البحرِ تتكسّرُ عند أقدامِ المدينة، لكنَّ القدسَ تأسرُ قلبَ من يدخلُها، فسورُها آياتٌ في الهندسة المعماريّة، وقلبُها ينبضُ بعبَقِ تاريخٍ لا يكذب. أمّا أحشاؤها فهي خليطٌ من حضاراتِ مَنْ تعاقبوا في السّيطرةِ عليها.
عندما وقف أمامَ سورِ المدينة، ورأى القلاعَ الصّخريَّةَ في مداميكها السّفليّة، والتي تزنُ الواحدةُ منها بضعة أطنان، تعجّبَ من كيفيّةِ بناءِ هذه الصّخور، فكيف نقلوها؟ وهل كانت رافعاتٌ وجرّافاتٌ زمَنَ بناءِ هذا السّورِ العظيم؟ أرهقتْهُ الأسئلةُ الكثيرة، فسألَ جدَّهُ عنها عندما رأى السّورَ للمرّةِ الأولى قبل ثلاثِ سنوات، وقتئذٍ اصطحبَ الجدُّ “كنان” معه للصّلاة في المسجد الأقصى.
بعد أن عادوا إلى البيت سألَ كنانُ جدَّهُ:
كيف بنوا المداميكَ الأولى لسور القدسِ يا جدّي، فهي حجارةٌ ضخمة؟
أجاب الجدُّ بلهجة الواثق:
هذا السّورُ بناه يا كنانُ النّبيُّ سليمان -عليه السّلام-، وقد استعان بالجنّ في نقلِ الحجارةِ الضّخمةِ وبنائِها.
عاد كنانُ يسأل: من هم الجنُّ يا جدّي؟
الجدّ: مخلوقاتٌ يروننا ولا نراهم، ولهم قوّةٌ خارقة.
لا يزالُ كنانُ يذكرُ جوابَ جدّهِ والخوفُ يملأُ قلبَهُ، واحتار بين ما سَمِعَهُ من جدّهِ، وبين ما سمعهُ من معلّمتِه ديمة، التي قالتْ بأنّ السّلطانَ العثمانيَّ سليمانَ القانونيَّ هو من بنى السّورَ قبل حوالي خمسمائة سنة. فكّرَ كثيرًا بالموضوع، وما يهمُّهُ هو الإجابة الصّحيحة، حسم الأمرَ بأنّه سيسألُ معلّمةَ التّاريخ، فمن المؤكّد أنّها تعرفُ المعلومةَ الصّحيحة، أرهقتْهُ الأسئلةُ ونام وهو يفكّرُ بالقدس وأسرارِها.
استيقظَ مذعورًا على صوتِ مؤذّنِ المسجد، وهو يؤذّن لصلاة الفجر، فقد رأى في المنام رجالا عمالقة، يحملون القلاعَ الصّخريّةَ بأيديهم دونَ عناء، يبنون سورَ القدسِ بخفّةٍ ورشاقة، لم يقتربْ منهم فهم مخيفون، لكنّهُ رأى فيهم ما سَمِعَهُ من جدّه حولَ بناءِ القدس، تعوّذَ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسملَ وحوقل، شربَ ماءً فقد جفّ ريقُهُ من هولِ ما رأى، جلسَ في سريرِه يلتقطُ أنفاسَهُ التي أرهقَها الحلم، وقرّرَ بأن لا غنى عن سؤال معلّمةِ التّاريخ؛ ليتأكّدَ من المعلومةِ الصّحيحةِ حول من بنى سورَ القدس؟
في صباح اليومِ التّالي، وقبل أن يُقرَعَ الجرسُ إيذانًا ببدءِ الحصّةِ الأولى، ركضَ كنانُ إلى معلّمة التّاريخِ سميرة فور دخولها ساحةَ المدرسة، طرح عليها تحيّةَ الصّباحِ وسأل:
من بنى سورَ القدسِ يا معلّمتي؟
أجابتْهُ المعلمّةُ سميرة وهي تبتسمُ: بناه السّلطانُ العثمانيُّ سليمانُ القانونيّ.
كنان: لكنَّ جدّي يقولُ بأنَّ النّبيَّ سليمانَ هو من بناهُ بمعاونةِ الجنّ!
المعلّمة ضاحكة: ما قاله جدُّك يا كنانُ أساطيرُ شعبيّة حاكها الخيالُ الشّعبيّ.
كنان: هل الأساطيرُ الشّعبيّةُ معلومةٌ صحيحةٌ أم خيال؟
المعلّمة: نعم إنّها خيال.
شكر كنانُ معلّمتَهُ وذهبَ إلى صفِّه عندما قُرِعَ الجرسُ فَرِحًا بالمعلومة الصّحيحة.
*****
بعد الدّوامِ المدرسيِّ صمّمَ كنان على جمع معلوماتٍ عن كنيسة القيامة؛ ليعرفَ عنها بعضَ المعلوماتِ قبل أن يزورَها برفقة صديقيه عبدالله وجمال.
قرأ:” تحتوي كنيسةُ القيامةِ على قبر السّيّدِ المسيح – حسب المعتقدِ المسيحيّ- كما تحتوي على قبر يوسف الرّاعي وأسرته، بالإضافة إلى قبور أخرى، تضمُّ رفاتَ بعضِ القادةِ الصّليبيين.
وأوّلُ من بنى الكنيسةَ كانت الملكة “هيلانة” عام 335م، بعد اكتشافِ الجلجثة، وهي مكان الصّخرة التي صُلِبَ عليها السّيّدُ المسيح – كما يؤمن المسيحيّون- وسمّيتْ كنيسةُ القيامةِ بهذا الاسم نسبةً إلى قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثّالث من موتة على الصّليب، بحسب العقيدة المسيحيّة.
وفي عام 614م، احترقتِ الكنيسةُ على يد الفرس، لِيُعيدَ بناءَها الرّاهبُ “مود ستوس” بعد عامين من الحريق، لكنها تعرّضت لحريق آخر في عهد “الإخشيدي” سلطان مصر 965م. وتمّ إعادةُ إعمارِها عام 980م، ثمّ هُدِمَتْ بكاملها، وبُنِيَتْ مرّةً أخرى. حتّى جاء الغزاةُ الفرنجة، وأجرَوْا عليها التّرميماتِ اللازمة، ووحّدوا أبنيتَها ومعابِدَها، وجمعوها في بناية واحدة.
ولم يتعرّضْ لها القائدُ صلاحُ الدّين الأيّوبي عندما حرّرَ القدسَ من الفرنجة، بل حافظَ عليها، واحترمَ مكانتَها الدّينيّة.
وفي عام 1808م، أتى عليها حريقٌ كبيرٌ، دمّرَ جوانبَ فنّيّةً عديدة، حيثُ رُمِّمَتْ فيما بعد، وفي عام 1834م ضربها زلزالٌ كبيرٌ، فيما تعهّدتْ فرنسا وروسيا آنذاك بتمويل نفقاتِ تعميرِها، على أن يتمَّ ذلك تحتَ إشرافِ السّلطاتِ العثمانيّة. وتبع ذلك زلزالٌ آخر عام 1927م أثّرَ على أساساتِها؛ ممّا حدا بسلطات الانتدابِ البريطانيِّ أن تضعَ دعاماتٍ حديديّةً وخشبيّةً لحمايتها من الكوارث الطبيعيّة.”
طبع كنانُ هذه المعلوماتِ التّاريخيّةَ على ورقة؛ لِيُطلعَ صديقيه عبدالله وجمال عليها.
صباح الأحد استيقظ كنانُ وعبدُالله وجمالُ مبكّرين، التقوا على قمّة الجبلِ عند السّاعةِ الثامنةِ كما اتّفقوا من قبل، وسيواصلون طريقَهم إلى مدينة القدس لزيارة كنيسةِ القيامة، قال جمال:
ما رأيكم أن نذهبَ إلى القدس مشيًا على الأقدام، فهناك أشياءُ جميلةٌ سنراها في الطّريق؟
ردّ كنانُ متحمّسا: هذه فكرةٌ رائعة.
قال عبدالله: هيّا بنا.
ساروا باتّجاه حيّ البقعة، مرّوا بقصر المندوبِ السّامي، الذي يُستعملُ منذ رحيلِ البريطانيّين عن فلسطين في منتصف شهر أيّار 1948، مقرّا رئيسا لقوّات الطوارئ الدّوليّة في الشّرق الأوسط، وقد بُني عام 1922م بعد أن كان المندوبُ السّاميُّ البريطانيُّ يقيم في قصر الامبراطورةِ الألمانيّةِ أوغستا فكتوريا على قمّة جبل الزّيتون، واستُعملَ القصرُ بعد رحيلِ المندوبِ السّامي عنه مستشفى يحملُ اسمَ الامبراطورة الألمانيّة، ويسمّيه العربُ “مستشفى المطّلع.”
وعندما بُنيَ قصرُ المندوبِ السّامي كتب الشّاعرُ عبدُ الكريم الكرميّ “أبو سلمى” قصيدتَهُ الشّهيرةَ التي يقولُ فيها:
جبلَ المكبِّر طال نومُكَ فانتبه قم واسمَعِ التّكبيرَ والتّهليلا
جبلَ المكبِّر لن تلين قناتُنا حتى نحطّمَ فوقك الباستيلا
قبل أن يصلوا شارع القدس – بيت لحم، اتّجهوا يمينًا، على يمينهم سورٌ مرتفعٌ يمتدُّ أكثرَ من مائتي متر، ينثني باتّجاه حيِّ الثّوري، وداخل هذا السّور ديرٌ ألمانيّ، كان فيه مستشفى قبلَ النّكبة.
على يمين طريقِ القدس- بيت لحم تقومُ أبنيةٌ عربيّةٌ فاخرة، هُجّر مالكوها منها عام النّكبة، وسكنها مهاجرون يهود، عندما وصلوا محطّةَ القطارِ أشرفوا على سور المدينةِ المقدّسةِ من جهتي الغربِ والجنوب، هناك التقوا بابن بلدتهم الحاجّ إبراهيم، الذي أشارَ إلى بنايةٍ لافتةٍ بزخرفتِها وهندستِها الفريدة، تمتدُّ عندَ نهايةِ السّورِ الغربيِّ من الجهةِ الجنوبيّة، أشارَ إليها الحاجُّ إبراهيمُ وقال:
هذه كليّةُ صهيون التي درستُ فيها أربعَ سنواتٍ قبل النّكبة، واصلوا طريقَهم حتّى عبروا الجسرَ المقامَ فوقَ وادِ الرّبابة، الذي يفصلُ بين جبلِ صهيون وحيِّ الثّوريّ، أشار الحاجُّ إبراهيمُ إلى يساره وقال:
” هذه بركةُ السّلطانِ سليمان القانونيّ ( طولها 170 مترًا، عرضها 67 مترًا، وعمقها 10 أمتار)، وقد حوَّل الاحتلالُ الموقعَ بأكمله إلى قاعةٍ مفتوحةٍ كبيرةٍ كما ترون، نصبَ فيها الكراسيَ والمنصّات، وينظّمُ فيها خلالَ أيامِ السّنةِ الحفلاتِ الموسيقيّةَ الصّاخبةَ والرّاقصة.”
ومن فوقها جورةُ العنّاب، حيثُ كانت الحسبةُ وسوقُ الماشيةِ قبل نكبة العام 1948م. كانت الحياةُ هنا قبل النّكبة، وكان امتدادُ القدس العمرانيّ يطلّ جنوبًا على مدينة بيت لحم.
ذُهِلَ الفتيانُ من المعلوماتِ القيّمةِ التي سمعوها من الحاجّ إبراهيم، وواصلوا الطّريقَ معه باتّجاه بابِ الخليل.
سأله كنان: إلى أين أنت ذاهبٌ يا عمّ؟
– إلى المسجد الأقصى، أصلّي الظّهرَ والعصرَ في المسجد، وأعودُ طريقي مشيًا على الأقدام كما جئتُ؟
– لماذا لا تأتي وتعودُ بالحافلات بدلًا من المشي؟
ابتسم الحاجّ إبراهيم ابتسامةً عريضةً وقال:
“الثّوابُ على قَدْر المشقّة” يا أبنائي، عدا أنّ في المشيِ إلى القدس فوائدَ كثيرةً، فعندما أُقبلُ على المدينة أشعرُ بالسّعادةِ وأنا أشمُّ عبيرَها الفوّاح، تدبُّ القوّةُ في جسدي، وأستعيدُ أيّامَ الشّباب، وعندما أغادرُها يحفّني هذا العبيرُ، كأنّه يحثُّني على العودة سريعًا. فما رأيُكم أن تذهبوا معي إلى المسجد الأقصى؛ لتتذوّقوا حلاوةَ قدسيّةِ المكان؟
ردّ عبدُالله عليه: لقد كنّا قبل ثلاثةِ أيّامٍ في المسجد الأقصى، وهذا اليومُ سنذهبُ لزيارة كنيسةِ القيامة.
قال الحاجّ إبراهيم: أنتم فتيةٌ رائعون، لقد زرتُ كنيسةَ القيامةِ عشراتِ المرّاتِ أيّام شبابي.
قبلَ دخولِهم القدس القديمة من باب الخليلِ بحوالي خمسين مترًا، قال لهم الحاجُّ إبراهيم:
انظروا إلى يمينكم، هل ترون تلك المِئذنةَ التي تُطِلُّ من خلف السّور، إنّها مئذنةُ مسجدِ “القشلة”.
كنان: ما القشلةُ يا عمّ؟
الحاجّ إبراهيم: “القشلةُ كلمةٌ تركيّةٌ تعني “المشتى” أي المكان الذي يقي الإنسانَ من تقلّباتِ الجوّ، ثم خُصِّصتْ لإقامة الجنودِ وقتَ السّلم، أي ما معناه الثّكنة العسكريّة، أو المعسكر كما يُطلقُ عليه الآن. هذه الثّكنةُ احتضنتْ في داخلها آنذاك مئاتَ الجنودِ والمسؤولين عنهم ومستودعاتهم، والقشلةُ في القدس استُعملَ جزءٌ منها كسجنٍ منذُ بنائها في بدايات القرنِ التّاسع عشر، وحتّى يومنا هذا.”
دخلوا بابَ الخليل من الشّارع الذي تسيرُ فيه السّيارات، فهم قادمون من جهة الجنوب، انتبه كنانُ إلى أنّ هذا المدخلَ ليس بابًا، بل هو قَطْعٌ عموديّ للسّور، وأنَّ البابَ على بعد أمتارٍ منه، ومفتوح باتّجاه الشّمال الغربيّ، فقال للحاجُّ ابراهيم:
انظر يا عمّ، هذا مدخلٌ غيرُ منطقيّ، وهو ليس بابًا، البابُ هو ذاك، الذي يحملُ زخرفةَ أبوابِ القدسِ المعهودة.
بُهِتَ الحاجُّ إبراهيمُ من ملاحظة كنان، لم يجدْ لها تفسيرًا، جلس يرتاحُ بجانب سورِ المدينةِ خارج باب الخليل، بينما كان الصّبيةُ يلتقطون صورًا لهم أمام الباب، جلسوا بجانب الحاجِّ إبراهيم، وطلبوا من أحد المارّةِ أن يلتقطَ صورةً جماعيّةً لهم بـ “الكاميرا” التي يحملُها كنانُ، بجانبهم وقفتْ مجموعةُ سُيّاحٍ يرافقُهم دليلٌ عربيّ، يشرحُ لهم عن الباب، انتبه إليه الحاجُّ إبراهيم، فهو يجيدُ الإنجليزيّةَ التي تعلّمَها زمنَ الانتدابِ في المدرسة، وعندما عَمِلَ في فندق الملك داود، فنادى على الفتيان وقال لهم:
سأُترجمُ لكم ما يقولُه الدّليلُ السّياحيُّ عن هذا الباب، أنصتوا ولا تتكلّموا، وبدأ يُترجِم:
لاحظوا أنّ منظرَ هذا البابِ يختلفُ عن غيره من أبوابِ القدسِ القديمة؟ “عندما زار الإمبراطورُ الألمانيُّ غليوم القدسَ في شهر أكتوبر عام 1898م بصحبة زوجته أوغستا فكتوريا…بقصدِ الحجِّ وتدشين كنيسة القيامة بعد إعادة ترميمها على أيدي “المبشّرين الكاثوليك الألمان”…أعدّوا لهما دخولَ المدينةِ على عربة فاخرةٍ تجرُّها الخيولُ…وكان البابُ لا يتّسعُ لدخول العربة…فهدموا السّورَ من لِصْقِ البابِ إلى أعلاه، فبدا ولا يزالُ مشوّهًا كما ترون.”
وعلى بعدِ بضعةِ مئاتٍ من الأمتار من هنا، وعند الزّاويةِ الشّماليّةِ للسّور هناك البابُ الجديد، “الذي اكتسبَ اسمَه هذا؛ لأنّه جديدٌ نسبيًّا، ويُعرَفُ أيضا بباب عبدِالحميد، حيثُ أُنشئَ عام 1886 ميلاديّة في زمن السّلطانِ عبدالحميد الثّاني، بمناسبة زيارةِ الإمبراطورِ الألماني فيلهلم الثّاني إلى القدس. والسّببُ كان أنّ مضيفَهُ أراد تكريمَهُ حتّى يصلَ بموكبه إلى كنيسة القيامة، ولم تكنْ أيٌّ من البوّابات تُمكّنُ العربةَ التي تجرُّها الخيولُ من الوصول مباشرةً إليها.”
تنهّدَ الحاجُ إبراهيمُ عندما عرفَ حقيقةَ ما جرى لسور القدس، وقال:
هاتان جريمتان من الجرائم التي ارتُكِبَتْ بحقّ سورِ المدينةِ التّاريخيّ، لا يمكنُ التّكفيرُ عنهما.
استأذن الفتيانُ منه، وواصلوا طريقَهم إلى كنيسة القيامة، عند مدخلِ الكنيسةِ قرأ كنانُ وزميلاه المعلوماتِ التي قرأها وطبعَها عن كنيسة القيامة، بعدها دخلوا الكنيسةَ واثقين من صحّةِ معلوماتهم، رأوا أناسَا مختلفي الألوانِ واللّغات يتجوّلون داخلَ الكنيسة، لفتَ انتباهَهم عددٌ من النّساء والرّجال جاثين على ركبهم، يصلّون ويعملون شارةَ الصّليبَ الثّلاثيّة، لم يفهموا شيئَا سوى أنّ هؤلاء يصلّون، سألوا راهبًا مرّ بجانبهم:
ما هذا يا أبانا؟
ردّ الرّاهبُ بتواضع: هذا هو القبرُ المقدّس.
عبدالله: من يرقدُ في داخل هذا القبر؟
ردّ الرّاهب دون أن يتوقّف: هذا قبرُ السّيّدِ المسيح.
قالها الرّاهبُ ومضى في سبيله، بينما احتار الصّبيةُ فيما سمعوه، وأخذوا يتهامسون بأنّ المسيح-عليه السّلام لم يُصلبْ، اقترب منهم رجلٌ في منتصف العمر، يرتدي بدلةً أنيقة، ويضعُ ربطةَ عنق، سألهم:
هل أنتم مسلمون أم مسيحيّون؟
ردّ عليه عبدُالله: نحن مسلمون والحمد لله.
فقال لهم: المسيحُ -عليه السّلام- لم يُصلبْ ولم يُقتلْ، يقول تعالى في القرآن الكريم:
بسم الله الرّحمن الرّحيم “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.” صدق الله العظيم(سورة النّساء).
قال كنان: شكرًا لك يا عمّ، نحن مسلمون والحمد لله، وجئنا لزيارة الكنيسة كما جئتَها أنت، لأنّها تُمثّلُ معلمَا دينيَّا وحضاريًّا هامًّا في مدينتنا القدس، ولم نأتِ لنتعلّمَ المسيحيّةَ مع أنّنا نحترمُها ونحترمُ أتباعَها، وقد قال الله تعالى:
” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”.
ابتسم لهم الرّجلُ وقال: وفّقكم الله.
واصلوا جولتَهم في الكنيسة، تمعّنوا في اللوحات والزّخارفِ الموجودةِ فيها، وخرجوا مبهورين منها.
وقفوا في الباحة أمامَها ينظرون مسجدَ عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه- القائم قبالتها، قرّروا زيارة المسجد، وهناك سألوا الإمامَ عن تاريخ هذا المسجدِ فقال لهم:
“بعد أن استلمَ عمرُ بن الخطّاب مفاتيحَ بيت المقدس من البطريرك صفرونيوس خطب في أهل بيتِ المقدسِ قائلا:
“يا أهل ايلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا.”
” ثم دعاه البطريركُ لتفقّدِ كنيسةِ القيامة، فلبّى دعوتَه، وأدركتْهُ الصّلاةُ وهو فيها، فالتفتَ إلى البطريرك وسأله:
أين أصلّي؟
فأجاب البطريرك: “مكانك صلِّ.”
فقال عمر: ما كان لعمرَ أن يصلّي في كنيسة القيامة؛ فيأتي المسلمون من بعده ويقولون هنا صلّى عمر، ويبنون عليه مسجدًا.
وابتعد عنها رميةَ حجرٍ وفرشَ عباءتَهُ وصلّى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على ذلك المكانِ هذا المسجدَ المسمّى بمسجد عمر. وقد تمَّ بناؤه في عهد الدّولةَ الأيّوبيّة في عهد الأفضل بن صلاح الدّين عام 1193م، في المكان الذي صلّى فيه عمرُ بن الخطاب أثناء زيارتِهِ للقدس، أي في الجهة الجنوبيّةِ من ساحة كنيسةِ القيامة، وأُعيدَ ترميمُه في العصر العثمانيّ.”
خرجوا من مسجد عمر وذهبوا إلى كنيسة المخلّص” وهي كنيسة لوثريّة بروتستانتيّة في حارة النّصارى بالقدس القديمة. مشهورة ببرجها العالي المطلّ على كافّة حارات المدينة واتّجاهاتِها.”
تجوّلوا قليلا في الكنيسة ثمّ صعدوا برجَها…بدت المدينةُ القديمةُ لوحةً من الفسيفساء يصعبُ وصفُها، لكنّها تسلبُ لبَّ النّاظرِ إليها…انتبهوا إلى البنايات الاستيطانيّةِ المقامة في حارتي الشّرفِ والمغاربةِ غربَ حائط ِالبراق…رأوها غيرَ متوافقةٍ مع جماليّات تاريخِ المدينة العريقة، فسألوا عن ماهيّة هذه الأبنية؟
أجابهم شابٌّ في الثّلاثينات من عمره، كان واقفًا قريبًا منهم:
هاتان حارتان قامتْ إسرائيلُ بهدمهما قبل أن يسكتَ هديرُ المدافع في حرب حزيران 1967م، هدمتْ فيهما ألفين واثني عشر بيتًا تاريخيّا، من ضمنها مساجدُ ومدارس، وطردت مالكيها الفلسطينيّين منها؛ لتبنيَ هذه البيوت النّاشزة؛ لتكونَ حيًّا استيطانيًّا يهوديًّا في قلب المدينةِ القديمة.
شعر الفتيانُ بالحزن على المدينة التي تُسرقُ من أصحابها.
أشغل كنانُ “كاميرته” في التقاط الصّور من الاتّجاهات كافّة…طاب له الوقوف… في أعلى البرج…سأل عن الحدّ الفاصلِ ما بين القدسِ الشّرقيّةِ والقدسِ الغربيّة…أشار الشّابُّ إلى الغرب وقال:
القدسُ القديمةُ بكاملها من ضمن القدسِ الشّرقيّة، الّتي وقعتْ تحت الاحتلالِ في حرب حزيران 1967م، أمّا القدسُ الغربيّةُ فتقعُ خارجَ سورِ المدينة من الجهة الغربيّة.
نزلوا درجَ البرجِ الذي يتلوّى كأفعى هرمة، لفت انتباهَهم وجودُ قاذوراتٍ يُلقي بها الزّائرون في الدّرج، فاستاؤوا من ذلك، وأكّدوا بأنّ النّظافةَ من الإيمان، وأنّ الحفاظَ على نظافة الأماكنِ المقدّسةِ فرضُ عينٍ على كلّ أنسان. ساروا باتّجاه سوقِ خانِ الزّيت، حتّى وصلوا بابَ العمود، ومن هناك إلى حافلة القريةِ التي أقلّتهم عائدين إلى بيوتهم.
في الحافلة اتّفقوا أن يذهبوا يوم الجمعةِ القادمِ إلى المسجد الأقصى.
صباح يوم الجمعة استيقظوا مبكّرين، التقوا عند قمّةِ الجبل في السّاعة التّاسعةِ صباحا، تشاوروا فيما بينهم حولَ كيفيّةِ وصولهم إلى المسجد الأقصى، فقال جمال:
– نذهبُ مشيًا على الأقدام في الطّريق نفسه الذي سلكناه يوم الأحد الماضي.
قال عبدُالله: بل نذهبُ عن طريق حيِّ الصّلعة، ونصعدُ الجبلَ إلى راس العامود، ومن هناك إلى كنيسة الجثمانيّة فباب الأسباط.
قال كنان: بل نذهبُ من هنا إلى حيّ الفاروق، وننزلُ الجبلَ إلى عين اللوزة في سلوان، ونواصلُ طريقَنا إلى عين سلوان “التّحتا” ثم نصعدُ إلى باب المغاربة، ومنه ندخلُ إلى المسجد الأقصى.
ردّ عبدُالله: لن نستطيعَ دخولَ الأقصى من باب المغاربة، فالبابُ تحتَ سيطرةِ شرطةِ الاحتلال، التي خصّصته لدخول المستوطنين فقط.
تجادلوا حولَ ذلك، وفي النّهاية استقرَّ بهم المطافُ، بأن قرّروا أن يستقلّوا الحافلةَ التي تسيرُ على خطّ القرية.
ما إن دخلوا ساحةَ المسجدِ الأقصى حتى رأوا كيسَ “نايلون” يطيّرهُ الهواءُ في طريقهم، التقطه كنانُ وهو يقول:
يجبُ الحفاظُ على نظافة المسجدِ بساحاته وباحاتهِ وكلِّ ما فيه، التفتوا إلى يسارهم، فرأوا بقايا طعامٍ تحتَ أشجارِ الزّيتون، سارعوا إلى التقاطها عن الأرض، وهناك رأوا أعقابَ سجائر، فالتقطوها أيضًا وهم يردّدون:
هذا المسجدُ مقدّسٌ والحفاظُ على نظافتهِ واجبٌ على كلِّ فرد. ثمّ قرّروا أن يُمسِكَ كلُّ واحدٍ منهم كيسًا، وأن يجوبوا ساحاتِ المسجدِ ينظّفونها من كلّ شائبة.
رآهم شيخٌ مُعمّمٌ فسألهم:
ماذا تفعلون أيُّها الفتيان؟
ردّعليه كنان: نجمعُ الأوراقَ وأكياسَ “النّايلون” وبقايا الأطعمة، وأعقابَ السّجائرِ من ساحات المسجد.
ابتسمَ لهم الشّيخُ وهو يقول:
بوركت السّواعدُ التي تحمي هذا المسجدَ العظيم.
عندما سمعوا ذلك، شعروا بالرّضا، وأدركوا أهميّةَ ما يقومون به.
عملوا في تنظيف ساحاتِ المسجدِ حوالي ساعتين دونَ كللٍ أو ملل، وكلّما امتلأ كيسُ أحدِهم، كان يُفرغُه في حاوية قمامةٍ قريبةٍ من باب الأسباط.
عندما انتهوا من تنظيف السّاحةِ الجنوبيّةِ الشّرقيّةِ للمسجد، رأوا مشربَ ماءٍ بارد، فذهبوا ليبرّدوا عطشَهم، وهناك رأوا أناسًا يدخلون ويخرجون من بوّابةٍ تفضي إلى باطن الأرض، فاستغربوا ذلك، قبل محاولتِهم لاستكشاف المكان، ذهبوا إلى الكأس أمام المسجد القبليّ، توضّأوا، وعادوا مسرعين إلى المكان، نزلوا السّلّمَ الحجريّ، فرأوا مسجدًا عظيمًا تحت الأرض، لم يعرفوا عنه شيئًا من قبلُ، قال كنان:
جئتُ مع أبي إلى هذا المسجدِ أكثرَ من عشرين مرّة، كنّا نصلي في المسجد القبليّ، ولم أدخلْ هذا المكان مطلقًا.
قال عبدُالله وجمالُ الشّيءَ نفسَه.
ساروا إلى الأمام فرأوا بهوًا واسعًا يمتدُّ جهةَ الشّرق، ويقفُ على أعمدة حجريّةٍ قديمة، وهناك رأوا شيخًا شابًّا وسيمًا يرتدي جبّةً ويضعُ عمامة، يسندُ ظهرَه إلى عامود حجريٍّ ويقرأُ القرآن، ذهبوا إليه، طرحوا السّلامَ، وسأله عبدُالله:
ما هذا المسجدُ يا شيخ؟
بسمل الشّيخُ، حمد الله وصلّى على رسوله وقال:
هذا هو المسجدُ المروانيّ، وهو جزءٌ لا يتجزّأُ من المسجد الأقصى.
فسأله كنان: هل يمكنُنا معرفة المزيدِ عن هذا المسجد؟
فقال الشّيخُ:
“يقعُ المصلّى المروانيُّ أسفلَ الزّاويةِ الجنوبيّةِ الشّرقيّةِ من المسجد الأقصى، -كما ترون- وعُرِفَ هذا الجزءُ من المسجد الأقصى المبارك قديمًا بالتّسوية الشّرقيّة، إذ بناه الأمويّون أصلا كتسويةٍ معماريّةٍ لهضبة بيتِ المقدسِ الأصليّةِ المنحدرةِ جهة الجنوب؛ حتّى يتسنّى البناءُ فوقَ قسمِها الجنوبيِّ الأقربِ إلى القبلة، لترتفعَ لمستوى القسمِ الشّماليّ.
ويتكوّنُ المصلّى المروانيُّ من ستةَ عشرَ رواقًا، وتزيدُ مساحتُهُ على أربع دونمات، وهو أكبر مساحةٍ مغطاةٍ للصّلاة في الأقصى.
وعندما احتلَّ الفرنجةُ المسجدَ الأقصى المبارك حوّلوا المصلّى المروانيَّ إلى إسطبلاتٍ للخيل، وبعدَ تحريرِ صلاح الدّين الأيّوبيّ للقدس من الفرنجة، أعاد المصلّى المروانيَّ إلى استعمالهِ السّابقِ باعتباره تسويةً ومخزنًا فقط، وبقي الأمرُ على ما هو عليه حتّى بعد الاحتلال الصّهيونيّ للمدينة المقدّسة، حيثُ تمَّ افتتاحُه للصّلاة عام 1996م، وسمّي يومها المصلّى المروانيّ نسبةً لعبد الملك بن مروان.
إلا أنّ المصلّى المروانيَّ بقي يعاني من مشكلة رئيسيّة، وهي وجودُ مدخلٍ واحدٍ ضيّقٍ له، وكان عشرةُ آلافِ شخصٍ يدخلون ويخرجون من خلال هذا المدخل، ممّا كان يتسبّب في الزّحام وحالات اختناق في بعض الأحيان.”
ولِحَلِّ هذه المعضلة، قام بعضُ الباحثين بإجراء بحوثٍ كثيرةٍ في الموقع، وتمّّ اكتشافُ وجودِ سبعِ بوّاباتٍ قديمةٍ مغلقةٍ ومطمورةٍ في النّاحيةِ الجنوبيّةِ الشّرقيّةِ من المصلّى المروانيّ، وقرّرت الهيئاتُ الإسلاميّةُ في القدس نهاية عام 1999م كَشْفَ البّوابات، وفَتْحَ اثنتين منها لأجل التّوسيعِ على المصلين.
يُشارُ إلى أنّ المسجدَ الأقصى يتكوّنُ من أبنية عديدة، ويحتوي على معالم كثيرة يصلُ عددُها إلى مائتي مَعْلَم، منها قبابٌ وأروقةٌ ومحاريبُ ومنابرُ ومآذنُ وآبار، وغيرُها من مرافق العبادة.
شكر الفتيانُ الشّيخَ، وخرجوا من المسجد المروانيّ، عندما وقفوا أمامَ المسجدِ القبليّ، اتّفقوا أن يذهبوا إلى السّاحة الملاصقةِ للمسجد من جهته الغربيّة؛ ليستكشفوا رواقَ هذه المنطقة، ساروا جنوبًا ملاصقين لحائط المسجد، رأوا يافطةً على أحد الأبوابِ مكتوبٌ عليها:”مكتبةُ المسجد الأقصى” فدخلوا من الباب، وهناك رأوا مكتبةً ضخمة، طاولات وكراسي يجلسُ عليها رجالٌ ونساءٌ منهمكين في قراءة الكتب، الهدوءُ يُخيّمُ على المكتبة، استقبلهم رجلٌ خمسينيٌّ قائلا:
أهلا بكم، هل يمكنُني مساعدتكم؟
ردّ كنان: شكرًا لك، نريدُ استطلاعَ المكان، ومعرفةَ المزيد عنه، فنحن مهتمّون بمعرفة كلّ شيء عن المسجد الأقصى.
قال الرّجل: أهلا بكم، أنا أمينُ هذه المكتبة والمشرف عليها، وأضاف قائلا:
مكتبةُ المسجد الأقصى هذه تعدُّ واحدةَ من أقدم مكتباتِ المساجدِ المنتشرةِ في مدن فلسطين، وقد أفادتْ كثيرا من مكانة المسجدِ الأقصى، الذي ظلّ طوالَ الوقتِ مَركزًا للحياة الفكريّةِ ومدرسةً لتلقّي العلوم، سواء كانت دينيّةً أم دنيويّة.
وكما ترون فإنّ مكتبةَ المسجدِ الأقصى عبارة عن نتوء يبرزُ عن مبنى المسجد، ويمتدُّ إلى خارجه، من الجهة الجنوبيّة. وقد بناها صلاحُ الدّين الأيّوبيّ بهدف إغلاقِ باب النّبيِّ لصدّ خطر الصّليبيين عن المكان، وقد كانت في بداياتها مدرسة شرعيّة تُدرّسُ العلومَ الإسلاميّة، وسمّيتْ بـ “الختنيّة” نسبةً إلى عبد الله الختنيّ، أحد الرّجال الأفاضل المارّين على هذه المدرسة.
وبقيتْ تلعبُ دورًا مهمّا في الحياة الثّقافيّة حتّى أواخر الحكم العثمانيّ، لتشهدَ إهمالا وتراخيًا كبيرًا، تحوّلتْ معه المكتبةُ إلى مخزن للقناديل والأسرجة التي كان يُضاءُ بها المسجدُ الأقصى. ويشارُ هنا، إلى أنّ الوثائقَ والمراجعَ التّاريخيّة تُبيّنُ أنّ أقدمَ مخطوطة تقتنيها المكتبة، تعودُ إلى القرن السّادسِ الهجريّ، وهي للخطيب البغداديّ المتوفّى عام 463 هـ (1071 ميلاديّة).

وأضافَ أمينُ المكتبةِ أنّ عددَ مقتنياتِ المكتبةِ من الكتب العربيّة بلغ (حتّى عام 1998م) 20350 كتابًا، وقُدِّرَ مجموعُ الكتبِ المطبوعةِ بالإنجليزيّة بنحو 400 كتاب، ترجعُ طباعةُ بعضها إلى عام 1820م.
أمّا الكتبُ الفرنسيّةُ فقدّرت بنحو 500 كتاب، ويرجعُ بعضُها إلى أوائل القرنِ التّاسعِ عشر الميلاديّ، وهي تحتوي على مجموعة قيّمةٍ من كتب الآثارِ الإسلاميّة، ومجموعة أخرى من الأخشاب والحجرِ والرّخامِ والمصابيح والقوارير الزجاجيّة والنّحاسيّات التي صُنِعَتْ في العصر الأيّوبيّ.

كما أنّ المكتبةَ حَوَتْ أيضًا 1000 كتابٍ باللغة التّركية، وهي مطبوعةٌ بالحروف العربيّة، لافتًا إلى أنّ جميعَ مخطوطاتِ المكتبةِ مكتوبة على “الكاغد” وهو ورقٌ مصقولٌ لا سطورَ فيه، ويسهلُ طيُّه، وتتناولُ موضوعات شتّى، ومصادرها: مخطوطات الشّيخ محمد الخليليّ، مخطوطات الشّيخ خليل الخالديّ التي نُقِلَتْ إليها من مكتبتيهما عام 1978م. وتُقَدّرُ مخطوطاتُ الأولى بـ 350 مخطوطة، أمّا الثّانيةُ فهي 100 مخطوطة.
وأشار قيّمُ المكتبةِ إلى أنّ مكتبةَ المسجدِ الأقصى تضمُّ مجموعتين أساسيّتين هما:
– بقايا مخطوطات الشّيخ محمد الجليليّ، مفتي الشّافعيّة، وعددها نحو 600 مخطوطة.
– بقايا مخطوطات دار كتب المسجد الأقصى، وعددها 658 عنوانًا.
كما أكّد أنّ المكتبةَ شهدتْ منذُ عام 1998م حتى الوقت الحاليّ، نموًّا واضحًا في عدد كتبها.
سأله كنان: ما هي المخطوطاتُ يا عمّ؟
– المخطوطاتُ كتبٌ خطّها أصحابُها بأيديهم، ولا تزالُ دونَ تنقيحٍ ودونَ طباعة.
وكيف يمكنُ الإفادةُ منها؟ سأل جمال.
– بعضُ الباحثين والدّارسين يأتون هنا، ويطالعونها، فالمكتبة مفتوحةٌ أمام الجميع.
كنان: هل يوجدُ عندكم كتبٌ عن تاريخ القدس؟
ابتسم أمينُ المكتبةِ وقال وهو يشيرُ إلى جناح في المكتبة:
طبعًا في المكتبة آلافُ الكتبِ عن مدينة القدس، وهي موجودةٌ في ذلك الجناح.
كنان: هل يمكنُنا استعارة عددٍ منها؟
– لا يمكنكم الاستعارة، لكنّكم تستطيعون زيارة المكتبة متى شئتم، وأن تطالعوا ما تشاؤون داخل المكتبة.
*****
مرض جدُّ كنان مرضًا، استوجب نقلَهُ من مستشفى المقاصد إلى مستشفى هداسا في عين كارم، رافق كنانُ والديه وعددًا من أفراد أسرته لزيارة جدِّهِ المريض، الجدُّ يرقدُ في قسم الأمراضِ الدّاخليةِ في بناية المستشفى القديمةِ شبهِ الدّائرية، نظر كنانُ من برندة تحيطُ بغرف المستشفى إلى جهة الشّرق، فرأى قريةً جميلةً تتمدّدُ على سفحي جبلين، بدتْ كعروس بكامل زينتها تسترخي بدلال على سريرها، بيوتُ القرية قديمةٌ جميلةٌ يعلوها القرميدُ الأحمر، في داخلها مسجدٌ وأبراجُ كنائس، طُرُقاتُها حجريّة لافتة، الأشجارُ المثمرةُ والورود منتشرةُ بين بيوتِها، كرومُ اللوزيّاتِ تعلو أبنيةَ القرية، تمتدُّ إلى قمّة الجبلِ من الجهة الجنوبيّة، لتشكّلَ قوسًا مع امتداد قمّةِ الجبل من الجهة الشّرقيّة، تأكدّ كنانُ من المسجد والكنائسِ وهندسةِ البيوتِ وطريقةِ بنائِها أنَّ القريةَ عربيّةٌ، فأراد معرفةَ شيءٍ عن هذه القرية، عاد إلى غرفة جدِّهِ وسأل:
أين نحن؟
فردّ عليه أبوه: نحن في مستشفى هداسا عين كارم؟
كنان مندهشًا: أعرفُ أنّنا في مستشفى هداسا، لكن ما اسمُ هذه المنطقة؟
الأب: عين كارم.
كنان: عين كارم قريةٌ فلسطينيّةٌ عربيّة، أليس كذلك؟
الأب: نعم، وهي قريةٌ مهجّرة، منذُ نكبةِ الشّعبِ الفلسطينيّ عام 1948م.
صمت كنانُ وهو يُضمرُ أسئلةً كثيرةً عن القرية، التي سحرتْهُ بجمالها، عندما عادوا إلى بيتهم بحث عن معلوماتٍ حولَ قريةِ عين كرم، فوجد في أحدِ الكتب:
” عين كارم قريةٌ تقعُ غربَ القدس مع انحرافٍ قليلٍ إلى الجنوب، على بعد ثمانيةِ أميال عن سور القدسِ القديمة. تحدُّها من الغرب قريتا القسطل، وسطاف، ومن الجنوب قريةُ الجورة، ومن الشّرق قريةُ المالحة، ومدينةُ القدس، وتُعَدُّ عينُ كارم إحدى ضواحي مدينة القدس. ويخترقُها وادي “أحمد” يروي بساتينَها. تكثرُ في أراضيها ينابيعُ الماء، وأهمُّها “عين كارم”. التي أُطلقَ اسمُها على القرية، وكانت من قبل تُسمّى “عين المكارم.”
ترسّختْ في ذهن كنان ضرورةُ زيارةِ القرية، والتّجوّلِ فيها، فألحَّ على والده بذلك قائلا:
ما رأيك يا أبي أن نزورَ قريةَ عين كارم، ونتجوّلَ فيها عندما نزورُ جدّي في المرّة القادمة؟
الأب: لماذا تريدُ ذلك؟
كنان: القريةُ ساحرةٌ بجمالها، ولا بُدّ من زيارتها، والتّمتّعِ بجمالها عن قرب.
الأب: حاضر يا كنان، سنزورُها يوم الجمعة القادم.
في العاشرة من صباح الجمعة، وقف كنانُ ووالدُهُ عندَ مدخلِ قريةِ عين كارم من الجهة الغربيّة، رأوا ثلاثةَ رجالٍ عرب، يخرجون من القرية تَعِبين، أحدهم مسنٌّ منهكٌ يجرُّ جسدَهُ على رجليه المرهقتين، جلسوا يستردّون أنفاسَهم اللاهثة، طرحوا عليهم السّلام، فسألهما أحدُهم:
إلى أين أنتما ذاهبان؟
فردّ كنان: نريدُ زيارةَ القريةِ والتّعرُّفِ عليها.
قال الرّجلُ المسنّ: تعالا نتحدّث قليلا.
ذهبا إليهم، صافحاه، وجلسا قبالتَهُ.
قال الرّجلُ المسنُّ: أنا اسمي أبو فايق، وُلدتُ في بيتنا في هذه القريةِ هناك قريبًا من المسجد، فهل أنتما منها؟
ردّ أبو كنان، نحن لسنا من هذه القرية، لكنّ ابني هذا سحرتْهُ القريةُ بجمالها، عندما رآها من مستشفى هداسا حيثُ يتشافى جدُّه، وهو مُصمّمٌ على زيارتها، ومعرفة المزيد عنها.
تنهّدَ أبو فايق وقال:
” يا ولدي عين كارم من القرى القليلةِ جدّا التي سَلِمَتْ أبنيتُها حتّى الآن، على الرّغم من تهجير سكَانِها في نكبة العامِ 1948م. ويقيمُ اليوم في منازل عين كارم عائلاتٌ يهوديّة، إضافة إلى أُسرةٍ عربيّةٍ مسيحيّةٍ واحدةٍ كانت أبعدت في سنة 1949م عن قرية إقرث في الجليل الأعلى، وتعيشُ الآنَ في مبنى مدرسةٍ قديمٍ تابعٍ لدير الفرنسيسكان. وثمّة بين المنازلِ الكبرى أبنيةٌ حجريّةٌ جميلةٌ مؤلّفةٌ من طبقتين أو ثلاث طبقات، ولها نوافذٌ مقنطرةٌ وأبوابٌ محفوفةٌ بقنطرةٍ كبرى تختلفُ قليلا (كجواف المحراب) عن واجهة البناء. وفي القرية سبعةٌ من الأديرة والكنائس، فضلا عن مقبرةٍ للمسيحيّين مجاورة للدّير الرّوسي، وأخرى للمسلمين وسط القريةِ تغطيها النّفاياتُ والتّراب، وتتعرّضُ مؤخّرا لمحاولات طمسِ معالمِها، وشقِّ طرقٍ فيها من قبل بعضِ المستوطنين السّاكنين في البيوت المجاورةِ للمقبرة. وهي تضمُّ قبرين بارزين يرتفعان عن باقي القبور. أحدُهما هو للشّهيد إسماعيل الصّوباني الذي سقط برصاص جنودٍ بريطانيين قبيل ثورة 1936م. ولا يزالُ مسجدُ القريةِ قائمًا ولكنّه مغلقٌ مهجور، وكذلك لا زالتْ مئذنتُهُ قائمة. وتتدفّقُ مياهُ عين مريم تحت المسجد.
وقد بُنيَ مستشفى هداسا الإسرائيليّ عام 1961م على أراضي القرية على جبل راس التّوتة.
وأضاف الحاجُّ أبو فايق بلهجة باكية:
وعندما وقعت النّكبة، كان عددُ سكانِ عينِ كارم حوالي 4000 مواطن، منهم حوالي 800 شخص من المسيحيّين. لقد كانت عينُ كارم يا أبنائي أكثرَ قرى القدس عمرانًا وازدهارًا وعلمًا، ولو لم تحصل النّكبةُ لكانت الآنَ مدينةً كبيرة.
قال كنانُ لأبيه: إلى هنا يكفي يا أبي، فأنا لا أستطيعُ مواصلةَ الزّيارة، فما عاد قلبي يحتمل.
5-6-2017

جميل السلحوت:
– جميل حسين ابراهيم السلحوت
– مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
– حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
– عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990.
– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبرية لمدة ستة أشهر.
– عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر، الكاتب، الشراع، العودة، مع الناس، ورئيس تحرير لصحيفة الصدى الأسبوعية. ورئيس تحرير لمجلة”مع الناس”
– عضو مؤسس لإتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو هيئته الادارية المنتخب لأكثر من دورة.
– عضو مؤسس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الاداريّة المنتخب لأكثر من دورة.
– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.
– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسسة ثقافية منها: المسرح الوطني الفلسطيني.
– منحته وزارة الثقافة الفلسطينية لقب”شخصية القدس الثقافية للعام 2012″.
– أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار العام 1991وحتّى الآن.
– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:
– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.
– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”
– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015″.
– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017؟

اصدارات جميل السلحوت
الأعمال الرّوائيّة
– ظلام النّهار-رواية، دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.
– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.
-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.
– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.
– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014
– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.
– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.
– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.
– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017
– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.
– عند بوابة السماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.
روايات اليافعين
– عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.
– الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.
– البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.
– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.
– “اللفتاوية” رواية لليافعين. دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس 2017.

قصص للأطفال
– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.
– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.
– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.
– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.
– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.
– ميرا تحب الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.
– النمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
– كنان وبنان يحبّان القطط- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.
أدب السّيرة:
– أشواك البراري-طفولتي، سيرة ذاتيّة، مكتبة كل شيء-حيفا 2018.
– من بين الصخور-مرحلة عشتها، سيرة ذاتية، مكتبة كل شيء-حيفا 2020.
أبحاث في التّراث.
– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.
– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرّواد- القدس 1982.
– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.
– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:
– معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس 2002

– ثقافة الهبل وتقديس الجهل، منشورات مكتبة كل شيء- جيفا،2017.
أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.
– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات
– كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.
– في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.
يوميّات
– يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.
– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.
– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.
– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.
– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.
– أدب السجون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.
– نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.
– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.
– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012
– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.
-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.
– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.
– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات