المطلقة-رواية

ا

جميل السلحوت

المطلّقة

لوحة الغلاف: للفنان التشكيلي محمد نصرالله.

ملاحظة: الأسماء الواردة في هذا النّص متخيّلة، وإن وجد شبيه لها على أرض الواقع فهو محض صدفة.

الإهداء

إلى شقيقي داود الأقرب إلى قلبي، وإلى زوجته الرّائعة تهاني، وإلى أبنائهما الأحبّاء: علاء وهناء وريام.

مع أمنياتي لهم جميعهم بدوام الصّحة والعافية وطول العمر والسّعادة الدّائمة.

    بعد أسبوع من عودتهم من السّعوديّة لقضاء الإجازة الصّيفيّة، استأذنت جمانة لزيارة بيت والديها، حملت ابنها في حضنها، عندما دخلت البيت، سلّمت طفلها لشقيقتها تغريد، التي أشبعته تقبيلا، بينما انفرطت جمانة باكية، استغربوا بكاءها، لكنّها أفصحت عمّا بداخلها قائلة:

لن أعود إلى أسامة مهما كلّف الثّمن، وإذا لم يوافق على تطليقي سأرفع عليه دعوى خلع.

دهش أبوها ممّا قالته، لكنّها شرعت تقصّ عليهم بعضا ممّا عانته، وبيّنت لهم استحالة العيش معه، حتّى أنّها قالت:

أحمد الله أنّني لم أفقد عقلي خلال هذين العامين.

حاول والداها ثنيها عن قرارها، وقالت لها والدتها:

كلّ الأزواج يختلفون، وهذه سنّة الحياة، ولو أنّ كلّ امرأة تغضب من زوجها تخلعه، لما بقيت امرأة على ذمّة زوجها.

ردّت جمانة باكية:

قراري ليس ناتجا عن غضب في مشكلة معيّنة، ولو كان ذلك كما تقولين، لتحمّلته، لكنّ أسامة لم يحترم إنسانيّتي يوما ما، فالرّجل غريب في تصرّفاته، لديه معتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، وتعامل معي كدمية لا قيمة لها، وبالتّالي فإنّني اتّخذت قراري بعقل ورويّة، ولو كنت في الوطن لما تحمّلته هذين العامين اللذين كنت أعدّهما بالدّقيقة.

قال لها أبوها:

فكّري بالموضوع جيّدا يا بنيّتي، ولا تنسي أنّك أمّ لطفل.

ردّت عليه بلهجة حزينة:

مضى عامان يا والدي وأنا في عذاب، فكّرت كثيرا، وتحمّلت الويلات وقد نفد صبري، لن أعود زوجة لأسامة، ولن أتخلّى عن ابني، فحضانته حقّ لي.

وممّا عانيته من أسامة سأرفض الزّواج مرّة أخرى من أيّ رجل.

عند مساء ذلك اليوم، اتّصلت أمّ أسامة هاتفيّا، تريد أن تعود جمانة بطفلها إلى بيتها، فردّ عليها أبو جمانة بأنّ جمانة مريضة، ستعود إليهم عندما تتعافى من مرضها.

بعد يومين زار أسامة بيت أنسبائه، احتضن طفله الذي كان مع جدّته لأمّه، سأل عن جمانة التي لم يرها، فقال له والدها:

عندما تتعافى ستعود إليك.

لكنّ جمانة خرجت إليه وقالت له:

لم أعد قادرة على احتمال العيش معك يا أسامة، والذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق، فإذا قبلت قراري وطلقتني سأكون شاكرة لك، ولا أريد منك شيئا، وإذا رفضت تطليقي سأرفع عليك دعوى في المحكمة للتّفريق بيننا.

بهت أسامة ممّا سمع وقال:

فكّري جيّدا يا جمانة، وإذا بقيت مصرّة على الطّلاق فلك ذلك، فأنا أخاف الله، ولا أقبل العيش مع زوجة ترفضني.

ردّت عليه: وأنا أؤكّد لك أنّني لا أستطيع العيش معك، ولن أعود زوجة لك، وأتمنى أن تجد زوجة أخرى تقبل تصرّفاتك التي تغضب وجه الله.

انتفض أسامة وخرج من البيت غاضبا وهو يقول:

أنت طالق يا جمانة.

وما أن سمعت جمانة كلمة الطّلاق حتى رقصت فرحا، وأطلقت زغرودة مدوّية.

بُهت أبو جمانة ممّا سمع وممّا رأى، حوقل وقال لجمانة بلهجة حزينة:

اهدئي يا بنتي، ما كان لك لتقولي لزوجك ما قلتِه.

وسط ذهول والدتها وشقيقاتها قالت جمانة وعيناها تقدحان غضبا:

لم تعانوا ما عانيت، ولو عانيتم جزءا ممّا عانيت لمتّم قهرا.

نزلت دموع شقيقتها تغريد بصمت وهي تحتضن طفل جمانة، وقالت بصوت متهدّج:

دعونا من الحديث بهذا الموضوع حتى تهدأ الأمور.

تنهّدت أمّ جمانة وتمتمت كأنّها تتحدّث مع نفسها:

هذه تربية فاطمة لعنها الله، ربّت أبناءها على الغيرة والحسد وعدم احترام الآخرين.

حملت جمانة طفلها من حضن خالته تغريد، وذهبت إلى غرفة النّوم، جلست على حافة سريرها، ألقمت ثديها لابنها وهي تقول:

نم يا سعيد، لا أعلم ما كتب الله عليّ وعليك، لكن بالتّأكيد فإنّ السّعادة بعيدة عنّي وعنك.

عادت جمانة بذاكرتها إلى فترة ما قبل أن يظهر أسامة في حياتها، لامت نفسها لأنّها قبلت به زوجا احتراما لرغبة والديها، راودتها أفكار بأنّها لو أصرّت على رفضه لكانت الآن قد أكملت “الماجستير”، ولجاءها نصيبها بمن يفهمها وتفهمه، لكنّ هذا نصيبها الذي كتبه الله لها، ولا رادّ لمشيئة الله.

 في صالون البيت واصل أبو جمانة وجومه، حمّل نفسه مسؤوليّة زواج جمانة من أسامة، ضرب كفّا على كفّ وقال:

الحقّ عليّ أنا وحدي.

قالت ابنته تغريد في محاولة منها لتهدئة الوضع:

لا أحد يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، و”المكتوب ع الجبين بتشوفه العين”، ولا داعي للحديث فيما سبق، ورأيي أن نترك الأمور تسير وحدها، وكما قال تعالى:” وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ“.

       أخبر أسامة والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته:

لا ردّها الله، وقد فعلت خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها.

 انتفض أبو أسامة عندما سمع ما قاله ابنه وصاح بزوجته:

اسكتي أيّتها الشّمطاء، فلسانك لا يتكلّم إلا بالسّوء وتخريب البيوت، والتفت إلى أسامة وقال:

اسمع يا ولد، لم ينبع موقف جمانة من فراغ، لأنّه “فش بس بهرب من دار عرس”. ولو تعاملت معها بإحسان لما وصلت إلى ما وصلت إليه.

ردّ عليه أسامة بلهجة الواثق:

لا حول ولا قوّة إلا بالله، ماذا أقول لك؟ لقد تعاملت معها حسب شرع الله.

الأب: فهمك لشرع الله عجيب غريب، وشرع الله لا يظلم أحدا، ومعرفتي بجمانة أنّها على خلق وتخاف الله.

ردّ أسامة مستنكرا بلهجة فيها حدّة:

وهل أنا لا أخاف الله ولست على خلق؟

حوقل أبو أسامة وقال:

قال تعالى:” وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً“.

فإذا كان ردّك على أبيك بهذه الفظاظة، فكيف يكون حديثك مع زوجتك؟

شرع أسامة يستغفر الله على ما بدر منه تجاه أبيه، فقال له أبوه موبّخا:

أعانك الله على عقلك يا بنيّ، أريدك أن تلتزم الصّمت، واترك الأمر لي، لعلّ الله يأتينا بساعة رحمة؛ وأستطيع إصلاح ما أفسدته.

وهنا ثارت ثائرة أمّ أسامة، فانفلت الكلام من فمها كما البالوع وقالت:

لم يبق إلا أن تتّهم أسامة بالجنون في دفاعك عن بنت لطيفة، نحن لا نريدها فلتذهب إلى الجحيم هي ومن خلّفوها وربّوها.

غضب أبو أسامة من حديث زوجته وقال لها:

انصرفي يا امرأة، اعتزلي مجلسنا، فأنت امرأة سوء ولا تتفوّهين إلا بالسّوء.

ردّت بصوت غاضب مرتفع:

لن أنصرف فأسامة ابني كما هو ابنك، وأنا أحرص على مصلحته أكثر منك.

قال أبو أسامة وهو يتصنّع ابتسامة ساخرة:

“فاقد الشّيء لا يعطيه”، وأنت لا تعرفين مصلحتك حتّى تعرفي مصلحة ابنك.

قال أسامة في محاولة منه لتهدئة الوضع:

صلّوا على النّبيّ يا جماعة.

قال أبوه: اللهمّ صلّ على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في حين بقيت أمّ أسامة صامتة وتكشيرة تعلو وجهها، فقال أبو أسامة:

أمّك لا تعرف الله ولا تعرف رسوله، وتخاف أن تطهّر فمها بذكر الله والصّلاة على رسوله. لكن أريد أن أسألك:

هل عشت على وفاق مع جمانة؟

ردّ أسامة بانكسار:

أشهد أنّها زوجة فاضلة، لم تعص لي أمرا، ولا أعرف ما جرى لها بعد عودتنا.

انتفضت أمّ أسامة وقالت غاضبة:

أنا أعرف ما جرى لها، لقد لعبت أمّها برأسها، وإيّاك أن تغترّ بهنّ و” ياما تحت السّواهي دواهي.”

التفت إليها أبو أسامة وقال مؤنّبا:

ليتك مثلها أو مثل أمّها.

فردّت ساخطة: كفانا الله شرّك.

– لا تخافي فالخير بعيد عنك، فأنت حليف للشّيطان.

– وأضاف موجّها حديثه لأسامة:

لا تسمع كلام أمّك، فهي تفتعل الشّر، وكأنّ الشّيطان يسري في دمها، أنا ذاهب إلى المسجد لأصطحب الإمام معي لإصلاح الأمر، لكن قبل أن أذهب أريد أن أسألك:

هل تحبّ جمانة وتريدها؟

ردّ أسامة بلهجة حزينة:

جمانة زوجة صالحة مطيعة، ولا أعلم كيف انقلبت بين ليلة وضحاها.

وهنا وقفت أمّ أسامة وقالت له:

ليتني ما خلّفتك، النّساء كثيرات، وستجد من هي أجمل وأفضل منها.

ردّ عليها أسامة:

هداك الله يا أمّي.

بينما خرج أبو أسامة في طريقه إلى المسجد، وصوت زوجته يتبعه:

أحضر الطّفل منها واتركها على خيبتها عند أمّها.

حوقل أبو أسامة وواصل طريقه إلى المسجد وكأنّه لم يسمع ما قالته.

بعد صلاة العشاء توجّه بصحبة إمام المسجد إلى بيت أبي جمانة، بعد أن شرح للإمام بأنّ سوء فهم قد حصل بين أسامة وزوجته جمانة.

في بيت أبي جمانة تعوّذ الإمام بالله من الشّيطان الرّجيم وبسمل وقال:

الخلافات البسيطة ملح الحياة الزّوجيّة، وكلّ الأزواج يختلفون مع بعضهم البعض، ثمّ لا تلبث الخلافات أن تنتهي، وهذه سنّة الحياة، ونأمل أن يكون الخلاف بين جمانة وزوجها أسامة خلافا عابرا، وجئنا لنرجع جمانة إلى زوجها، وإذا كانت هناك خلافات معيّنة فسنعمل على حلّها.

صمت أبو جمانة قليلا، فرك يديه وهو يطأطئ رأسه وقال:

طلّق أسامة جمانة، وسمعت طلاقه بأذني، وبالتّالي فإنّها لم تعد زوجة له.

ردّ عليه الإمام:

لا حول ولا قوّة إلا بالله، إن حصل ذلك وتلفّظ أسامة بالطّلاق في لحظة غضب، فالقاعدة الشّرعيّة تقول:”لا طلاق في إغلاق“، وأسامة رجل دين وعلم، يعرف حدود الله، ولو قصد الطّلاق فعلا لما وافق على إرجاعها لعصمته.

وهنا تدخّل أبو أسامة وقال:

قبل أن أرتاد المسجد، وقبل أن أتحدّث مع الإمام، استفسرت من أسامة، ووجدته يحبّ جمانة ومتمسّكا بها.

أبو جمانة: يا إخوان لا أحد يسعى لطلاق ابنته، وأسامة طلّق جمانة على مسمعي وعلى مرأى منّي ومنها.

الإمام: يا رجل قلنا لك أن “لا طلاق في إغلاق”، وإن كانت هناك شبهة بوقوع الطّلاق، فنحن لا نقبل الحرام ولا نرتضيه لأحد، وما رأيكم أن نأخذ أسامة وجمانة إلى دار الإفتاء ونسمع رأيهما بالموضوع، فإن كانت هناك طلقة بائنة بينونة صغرى فسنسجّلها في دار الفتوى، ويبقى لأسامة طلقتان.

وهنا دخلت جمانة التي كانت تستمع لما يقولونه وهي تحتضن طفلها، طرحت السّلام وجلست. حاول أبو أسامة أن يحتضن حفيده، إلا أنّ الحفيد أدار وجهه تجاه أمّه باكيا، أمسك الجدّ يد حفيده وقبّلها.

 قالت جمانة:

لا حاجة لدار الفتوى أو لغيرها، فلن أعود إلى عصمة أسامة تحت أيّ ظرف، فالحياة معه مستحيلة.

قال لها الإمام:

اهدئي يا بنتي، وفكّري بالأمر، فالغضب يتلاشى مع مرور الوقت.

ردّت عليه بلهجة واثقة:

القضيّة يا عمّ ليست قضيّة غضب عابر، الحياة مع أسامة مستحيلة، وقد خبرته عامين كاملين، تعامل معي فيهما كجارية سجينة، هدر كرامتي واستباح إنسانيّتي، ولولا الغربة في السّعوديّة لما عشت معه أسبوعين وليس عامين.

تدخّل أبو جمانة وقال:

اهدئي يا بنتي واسمعي ما يقوله الإمام، ولا تنسي أنّك أمّ ولديك طفل، فلمن ستتركين طفلك إذا حصل الطّلاق -لا سمح الله-؟

– حضانة ابني لي شرعا وقانونا، والذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق، وأحمد الله أنّني عدت إليكم بعقلي، فمعاملة أسامة تقود إلى الجنون.

الإمام: لا حول ولا قوّة إلا بالله، ما رأيكم أن نترك الموضوع لأسبوع أو أكثر لعلّ الغضب يزول وتهدأ النّفوس؟

جمانة: لا داعي لذلك فأنا اتّخذت قراري برويّة وتأنّ شديدين، وأعود وأكرّر لكم بأنّ الحياة الزّوجيّة مع أسامة مستحيلة.

تنحنح أبو أسامة وقال:

هل يمكن أن تسردي لنا سبب نفورك من أسامة؟

جمانة: أسامة ابنك وتعرفه أكثر منّا.

الإمام: لكنّنا يا بنتي لا نعرف عن أسامة إلّا كلّ خير، والبيوت أسرار، ونأمل أن تجيبي على سؤال أبي أسامة؛ لنكون على بيّنة من أمرنا.

أبو أسامة: إن وجدت تصرّفات غير لائقة من أسامة فسأضع له حدودا يجب أن يقف عندها.

جمانة: يا عمّ أسامة رجل انطوائيّ، إصلاحه صعب جدّا؛ لأنّه متأثّر بأصحاب الفكر التّكفيريّ، فكلّ شيء عنده حرام، التّلفاز والمذياع والصّحف حرام، فتح نوافذ البيت للتّهوية حرام، مراجعة المرأة المريضة للطّبيب حرام، الهاتف حرام، مطالعة القصص والرّوايات والفلسفة والتّاريخ وعلم الاجتماع حرام! من منكم يستطيع العيش في بيت مغلق الأبواب والنّوافذ وحيدا لمدّة عامين كما فرض أسامة عليّ أن أعيش؟ من منكم يقبل لابنته أن تعاني المخاض وحيدة لأكثر من يوم وليلة؛ لأنّ الانجاب في المستشفيات حرام؟ من منكم يقبل أن لا تهاتف ابنته والديها وشقيقاتها إلا وزوجها واقف فوق رأسها، يستمع لكلّ كلمة تقولها أو يقولونها؟ يضاف إلى ذلك أنّه بخيل جدّا. أسامة يريد زوجة دمية لا تحسّ ولا تتكلّم، يلهو بها كيفما يشاء، ويلقي بها كيفما يشاء.

شعر أبو أسامة أنّه يصغر أمام جمانة، وفي داخله شتم أمّ أسامة محمّلا إيّاها مسؤوليّة تصرّفات ابنها، لام نفسه كثيرا، لأنّه لم يردعها عن تصرّفاتها الشّرّيرة التي أثّرت على أبنائهما. لم يجد كلمة يدافع بها عن أسامة أمام جمانة، فالتزم الصّمت، قطع الإمام شرود أبي أسامة عندما قال:

سنترك لك ولابنتك يا أبا جمانة الوقت لتقرّرا موقفا أخيرا، واستأذن بالمغادرة، متجاهلا ما كرّرته جمانة بأنّ موقفها واضح بأنّ الخلاص من أسامة كزوج مكسب كبير لن تحيد عنه.

*****

عندما ابتعدا عن بيت أبي جمانة قال الإمام لأبي أسامة:

ممّا رواه ابن قتيبة في عيون الأخبار:

” قال رجل لعمر بن الخطّاب -رضي الله عنه: إنّ فلانًا رجل صدق.

 قال: سافرت معه؟ قال لا.

 قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا.

 قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا.

 قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد.”

وأضاف الإمام: كما يبدو من حديثها فإنّ جمانة قد عانت كثيرا مع أسامة، فعليك بنصح ابنك وإرشاده؛ كي يعرف التّعامل مع زوجته بطريقة صحيحة.

لم يجد أبو أسامة ما يقوله للإمام سوى أن دعا الله قائلا:

نسأل الله أن يهديها ويهديه، وأنا أدعو فضيلتك أن تجلس مع أسامة الآن، وأن تستمع منه، فلعلّ جمانة تكذب عليه.

الإمام: لا أعتقد أنّها تكذب، فالفتاة تتكلّم بلوعة. لكن لا بأس من الحديث معه، ونسأل الله الصّلاح له ولها.

عندما وصلا بيت أبي أسامة، وقبل أن يطرحا تحيّة المساء صاحت أمّ أسامة بزوجها:

أين الولد يا سعيد؟

– الولد في حضن أمّه.

وهنا أطلقت رصاص كلامها الذي يصيب ضمير السّامع بمقتل، شتائمها اخترقت جدران بيوت الجيران، الذين خرجوا من بيوتهم يستطلعون ما يجري. نهرها أبو أسامة لكنّها لم ترتدع، خرج ابناها أسامة ورأفت في محاولة منهما لإدخالها إلى البيت دون جدوى. لكنّهما حالا دون وصول عصا والدهما الذي رفعها؛ ليهوي بها على كتفيها.

رفع الإمام صوته قائلا:

وحدّوا الله يا ناس.

وأبو أسامة يصرخ بصوت يغلي غضبا:

           فضحتِنا يا امرأة.

لكنّ ابنها رأفت أغلق فمها بباطن كفّه وجرّها إلى داخل البيت، كانت تلهث وصدرها يغلي كمرجل وهي تردّد:

ابن أسامة لن ينام هذه الليلة إلا في حضني أنا.

حاول الإمام تهدئتها فقال:

اهدئي وسآتيك بالطّفل بعد قليل.

كظم أبو أسامة غيظه أمام الإمام والتزم الصّمت، شعر بأنّه مجرّد ذبابة محشورة في زجاجة صغيرة، تحوم في فضاء ضيّق أمام الجميع، لا تستطيع الخروج من محبسها، ولا تستطيع الهدوء، اعتذر من الإمام على سوء تصرّفات زوجته وعلى ما صدر منها من كلام بذيء، قال لابنيه:

خذا والدتكما إلى الدّاخل، وأخرساها.

نظرت إليه غاضبة وصرخت به:

لن أتحرّك من مكاني غصبا عن الجميع.

اشتعل أبو أسامة غضبا وقال:

انصرفي يا امرأة، فما عدت قادرا على احتمال جنونك، وإذا تفوّهت بكلمة واحدة سأرمي عليك الطّلاق.

ردّت عليه ساخرة:

هههههههههههه، أخفتني بتهديدك بالطّلاق! هل أنت رجل كبقيّة الرّجال حتّى تطلّقني، فبقائي على ذمّتك وعدمه واحد!

هنا وقف الإمام وقال:

عن إذنكم، تصبحون على خير.

أمسك به رأفت واعتذر له بشدّة، في حين بقي أسامة مطأطئا رأسه كأنّه غير موجود.

قال الإمام مهدّدا:

إن أردتموني أن أجلس بينكم فأعيروني سكوتكم، ودعونا نتحاور مثل البشر.

هدأت أمّ أسامة قليلا وقالت:

أهلا وسهلا بك يا سيدنا الشّيخ، لكنّ لطيفة وابنتها لم تتركا مجالا للهدوء.

فعلى أيّ أساس تخطف بنت لطيفة طفلنا منّا، وتحرمنا من رؤيته؟ ولماذا لم تعد إلى زوجها؟ هل تريد الزّواج من غيره؟ غالبيّة النّاس لم يعلموا بعودتها حتّى تبدأ بافتعال المشاكل. النّساء كثيرات وسيجد أسامة من هي أفضل منها.

قال الإمام في محاولة منه لامتصاص غضبها:

اهدئي يا فاطمة وسيكون لك ما تريدين.

ردّت عليه مستغربة:

ماذا قلت أو فعلت حتّى تطالبوني بالهدوء؟

مرّت لحظات صمت غير مخطّط لها، الإمام يؤنّبه ضميره؛ لأنّه وافق أن يأتي مع أبي أسامة في هذا الليل البهيم، لكنّه أفتاها لنفسه، لأنّ في إصلاح ذات البين ثوابا عظيما، تعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم، وبسمل وقال:

“السّكوت من الشّيطان”، مع أنّي أرى أنّ السّكوت في هذه السّاعة فضيلة، ومع ذلك دعونا نستغلّ هذه الفرصة، ونستمع من أسامة عن أسباب خلافه مع زوجته، على أمل أن يوفّقنا الله بحلّ هذه الخلافات.

قبل أن يفتح أسامة فمه للحديث، انتفضت والدته وقالت غاضبة:

لا خلافات ولا غيرها، أسامة لا يريد أن تبقى بنت لطيفة زوجة له، وسيتزوّج غيرها اليوم قبل غد.

وهنا أرغى الإمام وأزبد، ووقف يرتعد غضبا وهو يقول:

يبدو أنّ التّفاهم معكم صعب جدّا. ومشى باتّجاه الباب، ليخرج دون استئذان، فوقف أبو أسامة وابنه رأفت في محاولة منهما لتهدئة الإمام ومنعه من المغادرة غاضبا دون أن يحتسي القهوة، لكنّ الإمام أقسم بالله أنّه خارج فورا، فما عاد يحتمل المكوث، بينما بقي أسامة جالسا مطأطئا رأسه، حائرا لا يقوى على فعل شيء. صحيح أنّه مستاء من موقف أمّه، ومشغول في استعادة ذكرياته مع جمانة، فلم يجد خطأ في حياته الزّوجية؛ ليؤنّب نفسه عليه. ولم يجرؤ على قول كلمة واحدة لأمّه.

********************

      بعد مغادرة إمام المسجد، عادت أمّ أسامة توبّخ زوجها وابنيها وقالت:

لو كنتم رجالا لما احتجنا لتدخّل الإمام أو غيره، اسمع يا أسامة، إن كنتَ ابني حقّا، فلن تعود بنت لطيفة زوجة لك، وسنزوّجك فورا ممّن هي أفضل منها، هذه سوزان بنت خالتك رائدة، شابّة حسناء ولا عيب فيها، وإن لم تعجبك سوزان، فصابرين بنت عمّك جاهزة، ولديها أموال كثيرة حصلت عليها من طليقها.

صاح بها زوجها كي تسكت، ووقف ابنها رأفت وقال:

لا يحقّ لأيّ منّا أن يتدخّل بين أسامة وزوجته إلّا بالخير، وجمانة امرأة فاضلة ومن خيرة النّساء، وأنجبت طفلا من أسامة، وطلاقها لن يكون في مصلحة أسامة ولا في مصلحة ابنه.

رفعت والدته صوتها وصاحت به:

اخرس أنت، وأنا أدرى منكم بمصلحة أسامة.

بينما غادر أبو أسامة الجلسة إلى غرفة النّوم غاضبا، وهو يقول:

هذه المرأة تهذي بما لا تعرف، وتضرّ نفسها وأبناءها.

بقي أسامة صامتا، وهذا سبب كافٍ لرأفت كي يثور عليه شقيقه، فقال له:

أراك تلتزم الصّمت وكأنّ الأمر لا يعنيك، كان الله في عون جمانة عليك.

ثارت والدته عليه، وبصقت على وجهه.

حوقل أسامة وقال على استحياء:

وحّدي الله يا أمّي، جمانة زوجة صالحة، لم أختلف معها على شيء، وأمضت معي سنتين زوجة مطيعة، حافظت على نفسها وعلى بيتها، ولا أعلم ما جرى لها، ولا كيف انقلبت هكذا.

ردّت عليه أمّه:

أنت لا تعرف ألاعيب النّساء، فربّما وجدت أمّها لها عريسا غيرك.

أسامة: اتّقي الله يا أمّي ولا تشتمي أعراض النّاس، جمانة امرأة حيّية ذات دين وخلق.

– إذا كنت تريد أن تعيش هانئا، فكما قلت لك، أمامك خياران بنت خالتك أو بنت عمّك، وبنت لطيفة اتركها “معلقة لا متزوجه ولا مطلقه” حتّى تموت بحسرتها. هي ووالدتها، وإن كنتما ابنيّ حقّا اذهبا واحضرا ابنك غصبا عنها وعن والديها.

******

في البيت اجتمع عيسى الحمّاد وزوجته وبناته، كلّ منهم له همومه، لكنّهم متحابّون متعاطفون مع بعضهم البعض، يشعرون بالحزن على جمانة وطفلها، لكن جمانة شعرت أنّها حسّون انطلق من قفص بعد أن ذاق مرارة السّجن عامين كاملين، تداعب طفلها الذي يبتسم لها ابتسامة ترسم سعادة لا يحلم بها أبناء السّلاطين.

قالت أمّ جمانة بلهجة ودّيّة حزينة:

يا ابنتي يا جمانة، كلّ النّساء يختلفن مع أزواجهنّ، ففكّري جيّدا قبل اتّخاذ قرارك النّهائي، ولا تنسي أنّك لا تزالين شابّة، وكثيرات من بنات جيلك لم يتزوّجن، وفي هذا الزّمن الأغبر الشّباب يعزفون عن الزّواج، ولا يتزوّجون العذراوات، فكيف سيتزوّجون مطلّقة وأمّا لطفل؟

تصدّت لها ابنتها تغريد وقالت:

“العزوبيّه ولا الزّيجة الرّديّه”، وجمانة أدرى بمصلحتها، وهي أكثر وعيا منّا، ولم ترفض استمرار الحياة الزّوجيّة مع أسامة عبثا، فاتركوها وشأنها.

أبو جمانة يعيش صراعا في داخله، فجمانة ابنته الأولى التي عرف معنى الأبوّة من خلالها، وما عاد قادرا على اتّخاذ القرار الصّحيح، فالتزم الصّمت ودموعه تنساب من عينيه بهدوء، ويشعر بمسؤوليّة كبيرة تجاه بنته، خصوصا وأنّه يحمل عناء توريطها بهذا الزّواج.

قالت جمانة وهي تداعب طفلها:

إذا كان الرّجال مثل أسامة فلا حاجة لي بزوج، وهذا ابني سأنذر نفسي لتربيته وتأديبه ليكون إنسانا ناجحا في حياته.

ردّت عليها أمّها ممقوتة:

“ربّيني وبعرف أهلي” و”ابن الكلب جرو”.

استفزّ كلام الأمّ هدوء جمانة فقالت:

نعم سأربّي أنا ابني، ولن أحرمه من والده ولا من عائلته، وسيبقى ابني في مراحل عمره المختلفة. و”ابن الحلال لا ينسى والديه”، وبالذّات أمّه.

استند والد جمانة في جلسته متثاقلا وكأنّه يجرّ جبلا وقال:

لا تستعجلي في قرارك يا بنتي، فربّما الغربة قد أثقلت عليك وعلى أسامة، ويبدو أنّه بسبب الغربة حرص عليك أكثر ممّا يجب، وهذا ما يضايقك، وأقترح أن نطلب منه كي تبقي هنا في البلاد، وأن لا ترافقيه بعمله في السّعوديّة، وفي المحصّلة سيترك عمله وسيعود للعمل هنا في القدس مثل بقيّة الشّباب، والقرار يبقى لك يا ابنتي، وأنا معك في الأحوال كلّها.

تضعف جمانة أمام والدها، فلا ترفع صوتها أمامه، فهي تعلم تماما حنانه الزّائد وحرصه عليها، وتدرك جيّدا مدى حبّه لها وتعاطفه معها، فوالدها عيسى عانى الكثير في حياته، فقد تشرّد في النكبة الأولى من مدينته يافا وهو طفل، تشتّت شمل عائلته، لم يكمل تعليمه المدرسيّ، وعانى الجوع والحرمان في بداية حياته، بنى نفسه بنفسه، نذر نفسه لتربيتها وتربية أخواتها، لم يزد عن كونه شمعة تحترق وتذوي ببطء. فقالت له بلهجة دافئة:

صدّقني يا أبي أنّني لم أحتمل العيش مع أسامة منذ الأسبوع الأوّل من زواجنا، ولم أنج من كيد أمّه حتّى في ليلة الدّخلة، واحتملت ذلك طلبا للسّتر؛ وكي لا أجلب لكم المتاعب. ولو بقيت في البلاد ما احتملت العيش معه أسبوعين كاملين، وقد خبرت الرّجل عامين، الحياة معه أصعب ممّا تتصوّرون. قراري ليس متسرّعا، ولا هو ردّة فعل على تصرّف عابر، وإنّما هي تراكمات لا يحتملها بشر، لذا لا داعي للتّريّث، أرجوكم خلّصوني منه، ولا داعي للحديث عن أيّة حلول معه غير الطّلاق، فإن وافق على الطّلاق وحضانتي لطفلي دون مشاكل فهذا هو أقرب الطّرق للخلاص منه، وسأتنازل له عن حقوقي كاملة، لا أريد منه مهري المؤجّل الذي هو حقّ لي، ولا أريد منه نفقة لي ولا لطفلي، وكل ما أريده هو الخلاص من الجحيم الذي عشته معه، وإن لم يوافق سأذهب غدا إلى محام لأرفع عليه قضيّة خلع.

انتفضت تغريد غاضبة وقالت باكية:

يا ناس أعتقد أنّ أسامة مجنون، وكما قال المثل:” مِشْ كلّ المجانين بِرموا حجار” وتصرّفات أسامة كما ترويها جمانة أعظم من تصرّفات المجانين..

جمانة: يا جماعة أسامة ليس مجنونا، أسامة يحمل فكرا تكفيريّا، لا يعتبر المرأة إنسانا، ويكفّر كلّ من يخالفه الرّأي ويعاديه أيضا.

قالت أمّ جمانة بلهجة حازمة:

 بعدما سمعته من جمانة، أرى أنّ الحلّ الأمثل أن يذهب أبوكِ لإمام المسجد كي يتوسّط عند أسامة؛ ليتّفقا على يوم يلتقي فيه مع جمانة في المحكمة الشّرعيّة؛ لتخلص جمانة ونخلص جميعنا من قرفه وقرف والدته.

بقي أبو جمانة على صمته، يغالب أحزانه التي يحاول كبتها، كي لا يؤثّر سلبا على نفسيّات بناته، وشعاره الدّائم “الرّجال صناديق مغلقة”، فأن تكظم غيظك خير من الغضب المفاجئ الذي لا يجلب إلا الخسارات. “الصّبر مفتاح الفرج”.

عند صلاة الفجر توضّأ أبو جمانة، تعوّذ بالله من الشيّطان الرّجيم، بسمل، وقصد المسجد.

في قرارة نفسه أراد أن يتحدّث بالموضوع مع أسامة ومع أبيه في المسجد، فلا داعي لمعرفة الآخرين بالموضوع، وكما قيل في الأثر:” استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان.”، لكنّهما لم يتواجدا في المسجد. فاستعاض عنهما بعد انتهاء الصّلاة بتكليف إمام المسجد، كي ينقل لأسامة قرار جمانة النّهائيّ بالطّلاق.

احتار الإمام أمام أبي جمانة، فهو لا يزال غاضبا ممّا جرى معه في الليلة الماضية في بيت أبي أسامة.

فكّر الإمام قليلا وقال:

يقول تعالى:” وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا نَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا.”

أمّا أنا فقد بذلت جهدي وفشلت، وأنصح بأن يتدّخل شخص آخر غيري.

ردّ عليه أبو جمانة:

لم يعد هناك مجال للإصلاح، ولم يبق حلّ غير الطّلاق، فإن وافقوا على الطّلاق، فذلك خير لنا ولهم، “والعقده اللي بتحلها بيديك أحسن من اللي بتحلها باسنانك. “وإن لم يوافقوا فـ “ذنبهم على جنبهم.”

قال الإمام: اعذرني يا أبا جمانة، فلم أعد قادرا على دخول بيت أبي أسامة، ولا قادرا على الحديث مع أسامة ولا مع أبيه، فكلاهما حجارة شطرنج يحرّكها الآخرون ولا رأي لهما.

فهم أبو جمانة موقف الإمام تماما دون أن يفصح عنه، فهو يعرف أنّ فاطمة أمّ أسامة هي الآمر النّاهي وصاحبة القرار، وبالتّالي فإنّ طريق التّفاهم معهم  مسدود. شكر الإمام وعاد إلى بيته يتعثّر بنجمة الصّباح التي يتلاشى لمعان ضوئها أمام أشعّة الشّمس القادمة من خلف الأفق البعيد، نسيم الصّباح في القدس يحمل معه قداسة وعبق تاريخ لا يكذب، وقداسة تنعش من يستوعبها، تمدّد أبو جمانة على الترّاب الطّهور في حديقة المنزل، ساندا كتفيه على ساق شجرة تين ثمارها دانية، من هناك يطلّ على القدس القديمة، يرى جانبا من المسجد الأقصى، تبدو أمامه قبّة الصّخرة المشرّفة وكأنّها تحاكي السّماء، غفا من راحة حلّت عليه رغم الكوابيس التي رآها في الليلة الماضية، التي كان ملاك النّوم يسطو عليه فيها لدقائق قليلة، ولا يلبث أن يهرب من هموم تفتح أفواهها كالغيلان. استيقظ على وقع خطوات ابنته تغريد التي قدّمت له فنجان قهوة، وبضع حبّات من التّين قطفتها قبل أن يتطاير النّدى عنها، التفت إليها وابتسم، فعاجلته بتحيّة الصّباح، لكنّه استند عندما خرجت جمانة من عتبة البيت تحمل طفلها وتناغيه، مدّ إليه يده وهو يقول:

ما أجمل هذا الصّباح بوجودك أيّها الغالي سعيد!

فاض قلب جمانة سعادة وهي ترى والدها يحتضن طفلها بحنان زائد، في حين كان الطّفل يداعب شاربي جدّيه الأشيبين.

مازحت تغريد جمانة وأباها فسألته:

من تحبّ يا أبي أكثر جمانة أم ابنها سعيد؟

ضحك الأب وقال:

“ما اغلى من الولد إلا ولد الولد.”

عادت تغريد تسأل:

لكنك لم تجب، فأيّهما أحبّ إلى قلبك؟

قبل أن يجيب الوالد قالت جمانة مفاخرة:

طبعا هو يحبّ سعيد أكثر منّي ومنكِ.

قالت تغريد تستفزّ جمانة:

لكنّ سعيد ليس ابننا يا أبي.

نهرها والدها بينما قالت جمانة:

إذا كان الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ابني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلماذا لا يكون سعيد ابنًا لعيسى الحمّاد أبي يا فصيحة؟

واصل أبو جمانة مداعبته لحفيده وهو في منتهى السّعادة.

*****

  لم تصدّق أمّ أسامة أنّ جمانة تطلب الطّلاق من أسامة، واعتبرت موقف جمانة مجرّد مناورة، تريد من ورائها تحقيق أهداف لا يعلمها إلّا الله، فهي ترى أسامة أفضل شباب العالم، وهو موضع فخرها، تتباهى به أمام معارفها من النّساء، وترى أنّ أيّ فتاة في العالم تتمنّاه زوجا لها. لذا فإنّ جمانة لا تستحقّ أن تكون زوجة له.

في لقاء الأسرة ذات مساء قال أبو أسامة:

“رحم الله امرأ عرف قدر نفسه”، يجب أن نعمل ما نستطيعه للتّوفيق بين أسامة وجمانة، وهذا لصالح أسامة قبل غيره.

انتفضت أمّ أسامة كمن لدغته أفعى سامّة، صكّت على أسنانها غضبا وتساءلت مستنكرة:

ما هذا التّخريف الذي تقوله؟ أسامة زين الشّباب وكلّ النّساء يتمنّينه، ومناورات جمانة لن تمرّ، ولن تعود زوجة لأسامة.

قالت ابنتها أسمهان في محاولة منها لتلطيف الجوّ:

جمانة فتاة جميلة هادئة حيّية، لم تتّخذ هذا الموقف من فراغ. علينا أن نصلح أنفسنا أوّلا، وعلى أسامة أن يراجع حساباته في علاقته مع جمانة إن أراد أن يعيش حياة زوجيّة هانئة.

لوَت أمّ أسامة فمها ساخرة من حديث ابنتها، بينما قال أسامة:

أُشهد الله أنّ جمانة زوجة صالحة، لم تعصِ لي أمرا، ولم تخالفني في أيّ شيء، حتّى لو لم تقتنع به، وأخشى أن يكون شيطان قد تلبّسها، أو أنّ هناك من عمل لها سحرا!

قالت له أمّه موبّخة:

من أين أتاها الصّلاح؟ لا أريد أن أسمع هكذا كلام منك مرّة ثانية، جمانة لن تعود زوجة لك ثانية، النّساء كثيرات وكلّهنّ يتمنّينك.

خرج رأفت شقيق أسامة عن صمته وقال:

 سبحان الله “القرد في عين أمّه غزال”، على أسامة وعلينا جميعنا أن نحمد الله ونشكره على زواج أسامة من جمانة، وعلينا أن نحترم إرادة أسامة، فلا يحقّ لنا التّدخّل، بين أسامة وزوجته إلا بالخير.

التزم أبو أسامة الصّمت، لأنّه على قناعة تامّة بأنّ كلامه غير مسموع، فزوجته متسلّطة بطريقة لا يقبلها إنسان، عاد بذاكرته عندما اختارت زوجته جمانة عروسا لأسامة، لكنّه يعرف أنّ أمّ أسامة “لا يعجبها العجب”، ولا تقوى إلا على الدّسائس، ولا يمكن إقناعها. أنّب نفسه لأنّه لم يردعها عن غيّها وضلالها منذ بدايات زواجه منها، ولو أنّه “قطع راس البسّ” من ليلة الدّخلة لما وصل به الحال إلى ما وصل.

قالت أمّ أسامة لابنها أسامة:

 أمامك خياران لا ثالث لهما:

اختر صابرين بنت عمّك عزّ الدّين، أو سوزان بنت خالتك رائدة، وانسَ بنت أمّ ريالة.

ضحكت ابنتها أسمهان وسألت:

من هي أمّ ريالة؟

– لطيفة.

قال رأفت: لطيفة أمّ جمانة اسم على مسمّى، وليتنا لطيفون مثلها.

ردّت عليه أمّه:

كفانا الله شرّ ما قلت!

– لا تخافي…اللطف بعيد عن بيتنا.

عادت تقول:

اتركوا الأمر لي.

سألها رأفت:

 ماذا ستفعلين؟

– هذا ليس شأنك!

– قال أسامة:

سأعمل رقية شرعيّة لجمانة، عسى الله يهديها.

ردّت عليه أمّه:

الله لا يهديك ولا يهديها، قلت لكم اتركوا الأمر لي.

قال أبو أسامة وهو يغادر الجلسة:

“الحقوا البوم يدلّكم على الخراب”.

ردّت عليه: “سكتَّ دهرا ونطقتَ كفرا.” والله ما فيه بوم غيرك.

*****

ارتدت “أمّ أسامة” أجمل ملابسها، تزيّنت بمساحيق وضعتها على وجهها بعناية، وخرجت من البيت في ساعات العصر، لم تستأذن من أحد، ولم تخبر أحدا عن وجهتها، وليس هناك من يسألها، تمشي بخيلاء الفتيات في مراحل الصّبا، حيث ترى الواحدة منهنّ نفسها وردة متفتّحة يفوح عبيرها، لكنّ أمّ أسامة ترى نفسها سيّدة الحسن والجمال، وربّ البيت وربّته، فهي التي تأمر وتنهى، لا يجرؤ أحد على معارضتها، فالزّوج غير قادر على ردعها، بينما نزح الأهل إلى الأردنّ في حرب حزيران-يونيو- 1967. عندما اندلعت تلك الحرب كانت عروسا لم يمض شهران على زواجها، وهذه واحدة من الأسباب التي جعلت زوجها سعيد العدنان، يطلق لها الحبل على غاربه، فقد أراد أن يعوّضها عن الأب والأمّ والأخ والأخت الّذين حرمها الاحتلال منهم، تماما مثلما حرمهم من بيتهم وأملاكهم ووطنهم.

لم تذهب أمّ أسامة بعيدا، فقد قصدت بيت سلفها المرحوم الحاجّ عزّالدّين.

استقبلتها صابرين ووالدتها بالأحضان، ما أن جلست وقبل أن تلتقط أنفاسها حتّى احتضنت طفلة صابرين، أخذت تداعبها وسألت ضاحكة:

نسيت اسمها.

ردّت عليها صابرين:

اسمها جورجيت.

– آه…ما شاء الله عليها.

التفتت أمّ أسامة إلى صابرين وسألتها:

هل تعلمين يا صابرين أنّني عاتبة عليك؟

– خيرا يا عمّة؟

–” العتب على قدر العشم” وأنت مثل ابنتي، وعتبي عليك أنّك لم تأت للسّلام على أسامة بعد عودته، فبيتنا وبيتكم واحد، وأنت مثل ابنتنا، عندما جاءت الحاجة أمّك – ربنا يعطيها الصّحة والعافية- افتقدتك إذ لم تأت معها.

– والله يا عمّة أسامة عزيز وغال، وهو ابن عمّي وتاج راسي، لكنّه لا يجالس النّساء ولا يصافحهنّ، حتّى والدتي التي هي أكبر منك عمرا وتعتبره مثل ابنها لم يصافحها.

ضحكت أمّ أسامة وقالت:

أسامة -ربنا يرضى عليه ويحميه- لا يصافح إلا المحرّمات من النّساء وزوجته، وهذا دلالة على عفّته وتقواه.

سألت صابرين بعفويّة تامّة:

هل صحيح ما سمعناه يا عمّة أنّ جمانة هربت إلى بيت والديها، وتطلب الطّلاق؟

حاولت أمّ أسامة -على غير عادتها- أن تضبط نفسها وقالت:

الصّحيح أنّ أسامة سلّمها لوالديها، ورمى عليها الطّلاق، ولا يريدها زوجة له. و”ربنا يستر على كلّ الولايا”.

قالت صابرين على استحياء:

لا حول ولا قوّة إلا بالله، ماذا جرى لها؟ فقد عرفناها فتاة مؤدّبة حييّة هادئة، وصاحبة دين وخلُق.

– لا تغترّي بالمناظر يا ابنتي…”ياما تحت السّواهي دواهي.”

غفت والدة صابرين على كنبتها، فقد أنهكتها أمراض الشّيخوخة، وما عادت تطمع في شيء من متاع الدّنيا، وكلّ ما تتمنّاه هو أن تمضي بقيّة عمرها بهدوء.

تظاهرت أمّ أسامة بالوقار والرّحمة، بدأت تنصب شباكها كما بيت العنكبوت، لكن بخيوط من المكر والخديعة فقالت لصابرين:

دعينا ننتقل إلى الجلوس في مكان آخر؛ كي لا نزعج الوالدة -حفظها الله وعافاها-.

وافقتها صابرين دون نقاش، وهي تشكرها على فطنتها ورقّة قلبها، انتقلتا للجلوس في البرندة التي تحجبها أشجار حديقة المنزل، فتضفي عليها ظلالها، وتخلق أجواء رومانسيّة لا تنقصها تغريدات الطّيور التي تحطّ على الأشجار والورود؛ لتلتقط طعامها.

استأذنت صابرين لتغلي فنجاني قهوة، حاولت أن تأخذ ابنتها من حضن أمّ أسامة؛ كي لا تثقل عليها، لكنّ أمّ أسامة رفضت التّخلي عن الطّفلة، فأمسكتها من تحت ذراعيها، رفعتها وقبّلت وجنتيها، وهي تقول:

ما شاء الله عليها! والله محبّتها في قلبي كبيرة، فأنت يا صابرين مثل بنتي، وبنتك مثل حفيدتي-دون يمين- وغلاوتها من غلاوتك.

شكرتها صابرين من قلبها، وهي تقول:

الله لا يحرمنا من طيبتك وحنانك، فأنت بمثابة أمّي الثّانية.

بعد أن ارتشفت أمّ أسامة رشفة واحدة من فنجان القهوة، أدارت القهوة في فمها، تلمّظت وقالت:

مممممممممممممم ما أطيب هذه القهوة! سلمت يداك يا بنتي.

دغدغت بكلماتها هذه أحاسيس صابرين فردّت على استحياء:

صحتين وعافية. أهلا وسهلا بك يا عمّة، وليتك تشرّفينا بزيارتك لنا يوميّا، فأنت من أصحاب البيت.

 شعرت أمّ أسامة بأنّ صابرين قد وقعت في شباكها، فابتسمت وقالت:

بإذن الله سنشربها من يديك في بيتنا بشكل دائم، عندما تصبحين زوجة لأسامة!

تفاجأت صابرين بما سمعته، احمرّ وجهها حياء، وقالت في محاولة منها للهروب من الموقف:

سلامة جمانة زوجة أسامة.

ردّت أمّ أسامة قائلة:

الله لا يسلّمها ولا يسلّم والدتها، الحمد لله أنّنا خلصنا منها ومن قرفها، وأسامة رمى عليها الطّلاق أمام والديها.

وجدت صابرين نفسها في مأزق، فقالت:

نسأل الله الهداية والصّلاح لهما.

– لم تترك جمانة منفذا للإصلاح، ونحمد الله أنّ أسامة طلّقها، وخلّصنا منها.

يبدو أنّها وأمّها قد عملتا سحرا لأسامة؛ كي يكره أهله ومحبّيه؛ ليبقى متعلّقا بها؛ لكنّني لن أسمح لكيدهنّ أن يلحق الأذى بأسامة، ومن يوم غد سأذهب إلى فتّاح مشهود له بالكفاءة والقدرة على حلّ السّحر، وسأطلب منه أن يعمل عملا يحبّبك إلى قلب أسامة؛ ليتزوّجك في أقرب فرصة.

كبتت صابرين عواطفها، رغم أنّ قلبها خفق عندما سمعت كلام زوجة عمّها، فحاولت أن تتمنّع؛ كي تتمسّك بها أمّ أسامة، فقالت:

الفتّاحون مشعوذون ومحتالون، ولا أنصح بالتّعامل معهم، وكما قال المثل:

” من صدّق مشعوذا كذّب نبيّا”.

– لا..لا يا بنتي، ليتني لم أسمع هذا الكلام منك، فالفتّاح الذي سأذهب إليه رجل تقيّ اسمه الحاجّ عديّ، يشهد له كثيرون بقدرات عجيبة، وكلّ قضيّة تأتيه يجد لها حلّا.

– يا عمّة لا يعلم ما في دواخل النّاس غير الله.

قالت أمّ أسامة بلهجة فيها عتاب:

ما توقّعت منك هكذا كلام يا صابرين، أنا جئت إليك كي ترافقيني إلى الفتّاح، لكنّك خيّبت ظنّي، على كلّ حال أنت حرّة فيما تقرّرينه، اتركي لي أمر الفتّاح، فأنا سأذهب إليه وحدي، لكنّني أريد منك أن تتردّدي على بيتنا وأنت في كامل زينتك؛ كي يراك أسامة، ويتعلّق بك، واتركي الباقي عليّ، وأنا كفيلة به.

– أنا لا أفكّر بالزّواج يا عمّة، وإذا تزوّجت فمن سيرعى ابنتي؟

– إذا كتب الله لك النّصيب مع أسامة، فابنتك في عيوننا، وهي ابنتنا أيضا مثلك تماما، وأسامة رجل دين ويخاف الله في كلّ شيء، ولا مقارنة بينه وبين ذلك الدّاشر الذي كنت زوجة له.

******

   بعد أن سمع إمام المسجد والمختار من الطّبيبة أنّ عائشة لا تزال عذراء وهي تعاني من آلام المخاض في حملها من زوجها الثّاني، قال المختار: إنّ الإنسان يولد ويعيش ويموت وهو يجهل أشياء كثيرة، أمّا إمام المسجد فقد شعر بالرّضا عن نفسه، لأنّه لم يشارك في الطّعن بشرف عائشة كما فعل كثيرون من الرّجال والنّساء، وكلّما سمع غيبة ونميمة عن عائشة أو عن غيرها كان يدعو إلى اتّقاء الله في أعراض النّاس، ويردّد قوله تعالى:

” وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.”

 أمّا عائشة نفسها فقد اكتفت -عندما سمعت ما قالته الطّبيبة عن “البكارة المطّاطيّة” – بقولها “حسبي الله ونعم الوكيل، وأدعو الله أن ينتقم من كلّ من ظلموني.” وقرّرت أن تزور مسقط رأسها مرفوعة الرّأس، متباهية بأنّها أصبحت أمّا، بعد أن امتنعت عن ذلك منذ زواجها الثّاني، في محاولة منها للهروب من نظرات أناس لا يخافون الله.

كثير من الأمور والقضايا الصّاخبة يطويها الزّمن في صخب الحياة، لكنّ مجتمعاتنا بالثّقافة الذّكوريّة السّائدة يتظاهر النّاس فيه بالعفّة والتّقوى، ومع ذلك يتهامسون فيما بينهم طعنا بأعراض النّساء، ويتوارثونها جيلا بعد جيل، بعيدا عن مسامع ضحاياهم.

انتبه إمام المسجد بعد أن تأكّد من براءة عائشة، بشهادة الطّبيبة التي أشرفت على ولادتها، فقرّر أن يخصّص خطبة الجمعة حول هذا الموضوع، دون التّطرّق لعائشة وما جرى معها، وهو على قناعة بأنّ هناك نساء كثيرات كنّ ضحايا للجهل مثل عائشة، بل إنّ عائشة قد تكون محظوظة أكثر من غيرها؛ لأنّها لم تخسر حياتها بسبب تهمة باطلة.

استهلّ الإمام خطبة الجمعة بقول الله تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”.

وحذّر من مغبّة تداول اِلإشاعات الكاذبة حول أعراض النّاس، وقال إنّ التّطاول على أعراض النّاس من الكبائر، فالرّسول عليه الصّلاة والسّلام يقول:” اجتنبوا السّبع الموبقات قلنا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.”

 وبيّن في الخطبة عقوبة من يُقدِم على هكذا أمور في الدّنيا والآخرة.

لاقت خطبة الإمام الإستحسان والقبول من غالبيّة المصلّين، ومن الذين استمعوا للخطبة عبر مكبّرات الصّوت في المسجد التي يخترق صوتها بيوتهم دون استئذان، في حين تساءل البعض عن سبب الخطبة. كثير ممّن تساءلوا كانوا من النّساء اللواتي أخذن يتهامسن بأسماء بعض الفتيات اللواتي تزوّجن في الفترات القصيرة السّابقة للخطبة، لكنّ أمّ زياد وأبو زياد ومن باب ” اللي في بطنه عظام بتقرقع” كانا على يقين بأنّ ما جرى مع عائشة عندما تزوّجها ابنهم زياد هو ما أوحى للإمام بهذه الخطبة.

 سرد المختار لبعض المقرّبين منه ما سمعه من طبيبة الولادة في مستشفى المقاصد بخصوص عذريّة عائشة، وكلّ منهم سرد ما سمعه لأهل بيته، حتّى انتشر الخبر، لكنّه لم يجد صدى مثلما فعلت الإشاعة الأولى حول عدم عذريّتها عندما تزوّجت من زياد، فالهدم أسهل بكثير من البناء.

بعد شهر من ولادة عائشة، زارت بيت والديها للمرّة الأولى بصحبة طفلها، فأقامت والدتها حفلا غنائيّا صاخبا احتفالا بعائشة وبطفلها، تسابقت نساء الحارة مهنّئات مباركات. عبّرت أمّ أسامة عن فرحها الزّائد بعائشة وطفلها، وقادت النّساء بحلقة دبكة شعبيّة لافتة.  وغنّت للطّفل:

والحمد لله يا قلبي فرح

يا قمرنا يا أبو هليله

تعال بات عندنا هالليلة

          لنذبح لك عجل وعجيلة

_________________

يا حمام يا حمام وين الولد ينام

تحت ظل القطيفه فوق ريش النّعام

أمّا جدّته لأمّه فقد غنّت له:

يا عين ” كايد ” نامي يا ملانه نوم

 في عين عدوّك لأدقّ البصل والثّوم

فرحة أبي عائشة كبيرة بابنته الطّاهرة العفيفة، وبطفلها الذي أسمته “كايد”. فقرّر أن يعمل عقيقة للحفيد، نحر فيها خمسة خراف، دعا إليها الأقارب والأصدقاء، دون حضور أبيه وجدّيه لأبيه؛ لأنّ الاحتلال منعهم من دخول القدس.

شعر زياد ووالداه بالخزي والعار عندما سمعوا بعفّة عائشة، خصوصا وأنّ زيادا لم يجد من تقبل بالزّواج منه حتّى ذلك الوقت، ولم يحاول الزّواج من منطقة بعيدة؛ لأنّه صار يشكّك بعذريّة وعفّة الفتيات كافّة.

انقلبت الأمور مع عائشة تماما، فأصبحت فخورة بنفسها، تخطّت مرحلة الابتعاد عن النّاس، الذين قذفوها بأبشع الكلام. وضعت وليدها في عربة أطفال، جابت به شوارع الحارة، فرأت عيون حقد سابقة قد اختفت وراء حيطان البيوت، تتسلّل نظراتهم من زوايا معتمة يحدّقون بها، يستنزفون ذكريات الكراهية والضّغينة التي ارتدتها نفوسهم المريضة، أمّا هي فقد كانت تطلق دعواتها إلى السّماء شاكرة الخالق الذي أنعم عليها بشهادة براءة وبطفل يملأ حياتها حبّا وكرامة.

****************************

  لم تندم جمانة على سنتين مضتا من عمرها، فرغم مرارة العيش ونكد الحياة إلا أنّها خرجت منهما بطفل ملأ حياتها سعادة.

تدرك جمانة أنّ الطّلاق قد يصبح أحيانا محطّة نجاة في حياة المرأة، تنطلق منها من جديد فتتحاشى الوقوع في شراك زواج فاشل مرّت به. فمع أنّ “الطّلاق أبغض الحلال عند الله” إلا أنّه قد يصبح ضرورة للخلاص من مرحلة لا تطاق، البدء بحياة تستخلص تجارب ممّا فات. هي متفائلة دائما، تحلم بحياة ترسمها بخيالها، وواثقة من بلوغها، وستبدأ مرحلة تبني فيها نفسها، لذا فلا مجال للبكاء على أطلال درست. فقرّرت العمل كمدرّسة والالتحاق بالجامعة للحصول على شهادة الماجستير، لم تحتج لكثير من الوقت؛ لتحسم خيار تخصّصها العلميّ، فانصرفت عن دراسة اللغة العربيّة وآدابها؛ وقرّرت التّسجيل لدراسة الشّريعة الإسلاميّة، وفي ذهنها أن تتبحّر في دراسة الشّريعة؛ لتقف على حقوق المرأة كما منحها الله إيّاها، لم تفصح لأحد عن سبب اختيارها هذا، لكنّها أرادت أن تتأكّد من صحّة موقفها من أسامة، فهل تعامله معها انطلق من معتقدات دينيّة حقّا، أم أنّ له فهما خاصّا يبعده عن الدّين الصّحيح دون أن يدري.

لم تنتظر طويلا، فقد عملت في إحدى مدارس البنات التّابعة للأوقاف الإسلاميّة، وسجّلت في جامعة القدس لدراسة الماجستير في الشّريعة.

عند التّسجيل سألها أحد المسؤولين بعفويّة:

لِمَ اخترت الشّريعة ولم تختاري اللغة العربيّة التي حصلت على مرتبة الشّرف بها في مرحلة “الليسانس”؟

فردّت عليه بلهجة هادئة بسؤال استنكاريّ:

هل هناك مانع من دراسة الشّريعة؟

التفت إليها وقال مبتسما:

طبعا لا.

فقالت له: التّفقّه بأمور الدّين واجب، ومن يدرس الشّريعة يدرس اللغة معها أيضا.

فقال لها: على بركة الله، أتمنّى لك التّوفيق.

بقي طفلها سعيد في حضانة والدتها عند غيابها عن البيت في التّعليم والتّعلّم.

ذات يوم وبينما جمانة في الجامعة احتضنت والدتها حفيدها سعيد وجلست به في ظلّ شجرة أمام البيت، تسلّلت أمّ أسامة وابنتها أسمهان من خلفها ودون انتباه منها اختطفت أمّ أسامة الطّفل، وهربت به تتبعها ابنتها، أطلقت أمّ أسامة سيلا من الشّتائم على جمانة وعلى والدتها، وآخر ما قالته:

من تهرب من زوجها لا تستحقّ أن تكون أمّا، وهذا ابننا عاد إلينا، وكما قال المثل” جحا أولى بلحم ثوره”! والنّساء لا أبناء لهنّ فهنّ مجرّد “بطن حَفِظ نَفِض”، لم تتحرّك أمّ جمانة من مكانها، فقد خافت من الفضيحة أمام النّاس، لكن خوفها الأكبر هو على سبطها سعيد، فلم ترد أن تخيفه، أو أن يسقط على الأرض فيلحق به أذى، حوقلت ولم تقل سوى:” الولد رضيع ولا يستغني عن أمّه.”

عندما عادت جمانة إلى البيت وجدت والديها كئيبين حزينين، ولمّا علمت بما جرى قالت لهما:

لا داعي للقلق، سيعود سعيد هذه الليلة. فحضانته لي شرعا وقانونا، الآن سأذهب إلى محام.

قصدت مكتب المحامي اسماعيل أبو حديد في شارع صلاح الدّين، شرحت له قصّتها وأوكلته باستعادة طفلها، وبرفع دعوى خلع من أسامة.

استعجل المحامي قضيّة إعادة الطّفل لأمّه، تكلّم مع الباحثة الإجتماعيّة المناوبة، واستخرج أمرا من محكمة الشّؤون الصّغيرة بإعادة الطّفل فورا لحضانة أمّه.

عندما عادت جمانة إلى البيت وجدت أنّ الشّرطة قد أعادت الطّفل، وعلمت أنّه جرى اعتقال أمّ أسامة لمدّة 24 ساعة؛ لأنّها قاومت الشّرطة وبصقت على أحدهم.

احتضنت طفلها وقبّلته بهدوء، جلست في الصّالة مع والديها وشقيقاتها وكأنّ شيئا لم يحدث، استغربوا هدوءها وعدم لهفتها على رضيعها، فهذه ليست جمانة التي يعرفونها بحنانها الزّائد، انتبهت لنظراتهم وفهمت مغزاها فقالت باسمة:

لقد وضعت عاطفتي في ثلّاجة، وطوّحت الضّعف والمداراة بعيدا عن بيتنا ومن طريقنا، عركتني الأيّام وأعي الآن تماما أنهّ:” إن لم تكن ذئبا أكلتك الكلاب”، وأنا اليوم لبؤة أعرف ما علينا وأعرف ما لنا أيضا، ولن أسمح لأحد بأن يتطاول علينا، لم أخف على سعيد عندما علمت أنّ جدّته قد اختطفته، فمن حقّ جدّيه ووالده وعائلتهم أن يروه، وأن يعرفوه وأن يعرفهم أيضا، وهذا حقّ لسعيد أيضا، لكنّ حقّ حضانته لي، ولن أتخلّى عن هذا الحقّ، لذا لجأت لمحام، وها هو سعيد يعود إلى بيتنا قبلي أنا، دون بكاء أو صراخ.

في اليوم التّالي استصدر المحامي أمرا قضائيّا يمنع أسامة من السّفر، قبل أن يكمل طلاق جمانة في المحكمة الشّرعيّة، كما رفع دعوى خلع باسم جمانة في المحكمة الشّرعيّة في شارع صلاح الدّين.

لم يعلم أسامة بقرار منعه من السّفر، فحاول الهروب إلى عمله؛ ليترك جمانة “معلقة لا متزوّجة ولا مطلقة” حسب نصيحة والدته. عندما منعوه من عبور الجسر لم يقولوا له سبب المنع، فعاد إلى البيت مهدودا، ساقاه ترتطم إحداهما بالأخرى، رمى جسده على الكنبة كجثة هامدة.

 صباح اليوم التّالي ذهب إلى أحد المحامين وأوكله بالموضوع، استفسر المحامي من الشّرطة عن سبب منع موكّله من السّفر، ولما تلقّى الجواب، اتّصل بأسامه وأخبره أنّ هناك دعوى من زوجته جمانة تطلب فيها خلعه.

شعر أسامة بخيبة أمل كبيرة من والدته ومن نصائحها. نصحه المحامي بأن يرفع دعوى نشوز على جمانة، والطّلب من المحكمة أن تلزمها بالعودة إلى بيت الزوجيّة.

في المحكمة طلب محامي جمانة دمج قضيّتها المطالبة بالخلع بقضيّة أسامة الذي يطالبها بالعودة إلى عشّ الزّوجيّة.

******************************

سبحان مغيّر الأحوال، هذا ما فكّرت به صابرين بعد زيارة أمّ أسامة زوجة عمّها سعيد المفاجئة لها، فلم تعهد منها هذا الودّ غير المسبوق، فهل هداها الله بعد هذا العمر الذي قضته في الغيبة والنّميمة وافتعال المشاكل، أم أنّ لها أهدافا ظاهرها الخير وباطنها السّوء؟ فكلامها عن زواج صابرين من يونس، وإنجابها لطفلتها لم تمحه الذّاكرة، فقد حسبت فترة حملها من يوم زفافها حتّى ولادتها، والتي كانت ستّة أشهر، وأعادت إلى أذهان الأقارب والمعارف بأنّ الحمل حصل قبل الزّواج، وهذا بحدّ ذاته سبب ارتكزت عليه أمّ أسامة للتّشهير بصابرين والطّعن بعفّتها وبشرفها. صحيح أنّ زواج صابرين من يونس الذّهبي قد أخرس الألسن التي تستطيب الغيبة والنّميمة، لكنّ طلاقها بعد الإنجاب المبكر قد أعاد إلى الأذهان تلك الحادثة وما تحمله من مخاطر على سمعة صابرين، فهل هذا التّغيير في موقف زوجة العمّ نوع من النّدم وطلب الغفران عمّا مضى، أمّ أنّ “وراء الأكمة ما وراءها”؟ وهل ترغب أمّ أسامة حقّا بأن تصبح صابرين زوجة لابنها أسامة، أم أنّها تريدها جسرا تعبر من خلاله بحورا ستُغرق فيها آخرين.

صحيح أنّ أمّ أسامة دغدت بحديثها المعسول عواطف صابرين، لكنّ صابرين راودتها شكوك كثيرة، فكّرت بكلام زوجة عمّها، ولم تصل إلى نتائج مقنعة، فقرّرت أن تأخذ رأي والدتها، لعلّها تخرجها من دوّامة التّفكير التي تعيشها.

استمعت أمّ صابرين لها بهدوء، وبعد ذلك قالت لابنتها:

اسمعي يا ابنتي” ابن الحيّه ما بِنحط في العِبّ”، وأمّ أسامة حرباء متلوّنة، لا يؤتمن جانبها، وأسامة أفنى عمره “خشخوشة” في يد والدته، “لا بِنعى ولا بِسَكّت ابن النّعايه”، وهذه المرأة “كلّ ساعة برأي”، وأخشى أنّها تريد الانتقام من جمانة ووالدتها بك” من باب “اضرب النّساء بالنّساء” و”ما بِكيد المرأة إلا امرأة مثلها”. فإيّاك أن تنجرّي معها.

أصغت صابرين لوالدتها باهتمام بالغ وقالت ضاحكة:

هذا ما فكّرت به.

الأمّ: إذن…إيّاك أن تذهبي إلى بيتهم، وإن أرادوك زوجة لأسامة بعد طلاق جمانة، وأنت تقبلين ذلك، فسيأتون إليك هم، وكما قال المثل:” اللي بِطلع من داره، بقِلّ مقدارة.”

صابرين: وهل تعتقدين يا أمّي أنّ أسامة سيقبل بي زوجة له؟

تنهّدت الأمّ وقالت:

“الزّواج قسمه ونصيب”، ولا أحد يعلم ما في الغيب إلا الله-سبحانه وتعالى-.

جمانة: لكنّ أسامة متزمّت بفهمه للدّين.

الأمّ: المتديّنون يا ابنتي الذي يفهمون الدّين على حقيقته يخافون الله، ويعرفون حقوق زوجاتهم أكثر من غيرهم.

صابرين: لكنّ أسامة كما نسمع من الشّباب يحمل فكرا تكفيريّا، وله فهمه الخاصّ للدّين، ونظرته للمرأة سلبيّة جدّا، وهذا أحد الأسباب التي جعلت جمانة تنفر منه مع أنّها متديّنة هي الأخرى.

الأمّ: يا ابنتي ” ما بِبْقى على ما هو إلّا هو-أي الله-،” والبشر بطبيعتهم متقلّبون، ولعلّ تجربة أسامة بزواجه من جمانة تكون سببا له لمراجعة حساباته، وبغضّ النّظر عن هذا، فجمانة لا تزال زوجة لأسامة، وأنجبا طفلا، وربّما “ستعود المياه بينهما لمجاريها”، ولا داعي لاستعجال الأمور.

عندما عاد رائد شقيق صابرين إلى البيت سألها عن أسباب زيارة أمّ أسامة لهم، سبقت صابرين والدتها بالإجابة، فقالت ببرود:

زيارة عاديّة، فهي زوجة عمّنا.

ردّ رائد بلهجة قاسية وقال:

عماها الله، هذه المرأة لا تعرف عمّا ولا خالا، وما دخلت بيتا إلّا لإشاعة الفتنة فيه.

ابتسمت والدته ونظرت إلى صابرين دون كلام، فهمت صابرين من نظرات والدتها  أنّ رائد يعرف زوجة عمّه تماما، ولا يثق بها.

أرادت أمّ رائد أن تحسم موقف ابنها من أسامة فسألته:

لماذا لا تذهب لزيارة بيت عمّك سعيد، وتسهر عندهم وتتعرّف جيّدا على أسامة؟

ابتسم رائد وقال:

سلّمت عليه عندما عاد من السّعودية في إجازته الصّيفيّة، وجلسنا في صالون البيت كما الجلوس في بيت العزاء، أمّ أسامة تتحدّث وحدها وتسأل وتجيب وتضحك، ولا يشاركها أحد الحديث، وإن تكلّم أحدهم فسرعان ما تقطع حديثه؛ لتفرض رأيها، احتسيت فنجان قهوة وخرجت.

– ألم يتكلّم أسامة معك؟

ضحك رائد وقال:

أسامة يجلس وحده لا يكلّم أحدا، وحسن أنّه لا يتكلم، لأنه إذا تكلّم لن يسمعه أحد.

سألت صابرين على استحياء:

هل سمعت أنّ زوجة أسامة “حردانة”؟

– نعم سمعت.

– لِمَ ؟

– لم أسأل عن السّبب، لكن بالتّأكيد أنّها لم تستطع العيش مع أسامة.

– لِمَ لَمْ يكن الخطأ من جمانة؟

– يستحيل ذلك، فكلّنا نعرف جمانة ووالديها وشقيقاتها، ونعرف الشّيء نفسه عن أسامة، ونسأل الله أن يهدي الله زوجة عمّنا أمّ أسامة.

    ابتعلت صابرين شكوكها، وتأكّدت أنّ “سوس الخشب منّه فيه”، فهذه فاطمة زوجة العمّ سعيد تخرّب بيتها بيديها، والعمّ أبو أسامة مغلوب على أمره، لا يقوى على فعل شيء، لكنّها استغربت موقف أسامة، فهو شابّ متعلّم ويدرس للحصول على شهادة الأستاذيّة “الدّكتوراة”، في الشّريعة، وبالتّالي فإنّه من المفروض أن يعرف حدود الله، صحيح أنّ الإنسان مطالَب ببرّ والديه، لكن “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.

التفتت صابرين إلى والدتها وسألتها:

من غير المعقول أن تؤثّر أمّ أسامة عليه بخصوص علاقته مع زوجته جمانة، فمنذ زواجهما وهما في السّعوديّة حيث يعمل، فلا تراهما ولا يريانها.

ضحك رائد وهو يقول:

العالم أصبح قرية صغيرة، وبفضل تقدّم وسائل الاتّصال يمكن للشّخص أن يتحدّث مع من يشاء ومتى يشاء بالصّوت والصّورة.

*****************************

    “الطّبع غلب التّطبّع”، فما أن خرجت أمّ أسامة بعد أن أمضت أربعا وعشرين ساعة معتقلة في مركز الشّرطة، حتّى بدأت ترغي وتزبد وتهدّد وتتوعّد، وتلعن هذا الزّمن الرّديء، والحالة السّيّئة التي وصلنا إليها، فكيف للشّرطة أن تعتقلها؛ لأنّها استعادت حفيدها، وهي قادرة على رعايته مثل والدته، بل هي أكثر حنانا وحبّا له من والديه!

  فكّرت بأشياء كثيرة؛ لتنتقم من جمانة، وكيف تستعيد حفيدها رغما عن جمانة وعن كلّ من يقف معها.

عادت إلى بيتها وعيناها تقدحان شررا، ضربت الباب بقدمها وصرخت بزوجها وبولديها:

لو كنتم رجالا ما بقي سعيد دقيقة واحدة عند جمانة. فمن تترك بيتها وزوجها لا تستحقّ أن تكون أمّا، وليست مؤتمنة على ابنها.

نفخ أسامة زفيرا يثقل رئتيه وقال:

وحّدي الله يا أمّي، فحضانة الطّفل حقّ لأمّه.

صرخت به كمن أصابه مسّ من جنون وهي تشير إليه بيدها مهدّدة:

عن أيّ أمّ تتحدّث؟ وهل بنت أمّ ريالة أمّ حتّى تقول ذلك؟ ولولا كثرة دلالك لها في السّعوديّة لما هربت وتركتك دون أن تسأل عنك، سافر لعملك واتركها “معلّقة”؛ حتّى تموت بغيظها، وسنزوّجك أفضل منها.

قال رأفت ساخرا:

سافر بناء على نصيحتك، وأرجعوه من الجسر بسبب دعوى رفعتها جمانة عليه.

قال أبو أسامة لابنيه بصوت يرشح ذلّا واستكانة:

أمّكم “كالغراب لا يدلّ إلّا على الخراب”، ولولا خوفي من الفضايح بعد هذا العمر، واحترامي لكما لطلّقتها، فهي المسؤولة عن تدمير الحياة الزّوجيّة لك يا أسامة، فلتخرس هذه المرأة، وأنا سأبذل جهدي للإصلاح بين جمانة وأسامة.

ردّت عليه صارخة:

والله لا غراب غيرك، ولو كنت رجلا كبقيّة الرّجال لما وصلنا إلى ما نحن عليه.

ردّ عليها غاضبا:

فعلا كلامك صحيح، ولو كنت رجلا لطلّقتك قبل أن تنجبي أبناءك!

قال رأفت: إذا كان بالإمكان إصلاح الوضع بين أسامة وجمانة فهذا مكسب كبير.

ردّت عليه:

هذا أمر مستحيل، جمانة لن تعود زوجة لأسامة.

قال رأفت ساخرا:

إذا طلّق أسامةُ جمانةَ ستتقاتل النّساء عليه!

شعر أسامة بإهانة من كلام شقيقه رأفت، فالتفت إليه بنظرات غضب وعتاب، وانفجر قائلا:

“العبوا يا اولاد واللعبة على راس عمّكم” كلّكم تتشاجرون ظنّا منكم أنّكم حريصون على مصلحتي، الآن سأذهب إلى بيت العمّ عيسى الحمّاد -والد جمانة-، لعلّ الله يهدي جمانة، وسأسافر وإيّاها إلى عملي في السّعوديّة، ولن تروني ثانيّة، فقد جنّنتموني بكثرة مشاكلكم.

ردّت عليه أمّه باستهزاء:

إن فعلتها وذهبت لتقبيل قدمي جمانة فأنت لست ابني!

          خرج أسامة من البيت غاضبا، ابتعد عن البيت، وقصد المسجد    الأقصى للصّلاة، صلّى ركعتين تحيّةِ المسجد، وجلس بعيدا عن النّاس في ظلّ شجرة زيتون قريبا من مصلّى باب الرّحمة، وهناك دعا الله أن يلهمه طريق الصّواب، ووصل إلى نتيجة مفادها:” في كل حال حتّى لو أخطأت عليك الوالدة، وحتى لو سبّتك، فيتوجّب عليك الرّفق بها والكلام الطّيّب معها، لأنّ حقّ الوالدين عظيم، وعلى المرء أن يحرص على رضاهما، وعلى معاملتهما بالتي هي أحسن، وإن أساءا إليه، وإن….. فيتوجّب على الإبن أن يسامحهما، وأن يطلب رضاهما دائما.

 واستذكر فتوى لأكثر من مجتهد تنصّ على” لا يجب عليك طاعة والدتك إذا أمرتْك بفِراق زوجتك؛ لأنّ طاعة الوالدين في المعروف فقط، وأمر الأمّ ابنها بفراق زوجته ليس من المعروف.” وهكذا فهو على قناعة تامّة بأنّ تمسّكه بزوجته ليس عقوقا لوالدته.

دعا الله وأطال في الدّعاء طالبا من الله أن يهديه إلى الصّواب، وأن يصلح زوجته؛ كي يلتمّ شملهما، غمره الشّوق لطفله وهو يستذكره، فنزلت دموعه، موقف والدته المتعنّت يكدّر عليه حياته، ويسلبه تقواه وخشوعه في الصّلاة، بينه وبين نفسه لام والده لأنّه “ترك لها الحبل على غاربه”، فتأديب الزّوجة حقّ على زوجها، أمّا الأبناء فلا يملكون إلّا برّ والديهم.

حسم أمره وقرّر أن يذهب إلى بيت صهره أبي جمانة. سار في طريقه

وداخله يغلي كمرجل مثقوب، فتخرج أنفاسه كصفير البخار من ذلك الثّقب الذي يندفع منه بخار الماء، وحسب معرفته فإنّ جمانة وأهلها أناس طيّبون وهادئون، أسرة متحابّة على عكس أسرته، فمن غير المعقول أن لا يستقبلوه بترحاب كما هي عادتهم دائما، وبالتّأكيد فإنّ غضب جمانة قد تلاشى بعد عودتها إلى دفء العلاقة الأسريّة الذي افتقدته بغربتها في السّعوديّة.

وجدهم جالسين في حديقة المنزل، ما أن رآه أبو جمانة حتّى وقف مرحّبا به، بعد أن طرح السّلام صافح صهريه وصافح جمانة، وأدار ظهره لشقيقاتها بعد أن كرح عليهنّ التّحيّة، فهو لا يصافح النّساء. جلس بجانب جمانة، التقط ابنه من حضنها واحتضنه، قبّله فاقشعرّ وجه الطّفل عندما مرّت ذقن أبيه على وجهه، رفع قبضته الصّغيرة وفرك أنفه وهو ينظر إلى وجه أبيه. ضحكت تغريد من ردّة فعل الطّفل الذي يبحلق بوجه والده، ويمدّ يديه لوالدته كي تعيده إلى حضنها، لكنّ جمانة ابتسمت لطفلها وهي تقول بدلال:

هذا بابا يا حبيبي.

اعتبر أسامة موقف جمانة وترحابهم بادرة خير، فطابت له الجلسة، بعد أن احتسى القهوة بسمل وحمدل وقال:

يقول الله سبحانه وتعالى:” وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا” (آل عمران:103 صدق الله العظيم.

والتفت إلى أبي جمانة وقال:

يا عمّ أنا حتّى هذه اللحظة لا أعلم سببا لغضب جمانة، وقد يكون بسبب بعدها عنكم، وبسبب الغربة التي عاشتها في السّعوديّة، وأسأل الله الهداية لها، وآمل أن تعود معي؛ لنكمل حياتنا كبقيّة البشر.

ردّت عليه جمانة بهدوء وقالت:

يقول تعالى:” وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. صدق الله العظيم.

يا أسامة أرجو أن تفهمني جيّدا، الذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق، ولن أعود إلى عصمتك حتّى لو كلّفني ذلك حياتي، وأتمنّى عليك أن تتّقي الله وأن تطلّقني بهدوء دون مشاكل.

كظم أسامة غيظه وسألها بهدوء:

هل يمكنني معرفة أسبابك؟

ردّت عليه بلهجة أكثر هدوءا:

يا سيّدي اعتبرني أنا المخطئة، وأرفض استمرار حياتنا الزّوجيّة، وأعتقد أنّك لا تقبل العيش مع زوجة ترفضك، وأسأل الله أن تجد زوجة أفضل منّي.

– إن كان قصور منّي فسأعدّله، وإن كنت لا تريدين الغربة فلن نعود إلى السّعوديّة، فأبواب الرّزق واسعة، وإن لم تحبّي السّكن بجوار والديّ سنرحل إلى مكان آخر.

– قلت لك إنّني لن أعود زوجة لك بغضّ النّظر عن الأسباب، وأرجو أن تقتنع بذلك.

لم يقل أبو جمانة شيئا سوى”الله يهديكم”.

صمت أسامة قليلا وغادر الجلسة دون استئذان.

قبل أن يغيب أسامة عن الأنظار ضحكت جمانة ملء شدقيها، فقد جعلت من قلبها صخرا صلدا ينبع منه ماء عذب، فيسقي سهوبا تملأ الطّبيعة جمالا وثمارا، وها هي تسقي ما جفّ من دماغها الذي حوصر سنتين متتاليتين، فعاد يورق جرأة لن تعود حبيسة بعد اليوم، فهذا طفلها سعيد في حضنها يزرع ورودا في جسدها تغمرها سعادة بعبيرها الذي ملأ بيت أبيها سعادة. هي راضية عن نفسها وعن صحّة قرارها بالخلاص من أسامة، صمدت معه عامين كاملين، أذاقها فيهما مرارة العيش، لم يحاول يوما أن يفهمها، رغم أنّها اتّقت الله في علاقته معها، وهذا عزاؤها الذي يشعرها بالرّضا، وقد وصلت إلى مرحلة الخلاص منه؛ لتنجو بنفسها وبطفلها، وكما قال المثل:” كل الأمّهات تبكي ولا أمّي تبكي.”

حاول أبوها أن يقنعها بالعودة إلى زوجها، لكنّها أصرّت على موقفها وقالت:” وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”. و”على نفسها جنت براقش.”

قالت تغريد ضاحكة:

صدّقوني أنّني أشفقت على أسامة، فقد رأيته حائرا تائها لا يدرك شيئا سوى أنّ جمانة تركته لسبب لا يعرفه.

جمانة: ربنا “يبعده ويسعده”.

******************************

 غادر أسامة الجلسة هائما على وجهه، تركبه هموم الحيرة والأسئلة التي لم يجد جوابا لأيّ منها، رأى نفسه هدفا لنيران يطلقها عليه الأقربون، تردّد كثيرا في تحميل والدته شيئا من نشوز جمانة وذلك خوفا من عقوق الوالدين، كاد رأسه أن ينفجر وهو يتذكّر رقّة جمانة ووداعتها، فهل تلبّسها جنّيّ كافر، تماما مثل ذلك الجنّيّ الذي يتلبّس والدته؟ خاف من الوقوع في الخطأ، ولام نفسه على هذه الشّكوك التي تنافي العقيدة الصّحيحة، فهو يؤمن بوجود الجنّ لورودهم في القرآن الكريم، يقول تعالى:” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ”. قرأ المعوذّتين وعاد إلى بيته تعبا مرهقا.

 ما أن دخل البيت حتّى صاحت به والدته:

هل ذهبت إلى بنت لطيفة لتطلب الغفران؟

نظر إلى والدته نظرة فيها شطط لافت، لم يجبها، توضّأ لصلاة العصر، لم يركّز في صلاته لكثرة الكلام الغاضب الذي تفوّهت به والدته، فكّر أن يعمل رقية شرعيّة لها، فغضبها الدّائم وشتائمها المستمرّة لوالده ليست عفويّة، فربّما تلبّسها جنّيّ كافر والعياذ بالله، فهو على قناعة تامّة بعلاقة الجنّ بالإنس، ومنهم من يتزوّجون من البشر. وقد أكّد ذلك عدد من السّلف الصّالح، عاد بذاكرته عندما تحاور مع عدد من زملائه المدرّسين، وجميعهم أقرّوا بذلك باستثناء مدرّس أردنيّ قال:

“الجنّ موجودون وهذا ما أكّده القرآن الكريم، وهم كائنات ضعيفة لهم حياتهم وعالمهم الخاصّ، ولا علاقة لهم بالبشر”. فدحضوا قوله بقول أحدهم:

” إمكان التّزاوج بين الإنس والجنّ أثبته الجمهور مستدلّين بقوله تعالى لإبليس: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) (سورة الإسراء : 64) ويوضّح هذه المشاركة ما ذكره ابن جرير في “تهذيب الآثار” أنّ النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: “إذا جامع الرّجل امرأته ولم يسمّ انطوى الشّيطان إلى إحليله فيجامع معه”.

تساءل المدرّس الأردنيّ:

كيف يمكن التّزاوج بين من خُلق من طين وبين من خُلق من نار؟

فردّ عليه أحدهم:

يقول الشّبليّ -رحمه الله-: “إنّ المنكرين لإمكان المناكحة اعترضوا بأنّ الجنّ خلقوا من نار، والإنس من العناصر الأربعة، وهذا يمنع وجود النّطفة الإنسانيّة في رحم الجنّيّة ـ ثم يردّ عليهم بأنّ الجنّ وإن كانوا خلقوا من نار إلا أنّهم لم يبقوا على عنصريّتهم النّاريّة، بل استحالوا عنها بالأكل والشّرب والتّوالد، كما استحال بنو آدم من عنصرهم التّرابي بذلك.

ويقول أيضا:” إنّ الذي خُلق من نار هو أبو الجنّ، كما خُلق آدم أبو الإنس من تراب، وأمّا ذرّيّة كلّ منهما فليست مخلوقة ممّا خلق منه أبوهما.”

ردّ  المدرّس الأردنيّ:

يا جماعة اتّقوا الله، فحتّى لو كان كلامكم صحيحا، فإنّ التّزاوج لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد، حتّى الحيوانات لا تتزاوج إلا مع بنات جنسها.

عندما أنهى أسامة صلاته وطوى سجّادة الصّلاة عرضت عليه والدته الزّواج من صابرين ابنة عمّه المرحوم عزّالدّين، أو من سوزان ابنة خالته رائدة. لم يستسغ عرضها، لا زهدا في تعدّد الزّوجات، فهذا حقّه الذي أعطاه الله سبحانه لعباده، لكنّ جمانة زوجة جميلة صالحة تغنيه عن كلّ نساء الأرض، وقد تعود إلى رشدها فترجع إليه. وإن فعلها وتزوّج ثانية فكيف سيصطحب معه زوجتين إلى عمله في السّعوديّة؟

لمّا أعادت والدته عرضها عليه بإلحاح أجابها بهدوء:

هذا ليس وقته.

ردّت عليه غاضبة:

إذا لم يكن هذا وقته، فمتى سيحين الوقت المناسب؟

لم يجبها والتزم الصّمت سارحا بتساؤلات تشغله، يبحث من خلالها عن الطّريقة التي سيفاتح بها والدته؛ ليقنعها بعمل رقية شرعيّة لها، عسى أن يهديها الله، فتهدأ كما بقيّة خلق الله. لكنّها فاجأته بقولها:

اسمع يا أسامة، سمعت عن شخص تقيّ قدير، يطرد الجنّ، ويحلّ السّحر، ويقرب القلوب، له قدرات عجيبة لا يقوى عليها كثيرون، فما رأيك أن نذهب إليه، لعلّ الله يصلح حالنا على يديه؟

انشرح قلب أسامة، ووجدها فرصته وقال:

ما رأيك يا أمّاه أن أعمل أنا لك رقية شرعيّة؟

نظرت إليه مستغربة وقالت:

إذا كنت خائفا من دفع أجرة الشّيخ، فسأدفعها أنا.

حوقل أسامة وقال:

لا كرامة لنبيّ في وطنه، ولا كرامة لعالم بين أهله، متى تريدين الذّهاب إلى الشّيخ الذي ذكرتِه قبل قليل؟

– هل أنت جاهز الآن؟

– هل تعرفين اسمه وعنوانه؟

– نعم، لقد أخذت تفاصيله من صديقة.

– إذن هيّا بنا.

عاد رأفت شقيق أسامة من عمله، عندما رآهما مستعدّين للخروج سأل:

هل هناك شيء ما؟ إلى أين المسير؟

أخبرته والدته بالموضوع بينما بقي أسامة صامتا، فتساءل رأفت:

هل جننتما؟ هؤلاء نصّابون ومحتالون.

نهرته أمّه قائلة:

دعك من هذا الكلام.

قال أسامة: الرّقية الشّرعيّة معروفة عند المسلمين كافّة.

ردّ عليه رأفت:

ما دام رأيك هكذا فلماذا لا تعمل للوالدة الرّقية الشّرعيّة، خصوصا وأنّك دارس للعلوم الشّرعيّة.

قال أسامة: الوالدة غير مقتنعة بمعرفتي ولا بعلمي، وتريد الذّهاب إلى شخص معروف بهكذا أعمال.

تمتم رأفت قائلا:

الله أعلم بما هو مكتوب علينا.

***************************

            مشى أسامة خلف والدته كطفل لم يبلغ الفطام، فالرّجل يعيش تناقضات أرهقت عقله، عندما وصلوا منتصف شارع مسيلمة، رأوا لافتة مكتوبا عليها” عيادة الدّكتور الرّوحاني الحاجّ عديّ بن كعب”، صعدوا الدّرج إلى الطّابق الثّاني حيث المكتب، استقبلهم رجل ملتح، يضع كوفيّة بلا عقال على رأسه، حليق الشّارب، يرتدي ثوبا إلى الرّكبة تحته سروال أبيض، يبدو في بدايات الأربعينات من عمره، ذقنه المسترسلة إلى ما تحت السّرّة يخالطها الشّيب. أسنانه صفراء وكأنّها لم تلتق فرشاة أو سِواكًا، وجهه لا يشي بالرّاحة، خصوصا ولعابه ينساب بطيئا من شدقيه على ذقنه، عندما طرحوا عليه السّلام ردّ عليهم:

وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته-حيّاكم الله-.

جلس أسامة ووالدته متقابلين أمام طاولة المضيف الذي صبّ لكلّ منهما فنجان قهوة من سخّان بجانبه.

ما أن رأى أسامةُ الرّجلَ حتّى طرقت رأسه قصّة تلك المرأة التي رواها الجاحظ فقال:” كنت واقفا أمام بيتي، فمرّت امرأة حسناء، فابتسمت لها، وقالت: لي إليك حاجة، فحملتني إلى صائغ فقالت: مثل هذا وذهبت!

فبقيت مبهوتا، فسألت الصّائغ؟

فقال: هي امرأة طلبت أن أنقش صورة شيطان على خاتم، فقلت: لا أدري كيف أصور الشّيطان؟

فأتت بك وقالت مثل هذا.”ّ

تعوّذ أسامة بالله من الشّيطان الرّجيم وسأل الرّجل:

هل أنت حضرة الحاجّ عديّ؟

ردّ عليه بتواضع وهو يضع قبضة يده اليمنى على صدره:

محسوبك الحاجّ عبد الجبّار مساعد وخادم الحاجّ عديّ، والحاجّ الآن في جلسة علاج مع أخت فاضلة، وعندما ينتهي منها ستدخلان إليه واحدا واحدا.

قال أسامة وهو يشير إلى والدته:

هذه أمّي سأدخل وإيّاها معا.

الحاجّ عبد الجبّار: لا يجوز دخول اثنين مع بعضهما البعض مهما كانت صلة القرابة بينهما، فلكلّ شخص أسراره التي لا يحبّ أن يطّلع عليها أيّ إنسان.

أسامة: لا حول ولا قوّة إلا بالله، لكنني أريد أن أسألك؟

– تفضّل يا أخي.

– هل يعمل الحاجّ عديّ رقية شرعيّة؟

– نعم يا أخي، الحاجّ عديّ – جزاه الله خيرا وأطال الله عمره-، حظاه الله بمعجزات خارقة، ثمّ فتح جارور الطّاولة، وناول أسامة منه ورقة مقوّاة مكتوبا فيها عن اختصاصات الحاجّ التّقيّ عديّ بن كعب بعد الرّقية الشّرعيّة ومنها:

” يعالج ما عجز عنه العلم والطّبّ، كالسّرطان، فقدان المناعة، تقرّحات الجهاز الهضميّ، الفشل الكلويّ، أمراض القلب، التهاب الكبد الوبائيّ. الصّرع، الأمراض النّفسيّة، الصّدفيّة التهاب المفاصل، والإنزلاق الغضروفي.

وفي الجوانب الرّوحانيّة يفكّ السّحر، ويحلّ المربوط، ويعالج حالات العقم وتأخّر الحمل عند النّساء، يأتي بالعريس لمن تأخّر زواجها، يجعل الرّجال يحبّون زوجاتهم ولا يتزوّجون عليهنّ، يدرأ العين الحاسدة….إلخ.

تنحنح أسامة وحوقل وقال:

” اللهمّ إنّي أعوذ بك من غلبة الدّين، وغلبة العدوّ، وشماتة الأعداء، اللهمّ إنّي أعوذ بك من جهد البلاء، ومن درك الشّقاء، ومن سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، اللهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجذام، والجبن والبخل، ومن المأثم والمغرم، ومن غلبة الدّين وقهر الرّجال”.

في هذه الأثناء خرجت من مكتب الحاجّ عديّ شابّة مسرعة تدير وجهها إلى الحائط على يمينها، وكأنّها تتوارى عن الآخرين، دخل الحاجّ عبد الجبّار إلى مكتب الحاجّ عدي وطبق الباب خلفه، لم يغب أكثر من دقيقتين، فعاد يسأل أسامة:

من منكما سيدخل أوّلا؟

التفتت أمّ أسامة إلى ابنها وأمرته:

ادخل يا أسامة.

عندما طرح أسامة السّلام على الحاجّ عديّ، ردّ عليه التّحيّة بأحسن منها، تفرّس وجهه وتمعنّ بذقنه، فقال له:

أستأذنك يا ولدي كي أصلّي صلاة العصر قبل فوات وقتها.

نظر أسامة إلى الشّيخ عديّ، وتمعّن في سحنته، فوجده رجلا ربع القامة، لا بالقصير ولا بالطّويل، وجهه مستدير، ذقنه مشذّبة بطريقة لافتة، متناسقة مع شاربيه، وجنتاه محمرّتان ممّا يضفي على وجهه وسامة لافتة، شفتاه رقيقتان تكمن خلفهما أسنان بيضاء لامعة، يرتدي بدلة فاخرة وربطة عنق، يتدثّر بعباءة شفيفة لافتة، يعتمر كوفيّة حريريّة فوقها عقال، رائحة عطور تفوح من ملابسه. 

مدّ سجّادة الصّلاة وصلّى بخشوع تامّ، عندما أنهى صلاته سبّح وهو يعدّ التّسبيحات على فقرات أصابعه، في النّهاية قال بصوت مسموع:” بجاه سرّ الفاتحة عن روح سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسّلم وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم  بإحسان إلى يوم الدّين، وعن أرواح والدينا وأصحاب الحقوق علينا، وأمواتنا وأموات المسلمين أجمعين.

مدّ أسامة يديه وقرّبهما من وجهه وقرأ الفاتحة هو الآخر، وعندما عاد الحاجّ عديّ إلى كرسيّه قال له أسامة:

تقبّل الله الطّاعات يا مولانا.

فردّ بخشوع: منّا ومنكم أجمعين. ما قضيّتك يا أخي.

قال أسامة وهو مطأطئ رأسه حياء وتأدّبا:

أريدك يا مولانا أن تعمل رقية شرعيّة لوالدتي، فهي كثيرة المشاكل – أصلحها الله- وتعاند والدي الذي هو زوجها كثيرا، وهي دائما غاضبة، يبدو أنّها مصابة بمسّ من جنون أو أنّ جنّيّا كافرا قد تلبّسها.

ولي قضيّة أخرى وهي أنّني أعمل مدرّسا في السّعوديّة واصطحبت زوجتي معي، وهناك رزقنا الله طفلا ملأ حياتنا حبّا، ولمّا عدنا لزيارة الأهل بعد غياب عامين، ذهبتْ لزيارة أهلها، وترفض العودة إلى عصمتي.

أصغى الحاجّ عديّ لحديث أسامة وهو يحرّك خرزات مسبحته واحدة تلو أخرى، ويتمتم كلاما يستفاد منه أنّه تسبيح، بعد أن انتهى أسامة من حديثه قال له الحاجّ عديّ:

اسمع يا ولدي، الآن سأرى والدتك، وبإذن الله مشكلتها بسيطة جدّا، لكن لِمَ لَمْ تحضر زوجتك معك؟

أسامة: قلت لك أنّها تركتني وذهبتْ إلى بيت والديها، وترفض العودة إليّ، بل أنّها تطلب الطّلاق ومصرّة عليه.

أستغفر الله العظيم، أعطني اسم زوجتك واسم والدتها، وصورة لها.

أسامة: اسمها جمانة وأمّها لطيفة. وأعتقد أنّني أحمل صورة لها، فتّش أسامة جيوبه ووجد صورة لجمانة قدّمها للحاجّ عديّ، تمعّن الرّجل بالصّورة التي لا يظهر منها إلا الوجه، فقال لأسامة:

حاول أن تحضرها إلى هنا يا بنيّ، وإن لم تستطع إحضارها اترك لي رقم هاتفها؛ كي أحاول إقناعها، ومشكلتها واحدة من اثنتين، فإمّا أنّ جنّيّا كافرا تلبّسها وسيطر عليها سيطرة الرّجال على زوجاتهم، وإمّا أنّ هناك من عمل لها سحرا؛ ليفرّق بينك وبينها، ولا أستطيع أن أحسم الحالة إلا بعد أن أجلس معها.

كتب أسامة رقم هاتف جمانة، وسلّمه للحاجّ عديّ.

طلب منه الحاجّ أن يخرج وأن يدعو والدته للدّخول.

دخلت أمّ أسامة مكتب الحاجّ عديّ بدلال مع ابتسامة وهي تطرح التّحيّة. نظر إليها الحاجّ عديّ نظرة ماسحة لجسدها من أخمص رأسها إلى قدميها، انتبه لردفيها المكتنزين وهما يهتزّان بأنوثة زائدة. أشار إليها بيده لتجلس على الكرسيّ قبالته، سألها مبتسما:

هل حقّا أنت والدة الأستاذ أسامة.

– نعم أنا والدته.

– ما شاء الله…سبحان الخالق، حسبتك شقيقته الصّغرى، فأنت تبدين أصغر منه.

دغدغ كلامه عواطفها، فضحكت وهي تشكره وسألته:

هل ما تقوله من باب المجاملة؟

– لا أعوذ بالله، فأنا لا أجامل في قول الحقّ.

عادت تشكره وهي تهتزّ فرحا على الكرسيّ وكأنّها ترقص.

أصبح على قناعة بأنّها قد وقعت في شباكه، صمت قليلا وهو ينظر إليها بشبق لم يخف عليها، فسألها:

ما سبب زيارتك لعيادتنا؟

ردّت عليه بغنج بائن:

جئتك لأكثر من سبب.

قبل أن تكمل حديثها قاطعها قائلا:

كلّ أسبابك ستجدين حلولا لها عندي بإذن الله.

ابتسمت وهي تتحسّس صدرها الأيسر وقالت:

أنا على قناعة بقدراتك، فقد سمعت الكثير عنك وعنها.

ردّ متظاهرا بالتّواضع:

الحمد لله الذي أعطانا قدرات لم يعطها لغيرنا.

قالت له على استحياء:

 أمّا السّبب الأوّل فيتعلّق بزوجي، فالرّجل فقد فحولته مع أنّه في صحّة جيّدة.

– عدم المؤاخذة، كم عمره؟

– 62 عاما.

– هل يعاني من أمراض؟

– أبدا وهو قويّ كالبغل.

– منذ متى فقد فحولته؟

– قبل أحد عشر عاما.

– أنت كم عمركِ؟

– عمري 51 سنة.

– لا حول ولا قوّة إلا بالله، كان الله في عونك.

 – هل يوجد مشاكل بينكما؟

  – يوجد خلافات بسيطة وليست مشاكل.

– هل يتطاول عليكِ؟

– بصراحة أنا أحيانا أتطاول عليه، لكنّه لا يردّ عليّ.

– قبل ذلك كيف كانت علاقتكما الحميمة؟

– عاديّة مثل بقيّة الأزواج؟

– هل حصلت حادثة معيّنة أثّرت على نفسيّته قبل أن يصاب بالبرود؟

– حسب ما أذكر لا لم يحصل أيّ حوادث، لكنّه عانى من ضعف قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات.

ماذا تقصدين بالضّعف؟

– أقصد أنه منذ وصوله الخامسة والثّلاثين من عمره، لم يعد يقترب منّي إلا مرّة واحدة في الأسبوع.

– “لا حياء في الدّين” هل تتزيّنين له؟ وهل تحاولين إغراءه؟

– نعم حتّى يومنا هذا أتزيّن له وكأنّني عروس، وعندما ندخل غرفة النّوم أرتدي منامة تكشف كلّ مفاتني، وألتصق به، لكنّه لا يحرّك ساكنا؟

– هل حاول معك وفشل؟

– نعم حاول وشجّعته لكنّه يفشل دائما.

– هل تبادرين أنت معه؟

– بادرت كثيرا وفشلت.

– ما اسمه؟ وما اسم والدته؟

– سعيد وأمّه وداد.

– هل معك صورة له؟

– أكره رؤيته فكيف سأحمل صورة له معي؟

ضحك الحاجّ عديّ، حوقل وسأل:

هل تحلمين بالوصال وأنت نائمة؟

– كثيرا أحلم برجل وسيم، شديد الفحولة، يضاجعني إلى أن أرتوي، وأشعر بسعادة غامرة وأنا في حضنه، وعندما أستيقظ من نومي أشتم زوجي وأستغفر ربّي.

ابتسم الحاجّ عديّ وقال:

الأن عرفت السّبب.

– ما هو؟

– السبب عندك وليس عنده مع أنّه لا خيار لكما في ذلك.

انتفضت أمّ أسامة وسألت:

– عندي أنا؟

– نعم عندك أنت.

– كيف؟

– من تحلمين بالوصال معه ليس رجلا عاديّا، وإنّما جنّ كافر -والعياذ بالله- وهو يعتبرك زوجته، وعندما يقترب زوجك منك يظهر له بصورة مخيفة، فيرتعب منه ويبتعد عنك وهو يراك بأبشع صورة.

– لكنّه زوجي لم يخبرني بذلك.

– لأنّه لا يستطيع ذلك، فعندما يقترب منك يظهر له الجنّيّ، ولا يراه أحد غيره، فيبتعد ليبتعد الجنّيّ عنه. ولا تستغربي ذلك فهناك رجال من الجنّ يتزوّجون نساء من الإنس، وهناك نساء من الجنّ يتزوجن رجالا من الإنس.

شعرت أمّ أسامة بالخوف، بدا ذلك من صوتها المرتجف، لكنّ الحاجّ عديّ هدّأ من روعها عندما قال:

لا تخافي، هذه مشكلة حلّها بسيط جدّا.

ردّت عليه بلهفة:

دخيلك….كيف؟

صمت قليلا وهو يقلّب صفحات كتاب أخرجه من جارور الطّاولة ثمّ قال:

الحلّ يتطلّب منك جرأة كافية.

– ما هو؟ فأنا جريئة أكثر ممّا تتصوّر.

– يجب أن تنكشفي على رجل آخر أمام زوجك الجنّيّ، عندها سيفهم أنّه قد انكشف أمره، وسيهرب ولن يعود إليك.

– هل يوجد رجل جريء يخيف ذلك الجنّيّ، فما دام زوجي يخاف منه، فكيف لا يخافه الآخرون؟

– ليس كلّ الرّجال يجرؤون على ذلك، لكن هناك رجالا لهم علاقة مع الجنّ ولا يهابونهم، و”القط يعرف خامشه”.

– أين سأجد واحدا من هؤلاء الرّجال؟

– لا حول ولا قوّة إلّا بالله. اللهمّ أعنّا على مساعدة من يطلبون العون منّا، قال ذلك وسكتّ.

 عادت تقول له:

أرجوك ساعدني، أين أجد هكذا رجال؟

– هذه بسيطة، لكنّها مكلفة مادّيّا!

– المادّة ليست مهمّة، كم تريد؟

– أنا لا أريد شيئا لي، لكن يجب شراء كمّيّة من البخّور وممّا يرغب به الجنّ الصالحون؛ كي نجنّدهم لردع ذلك الشّرير الذي يتلبّسك.

– لا تقلق بذلك، كم تريد؟

– بما أنّك إنسانة طيّبة سأكتفي بخمسمائة دولار منك.

– سأحضرها لك غدا في السّاعة التي تحدّدها، لكن من الرّجل الذي سأنكشف عليه، وهل هو موضع ثقة ويحفظ أسرار النّاس؟

– طبعا ستنكشفين على رجل ثقة، وإذا لم يعجبك سأحضر رجلا آخر لك.

تحمّست وقالت”خير البرّ عاجله”، بالتّأكيد أنت واحد ممّن لهم علاقة بالجنّ، فما رأيك أن أنكشف لك؟

– ابتسم وقال متظاهرا بالحياء وهو يقول:

سبحان من ألهمك هذا، لذا لن أستطيع أن أرفض لك طلبا.

قفزت من مكانها، حوّطته بذراعيها وقبّلته بعمق، وهي تجلس في حضنه.

رفع ملابسها حتّى بان نهداها، تحسّس أعضاءها الحسّاسة وقال لها:

من غير اللائق أن نعملها الآن، فربّما يصدر منكِ أهات يسمعها ابنك، وهذا سيفسد العلاج، انصرفي الآن وعودي غدا في السّاعة الثّانية ظهرا.

سألته بدلال:

ألا تريد أن تعمل رقية لي؟

تمتم وقال : جلّ من لا يسهو، اجلسي، جلست على كرسيّ وجلس قبالتها على كرسي أخر، أطبق على صدغيها بإصبعيه الوسطى والإبهام، وأخذ يضغط بقوّة وهو يقرأ فاتحة الكتاب، طأطأت رأسها وهي تشعر وكأنّها تختنق، فمدّ يده الأخرى يداعب صدرها، فعادت روحها إليها. بعد الفاتحة تمتم بأدعية لم تفهم منها شيئا، فأرخت رأسها ووضعته على فخذيه، اغتنم الفرصة ورفع رأسها وهو يطبق على شفتيها مصدرا صوتا كشارب الماء من كأس نصفان. عندها قلبت الميزان وأطبقت هي بشفتيها على شفتيه، فهم أنّ نصاب الحالة قد اكتمل فتركها وعاد إلى كرسيّه، وطلب منها أن تغادر فورا، على أن تعود غدا في السّاعة المتّفق عليها.

أخرجت مرآة من حقيبتها، وعادت تضع أحمر الشّفاه. انصرفت وهي في غاية السّعادة بعد أن قالت له:

امسح شفتيك.

  ما أن خرجت فاطمة وابنها أسامة حتّى اتّجه عبد الجبّار إلى غرفة عديّ، وعندما فتح الباب اصطدم وجها لوجه مع عديّ، وكلاهما يضحكان قهقهة، سأل عبدالجبّار:

هل صادت الصّنّارة؟

ردّ عليه عبدالجبّار مفاخرا ومستنكرا السّؤال:

هل سبق لصنّارتي أن خابت حتّى تسأل هكذا سؤال؟

أمسك عديّ سمّاعة الهاتف واتّصل بجمانة، عندما ردّت عليه قال بلهجة هادئة:

السّلام عليكم.

ردّت عليه جمانة التّحيّة بمثلها، فسأل:

هل حضرتك الأخت جمانة؟

استغربت جمانة الصّوت فسألت:

عفوا من أنت؟ وماذا تريد؟

– أنا العبد الفقير إليه تعالى الحاجّ عديّ بن كعب، وأعتقد أنّ اسمي معروف لك.

ردّت جمانة مستغربة:

مع الأسف لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ماذا تريد؟

– لا حول ولا قوّة إلا بالله، أنا عالم روحانيّ، وأريد أن أقابلك، فقد علمت بمشكلتك مع زوجك أسامة، وهذه المشكلة لن تجدي لها حلّا إلا عندي.

ردّت عليه جمانة سريعا:

“من تدخّل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه” وأغلقت الهاتف.

قال عديّ لزميله عبد الجبّار:

هذه فتاة ليست سهلة، لكنّها سترضخ في النّهاية وستأتيني راكعة. رفع سمّاعة الهاتف واتّصل بها ثانية. عندما رفعت سمّاعة الهاتف وسمعت صوته قالت له:

اسمع يا هذا، أكرّرها لك، ممنوع عليك أن تتّصل بهذا الرّقم مرّة ثانية، وأنا أسجّل كلّ كلمة تقولها، وإن عدتَ واتّصلت سأكون مضطرة لرفع شكوى ضدّك، وأغلقت الهاتف.

التفت عديّ إلى عبد الجبّار وقال:

صدق المثل القائل:” مش كلّ الطيور لحمها بيِتّاكل”.

***************************

 عاد أسامة ووالدته إلى بيتهما، وفي الطّريق كالت على مسامعه قناطير من المديح عن تقوى الحاجّ عديّ، وعن علمه الغزير، وكيف عمل لها رقية وهو يضغط على صدغيها بإصبعيه الوسطى والإبهام، شعرت بعدها بالرّاحة التّامّة، خصوصا بعد أن تمتم بكلمات لم تفهم منها شيئا، ودعا لها أدعية زادتها إيمانا على إيمانها.

سألها أسامة على استحياء:

كم دينارا قبض منك؟

نظرت إليه نظرة غاضبة وقالت:

لا تخف من الخسارة لم يطلب منّي أيّ قرش.

استغرب أسامة ما قالته أمّه وقال:

معقول؟ لقد قبض منّي عشرة دنانير بدل استشارة ودون أن يعمل لي شيئا.

زمجرت الوالدة وقالت:

بِمَ استشرته؟ هل استشرته كي يعيد لك بنت لطيفة؟

تنهّد أسامة وقال:

هداك الله يا أمّي.

كظمت غضبها الطّارئ للحظات، لكنّها أرادت تهدئة الوضع مع ابنها، فقالت:

ربّما أخذ عشرة الدّنانير منك أجرة للرّقية التي عملها لي.

اقتنع أسامة بكلام والدته وقال:

ربّما، فقد طلبت منه أن يعمل لك رقية شرعيّة.

عندما اقتربا من البيت قرّرت أمّ أسامة أن تذهب لزيارة صابرين في بيتها، في محاولة منها لتطويعها كي تقبل بالزّواج من أسامة، وذلك رغما عن قناعتها بأن صابرين لا تصلح أن تكون كنّة لها، لكنها تريدها نكاية بجمانة، وهناك احتضنت صابرين ووالدتها وقبّلتهما كما هي عادة نساء البلد، فكلّ واحدة منهن تقبّل الأخرى حتّى لو كانت تكرهها. لم تفوّت الفرصة باحتضان جورجيت ابنة صابرين وقبّلتها هي الأخرى وهي تقول:

” الله يحرّم جلدها عليها اللي حرمتنا من سعيد بن أسامة.”

ضحكت أمّ صابرين وقالت:

لا خوف على ابن أسامة ما دام في حضانة والدته.

لم ترد أمّ أسامة عليها؛ لحرصها أن تبدو كحماة تقيّة نقيّة فهي تؤمن بمقولة “بوس الكلب على ثمّه تتوخذ حاجتك منه”.

قبل أن تحتسي أمّ أسامة قهوة الضّيافة وصل إلى البيت رجلان مسنّان، يبدوان في أواخر السّتّينات من عمريهما، تنحنح أحدهما وقال بصوت مرتفع:

يا ساتر.

وقفت أمّ أسامة ورحّبت بهما وهي تقول:

“تستورك قدّامك” تفضّلا.

طرحا التّحيّة ودخلا الصّالون، قبل أن تلحق بهما أمّ أسامة طلبت من صابرين أن تغلي فنجاني قهوة للضّيفين، لم تكن صابرين بحاجة إلى هكذا أوامر، فقد رأت الضّيفين بعينيها. أمّا أمّ صابرين فلم تتحرّك عن كرسيّها في زاوية البرندة، فصحّتها لا تساعدها على القيام بسهولة.

بعد أن جلس الضّيفان سأل أحدهما أمّ أسامة:

هل حضرتك أرملة المرحوم الحاجّ عزّالدّين؟ أين الرّجال؟

ردّت أمّ أسامة وهي تبتسم:

أنا فاطمة أمّ أسامة زوجة سعيد شقيق المرحوم عزّ الدّين، ورائد بن عزّالدّين غير موجود وسعيد والأولاد في بيتنا، خيرا …هل أستطيع مساعدتكم؟

رفع المتحدّث عباءته على كتفيه عندما دخلت صابرين بالقهوة وقالت لكلّ منهما:

تفضّل يا عمّ.

ثمّ قدّمت فنجانا لأمّ أسامة وخرجت.

قال الرّجل بلهجة هادئة وهو يشير إلى زميله بجواره:

نريد أن نطلب منكم يد ابنتكم المطلّقة لهذا الرّجل الطّيّب، وليتك تتّصلين بزوجك؛ كي يحضر لنكمل الحديث معه!

سمعت صابرين ما قاله الرّجل، فاستشاطت غضبا ودخلت وجلست بجانب أمّ أسامة، وقبل أن تفتح فمها بكلمة قالت أمّ أسامة:

البنت المطلّقة مخطوبة لابني أسامة.

قاطعتها صابرين وقالت بلهجة حادّة:

أنا البنت المطلّقة، ولست مخطوبة لأسامة ولا لغيره، ألا تخافان الله؟ هل أنتما مجنونان؟ كيف تتجرّأان على طلب فتاة لرجل أشيب عمره ثلاثة أضعاف عمرها وحفيداته أكبر منها؟ انصرفا من البيت قبل أن أجمع أبناء الحارة عليكما.

تظاهرت أمّ أسامة بالوقار فنهرت صابرين، وقالت لها:

عيب عليك يا بنت و” الكلام ما في عليه جمرك”.

انتفض الرّجل غاضبا، ونهض هو وزميله وغادرا دون احتساء القهوة.

ضحكت أمّ أسامة بعد أن غادر الرّجلان البيت، وقالت بأنّ “عريس الغفلة” هذا قد يكون مصابا بالخرف، فهو لم يتفّوّه بكلمة، لكن ردّك عليه يا صابرين أسعدني كثيرا، والدّنيا كلّها مصايب و” عيش كثير بتشوف كثير”.

قالت صابرين والغضب يملأ وجهها:

” لا أعرف كيف يفكّر هكذا رجال؟ لو كان عندهما شرف ما تفوّها بطلبهما خصوصا وأنّني قلت لكلّ منهما وأنا أقدم القهوة: تفضّل يا عمّي.

عادت أمّ أسامة تضحك وقالت:

يبدو أنّ زوجته قد توفّيت، والرّجال الذين خبروا النّساء لا يستطيعون العيش دونهنّ، وشعارهم “عزوبيّة دهر ولا رُمْلة شهر.”

قالت أمّ صابرين بهدوء:

بعض الرّجال يتعاملون مع المرأة كخادمة، ويبدو أنّ رجلا بهذا العمر يبحث عن خادمة وليس عن زوجة.

ردّت أمّ أسامة:

بغضّ النّظر عن أسبابه فالنّساء المطلّقات والأرامل مطموع بهنّ.

انتفضت صابرين وسألت غاضبة:

ما لهنّ المطلّقات؟ هل يعيب المرأة أن تتحرّر من سطوة زوج ظالم أو خليع؟

ردّت عليها أمّ أسامة:

العيب ليس في المرأة المطلّقة يا ابنتي، بل في مجتمعنا الذي ينظر للمطلّقة والأرملة نظرة مختلفة. لذا فإنّ الرّجال المسنّين والأرامل يطمعون بالزّواج من شابّة مطلّقة، لأنّ غالبية أبناء جيلها يرفضون الزّواج منها، ومع الأسف فإنّ نسبة منهم يحقّق مبتغاة.

ردّت صابرين ساخرة:

“العزوبيّة ولا الجيزه  الرّديّه”.

**************************

       لم يجرؤ أسامة على تطليق جمانة بناء على رغبة والدته، لكنّه في داخله يراهن على أنّ الزّمن كفيل بأن يزيل ما في داخلها من منغّصات، وبالتّالي فقد اعتبر إعادته عن الجسر ومنعه من السّفر للالتحاق بعمله نعمة من الله عليه، “فالخير فيما اختاره الله -سبحانه وتعالى-“. والرّزق موجود في كلّ مكان، لذا فإنّه فقد عمله كمدرّس في السّعوديّة، ووجد عملا في مدرسة خاصّة في مدينته القدس، وهو يمنّي النّفس بهذا العمل أن تعود جمانة إلى عصمته، فربّما هي لم تطق العيش في الغربة بعيدا عن الأهل.

 من جانب جمانة فإنّ قرارها بخلع أسامة أمر مفروغ منه.

لم تستطع منع نفسها من الضّحك عندما قرأت مقولة للشّاعر البريطاني وليام شكسبير يقول فيها:” الحياة مجرّد مسرحيّة والنّاس ممثّلون فيها”، لكنّها توقّفت كثيرا عند مقولة توفيق الحكيم:” الحياة رحلة قصيرة شاقّة وممتعة في الوقت نفسه.” وشعرت بالرّضا لأنّها ستقضي رحلتها الحياتيّة بالعلم والعمل وتربية طفلها.

عندما حاول المختار أن يصلح بينها وبين أسامة قالت له بأنّ حبل الودّ الذي انقطع لم يعد قابلا للإصلاح، وطلبت من المختار أن يقنع أسامة بالموافقة على الطّلاق في المحكمة الشّرعيّة، ففي ذلك اختصار للوقت واختصار في الجهد وتوفير لأجرة المحامين، وعندما أخبرها المختار بأنّه يتدخّل للتّوفيق لا للتّفريق، قالت له بأنّها لن تحرم أسامة وأهله من رؤية ابنهم، فهذا حقّ لهم وحقّ للطّفل أيضا، وطلبت منه أن يوصلهم طفلها سعيدا؛ ليبقى معهم بضع ساعات، بشرط أن يتعهّد المختار بإعادته إليها.

 وافق المختار وحمل الطّفل بحضنه وسلّمه لأبيه على أن يعود لإعادته لوالدته عند ساعة الغروب.

مبادرة جمانة بخصوص إرسال الطّفل لوالده لم تكن عفويّة؛ لكنّها بريئة، فهي لا تريد أن تحرم الطّفل من أبيه، ولا تريد حرمان الابن من فلذة كبده.

بعد يومين من ذلك وفي المحكمة الشّرعيّة طلب محامي أسامة من القاضي أن يعتبر جمانة زوجة ناشزا، وعليها العودة إلى بيت الزّوجيّة، فزوجها يريدها ولا يعلم سببا لنشوزها، كما أنّه لا يستطيع البعد عن طفله.

ردّ عليه محامي جمانة قائلا، بأنّ طفله كان عنده قبل يومين، وجمانة على استعداد أن تعطيهم الطّفل متى شاؤوا بشرط أن يعيدوه إليها في نهاية اليوم. أمّا بالنّسبة لعودتها إلى عصمته فهذا من المستحيلات، لأنّها لم تعد قادرة على احتماله.

طلب القاضي من محامي جمانة أن يسرد أمام القاضي أسباب جمانة في طلب الخلع من أسامة.

وهنا وقفت جمانة وطلبت من القاضي أن يخلي قاعة المحكمة من الحضور ومن المحامين، لتسرد له أسبابها بوجود أسامة فقط.

استجاب القاضي لطلب جمانة وأخلى قاعة المحكمة.

سألها القاضي بعد أن أسهب بعرض الصّلح عليهما:

ما أسبابك يا ابنتي؟

ردّت عليه جمانة بهدوء قائلة:

لا تطابق في الفكر بيني وبينه يا سيّدي القاضي، فأسامة يحمل فكرا متزمّتا لا علاقة له بالدّين الصّحيح، وأنا فتاة تربّيت تربية دينيّة منذ طفولتي الأولى، وارتديت اللباس الشّرعي منذ بلغت الثّامنة من عمري، وأقوم بواجباتي الدّينيّة كاملة. وأسامة فرض عليّ النّقاب منذ اليوم الأوّل لزواجنا، وعند سفرنا إلى السّعوديّة أسكننا في بيت قديم شديد الرّطوبة، وبأثاث مستعمل، ومنعني من فتح نوافذ البيت حتّى لتهويته، ووضع لي قائمة المحرّمات كالتّلفزيون والمذياع والهاتف، ومراجعة الطبيب عند المرض والحمل والولادة، ومطالعة الصّحف والكتب إلا الكتب الدّينيّة التي تتناسب والفكر الذي يحمله. وعليّ أن أطيعه في كلّ شيء يؤمن به، حتّى أنّه طلب منّي ليلة الدّخلة أن أقبّل حذاءه وقدمه وفعلت ذلك طلبا للسّتر. وفي غربتنا كان يقف على رأسي عندما أهاتف والديّ وشقيقاتي من هاتفه المحمول، ويسمع كلّ كلمة أقولها. لقد حاصرني في الغربة وكأنّني سبيّة أو سجينة عنده، وهناك أمور خاصّة يمنعني الحياء من ذكرها. وكلّ ذلك لم يسمعه أيّ شخص منّي بمن فيهم والداي، وذلك حرصا منّي على سمعة أسامة، والد ابني الوحيد.

وهنا سأل أسامة مستغربا:

هل من يحرص على زوجته ويحميها من شرور الدّنيا وغرورها يعاب على ذلك يا فضيلة القاضي؟

حوقل القاضي ورفع الجلسة إلى موعد آخر.  

****************************

    في يوم مشمس، السّماء صافية، غيوم بيضاء صغيرة متناثرة، تتراقص عاليا في السّماء وكأنّها تغازل مدينة القدس، في محاولة منها لتخفيف أحزانها، نسيم عليل يتسلّل بنعومة فيريح الجسد ويبعث السّعادة في النّفوس، الصّبايا يرتدن صالونات التّجميل، بعد أن ارتدت كلّ واحدة منهنّ ملابس جديدة جميلة، الشّباب أيضا ارتادوا صالونات الحلاقة، قصّوا شعورهم وحلقوا ذقونهم، ارتدى بعض منهم بدلات مع ربطات عنق، والكلّ ينتظر ساعة احتفال تخريج فوج من جامعة القدس في أبو ديس. أولياء الأمور أيضا ينتظرون هذه السّاعة؛ ليفرحوا بتخريج فلذات أكبادهم.

اصطحبت جمانة والديها وطفلها لحضور حفل تخريج شقيقتها تغريد التي درست الصّيدلة. حرصت أن تجلس ووالداها في الصّفوف الأولى، لم يتغيّر على تغريد وبعض زميلاتها شيء بهذه المناسبة، فهنّ يرتدين الزّيّ الشّرعيّ “الجلباب والحجاب”، لم تذهب تغريد لصالون تجميل، فقد حباها الله جمالا طبيعيّا يغنيها عن كلّ المساحيق، حتّى إنّها رفضت أن تضع الكحل في عينيها كما اقترحت عليها والدتها.

انتبه أبو جمانة لقصّات شعر بعض الطّلّاب فحوقل وهمس لجمانة، وهو يشير إلى أحد منفوشي الشّعر بأنّ هذه القصّات التي يسمّونها “قصّة المارينز”، معروفة عند رعاة الأغنام في البوادي والصّحاري، وذلك ليتّقوا بها لهيب الشّمس في فصل الصّيف، وكان سكّان القرى والمدن يسخرون من هذه القَصَّة ويسمّونها “قصّة الرّعاة”، وعندما جاءت الجيوش الأمريكيّة لغزو العراق، قلّدوا أبناء الصّحراء بهذه القَصَّة بعد أن علموا فوائدها، فأصبحت تسمّى “قّصَّة المارينز”، وصارت “موضة” في حواضر العرب، بعد أن تركها أبناء البادية.

بدأ حفل التّخريج بتلاوة آيات من الذّكر الحكيم، تلاه عزف للنّشيد الوطنيّ، فكلمة رئيس الجامعة، وبعدها بدأ حفل تسليم الشّهادات مبتدئا بالمتفوّقين ممّن حصلوا على مرتبة الشّرف من مختلف الكلّيّات والتّخصّصات، وأوّل الأسماء هو تغريد عيسى الحمّاد من كلّيّة الصّيدلة، حيث قال عريف الحفل هذه الطّالبة الخلوقة لم تضيّع علامة واحدة خلال سنوات دراستها.

صعدت تغريد وسط تصفيق الحضور واستلمت شهادتها من رئيس الجامعة، واستأذنت منه لتقول على مسمع ومرأى الحضور كافّة:

أهدي نجاحي هذا إلى ذلك الجنديّ المجهول الذي سهر الليالي وشقي وتعب، ليعلّمني أنا وشقيقاتي الأربعة، إلى والدي الحنون عيسى الحّماد، وإلى والدتي لطيفة التي تجلس بجانبه. ولن أنسى فضل معلميّ ومعلّماتي.

وعلا التّصفيق عندما طلب رئيس الجامعة من والدي تغريد أن يحضرا إلى المنصّة لمشاركة ابنتهما فرحة التّخرّج.

دهشت من المشهد أمّ أسامة التي جاءت للمشاركة في تخريج سوزان بنت شقيقتها رائدة، تمنّت أن تكون بنت شقيقتها من المتفوّقين، لكنّ أمنيتها ذهبت أدراج الرّياح.

قبل أن تنزل تغريد ووالداها عن المنصّة، أشار إليها شخص من ضيوف الشّرف وهمس لها:

أنا المدير الطّبّيّ لمستشفى المقاصد، ويشرّفنا أن تعملي معنا في صيدليّة المستشفى.

ابتسمت تغريد وقالت:

غدا سأكون في المستشفى.

 في ساعات المساء جلس عيسى الحمّاد فخورا ببناته، فتكريم تغريد في الجامعة زاد قناعاته بأنّ تعبه قد أتى أُكُلَه، وها هو يحصد نتائج تربيته السّليمة لبناته، شعر بالنّدم وتأنيب الضّمير؛ لأنّه لم يحضر حفل تخريج جمانة، فقد تخرّجت هي الأخرى بمرتبة الشّرف. صحيح أنّه فخور بها لكنّ مطاردة رغيف “الخبز المرّ” لها الأولويّة على الاحتفالات.

 لم يستمرّ شروده الذّهنيّ كثيرا عندما قالت له جمانة:

  “ما بعد الضّيق إلا الفرج”، وقد حان الوقت ليستريح الوالد، ولكلّ مرحلة عمريّة متطلّبات، فصحّته ما عادت تساعده على العمل، وبفضل من الله وبسهر الوالد وشقائه، أتممت وتغريد مرحلتنا الجامعيّة الأولى، وحصلت كلّ منّا على عمل يناسبها، ويسدّ تكاليف الحياة.

شعر أبو جمانة بسعادة يكلّلها فخره ببناته وقال:

الحمد لله على ما نحن فيه، وبارك الله بكما، فمشواري مع الحياة لا يزال طويلا، ولن يهدأ لي بال قبل أن تنهي أخواتكما الإثنتان الباقيتان تعليمهما الجامعيّ.

قالت تغريد بلهجة واثقة:

لا تقلق لذلك يا أبي، فأنت سيّد البيت والأسرة، وستبقى كذلك، وراتبي وراتب جمانة يكفي لتوفير حياة كريمة لنا جميعنا، ولتحقيق كلّ ما تصبو إليه.

ابتسم الوالد وقال:

وفقّكما الله يا ابنتي، ولا تنسيا أنّ مصير البنات إلى الزّواج والانتقال إلى بيت الزّوجيّة وهذه سنّة الحياة. ولا تنسيا أنّ جمانة متزوّجة ولا تزال على ذمّة رجل.

ردّت عليه جمانة بهدوء:

أنا في حكم المطلّقة، ولن أعود إلى عصمة أسامة مطلقا، لكنّني أؤكّد من جديد أنّ زواج البنت لا يتناقض مع برّها لوالديها ولا مع التزاماتها تجاههما، وتجربتي في الزّواج من أسامة لن تتكرّر مع أيّ واحدة من شقيقاتي.

الأب: مع كلّ المحاذير، وبإيماني بالله، فإنّني لن أتخلّى عن دوري في الحياة، والعمل ضرورة للكسب الحلال.

  قالت تغريد باسمة:

لم يطلب أحد منك أن تتخلّى عن دورك في الحياة، فأنت وليّ أمرنا وربّ بيتنا وستبقى، ولقد شقيتَ ما فيه الكفاية، وبفضل من الله حان الوقت لتقطف ثمار تعبك.

وهنا تدخّلت أمّ جمانة وقالت:

عندي اقتراح وهو أن تقوم بتأجير “كافتيريا” المدرسة لأحد الشّباب، وليس مطلوب منك أن تبقى في البيت، فبإمكانك أن تذهب للصّلاة في المسجد الأقصى، فهو على مرمى حجر من هنا، وأن تتسامر مع أبناء جيلك كيفما تشاء.

ارتسمت علامات رضا كبيرة على وجهي جمانة وتغريد عندما سمعتا اقتراح والدتهما، فقالتا بصوت واحد:

هذا هو الصّحيح.

ردّ الأب وعلامات الرّضا بادية على وجهه:

دعونا نفكّر بالموضوع.

**********************************

 استيقظت أمّ أسامة في الصّباح الباكر، غلت فنجاني قهوة، قدّمت أحدهما  لزوجها مع ابتسامة وهي تطرح عليه تحيّة الصّباح، جلست معه تحتسي القهوة على غير عادتها، عندما استيقظ أسامة الذي غفا بعد صلاة الصّبح غلت فنجان قهوة له هو الآخر، أعدّت طعام الفطور فتناولوه في جلسة عائليّة يسودها الودّ. بعدها ذهبت تستحمّ، بالغت كثيرا في تلميع جسدها من خلال بعض الدّهون”الكريمات” التي تضفي على البشرة نعومة خاصّة، ارتدت جلبابها ووضعت حجابها، رشّت على رقبتها بخّات من زجاجة عطر فاخر، خرجت دون استئذان وقصدت صالون تجميل، طلبت من ربّة الصّالون أن تعمل لها تسريحة كما العرائس، أمضت ثلاث ساعات في الصّالون، حتّى اقتربت السّاعة من الواحدة ظهرا، عندما خرجت من الصّالون مازحتها صاحبته بقولها:

نيّالك يا أبا أسامة.

دغدغ كلام ربّة الصّالون عواطفها، فأثارت مكامن أنوثتها، ممّا دفعها إلى العودة والوقوف أمام المرآة تنظر وجهها وتضبط حجابها، ثمّ خرجت وابتسامة ساخرة من عروس شابّة تلاحقها.

وصلت مكتب المشعوذ قبل السّاعة الثانية بخمس دقائق، ضغطت على جرس المكتب ضغطة خفيفة، أطلّ الحاجّ عديّ من خلف “برداية” يستطلع الطّارق. عندما رآها فتح لها الباب بهدوء، رحّب بها همسا ممّا أثار ريبتها، لكنّه طمأنها عندما قال بأنّه لا يريد أيّ حركة تثير انتباه المكاتب المجاورة، أغلق الباب بالمفتاح، أدخلها إلى مكتبه، سألته عن زميله الحاجّ عبد الجبّار فأجابها بأنّه قد صرفه كي لا يزعجهما، وسيعود في السّاعة الثّالثة، جلس خلف مكتبه وشرح لها بأنّه سيخرج الجنّيّ الكافر من جسدها، وما عليها سوى أن تتّبع تعليماته بعد ذلك، وعندها سيعود زوجها كما البغل في فحولته، ولمّا سألته عن التّعليمات قال لها:

عليك أن تتزّيني له في البيت، أن تعدّي له طعامه وشرابه بطيب خاطر، كما عليك أن تداعبيه وأن تمازحيه وأن تسمعي كلامه؛ ليشعر برجولته،  وهذا يتطلّب منك أن تتخلّى عن حدّتك وعصبيّتك في التّعامل معه، فهذه العصبيّة سببها ذلك الجنّيّ الكافر، الذي سيغادرك بعد أن تنكشفي عليّ، قطعت حديثه وقالت ضاحكة:

هل تعلم أنّني قد بدأت بتعليماتك هذا اليوم بشكل عفويّ قبل أن أسمعها، فقد قدّمت له قهوة الصّباح وأعددت الفطور وتناولناه معًا.

ابتسم لها وقال:

هذا يعني أنّ “القلوب عند بعضها”.

 وادخلي الآن إلى الغرفة الدّاخليّة حيث السّرير الذي أقضي قيلولتي عليه، فمشاكل النّاس كثيرة وتهدّ الحيل.

قبل أن تدخل الغرفة طلب منها أن تتوقّف وسألها:

هل أحضرت خمسمائة دولار كما قلت لك؟

عادت إليه وهي تفتح حقيبتها وتخرج منه خمسمائة دولار وتقول:

ضعنا في متاهة الحديث ونسيت أن أعطيها لك فاعذرني.

ردّ عليها متظاهرا بالحياء:

ما عليكِ “جلّ من يسهو” وتأكّدي أنّني سأشتري بها بخورا، لأطارد به ذلك الجنّيّ الذي يتلبّسك.

دخلت إلى الغرفة ومؤخرّتها تتراقص خلفها مثل “بندول” ساعة الحائط، خلعت ملابسها، ودخلت إلى حمّام الغرفة لتتفقّد جسدها وتسريحة شعرها، ثمّ تمدّدت على السّرير وجسدها ينمنم شبقا.

بعد أن رأى عطاءها في السّرير سألته:

إذا لم تنجح محاولة طرد الجنّيّ هذه المرّة ماذا سنعمل؟

قال لها: لا تقلقي سنكرّر المحاولة حتّى يخرج. وهذا يتطلّب أن نبقى على تواصل.

خرجت والسّعادة بادية عليها، وما أن ابتعدت قليلا حتّى “ذهبت السَّكرة وجاءت الفكرة”. أخذت تلوم نفسها على فعلتها الشّنيعة، قرّعت نفسها بطريقة غير مسبوقة، عادت إلى صوابها وتساءلت عن الخطيئة التي وقعت بها، فكيف بامرأة مثلها لم تحترم عمرها ولم تحترم حياتها الزّوجيّة، وكيف هدرت إنسانيّتها بعد هذا العمر! عادت إلى عقلها وفكّرت بالنّساء اللواتي امتدحن قدرات ذلك الملعون “الحاجّ عديّ”، فهل أوقعهنّ هنّ الأخريات بالخطيئة مثلما أوقعها؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا امتدحنه؟ لطمت وجهها بيديها لأنّها دفعت له خمسمائة دولار بدلا من أن تبصق على وجهه المخادع.

عادت إلى بيتها كئيبة، استحمّت لتغسل جسدها من دنس الخطيئة التي وقعت فيها، نظرت إلى زوجها وهي تصلّي فبكت بحرقة عليه وعلى نفسها، راودتها أفكار بأن تسأل ابنها إذا ما كان الجّنّ يتزوّجون من الإنس، لكنّها طردت الفكرة من رأسها خوفا من أن تلفت انتباهه إلى الخطيئة التي انقادت إليها.

ارتعبت وشعرت بصداع شديد عندما تذكّرت بأنّ حدّ الثّيّب الزّاني هو الرّجم حتّى الموت، بقيت قلقة مضطربة، فكّرت بطريقة تكفّر فيها عن خطيئتها، فسألت ابنها أسامة، هل يغفر الله لمن يرتكب خطأ؟

بسمل أسامة وقال:

” اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”.

انكمشت على نفسها وسألت:

وكيف يكون ذلك؟

ردّ عليها أسامة بهدوء:

“إن الله -سبحانه وتعالى- شديد العقاب لمن عصاه، وأنّ الله غفور رحيم لمن تاب وأناب” فهو يقول:

” وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.

عادت تسأله:

وهل يغفر الله الكبائر؟

ردّ أسامة بعد أن بسمل وحوقل وقال:

حمانا الله من شرّ الكبائر ومرتكبيها، فالله سبحانه وتعالى رؤوف بعباده، فقد جاء في صحيح البخاري:” حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

“كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ. فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ.”

بقيت قلقة حائرة، قضت ليلها في خصام مع النّوم.

********************************

 في جلسة المحكمة الشّرعيّة بخصوص قضيّة أسامة وجمانة، قرّر القاضي الشّرعيّ تعيين محكّم عن كلّ واحد منهما مستشهدا بقوله تعالى:

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا”. وأضاف بأنّه سيعطي قراره النّهائيّ بناء على تقرير المحكّمين.

اجتمع المحكّمان وقرّرا الاستماع أوّلا لأقوال جمانة، حدّدا موعدا معها على الهاتف. في اليوم والسّاعة المحدّدة قصدا بيتها، قدّمت لهما القهوة بحضور والدها وقالت لهما:

سأختصر عليكما المعاناة وكثرة الأسئلة والأجوبة، باختصار شديد لن أعود إلى عصمة أسامة مهما كلّف الأمر.

حوقل أحدهما وسأل:

ما أسبابك يا ابنتي؟

ردّت عليه بهدوء:

البيوت أسرار، وأسامة والد ابني، لن أغتابه ولن أُشهّر به، لكنّني لن أعود زوجة له.

عاد المحكّم يقول:

في هذه الحالة ستعتبرين زوجة ناشزا، وستخسرين حقوقك.

ردّت عليه بهدوء زائد:

الذي حلّل الزّواج حلّل الطّلاق، وإذا تحرّرت من أسامة فهذا فضل من الله.

بقيت مصرّة على موقفها، ولم تجب على أيّ سؤال طرحاه عليها. ولمّا يئسا منها غادرا، وقصدا بيت أسامة.

في الطّريق قال أحد المحكّمين:

يبدو أنّ هذه المرأة قد عانت كثيرا مع زوجها، وما عادت تطيقه، وتريد الخلاص مهما كلّف الثّمن.

في بيت أسامة طلب المحكّمان أن يسمعا وجهة نظر أسامة في خلافه مع زوجته. وبناء على نصيحة والدته المسبقة له، والتي قصدت من ورائها أن تعمل صالحا، ليغفر الله لها ما سبق من أخطاء وخطايا، قال لهما أسامة:

لا أذكر خلافات حصلت بيننا وتستحقّ الحديث، تمنّيت أن تستقيم الأمور بيننا، وأن نكمل حياتنا تحت سقف واحد، لكن إذا أصرّت جمانة على الفراق، فلن أظلمها، وأنا لا أقبل العيش مع زوجة ترفضني، وبناء عليه سأطلّقها تلبية لطلبها، وسأدفع لها حقوقها كاملة.

 ذهل المحكّمان من موقف أسامة، كما ذهلا سابقا من موقف جمانة، غادرا بيت أسامة حائرين.

قدّم المحكّمان تقريرهما للقاضي الشّرعيّ، بأن لا خلاف بين الزّوجين على الطّلاق، وأنّ الزّوج تعهّد لهما بأن يدفع حقوق جمانة كاملة.

حدّد القاضي يوما لحضور الزّوجين.

في قاعة المحكمة أوقع أسامة الطّلاق على جمانة أمام القاضي الشّرعيّ، بعد ذلك وجّه أسامة حديثه لجمانة قائلا:

ابننا سعيد سيبقى في حضانتك يا جمانة، وهذا حقّ له ولك.

ردّت عليه جمانة:

ومن حقّ سعيد أن يبقى على علاقة مع أبيه وأسرته، ومتى أردتم مشاهدة سعيد فلن يمنعكم أحد عنه.

حملت جمانة شهادة الطّلاق، مشفقة على أسامة، استذكرت قوله تعالى:

” وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”، فابتسمت ابتسامة قهر وهي تقول:” على نفسها جنت براقش”.

 عادت إلى بيتها سعيدة، قلبها فراشة ترفرف حول ضوء يضيء مكانا في ليل بهيم، احتضنت طفلها، رأته زهرة تتفتّح في روضة غنّاء، عندما مدّ يده إلى وجهها يناغيها، سقطت من عينيها دمعتان، فمن غير الإنصاف أن يعيش سعيد مشتّتا بين والدين منفصلين، ضمّته إلى صدرها، وكأنّها تعتذر له، لكنّها على قناعة تامّة بأنّه ستكون له أمّا وأبا. صحيح أنّها تحرّرت من قيود زواج لا سكينة فيه، لكنّها لم ترتح من عواقب طلاق ما عاد أمامها خيارات غيره.

بينما خرج أسامة من قاعة المحكمة يحوقل، فقد طلّق جمانة دون رغبة منه، وتمنّى لو أنّه اقتنع بأسبابها، لكنّه حمد الله وشكره، وتمنّى لجمانة السّتر والتّوفيق في حياتها القادمة.

أمضى أسامة يومه مهموما، عندما عاد إلى البيت لم تكن لديه رغبة في طعام أو شراب، حتّى أنّه لم يعد قادرا على الحديث بموضوع جمانة.

قطعت أمّ أسامة دائرة الصّمت وقالت:

إذا قلنا ما يبرّئ ذمّتنا عند الله -سبحانه وتعالى-، فإنّنا لم نشاهد من جمانة ولم نسمع منها إلا كلّ خير، والحمد لله دائما وأبدا، فهذه إرادة الله بأن لا تستمرّ حياتها الزّوجيّة مع أسامة، ونسأل الله السّتر لها ولأسامة، وكلّ منهما سيجد نصيبه المكتوب له.

استغرب أبو أسامة حديث زوجته، فمنذ سنوات لم يسمع منها هذه العقلانيّة، ودعا الله في سرّه أن تبقى هكذا، ثمّ قال:

طلاق جمانة ليس في صالح أسامة، فهي زوجة صالحة، تتحلّى بكلّ الصّفات الحسنة، ونسأل الله السّتر لها، وعلى أسامة أن يبدأ حياة جديدة، وعليه أن يختار فتاة جديدة، وإذا وقع النّصيب وتزوّج فعليه أن يعيد حساباته السّابقة، وأن يتخلّى عن الأسباب التي نفّرت جمانة منه.

ردّت عليه أمّ أسامة:

كلامك هو الصّواب بعينه، وهذه صابرين ابنة عمّه وسوزان ابنة خالته، فليختر أيّا منهما، وسنخطبها له، وسيتزوّج سريعا.

تشجّع أبو أسامة على الحديث بسبب هدوء زوجته وقال:

نسأل الله أن يهدي أسامة باختيار من تناسبه.

وهنا دخل رأفت شقيق أسامة وقال:

إن أردتم الخير لأسامة فاتركوا له حرّيّة الاختيار.

تنهّد أسامة وقال:

لن أتزوّج هذه الأيّام، اتركوا الوضع حتّى يريد الله.

قال رأفت: أنا معك، من حقّك أن تفكّر، فالنّجاح ينطلق من فكرة بسيطة، والسّقوط يبدأ بتصرّف أحمق واحد.

لم يستغرب أسامة هدوء والدته، فهو على قناعة تامّة بأنّ الرّقية الشّرعيّة التي عملها لها الحاجّ عديّ هي من أعادتها إلى الصّواب. بينما أمّ أسامة تقول بينها وبين نفسها:” اللي بعرف بعرف وللي ما بعرف بقول في الكفّ عدس.”

**************************************

  تحتسي تغريد وأميرة الطبيبة في قسم الولادة القهوة في مقصف مستشفى المقاصد الخيرية على قمة جبل الزّيتون، دخلت المقصف امرأة في حضنها رضيع، وبجانبها طفل يبدو في الثّالثة من عمره وآخر أكبر منه بسنوات قليلة، لمّا انتبهت المرأة إلى الطّبيبة ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة، صافحت الطّبيبة وسألتها:

هل عرفتِني؟

نظرت إليها الطّبيبة نظرة فاحصة وقالت:

أذكر هذه الملامح، لكنّني لم أعرفك، فاعذريني فلكثرة النّساء اللواتي يتردّدن على المستشفى فإنّني لا أتذكّرهن جميعهنّ.

عادت المرأة تبتسم وتقول:

أنا عائشة هل تذكّرتِني؟

قطبت الطّبيبة جبينها، ركّزت نظراتها على وجه المرأة، ثمّ وقفت والدّهشة تعلو وجهها واحتضنتها ضاحكة وقالت:

نعم تذكّرتك، أنت من ملأتْ والدتك المستشفى صراخا وزغاريد عندما علمت أنّك لا تزالين عذراء، بينما كنت أنت تصرخين من ألم المخاض.

طلبت منها الطّبيبة أن تجلس على الطّاولة نفسها معها ومع تغريد، طلبت لها فنجان قهوة وكأس عصير لكلّ واحد من طفليها، سألتها عن أحوالها وعن ردود فعل من يعرفونها عندما علموا بعذريّتها رغم زواجها مرّتين، ورغم حملها.

استمعت تغريد للحوار بين أميرة الطّبيبة وعائشة الزّائرة.

ردّت تغريد على الطّبيبة وقالت:

أنا أتذكّر حادثة طلاقها من زوجها الأوّل، فقد كانت حديث طالبات الجامعة، وحتّى حديث ربّات البيوت، ودبّ الذّعر بين الطّالبات، حتّى إنّ أحد الأطبّاء المحاضرين في كلّيّة الطبّ ألقى محاضرة على الطّلّاب ذكورا وإناثا عن أنواع البكارة من باب التّوعية، خصوصا وأنّهم مقبلون على الزّواج. وعندما تبين أنّها لا تزال عذراء أثناء المخاض بحملها من زوجها الثّاني، كتبت إحدى الصّحف خبرا عن تلك الحادثة، دون ذكر الأسماء.

قالت عائشة معتدّة بنفسها، فخورة ببراءتها بأنّ الجميع قد أقرّوا لها بالعفّة والشّرف المصون، وعابوا طليقها ووالدته وكلّ من أساء إليها واتّهمها بما ليس فيها. وأنّها عاشت حياة هانئة وسعيدة مع زوجها الثّاني فارس محمّد مسعود، وأنجبت منه هذين الطفلين اللذين بصحبتها. قالت ذلك وصمتت وهي تمسح دموعها التي نزلت من عينيها مدرارة.

استغربت أميرة الطّبيبة وتغريد كيف انقلب حديث عائشة الحماسيّ وفرحتها إلى حزن، فسألتها الطّبيبة وتغريد تضع يدها على وجهها حائرة:

ماذا جرى لك؟ لماذا تبكين؟

كظمت عائشة أحزانها وأجابت بصوت متهدّج:

فرحتي لم تتمّ فزوجي مريض يرقد في قسم الأمراض الباطنيّة في المستشفى وحالته غير مطمئنة.

قالت تغريد في محاولة منها لمواساة عائشة:

لا تخافي، فالطّب متقدّم وإن شاء الله سيخرج زوجك معافى من مرضه.

ردّت عائشة بلهجة حزينة:

نسأل الله الشّفاء له، لكنّ حالته صعبة فقد شخّص الأطبّاء مرضه بأنّه ورم سرطانيّ في المعدة وانتشر إلى الكبد، وسيحوّلونه إلى قسم مكافحة السّرطان في مستشفى أوغستا فكتوريا “المطّلع”.

حوقلت الطّبيبة وقالت:

نسأل الله له العافية والشّفاء العاجل.

ردّت عائشة ودموعها تنساب على وجنتيها:

لقد أمضى فارس عشرين عاما من عمره في سجون الاحتلال، وتحرّر منها بأمراض عديدة، منها تقرّحات في المعدة بعد أن خاض عدّة مرّات الإضراب عن الطّعام.

رافقتها تغريد وأميرة الطبيبة إلى قسم الأمراض الباطنيّة لزيارة زوجها الأسير المحرّر، كان التّعب باديا على وجهه، نظر إلى زوجته وطفليه نظرة العاجز، خاف الطّفل الكبير من منظر أبيه الذي حاول اغتصاب ابتسامة يقذفها في وجه ابنه.

تصفّحت الطبيبة ملفّه الطّبّيّ.سألتها عائشة:

كيف وضعه يا دكتورة؟

ردّت عليها الطّبيبة عابسة:

نسأل الله أن يشفيه.

 عادت الطّبيبة إلى قسم الولادة حيث تعمل، بينما عادت تغريد إلى عملها في الصّيدليّة، كلاهما حزينتان على عائشة وعلى زوجها وعلى طفليها.

 عندما عادت تغريد إلى بيتها بعد انتهاء دوام العمل قالت لشقيقتها جمانة:

“المتعوس متعوس ولو ضويت له مية فانوس.”

ردّت عليها جمانة باستغراب:

ماذا تقصدين؟

أجابتها تغريد بلهجة حزينة:

هل تذكرين الفتاة عائشة؟

–  أيّ عائشة؟

– تلك الفتاة التي تزوّجت في سنّ مبكرة، واتهموها بشرفها وطلّقوها، وتزوّجت ثانية وحملت وعندما جاءها المخاض تبيّن أنّها لا تزال عذراء؟

– نعم أذكرها، ماذا جرى لها؟

– اليوم رأيتها في المستشفى ومعها طفلان، جاءت لزيارة زوجها المريض بالسّرطان، ووضعه غير مطمئن.

– مسكينة كان الله بعونها، واجب علينا أن نزورها؛ لنطمئنّ عليها وعليه.

– اليوم نقلوه لمستشفى المطلّع للعلاج بالكيماوي وبالأشعّة.

– كان الله في عونهما.

وأضافت جمانة: ليست كلّ أنواع السّرطان قاتلة، وهناك كثيرون أصيبوا بهذا المرض الخبيث وتعافوا منه بسبب التّقدّم العلميّ.

ردّت تغريد: مشكلة فارس زوج عائشة أنّ السّرطان عنده انتشر من المعدة ووصل الكبد.

جمانة: غدا عند ساعات العصر سنزوره ونتمنى له الشّفاء.

سألت أمّ جمانة:

من أين تعرفنه حتى تزرنه؟

قالت جمانة:

“عيادة المريض وزيارته من الآداب الرّفيعة التي حَثّ الإسلام عليها، وجعلها من أولى حقوق المسلم على أخيه المسلم، والتي يجب عليه مراعاة شعور المريض، فلا يرفع الصّوت عنده ولا ينقل إليه ما يسوؤه ولا يُذّكره بما يُحزنه ولا يحرجه بالأسئلة التي لا داعي لها. ويجب عليه أيضا ألا يُطيل الجلوس عند المريض بما يَشقّ عليه أو على أهله. إلا إذا اقتضت المصلحة، أو أن المريض يرغب بذلك مع مراعاة الوقت المناسب لزيارته. والرّسول عليه الصّلاة والسّلام يقول:

“مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا”.

قالت تغريد ضاحكة:

زيارتنا زيارة تضامنيّة لعائشة زوجته.

ردّت جمانة: سنصطاد عصفوين بحجر واحد. ثمّ التفتت إلى والدتها وذكّرتها بقصّة عائشة مع زوجها الأوّل، وكيف اغتابتها نساء القرية وقلن فيها ما لم يقل مالك في الخمر، وانخرسن عندما ثبتت عذريتها عند المخاض بحملها من زوجها الثّاني.

قالت أمّ جمانة:

سأرافقكن في زيارتها.

فقال أبو جمانة الذي التزم الصّمت:

“لولا الغيرة ما حبلت النّساء.”

 وصلت لطيفة وابنتاها جمانة وتغريد مستشفى المطّلع بعد صلاة العصر، ركنت تغريد سيّارتها تحت ظلال شجرة سرو معمّرة، في الطّابق الثّاني من المستشفى كانت عائشة تجلس في البرندة ترضع طفلها أمام الغرفة التي يرقد زوجها فيها، بينما طفلها البكر يغفو بجانب جدّته لأبيه، مجموعة من الشّباب المقدسيّ يلتفّون حول سرير فارس، فقد عرفوه وزاملوه في أكثر من سجن، بينما فارس مرهق بشكل كبير بسبب جرعة “العلاج الكيماويّ” التي حقنه الأطبّاء بها. طلب طبيب من الشّباب أن يتركوا فارس ليستريح.

صافحت لطيفة وابنتاها عائشة وحماتها، عرّفتهما على والدتها وعلى شقيقتها جمانة.

احتضنت جمانة طفل عائشة وقدّمت لها باقة ورد؛ لتضعها بجانب زوجها المريض. سمعن الطّبيب وهو يطلب من الشّباب الخروج من غرفة المريض ويقول:

دعوه يرتاح هذا اليوم.

ألقت لطيفة وابنتاها نظرة على فارس من باب الغرفة، قالت لطيفة بصوت مسموع: الله يشفيك با ابني.

تنهّدت أمّ فارس وهي تقول:

لقد أمضى نصف عمره في الأسر، وتحرّر وهو مصاب بعدّة أمراض، اعتقل مثل الجمل وخرج عليلا، “ربنا يجازي الظّلّام واولاد الحرام”، والله أنّني عانيت مثله وزيادة.

قالت لها جمانة تواسيها:

توكّلي على الله يا خالة فالرّسول عليه الصلاة والسلام يقول:” إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ.”

ويقول صلى الله عليه وسلّم:” إذا سَبَقَتْ للعبدِ من الله مَنْزِلَة لم يَبْلُغْهَا بِعَمَلِه ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صَبَّرَه حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سَبَقَتْ له منه.”

وإن شاء الله سيكون هذا البلاء في ميزان حسناتكم وحسنات فارس.

تنهدّت أمّ فارس وقالت:

الحمد لله على كلّ شيء.

قالت جمانة:

ما دام الأطبّاء يمنعون التّواجد في غرفة فارس هذا اليوم، فلا داعي للبقاء هنا، دعونا ننصرف إلى بيتنا فهو في حيّ الصّوّانة ولا يبعد من هنا سوى بضع مئات من الأمتار. ستكونون في ضيافتنا هذه الليلة، وأهلا بكم كلّ ليلة، وفي الصّباح سنوصلكم إلى المستشفى.

قالت أمّ فارس، بارك الله بكنّ، فقلبي يحترق ولا أستطيع الابتعاد عن فارس.

بينما قالت عائشة: أهلي يسكنون في بيت حنينا، وابني الأوسط وحماتي ستنام معي في بيت والديّ.

ردّت عليها أمّ جمانة:

تذهبون معنا الآن، تسترحن قليلا من العناء ويرتاح الطّفلان أيضا، وإذا لم يعجبكما بيتنا سنوصلكما إلى حيث ترغبان.

قالت أمّ فارس:

أنتنّ وبيتكنّ على رؤوسنا وبارك الله بكنّ.

بعد جدال قصير وافقت أمّ فارس أن تذهب وعائشة والطّفلان مع لطيفة وبناتها.

استقبلهما أبو جمانة بترحاب زائد، وهو يقول:

زارتنا البركة، البيت بيتكم.

نام الطّفلان في غرفة البنات بينما جلست عائشة وحماتها في صالون البيت وسط ترحيب كبير من والدي جمانة.

شعرت عائشة وحماتها كأنّهما في بيتهما، استأذنت جمانة وإحدى شقيقاتها بتحضير وجبة العشاء، بينما ركبت تغريد سيّارتها دون استئذان، ومن شارع صلاح الدّين اشترت مجموعة ألعاب للطّفلين.

رنّ هاتف عائشة المحمول، كان والدها على الطّرف الآخر، سأل:

أين أنتما؟

نحن في ضيافة أسرة كريمة قريبا من المستشفى، فالأطبّاء طلبوا أن نترك فارس يستريح هذا اليوم، ثمّ سألته:

من أين تتكلّم؟

– من مستشفى المطلّع، لم أجدكما ولم يسمحوا لي بزيارة فارس.

– استمعت جمانة لحديث عائشة مع والدها، فطلبت من عائشة أن ترافقها لإحضاره؛ كي يتعشّى معهم.

حاولت عائشة التّملّص من طلب جمانة، لكنّها رضخت في النّهاية.

عند درجات مدخل بناية المستشفى أشارت عائشة إلى المقعد الخشبيّ المقابل، رأت والدها وبجانبه ابنها الأوسط، ونادت:

بابا.

انتبه أبوها لها، فأسرع إليها، نزلت من الكرسيّ الأماميّ، لتفسح المجال لأبيها كي يجلس عليه. بينما جلست هي وابنها في الكرسيّ الخلفيّ.

عندما التفّت سيّارة جمانة إلي جهة اليسار عند المدخل الرّئيسيّ لمستشفى المطّلع، سأل أبو عائشة:

إلى أين أنت ذاهبة بنا يا عمّي.

جمانة إلى بيتنا يا عمّ، إلى حيّ الصّوّانة على بعد بضع مئات من الأمتار.

ردّ عليها بصوت خافت:

لا داعي لذلك يا ابنتي، فالشّمس على وشك المغيب.

جمانة: لا تكترث يا عمّ، فستعود إلى بيتك سالما غانما.

شعر ضيوف أبي جمانة وكأنّهم في بيتهم، الأطفال سعادتهم كبيرة، حتّى الرّضيع مناغاته وكركرته العصفوريّة وهو يلهو مع سعيد بن جمانة اخترقت أذن أمّه وجدّته.

بعد أن تناولوا طعام العشاء استأذن أبو عائشة للمغادرة، رغم أنّ أبا جمانة حاول التّمسّك بهم لأطول فترة ممكنة، بل إنّه عرض عليهم المبيت في بيته. لكنّ أمّ فارس قالت بأنّها ستقضي ليلتها في بيت مضيفيها، أقلّتهم تغريد بسيّارتها حتّى بيت أبي عائشة في بيت حنينا.

اندمجت أمّ فارس بالحديث مع مضيفيها، حتّى أنّ ضيقها وحزنها على الوضع الصّحّيّ لابنها فارس قد تبخّر، أو أنّه بقي في مستشفى المطّلع، ولم يرافقها إلى بيت أبي جمانة.

في التّعليلة التي غادرها أبو جمانة إلى غرفة نومه بسبب شيخوخته وعدم احتماله للسّهر قالت أمّ فارس:

أنتم محظوظون لقربكم من المسجد الأقصى.

ردّت عليها جمانة ونحن محظوظون بزيارتك لنا، ونتمنّى عليك أن تعتبري بيتنا مثل بيتك، وأهلا وسهلا بك دائما وأبدا.

ابتسمت أمّ فارس وقالت:

يسلم البيت وأصحابه.

صمتوا قليلا وعادت أمّ فارس تقول:

غدا منذ بزوغ النّهار سأذهب إلى المستشفى للاطمئنان على فارس. فإذا استيقظتم ولم تجدوني فلا تقلقوا عليّ.

ضحكت جمانة وهي تقول:

عند صلاة الفجر سنذهب أنا وأمّي لأداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى، و…….

قطعت أمّ فارس حديثها وقالت:

وأنا معكما أيضا.

قالت جمانة وبسمة تعلو وجهها:

“لو صبر القاتل على المقتول لمات لحاله.” وبعدها نعود إلى بيتنا نتناول فطورنا وقهوتنا، وسأوصلك إلى المستشفى، وبعد انتهاء دوامي سأعود إليك لنطمئنّ على فارس، وتعودين معي للمبيت عندنا، والآن هل تردن النّوم أم أنّ السّهرة قد طابت لكنّ.

ردّت أمّ فارس:

والله أنا مرتاحة وغير نعسانة. لكنّي أرجو أن لا أثقل عليكم.

استندت أمّ جمانة وقالت:

إن لم يسعك بيتنا، فقلوبنا وعيوننا فيها متّسع لك.

قالت جمانة:

دون مؤاخذة، إن أردتنّ آداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى، فيجب أن تنمن الآن، فبيننا وبين وقت الصّلاة أقلّ من أربع ساعات فقط.

 أعدّت تغريد سريرها لتنام عليه أمّ فارس، وقادتها لتنام عليه، بينما هي نامت على كنبة طويلة في الصّالون.

قبل أذان الفجر الأوّل، استيقظت جمانة وأيقظت والدتها، تسلّلت إلى حيث تنام أمّ فارس وهي متردّدة خوفا من إزعاجها، لكنّها وجدتها مستيقظة، فعرضت عليها أن تنهض وتتوضّأ إذا أرادت الصّلاة في المسجد الأقصى.

 ركنت جمانة سيّارتها قريبا من باب الأسباط، مشت هي ووالدتها وأمّ فارس إلى قبّة الصّخرة، حيث تصلّي النّساء، بينما مشى والدها إلى المسجد القبليّ، مشوا وهالة من الخشوع والتّقوى تحيط بهم.

بعد أذان الفجر الثّاني، وعند الانتهاء من صلاة ركعتي سنّة صلاة الفجر، وفي انتظار إقامة الصّلاة، رفعت جمانة -التي جلست بين والدتها وأمّ فارس- يديها إلى السّماء وقالت بصوت مسموع:

“إلهي أذهب البأس ربّ النّاس، اشف فارس وأنت الشّافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما، أذهب البأس ربّ النّاس، بيدك الشّفاء، لا كاشف له إلّا أنت يا ربّ العالمين، اللهم إنّي أسألك من عظيم لطفك وكرمك وسترك الجميل، أن تشفي فارس وأن تمدّه بالصحّة والعافية، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك، إنّك على كلّ شيءٍ قدير.”

أمّنت والدتها وأمّ فارس على دعائها، ودعت لها أمّ فارس بالنّجاح والتّوفيق والسّتر في الدّنيا والآخرة.

 أوصلتها جمانة مدخل بناية المستشفى الرّئيسة بعد أن تناولتا طعام الفطور، لم تنزل معها؛ لأنّها على عجلة من أمرها كي تلتحق بدوامها.

صعدت أمّ فارس درجات البناية إلى الطّابق الثّاني حيث يرقد ابنها فارس، كانت تتقدّم خطوة وتتراجع أخرى، فهي ليست على عجلة من أمرها، فقد تركت فارس بالأمس في وضع سيّء، أمام الغرفة حيث يرقد فارس، جلست على مقعد خشبيّ معدّ خصيصا للزّائرين، تمسح عرقها الذي اختلط بدموعها وبدعائها، وإذا فارس يقف أمامها باسما ويطرح عليها تحيّة الصّباح ويمسك يدها اليمنى ويقبّلها.

تفاجأت الأمّ بابنها شهقت خوفا وهي تبسمل وتسأل بعفويّة تامّة:

هل أنت فارس؟

ضحك فارس وهو يقبّل يدها وقال:

نعم أنا فارس، ماذا جرى لك يا أمّي؟

انهمرت دموعها غزيرة وهي تحيط جانبي رأسه بيديها وتقبّل وجنتيه، وكأنّه طفل رضيع، وتحمد الله على تحسّن وضعه الصّحّيّ؟

في الواقع أنّ الجرعة الكيماويّة قد حاصرت امتداد المرض ولو بشكل مؤقّت، وقد كتب له الأطباء ثلاث عشرة جرعة، تعطى له يوما بعد يوم، وسيعقبها ما لا يقلّ عن تسع جلسات بالأشعّة.

عند ساعات الضّحى جاءت زوجته عائشة لزيارته، بعد أن تركت أطفاله برعاية والدتها، فهي لم تُرد أن تجرح مشاعرهم تجاه والدهم، بعد رؤيتهم له يوم أمس، شعرت بالنّدم على عدم اصطحابهم معها بعد أن رأت فارس وقد تحسّن وضعه، فأصبح قادرا على الجلوس وعلى الكلام وحتّى على المشي والضّحك.

عند ساعات الظّهر حضرت جمانة ووالدتها إلى المستشفى، ودون تنسيق وبمحض الصّدفة حضرت تغريد والطّبيبة أميرة، فقد استأذنتا للخروج من العمل في مستشفى المقاصد لمدّة ساعة. كانت مفاجأة سارّة عندما وجدن أن تحسّنا طرأ على وضع فارس الصّحّيّ.

استفسرت أميرة الطّبيبة ومعها تغريد من زميل لها في مستشفى المطّلع عن أوضاع فارس الصّحّيّة، فقال الطّبيب بأنّه بحاجة إلى أكثر من عشرين وجبة دم، وإذا قدّر الله له أن يعيش بعد الكيماوي والأشعّة فسيعيش من 6-9 أشهر، وإذا ما وجد من يتبرّع له بزراعة كبد، فإنّه لن يموت من هذا المرض.

عرضت تغريد على شقيقتها جمانة وعلى عائشة زوجة فارس أن تتبرّع كلّ منهنّ بوجبة دم، فلم يتردّدن بذلك، وبدأت هي وأميرة الطبيبة بعمليّة التّبرّع كي يعدن إلى عملهنّ. في حين لم يقبل بنك الدّم أن يسحب الدّم من أمّ فارس وأمّ جمانة، لأنّهنّ مسنّات ويتعاطين بعض الأدوية.

بعد أن انتهت جمانة من تبرّعها بوحدة الدّم هاتفت عددا من زميلاتها في الجامعة، فما خاب ظنّها فقد حضر عدد منهنّ أكثر من المطلوب، ممّا لفت انتباه الأطبّاء.

سألت الطّبيبة أميره زميلها الطّبيب المشرف على علاج فارس:

إذا وُجد من يتبرّع بجزء من الكبد لزراعته لفارس، فأين يمكن عمل الزّراعة؟ وكم التّكلفة؟

رد الطّبيب مع تنهيدة عميقة:

يوجد في عمّان مستشفيات متخصّصة يمكن زراعة الكبد فيها، والتّكلفة -حسب معلوماتي- حوالي خمسين ألف دولار.

تباحثت الطّبيبة مع تغريد وجمانة في الموضوع فقالت جمانة:

سنضع إعلانا في الصّحافة لجمع المبلغ، ويجب البحث عن متطوّع من أسرة فارس للتّبرّع بجزء من كبده.

قالت عائشة زوجة فارس:

أنا على استعداد للتّبرّع.

انتبهت أمّ فارس لما قالته عائشة وقالت:

أنا أحقّ النّاس بالتّبرّع من كبدي لابني، ثمّ التفتت إلى عائشة وقالت:

أنت يا ابنتي لا تزالين في عزّ الشّباب وأطفالك بحاجتك، أمّا أنا فقد شبعت من عمري.

قالت الطّبيبة أميرة:

هناك شروط طبّيّة للتّبرّع بالأعضاء، وهناك اختلاف بين جسم وجسم آخر من ناحية فصيلة الدّم وأشياء أخرى. وللعلم ما يؤخذ من كبد المتبرّع هو قطعة صغيرة، وعندما تزرع في جسد المريض فإنّها تنمو وتكبر، كما أنّ كبد المتبرّع أيضا ينمو ويعوّض ما فقده.

وهنا سألتها جمانة مستغربة:

وهل تنمو أعضاء جسم الإنسان؟

ردّت الطبيبة:

نعم، الكبد ينمو.

عادت عائشة تقول لحماتها:

أنت في مرحلة الشّيخوخة، وأنا من سيتبرّع.

عادت الحماة تقول:

قلت لك بأنّ أطفالك بحاجة إليك؟

ردّت عائشة بلهجة حزينة:

الأبناء دون أبيهم …  ولم تستطع أن تكمل فقد غلبها البكاء.

*******************************

 منذ استلامها لعملها في مستشفى المقاصد الخيريّة الإسلاميّة لفتت تغريد انتباه العاملين على مختلف تصنيفاتهم بجمالها وبأخلاقها الحميدة، حتّى أنّها حظيت باحترام مسؤوليها وزملائها في العمل، فهي تعي تماما ما لها وما عليها، وتعرف بشكل عفويّ كيف تحافظ على سمعتها من خلال سلوكها الذي لا تشوبه شائبة. لم ترافق أيّا من العاملين في المستشفى سوى أميرة طبيبة الولادة والأمراض النّسائيّة العاملة في قسم التّوليد في المستشفى.

بعد عملها في المستشفى بسبعة أشهر وعندما فكّر الدّكتور فريد السّلمان أخصّائيّ أمراض الكلى والمسالك البوليّة بالزّواج، وجد مبتغاه بتغريد، حاول التّقرّب منها ومعرفتها عن قرب، تعمّد التّردّد على صيدليّة المستشفى ليراها ويلفت انتباهها، لكنّه لم يستطع أن يجرّها لحديث ما، ولم تستجب له إلا بردّ تحيّته لها بمثلها دون أن تلتفت إليه، وتواصل عملها بشكل عفويّ. فاحتار بأمرها وقرّر أن يسأل عنها زميلته الدّكتورة أميرة، وهذا ما حصل، فقد سألها عندما التقاها في مقصف المستشفى:

هل الصّيدلانيّة أميرة عزباء أم متزوّجة؟

استغربت الطّبيبة سؤاله فسألته باسمة:

لماذا تسأل؟ إنّها عازبة فهي لم تكمل عامها الثّالث والعشرين.

– سؤالي بريء وعفيف، فأنا أريد الزّواج وأراها مناسبة لي.

ضحكت الطّبيبة وقالت:

لن تجد أفضل منها.

– حاولت التّعرّف عليها عن قرب، لكنّها لم تنتبه لي.

-هذه فتاة محافظة وعلى خلق، ولا تنتبه لك ولا لغيرك.

دغدغ جواب الطّبيبة عواطف الدّكتور فريد، سكت قليلا ثمّ سأل:

هل بإمكانك ترتيب لقاء للتّعارف بيني وبينها، لنتحدّث بحضورك.

أجابت الطّبيبة ببرود:

سأعرض الموضوع عليها. وانصرف كلّ منهما إلى عمله.

في اليوم التّالي دعت الطّبيبة أميرة صديقتها تغريد لاحتساء القهوة في فندق الامبسادور في الشّيخ جرّاح بعد انتهاء الدّوام، وهناك قالت لها الطّبيبة:

سأتكلّم معك دون مقدّمات لكسب الوقت:

ردّت تغريد مستغربة:

ـ    خيرا إن شاء الله.

– طبعا هو خير، هل تعرفين الطّبيب فريد السّلمان.

– نعم أعرفه بحكم العمل.

– هذا الرّجل يرغب بالتّعرّف عليك بقصد الزّواج.

تفاجأت تغريد بما سمعت، احمرّ وجهها حياء وصمتت.

كسرت الطّبيبة حاجز الصّمت وقالت:

لا داعي للحياء فالزّواج سنّة الحياة، وهذه فرصة مناسبة لك، فالطّبيب فريد شابّ رائع ومناسب لك.

ردّت تغريد قائلة:

ظروفي الخاصّة صعبة، فوالداي مسنّان ولي أخوات طالبات، وبحاجة إلى من ينفق على الأسرة، وشقيقتي جمانة مطلّقة وأمّ لطفل وهي تعمل مدرّسة وتكمل دراستها الجامعيّة العليا.

الطّبيبة: هذه أمور تجد حلولا مناسبة لها إذا وقع النّصيب وتزوّجتِ.

تغريد: لا أريد أن أشغل الآخرين بهمومنا الخاصّة.

الطّبيبة: أقترح أن أنقل ما قلتِه للطّبيب فريد، وسأستمع لردّه وبناء عليه سنواصل حديثنا.

لم تقل تغريد شيئا، وغادرت كلّ منهما إلى بيتها.

 في اليوم التّالي وفي ساعات الصّباح، التقت الطّبيبة أميرة بالدّكتور فريد في ساحة المستشفى، دعته لاحتساء فنجان قهوة في مكتبها في قسم التّوليد، وشرحت له ما سمعته من تغريد، فازداد تعلّقا بها وقال:

هذه أمور حلَها بسيط، وأقترح أن نلتقي بحضورك، وسأطرح وجهة نظري أمامكما.

وعدته أميرة بأن تعرض اقتراحه على تغريد.

 في حديث جانبيّ بين أميرة وتغريد، قالت الأخيرة بأنّها عرضت الموضوع على شقيقتها جمانة، فاقترحت هي الأخرى أن تلتقيا مع الطّبيب فريد بحضورها.

بعد يومين حصل اللقاء في باحة فندق الإمبسادور، وجرى التّعارف بين جمانة والطبيب الذي رأته للمرّة الأولى.

أثناء احتساء القهوة، قال الطّبيب فريد:

استمعت لوجهة نظر تغريد من زميلتي الطّبيبة أميرة، وأنا أُكبر بتغريد هذا التّفكير وحرصها المنطقيّ والمعقول عى والديها وشقيقاتها، وإذا وقع النّصيب بيننا، فإنّني سأعتبر والديْ تغريد والديّ، وشقيقاتها شقيقاتي، وسنعيش كأسرة واحدة متكافلة متضامنة في كلّ شيء. والمثل يقول:”كون نسيب ولا تكون قريب” و”نسبك حسبك.” وأنا طرقت الباب لأدخل البيت بطريقة صحيحة، وآمل أن أسمع الجواب بالقبول.

ردّت عليه جمانة بطريقة صارمة:

هذا مجرّد لقاء تعارف، دعنا نفكّر، ونتشاور مع والدينا، ولن تسمع جوابا من ورائهما.

ابتسم الطّبيب فريد لما سمعه من جمانة وقال:

كلامك صحيح، وهذا ما أريده أنا أيضا، وأنا جاهز الآن أن أجيب بصدق على أيّ سؤال تطرحانه عليّ عن أحوالنا الشّخصيّة.

وعندما لم يسمع أيّ سؤال قال:

اسمحن لي أن أتكلّم قليلا عن وضعي الأسريّ، والدي متوفّى -رحمه الله- وكان مهندسا، ولي شقيقتان متزوّجتان وهما أكبر منّي عمرا، ولي شقيق يصغرني بعام يعمل مهندسا، عمره سبعة وعشرون عاما، نملك بيتا ورثناه من أبينا في شعفاط من طابقين وكلّ طابق من شقّتين، كما نملك عدّة قطع أراض في أبو ديس والعيزريّة.

ردّت عليه جمانة:

نحن لا نبحث عن أملاك ولا عن أموال، ولا نريد غير السّتر.

ردّ الطّبيب فريد ضاحكا:

وأنا أريد الزّواج طلبا للسّتر والسّكينة وبناء أسرة متحابّة، وبإمكانكما السّؤال عنّا كيفما تريدان، فليس لدينا ما نخفيه.

ردّت عليه جمانة:

وهل سألتَ أنت عنّا؟

ردّ عليها ضاحكا:

نعم سألت نفسي، “فالمكتوب يُقرأ من عنوانه” وتغريد كاملة الأوصاف، فهي حديث العاملين في المستشفى بأخلاقها وجمالها وجدّيّتها في عملها.

كلامه هذا دفع جمانة لتسأل:

إذا وقع النّصيب وتزوّجت تغريد هل ستسمح لها بالبقاء في عملها؟

ضحك وردّ بتساؤل:

وهل عندك شكّ في ذلك؟

بلعت ريقها وهي تتذكّر بغصّة كيف منعها أسامة من العمل كمدرّسة في مدرسة بنات.

استمعت تغريد للحوار بين جمانة والطّبيب فريد دون أن تتفوّه بكلمة، فاستأذن الطّبيب للغياب دقيقة واحدة، وعندما عاد استأذنت جمانة للإنصراف هي وتغريد، لكنّ الطّبيب قال:

انتظرا هنيهة فقد طلبت وجبة غداء لنا، حاولت جمانة التّملّص من الغداء، لكنّ تغريد فاجأتها عندما قالت بدلال زائد:

والله أنا جائعة.

ضحك الجميع ممّا قالته تغريد، لكنّ الطّبيب فرح بذلك واعتبره موافقة مبدئيّة، بينما الطّبيبة أميرة اعتبرت سكوت تغريد علامة رضا.

 عندما عادت جمانة وتغريد إلى البيت قالت جمانة لتغريد:

في تقديري أنّ هذا الطّبيب مناسب كزوج لك يا تغريد.

قالت تغريد بقلب يخفق:

الزّواج تقرير مصير، وعلينا أن لا نتعجّل الأمور.

في البيت طرحت جمانة موضوع زواج تغريد أمام والديها، أصغيا لحديثها بانتباه شديد، بدا الوالد كزهرة أقحوان برّيّة كتلك التي تنبت في جبال فلسطين وبطاحها، وبدأت بالذّبول في آخر فصل الرّبيع، قالت الأمّ:

“ربنا يجيب اللي فيه الخير”.

 ثمّ التفتت إلى زوجها وسألته:

ما رأيك يا عيسى؟

قال بلهجة متعبة:

من تقبل به تغريد أنا موافق عليه دون نقاش، فقد تعلّمت درسا من زواج جمانة، وليتني سمعت رأيها في حينه.

انتفضت جمانة تعاطفا مع والدها وقالت له:

بابا…حبيبي، “كلّه قسمة ونصيب”، فلا تندم على ما فات.

التفت الأب إلى تغريد وسألها:

ما رأيك يا تغريد؟

تورّدت وجنتا تغريد حياء وقالت:

أنا تركت الأمر لتقييم جمانة، وأنا واثقة بصّحة رأيها.

ردّت جمانة ضاحكة:

في تقديري لو لم يكن الرّجل مناسبا، لما تدخّلت الطّبيبة بالأمر، فهي صديقة لتغريد وتحبّها كأخت وفيّة. لكنّ “الزّواج كالبطّيخة، لا تعرف جودتها قبل أن تفتحها وترى مدى احمرارها وتتذوّق طعمها”.

ضحكت تغريد من كلام جمانة وقالت:

قبل عدّة أشهر رأيت في التّلفاز بطّيخا يابانيّا مربّع الشّكل، وداخله أصفر اللون، وقالوا أنّه حلو وطيّب المذاق.

ردّت عليها جمانة بضحكة مماثلة وقالت:

ما لنا وللبطّيخ اليابانيّ؟ نحن نتكلّم عن بطّيخ بلادنا. تقييمي للرّجل من خلال جلستي اليتيمة معه، أنّه رجل خلوق ومحترم ومثقف، عدا عن أنّه وسيم وتتمنّاه أيّ فتاة في سنّ الزّواج.

كانت أمّ فارس في ضيافتهم، استمعت لحديثهم دون أن تتفوّه بكلمة، فالأمر لا يعنيها، وعندما سأل أبو جمانة ابنتيه:

ما اسم هذا الطّبيب حتّى نسأل عنه وعن وضعه الأسريّ؟

أجابت تغريد:

اسمه فريد السّلمان من شعفاط ووالده متوفّى وكان مهندسا.

وهنا استندت أمّ فارس وقالت:

عرفته هذا ابن المهندس المرحوم أحمد السّلمان، وأمّه اسمها سكينة، وله شقيق مهندس اسمه رمزي، وشقيقتان اسمهما منى وأمل، وهم من خيرة النّاس، ولو كان لي بنت وطلبها أحدهما لباركت له وأنا مطمئنّة القلب مرتاحة الضّمير.

عندما سمعت جمانة ما قالته أمّ فارس قالت:

“قطعت جهيزة قول كلّ خطيب” ولن نسأل بعدك أحدا يا أمّ فارس فأنت ثقة، وشهادتك له تكفينا.

عادت أمّ فارس تقول لهم:

تشرّفت بمعرفتكم، وأعتبر بناتكم بناتي، وإذا وقع نصيبك يا تغريد مع الطّبيب فريد، فأنت محظوظة، وهو محظوظ بك.

وهنا ضحكّ سعيد بن جمانة ببراءة طفوليّة وهو يجلس في حضن جدّته، فقالت أمّ فارس مازحة:

“خذوا فالها من اطفالها” فها هو سعيد يبارك لخالته تغريد.

 في الجانب الآخر تحدّث الدّكتور فريد مع والدته بحضور شقيقتيه وشقيقه عن نيّته بالزّواج.

شعرت والدته بفرح غامر، بحيث أنّها قطعت حديثه وقالت:

هذا يوم السّعد الذي أنتظره يا ولدي.

وأضافت: هل اخترت عروسك أم تريدني أن أختار لك؟

شرح لهم فريد كلّ ما يعرفه عن تغريد، فسألته شقيقته الكبرى منى:

أين يسكن أهلها؟

– في حيّ الصّوّانة على السّفح الغربيّ لجبل الزّيتون “الطّور”.

أضافت منى قائلة:

سأذهب عصر يوم غد أنا والوالدة وأمل إن سمح لها وقتها؛ لنستطلع الأمر، ولنمهّد الطّريق، وفي هذه الأيّام ” ما بجيبها غير نسوانها”!

ضحكوا من مقولة منى، وتساءل رمزي ساخرا:

وفي الأيّام الخالية من كان “يجيبها”؟

ردّت عليه منى بسخرية مقابلة وقالت:

شقائق النّساء.

سألته منى: هل لديك رقم هاتف تغريد؟

تذكّر أنّه طلب من جمانة وتغريد أن يتبادل معهما أرقام الهواتف، لكنّهما تجاهلتا الطّلب. اتّصل بزميلته الطّبيبة أميرة، وسألها عن رقم الهاتف النّقال لتغريد أو جمانة. فأعطته رقميهما ورقم البيت أيضا.

قالت أمّ فريد: لا داعي للاتّصال، لقد كنّا نتزاور دون اتّصال مع أحد، “لكن الدّنيا آخر وقت.”

في اليوم التّالي حاولت منى أن تتّصل أكثر من مرّة على رقم جمانة ورقم تغريد، فلم تردّا لأنّهما استغربتا الرّقم، وعندما اتّصلت على رقم البيت لم يردّ عليها أحد أيضا، فقد كان أبو جمانة في الأقصى وأمّ جمانة كانت تستحمّ.

عندما أخبرت شقيقها فريد بأنّ أحدا لم يردّ على اتّصالها، اتّصل بزميلته الطّبيبة أميرة وطلب منها أن تخبر تغريد بأنّ والدته وشقيقتيه سيزرنهم بعد صلاة عصر ذلك اليوم.

أخبرت تغريد شقيقتها جمانة بذلك، فطلبت منها جمانة أن تعود إلى البيت قبل الثّانية ظهرا، بينما هي ذهبت لتحضر أمّ فارس من مستشفى المطّلع، كي تكون معهم عند حضور أمّ فريد وشقيقته.

 عندما وصلت أمّ الطّبيب فريد وابنتاها بيت أبي جمانة، استقبلتها لطيفة وبناتها بالأحضان والقُبل، كما هي عادة نساء فلسطين، فما أن تصافح واحدة منهنّ أخرى حتّى تتبادلا القُبل.

تفاجأن بوجود أمّ فارس في بيت أبي جمانة، وترحيبها بهنّ وكأنّها ربّة البيت، انتبهت لدهشتهنّ جمانة فقالت:

” الضّيف الأوّل معزّب للضّيف الثّاني”.

 وأضافت: لكنّ الخالة أمّ فارس لم تعد ضيفة عندنا فهي ربّة البيت ومنّا وفينا.

شكرتها أمّ فارس وهي تقول:

“يسلم البيت واصحابه”.

عندما وقعت عيون أمّ فريد وابنتيها على جمانة وتغريد، دُهشن من جمالهنّ، ولم يميّزن إحداهما من الأخرى، خصوصا وأنّ سعيد بن جمانة كان في حضن جدّته، أدركت أمل شقيقة فريد الإرتباك بسرعة فقالت: التعارف من السّنّة، أنا أمل وأشارت إلى والدتها وقالت هذه سكينة “أمّ فريد” والدتي وهذه شقيقتي منى.

ردّت عليها تغريد وقالت:

أنا تغريد، وهذه لطيفة أمّي، وهذه شقيقتي جمانة، وهذه أّمّ فارس التي تعرفنها، و”الختيار” الجالس في حديقة البيت هو أبي عيسى الحمّاد.

مدّت أمّ فريد يدها للطّفل سعيد تداعبه وقالت:

ما شاء الله عليه! ابن من هذا؟

ردّت عليها جمانة وهي تلتقط ابنها من حضن والدتها:

هذا ابني سعيد.

قالت منى في محاولة منها لاستكشاف الأمر فقالت من باب المجاملة:

ليحفط الله ابنك، لكن لا يبدو عليك أنّك متزوّجة.

ردّت عليها تغريد:

جمانة مطلّقة وهي الآن عازبة، وتدرس ماجستير “الشّريعة” في جامعة القدس في أبو ديس، وتعمل مدرّسة.

تداولن أحاديث من باب ملء الفراغ وكسر حاجز الصّمت.

وبعد حوالي نصف ساعة قالت أمّ فارس:

مع أنّ أحدا لم يسألني رأيي، وبما أنّني أعرف أمّ فريد وأبناءها منذ سنوات طويلة، وتشرّفت بمعرفة أسرة أبي جمانة، من خلال زيارة فارس -الله يشفيه- في مستشفى “المطّلع”، وبعد إصرار تغريد وجمانة -الله يرضى عليهما” عليّ؛ لأبيت في بيتهنّ!” فما رأيت من أصحاب هذا البيت إلّا كلّ خير، وعندما سمعت أنّ الدّكتور فريد يريد خطبة تغريد، فرحت لهما من قلبي وقلت:” طنجرة ولقت غطاها” ونسأل الله التّوفيق، ويبقى القرار للعريس وأهله وللعروس وأهلها.

ردّت عليها أمّ فريد:

رأيك تاج على رؤوسنا يا أمّ فارس.

ركّزت منى شقيقة فريد نظراتها على جمانة أكثر من تركيزها على تغريد، فسألتها:

متى ستنهين دراستك الجامعيّة يا جمانة؟

ردّت جمانة بعفويّة تامّة:

سأنهي الماجستير في نهاية الفصل الدّراسيّ القادم.

– ما موضوع رسالتك للماجستير؟

– عن حقوق المرأة في الإسلام.

استطردتا في الحديث فسألت منى:

لماذا تطلّقت يا جمانة؟

– كلّه قسمة ونصيب.

– ماذا يعمل طليقك؟ وهل هو متعلّم؟

– نعم يحمل ماجستير شريعة ويعمل مدرّسا في السّعوديّة.

ابتسمت منى وقالت:

هذا هو السّبب.

ضحكت تغريد وسألت:

كيف عرفت ذلك؟

ردّت منى بسؤال لجمانة:

ألهذا السّبب تدرسين الشّريعة ورسالتك في الماجستير عن حقوق المرأة في الإسلام؟

ضحكت جمانة وقالت:

شهادتي الجامعيّة الأولى كانت في اللغة العربيّة.

استأذنت أمّ فريد وابنتاه بالإنصراف بعد أن قالت:

سنأتي لطلبة تغريد للدّكتور فريد بشكل رسميّ، ونأمل أن يلقى طلبنا قبولا منكم.

ردّت أمّ جمانة قائلة:

على خيرة الله، لكن أمهلونا أسبوعا؛ لنبحث الموضوع.

في طريقهنّ إلى بيتهنّ سألت منى:

ما رأيكما؟

ردّت عليها شقيقتها أمل:

الفتاة مناسبة جدّا، وإذا وقع النّصيب ففريد محظوظ.

عادت منى تسأل:

ما رأيكما بجمانة؟

ردّت عليها والدتها:

البنات يتوفّر فيهنّ الجمال والعلم والأخلاق ولا تنقصهنّ التربية الحسنة.

قالت منى: لديّ اقتراح وهو أن نخطب تغريد لفريد وجمانة لرمزي.

تفاجأت الوالدة وأمل بما سمعتاه فتساءلت أمل:

وهل يقبل رمزي الزّواج من مطلّقة؟

 التزمت الأمّ الصّمت، لكنّ منى ردّت على شقيقتها أمل:

ما لها المطلّقة؟ وما ينقصها؟

ردّت أمل بلا مبالاة:

الفتيات العذارى كثيرات.

قالت منى بلهجة حادّة:

أبونا -رحمه الله- كان مهندسا ذا شأن وتزوّج أمّنا وهي مطلّقة.

ردّت الأمّ بهدوء:

سنطرح الموضوع على رمزي، فإن وافق فعلى بركة الله.

في البيت جلس فريد متلهّفا لسماع رأي والدته وشقيقتيه. ذهبت الأمّ تتوضّأ لصلاة المغرب، فقالت منى وهي تبتسم:

لقد عرفت كيف تختار عروسك يا فريد، وأقترح أن نصطاد عصفورين بحجر واحد.

قطع حديثها رمزي وسأل:

كيف؟

ردّت أمل ساخرة قبل أن تجيب منى:

منى تريد أن تزوّجك مطلّقة يا رمزي.

نظرت إليها منى نظرة غضب وقالت:

أنا جادّة بحديثي ولا مزاح في مواضيع الزّواج، لتغريد شقيقة اسمها جمانة تضاهيها في الجمال والذّكاء، بل هي أكثر منها ذكاء، وهي تدرس ماجستير شريعة، وتحمل “ليسانس” في اللغة العربيّة، وتعمل مدرّسة، صحيح أنّها مطلّقة وأمّ لطفل عمره حوالي ثلاث سنوات، لكنّه لا يوجد فيها ما يعيبها.

عادت أمل تقول ساخرة:

أمر جيّد أن يتزوّج رمزي مطلّقة ومعها ابنها، وبهذا سيكون له زوجة وابن في آنٍ واحد.

تذكّر فريد ورمزي أنّ والدهما قد تزوّج والدتهما وهي مطلّقة، في حين عاد فريد بذاكرته إلى أحد أشهر أطبّاء مستشفى المقاصد الذي تزوّج أرملة ويعيشان حياة هانئة سعيدة، لكنّهما دون نتنسيق مسبق لم يتلفّظا بأنّ والدهما قد تزوّج والدتهما وهي مطلّقة، خوفا من جرح مشاعرها.

صمتت منى للحظات وهي تنظر لشقيقتها أمل نظرات فيها عتاب ثمّ سألت شقيقها فريد:

هل قابلت جمانة يا فريد.

ردّ فريد بهدوء:

نعم قابلتها وهي كثيرة الشّبه بتغريد حتّى يخالهما من يراهما أنّهما توأمان.

توضّأت الأمّ وصلّت ثم عادت تجلس مع أبنائها وهي تحرّك خرزات مسبحتها بعد أن سمعت ما تحدّثوا به، التفت إليها فريد وسألها:

كيف وجدتنّ العروس وأهلها يا أمّي؟

تنهّدت الأمّ وقالت:

البنت فيها المواصفات الحسنة كلّها، وأهلها طيّبون.

سأل رمزي: ما رأيك بجمانة؟ هل هي كما تقول منى؟

الأمّ: رغم أنّ أمل لسانها طويل، و”لا يعجبها العجب” إلا أنّ جمانة لا تقلّ عن شقيقتها تغريد بأيّ شيء، وإن أردت الزّواج فلن تجد أفضل منها.

التفت رمزي إلى شقيقه فريد وسأل:

هل يمكنك ترتيب لقاء من خلاله أستطيع أن أرى جمانة؟

ردّت أمل غاضبة متسائلة:

كيف ستتزوّج مطلّقة، وأكبر عمرا من شقيقتها تغريد التي سيتزوّجها فريد وهو أكبر منك عمرا؟

وهنا ردّت منى وتساءلت:

بالنّسبة للعمر جمانة أصغر من رمزي بثلاث سنوات، وإذا كان فريد أكبر من رمزي عمرا، وجمانة أكبر من تغريد عمرا، فأين الخطأ؟

ابتسم فريد وقال وهو ينظر إلى أمل:

صدق من قال أنّ المرأة تعادي بنات جنسها.

شعرت أمل أنّ كلامها غير مقبول فقرّرت الانسحاب من الجلسة وهي تقول:

تأخّرت على أبنائي، فقد تركتهم برعاية جدّتهم، إلى اللقاء.

قالتها وانصرفت.

لم تفصح الأمّ عمّا في داخلها، لكنّ كلام ابنتها أمل ترك في نفسها غصّة.

عادت منى تقول:

أقترح أن يرى رمزي جمانة وأن يتحدّث معها، فإن أعجبته وأعجبها، فإنّنا نتمنّى لهما التّوفيق، وإن حصلت الموافقة فأقترح أن تكون خطبة وزواج فريد ورمزي معا في يوم واحد والزّواج في يوم آخر.

قال الدّكتور فريد:

سأقترح على زميلتي الطّبيبة أميرة أن ترتّب لنا لقاء، وبعد ذلك لكلّ حادث حديث.

في اليوم التّالي سرد الدكتور فريد لزميلته أميرة، ما تداولته الأسرة بخصوص جمانة وشقيقه رمزي، واقترح عليها أن ترتّب لقاء يجمعهم وجمانة وتغريد بحضور رمزي، ليكون فاتحة للتّعارف، فرمزي وافق على الزّواج من جمانة بناء على حديث والدته وشقيقتيه عنها. تفاجأت الطّبيبة أميرة ممّا قاله زميلها فريد بخصوص جمانة ورمزي، مع أنّها سمعت من تغريد عن زيارة أمّ فريد وابنتيها لهم في بيتهم. فكّرت قليلا وقالت مازحة وهي تضحك:

أمر جيّد أن تتزوّجوا بالجملة.

ثمّ استدركت وقالت:

جمانة وتغريد فتاتان تتوفّر فيهما كلّ الخصال التي يتمنّاها أيّ رجل سويّ في الفتاة التي يحلم أن تكون زوجة له. لكنّي لا أقبل أن أحتال عليهما، وأن أقودهما إلى لقاء لا يعرفن فحواه، لذا سأتكلّم مع تغريد بكلّ صدق وأمانة، وسأطرح عليها قضيّة رغبة شقيقك رمزي بالزّواج من جمانة، فإن حصلت موافقة مبدئيّة من جمانة، سأطرح عليهما لقاء تعارف، وإن رفضت جمانة لأسبابها التي لا أعرفها فهي حرّة بما تراه مناسبا لها، وأنا واثقة بقدرتها على اتّخاذ القرار الصّحيح، ولعلمك فإنّ جمانة هي التي طلبت الطّلاق من زوجها السّابق، ورفعت عليه قضيّة خلع، لأنّه يحمل فكرا متزمّتا تكفيريّا، ونظرته للزّوجة وتعامله معها عجيبة غريبة لا تقبلها امرأة عاقلة.

وافقها الدّكتور فريد على رأيها دون نقاش. وشعر بسعادة غامرة عندما عرف أسباب طلاق جمانة.

عندما التقت الطّبيبة أميرة بتغريد طرحت عليها ما قاله زميلها فريد بخصوص رغبة أخيه المهندس رمزي بالزّواج من جمانة.

فرحت تغريد فرحا طفوليّا عندما سمعت برغبة شقيق فريد بالزّواج من شقيقتها جمانة، وقالت:

جمانة تستحقّ كلّ خير، فقد عانت كثيرا من زواجها الأوّل الذي لم تكن راغبة فيه، لكنّها وافقت عليه بناء على رغبة الوالدين، وكان الطّلاق هو النّتيجة، وأتمنّى أن توافق على الزّواج من رمزي، لكنّي أخشى أنّها عزفت عن الزّواج لتتفرّغ لتربية طفلها وتكميل دراستها.

قالت الطّبيبة أميرة:

قبل الخوض بقضيّة زواج جمانة هل اتّفقتم على القبول بزواجك من الدّكتور فريد؟

ردّت تغريد: في الواقع أنّ أبي قال بأنّه موافق على ما أرتضيه أنا لنفسي، والوالدة موافقة، وجمانة متحمّسة لذلك خصوصا بعد أن سمعت رأيك ورأي أمّ فارس بفريد وأسرته، وازدادت حماسا بعد زيارة أمّ فريد وشقيقته لنا.

قالت الطّبيبة أميرة:

يسعدني ما سمعته منك، وآمل ألّا يكون طلاق جمانة قد سبّب لها عقدة من الزّواج، وإذا احتجتِ لي لمساعدتك في إقناعها فأنا جاهزة، وبخصوص طفلها فحسب معرفتي بفريد وأسرته فلن تكون هناك مشكلة، وسيبقى ابنها في حضانتها، ورمزي إنسان متعلّم ويفهم هذه الأمور جيّدا.

ردّت تغريد: إذا حُلّت مشكلة حضانة الطّفل فإنّني أعتقد أنّ جمانة ستوافق، فهي واعية بما فيه الكفاية. لكن هناك مشكلة وهي أنّ جمانة تعتبر نفسها ربّة البيت والمسؤولة عن والدينا المسنّين وعن شقيقتينا الأصغر منّا، وذلك بسبب عدم وجود أشقّاء ذكور لنا.

عادت الطّبيبة أميرة تقول:

سبق وأن تحدّثنا مع الدّكتور فريد بهذا الموضوع، فلم يترك لنا كلاما نقوله عندما قال بأنّه سيعتبر والديك والديه وشقيقاتك شقيقاته، وإذا سهّل الله الأمور وتزوّجتما من فريد وشقيقه رمزي فمخاوفك ومخاوف جمانة بخصوص الأسرة محلولة سلفا.

عند ذلك اقترحت تغريد على الطّبيبة أميرة أن تتّصل بجمانة؛ لتلتقي هي وتغريد معها بعيدا عن البيت، دون أن تقول لها شيئا عن هدف هذا اللقاء، وأن تطرح موضوع زواجها من رمزي معها؛ لتتناقشا معها حوله، وأن تحاولا معا اقناعها.

وافقت الطّبيبة واتّصلت بجمانة قائلة:

مرحبا يا لؤلؤة؟

ردّت جمانة ضاحكة:

أهلا بالأميرة.

 ردّت الطّبيبة ضاحكة:

 أميرة اسمي أم الأميرة المتوّجة؟

 – كلتاهما فأنت اسم على مسمّى.

 – بناء عليه فإنّ الأميرة تشتاق إلى اللؤلؤة، وتريد أن تحتسي القهوة بصحبتها.

 – أوامر الأميرة مطاعة…متى؟

اليوم السّاعة الثّالثة بعد الظّهر سأنتظرك أنا وتغريد في فندق”الإمبسادور.”

– اتّفقنا.

عندما التقين في “الإمبسادور” قالت جمانة لأميرة فور وصولها:

جئت على عجلة من أمري لأنّ الأمر يتعلّق بزواج تغريد.

ردّت الطّبيبة أميرة فورا وهي تبتسم:

بل بزواج جمانةّ!

جمانة: اتركينا من المزاح، هل هناك جديد بخصوص تغريد؟

الطّبيبة: نعم..هناك جديد يستدعي أن تتزوّج جمانة وتغريد في يوم واحد.

تفاجأت جمانة بما سمعت وقالت بحزم:

جمانة أخذت نصيبها من الزّواج، ولا تفكر به مطلقا.

بدأت الطّبيبة أميرة بسرد موضوع رمزي شقيق الدّكتور فريد ورغبته بالزّواج من جمانة، لكنّ جمانة قاطعتها قائلة بأنّها بعد تجربتها المريرة مع الزّواج، فلن تخوض التّجربة مرّة أخرى، وأنّها تصبّ تفكيرها على تربية طفلها وعلى دراستها فقط.

طلبت منها الطّبيبة أن تسمعها دون مقاطعة، ولن تفرض عليها شيئا، وسيبقى القرار لها. اعتذرت جمانة عن مقاطعتها لحديث الطّبيبة، وقالت لها:

تفضّلي يا سيّدتي “فلا جمرك على الكلام.”

تحدّثت الطبيبة عن الزّواج والطّلاق، وعن نظرة المجتمع للمرأة وبشكل خاص المطلّقة، وأوضحت أنّ طلاق المرأة ليس نهاية لحياتها، بل هو بداية لحياة جديدة، تماما مثلما هو حال الرّجال المطلّقين. وسردت ما تعرفه عن أسرة فريد ورمزي وعنهما بشكل خاصّ، ففريد ليس زميلها في العمل فقط، بل هناك علاقة أسريّة قديمة تجمع بين الأسرتين قبل أن يولدوا جميعا، واستمرّت حتّى يومنا هذا، كما أنّ فريد ورمزي صديقان لزوجها ولأشقّائها، وأضافت أنّ رمزي إذا ما وقع النّصيب وتزوّجتما على استعداد بأن يبقي طفلك بحضانتك، وسيعتبره ابنًا له. ثمّ أضافت موجّهة حديثها لجمانة:

أنت امرأة واعية، وتعرفين مصلحتك جيّدا، والزّواج سنّة الحياة، وهو ضرورة للرّجل وللمرأة، وبالتّأكيد أنت لست استثناء، ورمزي مهندس وسيم خلوق وراق في تفكيره وفي معاملته مع الآخرين، وآمل أن تقبلي بحضور لقاء تعارف معه بوجودي أنا وتغريد وفريد.

وفي محاولة من تغريد للتّأثير على شقيقتها جمانة للقبول قالت:

إن لم تقبل جمانة برمزي إذا رأته وأعجبها، فلن أوافق على الزّواج من فريد، ولا من غيره، فأنا لست أفضل من جمانة، وسنبقى في البيت عزباوات حتّى نهاية حياتنا.

ردّت عليها جمانة بلهجة قويّة:

وما علاقة زواجك بي؟ ولماذا تربطين مصيرك بمصيري؟

تغريد بهدوء:

أنت شقيقتي الكبرى، وقدوتي، ولن أقبل لنفسي ما لا تقبلينه لنفسك، والعكس صحيح أيضا، وأنا أشعر وأفهم جيّدا مشاعرك تجاهي.

نزلت دمعتان من عيني جمانة وقالت:

يا لسوء حظّي.

الطّبيبة: بل يا لحسن حظّك! مضى على طلاقك عامان، وها هو مهندس شابّ عازب رائع يكبرك بأقلّ من ثلاث سنين يتقدّم لك؟ فماذا تريدين أكثر من ذلك؟

غادرت جمانة الجلسة باكية دون استئذان، حاولت تغريد ثنيها عن المغادرة، لكنّ الطّبيبة غمزتها بطرف عينها لتتركها، جلست تغريد تبكي تعاطفا مع شقيقتها جمانة، فقالت لها الطّبيبة:

لا تخافي على جمانة، فقد بدأت حسابها مع الذّات، وتعيش صراعا بين القبول والرّفض، لكنّها إلى القبول أقرب، ستمضي ساعات طويلة هذه الليلة وهي تفكّر بالموضوع، لا تتحدّثي معها بموضوع الزّواج مطلقا، إلا إذا بدأت هي الحديث به. وإذا ردّت بالرّفض فاتركي الأمر لي.

**************************

     وضعت جمانة وتغريد والطّبيبة أميرة إعلانا على صفحات التّواصل الاجتماعيّ، سردن فيه معاناة السّجين المحرّر فارس مع المرض الخبيث، وأنّه بحاجة إلى زراعة كبد بشكل سريع لإنقاذ حياته، وستتمّ الزّراعة في أحد المستشفيات الخاصّة في العاصمة الأردنيّة عمّان، وبتكلفة خمسين ألف دولار، على أن يتمّ تسليم التّبرّعات مباشرة لوالد المريض.

في السّاعة الأولى من نشر الإعلان اتّصل أحد الأثرياء العرب، وقال بأنّه سيتحمّل تكاليف العمليّة وتكاليف من يرافق المريض كافّة، وتمنّى الشّفاء العاجل للمريض الذي أفنى نصف عمره وراء القضبان دفاعا عن شرف الأمّة وعدالة قضيّة العرب الأولى.

فرحة فارس وأسرته ومعارفه كانت كبيرة بهذا التّبرّع السّخيّ، حتّى أن جمانة وتغريد والطّبيبة أميرة تبادلن القُبل لنجاح فكرتهنّ. شكرن المتبرّع الكريم على شهامته ونشرن له رسالة شكر في الصّحافة. كما شكرن كلّ من راودته نفسه للتّبرّع.

حسمت أمّ فارس موضوع التّبرّع بجزء من كبدها؛ لأنّ الفحوصات الطّبّيّة التي جرت لها ولأبي فارس ولعائشة أثبتت أنّ المتطلّبات الطّبّيّة للزّراعة تنطبق عليها دون غيرها.

 تمّ تجهيز سيّارة إسعاف في مستشفى “المطّلع” لنقل فارس ووالدته إلى عمّان، وسيّارة إسعاف أخرى تنتظر على الجانب الشّرقيّ للنّهر لتقلّهما إلى المستشفى مباشرة. رافق سيّارة الإسعاف طبيب إيرلنديّ من “منظّمة أطبّاء بلا حدود” ومندوب عن الصّليب الأحمر الدّوليّ لتسهيل المرور عند المعابر الحدوديّة.

عند جسر “اللنبي” رفض الجانب الإسرائيليّ السّماح بعبور فارس بذريعة الأمن! لم يجد مندوب الصّليب الأحمر من يستجيب لطلبه بتسهيل عمليّة المرور، وأُجبرت سيّارة الإسعاف على العودة، لكنّ حاجز “الزعيّم” عند مدخل القدس الشّرقيّ لم يسمح الجنود بدخول فارس إلى القدس؛ ليرقد في مستشفى “المطّلع”؛ لعدم وجود تصريح ساري المفعول يسمح له بدخول القدس. شرح الطّبيب ومندوب الصّليب الأحمر خطورة الوضع الصّحّيّ لفارس، وأضافا بأنّ هذا المنع يعتبر جريمة بحقّ الإنسانيّة، لكنّهما جوبها بمعارضة شديدة، ممّا اضطرّهم اإلى العودة بسيّارة الإسعاف إلى الخلف، والإتّجاه من منطقة الخان الأحمر إلى حزما- جبع- مخيّم قلنديا فرام الله، وسط بكاء أمّ فارس وضيقها الذي أدخلها في غيبوبة، كادت تودي بحياتها لولا وجود الطّبيب الذي أسعفها بسرعة، بينما فارس يتصبّب عرقا، إلّا أنّه التزم الصّمت مغلوبا على أمره.

في منطقة مخيّم قلنديا وجدوا اختناقا في حركة السّير، استهلك ساعة من الزّمن حتّى استطاعوا الخروج.

في مستشفى رام الله الحكوميّ أُدخل فارس في قسم العناية المكثّفة، في حين تلقّت والدته العلاج في عيادة الطّوارئ.

بعد نشر خبر منع فارس من السّفر إلى الخارج للعلاج، عمّ السّخط في الأراضي الفلسطينيّة، توافد إلى المستشفى المئات من الأسرى المحرّرين الذين تعرّفوا في غالبيّتهم على فارس في داخل السّجون، منعهم الطّبيب من الوصول إلى فارس في غرفة العناية المكثّفة حفاظا على صحّته، ضاقت بهم الأرض على سعتها، تحلّقوا حول أبي فارس الذي جلس على الرّصيف في ساحة المستشفى، منتظرا فرجا قد يبدو بعيدا، فقال لهم:

شكرا لكم يا أبنائي، وأسأل الله لكم السّلامة، فارس في وضع حرج، والأطبّاء لا يسمحون لأحد بزيارته، حتّى أنا لم يسمحوا لي إلا بإلقاء نظرة سريعة عليه من باب الغرفة.

حمل أحد الشّباب أبا فارس على رقبته، واتّجهوا إلى دوّار المنارة في رام الله، يهتفون بالتّحرير، ويندّدون بجرائم الاحتلال. التفّ حولهم جمهور واسع. تناسى أبو فارس أحزانه ومخاوفه على ابنه، ورأى غيمة بيضاء تحوم فوقه وفوق المتظاهرين تظلّلهم من حرارة شمس يوم قائظ.

أرسلت منظّمة أطبّاء بلا حدود مذكّرة احتجاج للحكومة الإسرائيليّة؛ لمنعها فارس من السّفر للعلاج.

صباح يوم قائظ قرّر الأطبّاء تحرير فارس من المستشفى، وقال الطّبيب المشرف على العلاج:

بعد العلاج الكيماويّ والأشعّة لم يعد له علاج عندنا، فأن يبقى في بيته بين أسرته أفضل من بقائه هنا، والأعمار بيد الله.

حوقلت عائشة وحمدت الله على هذا البلاء، وهذا هو سلاحها الوحيد الذي تعزّي نفسها به، إضافة إلى دموعها التي تحاول أن تغسل همومها وآلامها بها. حاول أصدقاء فارس الذين يزورونه الضّغط على المستشفى؛ ليبقيه تحت عيون الأطبّاء بدلا من إعادته إلى البيت، لكنّهم اقتنعوا بنصيحة الطّبيب الذي قال بلهجة حزينة:

دعوه يموت في بيته بهدوء وسط أسرته وأحبابه.

لم يعد فارس الذي يعيش تحت تأثير الأدوية المسكّنة للألم يقوى إلا على ابتسامة يحاول رسمها على شفتيه أمام من يزورونه، أمّا الجسد فقد خارت قواه بعد أن ذاب ببطء تحت تأثير هذا المرض الخبيث، الذي يأكله ببطء.

في بيته عاش فارس يومين، وودّع الحياة في اليوم الثّالث؛ فأبكى بواكيا.

جرت له جنازة مهيبة، اعتبره المشيّعون شهيدا وهم يندّدون بجرائم الاحتلال.

اندلعت مظاهرات في مختلف المدن والبلدات والمخيّمات الفلسطينيّة، تنديدا بمنع فارس من السّفر للعلاج. ازدادت المظاهرات عنفوانا بعد أن اقتحم جنود الاحتلال بيت العزاء، واعتدوا بالغاز المسيل للدّموع وبالرّصاص المطّاطيّ على المتواجدين فيه، واعتقلوا عددا من الشّباب.

 ****************************

 تكرّر طلب صابرين للزّواج من قبل مسنّين في عمر يزيد على ضعف عمرها، وبناتهم وأبناؤهم أكبر عمرا منها، غالبيّتهم يريدونها زوجة ثانية بعد أن تبخّر جمال زوجاتهم، وبعضهم أرامل توفّيت زوجاتهم. لكنّها كانت تصدّهم بعد أن تمطرهم بشتائم لم تعتد عليها، ثمّ تمضي عددا من الأيّام تبكي حالها وحال طفلتها، وتلعن طليقها يونس واليوم الذي عرفته فيه ووقعت في فخّ أكاذيبه.

ذات يوم قرّرت أن تزور جمانة، كونها مطلّقة مثلها؛ لتستطلع أحوالها،

رحّبت بها جمانة، انطلق سعيد بن جمانة يلعب مع جورجيت بنت صابرين، انطلق الطّفلان يتراكضان فرحيْن في حديقة منزل أبي جمانة، لحقت بهما جمانة وصابرين، اقترحت صابرين أن تجلسا في الحديقة تحت شجرة؛ ليتسنّى لهما مراقبة الطّفلين، أثناء احتساء القهوة بدأت صابرين تحكي لجمانة أنّ أكثر من خمسة مسنّين جاؤوا يطلبونها، دون حساب لفارق العمر الكبير بينها وبين كلّ واحد منهم،  وكلّ منهم يرى بداخله أنّه كفؤ لها، بل الفضل له؛ لأنّه يرتضيها زوجة له مع أنّها مطلّقة!

ضحكت جمانة وتساءلت:

ما مشكلة المطلّقة؟ كيف ينظر مجتمعنا للرّجل المطلّق؟ وهل يتساءلون عن أسباب الطّلاق.

ردّت عليها صابرين بوجه حزين يرتسم البؤس عليه، وكأنّه وجه عجوز جار عليها الزّمن:

 لا مشكلة عند المطلّقة، لكنّ المشكلة في مجتمعنا ونظرته السّلبيّة للمرأة، وأضافت قائلة:

طليقي رجل عاهر، يتعامل مع المرأة كسلعة تباع وتشترى معتمدا على قدراته الماليّة.

سكتت هنيهة ثمّ استأذنت جمانة بسؤال:

أسامة طليقك يا جمانة رجل متديّن، فلماذا رفعت عليه دعوى خلع، وصمّمتِ على الطّلاق منه؟

حاولت جمانة أن تتجاهل السّؤال، لكنّها استدركت وقالت:

الزّواج “قسمة ونصيب”، “وربّنا يسهّل عليه ويوفّقه”، فهو والد طفلي.

– لكن ما السّبب الذي دفعك للخلاص منه؟

– قلت لك أنّ النّصيب بيني وبينه قد انقطع. والله -سبحانه وتعالى يقول:

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ“.

قالت صابرين وقد احمرّ وجهها حياء:

انا لا أتجسّس عليك ولا على أسامة، لكنّ أسامة طلب عددا من الفتيات وكلهنّ رفضنه، حتّى سوزان بنت خالته رائدة رفضته. وهنّ وذووهنّ  يتذرّعون قائلين:

لو كان فيه خير لما خلعته جمانة!

قالت جمانة بإصرار:

صحيح أنّني رفعت عليه دعوى خلع، لكنّه في النّهاية هو من طلّقني، وأتمنّى أن يجد نصيبه مع فتاة أفضل منّي.

عادت صابرين تسأل جمانة:

هل تقدّم أحد لطلب يدك بعد طلاقك من أسامة؟

ردّت جمانة بثقة متناهية:

أنا لا أفكّر بالزّواج في هذه المرحلة، فأنا مشغولة بدراستي وبتربية ابني.

شعرت صابرين أنّ جمانة تتهرّب من أسئلتها، فقالت:

“العزوبيّة ولا الزّيجه الرّديّه”.

في هذه الأثناء وصلت أمّ فارس، حيث جاءت لتشكر جمانة وشقيقتها تغريد على ما قدّمتاه من أجل ابنها فارس في محنته مع المرض الخبيث. فاستغلّت صابرين الفرصة واستأذنت بالانصراف، رغم صراخ ابنتها التي تريد مواصلة اللعب مع سعيد بن جمانة.

***********************

عاشت جمانة صراعا داخليّا مع نفسها حول قبول الزّواج من المهندس رمزي أو رفضه، وجدت نفسها بين خيارات صعبة، فإذا تزوّجت ثانية فما هو مصير طفلها وفلذة كبدها من زواجها الأوّل؟ وكيف ستوفّق بين عملها كمدرّسة وكطالبة دراسات عليا من جانب، وبين واجباتها كزوجة وربّة بيت من جانب آخر؟ لكنّ الذي أرّقها فعلا هو خوفها من تكرار مأساتها التي عاشتها في زواجها الأوّل، فهل الرّجال كلّهم يحملون النّظرة نفسها لزوجاتهم؟ وهل الحماوات كلّهنّ مثل أمّ أسامة؟

في لحظة حساب مع الذّات، وأثناء جلوسها تحت شجرة في حديقة البيت تنظر إلى المسجد الأقصى، وطفلها يلعب فرحا وينثر التّراب على ملابسه، فتمتلئ سعادة، انتبهت إلى الفوارق بين امرأة وأخرى، فوجدت أنّه من المستحيل وجود شخصين متشابهين، صحيح أنّه يوجد شبه في بعض التّصرّفات، لكن لا يوجد شخصان طبق الأصل عن بعضهما البعض، وحتّى الشّقيقات والأشقّاء بينهم فوارق في الشّكل وفي المضمون، تفكيرها هذا قادها إلى قناعة بأنّ هناك فوارق كبيرة بين طليقها أسامة وبين الرّجال الآخرين، ابتسمت دون أن تنتبه لنفسها عندما تذكّرت ما قالته لها صابرين بخصوص المسنّين الذين يتقدّمون لطلب يدها، ظنّا منهم أنّ شباب المرأة يتبخّر بطلاقها أو برُملتها أو إذا تأخّرت بالزّواج، وقالت في سرّها بأنّه لو تقدّم أحد المسنّين لطلب يدها فإنّها لن تتوانى في طرده مع شتائم لم تعتد التّلفّظ بها. وضحكت وهي تقول أنّ “هيك مضبطه بدها هيك ختم”.

كانت شقيقتها تغريد تراها من غرفة الصّالون استغربت ضحكتها وهي وحيدة، فخرجت هي الأخرى ضاحكة وسألتها:

ما لك تضحكين وحيدة كالمجانين؟

ردّت عليها جمانة متسائلة:

وهل في حياتنا ما يدعو للعقلانيّة؟

ردّت عليها تغريد بلهجة مستفزّة:

التّفكير بالزّواج دلالة على النّضوج الجسميّ والعقليّ.

تساءلت جمانة بدهشة:

وما علاقة التّفكير بالزّواج فيما نحن فيه؟

أرادت تغريد أن تجرّها إلى الحديث عن الزّواج فقالت:

لقد قرّرت أنا الأخرى أن أرفض الزّواج من الدّكتور فريد ما دمت أنت ترفضين الزّواج من شقيقه المهندس رمزي.

ردّت عليها جمانة غاضبة:

هل جننتِ يا تغريد؟

تغريد: بل أنا في قمّة الوعي والعقلانيّة. وأنا لست أفضل منك، فأنت شقيقتي الكبرى ومررت بتجربة زواج فاشلة، ولن أكرّر الخطأ نفسه.

انتفضت جمانة وقالت:

ليس كلّ الرّجال سواسية. ومن حقّك أن تكوني زوجة وأمّا كبقيّة النّساء.

تغريد: وهل هذا الحقّ الذي تتكلّمين عنه لك أيضا أم لي وحدي؟

تساءلت تغريد بخبث:

 إذا تزوّجت أنا وشقيقتاي الأخريان، وبعد عمر طويل توفّي والدانا، وسيكبر ابنك سعيد وسيعود لوالده، وسيتزوّج هو الآخر، فلمن سأتركك يا شقيقتي الحبيبة؟

عادت جمانة لهدوئها المعتاد وسألت:

ماذا تقصدين؟

تغريد: أقصد بأنّ عليك أن تعلمي بأنّ الزّواج حقّ لك ولغيرك، وها هو رمزي مهندس شابّ أعزب يتقدّم إليك، فلماذا ترفضينه مع أنّ كلّ من يعرفونه يمدحونه؟ أم أنّك تحلمين بالعودة إلى عصمة أسامة؟

رفعت جمانة يدها؛ لتلطم تغريد على وجهها وهي تقول:

قبّحك الله كم أنت استفزازيّة.

لكنّ تغريد قفزت برشاقة، والتقطت سعيد، ضمّته إلى صدرها تقبّله وتقول له مازحة:

احجز بيني وبين أمّك يا سعيد.

ابتسم لها سعيد وهو يشير إلى أمّه:

ماما.

قفزت جمانة والتقطته من حضن تغريد وهي تقول:

نعم يا روح ماما.

صمتت جمانة قليلا وسألت تغريد:

هل رأيت رمزي يا تغريد؟

سحبت تغريد شهيقا عميقا وقالت:

لم أره، لكنّ الدّكتورة أميرة امتدحته كثيرا، وقالت إنّه يشبه كثيرا شقيقه الدّكتور فريد في الشّكل وفي المضمون.

جمانة: ما رأيك أن تطلبي من الدّكتورة أميرة بصفتها صديقة مشتركة أن تجمعنا به وبشقيقه فريد على فنجان قهوة؟

أجابت تغريد: طبعا.

واتّصلت فورا على الطّبيبة أميرة وطلبت منها ترتيب لقاء لها ولجمانة مع فريد وشقيقه رمزي.

سألت الطّبيبة إذا كان طلب اللقاء بناء على اقتراح من تغريد أو من جمانة؟ ولمّا سمعت أنّ الإقتراح من جمانة ضحكت وقالت:

ممتاز هذه إشارة بأنّ جمانة قد تحرّرت من عزوفها عن الزّواج.

بعد دقائق قليلة عادت الطّبيبة أميرة باتّصال لتغريد وقالت:

موعد اللقاء غدا في السّاعة الثّالثة في فندق الإمبسادور.

طلبت جمانة من تغريد أن لا تخبر والديها بأنّ المهندس رمزي شقيق الدّكتور فريد ينوي طلب يدها، وعندما سألتها تغريد عن أسبابها في ذلك ردّت عليها:

“عند ما نشوف الصّبي بنصلّي على النّبي.”

تغريد ضاحكة: لكنّ النّاس مطالبون بالصّلاة على النّبيّ دائما وفي كلّ الأوقات. ولا تنسي أنّ أمّ فارس موجودة في البيت وتجلس مع والدينا، وربّما أخبرتهما بذلك.

جمانة: في الأحوال كلّها لن أعطي رأيي في هذا الموضوع قبل أن ألتقي رمزي غدا.

في محاولة من تغريد للضّغط على جمانة لتقبل بالزّواج من رمزي قالت:

وأنا لا رأي لي وأنت موجودة، وأفوّضك بالحديث عنّي وعنك، مع أنّني أطمح أن أكون أنا وأنت “سِلفتين” متحابّتين. وأضافت مازحة:

 ليكون أبنائي وأبناؤك أبناء عمّ وأبناء خالة.

ردّت عليها جمانة محتجّة:

أراك تستعجلين الزّواج فما رأيك أن أطلب يد فريد لك غدا؟

ردّت تغريد وهي تضحك في محاولة منها لإغاظة جمانة:

رأيك سديد وأنا موافقة.

في اليوم التّالي وقبل موعد اللقاء، اتّصلت تغريد من عملها في المستشفى بجمانة، طلبت منها أن تجهّز نفسها خلال نصف ساعة؛ لأنّها ستمرّ عليها لترافقها في الذّهاب إلى موعد اللقاء.

ومع أنّ جمانة مرهقة، فقد طار النّعاس من عينيها وهي تفكّر بمستقبل طفلها أكثر من تفكيرها بنفسها، فتضمّه إلى صدرها وكأنّها تخشى أن يختطفه أحد من حضنها. إلا أنّها تحاملت على نفسها، فاستحمّت وحمّمت طفلها، ارتدت جلبابها وحجابها على عجل، ألبست طفلها ملابس أنيقة، قامت بتمشيط شعره الأملس فاحم اللون، وهي تقبّله بين الفينة والأخرى، سألها طفلها ببراءة:

ماما…إلى أين ستأخذينني؟

 انهمرت دموعها وقالت:

سنذهب لأشتري لعبة لي!

ردّ عليها طفلها متسائلا بعفويّة:

تشترين لعبة لك أم لي؟

عادت تضمّه إلى صدرها وتضع رأسه على كتفيها؛ كي لا يرى دموعها، ولتبعده عن الأسئلة التي زادت من عذاباتها. إلا أنّ الطّفل عاد يسأل:

ماما…ماذا ستشترين لي؟

ردّت عليه: سأشتري لك عمًى يعمي أمّك!

لم يفهم سعيد ما تقوله أمّه، لكنّه فرح؛ لأنّه سيخرج في جولة مع والدته.

عندما وصلت تغريد البيت ضغطت على زامور السّيّارة؛ كي تخرج لها جمانة، أطلّت عليها جمانة وطلبت منها أن تنزل، وعادت إلى غرفتها قبل أن تسمع جوابا من تغريد، لحقت بها تغريد وقالت:

هيّا بنا، لم يعد لدينا وقت، بيننا وبين السّاعة الثّالثة نصف ساعة.

قالت جمانة: لا تستعجلي يا تغريد فمن غير اللائق أن نصل قبلهم.

تغريد: ومن غير اللائق أن لا نصل في الموعد المحدّد.

نظرت إليها جمانة نظرة عتاب وقالت:

“في العجلة النّدامة وفي التّأنّي السّلامة”.

تغريد: احترام المواعيد ليس استعجالا.

جمانة: الرّجال ينتظرون النّساء وليس العكس!

سمعت لطيفة جزءا من حوار ابنتيها فسألت:

عمّن تتحدّثن؟

ردّت جمانة ساخرة:

نريد أن نذهب لنطلب يد الدّكتور فريد لتغريد، لكنّها تستعجل الأمور.

قالت لها أمّها:

الله يرضى عليك يا جمانة، سهّلي الأمور لأختك.

التفت سعيد إلى جدّته وهو ممسك بجلباب والدته وسألها:

ستّي…هل ستذهبين معنا؟

ردّت عليه تغريد مازحة وهي تحاول أن تحتضنه، لكنّه بقي متمسّكا بوالدته:

ابحث عن زوج لأمّك، أمّا جدّتك فمتزوّجة.

نظرت إليها جمانة نظرة غاضبة وقالت:

إيّاك أن تتكلّمي مع سعيد بهكذا كلام! ….هيّا بنا.

 في بهو فندق الأمبسادور وجدت جمانة وتغريد فريدا ورمزي وأميرة في الانتظار، تصافحوا على استحياء مع ابتسامات مصطنعة، مدّ رمزي يده للطّفل مصافحا، إلا أنّ سعيدا احتمى بأمّه، ولم يستجب لها وهي تأمره قائلة:

سلّم على عمّك.

قامت الطّبيبة بتعريف رمزي على جمانة وتغريد، جلست تغريد وجمانة وطفلها في حضنها على جانب من الطّاولة، وقبالتهما جلس فريد وشقيقه رمزي، بينما جلست أميرة على رأس الطّاولة، وكأنّها حاجز بين الطّرفين، وقف النّادل بجانب الطّاولة يسجّل ما يريدون طلبه، أشار الدّكتور فريد إلى النّساء وهو يقول:

النّساء أوّلا.

ثلاثتهنّ طلبن قهوة عربيّة، وعندما سألت جمانة ابنها عمّا يريد أن يشربه تردّد الطفل ثمّ قال:

ماء.

 فقال رمزي:

ماء وبوظة للطّفل. ووجبة مشاوي للجميع.

بعد أن ابتعد النّادل قالت أميرة:

“هذا الجمل وهذا الجمّال”، تكلّموا واسألوا كما تشاؤون.

لم يفسح رمزي مجالا لأحد؛ كي يسبقه في الكلام فقال:

سعادتي كبيرة بهذا اللقاء، ويشرّفني أن توافق جمانة على الزّواج منّي، فقد سمعت الكثير عنها من الدّكتورة أميرة ومن أمّ فارس ومن والدتي ومن شقيقتيّ منى وأمل، ومن أخي الدّكتور فريد، وها أنا أرى الواقع أفضل بكثير من الوصف، وإذا ما وافقت جمانة على طلبي، فإنّني ألتزم برعاية وحضانة طفلها كأنّه ابني، وسأكون عونا لها في تكميل دراساتها العليا.

لم تجد جمانة ما تقوله بعد كلام رمزي، فقد انبهرت بحديثه ولباقته ووسامته، في حين هو مبهور بجمالها.

سألت الطّبيبة أميرة:

وماذا بالنّسبة لفريد وتغريد؟

ردّت جمانة متسائلة:

لاحظت أنّ شقيقتيكما غير محجّبات، فإذا وقع النّصيب بيننا، فهل ستجبراننا على خلع الحجاب؟

ردّ الدّكتور فريد:

لا دخل لنا بحجابيكما، ولكما الحرّية فيما ترتديانه. وأضيف أنّه في حال زواجنا ستصبح أسرتكما وأسرتنا أسرة واحدة.

 عادت جمانة تسأل:

في حال وقع النّصيب وتزوّجنا هل ستسمحان لنا بمواصلة عملنا.

رمزي: العمل الشّريف حقّ للمرأة وللرّجل، وها نحن نتقدم لكما وأنتما موظّفتان، ولو كان لدينا موقف من عمل المرأة لما تقدّمنا لكما.

فريد: أضيف لما قاله رمزي بأنّنا سنترك لكما الخيار في مجال العمل، فإن أردتما مواصلة العمل أو تركه فهذا شأن كلّ واحدة منكما.

جمانة: نحن سعيدتان بمعرفتكما وبلقائكما، ونشكر الدّكتورة أميرة على ما بذلته من جهد ووقت من أجلنا، وستجدان جواب طلبكما عند والدنا، فهو صاحب القرار الأوّل والأخير.

قالت الطّبيبة أميرة:

طبعا ستتمّ طلبتكما من والدكما، وهذا هو الدّين والعرف والعادات.

جمانة: على بركة الله.

فريد موجّها حديثه لجمانة وتغريد:

هل يمكنكما تحديد موعد للطّلبة؟

جمانة: سجّل رقم هاتف بيتنا وتكلّم مع الوالد مباشرة، وحدّد معه موعدا.

استفّز جواب جمانة الطّبيبةَ أميرة فقالت لجمانة:

دخيلك يا جمانة، “الزّائد في الشّيء كالنّاقص فيه”، تحدّثي أنت وتغريد مع الوالد كما تريانه مناسبا، واتّفقن معه على موعد، وأخبري واحدا منّا عن طريق الهاتف.

ابتسمت تغريد وهي تغمز الطّبيبة بطرف عينها، بينما نظرت جمانة إلى الطّبيبة نظرة احتجاج غاضبة وقالت:

حاضر يا ستنا الدّكتورة.

أرادت الطّبيبة ترطيب الأجواء مع جمانة، من خلال استفزاز مكامن أنوثتها فمازحتها قائلة وهي تضحك:

عندما تعلو التّكشيرة وجهك، تزدادين جمالا، فاغضبي مرّة أخرى كي يرى رمزي جمالك في حالاتك النّفسيّة المختلفة.

ضحكوا ممّا قالته أميرة، لكنّ جمانة ردّت عليها:

أميرة أرجوك…لا وقت للمزاح.

وهنا جاءت نادلتان بالغداء، واحدة تحمل صينيّة كبيرة، عليها صحون في كلّ واحد منها وجبة، وقامت الثّانية بوضع صحن أمام كلّ واحد منهم، سحب رمزي قطعة شواء بشوكة من سيخ شواء في صحنه ومدّها لسعيد، لكنّ سعيد أدار وجهه باتّجاه أمّه، فقالت له أمّه:

خذ من عمّك يا حبيبي.

ثمّ التقطت الشوكة من يد رمزي وقرّبتها من فم ابنها، فالتقطها باسما.

وهنا خفق قلب جمانة لرمزي حبّا وتقديرا، فقد اعتبرت ذلك بادرة طيّبة من رمزي تجاهها وتجاه طفلها، فخفق قلبها حبّا وتقديرا له للمرّة الأولى، وشعرت برعشة في جسدها وهي تلتقط الشّوكة من صحنها وتضعها على صحن رمزي بدلا من الشّوكة التي تناولتها منه.

انتبهت الطّبيبة أميرة لخلجات وجه جمانة وسعادتها لاهتمام رمزي بطفلها، فاستغلّت ذلك وسألت رمزي سؤالا تبغي من ورائه طمأنة جمانة على مستقبل ابنها:

يبدو أنّك تحبّ الأطفال يا رمزي.

فردّ عليها رمزي متسائلا:

ومن لا يا يحبّ الأطفال يا دكتورة؟

أميرة: هناك من لا يحبّون إلا أطفالهم.

رمزي: الأطفال ملائكة يمشون على الأرض، ورحم الله توفيق زيّاد وهو القائل:” وأعطي نصف عمري لمن يجعل طفلا باكيا يضحك”.

التفت إليه شقيقه فريد وسأله مازحا:

إذا أعطيت نصف عمرك لسعيد فلمن ستعطي النّصف الآخر؟

رمزي ضاحكا:

عقلي وقلبي يتّسعان لجمانة ولسعيد معا وهما غير قابلين للتّقسيم.

أميرة: نيّالك يا عمّ، أراك قد ابتدأت الغزل بهذه الطّريقة أمامنا، فكيف سيكون من ورائنا؟

بدأت بذرة الحبّ تنمو في قلب جمانة، لكنّها أحكمت سيطرتها على عواطفها، فهي تعرف حدودها جيّدا، ورمزي لا يزال غريبا عنها، فقرّرت الانسحاب من الجلسة، التفتت لتغريد فلم تجدها مكانها، انتبهت أنّها تقف مع الدّكتور فريد يتناجيان على شرفة بهو الفندق الخارجيّة، التي تطلّ على حديقة الفندق الخلفيّة، وعلى بعض معالم المدينة المقدّسة.

في طريق عودتهما إلى البيت سألت تغريدُ شقيقتها جمانة:

لماذا كلّ هذا الحذر وكلّ هذه المخاوف يا جمانة؟

ردّت جمانة بحزن وهي تتذكّر تجربة زواجها الأوّل الفاشل:

“الملدوغ يخاف من جرّة الحبل” وأنا لدغت يا تغريد، ولا أتمنّى لك ولا لغيرك أن تمرّ بتجربة كتجربتي التّعيسة.

تغريد: فريد ورمزي شابّان مختلفان، ووالدتهما امرأة فاضلة.

جمانة: نسأل الله أن يكونوا كذلك.

تغريد مازحة وضاحكة:

متى ستتأكّدين من ذلك؟

جمانة: الزّواج كما البطّيخة، لا يعلم المرء جودتها حتّى يفتحها ويتذوّقها، ومرحلة التّمهيد والخطبة كلّه تمثيل في تمثيل، فكلا العروسين يتظاهران بالكمال ويخفيان خصالهما السّلبيّة.

ابتسمت تغريد وسألت:

هل هذا الكلام ينطبق علينا أيضا؟

التفتت جمانة إلى تغريد أمسكت خدّها بإصبعيها السّبّابة والوسطى وضغطت قليلا وهي تقول:

نعم ينطبق علينا وعلى غيرنا، لكن اسكتي أفضل لك ولي.

************************************

  قالت تغريد: سنتكلّم مع الوالدة حول موضوعك مع رمزي؛ كي تقوم هي بإخبار الوالد لتحديد يوم لطلبتنا أنا وأنت.

التفتت إليها جمانة وقالت:

أراك على عجلة من أمرك، وتبدين قلقا لا مبرّر له، لا تخافي، سأتكلّم أنا مع الوالد والوالدة وأمامك وأمام الجميع، ولا داعي للّف والدّوران مع الوالد، فأمنيته أن يرانا متزوّجتين.

تغريد: أنا لا أقوى على الحديث مع الوالد بأمور الزّواج.

استغربت جمانة ما قالت تغريد فسألتها:

لِمَ؟

 تساءلت تغريد على استحياء:

ماذا أقول له؟ هل سأقول له أنني أرغب بالزّواج من فريد؟

جمانة: اتركي الأمر لي.

بعد صلاة المغرب طلبت جمانة من تغريد أن تعدّ قهوة لهما ولوالديهما.

ردّت عليها تغريد مازحة ومتسائلة:

لِمَ لا تعدّينها أنت، فالوالد يحبّ أن يحتسي القهوة التي تغلينها أنت.

نظرت إليها جمانة نظرة فيها عتاب وقالت لها:

سعيد يغفو في حضني، وهو على وشك النّوم، سأعدّ القهوة بعد أن ينام وبعد أن أنقله إلى سريره.

وهنا قفزت تغريد مسرعة إلى المطبخ وغلت أربعة فناجين قهوة دون سكّر.

عندما ارتشف الأب الرّشفة الأولى من فنجان قهوته قالت جمانة:

للدّكتور فريد السّلمان الذي يريد خطبة تغريد شقيق مهندس اسمه رمزي، يريد خطبتي أنا أيضا، فما رأيك يا أبي؟

استند الأب في جلسته، وعلامات الفرح بادية على وجهه وقال:

لم أسمع جيّدا! هل الطلبة لتغريد أم لك ولها؟

جمانة: لي ولها.

حمدل الأب أكثر من مرّة، وقال:

هذا ما أتمنّاه يا جمانة، فسعادتي أن أرى بناتي متعلّمات متزوّجات وأمّهات.

وهل من سيتقدّم لك هو شقيق للدّكتور فريد؟

جمانة: نعم وهو مهندس اسمه رمزي. عندما زارتنا أمّ فريد وابنتاها ورأينني اقترحن على رمزي الزّواج منّي فوافق.

الأب: ما يهمّني هو موافقتك أنت قبل موافقة الطّرف الآخر.

جمانة: التقينا اليوم بترتيب من الدّكتورة أميرة، بوجودها ووجود الدّكتور فريد، وتحدّثنا في الموضوع، وقلت لهم:

الأمر متروك لأبي.

الأب: هذا أحسن خبر سمعته، طبعا أنا موافق إذا كنت أنت موافقة

سألت أمّ جمانة:

هل هو أعزب؟ وكم عمره؟

ردّت تغريد ضاحكة:

نعم إنّه أعزب وأصغر عمرا من شقيقه فريد، ويكبرني بثلاثة أعوام، وهو شابّ وسيم مثقّف مثل شقيقه فريد.

الأمّ مستغربة: هل عريس جمانة أصغر عمرا من فريد؟

ردّت جمانة وتغريد بصوت واحد:

نعم رمزي أصغر من فريد.

دهشت الأمّ وتساءلت:

يعني الأخ الصّغير سيتزوّج جمانة الأكبر عمرا من تغريد، والأخ الأكبر سيزوّج تغريد الأصغر عمرا من جمانة؟

ضحكت تغريد وسألت:

ما الغرابة في ذلك، فالقلوب وما تهوى؟ ولعلمكم رمزي إنسان رائع مثل شقيقه فريد، وقد أبدى استعداده لحضانة سعيد إذا وقع النّصيب وتزوّج جمانة.

الأب: هذا فضل من الله ونسأل الله التّوفيق.

جمانة: إنّهما يريدان تحديد موعد للطّلبة.

الأب موجّها حديثه لابنتيه:

 سنحدّد يوم الطّلبة حسب وقتكما ووقتهما.

جمانة موجّهة حديثا لأبيها:

 ما رأيك بيوم الجمعة بعد صلاة العصر؟

الأب: أنا موافق.

طلبت جمانة من تغريد أن تردّ الجواب للدّكتور فريد عن طريق الدّكتورة أميرة.

تغريد: لماذا لا أخبر فريد بالموعد مباشرة دون وساطة أميرة فهو يعمل معي في مستشفى المقاصد؟

التفتت إليها جمانة وقالت بلهجة صارمة:

” عزّْ نفسك تلقاها”، لا تستعجلي الأمور، ولا ترمي نفسك على فريد.

ضحك الأب وقال:

الله يرضى عليك يا جمانة.

فهمت تغريد أنّ الوالد موافق على كلام جمانة، لكنّها تساءلت مازحة:

هل رِضاك يا أبي على جمانة وحدها؟

ضحك الأب وقال:

بل عليكما. لكن أقترح أن تقتصر الطلبة على عدد محدود، وأن تبقى الأمور عائليّة، فبيتنا لا يتّسع لعدد كبير من النّاس.

قالت أمّ جمانة:

“مكان الضّيّق يتّسع لمية صديق”. وإن جاء معهم أناس آخرون سنضع كراسي للرّجال في الحديقة.

تغريد: إذا كانت المشكلة في المكان ففريد ورمزي قادران على استئجار قاعة.

جمانة: لا داعي لكلّ هذا الكلام، أنا مع رأي الوالد، وأضيف بأنّه لا داعي لحفل خطوبة، وسنكتفي بحفل الزّفاف في إحدى القاعات.

دغدغ كلام جمانة عواطف والدها فالتفت إليها وقال:

ما خاب ظنّي بك يوما يا جمانة.

قطعت جمانة الحديث عندما اتّصلت بالطّبيبة أميرة، وأخبرتها بأنّ الوالد في انتظار من يأتون للطّلبة بعد عصر يوم الجمعة القادم، ويحبّذ أن تبقى الطّلبة عائليّة، نظرا لضيق المكان، وطبعا أنت من العائلة يا دكتورة.

 أبدت أميرة فرحتها بالخبر وقالت:

على بركة الله.

       في غرفة النّوم انتبهت تغريد أنّ جمانة تحتضن طفلها على السّرير في حضنها، كأنّها تخاف أن يهرب منها، واستغربت دموع جمانة التي تنحدر بغزارة، حتّى تكاد تسدّ مجرى التّنفّس، فتبدو وكأنّها تختنق بدموعها. فسّرت تغريد دموع جمانة بأنّه تخشى أن تفترق عن ابنها إذا تزوّجت، فداهمها هي الأخرى حزن على شقيقتها، رغم أنّ خيال تغريد يستحضر الدّكتور فريد بحركاته وكلامه وابتسامته وكلّ شيء فيه، فتشعر أنّها تحاوره، ويتّسع خيالها فترى نفسها بين يديه على سرير أسطوريّ، تقبّله ويقبّلها، فتمصّ الشّهد من شفتيه، وهي تحيطه بذراعيها، بينما هو يجذبها بذراعيه إلى صدره، وتلتفّ السّاق بالسّاق ويحلّقان في جنّة نعيم يتمنّاها كل إنسان يعرف طعم الحياة، فترى نفسها وريثة شهرزاد، وتراه شهريار. دموع جمانة توقظ تغريد من أحلامها الجميلة، فجمانة تعيش صراعا داخليّا فأنوثتها تشتعل لهيبا منذ رأت رمزي، لكنّ قلبها يحترق خوفا من ابتعاد طفلها عنها. تجلس تغريد على سريرها تفكّر بجمانة وقلقها على طفلها، تحاول أن تبادرها بحديث يبعدها عمّا يشغلها، لكنّها تراجعت في اللحظة الأخيرة.

بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى قال أبو جمانة لإمام مسجد الحارة بعد أن انتحى به جانبا، حيث اعتادا أن يذهبا وأن يعودا لآداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى مشيا على الأقدام طلبا للثّواب:

بعد صلاة العصر سيأتي شقيقان خاطبين لابنتيّ جمانة وتغريد، وأريدك أن تكون معي.

فقال الإمام: حيّاك الله…هذا يشرّفني ويسعدني.   

 بعد صلاة العصر بنصف ساعة وصلت بيت أبي جمانة أربع سيّارات، تتقدّمهم الدكتورة أميرة وزوجها وطفلهما في سيّارة، تتبعهما سيّارة رمزي ووالدته، فسيّارة منى وزوجها وطفليها، فسيّارة أمل وزوجها ومعهما الدّكتور فريد. وقف أبو جمانة وإمام المسجد أمام البيت لاستقبال الجاهة، بينما وقفت لطيفة وبناتها عند مدخل الصّالون.

عندما صافحت منى شقيقة فريد ورمزي جمانة، مدّت يدها لتصافح طفلها سعيد الذي كان يقف بجانبها، وسلّمته كيس بلاستيك فيه ألعاب إلكترونيّة وهي تقول:

هذه هديّة عمّك رمزي لك.

استلم سعيد الكيس ضاحكا، في حين قالت جمانة باسمة:

شكرا لكم، لِمَ هذه الغلبة؟

جلس الضّيوف في الصّالون، مع الإمام وأبي جمانة وزوجته، ونظرا لعدم وجود متّسع جلست جمانة على كرسيّ صغير على يمين الباب من الخارج، وطفلها في حضنها، بينما جلست تغريد على يسار الباب.

أحضرت تغريد القهوة للكبار وعصير البرتقال للأطفال. وضع زوج الطّبيبة فنجان القهوة أمامه في حين بدأ الآخرون يرتشفون قهوتهم، فقال موجّها حديثه لأبي جمانة بعد أن بسمل وحمدل وصلّى على النّبيّ:

يقول تعالى:”وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.” ويقول صلى الله عليه وسلّم:” تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.”

وقد جئنا إلى بيتكم العامر؛ لنطلب -على سنّة الله ورسوله- يد ابنتكم تغريد للدّكتور فريد أحمد السّلمان، ويد ابنتكم جمانة لشقيقه المهندس رمزي، ونأمل أن يلقى طلبنا قبولكم.

ردّ أبو جمانة بلهجة رصينة:

أهلا وسهلا بكم، نتشرّف بكم وبمصاهرتكم، طلبكم مستجاب، ونسأل الله التوفيق.

وهنا قال إمام المسجد بعد أن بسمل وحمدل: مبارك لكم على نيّة الفاتحة.

خرج رمزي إلى سيّارته وأحضر علبة “شوكولاطة” فاخرة، وبدأ يوزّع على الحضور، لكنّ طفل جمانة أخذ العلبة من يد رمزي، وأخذ يوزّع الحلوى ببراءة طفوليّة وسط ضحكات الجميع. وعندما انتهى من التّوزيع وضع العلبة على طاولة صغيرة وسط الصّالون بعد أن أخذ قطعة شوكلاطة واحدة منها، رافضا أخْذَ المزيد رغم إلحاحهم عليه.

بعد ذلك قال الإمام:

 من السّنّة أن تتّفقوا على المهر الآن.

فقالت أمّ فريد: “اللي يسمّي الولد أبوه”. وتسمية المهر عند العمّ عيسى والد جمانة وتغريد.

فقال أبو جمانة: مهر كلّ واحدة من ابنتيّ هو الصّلاة على النّبيّ. وخاتم الخطوبة!

فسأله عبد الله زوج الطّبيبة أميرة بعد أن صلّوا على النّبيّ بصوت مسموع:

وماذا أيضا.

فردّ أبو جمانة: لا طلبات أخرى لنا، فالمهمّ عندنا هو السّتر.

وهنا وقف رمزي وشكر العمّ أبا جمانة على حسن استقبالهم وعلى كرمهم في الموافقة على طلبهم وأضاف:

أمّا أنا وشقيقي الدّكتور فريد، فإنّنا سنكتب طواعية في عقد الزّواج، مهرا معجّلا لكلّ واحدة من عروسينا مصاغا ذهبيّا لا يقلّ ثمنه عن عشرة آلاف دينار أردنيّ، ومثله مهرا مؤجّلا، وأشترط على نفسي حضانة طفل جمانة وأن أرعاه وكأنّه ابني وزيادة.

تفاجأ الجميع بمن فيهم والدته وشقيقتاه بما قال، لكنّ أبا جمانه قال:

لا داعي لذلك يا ولدي.

فقال رمزي: ونحن نصرّ على ما قلته، فجمانة عندي وتغريد عند أخي فريد أغلى من المال ومن الذّهب.

وهنا وقف الإمام وقال:

 بارك الله بكما، والتفت إلى أبي جمانة وقال:

ما اشترطاه على نفسيهما بادرة خير منهما، وهو حقّ شرعيّ لهما. فسكتوا جميعهم.

عاد الإمام يقول:

 والآن تكلّموا عن تحديد موعد للخطوبة وللزّواج.

فقال الدّكتور فريد: بداية دعونا نشتري المصاغ والكسوة، وسنحدّد يوما لحفل الخطبة وحفل الزّواج بعد ذلك.

فقال أبو جمانة: لا داعي لإقامة حفل للخطبة. أمّا شراء المصاغ فنتركه   للعرسان ليقرّروه حسب وقتهم.

وهنا قالت منى شقيقة فريد ورمزي:

حفل الخطوبة مطلوب للإشهار.

ردّ عليها أبو جمانة كلامك صحيح، والإشهار يكون بالأغاني والزّغاريد، لكنّنا لا نفرض عليكم شيئا.

وهنا انطلقت الزّغاريد من أمّ جمانة ومن أمّ فريد. فقال الإمام:

ما رأيكم أن ننقل جلستنا نحن الرّجال إلى الحديقة؛ لنفسح المجال للنّساء كي يغنّين على راحتهنّ.

فاستجابوا لما قاله دون نقاش، وخرجوا للجلوس في الحديقة.

بعد دقائق من الغناء والرّقص خرجت الطّبيبة أميرة وأشارت لفريد، طالبة منه ومن رمزي أن يدخلا إلى الصّالون؛ ليجلس كلّ منهما بجانب عروسه.

عندما سمعت أمّ أسامة الأغاني والزّغاريد قالت لزوجها:

يبدو أنّ هناك من جاء لبيت أبي جمانة طالبا يد ابنته تغريد!

ولتتأكّد من صحّة ظنّها أرسلت طفلة من بنات الجيران؛ كي تستطلع الأمر.

 عندما عادت الطّفلة بالخبر اليقين، وأخبرتها بأنّ الخطبة لجمانة ولتغريد، بهتت من المفاجأة، لم تصدّق أنّ هناك من جاء خاطبا جمانة المطلّقة! قالت لزوجها ولابنها أسامة، إن صحّ خبر خطبة جمانة فيجب أن يتزوّج أسامة قبلها.

غادر أسامة الجلسة و”كأنّ على رأسه الطير.” ذهب إلى شقّته، داهمته نوبة حزن وندم، فانهمرت دموعه مدرارة.

التفت أبو أسامة إلى زوجته وهو يطقطق بخرزات مسبحته وقال بعد تنهيدة عميقة:

جمانة ليست ضرّة لأسامة. ونسأل الله لها السّتر، وأسامة سيلقى نصيبه.

ردّت عليه زوجته غاضبة:

الله لا يستر عليها ولا على من خلّفوها.

أبو أسامة بلهجة هادئة:

اتّقي الله يا امرأة، و”من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت النّاس بالحجارة.”

استغفرت أمّ أسامة ربّها وعادت تقول:

ومع ذلك يجب أن يتزوّج أسامة قبلها.

 فرحة أبي جمانة وزوجته كبيرة جدّا بطلبة ابنتيهما، عندما استلقيا على سريرهما سألت الزّوجة:

ما رأيك يا عيسى بفريد ورمزي؟

 –  “المكتوب يُقرأ من عنوانه” يا لطيفة سعادتي كبيرة جدّا، وفرحتي بجمانة تعجز الكلمات عن وصفها، فالحمد والشّكر لله.

أمّ جمانة: واضح أنّهما من أصول طيّبة.

أبو جمانة: هذا صحيح، وقد ظهر طيب معدنهم أكثر من مرّة، خصوصا في تعاملهم مع سعيد بن جمانة، وأنا مطمئن جدّا على طفل جمانة.

    خلال أسبوع تمّ تجهيز كلّ شيء لحفل الزّفاف، وممّا لفت الإنتباه أنّ قيمة  مصاغ العروسين أكثر بكثير ممّا اشترطه رمزي على نفسه وعلى شقيقه، رغم معارضة جمانة وتغريد، فقد قالتها جمانة بالفم الملآن:

لِمَ كلّ هذا التّبذير؟

ردّ عليها رمزي ضاحكا:

إن الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده”.”حديث نبويّ.

فردّت عليه جمانة باسمة:

” يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”. صدق الله العظيم.

قال رمزي: لا إسراف ولا تبذير، فأنت تستحقّين كلّ جميل يا حبيبتي، والآن سنشتري لسعيد ما يفرحه.

جمانة: سنشتري له دمية يلهو بها.

قال رمزي: لقد جهّزت في بيتنا غرفة نوم لسعيد، واشتريت له عددا من الألعاب التي تناسب عمره، فسعيد أمانة في رقبتي ورقبتك يا جمانة.

وقع كلام رمزي هذا على قلب جمانة، كما يتساقط الغيث على أرض جدباء، فيبعث فيها الحياة، اشتعل قلبها حبّا، ولولا الحياء ووجودهما في سوق العطّارين في القدس القديمة، الذي يكتظّ عادة بالمتسوّقين والسّيّاح والمارّين، لضمّته إلى صدرها وأشبعته تقبيلا. لكنّها قهرت شبقها واكتفت بقولها:

شكرا لك يا مهجة القلب.

عرض رمزي على جمانة أن يتناولا طعام الغداء على شاطئ مدينة يافا، فوافقت دون تردّد، بينما ذهب الدّكتور فريد وتغريد إلى أريحا. عند قرى اللطرون المهدومة” عمواس، يالو وبيت نوبا” المهجّر أهلها، والتي أصبحت متنزّها عاما يحمل اسم “متنزّه كندا” تخليدا لصداقة كندا وإسرائيل، سأل رمزي وهو يقود سيّارته ببطء، ويتحدّث بأسًى عن هذه القرى التي هدمت في حرب حزيران 1967:

لِمَ نسينا سعيدا ولم نحضره معنا؟

ردّت جمانة وقلبها يتراقص حبّا وامتنانا:

لا تخف على سعيد فهو في رعاية الوالدة.

واصلا طريقهما إلى يافا مرورا بمدينتيّ الرّملة واللدّ. عندما وصلا يافا اختارا مطعما عربيّا على التّلّة التي تعلو البحر، جلسا على طاولة في زاوية المطعم الشّماليّة، حيث تطلّ على البحر الذي تداعب أمواجه رمال الشّاطئ، تأتي مرغية مزبدة مسرعة، ثمّ تتكسّر على الشّاطئ، وتعاود لعبتها من جديد.

جلست جمانة هادئة صامتة وكأنّ على رأسها الطّير، وضعت كفّ يدها اليمنى تحت فكّها السّفليّ، بدت وكأنّها في حلم.

انتبه لها رمزي وسألها عندما رأى دموعها تنهمر:

لِمَ تبكين يا جمانة؟ فلا داعي للقلق على سعيد وهو في حضن جدّته.

ردّت عليه باكية:

لست خائفة على سعيد، وإنّما أبكي فردوسنا المفقود، هل تعلم يا رمزي أنّ أبي ورث بيتا عن جدّي في هذه المدينة، وشُرّدوا منه ومن أرضنا مع من شرّدوا من أهل المدينة في نكبة العام 1948م. وأنّ غالبيّة أبناء عائلتنا وأقاربنا وأهل مدينتنا قد غادروا بيوتهم على السّفن إلى لبنان، وجزء منهم هرب إلى الجنوب، والبعض وأهلي منهم هربوا شرقا؟

قال رمزي مواسيا:

نصف شعبنا مشرّد يا جمانة، ولا بدّ أن يعود الحقّ إلى أهله، ولو علمت بأنّ قدومنا إلى يافا سيثير أحزانك من جديد لذهبنا إلى مكان آخر.

مسحت جمانة دموعها واعتذرت لرمزي على عاطفتها التي لم تستطع كبتها تجاه يافا.

تغزّل بها رمزي في محاولة منه لصرفها عن الموضوع قال لها:

هل تعلمين أنّك تزدادين جمالا وأنت تبكين؟

سألت جمانة بدلال أنثويّ:

 هل تحبّ أن تراني باكية؛ لترى جمالي؟

رمزي: معاذ الله! لكن من تبدو جميلة وهي تبكي، فهذا يعني أنّها حوريّة من حوريّات الجنّة، تبقى جميلة في الحالات كلّها.

عندما أحضر النّادل وجبة السّمك البحريّ الشّهيّة، اقتطع رمزي قطعة على رأس شوكته ووضعها في فم جمانة، التي بادلته الشّيء نفسه، فظهرا  كطائري الحبّ.

انتبهت جمانة أنّ رمزي لم يحاول لمسها، فأكبرت فيه ذلك، وهي تحاول شطب ما علق بذاكرتها من تصرّفات أسامة في يوم عقد زواجه منها.

   عادت جمانة إلى البيت جذلى، تشعر بالرّضا عن النّفس، وتحمد الله الذي سخّر لها رمزي؛ ليكون شريك حياتها. وعندما عادت تغريد بصحبة الدّكتور فريد من أريحا، نزل معها؛ ليحتسي فنجان قهوة بناء على إلحاحها، كانت تنضح سعادة، بسمتها لا تفارق وجهها، عندما ذهبت إلى المطبخ لإعداد القهوة لحقت بها جمانة وقالت:

” إذا بليتم فاستتروا”.

تساءلت تغريد: ماذا تقصدين؟

– قفي أمام المرآة وانظري شفتيك؟

ركضت تغريد ووقفت أمام المرآة، ابتسمت عندما رأت طرف شفتها السّفلى متورّما من كثرة التّقبيل، مسحت أحمر الشّفاه الذي انزلق قليل منه خارج مكانه الصّحيح، وأعادت ترتيب شفتيها من جديد.

قالت لها جمانة تنصحها:

” في العجلة النّدامة وفي التّأني السّلامة”.

فهمت تغريد ما رمت إليه جمانة، فحملت صينيّة القهوة وأسرعت إلى صالون البيت حيث يجلس خطيبها.

   اتّفقوا على تحديد موعد الزّفاف بعد أسبوع، وعندما سأل الدّكتور فريد جمانة وتغريد عن قاعة الأفراح التي ترغبان أن يقام حفل الزّفاف فيها، ردّت تغريد وجمانة بصوت واحد:

وما يُدرينا بقاعات الأفراح؟

ضحك فريد وهو يقول:

سأختار لكما قاعة “كوكب الشّرق” في العيزريّة، فهي القاعة الأحدث والأكثر تجهيزا، ويحيط بها موقف سيّارات يتّسع لسيّارات المدعوّين.

      ما أن سمعت أمّ أسامة بخطوبة جمانة وتغريد حتّى جنّ جنونها، خصوصا أنّها لم تترك فتاة في سنّ الزّواج تعرفها إلا وطلبتها له، لكنّها كانت تجابه بالرّفض دائما، حتّى سوزان ابنة شقيقتها رائدة لم تقبل بأسامة، وعندما استنجدت بشقيقتها كي تقنع ابنتها للقبول بأسامة أجابتها:

“كل شي بخناق إلا الزّواج باتّفاق”.

عقدت جلسة أسريّة بشكل عفويّ بحضور زوجها وابنيها أسامة ورأفت وابنتها أسمهان، تساءلت عن أسباب عدم قبول الفتيات بالزّواج من أسامة، مع أنّه شابّ وسيم متعلّم خلوق ومهذّب، ولا ينقصه شيء.

ردّ عليها ابنها رأفت:

“نعيب زماننا والعيب فينا”.

نظرت إليه أسمهان وهي تغمزه بعينها دون أن تتكلّم. بينما تساءلت والدته بلهجة ساخرة:

ما العيب فينا يا فصيح؟

فأجابها: “رحم الله امرءا عرف قدر نفسه”. عيوبنا كثيرة، ومصيبتنا أنّنا كالنّعامة التي تضع رأسها في الرّمال ظنّا منها بأنّ أحدا لا يراها، فتقع في شباك الصّيّادين.

استشاطت أمّ أسامة غضبا وقالت:

يجب أن يتزوّج أسامة قبل بنت “أمّ رياله”، فلا يليق بنا أن تتزوّج طليقته  مرّة ثانية قبله!

قال أبو أسامة: “الزّواج قسمة ونصيب”، فلا تستعجلوا الأمور.

وهنا تدخّلت أسمهان وقالت:

بعد أن أغلقت الأبواب أمامنا، لم يعد أمامنا خيارات سوى صابرين بنت عمّنا المرحوم عزّالدّين، وأقترح أن نطلبها لأسامة.

أمّ أسامة: هل من المعقول أن يتزوّج أسامة امرأة مطلّقة؟

فردّ عليها أسامة:

وهل المطلّقة محرومة من العدالة؟

فسأل رأفت: هل أفهم من كلامك أنّك موافق على الزّواج من صابرين؟

وهنا انتفضت الأمّ وقالت:

يا سواد وجهك يا فاطمة! هل نسيتم تاريخ صابرين؟

شعر أبو أسامة بالإهانة من كلام زوجته، فصابرين بنت شقيقه فقال:

تاريخ صابرين أنظف من تاريخك، ويبدو أنّ “ذنب الكلب أعوج”، ولا يستقيم، وكلّما قلنا أنّك عدت إلى رشدك، إلّا أنّ “الطّبع غلب التّطبّع.”

تدخّل أسامة قبل أن تفتح والدته فاها وقال:

وحّدوا الله يا ناس.

نظر أبو أسامة إلى ابنه وقال له:

هيّا بنا؛ لنطلب لك صابرين.

حاولت أسمهان تصحيح المسار فقالت:

صابرين ليست غريبة عنّا فهي بنت عمّنا، دعونا نذهب جميعنا لطلبتها.

 قبل أن يدخلوا بيت الحاجّ عزّالدّين، وعندما رأتهم صابرين عرفت مبتغاهم، فكّرت سريعا، وتذكّرت أنّ أكثر من خمسة مسنّين قد طلبوها، ظنّا منهم أنّ الشّباب لا يتزوّجون المطلّقات، وتذكّرت أنّ أمّ أسامة قد سبق وتكلّمت معها بخصوص زواجها من أسامة، لكنّها لم تحسم الأمور، فقرّرت أن تقبل بالزّواج من أسامة من باب “بلاء أهون من بلاء وكسّاح أهون من عمى.” على شرط أن يوافق على حضانتها لطفلتها جورجيت.

عندما فتح أبو أسامة الموضوع قالت أمّ صابرين:

الولد ابنك والبنت بنتك، وما تقرّره مقبول علينا.

أكّد رائد شقيق صابرين ما قالته أمّه وأضاف متسائلا:

ما هو موقفكم من حضانة جورجيت بنت صابرين؟

فردّت أمّ أسامة: إذا ما استمرّ والدها بدفع نفقة لها فلا مانع لدينا.

تدخّل رأفت ممتعضا من كلام والدته وقال:

بنت صابرين بنتنا مثلما هي صابرين بنتنا، ولا داعي لهكذا كلام يا أمّي.

فمن حقّ صابرين أن تبقى ابنتها في حضانتها، تماما مثلما هو حقّ للطّفلة.

اتّفقوا على الزّواج خلال أقلّ من أسبوع، وصابرين تقول في داخلها:

“شابّ يبهدلني ولا ختيار مخرفن يدلّلني.”

في اليوم نفسه الذي أقيم فيه حفل زفاف جمانة وتغريد في قاعة “كوكب الشّرق” في العيزريّة، أقيم حفل زفاف أسامة وصابرين في قاعة الهلال الأحمر في حيّ الصّوّانة.

في حفل الزّفاف جلس سعيد بن جمانة قليلا في حضن جدّته لأمّه، وانطلق كالسّهم تجاه والدته التي تجلس بجانب عريسها على المنصّة، تخطّى خالته تغريد وعريسها الدّكتور فريد وقفز إلى حضن أمّه التي تلقفته باسمة، حاولت خالته الصّغرى سعاد أن تلهيه بعيدا عن والدته في لحظة العمر هذه، لكنّه رفض صارخا ممّا أجبرها على تركه، ابتسم له رمزيّ وهو يمدّ يده إليه، لكنّه رفض التّنازل عن حضن والدته.

بعد الحفل غادر الدّكتور فريد وعروسه تغريد في سيّارة فريد في طريقهما إلى فندق على قمّة جبل الكرمل في حيفا، لحق بهما رمزي وجمانة في سيّارة فريد، وصراخ طفل جمانة ماما…ماما يطاردهما. سعيد يَبكي ويُبكى بواكيا، ودموع جمانة تنزل يخالطها السّواد من أثر الكحل في عينيها.

*********************************

  عندما ردّت صبحة القنبع على الهاتف وقالت:

السّلام عليكم.

 سمعت صوتا غريبا يقول:

مرحبا مامي.

استغربت الصّوت الأنثويّ وسألت:

عفوا من المتكلّم.

 – حبيبتي  مامي أنا بنتك ميمونة؟

ذهلت الأمّ ممّا تسمع وقالت:

أنا ما خلّفت بنت بهذا الإسم.

وبصوت مخنّث غريب عجيب قال لها:

 – حبيبتي مامي…أنا مأمون كنت ولد، والآن أنا صرت بنت والحمد لله تزوّجني رجل فرنسي، وعايشه معه بسعادة.

جنّ جنون الوالدة وقالت:

قبرت امّك وابوك يا ربّ شو بتقول؟

– حبيبتي مامي سلامتك انت وبابي، ليش زعلانه انت؟ انا بنت من صغر سنّي، لكن انتو ما كنتوا عارفين، بتتذكّري عند ما كنت ألبس ملابسك الدّاخليّة وكنت تضربيني؟ أنا الحمد لله لقيت زلمه فرنسي حبني وستر عليّ.

استشاطت الأمّ غضبا وقالت:

الله لا يستر عليكْ ولا على اللي خلّفوكْ؟ ما بدّي أسمع صوتَكْ مرّه ثانيه.

-حبيبتي مامي…أنا وزوجي جايّين رحلة للقدس، أنا مشتاقه لكم كثير، وحابّه أنا وزوجي نشوفكم ونقعد معكم.

الأمّ حائرة بين ما تسمع وما تعرف:

لا تيجي ولا بدنا نشوفَك، خلّيكْ مقلوع مطرح ما انتَ موجود، لا تحمّلنا العار، ولو جيت هون بذبحوك.

– يذبحوني ليش؟ أنا شو عاملِه؟ كلّ النّسوان بتزوّجن، وفي باريس حبيبي مارسيل أخذني لطبيب وعمل لي عمليّة تحويل، وأنا الآن ستّ مثلي مثلك. والحمد لله تزوّجت، بدّي أعرفِك على زوجي مارسيل! والله اذا شفتيه رايحه تحبّيه، هو بحبني وانا بحبّه، باريس أحسن من البلاد يا مامي، هون أنا عايشه مع زوجي بحبّ ودلال، وبنزور أهله وهمّ بزورونا، في البلاد الشّباب كانوا يتسابقوا عليّ، خلّوني عاهرة، لكن ولا واحد منهم رضي يتزوّجني.

الأمّ: يا كشل راسك يا صبحه! اسمع يا ولد، لا انت ابني ولا أنا امّك، ابني مأمون بعتبره مات،” ومنّه العوض وعليه العوض”، ولا تحكي معنا ولا بدنا نشوفك، انقلع الله لا يردّك ولا يرُدّ اليوم اللي شفتك فيه. وأغلقت الهاتف.

 أصابتها نوبة بكاء وحزن شديدين. لم تعد لصبحة شهيّة للطّعام، لم تقل لأحد شيئا عن أسباب حزنها، بقيت تعاني لمدّة أسبوع، بعدها سمعت الأسرة خبرا بثّته وسائل الإعلام جاء فيه:

اعتقلت الشّرطة الإسرائيليّة خمسة شبّان عرب بعد أن اعتدوا بالضّرب المبرح على فتاة فرنسيّة من أصول عربيّة متحوّلة جنسيّا، أثناء زيارتها لمدينة القدس برفقة زوجها الفرنسيّ، في حين نقلت الفتاة المعتدى عليها إلى المستشفى للعلاج.

رافق الخبر على شاشة التّلفاز “فيديو” للحدث، عرف أبناء الأسرة من خلال البثّ التّلفزيونيّ ابنهم مأمون، تململ الأب في كرسيّه وقال والغضب يتطاير من عينيه وهو يلتفت إلى زوجته:

هذه خلفتك يا صبحة! وسقط ميّتا بجلطة قلبيّة وهو يقول يا فضيحتنا!

تناقل المراهقون على موقع التّواصل الاجتماعي  “فيديو” الإعتداء بالضّرب على “مأمون” بشكل واسع، قبل دفن جثمان الوالد اجتمعت الأسرة وقرّرت الإعلان في الصّحف عن براءتها من “مأمون”. وممّا جاء في الإعلان:

“تعلن عائلة القنبع في الوطن والمهجر براءتها قانونيّا وعشائريّا عن ابنها “مأمون”. و”لله ما أعطى ولله ما أخذ” ولا حول ولا قوّة إلا بالله.”

عندما شاهدت صابرين وزوجها أسامة وأسرته الخبر على شاشة التّلفاز قالت:

هذا مأمون القنبع كان يدرس معنا في الجامعة، والكلّ كانوا يعرفون أنّه مخنّث.

فقال زوجها أسامة:

لا حول ولا قوّة إلا بالله، اللواط جريمة من الكبائر، وهو أغلظ من الزّنا، فالله تعالى يقول عن قوم لوط:” لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ . فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ . فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ” الحجر/72- 76،”.

 وروى التّرمذي (1456) وأبو داود (4462) وابن ماجه (2561) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ” وصححه الألباني في صحيح التّرمذي.

قالت صابرين: يقول العلماء أنّ هؤلاء يولدون بتشوّه خَلْقيّ، كأن يولد أحدهم بأعضاء ذكريّة غير مكتملة، لكنّه في حقيقته أنثى، والعكس صحيح أيضا.

أسامة: هذا كلام هراء فالله سبحانه وتعالى يقول:” لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، وما المثليّة الجنسيّة إلا شذوذ وانحراف وإيغال في التّكالب على ملذّات الدّنيا، وهذا ما جلب الويلات والأمراض كالإيدز وغيره للبشريّة.

           تناقلت وسائل الإعلام المحليّة والعالميّة حادث الإعتداء على “ميمونة”، وطالب الاتّحاد الأوروبيّ السّلطة الفلسطينيّة بضرورة سنّ قوانين تحمي المثليّة الجنسيّة، لأنّها تدخل ضمن الحرّيّات الشّخصيّة!

قال أبو أسامة: الدّنيا آخر وقت، “والقيامة قرّبت.”

ضحك رأفت وقال:

الشّذوذ الجنسيّ موجود عبر التّاريخ، لكنّ الغريب أن تسنّ بعض الدّول تشريعات تعترف بالمثليّة، وتسمح بزواج المثليّين، وأن يرث أحدهم زوجه الآخر!

أمّ أسامة تسأل مستغربة:

هل يعني زواج المثليّين زواج رجل من رجل، وامرأة من امرأة؟

ردّ رأفت ضاحكا: نعم هو كذلك؟

الأمّ: أستغفر الله العظيم، هل انقطعت النّساء حتّى يتزوّج رجل رجلا مثله؟ وهل انقطع الرّجال حتّى تتزوّج امرأةٌ امرأةً مثلها؟

وهنا سأل رأفت شقيقة أسامة:

على ذكر المثليّة الجنسيّة ما حكم السّحاق في الإسلام؟

أسامة: جاء في الموسوعة الفقهيّة:

“اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا حَدَّ فِي السّحَاقِ، لأَنَّهُ لَيْسَ زِنًى. وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ؛ لأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ اهـ.

وقال ابن قدامة: (9/59)

إِنْ تَدَالَكَتْ امْرَأَتَانِ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ مَلْعُونَتَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:” إذَا أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ”. وَلا حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لأَنَّهُ لا يَتَضَمَّنُ إيلاجًا ” يعني الجماع”، فَأَشْبَهَ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ وَعَلَيْهِمَا التَّعْزِيرُ اهـ.

وقال في تحفة المحتاج: (9/105)

وَلا حَدَّ بِإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ ، بَلْ تُعَزَّرَانِ اهـ.”

عاد رأفت يسأل:

ما هو التّعزير؟

أسامة: التّعزير هو التّأديب؛ لأنّه يمنع ممّا لا يجوز فعله، وهو واجب في كلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة. ويتراوح بين التّوبيخ والتّشهير والجلد والنّفي، حسب الجنحة التي يرتكبها الشّخص وحسب مكانته.

 ***************

 أنهت عائشة عدّتها ” أربعة أشهر وعشرة أيّام” بعد وفاة زوجها في بيت الزّوجيّة في رام الله، بعدها قرّرت بالتّوافق مع حمويها أن تصطحب أطفالها الثّلاثة؛ ليعيشوا معها في بيت والديها في بيت حنينا، فالإقامة في القدس لها فوائد دينيّة ودنيويّة لا تتوفّر في غيرها من المناطق المحتلّة الأخرى، وبعد شهر قرّرت رغم عتمة نهارها، أن تذهب بصحبة والديها؛ لتبارك لجمانة وتغريد بزفافهما، فهي لم تنس وقفتهما معها أثناء مرض زوجها الرّاحل، ورقوده في مستشفى المطّلع. عندما سمعت بزفافهما من والديها فرحت كثيرا، وقالت لهما:

لولا أنّني في عدّة الرُّملة لما تردّدت بحضور حفل زفافهما معكما.

فقال لها أبوها:

لا ضير عليك يا بنيّتي فـ “للضّرورة أحكام”، وسأقوم أنا ووالدتك بالواجب.

هاتفت عائشة تغريد، وما أن ردّت تغريد على مكالمتها حتّى قالت عائشة وهي تضحك بملء فيها:

مليون مبروك حبيبتي تغريد لك ولجمانة، فرحتي بكما كبيرة جدّا، متى أستطيع زيارتكما للقيام بواجب المباركة؟

ردّت تغريد ضاحكة هي الأخرى:

تسلمي حبيبتي، ونحن نقدّر ظروفك بفقدان المرحوم زوجك، ونتمنّى أن تكوني وأطفالك بألف خير، سننتظرك غدا عند الظّهر في بيتنا الجديد في شعفاط قرب المسجد، وليتك تصطحبين أطفالك معك؛ ليلعبوا مع سعيد بن جمانة.

في جلسة عائليّة سردت تغريد وجمانة قصّة عائشة وزواجها الأوّل والثّاني، ومرض زوجها الثّاني ووفاته، أمام فريد ورمزي ووالدتهما، وكيف قامت الطّبيبة أميرة بإزالة بكارتها المطّاطيّة عند مخاضها بابنها البكر من زوجها الثّاني؛ لتكون شاهدة على عفّتها وبراءتها، ومدى الظّلم الذي لحق بها في زواجها الأوّل، وأدّى إلى طلاقها.

تداخل الحديث حول قصّة عائشة، وقصّة “مأمون القنبع” الذي تحوّل إلى أنثى، وما تعرّض له من اعتداء عليه بالضّرب، وبراءة عائلته منه، فقد صارت قصّته لقمة سائغة يتداولها الجميع، بعد أن كتبت الصّحف المحلّيّة الخبر دون ذكر الإسم صراحة، واستعاضت عنه ب “المدعو م. ق.”، لكنّ الخبر انتشر بطريقة لافتة.

عقّب الدّكتور فريد على الحادثة بقوله:

يعجّ مجتمعنا كغيره من المجتمعات الأخرى بمشاكل كثيرة، لكنّه يتستّر عليها لأكثر من سبب. وقصّة عائشة وقصّة مأمون – مع الفارق بينهما-

ليستا جديدتين، لكن حظّهما البائس شاء أن تنكشفا، واعتدل حظّ عائشة  عند ولادتها لابنها البكر من زوجها الثّاني، فانقلبت الأمور لصالحها بعد عذابات لا خيار لها فيها.

أمّا مأمون أو ميمونة، فمجتمعاتنا لا تقبل هكذا أمور.

في اليوم التّالي وصلت عائشة بصحبة أطفالها ووالديها بيت جمانة وتغريد، اللتين وقفتا بصحبة زوجيهما وسعيد بن جمانة في استقبالهم.

أثناء احتسائهم الشّاي قالت عائشة:

فرحتنا بزواجكم كبيرة، ونتمنى لكم السّعادة و “أن تعيشوا بثبات وتخلفوا الصّبيان والبنات.”

ردّت عليها جمانة:

شكرا لك، والعقبى لك.

قالت عائشة بابتسامة متصنّعة:

أنا أخذت نصيبي من الحياة، وسأنذر نفسي لتربية أبنائي.

قالت تغريد باسمة:

أنت لا تزالين في ربيع العمر، ومن حقّك أن تتزوّجي، ونتمنى أن يأتيك النّصيب مع رجل عاقل واعٍ، يستوعب أطفالك ويبقيهم بحضانتك ومعك.

وهنا قالت عائشة بلهجة ساخرة:

لو تعلمون من جاءني خاطبا قبل أسبوع؟

استغربوا كلامها وسألت جمانة وتغريد بصوت واحد:

من؟

ردّت عائشة:

جاءني زوجي الأوّل طليقي زياد الذي لم يتّق الله بي هو وأهله وفضحوني دون أن أقترف أيّ ذنب؟

وهنا تدخّل أبوها وقال:

جاء أبوه يعتذر ويقول بأنّهم ظلموا عائشة، والآن بعد أن ثبتت براءتها، وبعد وفاة زوجها الثّاني فإنّهم يتشرّفون بطلب يدها لزياد.

فسأل الدّكتور فريد:

وما أجبته على طلبه.

تنهّد أبو عائشة وقال:

قبل أن أفتح فمي للرّدّ عليه خرجت عائشة وقالت له متسائلة:

ماذا تقول؟ لو كان ابنك زياد حذاء لما انتعلته.

فضحكوا قهقهة، وقاموا لتناول وجبة الغداء.

انتهى الجزء الثّاني من رواية الخاصرة الرخوة

آب- أغسطس-2020

جميل السلحوت:

– جميل حسين ابراهيم السلحوت.

–         مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.

–         حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربيّة.

–         عمل مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرشيدية الثّانويّة في القدس من 1-9-1977 وحتّى 28-2-1990.

– اعتقل من 19-3-1969 وحتى 20-4-1970وخضع بعدها للأقامة الجبريّة لمدّة ستّة أشهر.

–         عمل محرّرا في الصّحافة من عام 1974-1998في صحف ومجلات الفجر،  الكاتب، الشّراع، العودة، ورئيس تحرير لصحيفة الصّدى الأسبوعيّة. ورئيس تحرير لمجلة”مع النّاس”

–         عضو مؤسّس لاتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، وعضو هيئته الإدارية المنتخب لأكثر من دورة.

–         عضو مؤسّس لاتّحاد الصّحفيين الفلسطينيين، وعضو هيئته الإداريّة المنتخب لأكثر من دورة.

– عمل مديرا للعلاقات العامّة في محافظة القدس في السّلطة الفلسطينية من شباط 1998 وحتى بداية حزيران 2009.

– عضو مجلس أمناء لأكثر من مؤسّسة ثقافيّة منها: المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ.

– فاز عام 2018 بجائزة القدس للثّقافة والإبداع.

 –  منحته وزارة الثّقافة الفلسطينيّة لقب”شخصيّة القدس الثّقافيّة للعام 2012″.

– أحد المؤسّسين الرّئيسيّين لندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة الدّوريّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس والمستمرّة منذ آذار العام 1991وحتّى الآن.

– جرى تكريمه من عشرات المؤسّسات منها: وزارة الثّقافة، محافظة القدس، جامعة القدس، بلديّة طولكرم ومكتبتها، المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ، ندوة اليوم السّابع، جمعيّة الصّداقة والأخوّة الفلسطينيّة الجزائريّة، نادي جبل المكبر، دار الجندي للنّشر والتّوزيع، مبادرة الشباب في جبل المكبر، ملتقى المثقفين المقدسي، جمعية يوم القدس-عمّان، جامعة عبد القادر الجزائريّ، في مدينة قسنطينة الجزائريّة، المجلس الملّي الأرثوذكسي في حيفا.

شارك في عدّة مؤتمرات ولقاءات منها:

– مؤتمر “مخاطر هجرة اليهود السّوفييت إلى فلسطين”- حزيران 1990 – عمّان.

– أسبوع فلسطين الثّقافي في احتفاليّة “الرياض عاصمة الثقافة العربية للعام 2009.”

– أسبوع الثّقافة الفلسطينيّ في احتفاليّة الجزائر “قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة للعام 2015”.

– ملتقى الرّواية العربيّة، رام الله-فلسطين، أيّار-مايو-2017؟

اصدارات جميل السلحوت

الأعمال الرّوائيّة

 – ظلام النّهار-رواية،  دار الجندي للطباعة والنشر- القدس –ايلول 2010.

– جنّة الجحيم-رواية – دار الجندي للطباعة والنشر- القدس-حزيران 2011.

-هوان النّعيم. رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-كانون ثاني-يناير-2012.

– برد الصّيف-رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس- آذار-مارس- 2013.

– العسف-رواية-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014

– أميرة- رواية- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2014.

– زمن وضحة- رواية- مكتبة كل شيء- حيفا 2015.

– رولا-رواية- دار الجندي للنّشر والتّوزيع- القدس 2016.

– عذارى في وجه العاصفة-رواية- مكتبة كل شيء-حيفا 2017

– نسيم الشّوق-رواية-مكتبة كل شيء، حيفا 2018.

– عند بوابّة السّماء- مكتبة كل شيء-حيفا 2019.

– الخاصرة الرّخوة-مكتبة كل شيء-حيفا 2020.

روايات اليافعين

–  عشّ الدّبابير-رواية للفتيات والفتيان-منشورات دار الهدى-كفر قرع، تمّوز-يوليو- ٢٠٠٧.

–  الحصاد-رواية لليافعين، منشورات الزيزفونة لثقافة الطفل، ٢٠١٤، ببيتونيا-فلسطين.

–  البلاد العجيبة- رواية لليافعين- مكتبة كل شيء- حيفا 2014.

– لنّوش”-رواية لليافعين. دار الجندي للنّشر والتوزيع،القدس،2016.

قصص للأطفال

– المخاض، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيّين- القدس،1989.

– الغول، قصّة للأطفال، منشورات ثقافة الطفل الفلسطيني-رام الله 2007.

– كلب البراري، مجموعة قصصيّة للأطفال، منشورات غدير،القدس2009.

– الأحفاد الطّيّبون، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لثقافة الطفل، بيتونيا-فلسطين 2016.

– باسل يتعلم الكتابة، قصّة للأطفال، منشورات الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، بيتونيا، فلسطين، 2017.

– ميرا تحبّ الطيور-منشورات دار الياحور-القدس 2019.

– النّمل والبقرة- منشورات دار إلياحور-القدس 2019.

أدب السّيرة:

أبحاث في التّراث.

– شيء من الصّراع الطبقي في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات صلاح الدّين – القدس 1978.

– صور من الأدب الشّعبي الفلسطينيّ – مشترك مع د. محمد شحادة .منشورات الرّواد- القدس 1982.

– مضامين اجتماعيّة في الحكاية الفلسطينيّة .منشورات دار الكاتب – القدس-1983.

– القضاء العشائري. منشورات دار الاسوار – عكا 1988.

بحث:

–  معاناة الأطفال المقدسيّيين تحت الاحتلال، مشترك مع ايمان مصاروة. منشورات مركز القدس للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، القدس  2002

أدب ساخر:

– حمار الشيخ.منشورات اتّحاد الشّباب الفلسطيني -رام الله2000.

– أنا وحماري .منشورات دار التّنوير للنّشر والتّرجمة والتّوزيع – القدس2003.

أدب الرّحلات

–  كنت هناك، من أدب الرّحلات، منشورات وزارة الثّقافة، رام الله-فلسطين، تشرين أوّل-اكتوبر-2012.

–  في بلاد العمّ سام، من أدب الرّحلات، منشورات مكتبة كل شيء-حيفا2016.

يوميّات

–  يوميّات الحزن الدّامي، يوميات،منشورات مكتبة كل شيء الحيفاويّة-حيفا-2016.

    أعدّ وحرّر الكتب التّسجيليّة لندوة اليوم السّابع في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي سابقا – في القدس وهي :

– يبوس. منشورات المسرح الوطني الفلشسطيني – القدس 1997.

– ايلياء. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 1998.

– قراءات لنماذج من أدب الأطفال. منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس كانون اول 2004.

– في أدب الأطفال .منشورات المسرح الوطني الفلسطيني – القدس تموز 2006.

– الحصاد الماتع لندوة اليوم السابع.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس كانون ثاني-يناير- 2012.

– أدب السجون.  دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-شباط-فبراير-2012.

–  نصف الحاضر وكلّ المستقبل.دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس-آذار-مارس-2012.

– أبو الفنون. دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس نيسان 2012.

– حارسة نارنا المقدسة- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس. أيار 2012

– بيارق الكلام لمدينة السلام- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس- ايار 2012.

-نور الغسق- دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2013.

– من نوافذ الابداع- دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس 2013.

– مدينة الوديان-دار الجندي للنشر والتوزيع-القدس 2014.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات