ندما نهدم تراثنا الحضاريّ بأيدينا

ن

جميل السلحوت

   الحديث عن التّراث هو حديث عن الميراث العظيم الذي تركه لنا الآباء والأجداد، فالحضارة التي نعيشها الآن هي ليست وليدة هذا العصر، بل هي تراكم لحضارات ورثناها عبر آلاف السّنين، وأنتجتها أجيال متعاقبة. ومعروف أنّ الحضارة تنتجُها الشّعوب والأمم الّتي عرفت الاستقرار، أمّا الرُّحّل والعابرون فلا حضارة لهم. لذا يجب الانتباه إلى مقولة :” من لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له.”

وهذه المقولة الحكيمة فيها دعوة للحفاظ على التّراث الشّعبيّ من خلال تدوين الجانب القوليّ منه كالحكاية والمثل والأغنية والعادات والتّقاليد في المناسبات المختلفة. وحفظ الجانب العمليّ الّذي يسهل نقله في المتاحف، كأدوات الزّراعة والأزياء الشّعبيّة والأواني والتّماثيل والمنحوتات وغيرها. وإبقاء الثّابت منه في مكانه كالأبنية التّاريخيّة ومعاصر الزّيتون وآبار المياه والكهوف وغيرها.

ونحن كعرب ورثة حضارات عريقة تعاقبت عبر الأجيال، ولنا مساهمات في بناء الحضارة الإنسانيّة. ففلسطين على سبيل المثال بالرّغم من كثرة الطامعين فيها تكاد تكون متحفا كبيرا. فهل نحافظ على هذا الإرث خصوصا وأنّه يتعرّض للطّمس والتّشويه بل للسّرقة؟

وللإجابة على هذا السّوال فإنّ الحفاظ على الموروث القولي وتدوينه لا يزال يعتمد على جهود فرديّة، ومن الّذين ساهموا في هذا المجال: الدّكتور عبداللطيف البرغوثي، د. شريف كناعنة، د. شكري عرّاف، د. نمر سرحان، علي الخليلي. د. عمر السّاريسي، د. رشدي الأشهب، نبيل علقم، د. يوسف حدّاد، نسب أديب حسين، توفيق زيّاد، د. ادريس جرادات، جميل السلحوت وآخرون لا تسعفني الذّاكرة بتسجيل أسمائهم، ولا توجد مراكز أبحاث ومؤسّسات تعنى بذلك إلّا في حالات نادرة كجمعيّة إنعاش الأسرة في مدينة البيرة التي تصدر مجلّة التّراث والمجتمع، وصدر عنها بعض الكتب والدّراسات في الموروث الشّعبيّ. ومن الذىن ساهموا في جمع الأزياء الشّعبية السّيدة مها السّقا في بيت لحم، وومنهم الدكتور إدريس جرادات الّذي يدير مركزا للتّراث الشّعبي في بلدة سعير.

وهناك بعض المتاحف مثل متحف دار الطفل العربي ومتحف روكفلر في القدس، والمتحف الإسلامي في رواق المسجد الأقصى. وهناك متحف متواضع في بلدة العيزرية، ومتحف آخر في حرم جامعة القدس يحمل اسم الشّهيد أبو جهاد. وبعض المتاحف المتواضعة في عدّة بلدات وعدّة مدن ومنها متحف الدّكتور أديب القاسم في بلدة الرّامة الجليليّة الذي أقامته وتشرف عليه كريمته الأديبة نسب، وهناك متحف آخر في النّاصرة.

ونعود مرّة أخرى إلي السّؤال: هل نحن نحافظ على موروثنا العمليّ؟

 والجواب محزن جدّا فعلى سبيل المثال: هناك آلاف الأبنية التّاريخيّة ومنها مساجد وزوايا وتكايا في مختلف المدن والقرى والتي بنيت قبل مئات السّنين جرى ولا يزال يجري هدمها وإقامة أبنية حديثة مكانها، ومنها أبنية جرى بناؤها اعتمادا على موادّ البناء المحلّيّة -مثل: أبنية ” الجملون وعقد الصّليب-، من حجارة وشيد دون استعمال الحديد والإسمنت، وهناك في القدس القديمة وغيرها من خلعوا بلاط بيوتهم الأثريّ وباعوه بثمن بخس للغرباء، واستبدلوه ببلاط حديث. ولنتذكّر أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة وهي أغنى دولة في العالم غالبيّة الأبنية فيها من الخشب لأنّ بلادهم غنيّة بالغابات. وللدّلالة على أهمّية الأبنية التّاريخيّة، فعندما زرت أخي محمد المغترب في بورتوريكو عام ٢٠٠١، وهي إحدى الولايات الأمريكيّة وتقع في البحر الكاريبي أخذني أحد أصدقائه العرب لزيارة سان خوان عاصمة الولاية، وهناك قادني إلى بناية كبيرة تحيط بها ساحة شبيهة بملاعب كرة القدم، والبناية مؤلّفة من طابقين، وهي شبيهة من خارجها بالسّجون التّي بناها الانتداب البريطاني في بلادنا. وبعد أن اشترينا تذاكر دخول ثمن الواحدة منها اثنا عشر دولارا، وكانت البناية وساحتها الخارجيّة تعجّ بمئات السّائحين، دخلنا الطّّابق الأوّل من البناية وكان فارغا تماما إلّا من بعض الصّور والرّسومات لأشخاص أصولهم إسبانيّة حكموا الولاية، وبعض المقاعد الخشبيّة القديمة لمن يريد الجلوس، ولم أشاهد ما يثير الإنتباه، فسألت مرافقي: لماذا أتيت بي إلى هذا المكان؟

فأجابني: هذا مكان يزوره آلاف البشر يوميّا.

رفضت مرافقته للطّابق الثّاني، وجلست على مقعد بجانب امرأة عجوز، ويبدو أنّها خلال حواري مع رفيقي قد فهمت- رغم أن حديثنا كان بالعربيّة- أنّني لم أعجب بالبناء، فقالت لي:

يبدو أنّ هذا البناء العظيم لم يعجبك! فهل تعلم أنّ عمره مئة عام، وقد كان مقرّا للحكم الإسبانيّ للجزيرة؟

فقلت لها أنا من بلاد في مدنها وقراها أبنية عمرها مئات بل آلاف السّنين.

فاندهشت المرأة ويبدو أنّها لم تصدّقني فسألتني:

من أين أنت؟

فأجبتها: من فلسطين.

فعادت تسأل: أين تقع فلسطين.

فأجبتها: هي البلاد المقدّسة فيها القدس وبيت لحم وغيرها.

غادنا المكان وأنا أتذكّر كيف تهدم الأبنية القديمة والّتي هي شاهد على حضارة آبائنا وأجدادنا العمرانيّة والهندسيّة في بلادنا.

وهناك آلاف الآبار والكهوف التّاريخيّة الّتي جرى هدمها أو تخريبها.

وكم من أدوات الزّراعة التّراثية بقي محفوظا في المتاحف أو في البيوت، ومن هذه الأدوات: المحراث البلدي، النّير، الأزراد الحديديّة، العبوة، الحواة، العقفة، لوح الدّراس وغيرها.

وهناك انسلاخ عن الأزياء الشّعبيّة خصوصا من الذّكور، أمّا النّساء فإنّ عشرات الآلاف منهنّ يرتدين الأزياء التّراثيّة المطرّزة، ويتباهين بها، أمّا الرّجال فإنّ كثيرين منهم يلفّون رقابهم بالكوفيّة لإثبات هويّتهم الوطنيّة أكثر من كونها “الكوفيّة” غطاء تراثيّ للرّأس.

والحديث يطول.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات