وفي محاولتنا المتواضعة لتشخيص الوضع التعليمي في بلادنا، وما يعانيه من مشاكل وعوائق لها تأثيراتها السلبية على حاضرنا ومستقبلنا، نجد أن لا مناص من التطرق الى إبداعات الطلبة الموهوبين التي يجري قبرها وهي في المهد لعدم وجود من يتبنّاها، مع التأكيد على أن الابداع لا يحظى بأيّة رعاية أو تشجيع، وأنّ معاناة المبدعين تفوق معاناة الآخرين، ونعني بالابداع هنا هي المواهب الأدبية من شعر وقصّة ورواية ومسرحية ونقد أدبي والفنون التشكيلية والنحت والتمثيل المسرحي والسينمائي والغناء وغيرها، ويحضرني هنا ما قاله أحد كبار الكتاب المصريين مازحا في حضرة ضيوفه الكتاب، عندما دخلت طفلته بنت الثلاث سنوات صالة الضيوف، وشرعت تلهو راقصة…فقال لها: ارقصي يا بنت الكلب ع شان تعيشي، فدَخْلُ راقصة عارية في ليلة واحدة يزيد عن ضعف دخل والدك طوال حياته!
وما يهمنا هو عدم وجود أيّ رعاية للمواهب الابداعية في مدارسنا، اللهمّ إلّا اذا كان أحد معلمي الطالب الموهوب ذا دراية بالموضوع، فيرعى طلابه الموهوبين تطوّعا منه، وعلى حساب وقته وجهده، وهذا ما يفعله أديبنا الرائع ابراهيم جوهر في أيّامنا هذه، حيث أنه يرعى طالباته وطلابه الموهوبين في فنّ الكتابة في مدرسة بيت صفافا الثانوية التي يعمل بها، فيوجههم ويصحح لهم، بل ويصطحبهم أحيانا الى ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني في القدس، ليقرأوا شيئا من ابداعاتهم أمام رواد الندوة، وليستمعوا الى توجيهاتهم أيضا، كما أن الأديب زياد خداش يرعى طلبته الموهوبين في المدرسة التي يعلم فيها، وربما هناك معلمون آخرون لم تصلني أخبار رعايتهم لطلابهم، لكنّها تبقى جهودا فردية لا علاقة للمنهاج وللمدرسة فيها. وأزعم أنّني كنت أرعى طلابي الموهوبين أثناء عملي كمدرس للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس ما بين 1977-1990. بل كنت أنشر نتاج بعضهم في الصحف والمجلات المحلية لتشجيعهم على مواصلة ابداعهم.
وللمقارنة غير المتكافئة بين اهمالنا للمواهب الصاعدة، والرعاية التامة بل والبحث عن المواهب في الدول المتقدّمة لرعايتها وتوجيهها سأذكر ما جرى مع علاء بن شقيقي داود المولود في جبل المكبر-القدس في 30-5-1995، والذي يعيش مع والديه في حيّ بريج فيو bridgeview في شيكاغو منذ العام 2000، وهو حيّ اسلامي 90% من سكانه عرب غالبيتهم فلسطينيون، والباقون من مسلمي دول جنوب شرق آسيا، وفيه جمعية باسم جمعية الأقصى الخيرية، بنت مسجدا ضخما في الحيّ وقاعة للمناسبات، ومدرسة اسلامية باسم مدرسة”جمعية الأقصى الخيرية الاسلامية” ودرس علاء في المدرسة الاسلامية التي تحرص على تربية طالباتها وطلابها على القيم والمبادئ الاسلامية، وتعلمهم اللغة العربية كلغة ثانوية، وتتقاضى رسوما عالية على الطلبة تصل الى 600 دولار شهريا عن كلّ طالب، وقد طبعت المدرسة ثلاثة كتب لعلاء بغلاف مقوّى وورق صقيل وطباعة أنيقة محلّاة بالرسومات، في السنوات الابتدائية الثلاثة الأولى، أي كتاب في كلّ عام، وكلّ كتاب عبارة عن قصّة كتبها الطفل علاء، طبعتها المدرسة دون علم والديه، في حين أن كتابنا وأدباءنا يعانون الأمرّين حتى يجدوا من يطبع لهم نتاجهم الأدبي.
أمّا محمد ابن شقيقتي فاطمة وهو طالب مبدع في المواد العلمية، فقد استدعت المدرسة والديه بعد أن أنهى الصف الابتدائي الثالث، وعرضت عليهما ارساله الى مدرسة متخصصة للطلاب النوابغ في الرياضيات في نفس المدينة شيكاغو، حيث ستحضر معلمة بسيارة خاصة تأخذه من البيت صباحا وتعيده بعد الدّوام، لكن والديه –لسوء حظّه- رفضا ذلك. وهو الآن يدرس العلوم في احدى الجامعات تمهيدا لدراسة الطب… وعند سؤالي عن المدارس المخصّصة للموهوبين، تبين لي وجود مدارس متخصّصة في مختلف المجالات من المواد التعليمية والعلوم الانسانية والآداب والفنون.
فكم من المواهب تضيع في مدارسنا؟ وكم من المواهب عندنا لا تتاح لها فرصة الظهور؟ خصوصا البنات اللواتي يزوجهنّ أولو أمورهن في سنّ مبكرة؟ مع التأكيد على أن الابداع عندنا يرتكز على الجهد الفردي، وهو متاح للذكور أضعاف ما هو متاح للإناث نظرا لمجتمعنا الذكوريّ الذي يعطي حرية الحركة للذكور أكثر من الإناث.
وعلينا أن نتذكّر بأنّ الأدباء والشعراء والباحثين والفنانين في الدول المتقدّمة قد يغتني أحدهم لطباعته كتابا واحد، بينما عندنا فإن الأديب أو الشاعر قد يطبع مؤلفاته على حساب رغيف الخبز المرّ الذي يأكله هو وأسرته، وقد يفني عمره مديونا، بل ان وضعه الاقتصادي قد ينعكس سلبا على أسرته.
وقد شاهدت مطاعم وفنادق كبرى في أمريكا تعطي الكاتب خصما 50% من فاتورة الحساب اذا ما كان يحمل بطاقة عضوية من اتحاد كتاب في بلده وبغض النظر عن جنسيته ودينه ولونه، ويتسابق زبائن الفندق أو المطعم لأخذ صور تذكارية معه إذا ما عرفوا ذلك.
وامعانا منّا في محاربة الابداع فانه ليس سرّا بأن نرى ونشاهد ونسمع على شاشات بعض الفضائيات العربية، ومن على منابر المساجد من يحارب الإبداع ويعتبره حراما، فالرسم حرام والنحت حرام والقصّ الذي يخالف الواقع حرام، والشّعر من وحي الشيطان، والتمثيل والغناء حرام، ومناصرة المبدعين وتشجيعهم حرام، ومرتكب الحرام إمّا فاسق أو كافر، وللتذكير فقط فإن شاعرنا العالمي العظيم الراحل محمود درويش، قد شُتم في حياته وبعد مماته من بعض التكفيريين دون أن يرفّ لهم جفن، ودون أن يجدوا من يحاسبهم على ذلك، وأن الروائي الراحل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب قد تعرّض هو الآخر في أواخر حياته للطعن من تكفيريين في محاولة منهم لقتله، بل إن هناك حكومات عربية واسلامية تفتح ملفات تحقيق للمبدعين، فمجرد حمل القلم أو اقتناء كتاب معين تهمة أمنية، قد تودي بصاحبها الى الهلاك أو السجن لسنوات طويلة، وقد تكون سببا في فصله من عمله، ما لم يكن مسبّحا بحمد السلطان.
20-9-2013