جميل السلحوت و ديمة جمعة السّمّان
الأرملة
رواية
مكتبة كل شيء-حيفا
2023
وردة
1
وقفت تحت رشّاش الماء تستحمّ والفرحة تغمرها، الماء ينساب من الصّنبور الذي يعلوها، يمرّ على رأسها وينحدر بفوضى عارمة على جسدها، داعبته وكأنّها في نزال معه، ترجع رأسها قليلا إلى الخلف، لتفسح المجال لصدرها كي يتلقّى ضربات الماء الخفيفة المنعشة، استذكرت أمطار الرّبيع التي تتساقط برشاقة وهدوء؛ لتنبت ما في باطن الأرض، فتكتسي الأرض بحلّة خضراء، لا تلبث أن تنطلق منها أزهار تتباهى بألوانها المختلفة، وبعبق الرّوائح العذبة التي تملأ الجوّ عذوبة، كانت تدندن بأغاني حبّ تراثيّة وأخرى حديثة تشاهدها وتسمعها على شاشة التّلفاز، خيال زوجها يقف أمامها باسما، هو المشهد نفسه الذي لا ولن يغيب عن ذاكرتها عندما دخل عليها باسما ليلة زفافهما وقريباته يحطن به يرقصن، يغنّين ويزغردن، بينما زميلاتها وبنات جيلها يسترقن نظرات إليها وإليه ويتهامسن، وكلّ واحدة منهنّ لها حساباتها الخاصّة، بينما قلبها هي يرقص طربا، نسيت نفسها تحت صنبور الماء وهي تتطهّر من دورتها الشّهريّة، راود خيالها أن تكون عروسا لزوجها هذه الليلة تماما مثلما كانت ليلة دخلتها التي لن تتكرّر مرّة ثانية، وهنا ضحكت من لواعج قلبها، وهي تفكّر بغباء من يقولون أنّ ليلة العمر لن تتكرّر، فهي أدرى بالحبّ الذي يجمعها مع زوجها الحبيب، فكلّ أيّامها أيّام زفاف، ولياليهما ليالي دخلة، صحيح أنّهما أنجبا طفلا وطفلة، أدخلا الفرح إلى قلبيهما، وزاداهما حبّا وسعادة، لكنّ هذا لا ينفي أنّهما لا يزالان عروسين، تمنّت لو أنّ زوجها الحبيب عودة الفالح في البيت؛ ليستحمّا معا، ولينعما بنعيم هذا اليوم الدّافئ، لكنّها ما لبثت أن طردت الفكرة من رأسها وهي تقول”العجلة من الشّيطان”. فقالت سأستحمّ، وسأرتدي أجمل الثيّاب، سأعمل تسريحة الشّعر التي يحبّها، سأغطّي رأسي كي أفاجئه عندما تحين ساعة اللقاء بتسريحة يوم الزّفاف ذاتها، سأرشّ على جسدي ما طاب من عطر العنبر، الذي يشدّه إليّ كما يجذب المغناطيس الحديد. وهنا ضحكت وهي ترى نفسها مغناطيسا، لكنّها لم تستسغ أن تصف زوجها الحبيب بالحديد، فوجدت مخرجا لنفسها وهي تتذكّر عضلاته المفتولة وهو يضمّها إلى صدره، وينهال على شفتيها بقبلات كما الشّهد، فيقول لها:
– لشفتيك نكهة الكرز النّاضج.
تبادله القبلة بأخرى أكثر حرارة منها وتقول:
– ولشفتيك طعم عسل الملكات.
تخيّلته وهو ينحدر من شفتيها إلى عنقها، وإذا بصراخ ينطلق من بيت حمويها المجاور، أغلقت صنبور الماء؛ لتسترق السّمع، ميّزت صوت حماتها وهي تصرخ بعالي الصّوت:
– يا حسرة قلبك يا أمّ عودة!
اهتزّ كيانها، ارتجفت، ارتدت ملابسها على عجل وهي تردّد:
– استر يا ربّ.
خرجت من بيتها حافية القدمين، يهرول الجيران نساء ورجال إلى بيت حمويها، سألت عمّا يجري وعن سبب هذا الصّراخ، لم تسمع جوابا، دخلت بيت حمويها وإذا حماتها قد شقّت ثوبها، وأنزلت غطاء شعرها، تشدّ شعرها بقوّة وكأنّها تخلعه، وتارة تلطم على خدّيها، سمعتهم يقولون بأسى:
– مات عودة بجلطة قلبيّة!
جمدت مكانها، ارتبط لسانها، لم تعد قادرة على قول شيء، ثوانٍ قليلة وسقطت مغشيّا عليها.
تصحو لاهثة والنّساء يحطن بها في محاولة منهنّ لإنعاشها، لكنّها لا تلبث أن تدخل في إغماءة أخرى.
عندما استدعوا الإسعاف، أعطاها الطّبيب حقنة في الوريد، طلب من الأخريات أن يبتعدن عنها؛ كي تستطيع التّنفّس، مدّدوها في زاوية الغرفة، إحدى الجارات وضعت رأسها في حضنها وهي تقول:
– أعانك الله على مصيبتك يا وردة! اللهمّ أبعد عنّا شرّ ساعة الغفلة.
غفت حوالي نصف ساعة بفعل الحقنة المهدّئة، استيقظت ناعسة غير قادرة على الكلام، نظرت إلى وجوه النّساء ولم تقل شيئا، كانت محطّ أنظار جميع الحاضرات، تماما مثلما كانت يوم زفافها، لكنّ النّواح هذه المرّة حلّ مكان الغناء، ولطم الخدود بدل الرّقص والتّصفيق، استجمعت قواها ولطمت خدودها، وامرأة تمسك بيديها كي لا تؤذي نفسها، خلعت خصلا من شعرها، جرفت خدودها بأظافرها، وهي لا تستوعب ما يجري.
هرع الرّجال إلى مستشفى المقاصد الخيريّة حيث وضع جثمان عودة في ثلّاجة الموتى بعد أن أكّد الأطبّاء وفاته.
لم يفهم طفلا عودة ما حدث، فسامي ابن ثلاث سنوات، وشقيقته فاطمة رضيعة في شهرها التّاسع، عندما اقترب سامي من والدته قالت لها الجارة:
– اهدئي يا وردة؛ كي لا تخيفي ابنك.
وهنا قالت حزينة وهي تلتفت لطفلها:
– يا حسرة قلبي! من أين سيأتينا الهدوء بعد عودة؟
مدّت يدها اليمنى إلى طفلها فألقى رأسه على صدرها وصرخ.
مسّدت بيدها على رأسه وقالت:
– لا تخف يا حبيبي.
في صدر الغرفة تسند أمّ عودة ظهرها على حائط الغرفة، فقد سقطت عن الكرسيّ، بعد أن حقنها الطّبيب المسعف بحقنة مهدّئة، نامت وعلا شخيرها، قالت جارتها أمّ محمد:
– نسأل الله أن يهوّن عليها معاناتها، فهي امرأة تقيّة، ولا يليق بها الحزن خصوصا في شيخوختها.
عندما هدأ شخير أمّ عودة، اقتربت منها أميمة شقيقة وردة التي هرعت باكية من بيتها في شعفاط فور سماعها بالخبر المؤلم، أمسكت يدها تجسّ نبضها، ووضعت أذنها قريبا من أنفها ومن فمها المفتوح؛ لتتأكّد أنّها على قيد الحياة وتتنفّس، وقالت:
– خفتُ أن تكون قد فارقت الحياة بعد أن هدأ شخيرها.
وردة لا تزال تحت تأثير الأدوية المهدّئة، بدت وكأنّها محنّطة لا تقوى على الحركة، وجهها أصفر، عيناها ناعستان، تضع يدها على ابنها سامي الذي غفا مرعوبا على صدرها، سألت عن رضيعتها فاطمة، انتبهت لسؤالها شقيقتها أميمة، فشرعت تبحث عنها، وأخيرا وجدتها في بيت والديها، حملتها بحضنها، وانزوت في زاوية الغرفة ترضعها بعد أن غطّت صدرها بمنديل.
********
أخلى الرّجال المنزل، قرّروا أن يجلسوا بعد صلاة العصر في ساحة مسجد المئذنة الحمراء القريب من البيت في حارة السّعديّة في القدس القديمة، فهكذا اعتادوا، فمن لا يتّسع بيته لهكذا مناسبات فإنّه يلجأ إلى ساحة المسجد.
بعد خروج الرّجال من البيت، وجدت النّساء متّسعا لهنّ في بيت الفقيد وبيت والده، في ساحة الحوش التي تشكّل مركز توزيع للبيوت التي يحتويها الحوش، وهي المكان الذي يسهر الرّجال فيه عند المساء، بينما تتسامر فيه النّساء نهارا بعد أن تنهي كلّ واحدة منهنّ أعمالها المنزليّة، يحتسين القهوة وبعضهنّ يدخّنّ الأرجيلة.
جلس أبو عودة أمام المسجد ساندا ظهره إلى الحائط دون كلام، تعيده أحزانه إلى ذكريات من مضوا من أبناء الحيّ، وتقبّل ذووهم العزاء بهم في هذا المكان، تمنّى لو أنّ الموت عاجله قبل عودة، فلذة كبده، لكنّ الموت لا يستأذن أحدا، ولا يقبل أن يفتدي أحدهم أحدا غيره. لم تسعفه قواه أن يذهب إلى مستشفى المقاصد مع من ذهبوا غير مصدّقين الخبر الفاجع بوفاة عودة.
أراد أحد الشّباب الموجودين أن ينتشل الحاجّ أبا عودة من أحزانه فسأله:
– هذا المسجد المقام في حارتنا لِمَ يسمّونه مسجد المئذنة الحمراء يا عمّ؟
التفت إليه الحاجّ أبو عودة ولم يجبه، لكنّ إمام المسجد قال:
– ” هذا المسجد يا ولدي مسجد أثريّ يعود تاريخه إلى الحقبة العثمانيّة في فلسطين. يقع -كما ترى- داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارتنا، حارة السّعديّة، وقد بني عام 1533م. أُطلق على هذا المسجد في النّصف الأوّل من القرن السّادس عشر اسم “مسجد الشّيخ علي الخلوتي”، نسبة إلى من بناه على حسابه الخاصّ، ثمّ أُطلق عليه أهل القُدس اسم “مسجد المئذنة الحمراء” نسبة إلى شريطٍ أحمر كان يُحيط شرفة مئذنته من الأعلى.
عاد الشّابّ يسأل:
– لِمَ بنوه على مقربة من المسجد الأقصى؟
ردّ إمام المسجد بلهجة الواثق:
– في القدس القديمة مساجد عديدة، فهناك مسنّون لا يقوون على الوصول إلى المسجد الأقصى، فبنيت مساجد في حاراتهم؛ ليؤدّوا صلواتهم فيها دون عناء، وكما تعلم يا ولدي، بيت المقدس وأكنافها كلّها مقدّسة وتطالها بركات الأقصى المبارك.
وهنا دخل عمر وسليمان شقيقا المرحوم عودة، ومعهما رهط من الشّباب، وقفوا أمام أبي عودة وقال عمر متصنّعا القوّة مع أنّ دموعه خانته:
– القبر جاهز يا أبي في مدفن العائلة في المقبرة اليوسفيّة، تمّ تغسيل وتكفين عودة في مستشفى المقاصد، وسنحضر جثمانه للصّلاة عليه بعد صلاة المغرب في المسجد الأقصى؟
قال أبو عودة وهو يكاد يختنق بدموعه:
– لم يعد وقت يا بنيّ، اتركوه في ثلاجة مستشفى المقاصد حتى يوم غد.
تدخّل إمام المسجد وقال:
– رحم الله فقيدكم يا أبا عودة، وألهمكم الصّبر والسّلوان، فإكرام الميّت دفنه، ولا داعي لتأخيره ليوم غد.
عندما لم يعترض أبو عودة على كلام إمام المسجد، أضاف الأخير موجّها حديثه لعمر وسليمان ولمن يرافقونهم:
– اصطحبا الوالدة والشّقيقات والمحرّمات وأرملة الفقيد؛ ليلقين على وجهه نظرة الوداع الأخيرة في المستشفى، ثمّ أحضروا الجثمان؛ لنصلي عليه بعد صلاة المغرب في المسجد الأقصى، وسنكون في انتظاركم هناك.
يعرف عمر وسليمان أنّ شقيقتيهما موجودتان في المستشفى منذ سمعتا بالحادث، ومعهنّ العمّة والخالتان.
في البيت لم تقوَ وردة أرملة الفقيد على الوقوف، صرخت باكية وهي تلطم خدّيها:
– لا أستطيع أن أراه ميتا في كفن، وإن رأيته سأموت بجانبه، أسأل الله أن يغفر له، وأن يكون في جنّات النّعيم.
أمّا والدة الفقيد فقد قالت وهي تتحشرج بدموعها:
– الله يرضى عليه دنيا وآخرة، لا أقوى على وداعه.
بكت وردة وهي ترضع طفلتها، بينما تطوّق طفلها الذي يجلس بجانبها بيدها اليسرى، وأبكت بواكيا.
******
عندما وصلت سيّارة الإسعاف التي تقلّ جثمان الفقيد إلى باب الأسباط، أوقفها الحاجز الشّرطيّ الاحتلاليّ، لم يسمحوا لها بدخول ساحات المسجد الأقصى، أنزل الشّباب الجثمان من سيّارة الإسعاف؛ ليحملوه على الأكتاف حتّى المسجد القبليّ، لكنّ الشّرطة الاحتلاليّة أنزلوا الجثمان لتفتيشه، قال لهم عمر شقيق الفقيد بلهجة غاضبة:
– الجثمان في كفن، وإن عبثتم بالكفن أو لمستم الجثمان لألعن ط…………..
وهنا قال شرطيّ بلسان لا عجمة فيه لعمر:
– رحم الله ميّتكم، لا تغضب…. الآن سأوضّح لهم أن لا يلمسوا الجثمان، والتفت لزميل له وقال بالعبريّة:
– لا تلمسوا الجثمان، فهذا مسّ بمعتقدات دينيّة سيوقعنا بمشاكل نحن في غنى عنها، وأنتم تعلمون ما سيجري في هذه الليلة، فلا تستبقوا الأمور. ابتعدوا عن الجثمان واسمحوا لهم بالدّخول.
سأل عمر الشّرطيّ:
– ماذا سيحصل هذه الليلة؟
التفت إليه الشّرطيّ غاضبا ولم يقل شيئا.
بعد الصّلاة على الجثمان ساروا به إلى القبر، لفت انتباههم الوجود الشّرطيّ المكثّف، عدا عن رجال المخابرات الذين يرتدون الملابس المدنيّة، يضاف إليهم العسس الذين يتظاهرون بالتّقوى وطلب الغفران، بينما هم يرافقون الجثمان تنفيذا لأوامر مسؤوليهم للمراقبة.
بعد الدّفن عاد أهل الفقيد وبعض جيرانهم إلى مسجد المئذنة الحمراء، بعد صلاة العشاء بقوا في ساحة المسجد يتقبّلون العزاء.
لاحظ العسس الذين جاؤوا من مناطق بعيدة؛ ليحتلّوا بعض مفاصل أسواق وأزقّة المدينة للمراقبة أنّ رجالا يدخلون إلى المسجد وآخرون يخرجون، لم يعرفوا سبب ذلك فهم منتشرون في زوايا الشّوارع والأسواق والأزقّة يراقبون أيّ حركة بناء على أوامر صدرت إليهم، اتّصل أحدهم بسيّده وأخبره بوجود حراك مكثّف في مسجد المئذنة الحمراء، فردّ عليه سيّده:
– يا كلب لنا رجال داخل المسجد يراقبون كلّ شيء ويستمعون لكلّ همسة، فهناك عزاء لأحد أبناء الحيّ، راقبوا الطّرقات وابتعدوا عن هذا المسجد.
عند منتصف الليل بدقائق انفضّ مجلس العزاء، وقبل أن يصل بعض المعزّين بيوتهم سُمع صراخ وأزيز رصاص، قال أبو عودة وهم يتمدّد على فراشه:
– استر يا ربّ.
بينما قالت أمّ عودة:
– حسبي الله على “اولاد الحرام لا بناموا ولا بخلّوا النّاس يناموا.”
أمّا وردة فكانت تتمدّد وسط طفليها تستعيد شريط ذكرياتها مع زوجها الفقيد، مذهولة لم تسمع شيئا، أو بالأحرى لم تنتبه لشيء.
******
خرج عمر وشقيقه سليمان يستطلعان ما يجري، عادا في ساعات الصّباح منهكين، قال عمر لوالده:
– هذه الليلة 25 سبتمبر 1996 سوداء بكلّ المقاييس، فقد افتتح المحتلّون نفقا يمتدّ تحت المسجد الأقصى من حائط البراق إلى طريق الآلام قريبا من المدرسة العمريّة. وهو نفق أمويّ لكنّهم يسمونه نفق “هحشمانوئيم”، وقد خرج المقدسيّون دفاعها عن مسجدهم المبارك.
ردّ أبو عودة بلهجة الواثق متناسيا أحزانه على عودة ابنه البكر:
– للبيت ربّ وشعب يحميانه.
بعد صلاة العصر عاد الأهل والأقارب إلى مسجد المئذنة الحمراء يستقبلون المعزّين، بينما صوت المتظاهرين يلجلج في أحياء المدينة وبقيّة مدن وبلدات الأراضي المحتلّة، وسط أزيز الرّصاص والغاز الخانق الذي تطلقه شرطة الاحتلال على المتظاهرين في باحات المسجد الأقصى وفي باب العمود، ونين سيّارات الإسعاف مسموع في مختلف شوارع المدينة المقدّسة.
في البيت حيث تتقبّل النّساء العزاء وصلت الدّاعية الإسلاميّة الحاجّة زينب، ترحّمت على الفقيد، داعية له بالرّحمة والمغفرة، نهت النّساء عن لطم الخدود وقدّ الجيوب، التفتت إلى وردة أرملة الفقيد وقالت:
– ورد في الصّحيحين عن أمّ عطيّة:” أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحدّ امرأة فوق ثلاثة أيّام، إلا على زوجها، فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب ولا تكتحل، ولا تمسّ طيبا، إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط أو ظفار.”
وأضافت موجّهة كلامها لأرملة الفقيد:
– التزمي بيتك الذي مات زوجك وأنت فيه، لا تغادريه طوال أشهر العدة.
ولا يجوز لك أن تغادريه إلا لحاجة ضروريّة، مثل العلاج، أو شراء الأشياء اللازمة إذا لم يكن لك من يشتريها، أو الذّهاب إلى عملك الملتزمة به.
فقالت أميمة شقيقة وردة:
– تعمل وردة معلّمة في مدرسة دار الطّفل العربيّ.
ردّت الواعظة عليها:
بعد أيّام العزاء يجوز لها الذّهاب إلى عملها، وأن تعود إلى بيتها مباشرة.
عادت أميمة تسأل:
– وبعد انقضاء العدّة الشّرعيّة ماذا يتوجّب على الأرملة أن تفعل؟
ردّت الدّاعية الواعظة:
– “عند انقضاء العدة، تصبح الأرملة حرّة في أن تتزوّج من تشاء، وأن تخرج من البيت كما تشاء، وأن تلبس وتتزيّن بما تشاء، وأصبح لمن يريدها أن يخطبها صراحة لا كناية، وأن يعزم عقدة النّكاح إن شاء. قال تعالى:
“وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.”
رغم الحزن الذي يملأ قلب وردة، ويخيّم على بيت العزاء، إلا أنّ شقيقة الفقيد احتجّت على كلام الواعظة وتساءلت:
– ما الدّاعي لهذا الكلام يا سيّدتي؟ هل نحن في عزاء أم في حفل زواج؟
ردّت عليها الواعظة:
– تبيان الحكم الشّرعيّ واجب يا أختي في كلّ زمان وكلّ مكان، وأنا في هذا الموقف الحزين أبيّن ما للأرملة وما عليها حسب شرع الله.
انتشرت الحواجز الشّرطيّة عند بوّابات المدينة المقدّسة، وعلى الطّرقات الموصلة إليها، لم تسمح شرطة الاحتلال بدخول القدس القديمة إلا لساكنيها، ولم تسمح بدخول المسجد الأقصى إلا لمن هم فوق الخمسين من أعمارهم.
المعزّون من خارج المدينة العتيقة لا يستطيعون الوصول لتقديم العزاء بالمرحوم عودة، حتّى أسرة أرملته وردة لم تستطع المشاركة في العزاء، رغم أنّهم يسكنون في شعفاط على بعد أقلّ من كيلومترين.
أزيز الرّصاص والغازات الخانقة المسيلة للدّموع تجوب سماء المدينة، المواطنون الفلسطينيّون يهبّون دفاعا عن مسجدهم المبارك، الرّجال من أهل الفقيد عودة يتقبّلون العزاء في مسجد المئذنة الحمراء، بينما النّساء يتقبّلن العزاء في بيت الأسرة المجاور للمسجد.
وردة أرملة الفقيد واقعة تحت تأثير حبوب وحقن التّخدير، التي وصفها لها الطبيب، تعيش صدمة تكاد تعقد لسانها، تضع طفلتها في حضنها، تغفو أحيانا وتصحو أخرى دون تركيز، المعزّيّات يزدنها حزنا على أحزانها عندما يواسينها بكلمات تحمل في ثناياها الشّفقة.
في المسجد يستمع أحد الشّباب للأخبار من “ترانزستور” ربطه بسمّاعة في أذنيه، وكلّما سمع جديدا نقله للحاضرين، الذين كانوا يتساءلون عن طبيعة هذا النّفق، الذي جاء في الأنباء أنّه نفق من العصر الأمويّ، وفجأة قال لهم: “هذه مقابلة مع سماحة خطيب المسجد الأقصى حول هذا النّفق، إن أحببتم الاستماع إليها.” فالتزم جميعهم الصّمت وهم يركّزون أنظارهم إلى الشّاب الذي يحمل “الترانزستور”، وممّا قاله سماحته:
– ” تحتلّ القدس جزءا كبيرا في العقيدة الإسلاميّة. وأكبر دليل حادثة الإسراء والمعراج التي سطّرها القرآن الكريم بين آياته الكريمة. وأضاف: ” القدس معتقد دينيّ لا مجال للمساومة عليه أو تغييره مهما حاول الطّرف الآخر تزوير التّاريخ والحقائق والآثار، كما حاول الادّعاء بأن حجارة القصور الأمويّة هي حجارة الهيكل.. وتبيّن أن لا علاقة لها بالهيكل، وأثبتت الحفريّات أن آثار القدس شاهد على الحضارة الإسلاميّة المحضة بامتياز. وحتّى علماء الآثار اليهود ومن بينهم عالم الآثار (دان باهات) أشار إلى أنّ أكثر من 90% من آثار القدس هي إسلامية، و10% هي آثار بيزنطيّة ورومانيّة، ولم يعثر على أيّة آثار يهوديّة أو عبرانيّة فيها، حتّى ما أسموه “نفق الحشمونائيم” ما هو إلا عبارة عن قنوات ماء وأقبية وأنفاق تمّ الرّبط بينها، وهي تعود إلى عصور إسلاميّة ورومانيّة. فالقدس جزء من عبادتنا وعقيدتنا وحضارتنا، يتضاعف فيها ثواب الأعمال، وهي تاريخ وحضارة للعرب والمسلمين ضاربة جذورها في أعماق الأرض لا يمكن التخلّي عنها.”
قال إمام المسجد: هذه البلاد لا يعمّر فيها ظالم. وأضاف:
قال رسول الله ﷺ”…وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا.”
وهنا سمعوا من المذياع الذي يحمله أحد الشباب:
أن بطاركة ومطارنة القدس أصدروا بيانا دعوا فيه إلى احترام دور العبادة في القدس، وأكدوا أن المسجد الأقصى هو مكان عبادة مقدّس للمسلمين، ويجب احترام ذلك. كما قاموا بزيارة تضامنيّة للهيئة العلميّة الإسلاميّة، واجتمعوا مع عدد من رجالات الدّين المسلمين.
*****
انتهت أيّام العزاء بالفقيد عودة الثلاثة ، لكن بيوت عزاء أخرى افتتحت في مختلف المناطق لشباب هبّوا دفاعا عن مسجدهم الأقصى المبارك، فسقطوا إلى قمّة المجد شهداء.
انزوت وردة أرملة الفقيد في شقّتها، وكأنّها تعتزل الحياة، لم تعد الحياة تعني لها شيئا، ما عاد اهتمامها بطفليها كما كان قبل رحيل حبيبها والدهم، لم تفهم سبب التّعب والنّوم الذي يداهمها إلا عندما لفتت انتباهها لذلك شقيقتها أميمة عندما قالت:
– انتبهي يا وردة أنّ الدّواء الذي وصفه لك الطّبيب مخدّر لتهدئة الأعصاب؛ كي يخفّف عليك الأحزان وصدمة الفقد، وهذا سبب الإرهاق والنّعاس المتواصل الذي تعانينة، ولا تنسي أنّك أمّ مرضعة، وقد يؤثّر ذلك على طفلتك الرّضيعة.
انتبهت وردة لما قالته شقيقتها، ولم تعد تتناول إلا حبّة دواء واحدة قبل أن تلجأ إلى فراشها للنّوم ليلا. شريط ذكرياتها مع زوجها الرّاحل لم يتوقّف لحظة واحدة، حتّى أنّه لم يتوقّف أثناء نومها، تبكي حظّها العاثر وشبابها الذي اصطدم بالفقد، في لحظات اليأس تتمنّى لو أنّها لم تعرف زوجها الرّاحل، ولم تحبّه ولم تتعلّق به، ولا تلبث أن تعود لرشدها وهي التي تعلم تماما أنّ الموت حقّ، وأنّ الأحياء جميعهم مصيرهم الموت الذي لا يقتصر على عمرٍ معيّن.
بعد مرور أسبوع على الوفاة تسلّلت إليها جارتها المسنّة أمّ محمّد التي عركتها الحياة، وقالت لها باكية:
– اسمعي يا بنيّتي، الحياة والموت ضدّان متلازمان، لكنّهما يكملان بعضهما، و”اللي بشوف مصايب غيره بتهون مصيبته عليه”، فهاهم فتيان في عمر الورود يتساقطون كأوراق الخريف، ويرتقون سلّم المجد شهداء، و”العمر محدود والرّب معبود.”
التفتت إليها وردة وقالت:
– ليت عودة قضى نحبه شهيدا. وكم تمنّيت لو أنّ الله اختارني لجواره وأبقى عودة على قيد الحياة!
حوقلت المرأة وقالت:
– هذه أمنيات لا تتحقّق، فلا أحد يفتدي غيره، ترحّمي على زوجك الفقيد، وانتبهي لنفسك ولأطفالك. وكما قال تعالى:” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ”
ردّت عليها وردة بعد أن حمدلت وقالت:
– موت الفجأة مؤلم يا خالة، وليت عودة أصيب بمرض لعدّة أيّام قبل وفاته.
عادت الجارة تحوقل وتقول:
لا تهربي من قدر الله يا وردة، فقد ورد عَنْ أمّ المؤمنين عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ؟ فَقَالَ:” رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْفَاجِرِ.” ففي موت الفجأة عبرة للأحياء؛ كي يرتدعوا عن الأخطاء والخطايا في الدّنيا، فلا أحد يعلم متى تحين ساعته.
صمتت وردة للحظات واستأذنت ضيفتها لغلي فنجاني قهوة لهما، وبينما هما تحتسيان القهوة قالت وردة:
– شكرا لك يا خالة، رغم مرارة الفقد ورغم أحزاني فقد قرّرت أن أعود إلى عملي كمعلّمة، فلا ذنب لطالباتي بما حصل.
ابتسمت الجارة الطّيبة وقالت:
هذا هو الصّحيح يا بنيّتي، فعجلة الحياة تدور باستمرار رغم كلّ التّناقضات والصّراعات فيها.
2
أثناء أيّام العزاء الثّلاثة جلس أبو عبدالرحمن والد وردة على حصيرة بجانب صهره أبي عودة، كلّ منهما يسند ظهره على حائط المسجد، فقد رسمت الشّيخوخة تجاعيدها على وجهيهما، كما سلبت الكثير من قواهما الجسديّة، غلبهما الحزن على الفقيد عودة، لم تنزل دموعهما، فقد تربيّا تربية صارمة تعيب بكاء الرّجال، لكن ما أن يأوي أحدهما إلى فراشه حتّى يتظاهر بالنّوم، فينفجر ينبوع دموعه المكبوتة، ويشعر بعدها براحة تقوده إلى نوم لم يخطّط له.
يتوافد المعزّون لتقديم واجب العزاء، بعضهم لا يعرف والدي عودة ووردة، وبعض من يعرفونهما، يتجاهلانهما وهم يرونهما منزويين على حائط المسجد، فلا يعرفون إن كانا نائمين أو مستيقظين، لكن بالتّأكيد هما مرهقان.
عندما يعود والد وردة أبو عبد الرّحمن إلى بيته في شعفاط، تهاجمه ذكريات دون سابق إنذار، تعود به إلى اليوم الذي ولدت فيه ابنته وردة، يبتسم وهو يستذكر تلك اللحظة التي رآها فيها للمرّة الأولى في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطينيّ في القدس، أبهره جمالها، سحرته رائحتها الطّفوليّة؛ فسمّاها وردة، قال لزوجته وقتذاك:
– هل رأيت وردة؟
ردّت عليه مستغربة:
– من هي وردة التي تسأل عنها؟
أجابها باسما: ابنتنا، أسميتها وردة، فعندما اقتربت منها شممت لها رائحة جميلة غير معهودة.
ضحكت أمّ عبدالرّحمن وقالت:
– للأطفال جميعهم رائحة محبّبة تعرفها الأمّهات أكثر من الآباء، لكن ألم نتّفق على أن نسمّيها “ميساء”؟
ردّ عليها بهدوء:
– نعم اتّفقنا على ذلك، لكن اسم وردة يليق بها أكثر، وستبقى وردة ميساء تتبختر وتتمايل.
عندما تذكّر يوم مولدها، وما آلت إليه حالها بوفاة زوجها، انهمرت دموعه حزنا، وتمنّى لو عاجله الموت قبل أن يرى فاجعة ابنته الحبيبة وردة.
بعد صلاة العشاء، استأذن أبو عبدالرّحمن وغادر إلى بيته في شعفاط، وقف في شارع صلاح الدّين حوالي نصف ساعة، مرّت عدّة حافلات ومركبات أخرى دون أن تقف واحدة منها لتقلّه، فسائقو الحافلات ما عادوا يتحمّلون بطء حركة المسنّين. عاد أبوعبد الرحمن بذاكرته إلى أيّام العزّ، أيّام الشّباب التي كان فيها يلاطف الصّغير ويحترم الكبير، ابتسم وهو يتذكّر تلك الأيّام التي كان كلّما مرّ بمسنّ يحمل سلّة ملأى بأغراض البيت يسارع إليه؛ ليحملها عنه، سواء كان يعرف ذلك المسنّ أو لا يعرفه، أو كان رجلا أو امرأة، وتساءل إن كانت المروءة قد ابتعدت عن أبناء الأجيال الجديدة. كتم غيظه من سائقي الحافلات، وقرّر أن يتوكّأ على عصاه ويعود إلى بيته في شعفاط راجلا، مشى حتّى نهاية شارع صلاح الدّين، فشعر بقوّة لم يعهدها منذ سنوات، رفع عصاه ووضعها على رقبته رافعا يديه ليمسك بطرفيها، فاعتدلت قامته وازدادت سرعته. عندما وصل بمحاذاة فندق “ماونت سكوبس” من الخلف، وقف أمامه مستوطن يحرس مبنى استولى عليه المستوطنون وسكنوه، وقال المستوطن الذي يمتشق سلاحه:
– خج انت فين بروخ؟
لم يكترث به أبو عبدالرّحمن وواصل طريقه، لحق به المستوطن وهو يشهر سلاحه وسأل:
– خج انت شو بساوي هون؟ هات هويه!
رفع أبو عبد الرّحمن عصاه، هزّها أمام المستوطن مهدّدا وقال ساخرا:
– هئ هئ “الدّار دار أبونا وجا الغربيّه يطحونا”! انقلع يا ولد من أمامي.
تراجع المستوطن وهو يقول:
– خَج انت واخد مجنون!
التفت إليه أبو عبد الرحمن غاضبا وقال:
– وجع يخلع نيعك ونيع اللي خلّفوك، جنون يضربك أنت وللي ربّوك. وواصل طريقه. عندما وصل الدّوّار الذي يلتف شمالا باتّجاه فندق “ماونت سكوبس”، رأى على يمينه ضريحا عليه أسماء القتلى الإسرائيليّين الذين سقطوا في حيّ الشّيخ جراح في حرب حزيران 1967م، وخز الضّريح بعصاه وأطلق وابلا من الشّتائم، وواصل طريقه.
عند مدخل كرم المفتي، انتبه للبناء القديم الذي كان يسكنه الحاجّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة زمن الإنتداب البريطانيّ، دخل من البوّابة بطريقة عفويّة لم يقصدها، وقف أمام البيت القديم المهجور، طاف حول البيت، انتبه للبناء الذي يعلو الشّارع المجاور حيث المقرّ الذي استعمله الشّهيد عبدالقادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس مقرّا له، ضرب كفّا على كفّ عندما رأى نصف البناية القديمة وقد هدم وقامت مكانه بناية للمستوطنين، شعر بلوعة أنزلت دموعه، جلس تحت شجرة معمّرة، وما لبث أن تمدّد ليستريح، وضع تحت رأسه حجرا، وشرع يستعيد ذكريات أيّام مضت، عادت به الذّكريات إلى موسم النّبيّ موسى، عندما كانوا يلتفّون حول الحاجّ أمين الحسيني، وهو يمتطي فرسه حاملا بيرق القدس، وهم يهتفون حوله:
سيف الدّين الحاجّ أمين.
صهيون وش لك عندنا
هذي البلاد بلادنا
بلاد أبونا وجدّنا
ابتسم عندما عادت به الذّاكرة إلى تلك الأيّام التي التحقوا فيها بالثّورة مع عبدالقادر الحسيني، وكيف تدرّبوا على استعمال السّلاح في منطقة جنجس في براري عرب السّواحرة، لكنّه بكى وهو يستذكر ذلك اليوم الذي استشهد فيه القائد عبدالقادر الحسينيّ في معركة القسطل، استند غاضبا عندما تذكّر مذبحة دير ياسين التي حصلت في اليوم الثّاني لاستشهاد البيك، وأتى القتلة بعدد من نساء القرية المسنّات في شاحنة وألقوا بهنّ في شارع المصرارة أمام باب العمود، ليحدّثن النّاس عن المذبحة؛ كي يهربوا من ديارهم خوفا وطلبا للنّجاة.
وقتذاك كان أبو عبدالرّحمن في نهاية العشرينات من عمره، وشارك في تشييع جثمان البيك الذي دفن في باحة المسجد الأقصى قريبا من باب المجلس الإسلاميّ.
أرهقته ذاكرته، ومع أنّ الجلوس في هذا المكان أعاد إليه روح الشّباب، إلّا أنّه قرّر مواصلة طريقه إلى بيته، فمن غير المعقول أن يمضي ليلته في هذا المكان، خوفا من أن تفتقده زوجته وأبناؤه، لأنّهم إذا افتقدوه سيبحثون عنه ويستحيل عليهم أن يجدوه، فهو في مكان مهجور.
عندما وقف وهمّ بمغادرة المكان، نزل ثلاثة شبّان من سيّارة، دخلوا المكان يترنّحون، ولمّا رأوه أوجسوا منه خيفة، تشاوروا بأمره فقال أحدهم لزميليه:
– هذا عجوز يبدو أنّه سكّير مثلنا قصد المكان؛ ليحتسي الكحول أو ليتعاطى
“الكيف”.
مرّ بجانبهم فحوقل وهو يرى أفواههم وقد تساقطت نواجذهم. لم يكلّمهم ولم يكلّموه، لكنّه سمع أحدهم يقول:
– يبدو أنّ هذا العجوز خَرِف.
التفت إليهم بازدراء ولم يقل شيئا، لكنّه تمتم لنفسه” يا حسرة القدس”!
هاتفت وردة والدتها وأخبرتها أنّه غادر بيت العزاء عائدا إلى بيته بعد صلاة العشاء. انتظرته أمّ عبد الرّحمن وعندما تأخّر أخبرت ابنها عبد الرّحمن، وطلبت منه أن يبحث عن أبيه، لكنّ عبد الرّحمن طمأنها قائلا:
– لا تخافي عليه فهو بكامل قواه.
فردّت عليه مضطربة:
– “الخوف من اولاد الحرام اللي ما بناموا ولا بتركوا النّاس يناموا”.
ضحك عبد الرّحمن وقال لوالدته:
– “في الصّباح رباح”!
وهنا وصل أبو عبدالرّحمن بيته، فبادرته زوجته سائلة:
– وين هالغيبة؟
فردّ عليها باقتضاب وهو يجلس في صالون البيت:
– خلّيها على الله!
فعادت تسأل: لِمَ تأخّرت؟ هل حدث شيء معك؟
تنهّد وقال: هات فنجان قهوة وروحي نامي.
وهنا سألته: وأنت، ألا تريد أن تنام؟
نظر إليها ولم يتكلّم.
3
بعد أسبوع من الفقد والأحزان، ورغم الصّراعات الدّاخليّة التي أرهقت وردة، حتّى باتت ترى أن لا جدوى من الحياة، إلا أنّ رجاحة عقلها شحنتها بقوّة احتمال هائلة وهي تفكّر بمصير طفليها، فقرّرت أن تكمل مشوارها في هذه الحياة، إن لم يكن من أجلها فمن أجل طفليها، اللذين لا يدركان النّكبة التي حلّت بهما وبوالدتهما. فعادت إلى دوامها المدرسيّ ترتدي ملابس الحداد السّوداء، ارتدت بنطالا وقميصا، وضعت على رأسها منديلا لا يغطّي غرّة شعرها، لم تستعمل “المكياج” ولا العطور، وضعت نظّارة سوداء على عينيها لتتّقي نظرات النّاس، فبدت جميلة بمنظرها الجديد الذي لم يعتد معارفها رؤيتها به.
عيون المّارّة في شارع صلاح الدّين تلتهمها بين متعاطف معها، وبين معجب بها، وصلت مدرستها في السّابعة والرّبع، عندما دخلت البوّابة الرّئيسة التفّت حولها طالباتها معزّيّات، واصلت طريقها وهي تشكرهنّ وتمسح دموعها التي تساقطت دون رغبة منها.
في غرفة المعلّمات عانقتها زميلاتها معزّيّات، بعضهنّ بكين- من باب المجاملة- وهن يحتضنّها، ففتحن جراح حزنها التي لم تندمل، شعرت بضيق وكأنّ حبلا يلتفّ حول عنقها ليخنقها، أعدّت زميلتها مدرّسة اللغة العربيّة كأس شاي وقدمته لها، والتفتت إلى بقيّة الزّميلات مستنكرة تظاهرهنّ بالحزن، وقالت لهنّ بلهجة آمرة:
– من تريد منكنّ الحديث فلتقل خيرا أو فلتسكت، ومن منكن تريد أن تبكي أمواتها فليس في هذا اليوم ولا في هذا المكان.
عندما قرع الجرس في الثّامنة صباحا، اصطفّت الطالبات وكلّ معلّمة تقف أمام صفّها، باستثناء وردة بقيت جالسة مكانها في غرفة المعلّمات، فلم تقوَ على الوقوف، دخلت إليها المديرة، وقالت لها:
– لا تضغطي نفسك يا وردة، أرسلتُ معلّمة أخرى بديلة لك، اعتبري نفسك هذا اليوم زائرة، هيّا بنا نحتسي القهوة في مكتب الإدارة، وعندما تملّين من مجالستي، بإمكانك المغادرة واعتبري نفسك كأنّك في الدّوام وزيادة.
في غرفة الإدارة طلبت المديرة من الفرّاش أن يغلق الباب خلفه بعد أن وضع فنجان قهوة أمام وردة وآخر أمام المديرة.
التفتت المديرة إلى وردة وقالت لها بعد أن طلبت منها أن تضع نظّارتها على الطّاولة:
– اسمعيني يا ابنتي، فأنت من جيل أبنائي، لا هروب من الموت أو المرض، فكلّنا معرضّون لهما، ولا يدري أيّ منّا متى سيختطفه الموت. وأنت لا تزالين في بدايات شبابك، فلا يغلبنّك الحزن، وانتبهي لنفسك ولطفليك.
ردّت وردة باكية: الحزن ليس بيدي يا سيّدتي.
– أعرف ذلك…. فكلّنا نحزن، وكلّنا نبكي، فالبكاء يغسل القلوب ويمحو الأحزان، لكنّ تذكّري دائما أنّ النّسيان نعمة.
ردّت وردة بلهجة عاتبة:
– وهل مثل عودة الزّوج الحبيب يُنسى؟
قالت المديرة بلهجة ناعمة متعاطفة:
– عودة -رحمه الله- مثله مثل بقيّة الشّباب الذين يتساقطون يوميّا، فتبكيهم أمّهاتهم وأحبّاؤهم، ولا يلبث حزنهم أن يتلاشى رويدا رويدا، حتّى ينتهي بذكرى تصير موضع فخر لهم.
– موت الفجأة صادم.
– أعرف ذلك وجرّبته عندما تُوفّيت شقيقتي أثناء المخاض، وهل الشّباب الذين يضحّون بأنفسهم ويرتقون المجد وهو يتراكضون في ساحات المواجهات يفقدون حياتهم بالتّدريج؟ فبعضهم فتية خرجوا من بيوتهم حاملين حقائبهم في طريقهم إلى مدارسهم، وعادوا إلى أمّهاتهم في كفن.
– ليت عودة مات شهيدا.
– هذا قدر الله فترحّمي عليه وانتبهي لنفسك ولطفليك.
– نسأل الله الصّبر والثّبات.
– آمين.
بينما جلست وردة في غرفة الإدارة، أمضت ثلاث معلّمات حصّة فراغ في غرفة المعلّمات، فقالت أصغرهنّ عمرا وأقلّهن خبرة وهي خرّيجة جديدة وعازبة:
– مسكينة زميلتنا وردة، فمصيبتها كبيرة.
وقالت الثّانية وهي متزوّجة وأمّ في الثّلاثينات من عمرها:
– قد تكون وفاة الزّوج رحمة للزّوجة، فبعض الأزواج وجودهم لعنة في حياة زوجاتهم، والخلاص منهم غنيمة “فالعزوبيّة ولا الزّيجة الرّديّة”.
استغربت زميلتاها ما قالته، فارتسمت على وجهيهما علامات الدّهشة والغضب، لم تتمالك زميلتها العزباء نفسها فقالت بلهجة مستنكرة:
– يبدو أنّك تتحلّين بعقليّة إجراميّة، فمن تتمنّى الموت لزوجها؟ ومن وما يجبرك على استمرار حياة زوجيّة لا تطيقينها، “فالذي حلّل الزّواج حلّل الطلاق”؟
التزمت الثّالثة الصّمت واكتفت بسماع حوار زميلتيها، في حين ردّت الثّانية:
– لا أقصد زميلتنا وردة بكلامي، فأنا متعاطفة معها أكثر ممّا تتصوّران، وذلك لمعرفتي لحياة العشق والسّعادة التي سادت علاقتها بزوجها المرحوم عودة، فقد عاشا حياة هانئة سعيدة، لكن لا مفرّ من الموت، “فالرّب معبود والعمر محدود”، وكان الله في عونها، لكن الأزواج ليسوا سواسية.
التفتت إليها الأولى وقالت:
– وليست كل النّساء سواسية، “فالرّجال شقائق النّساء”، و”الزّواج قسمة ونصيب”. والمشاكل الزّوجيّة ليست مسؤوليّة الأزواج الرّجال فقط، فهناك نساء يفتعلن المشاكل لأزواجهنّ أيضا.
قالت الثّانية: الزّواج سكينة ورحمة، لكنّ بعض الرّجال يقلبونه إلى جحيم ولعنة، وإنجاب الأطفال يكسر رقاب النّساء، فيصبرن على أزواجهنّ رحمة بأطفالهنّ.
وهنا تدخّلت زميلتهنّ الثّالثة، وهي أكبرهنّ عمرا؛ فهي في بداية الخمسينات من عمرها، وأكثرهنّ خبرة فقالت:
– لا شكّ أنّ الزّواج نعمة للمرأة وللرّجل، وهناك فوارق واختلافات في الحياة والعلاقة الزّوجيّة، فإذا كانت العلاقة بين الزّوجين قائمة على الحبّ والمودّة والرّحمة، فهذه هي جنّة الحياة الدّنيا، وهذا ما عاشته زميلتنا وردة مع زوجها المرحوم عودة، لذا ففقده مصيبة عليها، وإذا ما “تنمّر” أحد الزّوجين على شريكه فهذا هو الجحيم الدّنيويّ، والخلاص منه مكسب للطّرفين.
وهنا سألت المعلّمة الأولى:
– هل موت أحد الزّوجين حلّ للمشاكل الزّوجيّة المستفحلة؟
أجابت المعلّمة الثّالثة بهدوء:
– ليس من حقّ أحد أن يتمنّى الموت لغيره، فالحياة والموت بيد خالق الخلق. والفراق بغضّ النّظر عن كيفيّته وأسبابه ليس نهاية المطاف.
سألت المعلّمة الثّانية:
– إذن كيف الخلاص؟
أجابت المعلّمة الثّالثة بثقة:
– يجب أن تستمرّ الحياة، ومن متطلّبات وسُنّة الحياة أن يتّحد الرّجل والمرأة بحياة زوجيّة هادئة، ينجبان البنات والأولاد ويعيشان حياة هانئة.
سألت المعلّمة الأولى ببراءة:
– كيف ستستمرّ حياة الأرملة والمطلّقة بسعادة وهناء، خصوصا وأنّ الرّجال يعزفون عن الزّواج منهما؟
ضحكت المعلّمة الثّالثة وقالت:
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدوة حسنة، فأمّهات المؤمنين زوجات الرّسول تزّوجهنّ ثيّبات باستثناء عائشة التي تزوّجها عذراء.
المعلّمة الثّانية: أين نحن في هذا الزّمن من رسول الله وأصحابه -صلّى الله عليه وعليهم وسلّم-؟ فرجال هذا الزّمن يطمعون في الأرامل والمطلّقات ويريدوهنّ خليلات دون زواج.
المعلّمة الأولى: مادام الرّجال المطلّقون والأرامل يتزوّجون مهما بلغوا من العمر، فمن حقّ النّساء المطلّقات والأرامل أن يتزوّجن أيضا.
ردّت المعلّمة الثّانية بلهجة لا تخلو من السّخرية:
– الرّجال لا يتقبّلون المطلّقات، ونادرا ما يتزوّج أحدهم من مطلّقة، ما داموا يجدون عذارى مثلك يقبلن الزّواج منهم.
ابتسمت الثّالثة، في حين غضبت الأولى وقالت:
– هل شكوت لك أنّي أريد زوجا عازبا أو مطلّقا؟
وهنا تدخّلت المعلّمة الثّالثة وقالت بهدوء موجّهة حديثها للمعلّمة الأولى:
– من حقّك أن تتزوّجي، وسيأتيك نصيبك ممّن تحبّينه وترينه مناسبا لك، فالزّواج سنّة الحياة.
تنحنحت المعلّمة الثّانية وسألت:
– هل تجد المطلّقة أو الأرملة زوجا كفؤا لها؟
ردّت عليها الثّالثة ضاحكة:
– “كلّ فولة ولها كيّال”.
فعادت الثّانية تقول: المرأة الأرملة التي أحبّت زوجها، تخلص له حتّى بعد وفاته، ولا ترى رجلا بديلا له خصوصا إذا أنجبت منه.
فقالت الثّالثة: لا تتوهّمي كثيرا، فالحزن يتلاشى مع مرور الوقت، وللجسد احتياجات لا يستغني عنها. والنساء الأرامل عدّتهنّ أربعة أشهر وعشرة أيّام، وبعض الرّجال لا ينتظر هذه المدّة؛ ليتزوّج بعد وفاة زوجته.
قالت الثّانية بخبث:
– هل يعني هذا أنّ وردة ستتزوّج ثانية بعد انتهاء عدّتها؟
حوقلت الثّالثة وقالت:
– هذا كلام سابق لأوانه، وكان الله في عون وردة.
عادت الثّانية تقول:
– النّساء أكثر وفاء وإخلاصا من الرّجال.
الثّالثة: لا تتوهّمي كثيرا، فالرّجال والنّساء سواسية في الغرائز ومتطلّبات الحياة، لكنّ الظّروف المتاحة للرّجال أكثر من المتاحة للنّساء في مجتمعاتنا الذّكوريّة.
تحفّظت المعلّمة الأولى العازبة من الحديث خوفا من الصّدام مع المعلّمة الثّانية، شبكت يديها أمامها على الطّاولة، تستمع للحوار بين زميلتيها دون تعقيب، مع أنّ حركات وجهها وعينيها كانت تشي للمعلّمة الثّالثة التي كانت تجلس قبالتها بما تخفيه، فهمت عليها زميلتها الثّالثة، وعزت سكوتها إلى حياء العذارى الذي تتحلّى به، لكنّها حاولت إخراجها من صمتها بلباقة، فسألتها وهي تشير إليها:
– ما رأيك.
ردّت عليها باستحياء متسائلة:
بِمَ؟
– بالذي سمعتِهِ حول رغبة الأرامل والمطّلّقات بالزّواج ثانية؟
ردّت عليها وهي تطأطئ رأسها حياء:
– سمعت من جدّي أكثر من مرّة أنّ النّساء الأرامل والمطلّقات يرغبن بالزّواج كما الرّجال وأكثر، وكان يردّد المثل القائل:”عزوبيّة دهر ولا رُملة شهر”.
ومّما سمعته منه حكاية تقول:” يُحكى أن قبيلة لم تكن تسمح للمرأة الأرملة أن تتزوّج قبل أن يجفّ تراب قبر زوجها، وذات يوم شاهدوا امرأة بعد وفاة زوجها بأسبوع، ترشّ الماء على قبر زوجها وتدبك عليه؛ كي يجفّ بسرعة”!
فضحكن قهقهة، وعندها قُرع الجرس معلنا نهاية الحصّة الأولى وبدء الثّانية.
4
يستحلب أبو عودة السّماء دعوات لولده الرّاحل عودة، قلبه ينزف ألما من هول الفقد الذي ابتلي به، تمنّى مرّات عديدة لو أن الرّحمن اختاره بدلا من ابنه الرّاحل، لكنّه لم يفقد لحظة واحدة إيمانه بأنّ الموت حقّ، وأن الأعمار محدودة، تمنّى في ساعات حزنه لو أنّ الموت اختطف ابنه العازب بدلا من عودة الذي ترك خلفه أرملة في ريعان شبابها، وطفلين لا يدركان ما حلّ بهما، ضرب كفّا على كفّ وهو يقول ملتاعا:
– يا خسارة شبابك يا عودة! ويا خسارة شبابك يا وردة!
عندما سمع أذان صلاة الظّهر بعد شهر من وفاة ابنه عودة، توضّأ وقصد مسجد المئذنة الحمراء المجاور لبيته للصّلاة جماعة، لم يرتح لنظرات الشّفقة التي تشعّ من عيون من عرفوه، لكنّه كتم غيظه وأحزانه، أدّى الصّلاة خلف الإمام مباشرة، بعد الصّلاة انفضّ المصلّون وبقي هو والإمام، خرجا إلى ساحة المسجد الخارجيّة، أسند ظهره على الحائط الغربيّ للمسجد وهو يجلس على الأرض، هواء القدس العليل يحمل أحزان المدينة، دماء الشّهداء تنثر رائحتها العطرة على المسجد الأقصى، وعلى مقبرتي باب الرّحمة واليوسفيّة، أرواح الشّهداء تجوب فضاء الوطن على أجنحة ملائكة الرّحمة.
جلس إمام المسجد قبالة أبي عودة مسندا ظهره إلى حائط المسجد، نظر إليه الإمام وسأله:
– أرى في عينيك كلاما يا أبا عودة، هل تريد أن تقول شيئا؟
تنحنح أبو عودة وقال وهو يحرّك خرزات مسبحته:
– غلبتني الأحزان يا مولانا، لكنّ هذا لا يردّ ميّتا من لحده، ولا يمنع من مواصلة الحياة، وأنا أفكّر بأرملة عودة وبطفليهما قبل أن يأخذ الله وديعته.
ردّ عليه الإمام بهدوء وثقة:
– خالقهم أولى بهم، وأدرى بمصلحتهم منك ومنهم.
أبو عودة: والنّعم بالله، لكن ما قصدته أمرا آخر.
الإمام: لم أفهم عليك.
أبو عودة: قصدت أنّ أرملة عودة لا تزال شابّة في عزّ شبابها فهي لم تكمل عامها السّادس والعشرين، وطفلاها لا يدركان ما جرى ويجري لهما.
تساءل الإمام مستغربا: ماذا تخطّط لهم؟
– أخطّط أن أزوّج وردة بعد انتهاء عدّتها لولدي عمر؛ ليرعى طفلي شقيقه.
الإمام: لا تجوز طلبة الأرملة قبل انتهاء عدّتها.
أبو عودة: أعرف ذلك، لكنّي أستشيرك.
الإمام: هذا رأي صائب إن قبلت وردة وقبل عمر أيضا.
أبو عودة: في أيّام شبابي سبق وأن شاركت بجنازة وعزاء ابن صديق من عرب السّواحرة، وسمعتهم يقولون أنّ والد المتوفّى قد ألبس عباءته لأرملة ابنه الفقيد بعد الدّفن مباشرة وبعلم وبحضور والدها وأشقّائها. ولمّا سألتهم عن المراد ممّا فعلوه أجابوني بأنّهم حجزوها زوجة ثانية لشقيقه الذي يكبره عمرا.
تفاجأ الإمام بما سمع وقال:
– هذا لا يجوز، فهذه خطبة قبل أن تنتهي العدّة الشّرعيّة، وهناك مخالفة شرعيّة أخرى وهي هل استشاروا الأرملة وشقيق الفقيد؟
أبو عودة: لا أعلم إن استشاروهما أو لم يستشيروهما. لكنّي بعد انتهاء عدّة وردة سأستشيرها وسأستشير عمر أيضا.
الإمام: العادة تحت الشّرع وليست فوقه، ومن حقّ الأرملة أن تتزوّج بعد انتهاء عدّتها، وهذا حقّ لها منحها إيّاه خالقها الذي هو أدرى بمصلحتها منها ومن غيرها.
أبو عودة: لكن هناك نساء يرفضن الزّواج بعد أن يترمّلن، خصوصا من كنّ أمّهات، فهنّ ينذرن أنفسهنّ لرعاية وتربية أبنائهنّ ويعزفن عن الزّواج.
الإمام: من لا يريد الزّواج سواء كان رجلا أو امرأة، هذا حقّه وليس من حقّ أحد أن يجبره على الزّواج، مع التّأكيد أنّ الزّواج حقّ للمرأة وللرّجل. وهو سترة وعفّة لكلا الجنسين.
أبو عودة: أعرف رجالا تزوّجوا بعدما ترمّلوا وهم في السّبعينات والثّمانينات من أعمارهم. وأعرف آخرين تزوّجوا مرّة ثانية وفي مراحل عمريّة مختلفة.
الإمام: هذا حقّ شرعيّ لهم وهبهم الله إيّاه.
صمت أبو عودة قليلا وهو يحرّك خرزات مسبحته وقال:
– الحياة الدّنيا عجيبة غريبة تحصل فيها أمور يصعب تصديقها.
سأل الإمام مستغربا:
– ماذا تقصد بذلك يا أبا عودة؟
ردّ أبو عودة بهدوء:
– سمعت من أحد الصّحفيّين حادثة عجيبة. قالها وسكت.
فسأله الإمام: كيف؟
أبو عودة: في بلدة الزّرانيق في براري القدس، ترمّلت شابّة بسيطة فقيرة في أواخر العشرينات من عمرها، وبعد انتهاء عدّتها تزوّجها أرمل عجوز في بداية الثّمانينات من عمره، وفي “مصباحنيّة ليلة الدّخلة” وجدوه متوفّى في فراشه، فدفنوه وترحّموا عليه، وهم يقولون:” انتهى أجله”، و”الموت رحمة”. بعد أسبوع من وفاته زوّجوها لرجل آخر من عائلة أخرى زوجة ثانية.
وهنا قاطعه الإمام قائلا:
– كيف زوّجوها قبل انتهاء عدّتها، هذا حرام؟
أبو عودة: هذا ما حصل. وواصل حديثه:
– وبعد زواجها بتسعة أشهر أنجبت ولدا، ولم يعامله الزّوج بحنان مثل بقيّة أبنائه من زوجته الأولى، ولاحظ من يعرفونهم أنّ هناك شبها بين هذه الولد وبين أبناء الرّجل العجوز الذي توفّي ليلة دخلته على والدة الطّفل، في حين كان الطّفل يتقرّب من أبناء الرّجل العجوز، وهم يشفقون عليه ويقرّبونه منهم، وذات يوم مرّ بهم رجل غريب ذو فراسه، وهم يجلسون في مجلس بوجود الطّفل الذي بلغ العاشرة من عمره ويحتمي بابن العجوز المتوفّى، والزّوج يهزأ ويصرخ به، فالتفت ذو الفراسة إلى أبناء العجوز المتوفّى وسأل كبيرهم:
لِمَ تسمح لهذا الرّجل بالإعتداء على أخيك؟
فردّ الأخ مستغربا ما سمعه:
– إنّه ابنه وليس أخي.
فقال ذو الفراسة: بل هو أخوك وليس ابنه.
بُهتوا ممّا سمعوه، بينما احتضن ابن المتوفّى الطّفل وقبّله على جبينه، ونهر “والده” عنه، وذهب إلى شقيقته، وطلب منها على عجل:
– اذهبي الآن إلى “صبحة” واسأليها:
هل عاشرك والدنا عندما دخل عليك ليلة دخلته عليك؟
وبعد جدال ذهبت المرأة إلى “صبحة” وسألتها، فأجابتها على استحياء:
– نعم عاشرني كزوج!
– ولِمَ تكتّمتِ على ذلك؟
فردّت صبحة: ماذا كان بإمكاني قوله؟ وهل سألني أحد عن ذلك حتّى أجيبه؟
عادت المراة وأخبرت شقيقها بما قالته صبحة، فأخذته الحميّة واستشاط غضبا، وقال لزوج صبحة:
– هذا الطّفل أخي وليس ابنك!
اختلفوا على ذلك وكادت تحصل مشاجرة لا تحمد عقباها بينهما، وهنا تدخّل ذو الفراسة وقال لزوج صبحة:
– الطّفل أخوه وليس ابنك، والشّبه بينهما يثبت ذلك، ولتتأكّدوا من صحّة قولي، فإنّ القضاء يفصل بينكما!
بعد صراعات طويلة لجأوا للقضاء، فطلب القاضي رأي الطّبّ بذلك، وعندما عملوا فحص” دي. ان. آي.” بعد أخذ عيّنات من دم الطّفل، ومن دم زوج صبحة ومن دم ابن العجوز المتوفّى، وكرّروا الفحص ثلاث مرّات، ثبت أنّ الطّفل ابن للرّجل العجوز المتوفّى، وحكم القاضي لأخيه به، بعد أن لامهم ووبّخهم لعدم انتظار صبحة حتّى انتهاء عدّتها.
بُهت الإمام ممّا سمع وقال بعد أن بسمل وحمدل:
” وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا”.
5
مرّ شهران على وفاة عودة، ووردة ملتزمة بشروط العدّة الشّرعيّة، ترتدي ملابس الحداد السّوداء، تضع منديلا أسود اللون على رأسها، لا يغطّي غرّتها، تخفي عينيها خلف نظّارة شمسيّة، ورغم عدم استخدامها “للمكياج” والعطور، إلا أنّ وجهها وضّاء كالقمر البدر، لا تخرج من بيتها إلا إلى دوامها المدرسيّ ذهابا وإيّابا إلى بيتها، في المدرسة قالت لها إحدى زميلاتها:
– “الحلو بظل حلو لو لبس كيس خيش”.
التفتت لزميلتها وسألتها:
– ماذا تقصدين بقولك هذا؟
ابتسمت زميلتها وقالت:
– أنت جميلة الجميلات يا وردة في الأحوال كلّها، وأنت تجمّلين ملابس الحداد السّوداء.
امتلأت وردة بمشاعر الرّضا من حديث زميلتها لكنّها قالت:
– لا أتمنّى لأيّ امرأة أن تضطر لارتداء الملابس السّوداء مثلي بسبب رحيل زوجها.
عقّبت زميلتها مع ابتسامة خبيثة:
– لي قريبة ترمّلت وهي في الثّلاثينات من عمرها وأمّ لثلاثة أطفال، تمنّت على مسامعنا مرّات عديدة لو أنّ الموت اختطف أحد أبنائها وترك لها زوجها.
تجهّم وجه وردة وردّت عليها:
– الموت لا يفرّق بين صغير أو كبير، ولا أحد يفدي أحدا، ومع أنّ المرء يفدي ابنه بروحه، إلا أن وفاة الابن أهون من وفاة الزّوج، فالولد يمكن إنجابه.
استغربت الزّميلة ما قالته وردة وقالت:
– والزّوج يمكن تعويضه بزوج آخر.
نزلت دمعتان من عيني وردة وقالت:
– الرّجال ليسوا سواسية، ولا بديل عن عودة الذي ملأ حياتي حبّا حتّى اعتبرته الرّجل الوحيد على الأرض، وبعد وفاته المفاجئة والصّادمة تمنّيت لو أنّني بقيت عزباء وما تزوّجت، أو لو أنّ الموت اختطفني أنا وأبقاه.
قالت ذلك وقرع الجرس لبدء حصّة دراسيّة فافترقتا.
*****
أنهت وردة دوامها المدرسيّ وعادت إلى بيتها مسرعة فطفلاها في انتظارها، هناك هبوب للرّيح فيها لسعة برد، فشهر كانون أوّل-ديسمبر- هو بدايّة هطول الأمطارالتي ترافقها برودة يعرفها أهل البلاد جيّدا، في شارع صلاح الدّين وقبالة المحكمة الشّرعيّة، مرّت بشابّين يبدوان من منظرهما أنّهما منحرفان، ملابسهما وسخة، أسنانهما ساقطة، يترنّحان من تأثير الكحول والمخدّرات، لم تعرهما أيّ انتباه، سارا بمحاذاتها، قال أحدهما:
– شو هالحلاوة؟
لم تلتفت إليه، فكثيرا ما سمعت هكذا كلام من متسكّعين في الشّوارع، لكنّ الثّاني مدّ يده اليمنى أمام صدرها في محاولة منه لإيقافها، دفعت يده بقوّة وهي تقول:
– انصرف يا سافل.
عاد وأمسك بيدها يشدّها ويصرخ في وجهها قائلا:
– مين السّافل؟
ضربته على رأسه بحقيبة يدها، وهي تشتمه، وإذا بشابّ أنيق، يرتدي بدلة وربطة عنق يخرج من محلّ مجاور، وينهال على الشّابّين بلكمات متتابعة، فأوقعهما أرضا، وانضمّ إليه رجال آخرون، فأشبعوهما ضربا، وقفت وردة أمام المحلّ المجاور؛ لتدخله طلبا للحماية إذا تطوّر الأمر، نظرت إلى الشّابّ الأنيق وإذا به المهندس سامر ابن حارة السّعديّة، استغربت ذلك فهي تعلم أنّه يعمل في السّعوديّة، اقترب منها وصافحها وهو يتساءل:
– من هؤلاء الكلاب الضّالّة؟
هرب الشّابّان والشتّائم تلاحقهما، طلب سامر من وردة أن ترافقة ليعيدها إلى بيتها، قال سامر لها:
– عظّم الله أجرك بعد المرحوم عودة، لقد عزّ علينا فراقه، لم أعلم بوفاته إلا عندما عدت يوم أمس في إجازة من عملي.
شكرته وردة على شهامته، ونجدته لها في الوقت المناسب، وعادت تسأله:
– متى عدت إلى البلاد؟
– يوم أمس، وخرجت من البيت قبل ربع ساعة لشراء بعض الأغراض.
قالت وردة باسمة:
شكرا لمحاسن الصّدف التي خرجت فيها من بيتك في الوقت المناسب.
عاد سامر يسأل:
هل كان المرحوم مريضا؟
– لم يكن مريضا، مات فجأة بجلطة قلبيّة.
– لا حول ولا قوّة إلا بالله، كان من أعزّ أصدقائي، فقد عشنا طفولتنا معا.
قالت وردة وهي تتصنّع ابتسامة باهتة:
– أعرف ذلك، فقد كنت أراكما معا باستمرار.
عادت الذّاكرة بسامر إلى أيّام دراسته الجامعيّة، كان في السّنة الثّالثة الجامعيّة عندما التحقت وردة بالجامعة، وكيف لفتت انتباهه بسحر جمالها، فأعطاها رعاية خاصّة تحت مظلّة أنّهما ابنا حارة واحدة فقد سكنت أسرتها حارة السّعديّة قبل أن تنتقل إلى شعفاط،، رسم في مخيّلته أن يتزوّجها بعد أن ينهي دراسته الجامعيّة، وعندما أنهاها حصل بواسطة أحد المعارف على عمل في السّعوديّة. عاد بعد سنتين وهو مصمّم على الزّواج منها، كانت صدمته كبيرة عندما علم أنّها تزوّجت من زميله عودة، كتم رغباته وشهواته ورضخ للأمر الواقع، وها هو يعود للمرّة الثّانية ليجدها أرملة وأمّا لطفلين، لكنّ شيئا فيها لم يتغيّر سوى أنّها ازدادت جمالا.
لم تكن مشاعر سامر خافية على وردة أثناء دراستهما الجامعيّة، فعيناه كانتا تفضحانه أمامها، وها هي النّظرات نفسها تُشعّ أمامها مرّة أخرى، شعرت بخدر في جسمها أنساها أحزانها على عودة. عندما أوصلها بيتها أحسّت وكأنّها استيقظت من غيبوبة لذيذة، فعادت تشكره على شهامته ونجدته لها، تذكّرت أنّها في فترة الحداد، لذا لم تدعه، ليكون ضيفها، وليحتسي فنجان قهوة معها، واصل طريقه إلى بيته القريب، مشى على قدميه لكنّ عقله كان يتابع خطوات وردة.
في مخدعها سرحت وردة بذكرياتها عن مرحلة الطّفولة، وكيف كان طلّاب المدارس يتسكّعون قريبا من المدارس طمعا في اختلاس نظرة على فتاة حسناء أو منها، استعادت صورة عودة وسامر وهما يعترضان طريقها دون إزعاج، بل هذا شكّل دافعا لها للإنتباه مبكّرا لأنوثتها، وأشبع غرورها أمام زميلاتها اللواتي تفوّقت عليهنّ بجمالها. ضحكت عندما تذكّرت يوما اصطدم فيه عودة بعامود هاتف منصوب على حافّة الرّصيف في شارع صلاح الدّين، وهو ينظر إليها، وكيف أمسك به سامر ضاحكا ويقول:” اللي أخذت عقلك تردّه”، ولم تنتبه لنفسها إلا عندما طلب منها ابنها ماء، نهضت لتروي ظمأ ابنها، غسلت وجهها، لم تجد سببا لتخبر حماها بما حصل معها. ترحّمت على زوجها الرّاحل، وبّخت نفسها التي قادتها لتفكّر برجل آخر وهي لا تزال في أيّام الحداد والعدّة الشّرعيّة، وأقنعت نفسها بأنّ طفليها خير لها من الدّنيا وما فيها. لكنها عادت تبتسم وهي تتساءل:
لو متّ أنا وبقي عودة على قيد الحياة، ترى كم شهرا سيصبر دون زواج بعدي، وضحكت عندما قالت:” ربنا يقطع البنات ويقطع عيشتهن”، تمنّت لو أنّها وُلدت ذكرا، لتحظى بميّزات أعطتها العادات والتّقاليد للذّكور، وحرّمتها على الإناث.
7
أنهت وردة فترة الحداد والعدّة الشّرعيّة، فقد مضى على وفاة زوجها عودة خمسة أشهر، لكنّها لا زالت ترتدي الملابس السّوداء، خلعت غطاء رأسها وصارت ترتدي قميصا أبيض اللون، تحت معطفها الأسود.
ذات يوم جمعة التقى حموها أبو عودة ووالدها في المسجد الأقصى بناء على موعد مسبق اتّفقا عليه هاتفيّا، قال أبو عودة لأبي عبد الرحمن:
– هل ستصلّي الجمعة في الأقصى غدا؟
ردّ أبو عبد الرحمن ضاحكا:
– طبعا سأصلّي الجمعة في الأقصى.
أبو عودة: ما رأيك أن تمرّ عليّ في البيت في حدود العاشرة صباحا، نحتسي القهوة ونذهب معا إلى المسجد الأقصى؟
أبو عبدالرّحمن سأل أبا عودة مستغربا:
– هل من جديد؟ هل حدث لوردة أو لأحد طفليها شيء لا سمح الله؟
أبو عودة ضاحكا: ماذا جرى لك يا رجل؟ لِمَ تسأل أسئلة كهذه؟ لا تخف، فلا يوجد إلا الخير، أريد أن أتشاور معك في أمر يهمّنا.
أبو عبدالرّحمن: توكّل على الله.
في الثّامنة من صباح الجمعة، توضّأ أبو عبدالرّحمن وخرج من بيته في شعفاط -الذي انتقل للسّكن فيه قبل عامين- سيرا على الأقدام قاصدا بيت أبي عودة، فالثّواب على قدر المشّقة. وصل في حدود السّاعة التّاسعة والنّصف، استقبله أبو عودة بترحاب ومازحه قائلا:
– يبدو أنّك عدت شابّا.
أبو عبد الرّحمن مازحا:
– طبعا أنا لا أزال بصحّتي وعنفواني، ولم أصبح عجوزا مثلك.
عندما سمعت وردة صوت والدها، ارتدت “روْبا” فوق منامتها، وضعت منديلا على رأسها، أعدّت القهوة، حملت الصّينيّة بيدها اليمنى، احتضنت طفلتها بيدها اليسرى، لحق بها طفلها يبكي، وضعت الصّينيّة على طاولة الوسط، مدّت يدها لأبيها تصافحه وهي تنحني عليه تقبّل وجنتيه، التقط طفلتها وضمّها إلى صدره، قبّل يديّ الطفلة يناغيها بفرح وابتسامة سعادة ترتسم على شفتيه، مدّ يده الأخرى لحفيده سامي لكنّه احتمى بوالدته، ولم يقترب منه.
احتسوا القهوة وهم يتمازحون. مكثوا في البيت حتّى الحادية عشرة، خرج أبو عودة وأبو عبدالرّحمن يقصدان المسجد الأقصى. الطّقس بارد في شهر شباط-فبراير- لكن المطر لا يتساقط. اقترح أبو عبدالرّحمن أن يؤدّيا الصّلاة في المسجد المروانيّ طلبا للدّفء.
سأل أبو عبدالرّحمن: ما الأمر الذي تريد أن نتباحث حوله يا أبا عودة.
تنهّد أبو عودة وقال:
بعد الصّلاة سيغادر كثيرون المسجد، عندها سننتحي في زاوية خالية وسنتحدّث، فمن غير اللائق أن نتحدّث أثناء خطبة الجمعة.
بعد الصّلاة ومغادرة المصلّين قال أبو عودة لأبي عبدالرّحمن:
ما رأيك أن نستر وردة مع ابننا عمر؟ وبهذا نصطاد عصفورين بحجر واحد، فعمر يكبر وردة بعام واحد، يتزوّجان ويبقى الطّفلان في حضانة والدتهما وعمّهما.
حوقل أبو عبدالرّحمن وقال:
– فاجأتني بكلامك هذا، لكن يبقى الرّأي لهما، إن وافقا فأنا “لا أزيد الملح إلا ملاح”.
أبو عودة: أنا طرحت الفكرة على عمر يوم أمس، فلم يقل شيئا، والسّكوت علامة الرّضا، وتردّدت بطرح الفكرة على وردة مع أنّها مثل ابنتي، في النّهاية قرّرت أن أترك لك الأمر فأنت أبوها، وسأترك الأمر لك؛ لتطرحه على ابنتك، ونسأل الله التّوفيق.
أبو عبدالرّحمن: الزّواج قسمة ونصيب، ونسأل الله التّوفيق، سأتّصل بها كي تزورنا في بيتنا، وسأطرح الموضوع عليها.
أبو عودة: على بركة الله.
عاد كلّ منهما إلى بيته.
في رأس أبي عبد الرّحمن تتصارع هواجس مقلقة، حتّى صار يقلّب يديه حائرا غير قادر على حسم الأمور، مرّ به رجل يعرفه، أراد أن يصرفه عمّا يشغله فقال له:
– وحّد الله يا رجل “نصّ الألف خمسميّه.”
التفت إليه أبو عبدالرّحمن وقال: “ربّك بعين”.
عندما وصل أبو عودة بيته طلب من زوجته أن تأتيه بطفلي المرحوم عودة ليداعبهما، وفي ذهنه أن يشبع غريزة أبوّته التي لا تشيخ.
ردّت عليه أمّ عودة بهدوء:
وردة ذهبت لزيارة أهلها واصطحبت الطّفلين معها.
سأل أبو عودة زوجته مرّة أخرى:
– أين عمر؟
– لا أعرف.
عندما وصل أبو عبد الرّحمن بيته في شعفاط تفاجأ بوجود وردة، ابتسم مرحّبا بها وبطفليها، صافحها وقبّل وجنتيها من جديد، مدّ يده ليصافح سبطه سامي،
اقترب سامي منه ووالدته تحضّه على ذلك، أمسك الجدّ يدي سبطه وقبّلهما وهو يقول مبتسما:
– في زماننا كنّا نقبّل يد مَنْ هم أكبر منّا عمرا من أقاربنا، وفي شيخوختنا صرنا نقبّل أيدي أحفادنا ونطلب رضاهم!
ضحكت وردة وقالت لأبيها:
– عندما يكبر سامي قليلا ويصير قادرا على تمييز الأمور سيقبّل يديك ووجنتيك.
– لا تعوّديه على تقبيل الأيادي يا ابنتي، بل ربّيه على احترام الآخرين. خصوصا من هم في جيل آبائه وأجداده، والمثل يقول” بوس اليدين ضحك على اللحى.”
ضحكت وردة وقالت:
أتدري يا أبي، الحياة في القدس القديمة رتيبة، فالمرء لا يجد مكانا يجلس فيه سوى”حوش البيت”، أو أن يذهب إلى ساحات المسجد الأقصى. حياة الرّيف جميلة. مع أنّ بلدة “شعفاط” لم تعد ريفا، بل أصبحت حارة من حارات المدينة، تحيط بها المستوطنات اليهوديّة وتشوّه براءتها.
وأضافت: أفكّر أن أمضي عندكم أسبوعا كاملا طلبا للرّاحة.
ردّ الأب سعيدا: أهلا وسهلا بكم.
سألتها والدتها: وعملكِ؟
ردّت وردة: سأذهب إلى مدرستي كالمعتاد، وسأبقي سامي وفاطمة تحت رعايتك حتّى أعود إليكم بعد الدّوام.
قال أبو عبدالرّحمن: البيت بيتك وبيت أولادك، ابقوا عندنا كما تشاؤون، وهذه فرصة كي يتعرّف طفلاك على جدّيهما وأخوالهما جيّدا.
بعد صلاة العشاء، جلس أبو عبدالرّحمن وزوجته وابنته يتسامرون، بين الجدّ والهزل قال أبو عبدالرّحمن:
– الدّهر دوّار، و” لا يبقى على ما هو إلا هو”.
التفتت إليه زوجته وسألته:
– ماذا تقصد؟
أقصد أنّ الحياة متقلّبة كما الضّغط الجوّيّ، لا أحد يعلم ماذا سيجري له بعد دقيقة من الزّمن.
ضحكت وردة وقالت تمازحه:
– “فسّر الماء بعد الجهد بالماء”.
أسند أبو عبدالرّحمن رأسه على يده اليمنى التي يتّكئ بها على طرف الكنبة وقال مخاطبا ابنته وردة:
– أنا لا أفسّر الماء بالماء يا بنيّتي، لكنّي قلق عليك وعلى طفليك.
شعرت وردة بكسوف عندما سمعت كلام والدها، انتفضت كالملدوغ وقالت:
– أبي حبيبي…أنا لا أسخر من كلامك لا سمح الله، لكنّي أحببت أن أمازحك، ويبدو أنّي لم أوفّق بكلامي، فسامحني على غبائي، وقل لي ما يقلقك عليّ وعلى طفليّ؟
– ما عليك يا بنيّتي، فأنا لا أغضب منك، بل أنا حزين على ما جرى لك، فأن تترمّلي وأنت في هذا العمر مأساة كبرى، والمأساة الأكبر وجود طفلين يتيمين بهذا العمر المبكر.
حاولت وردة أن تواسي والدها فقالت:
– هذه سنّة الحياة يا أبي، الموت حقّ على الأحياء كلّهم، وهذا قدرنا ولا اعتراض على ما أراده الله لنا.
سحب أبو عبدالرّحمن شهيقا طويلا، انتفخت رئتاه وعلا صدره، التفت إلى زوجته وإذا دموعها تسيل على وجنتيها وهي تنيم حفيدتها فاطمة في حضنها، وسألها:
– أليست الرُّملة نكبة؟
لم تجبه واكتفت بأن حملت طفلتها وغادرت بها إلى سريرها.
عاد أبو عبدالرّحمن يسأل ابنته وردة:
– كيف ستتدبّرين أمرك يا بنيّتي بعد وفاة عودة؟ كيف ستعيشين بقيّة حياتك؟ هل ستبقين في بيتك أم ستعودين للعيش معنا؟
أجابت وردة على أسئلة أبيها ببرودة أعصاب وقالت:
– لا تقلق يا أبي، فأنا لست الأرملة الأولى، ولن أكون الأخيرة، وسأعيش حياة عاديّة مثل بقيّة البشر.
صمت أبوها قليلا، وعاد يقول لها:
– ما رأيك إذا تقدّم سلفك عمر للزّواج منك؟
ابتسمت وردة وقالت:
– الآن أدركت سبب اتّصال العمّ أبي عودة بك يوم أمس، وسبب قدومك إليه صباح اليوم.
سمعت أمّ عبدالرّحمن ما قاله زوجها، فهرولت إلى الصّالون وقالت:
– عمر شابّ وسيم مؤدّب لطيف، تتمنّاه البنات، وإذا تقدّم لخطبة وردة وافق دون استشارة أيّ إنسان، فنحن نعرفه ونعرف أهله، و”جمل مطرح جمل برخ”.
التفتت وردة لأمّها بنظرة عتاب دون أن تتفوّه بكلمة واحدة، لكنّ أباها نهرها وقال لها: اهدئي، دعينا نسمع رأي وردة، وبعدها سنتناقش في الموضوع.
اعتدلت وردة في جلستها وسألت أباها:
– هل طلبني العمّ أبو عودة لابنه عمر، أو هل كلّمك عمر حول الموضوع؟ أم هو مجرّد اقتراح منك؟
احتار أبو عبدالرّحمن بسؤال ابنته فأجابها متسائلا:
– وما الفرق في ذلك؟
ردّت عليه وردة بلهجة قويّة:
الفرق كبير جدّا.
حوقل أبوها وقال:
أبو عودة تكلّم معي في الموضوع وطلب منّي أن أسمع رأيك.
سألت وردة ساخرة:
– لِمَ لم يستمع لرأي ابنه قبل أن يتكلّم معك؟
أبوعبد الرّحمن: تكلّم مع ابنه كما قال لي، وعمر بقي ساكتا، فهذه علامة الرّضا، وأريدك يا ابنتي أن تفكّري جيّدا بالموضوع، وخذي القرار الذي ترينه في صالحك وصالح طفليك؟
قالت وردة بثقة:
– الموضوع لا يحتاج تفكيرا، فأنا لا أريد الزّواج من عمر أو من غيره.
أمّ عبد الرحمن: الزّواج سنّة الحياة، وأنت لا تزالين في ريعان شبابك، من حقّك أن تتزوّجي مثلك مثل بقيّة النّساء، وعمر شاب يناسبك.
بعد لحظة صمت قصيرة قالت وردة لوالديها:
– أرجو أن تفهماني يا أقرب النّاس إلى قلبي وعقلي، قلت لكما أنّني لا أرغب بالزّواج، وحتّى لو كانت لي رغبة بالزّواج لما تزوّجت عمر! مع أنّ عمر شابّ رائع لا عيب فيه، لكنّني أتعامل معه مثل أخي تماما، ومنذ زواجي من عودة وعمر يبادلني الشّعور نفسه، فهل تتزوّج الفتاة أخاها؟
ردّ أبوها عليها بهدوء:
– لكنّ عمر ليس أخاك، وبعد وفاة عودة وانتهاء عدّتك الشّرعيّة يحقّ لعمر ولأيّ شخص غيره أن يطلبك للزّواج. فهل تحرّمين على نفسك ما أحلّه الله لك؟
– وهل فرض الله على المرأة أن تتزوّج غصبا عنها؟
احتار والدها بما سيقوله لها فقال:
– خذي وقتك في التّفكير، ولا تستعجلي الأمور.
حسمت وردة الأمر بقولها:
– قلت لكم لن أتزوّج من عمر أو من غيره في هذه المرحلة، وإن جاء يوم وقرّرت الزّواج فيه، فلن أتزوّج من عمر؛ لأنّه مثل أخي، وبما أنّني فهمت من كلامك يا أبي أنّ عمر قد التزم السّكوت عندما عرض عليه والده الزّواج منّي، فإنّني لن أعود إلى البيت بجوارهم خوفا من الاحتكاك، وسأبقى عندكم، وإن كنتم ترفضونني، فسأستأجر بيتا لي ولطفليّ.
ضرب والدها كفّا على كفّ، حوقل وقال:
– “جينا نكحلها خلعنا عينها”…كما تشائين يا وردة، البيت لك ولطفليك، واعتبرينا ضيوفا عندك.
6
لم يعد أبو عبدالرّحمن قادرا على التّفكير السّليم، فهو حائر بين حرصه على مصلحة ابنته وردة وطفليها، -والتي يرى زواجها مرّة أخرى مصلحة عليا لها-، وبين احترام رغبات هذه البنت، التفت لزوجته وقال لها:
– أظنّك تعرفين قصّة أبو العناتر؟
صمتت قليلا وسألته:
– من أبو العناتر هذا؟
أبو عبدالرّحمن: صالح المسعود ابن عيشه أمّ خنانه.
فركت أمّ عبد الرحمن يديها، تصنّعت ابتسامة وقالت:
– آه تذكّرته، لِمَ تقول عنه أبو العناتر؟ فكل أهل البلدة يعرفونه بـ…ابن أمّ خنانه؟
– هذا الرّجل فقير صحّة وعقل، يمشي متمايلا كشجرة تعصف بها الرّياح، يعاني من أمراض عديدة، إلا أنّه يدّعي البطولة الجسديّة دائما، فسمّاه من يخالطونه” أبو العناتر”، تيمّنا بعنترة بن شدّاد، وإن كان من باب السّخرية؟
– ” ما لنا وما له؟” ما الذي ذكّرك به؟
– عندما توفّيت زوجته قبل حوالي خمس سنوات، كان في السّتين من عمره، وله ولدان وابنتان، كلّهم متزوّجون، لم يقصّر أبناؤه معه في شيء، لكنّه قبل مرور أربعين يوما على وفاة زوجته خطب امرأة من جيل بناته وتزوّجها، وكان يردّد دائما: لا ينفع الرّجل ولد ولا بنت، ولا بديل عن الزّوجة.
فقالت أمّ عبدالرّحمن:
– والله لو ترمّلت امرأة في بلادنا في مثل عمره، وطلبت الزّواج “لعملوا لها طنّه ورنّه وفضحوها بين النّاس.”
أبو عبدالرّحمن: من حقّ المرأة الأرملة أن تتزوّج مثلها مثل الرّجل.
فالمرأة بحاجة إلى زوج مهما بلغت من العمر، وقد سمعت حكاية تقول:” أنّ امرأة عجوزا أصابها الهرم، ولم تعد قادرة على المشي، وذات يوم حملها ابنها على ظهره ليأخذها إلى طبيب، فمرّ به شيخ حكيم تقيّ، فسأله الشّيخ بعد أن طرح عليه السّلام:
– من هذه المرأة؟
فرد الابن: هذه أمّي.
فقال له الشّيخ آمرا: دبّر لها زوجا وستشفى.
استغرب الابن ما قاله الشّيخ فردّ عليه:
– اتّق الله يا رجل، فلا مجال للمزاح بهكذا أمور، فهل امرأة عجوز مريضة بحاجة إلى زوج؟
فلكزته والدته على مؤخّرة رأسه وقالت له:
– اخرس…. ولا تتذاكى واسمع كلام الشّيخ الحكيم.
ضحكت أمّ عبدالرّحمن من الحكاية. لكن زوجها قال:
ما بال ابنتكِ وردة تعزف عن الزّواج بعد انتهاء عدّتها الشّرعيّة ومرور أكثر من خمسة أشهر على وفاة زوجها، مع أنّها لا تزال في السّادسة والعشرين من عمرها؟
أمّ عبدالرّحمن: دعها تغسل أحزانها، والوقت كفيل بأن ينسيها المرحوم عودة.
تنهّد أبو عبدالرّحمن تنهيدة عميقة وقال:
– أتتها فرصة لا تعوّض، وإذا بقيت مصرّة على رفض الزّواج من عمر، فعشرات النّساء يتمنّينه، ولن يجد حرجا من الزّواج متى أراد ذلك، ورحم الله عودة الذي أعتبره ابني مثل عبد الرّحمن وزيادة، فلو بقي على قيد الحياة وماتت وردة لتزوّج أخرى قبل أن يجفّ تراب قبرها!
7
في غرفتها تمدّدت وردة على جانبها الأيمن، احتضنت طفلتها فاطمة، ألقمتها ثديها، سامي خلف فاطمة، يد وردة اليسرى تحيط بهما، دموعها تنساب على وجنتيها، سبحت في بحر ذكرياتها، عادت إلى مرحلة دراستها الثّانويّة، حين كان عودة وسامر يترصّدانها في زقاق الحارة، وفي شارع صلاح الدّين، كانت وزميلاتها يتظاهرن بأنّهنّ لا يكترثن بهما، وكلّ منهنّ تحسب أنّ سهام نظرات وكلمات الإعجاب موجّهة لها دون غيرها، وبهذا كلّ منهنّ راضية عن نفسها لدرجة الغرور، فيتظاهرن بحياء العذارى الذي يثير جنون شهوات الفتيان، عندما التحقت بجامعة بيرزيت، كانت أحلى مفاجأة، مرّت بعودة كما أخبرها لاحقا، أبدى اهتماما خاصّا بها، صار دليلها في أروقة الجامعة. صديقه سامر حمل المشاعر ذاتها، ووجد لنفسه الأولويّة بمرافقتها لأسباب لا يعرفها هو نفسه، فشعرت أنّها مدلّلة، كانت “مثل الجمل الذي يرعى أعشابا وعيناه على أعشاب أخرى”، لم تنجرف مع أيّ منهما، فقد وضعت حدودا لنفسها لا تتجاوزها، وفي نفسها أن تحظى بقلب واحد منهما؛ لتكون زوجة له.
مرّت سنوات الدّراسة سريعا كما تمرّ سنوات العمر كلّها، فالمرء يتعب ويشقى، يفرح ويغضب، يسعد ويعاني، يبكي ويضحك ولا ينتبه لنفسه إلا وقد أفنى عمره دون أن يشعر بذلك.
قادتها الذّكريات إلى أيّام خطبتها وزواجها من عودة، فسبحت في بحر سعادة لا نهاية له، اقتنعت بأنّها حقّقت أحلامها وأنّ عودة الرّجل الوحيد على الأرض، أنجبت طفليها فحقّقت أمومتها التي زادتها سعادة أشعرتها بمتعة رحلة الحياة، ففاجأها الموت باختطاف روح عودة في غفلة لم تخطر لها على بال. زادت التصاقا بطفليها واقتنعت بتقلّبّات الحياة، فغفت دون إرادة منها وهي تفكّر بكلام أبيها حول ضرورة زواجها ثانية.
*****
ذات يوم عندما انتهى دوامها المدرسيّ، وبينما هي تهمّ بأن تستقلّ سيّارتها؛ لتعود إلى بيت والديها في شعفاط حيث تقيم، وإذا بإحدى زميلاتها أثناء دراستها في المرحلة الثّانوية تركض نحوها وتناديها بصوت مرتفع، أخذتها بالأحضان وسألتها:
– هل تذكرينني؟
ردّت عليها وردة ضاحكة:
– وهل يخفى القمر يا وسيلة؟ فقد كنت أكثر طالبة مشاغبة في الصّفّ.
ضحكت وسيلة، وأصرّت على وردة أن تحتسيا فنجاني قهوة في “الكولونيّة الأمريكيّة”، وهناك أبدت تعاطفها معها بسبب وفاة زوجها، فردّت عليها وردة بهدوء:
– شكرا لك وكلّنا سنموت حتما.
سألتها وسيلة عن مخطّطاتها الحياتيّة القادمة بعد أن استعادت معها ذكرياتهما عن أيّام الدّراسة، وعن بعض زميلاتهما فمنهنّ من تزوّجن، ومنهنّ من أكملن تعليمهنّ الجامعيّ وتزوّجن، ومنهنّ من تزوّجت ورافقت زوجها في عمله خارج الوطن، ومنهنّ من تزوّجت وتطلّقت، ومنهن من لا تزال عازبة.
ردّت عليها وردة باقتضاب:
لا مخطّطات عندي للأيّام القادمة، وكلّ ما يهمنّي الآن هو العناية بطفليّ وتربيتهما تربية سليمة.
قالت وسيلة وهي تضحك:
– في الواقع لقد اغتبتك الليلة الماضية بالخير.
تفاجأت وردة وسألت:
– شكرا لك…جميل أن نتذكّر بعضنا بعضا، مع من اغتبتِني؟
ضحكت وسيلة وقالت:
– لي ابن عمّ يعمل “ميكانيكي” سيّارات، عمره اثنان وأربعون عاما، صحّته مثل الحديد، خلوق ومهذّب، توفيّت زوجته قبل ثلاثة أسابيع، وتركت له ثلاثة أولاد وبنت، أكبرهم في الخامسة عشرة من عمره، ويبحث عن زوجة جديدة، فاقترحتُ عليه بوجود العائلة أن يتزوّجك وأن يضمّ طفليك إلى أبنائه؛ لتعيشوا حياة هانئة. بعد أن وصفتُ له جمالك وحسن أخلاقك، وبعد نقاش مطوّل وافق أن يتعرّف عليك، لهذا جئتك إلى المدرسة لأعرض الأمر عليك، ونرتّب لقاء بينكما بحضوري، ونسأل الله التّوفيق.
اختلفت ملامح وجه وردة، احمرّت وجنتاها، عقدت حاجبيها وسألت بلهجة مستنكرة:
– هل شكوتُ لك أو لغيرك أنّني أبحث عن زوج؟
حملت حقيبتها وأضافت: عن إذنك…. طفلاي في انتظاري.
استغربت وسيلة ردّة فعل وردة وقالت:
– إهدئي يا بنت النّاس، فأنا ما فعلت ذلك إلا من أجل مصلحتك.
خرجت وردة غاضبة وهي تقول:
شكرا لك، فأنا لا أريد الزّواج ثانية.
لحق بها كلام وسيلة كالرّصاص:
ابن عمّي سيتزوّج فتاة عذراء أجمل وأصغر عمرا منك، وعجرفتك هذه ستكون وبالا عليك.
التفتت إليها وردة ولم تقل شيئا، لكنّ وسيلة فهمت من نظراتها أنّها سمعت ما قالته.
تمتمت وسيلة وقالت: صدق من الله:”خيرا لا تعمل شرّا لا تلقى.”
سمعها نادل مرّ من ورائها فقال:
– يا بنت الحلال، “اعمل خير وارمي في البحر.”
التفتت إليه غاضبة وقالت:
– وما شأنك أنت؟
– عفوا أنا لم أتدخل لكني سمعت ما قلته بالصّدفة و” ما فيه جُمرك على الكلام.”
8
انطلق صراخ وضجّة في الحارة، علا ونين سيّارة الإسعاف التي دخلت الحارة، بوق سيّارة شرطة يوقظ النّائمين، أطلّ سكّان الحيّ من شرفات منازلهم يستطلعون ما يجري، أطلّت نساء بملابس النّوم وقد أخذتهنّ المفاجأة، وما لبثن أن عدن للغرف في بيوتهنّ يسترقن النّظر من داخل النّوافذ، حوقل أبو عبدالرّحمن وردّد أكثر من مرّة:” اللهمّ اجعله خير”، الصّوت ينطلق من الحارة الوسطى، يبدو أنّ أبا غانم قد توفّاه الله، التفت إلى ابنه عبدالرّحمن وطلب منه أن يذهب ليستطلع ما يجري.
ذهلت وردة عندما سمعت ما جرى على لسان أخيها عبدالرّحمن، الذي قال عندما عاد” قلّة العقل بتعمل مصايب”.
سأله أبوه وهو يستعجل معرفة ما يجري:
– ماذا جرى يا ولد؟ هل مات أحد؟
قال عبدالرّحمن: ما جرى لا يُصدّق! سلفات المسكينة خديجة الأحمد هاجمنها بالهراوات، على كلّ أجزاء جسمها، و”يا طبّال حطّ في طبلك”، ووسط صراخها وصراخ أطفالها هرع الجيران إليها، فوجدوها بين الحياة والموت، فاتّصل أحدهم بالهلال الأحمر، وجاءت سيارة الإسعاف ودوريّة شرطة، نقلوها إلى مستشفى المقاصد. بعض النّساء قلن أنّها ماتت، وبعضهنّ قلن بأنّها كانت في حالة إغماء، بعد أن شاهدنها تتنفّس عندما قدّم لها المسعفون الإسعافات الأوّليّة…. شاهدتُ بركة من الدّماء أمام بيتها.
أبو عبدالرّحمن يسأل مستنكرا:
– هل عرفت أسباب الهجوم على هذه المسكينة؟
عبدالرّحمن: عندما وصلتُ رأيت حماتها تشتم زوجات أبنائها، وتصرخ بوجوههنّ وتقول:” يا قليلات الأصل، والله “كندرتها” أشرف منكن.” والشّرطة استدعوا شرطيّات لاعتقالهنّ بعد أن قيّدوا أيدي ثلاثتهنّ، وحماتهنّ تقول لهم: احبسوهن والعنوا اللي خلّفوهنّ.
استمعت وردة حائرة لحديث أخيها عبدالرّحمن، وضعت يديها على صدرها وكفّيها تحت إبطيها، لم تقل شيئا لكنّ ملامح وجهها تتغيّر من لون لآخر مع كلّ كلمة يقولها شقيقها، في حين قالت والدتها:
– هذا ما توقّعته!
سألها ابنها عبدالرّحمن:
– ماذا توقّعتِ يا أمّي؟ هل كنت على علم بأنّهنّ سيهجمن عليها بهذه الوحشيّة؟
– أعلم منذ وفاة زوجها قبل حوالي سنتين، وسلفاتها يخفن على أزواجهنّ منها، وكلّ منهنّ تخاف أن يتزوّجها زوجها؛ ليرعى أبناء أخيه. وزادت مخاوفهنّ مع مرور الوقت وهي مقيمة في بيتها بجوارهنّ، ولم تعد إلى بيت والديها؛ لتعيش معهما.
قال أبو عبدالرّحمن: غيرة النّساء قاتلة، وعقلهنّ صغير! لو أراد أحد أسلافها الزّواج منها، ووافقت هي على ذلك، فلن يمنعهم أحد، وحتّى لو جاءها خاطب من غير أسلافها وقبلت به فهذا حقّها.
شعرت وردة بجرح عميق في قلبها، لم تستطع كبح جماح دموعها التي سالت على وجنتيها رغما عنها، سألها طفلها وهو في حضنها وينظر إلى وجهها:
– ماما ليش بتبكي؟
ردّت عليه وهي تكاد تختنق بدموعها:
– أبكي على حالي.
لم يفهم طفلها ولا غيره سبب بكائها، لكنّ شقيقها عبدالرّحمن سألها:
– مثلما سأل سامي ابنك…لِمَ تبكين؟ وما شأنك بما جرى لخديجة؟
لم تجبه، واكتفت بأن حملت طفلها وعادت إلى غرفة نومها، أغلقت الباب خلفها، حمدت ربّها بأنّ سلفيها عازبان، وإلا لجرى لها ما جرى لخديجة بعد وفاة زوجها، شعرت براحة تامّة لأنّها رفضت الزّواج من سلفها عمر مع أنّه عازب.
*********
لم تقاطع وردة أسرة زوجها الرّاحل منذ أن انتقلت للإقامة مع والديها في شعفاط، ففي كلّ يوم جمعة تصطحب طفليها ووالدها الذي يحرص على تأدية صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، لزيارة حمويها، فهي على قناعة تامّة بحقّهما في مشاهدة حفيديهما، ومن حقّ الطّفلين أن يبقيا على تواصل مستمرّ مع أسرتهما، يصلون البيت في حارة السّعديّة في حدود العاشرة صباح كلّ جمعة، يحتضنهما عمّاهما عمر وسليمان فور وصولهما، لكنّهما يجدان الدّفء في حضني جدّهما وجدّتهما. يمضون ووالدتهم سحابة اليوم في بيت حارة السّعديّة.
صادف أن جاء مرور عام على وفاة عودة يوم جمعة، لم تنم وردة تلك الليلة، فطيف زوجها الرّاحل يحوم حولها، استعادت ليالي الفرح والسّعادة التي عاشتها معه، أمضت ليلتها تبتسم تارة، وتبكي تارة أخرى عندما تصحو من أحلام يقظتها، في الصّباح قرّرت أن لا تزور بيت حمويها، فهي لا تحتمل أن تدخل البيت الذي أمضت سنوات زواجها وسعادتها فيه، وفارقت أيضا عودة فيه، يبدو أنّ أحدا غيرها -كما يبدو-لم ينتبه لهذه الذّكرى الحزينة. عندما سألها والدها بعفويّة:
– متى سنخرج يا وردة؛ كي لا تفوتني صلاة الجمعة؟
ردّت عليه بصوت متهدّج.
– لن أقوى على الخروج هذا اليوم يا أبي، فأنا مريضة.
أبوها: مِمَّ تعانين؟ منذ ساعات الصّباح الأولى وأنا أسمع صوتك وصوت أبنائك، هل تحتاجين عيادة الطّبيب؟
أجابت ورد وهي تدخل غرفتها:
لا داعي لذلك.
بعد صلاة الجمعة هاتفها حموها:
– لِمَ لَمْ تزورينا أنت والأولاد هذا اليوم كالعادة؟
ردّت عليه بصوت ضنين:
– أنا مريضة يا عمّ.
– سلامتك…سأرسل عمّهما عمر ليحضرهما، وسيعيدهما إليك في ساعات المساء.
وردة: أهلا وسهلا.
9
في اليوم التّالي وأثناء دوامها المدرسيّ، وفي حصّة فراغ، مرّ بها زميلها شادي، وهو واحد من ثلاثة معلّمين يدرّسون في المدرسة، أمّا باقي الهيئة التّدريسيّة فهنّ نساء، للمعلّمات غرفتهنّ الواسعة، وللمعلّمين الثّلاثة غرفة أيضا.
الأستاذ شادي مدرّس مادة التّاريخ رجل في بداية الخمسينات من عمره، رجل هادئ، ملتزم بواجباته الدّينيّة، يحرص على ارتداء بدلة وربطة عنق بشكل دائم، يعتمر الكوفيّة والعقال، يبدو ذا مهابة، قال لها بعد أن طرح عليها السّلام:
– الحصّة الرّابعة عندي وعندك فراغ، ما رأيك أن تمرّي عليّ في غرفة المعلّمين، فهناك قضيّة مهمّة سأبحثها معك.
ردّت عليه وردة: حاضر.
عندما قرع الجرس بعد انتهاء الفسحة الأولى، توجّهت وردة إلى غرفة المعلّمين، وجدت الأستاذ شادي قد جّهز فنجاني قهوة، جلست قبالته على الطّاولة، وضع فنجان قهوة أمامها وهو يرحّب بها، تناولت فنجانها وشكرته، بعد أن ارتشفت منه رشفة واحدة سألته:
– خيرا يا أستاذ شادي؟
بسمل وحمدل وحوقل وهي يحرّك خرزات “مسبحته” وقال وهو يطأطئ رأسه:
– يعلم الله كم أنا أعزّكِ وأحترمكِ وأقدّرك.
شكرته وردة وهي تقول:
– هذا شعور متبادل يا أستاذ، وأنا أعتبرك بمثابة أبي أو أخي الكبير.
اختلفت ملامح وجهه، تأتأ برهة وقال:
– لكنّي لست أخاك ولا أباك.
” لعب الفار في عبّ وردة” فسألت:
– ما علينا ماذا تريد منّي؟
قال الأستاذ شادي والورع باد على وجهه:
– أنت شابّة أنعم الله عليك بجمال لافت، ويوم أمس تذكّرت أنّه مرّ عام على وفاة زوجك المرحوم عودة.
وردة: نعم صحيح-الله يرحمه-.
ابتسم الأستاذ شادي وقال هناك حكاية تراثيّة سأحكيها لك:
وردة: تفضّل.
بينما كان عمر بن الخطّاب يسير في المدينة ليلا سمع امرأة تنشد:
تطاول هذا الليل وازورّ جَانِبُه ** وأرّقَني ألا ضجيعَ ألاعبُه
ألاعبه طورًا وطورًا كأنّما ** بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبُه
يُسَرُّ به من كان يلهو بقربه ** لطيف الحشا لا يحتويه أقاربُه
فوالله! لولا الله لا شيء غيره ** لنُقِّض من هذا السرير جوانبه
وعندما علم عمر أنّ زوج هذه المرأة مع جيوش الفتح في بلاد الشّام، ذهب رضي الله عنه إلى ابنته حفصة وسألها قائلا:
أي بنيّة كم تصبر المرأة عن زوجها؟
” فقالت له: “ستّة أشهر أو أربعة” وفي رواية أخرى “شهرا واثنين وثلاثة وفي الرّابع ينفد صبرها”
فقال عمر:”لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك.”
وضعت وردة يدها على خدّها مذهولة ممّا تسمع وسألت:
– ما لنا ولها؟
ردّ الأستاذ شادي: لا تستعجلي الأمور، فأنا رويت لك هذه القصّة لأنّ في التّاريخ عبرة.
سألت وردة بسخرية:
– ما العبرة في ذلك؟
تعوّذ الأستاذ شادي بالله من الشّيطان الرّجيم وقال:
– فكّرت كثيرا بك وبمصيرك بعد أن ترمّلت، وقلت في نفسي بأنّه من غير اللائق أن يضيع شبابك وجمالك سدى، فقرّرت أن أعرض عليك أمرا لمصلحتك، وأسأل الله ثواب ذلك.
تصنّعت وردة ابتسامة وسألت باستهزاء:
ما الثّواب الذي ستجنيه بسببي؟
قال الأستاذ شادي بهدوء:
لا تسخري يا وردة من كلامي، وانتظري حتّى تسمعي زبدة الاقتراح.
سخرت وردة من كلامه مرّة أخرى وقالت:
أنا في انتظار سماع زبدة جواهرك!
حوقل الأستاذ شادي وقال:
لا حياء في الدّين، أنا أعرض عليك الزّواج، فإن وافقتِ سأطلبك من والدك، وسأشترط أن تبقي مقيمة في بيت والديك، وأن لا تنجبي فلديك طفلان يشبعان غريزة الأمومة عندك!
ضحكت وردة وقالت تستهزئ به وهي تغادر الجلسة:
شكرا لك فأنا لا أريد الزّواج بعد المرحوم عودة، ولا تنس أنّ ابنتك من جيلي، فابحث عن ثواب الزّواج من أخرى عند غيري.
فقال لها شادي غاضبا:
صدق المثل القائل:”خير لا تعمل شرّ ما يجييك.”
ردّت عليه وردة بلهجة فيها عتاب:
يا خسارة “حسّبنا الباشا باشا طِلْع الباشا زلمة.”
10
في غرفة المعلّمات التقطت معلّمة الصّحيفة اليوميّة من المراسلة، التي تُحضرها يوميّا للمعلّمات، حسب تعليمات اللجنة الاجتماعيّة التي اعتادت على شراء الصّحيفة يوميّا للمعلّمات، وهذا تقليد متوارث سنّته لجنة المعلّمات الاجتماعيّة منذ بداية السبعينات، وورثته اللجنة الحاليّة عنها، نظرت المعلّمة عناوين أخبار الصّفحة الأولى، وإذا بها تشهق مصعوقة من هول خبر صغير جاء في نهاية العمود الثّامن، ” قتْلُ أمّ أمام أطفالها الأربعة”! وضعت يدها على صدرها وكأنّها تحمي قلبها الذي ازداد خفقانه من الهروب، صرخت كالملدوغ وهي تلقي الصّحيفة أمامها على الطّاولة، التقطت زميلة أخرى الصّحيفة وسط تساؤلات الجميع:
– كفى الله الشّرّ، ماذا جرى لك؟ هل أنت بخير؟
لم تستطع الكلام لكنّها أشارت لزميلتها بإصبعها على خبر الجريمة.
جاء في الخبر: تحقّق الشّرطة بمقتل السّيدة “و. ح. 32 سنة” رميا بالرّصاص في قرية الزّرانيق، على خلفيّة ما يسمّى”شرف العائلة”!
حوقلت المعلّمات الموجودات، والحزن باد على وجوههنّ. وبدأت التّعليقات.
قالت إحداهن: من تفرّط بشرفها تستحقّ الموت.
ردّت عليها وردة غاضبة:
– كيف عرفتِ أنّها فرّطت بشرفها؟
تساءلت أخرى: لعن الله شرف المجرمين القتلة إن كان عندهم شرف.
قالت معلّمة أخرى: ” ياما في السّجون مظاليم!”
قالت أخرى: نساء كثيرات قُتلن بناء على إشاعات كاذبة، وقد أثبت الطّبّ الشّرعيّ أنّ عددا من الضّحايا قُتلن وهنّ عذراوات.
تعوذّت معلّمة التّربية الإسلاميّة بالله من الشّيطان الرّجيم وبسملت وقالت:
” وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.”
سألت معلّمة شابّة غاضبة: هل سمعتْ واحدة منكنّ عن مقتل رجل على خلفيّة ما يسمّى” شرف العائلة؟ أم أنّ الشّرف حكر على النّساء؟
قالت أكبرهنّ عمرا:
قتلة النّساء تحت مسمّى “شرف العائلة”، يفضحون أنفسهم، ويُشهّرون بأعراضهم لأنّ جميع وسائل الإعلام في العالم تنقل وتبثّ هكذا أخبار، وبالتّالي يسيئون لأنفسهم ولعائلاتهم ولشعوبهم ولأمّتهم وحتّى لدينهم.
قالت أخرى: الدّين شرّع قتل الثّيّب الزّاني.
ردّت عليها معلّمة التّربيّة الإسلاميّة:
الدّين ستر على أعراض النّاس، ولإقامة حدّ الزّنا اشترط أن يعترف الزّاني بفعلته، ولا يُسأل عن شريكه، أو شهادة أربعة شهود عدول بأنّهم رأوا العمليّة الجنسيّة كاملة، وفي حالة ثبوت الزّنا فإنّ المخوّل بتنفيذ حدود الله هو الحاكم المسلم أو من ينوب عنه، وليس أيّ شخص آخر.
قُرع الجرس معلنا بداية الحصّة الأولى، فانصرفت كلّ معلّمة إلى صفّها.
بقي النّاس يتداولون الأحاديث عن الجريمة، وتبيّن أنّ الضّحيّة اسمها وضحا الحسن، وهي أرملة في الثّانية والثّلاثين من عمرها توفيّ زوجها قبل ثلاث سنوات، وقتلت على يدي شقيقها، وأمام أطفالها الأربعة. انتشرت حولها إشاعات كثيرة، خصوصا وأنّها كانت تزرع أرضها بالخضروات، وتسوّقها في شوارع وأسواق المدينة المقدّسة؛ لتعيل أطفالها.
قالت معلّمة بسذاجة:
– ما دامت أرملة فمن المؤكّد أنّها “عملت السّبعة وذمّتها”! لأنّها تعوّدت على ممارسة الحبّ! ولا تستطيع الإستغناء عنه، خصوصا وأنّه لا يوجد لديها ما تخاف عليه.
غمزتها إحدى زميلاتها لتكفّ عن مواصلة كلامها هذا، وفي ذهنها أن تحترم مشاعر وردة كونها أرملة ومشاعر زميلة أخرى مطلقّة، لكنها لم تفهم ما وراء الغمزة.
غضبت وردة من كلام زميلتها، ولم تعد قادرة على احتمال ما تسمع، فخاطبت زميلتها بسخرية حادّة وسألتها:
– يا صاحبة الصّون والعفاف! كيف عرفتِ أنّ الأرامل لا يوجد لديهنّ ما يخفن عليه، ولا يستغنين عن ممارسة الحبّ؟
هنا انتبهت المعلّمة لنفسها وقالت تتصنّع ابتسامة باهتة:
– عفوا يا وردة أنا لا أقصدك، وإن فهمتني خطأ فأنا أعتذر لك.
وتوجّهت إلى وردة لتصافحها وتقبّل وجنتيها طالبة السّماح، لكنّ وردة صاحت بها:
– انصرفي من وجهي، فأنا لا أتشرّف بمصاحبة أو معرفة امرأة تافهة وساقطة مثلك.
غضبت المعلّمة من كلام وردة، وأرادت الهجوم عليها وهي تصرخ بحدّة:
– من التّافهة والسّاقطة يا عاهرة؟
تبادلن شتائم “من الزّنار وتحت”، لكنّ زميلاتهما فصلن بينهما، وبّخن زميلتهنّ، اعتذرن لوردة وأقسمن أغلظ الأيمان أنّ زميلتهنّ لم تقصد الإساءة لوردة أو لغيرها.
أمضت وردة يومها في نكد لا يحتمل، حتّى تلميذاتها لاحظن ذلك عليها، وسألنها إن كانت تعاني من شيء ما! لكنّها نفت ذلك أمام تلميذاتها، مع أنّ صدرها بقي يغلي كما المرجل.
بعد انتهاء دوامها المدرسيّ وعودتها إلى بيتها، لم تعد وردة قادرة على كبح جماح غضبها، بكت كثيرا تلك الليلة وهي تتذكّر زوجها المرحوم عودة، الذي فارقها بسرعة دون وداع، لعنت مجتمعا لا يرحم المرأة، ولعنت المرأة التي لا ترحم امرأة مثلها.
جاء في تحقيقات الشّرطة أنّ قاتل وضحا شقيقها وهو لصّ مدمن مخدّرات وكحول، واعترف بذلك أمام المحقّقين الذين أودعوه السّجن؛ ليلقى جزاء جريمته، التي برّرها بأنّه رآها في سوق خان الزّيت تبتسم لرجل ابتاع منها ضمّة سبانخ.
عندها سأله المحقّق:
ألم تكن تعلم أنّها تزرع بعض الخضروات وتبيعها في أسواق المدينة؛ لتعيل أطفالها؟
ردّ على المحقّق مكسور الخاطر:
– نعم كنت أعلم.
المحقّق: كيف خفت عليها من رجل اشترى منها “ضمّة سبانخ” في سوق مكتظّ بالنّاس؟
شقيق وضحا: لا يجوز للمرأة أن تبتسم لرجل غريب مهما كانت الأسباب.
المحقّق: ما دمت تؤمن بذلك فَلِمَ لَمْ تنفق عليها وعلى أطفالها؟
– لست مسؤولا عنها وعن أطفالها!
– لكن هل تعتبر نفسك مسؤولا ومخوّلا بقتلها؟ كلّ أهل قريتكم يشهدون لشقيقتك المغدورة بالعفّة والشّرف.
نظر إلى وجه المحقّق وقال:
– حياتها ليست أغلى من حياة آلاف النّاس الذين يُقتلون يوميّا في أرجاء الأرض كافّة. وأنا قتلتها دفاعا عن شرفي وشرف عائلتي.
استفزّ المحقّقَ بكلامه هذا، فسأله:
– المعلومات المتوفّرة لدينا عنك أنّك لوطيّ، مدمن مخدّرات وكحول، وتسرق وترتاد بيوت الدّعارة، فهل تعتبر نفسك شريفا؟
– الرّجل لا يعيبه شيء مهما فعل!
لم يجد المحقّق جدوى من مواصلة الحوار معه، فأخبره بأنّه سيقضي بقيّة حياته سجينا ذليلا، وأمر بنقله إلى زنزانة.
انتشرت شائعات كثيرة في القرية حول وضحا، وهناك من امتدح الجريمة ووصف شقيقها القاتل بأنّه رجل شهم وشجاع، واستشهد جامعيّ منهم بقول المتنبّي:
لا يَسلَمُ الشّرَفُ الرّفيعُ منَ الأذى…حتى يُرَاقَ عَلى جَوَانِبِهِ الدّمُ
فردّ عليه عجوز أمّيّ يدرك مخاطر الجريمة وعواقبها:
– شهادات بعض أبنائنا المتعلّمين -مع الأسف- “جوهرة معلّقة في رقبة كلب”.
ومع أنّ نساء القرية أصبن بالهلع من هول الجريمة، إلا أنّ غالبيّتهن لم يتورّعن من إطلاق إشاعات الرّذيلة عن وضحا المغدورة.
ذات يوم استرق أحد الشّباب الواعي السّمع لنساء يجلسن مع والدته، ويغتبن المغدورة بالسّوء، فخرج إليهنّ غاضبا وسألهنّ:
– إن كنتن صادقات فيما تقلن، فكيف عرفتنّ ذلك إن لم تكنّ شريكات لها؟
فصرخت به والدته:
– اخرس يا غضيب.
بينما انفضّت الجلسة وانصرفت كلّ واحدة منهنّ إلى بيتها وهي تطأطئ رأسها.
11
ترك المهندس سامر عمله في السّعوديّة بعد أن ادّخر مبلغا من المال يستطيع به شراء شقّة في بيت حنينا، وفي ذهنه أن يحقّق حلمه القديم الجديد بالزّواج من وردة، طلب من والده ومن أشقّائه أن يساعدوه في البحث عن شقّة ملائمة في بيت حنينا، فقال له شقيقه الصّيدلانيّ الأصغر منه عمرا:
– سعر الأرض والأبنية في هاتين البلدتين مرتفع جدّا. وبعض الشّقق يصل سعرها إلى ثلاثمائة ألف دولار.
انتفض والده عندما سمع ذلك وقال:
– هذا غير معقول، هل جُنّ النّاس؟
ردّ عليه ابنه الصّيدلانيّ:
– هذا جنون الاحتلال الذي حاصر المقدسيّين داخل حدود البلديّة -حسب تقسيماته الإداريّة الغبيّة-، وصادر مساحات شاسعة من الأرض للإستيطان اليهوديّ، ولم تعد هناك أراض للبناء، فارتفع سعر الأرض وارتفعت تكلفة البناء.
الوالد: ما هذا الغلاء الفاحش؟ حتّى بداية الثّمانينات لم يزد سعر الدّونم الواحد عن خمسة آلاف دينار أردنيّ.
الابن الصّيدلانيّ: الله يرحم تلك الأيّام.
وجّه الأب كلامه لابنه سامر وقال:
– اشترِ لك قطعة أرض في العيزريّة أو أبو ديس أو كفر عقب وابنِ بيتا فاخرا، ولن يكلّفك ذلك ثمن شقّة في بيت حنينا أو شعفاط.
وهنا قطع ابنه الصّيدلانيّ حديثه وقال:
– من يسكن خارج حدود البلديّة المزعومة سيسحب المحتلّون منه بطاقة هويّته، وسيمنعونه من دخول القدس.
تدخّل سامر وقال: دعونا نبحث ونفكّر، وبعد ذلك سنختار المكان الذي يناسبنا. قال ذلك وخرج بعد أن استأذن منهم؛ ليتجوّل في شوارع المدينة وأسواقها.
عند مدخل بيت أبي عودة التقى صدفة بعمر ابن أبي عودة، فتعانقا، وألحّ عمر على سامر؛ كي يحتسي القهوة معه في بيته. قبل سامر الدّعوة وفي ذهنه أن يرى وردة.
في بيت عمر سأل سامر عن العمّ أبي عودة والخالة أمّ عودة ليسلّم عليهما، فردّ عليه عمر بأنّ الله قد توفّى الوالد قبل خمسة أشهر، ولحقت به الوالدة بعد شهر من وفاته.
ترحّم سامر على روحيهما، وسأل عن طفلي المرحوم عودة.
أجابه سامر بأنّهما يعيشان مع والدتهما في بيت جدّهما لأمّهما في شعفاط.
عاد سامر يسأل: منذ متى؟ ولِمَ؟
أجابه عمر دون اكتراث:
– بعد وفاة عودة بعدّة أشهر.
استغرب سامر ذلك وعاد يسأل:
– هل عادت وردة لتعيش مع والديها بشكل عاديّ أم ضايقها أحد؟
ردّ عمر ببرود: لم يضايقها أحد، لكنّها كما يبدو وجدت راحتها في بيت والديها، كانت تزورنا مع طفليها كلّ يوم جمعة، لكنّها أوقفت الزّيارات منذ أن انتقل الوالدان إلى الرّفيق الأعلى.
احتسى سامر فنجان القهوة واستأذن بالخروج زاعما أنّ لديه ما يشغله.
عندما خرج سامر من باب السّاهرة باتّجاه شارع صلاح الدّين، هاتف وردة، فقد حصل على رقمها من أخت صديق له، لكنّها لم تردّ عليه، وجد لها عذرا بأنّها في حصّة دراسيّة ولا تستطيع الرّدّ، وقد يكون هاتفها المحمول صامتا ولم تسمع رنين الهاتف. بعد ساعتين من الإنتظار بعث لها رسالة خطّيّة على هاتفها. قرأت وردة الرّسالة بعد انتهاء دوامها المدرسيّ عندما كانت خلف المقود في سيارتها، ردّت على الرّسالة: “أعتذر عن عدم الرّدّ على مكالمتك لأنّني لا أردّ على أيّ رقم لا أعرفه.”
قرأ سامر رسالة وردة، فرقص فرَحا، اتّصل بها فورا وقال:
– أنا سامر…كيفك يا وردة؟
– أهلا بك يا سامر. ما أخبارك؟ طمئنّي عنك.
سامر: سلّمكِ الله…أنهيت عملي في السّعوديّة كما قلت لك، وسأستقر هنا.
وردة: أتمنىّ لك التّوفيق.
سامر: شكرا لك، هل يمكنني أن ألتقي بكِ اليوم؟
خفق قلب وردة عندما سمعت طلب سامر، لكنّها ضبطت عواطفها وقالت:
آسفة، لا أستطيع اليوم، فأنا على بعد عشرات الأمتار من بيتنا في شعفاط، وإن كان هناك أمر مستعجل فأهلا بك في البيت.
ارتبك سامر وقال:
– لي الشّرف أن أكون في ضيافتكم، لكنّي أردت الحديث معك في أمر خاصّ، ولا أريد أن يسمعنا أحد.
شعرت وردة بخدر لذيذ في جسمها، وقالت تتصنّع الرّزانة:
– على راحتك، لكن يستحيل أن أخرج من البيت بعد أن وصلته، وطفلاي يتراكضان نحوي.
سأل سامر في محاولة منه لإطالة الحديث:
– أريد أن أشتري شقّة في بيت حنينا أو شعفاط، إذا كنت تعرفين مكانا ملائما للسّكن، ويوجد فيه شقق للبيع، آمل أن تخبريني بذلك.
ردّت عليه وردة باقتضاب:
– حاضر ولا يهمّك، سأسأل أبي عن ذلك، فهو يعرف البلدة أكثر منّي. واستأذنت منه لإنهاء المكالمة.
أدارت محرّك سيّارتها أمام باب مدرسة دار الطّفل، وغادرت المكان عائدة إلى بيتها، ضحكت بينها وبين نفسها عندما دار بخلدها أنّ سامر حادثها من مكان قريب، وهو يراها الآن، مستغربا كيف كذبت عليه وأدّعت أنها وصلت بيتها في شعفاط، لكنها سرعان ما طردت هذه الوساوس من رأسها.
احتسى سامر قهوته في الفندق الوطنيّ في شارع الزّهراء وهو يحادثها، عندما انتهت المكالمة شعر سامر بنشاط غير مسبوق، تمنّى لو أنّ عينيه اكتحلتا برؤية وردة ولو من بعيد، عادت به ذاكرته إلى سنوات طفولتهما، وكيف كان يراها تدرج كطائر الحجل، وعندما وصلت سنّ البلوغ صارت كالغزالة الشّاردة، خصوصا عندما تحتضن حقيبتها المدرسيّة على صدرها، مطبقة يديها عليها، تهزّ رأسها بين الفينة والأخرى لتبعد غرّة شعرها عن عينيها، تماما مثلما تفعل الخيول الأصيلة. دعا الله أن تكون من نصيبه، وأصيب بنكد عندما راودته أفكار بأنّها سترفض الزّواج منه أو من غيره، لأنّها ستتفرّغ لتربية طفليها والعناية بهما، وسرعان ما أقنع نفسه بأنّ حلّ حضانة الطّفلين بسيط، وهو أن يتعهّد بحضانة ورعاية طفليها إذا ما وقع النّصيب وتزوّجها.
12
مضى الليل طويلا، لم تنم وردة تلك الليلة إلا دقائق متقطّعة غلبها النّعاس فيها، وجدت نفسها في صراع مع الذّات، تساءلت بأفكارها، وكأنها في تيه لا نهاية له، فهل طلب سامر لقاءها؛ ليعرض عليها الزّواج أم يريد مساعدتها في البحث عن سكنٍ في شعفاط كونها تسكنها، أم ماذا؟ ولمن ستترك طفليها إذا تزوّجت؟ أو هل سيقبل أن يبقى طفلاها في حضانتها إن تزوّجها؟ وهل سيرضى عمّاهما أن يبقى طفلاها في حضانة رجل آخر إن تزوّجت؟ وهل ستتقبّل أن يدخل حياتها رجل آخر غير زوجها حبيبها عودة؟
أمضت ليلها تقاضي نفسها، تردّدت في قبول لقائه أو عدمه، لكنّها حسمت أمرها وقرّرت لقاءه وهي تقول” اللي بطيح من السّماء بتتلقّاه الأرض”، وأعدّت إجابات لكلّ تساؤلاتها تضمن من خلالها مصلحة أطفالها قبل مصلحتها.
لم يختلف ليل سامر أيضا عن ليلها، فقد راودته أسئلة هو الآخر أكثر من أسئلتها، وارتأى أنّ مشكلة طفليها هي العقبة التي سيواجهها، صحيح أنّه لا يمانع بأن يبقيا في حضانة والدتهما، وهذا سيكون على حساب علاقته مع زوجته التي هي أمّهما إذا ما تزوّجها، أقنع نفسه بأنّ لكلّ مشكلة حلّ إذا حسنت النّوايا، لكنّ السّؤال الصّعب هو إذا رفضت وردة فكرة الزّواج منه أو من غيره، فبعض النّساء الأرامل لا ترى بديلا لزوجها المتوفّى! وفي النّهاية قرّر أن لا يستبق الأمور، وأن يقبل لقاءها؛ ليسمع منها مباشرة.
في السّابعة صباحا هاتفها، طرح عليها تحيّة الصّباح، وسألها عن السّاعة التي سيلتقيان بها؟ وأين؟
ردّت عليه تتصنّع الجدّيّة بكلامها:
ينتهي دوامي اليوم في العاشرة والرّبع صباحا، فاليوم عندي ثلاث حصص فقط.
قال لها فرحا: ممتاز، ما رأيك أن أدعوك لتناول وجبة الغداء سمكا في يافا؟
ضحكت وقالت متسائلة:
– يافا مرّة واحدة؟ أنا لا أستطيع ولا أقبل أن أرافق رجلا غريبا عنّي.
اعتذر سامر لها وهو يقول:
– لا تفهميني خطأ يا وردة، وأنا لست غريبا عنك، فقد عشنا حياتنا ونحن جيران، وأنا حريص عليك أيضا.
– أعرف هذا، لكن لا تنس أنّ مجتمعنا لا يرحم، وأنت تعرف وضعي جيّدا. وإن كنت مصرّا على لقائي فبإمكاننا أن نلتقي في مكان عامّ في القدس.
– لا ضير في ذلك، حدّدي المكان الذي ترينه مناسبا لك.
– ما رأيك أن نلتقي في صالة “الكولونيّة الأمريكيّة”؟
– ممتاز…سأنتظرك هناك.
– سأكون هناك في حدود العاشرة وعشرين دقيقة…إلى اللقاء.
ازدادت نبضات قلب وردة، فهذه المكالمة جعلتها على قناعة تامّة بأنّ سامر يصرّ على لقائها؛ ليعرض عليها زواجه منها. بينما أكبر فيها رفضها مرافقته إلى يافا.
وصل سامر صالة “الكولونيّة الأمريكيّة” في التّاسعة والنّصف، جلس قبالة الباب الرّئيسيّ، انتظر ساعة من الزّمن قلقا حائرا، أحرق فيها نصف علبة سجائر، احتسى كأسي “نسكافيه”، عندما أطلّت عليه وردة وقف باسما بعفويّة، صافحها بحرارة، دخلا إلى الصّالة الصّيفيّة المكشوفة، جلسا على طاولة في الزّاوية الجنوبيّة وعيون السّيّاح الأجانب تبحلق بها إعجابا بجمالها الشّرقيّ اللافت، عندما وصلهما النّادل طلبت زجاجة عصير برتقال، وطلب سامر منه أن يحضر العصير وفنجاني قهوة عربيّة، واحد له وواحد لوردة ستحتسيها بعد العصير، قالت له وردة:
– هل تبحث عن عمل الآن بعد أن أنهيت عملك في السعوديّة؟
ردّ عليها بهدوء:
– بل سأفتح لي مكتب مقاولات وخدمات هندسية أنا وشريكا لي.
وردة: ممتاز، بالتوفيق. إذا ليس من الصعب عليك إيجاد شقة في شعفاط أو بيت حنينا.
– نعم، صحيح. ولكن سكان المنطقة يفيدونني أيضا. هل سألت والدك؟
– نعم، سألته وقال بأنّ هناك رجلا في الثّمانينات من عمره، أبناؤه مهاجرون في أمريكا مع أسرهم، وهذا الرّجل يملك بيتا قديما مكوّنا من غرفتي نوم ومطبخ وصالون مع المنافع قائم على نصف دونم في شعفاط، والبيت محميّ من دائرة الآثار ولا يمكن هدمه، لكنّ التنّظيم في البلديّة سمح بدعم هذا البناء بأعمدة باطون مع حديد، وبناء ثلاثة طوابق عليه، والرّجل يريد بيع البيت ليلحق بأبنائه في أمريكا.
انتبه سامر لكلامها وسأل:
– كم يريد ثمنا لهذا البيت؟
– كما سمعت من الوالد، الرّجل يطلب ثلاث مائة ألف دولار، لكنّه سيتنازل قليلاعن هذا المبلغ إذا ما جاءه مشتر جادّ، ويقوى على دفع المبلغ نقدا.
– رائع…سأتّفق مع والدك ليرافقني إلى هذا الرّجل، وآمل أن نتّفق بسرعة.
– خذ رقم هاتف بيتنا واتّفق على موعد مع الوالد.
فرك سامر يديه وسأل وردة:
– ما هي أخبارك أنت وأخبار طفليك؟
– أحمد الله، نحن بخير.
نظر سامر في عينيها وقال:
– انتبهي لي يا وردة -لو سمحتِ-، نحن في عصر السّرعة، ولا مجال لتضييع الوقت، وأنا وأنت في مرحلة عمريّة تؤهلّنا لمعرفة الصّواب من الخطأ، وسأتكلّم معك مباشرة دون لفّ أو دوران، أنا معجب بك منذ زمن بعيد، ولولا سفري للعمل في السّعوديّة لطلبت يدك للزّواج بعد تخرّجي مباشرة، ولا تزال وستبقى لك منزلة خاصّة في قلبي، لذا فإنّي وبقناعة تامّة سأتقدّم لطلب يدك من والدك، إذا كنت موافقة على ذلك.
احمرّ وجه وردة، فطأطأت رأسها وقالت بحياء:
– لقد فاجأتني بطلبك، لا أدري… وأنت تعلم أنّني أمّ لطفلين، لا أستطيع الانفصال عنهما تحت أيّ ثمن.
ردّ عليها سامر بجدّيّة بائنة:
– أعرف ذلك، وإن وقع النّصيب بيننا وتزوّجنا، فسأعتبر طفليك أبناء لي، ولا مانع عندي أن يبقيا في حضانتك إلى ما شاء الله.
اكتسى وجه وردة بحمرة حياء أربكتها وقالت:
– رجاء سامر، امنحني فرصة للتّفكير.
سامر: لك ذلك.
استأذنت وردة وانصرفت وقلبها يخفق بقوّة، بينما تابعها سامر بنظراته حتى ابتعدت واختفت عن ناظريه.
*********
اتّصل سامر بأبي عبدالرّحمن والد وردة، تحدّث معه عن البيت القديم المعروض للبيع في شعفاط. التقيا في اليوم التّالي مع مالك البيت، وبعد مدّ وجزر، اتفقوا أن يشتري سامر البيت بمبلغ مائتين وخمسين ألف دولار تدفع نقدا، وافق سامر على ذلك واشترط على البائع أن ينفّذ الاتّفاق بعد أن يفحص محاميه أوراق البيت، فهل هو بيت نظيف الملكيّة، ولا حجوزات عليه، وما هو وضعه القانونيّ؟ وهل هناك موافقة من البلدية للبناء عليه؟
عندها ألحّ أبو عبدالرّحمن على سامر أن يرافقه إلى بيته لاحتساء القهوة سويّا، وافق سامر دون تردّد وفي ذهنه أن يرى وردة، لكن غاب عن ذهنه أنّ وردة في دوامها المدرسيّ.
عندما استأذن للانصراف وخرج من البيت وصلت وردة عائدة من مدرستها، التقيا بوجود والدها أمام البيت، فدعت سامر للعودة واحتساء القهوة، ردّ عليها بأنّه قد احتسى القهوة بصحبة والدها، ولم يستسغ عودته ثانية مع أنّه يتمنّى ذلك.
13
خلال سهرة عائليّة في بيتهم في حارة السّعديّة، سأل سامر والديه:
– ما رأيكما أريد أن أتزوّج؟
ردّا بصوت واحد:
– هذا يوم المنى.
قالت والدة سامر بفرح زائد:
– زهور بنت خالتك فاطمة تتميّز على بنات جيلها كافّة، فهي طبيبة تعمل في مستشفى المقاصد. وأنت تعرفها جيّدا، ما رأيكم أن أتكلّم معها ومع أمّها؟ كما أنّها مضمونة، وكما قال المثل” وجه عرفته خير من وجه لا تعرفه”.
ضحك سامر وقال:
– أنا أرفض زواج الأقارب لأكثر من سبب، وكما قال سابقونا:” ابعد تحلى”.
تنهّد أبو سامر وسأله:
– هل اخترت عروسك يا سامر؟
ردّ سامر: نعم لقد اخترت وردة بنت أبي عبدالرّحمن.
ضربت والدته كفّا على كفّ وسألت:
– من هي؟ هل هي وردة؟ هل تقصد أرملة عودة؟
سامر: نعم إنّها هي.
وقفت والدته غاضبة وقالت:
– يا خيبتك يا هيام أنت وابنك الذي انتظرته طويلا؛ لتفرحي بزفافه! هل انقطعت البنات؟ ماذا ينقصك حتّى تتزوّج أرملة؟
ردّ عليها سامر بهدوء:
– ما لها الأرملة؟ أليست امرأة كبقيّة النّساء؟ وماذا ينقصها؟
ردّت أمّ سامر وكأنها وجدت ضالّتها:
– وردة ليست عذراء، وأمّ لطفلين، مشاكلها كثيرة. وهناك عذراوات أجمل منها.
قال أبو سامر: اسمعي يا هيام، أنا مع خيار سامر، فإن اختار وردة أو غيرها، فهذا شأنه”وربنا يبارك لسعيد بسعيده”.
وضعت أمّ سامر يدها على مقدّمة رأسها، أمسكت خصلة من شعرها الأشيب وقالت:
– وحياة هالشّيبات الطّاهرات، إن تزوّج سامر من وردة، لن أحضر له عرسا.
قام سامر من مكانه وجلس بجانب والدته يهدّئها، أمسك يدها وقبّلها، وقال:
– لا تغضبي يا أمّي، لن يحصل إلا ما تريدينه، وإن لم توافقي على زواجي من وردة فلن أتزوّجها، ولن أتزوّج من غيرها، ومن يوم غد سأسافر إلى السّعوديّة.
فهم أبو سامر مناورة ابنه مع والدته، وقال:
– لا تهتمّ يا سامر، لن تتزوّج إلا من المرأة التي تختارها، واتركنا من السّعوديّة ومن العمل فيها، أمّك قلبها طيّب” والخيّر بِغَيِّر” وستُغيّر رأيها قبل صباح غد.
*****
في اليوم التّالي استبق سامر الرّدّ من وردة، ذهب دون موعد هو ووالده وبمباركة والدته إلى بيت أبي عبدالرّحمن لطلب يدها، عندما قرع سامر جرس باب بيت أبي عبدالرّحمن، فتحت وردة الباب لهما، تفاجأت بهما لكنّها رحّبّت بهما وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيها، تبادر إلى ذهنها أنّهما جاءا بخصوص البيت الذي سيشتريه سامر، ذهبت إلى المطبخ؛ لتحضير قهوة الضّيافة، في حين جلس الضّيفان مع والديها وشقيقها عبدالرّحمن، بعدما وزّعت فناجين القهوة أمام المتواجدين، جلست بجانب والدتها، قبالة سامر وأبيه، تنحنح أبو سامر، بسمل وقال:
– لنا طلب عندكم يا أبا عبدالرّحمن، ولن نشرب قهوتنا قبل تحقيقه.
ردّ عليه أبو عبدالرّحمن:
– حيّاكم الله، طلبكم مستجاب إن كان باستطاعتي تحقيقه.
– نريد ابنتكم وردة لابننا سامر على سنّة الله ورسوله.
تفاجأت وردة ممّا سمعت، ارتجفت يدها بفنجان قهوتها وهي تقترب به من شفتيها، فسالت منه نقاط على صدرها، فحملت فنجانها بيدها وخرجت من الجلسة.
سكت أبو عبدالرّحمن قليلا وقال:
– مصاهرتكم شرف لنا، وطلبكم مقبول يا أبا عبدالرّحمن، سامر عزيز عليّ وأعتبره مثل أبنائي، لكنّ القرار بيد وردة، فهي صاحبة الشّأن، وهذا هو شرع الله، لكن كما تعرفان فوردة لديها طفلان، وكما أعرف فإنّها لن تتخلّى عن طفليها، وهذا حقّها.
وهنا تدخّل سامر وقال:
– إذا وقع النّصيب بيننا وتزوّجتُ وردة، فطفلاها سيبقيان معها وسأرعاهما وكأنّهما أطفالي أيضا.
أبو عبد الرّحمن موجّها حديثه لسامر:
– حيّاك الله يا ولدي، فهذه شيم الرّجال الأكارم، اشربا قهوتكما وأعطياني فرصة لآخذ رأي وردة، “فكلّ شي بخناق إلا الزّواج باتّفاق.”
تناول أبو سامر فنجان قهوته وقال موجّها حديثه لوالدة وردة:
– لم نسمع رأي أختي أمّ عبدالرّحمن!
ردّت عليه أمّ عبدالرّحمن:
– “إذا حضر الماء بطل التّيمّم”، وما يرتضيه أبو عبدالرّحمن نرتضيه، وسامر شابّ -ما شاء الله عليه-، كلّ البنات يتمنّينه.
أبو سامر: متى سنسمع جوابك النّهائيّ يا أبا عبدالرّحمن.
أبو عبدالرّحمن: إن شاء الله خلال اليومين القادمين.
قال سامر لأبي عبدالرّحمن:
– سنمرّ عليكم يوم الجمعة القادم، وسيكون معي الرّدّ النّهائيّ بخصوص البيت، فالمحامي وعدني بأنّه سينتهي من فحوصاته بخصوصه يوم الخميس.
أبو عبدالرّحمن: أهلا بكم في كلّ وقت، وإن شاء الله سنكون قد وقفنا على رأي وردة بخصوص طلبكم.
استأذن أبو سامر بالانصراف، ورفض إلحاح أبي عبدالرّحمن عليهما بأن يبقيا ليتناولا طعام العشاء بمعيّتهما.
بعد مغادرتهما البيت، عادت وردة إلى صالون البيت بعد أن استمعت لحديثهم، عرض عليها والدها طلب سامر وأبيه، فقالت سمعت كلّ ما قيل، وأحتاج إلى وقت للتّفكير “ففي السّرعة ندامه وفي التريّث سلامه”.
ردّت عليها والدتها:
– سامر شابّ كامل الأوصاف والقبول به لا يحتاج إلى تفكير.
وردة: أنا أحتاج إلى تفكير لأتّخذ القرار الصّائب.
سألها أبوها: كم من الوقت تحتاجين يا بنيّتي، فقد وعدتهما بالرّد على طلبهما حتّى يوم الجمعة كأقصى حدّ؟
– لا أعرف متى سأرسو على قرار، وإن كانا على عجلة من أمرهما، فربنا يسهّل طريقهم!
ندى
14
قفزت ندى من سريرها مرعوبة.. استيقظت على صراخ ابنتها يشقّ عتمة ليلة من ليالي الشّتاء الباردة، اختلطت صرخة براء مع عويل الرّياح، وهزيم الرّعد بعد ان اخترقت خيوط البرق اللامعة الغيوم الحبلى.. فاندفع المطر غزيرا يبكي حال أسرةٍ ربّ بيتها من الأشقياء.
توجّهت ندى من فورها نحو غرفة ابنتها البكر براء، لتجد والدها يمسك بشعرها بيده اليسرى، ويصفعها بيده الأخرى بكل عزم على وجهها، والدّم ينفر من أنفها.
– يا بنت الكلب.. بدّك تفضحينا.. والله قليل فيك الموت.
– شو عملت يا أبوي؟ والله ما عملت إشي…. مشان الله اتركني….راح أموت…
هال ندى منظر ابنتها.. حاولت أن تفصل بينهما لتنقذها من بين يديه، إلا أنه دفعها فوقعت على ظهرها، فاصطدم رأسها بحافّة دولاب الملابس بقوّة كادت تفقدها وعيها، إلا أنها تمالكت نفسها ونهضت بصعوبة بالغة وهي تتأوّه من الألم. وتوجّهت من فورها إلى باب المنزل، تضرب على رأسها، ودموعها تملأ وجهها، فتعثّرت بطفليها التّوأمين كريم وكريمة، اللذين استيقظا على صراخ براء. كانا يلتصقان بحائط الممر الذي يفضي إلى غرف النوم، وهما يرتجفان خوفا، يضمّان بعضهما البعض، ويبكيان بصمت.
ارتبكت ندى، شعرت بشرخ كبير في القلب.. ولكنها واصلت طريقها وفتحت باب المنزل، ارتفع صراخها تستنجد بالجيران.
– يا أبا العارف الحقني يا جار.. قتل الولد واليوم راح يقتل البنت.
هبّ الجار مرعوبا يستفسر عن الأمر، وتبعته زوجته أمّ العارف فدخلا المنزل على الفور.
استطاع الجار الطّيب أن يخلّص البنيّة من بين يديّ أبيها بصعوبة، وقد كان مغشيّا عليها.
ارتمت ندى فوق جسد ابنتها عاجزة لا تعرف كيف تتصرّف.. أشار أبو العارف عليهم بضرورة الاتّصال بسيّارة الإسعاف، فأبى والدها قائلا:
– لا داعي للاسعاف، كمان شوي بتقوم زيّ القردة، هاي مثل القطط بسبع أرواح.
أمسك أبو العارف بيد صخر وسحبه رغما عنه إلى غرفة المعيشة قائلا:
– تعالى معي نجلس هنا نتحدّث يا أبا عميد. ما بك؟ هل جننت؟ كدت تقتل ابنتك يا رجل!
– لقد أفقدَتني عقلي يا جار، جلبت لي العار، ماذا تتوقّع مني!
– براء بنت مهذبة، الجميع يشهد لها بأخلاقها، لم ترتكب يوما عيبا، لا تخطىء بحق البنيّة.
– يا رجل، اليوم زارني في الكراج رجل يصطحب شابا معه، وقال لي بأنّه يرغب بمُصاهرتي من خلال طلب يد ابنتي براء لابنه الشّاب.
– وما الخطأ في ذلك؟
– انتظر يا أبا العارف. واستمع إلى النّهاية.
سألته إن كان يعرف براء، فابتسم وقال أنّه كان زميلها في الجامعة، وأنّه تخرّج العام الماضي ولا زال يذكرها بالخير، وأنّه على استعداد أن يخطبها الآن، وأن يؤجل الزّواج عاما ونصف العام أو عامين إلى حين تخرّجها من الجامعة. فقلت له إنّني سأسأل البنيّة إن كانت توافق على الزّواج منه. فابتسم الشّاب ونظر إلى أبيه. ابتسم الأب ابتسامة العارف الواثق وقال:
– أنت تعرف يا أبا عميد جيل اليوم، هناك توافق بين الاثنين، وأدام الله الجوّالات التي توصل بين الأحباب. فطردتهما من كراجي شرّ طردة. وعندما عدت إلى البيت واجهت براء بما حصل، ارتبكت، واصطبغ وجهها باللون الأحمر، وأنكرت أيّ علاقة بينهما، بل أصرّت على أنّها لا تذكره. هي تكذب، مرّغت رأسي بالوحل هذه اللعينة وجعلت منّي أضحوكة.
– يا رجل، الأمر لا يستحقّ منك كل هذه العصبيّة، الشّاب جاءك من الباب يطلب يد البنيّة بالحلال، ثم أنّه لو رأى منها عيبا -لا سمح الله-، لما طلبها زوجة ستحفظ بيته وأولاده في المستقبل.
صمت برهة يزن ردّة فعل صخر، ثم أكمل محاولا إقناعه:
*****
أتت أمّ العارف بكوب ماء بارد وقطعة من الثّلج محاولة وقف نزيف أنف براء، بلّلت وجهها محاولة إنعاشها، استعانت بزجاجة عطر تقبع على منضدة بجانب السّرير، فتحتها وقرّبتها من أنفها، بدأت تستعيد براء وعيها تدريجيّا، تتأوّه موجوعة. ضمّتها أمّها.. وأخذت توزّع القبل على وجهها غير مصدّقة أنّ ابنتها لا زالت حيّة ترزق.. بعدها تذكّرت طفليها التّوأم، فخرجت مسرعة من الغرفة؛ لتجدهما كما تركتهما يرتجفان، وقد بلّلا ملابسهما من الخوف.
ضمّتهما وطمأنتهما قائلة:
-لا تخافا، الأمور بخير.
قالت كريمة:
– هل قتل أبي براء يا أمّي؟
ابتسمت الأمّ ابتسامة تحمل أسى الدّنيا وقالت:
– براء بخير تنتظركما.. لا تقلقا.. هي بخير، تعالا معي:
قال كريم:
– إنّي أكرهه يا أمّي.
قالت الأمّ:
– عيب يا صغيري، هل هناك ابن يكره أباه؟ لا تقل ذلك مرّة أخرى والا غضبتُ منك.
اصطحبتهما إلى غرفة الحمّام، بدّلت لهما ملابسهما.. وقالت:
– هيّا نطمئنّ جميعنا على براء.
وما أن وقعت عيون كريم وكريمة على براء حتى اندفعا نحوها بحبّ يضمّانها ويقبّلانها وهما يبكيان.
طمأنتهما براء، وقالت لهما أنّها بخير، وتدخّلت أمّ العارف، وقد تقطّع قلبها حزنا على هذه الأسرة المنكوبة، وعلى هذين الطّفلين اللذين لم يبلغا الخامسة من العمر بعد، فقالت لهما:
– براء بخير.. لا تقلقا.
سألت ندى ابنتها عن أماكن الألم في جسدها، فأخذت براء تتحسّس كلّ بقعة في جسدها، تقطب جبينها ألما:
– وجع الجسد يهون يا أمّي أمام وجع القلب وجرح الكرامة، طعنني في شرفي، واتّهمني اتّهامات باطلة يا أمّي.
– لا أفهم؟ عمَّا تتحدّثين؟
– أتذكرين زميلي أمير الذي كان يدرس معي في الجامعة؟ كان يسبقني بعامين.
– نعم.. بالطبع، كنت تقولين لي أنّه معجب بك ويحاول أن يختلق أيّ فرصة للحديث معك، ولكنّك كنت ترفضين التّجاوب معه.
– نعم هذا صحيح، تخرّج العام الماضي من كلّية الهندسة، وجاء قبل عدّة أيّام لزيارة أصدقائه. فجلس في الكافتيريا على طاولة مقابل الطّاولة التي كنت أجلس عليها أنا وصديقاتي. طلب من صديقتي هدى إعلامي أنّه يريد التقدّم رسميّا لطلب يدي، وأنّه فقط يريد أن يسألني إن كنت أمانع الزّواج منه.
فقلت لها أن الرّأي رأي أبي، فإن وافق فلا مانع عندي.
أبلغَته هدى بالأمر، فنظر لي نظرة رضا وحيّاني بِعينيه، وغادر الكافتيريا دون أن أتحدّث معه يا أمّي.
وقد أرسل لي رسالة على هاتفي المحمول صباح أمس يعلمني أنّه سيزور أبي، ولكنّه يطلب عنوان كراجه. فكتبت له العنوان دون زيادة أو نقصان.
وعندما فاتحني أبي بالموضوع وسألني إن كنت أعرفه، خفت منه، فقد دخل غرفتي كالوحش الكاسر، فأنكرت معرفتي به، وعندك الباقي يا أمي، ضربني وأذلّني وأسمعني بذيء الكلام.
وانفجرت براء تبكي جرحا عميقا في الكرامة.
ضمّت ندى ابنتها، وقالت:
– لا أحد يجرؤ أن يتّهمك اتّهامات باطلة يا ابنتي، فأنت أنقى من النّقاء ذاته، كلّ من عرفك يقسم بشرفك وعزّة نفسك.
– إلّا أبي يا أمّي.
– لا تقولي هذا.. هو قلِق عليك ليس أكثر.
– يقلق عليّ فيقتلني! ما هذا المنطق يا أمّي؟
– آآآخ.. الله يغيّر الحال يا براء.
– أعانك الله يا أمّي، كيف تحمّلتِه طيلة هذه السّنين؟
– قدري يا ابنتي.
شعرت أمّ العارف أنّ كلام الأمّ وابنتها عرّج على خصوصيّات العائلة، وأنّ وجودها سيتسبّب بإحراج لهما، فتصرّفت على الفور.. وجهّت الكلام للطّفلين:
– كريم.. كريمة تعالا معي إلى المطبخ. سـأحضّر القهوة، يبدو أنّ سهرتنا ستطول الليلة.
أين البنّ؟ وأين دلّاية القهوة.. هيا ساعداني.
قدّرت براء موقف الجارة الطّيّبة أمّ العارف.. وشكرت الله أن أرسل لها جيرانا طيّبين. فلولا أبو العارف لكانت ندى الآن في عداد الموتى.
تنهّدت تنهيدة سحبتها من عمر زواجهما قبل أربع وعشرين سنة، رنّ سؤال ابنتها في أذنها يزيد من وجعها: (كيف تحمّلتِه طيلة هذه السّنين يا أمّي)؟
لم تنجح في كبت دمعة تمرّدت ونزلت على خدّها عنوة، فلا زالت تذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي دخل فيه “صخر” بيت عائلتها لأوّل مرة مع والدته وأخيه الأكبر “سائد” لطلب يدها من أبيها، فقد كبر صخر يتيم الأب منذ أن كان في عمر الخامسة، توفّي والده في حادث سير وترك وراءه زوجة وسبعة أبناء، أصغرهم صخر، وأكبرهم سائد في الثّامنة عشرة من عمره.
كان يشاهدها مع صديقاتها في كلّ صباح وهي في طريقها إلى مدرستها، أعجب بجمالها وبحسن أخلاقها. فقرّر أن يطلب يدها.
فرحت أمّه كثيرا بقراره، إذ ظنّت أن زواجه سيغيّر من طباعه الشّرسة ويشعره بالاستقرار والسّكينة. فقد كان دائم اختلاق المشاكل في كلّ مكان يذهب إليه. حتى أصبح كلّ من يعرفه يستعيذ بالله منه عند رؤيته.
أخبرت الأمّ ابنها سائد بنيّة صخر بالارتباط، إلا أنّ سائدا حاول أن يقنع أمّه بالتّروي، فهو يعرف أخاه جيّدا، ولا يريد أن يجلب المشاكل للعائلة.
أصرّت الأمّ على رأيها، فاستجاب سائد على مضض بعد طول نقاش، واتّصل بأبي براء يعلمه بنيّتهم زيارتهم في منزلهم، وأنّهم يتشرّفون بطلب يد كريمتهم ندى لأخيه صخر.
ذهب ثلاثتهم إلى منزل ندى، فاستقبلهم والدها صلاح وزوجته منال خير استقبال، وبعد عدّة دقائق دخلت ندى تحمل صينيّة يصطف عليها أكواب من الشّراب.
ذهلت أمّ العريس من جمال ندى:
– بسم الله ما شاء الله.. قل أعوذ بربّ الفلق.. اللهم لا حسد. والله إنك محظوظ يا صخر، جمال وكمال وبنت أصول. يا رب تكون من نصيبك.
ابتسم صخر ابتسامة الرّاضي.. واستحت ندى، فاصطبغ وجهها باللون الأحمر، فازدادت جمالا.
قال لها والدها مبتسما:
– اجلسي معنا يا ابنتي.
جلست ندى وأخذت تصغي بتأنّي لحديث صخر، لم ترتح لكلامه الاستعراضيّ الذي كان يتمحور حول جبروته، وكيف كان يحصّل حقوقه بذراعه، واسترسل برواية قصص وأحداث ومواقف حصلت معه تشير إلى عدم اتّزانه، وتؤكد على أنّه مزاجيّ.
حاول شقيقه أن يضفي على كلّ قصة من قصص صخر روحا من الدّعابة، يغلّفها بمعان إنسانيّة تحمل فكرة أنّه السّند الذي يقف مع الضّعيف ويستردّ حقوق المظلوم.
انتهت الزّيارة بعد أن تمّ الاتفاق على أن يردّ لهم الأب الجواب بعد أسبوع.
سأل الأب ابنته:
– ما رأيك يا ندى؟
تدخّلت زوجة الأب:
– رأيها في ماذا يا صلاح؟ الشّاب ممتاز. رجل بمعنى الكلمة.
صمتت ندى.. فهي تعرف أنّ زوجة أبيها تنتظر الّلحظة التي تُخرجها فيها من المنزل. لا يكفي أنّها تعاملها كخادمة، وتستغلّها أسوأ استغلال، بل لم ترحمها في هذا العام الدّراسي الذي تجهّز فيه نفسها لامتحانات الثّانوية العامّة، إذ زادت عليها الأعباء بحجّة أنّ منزلهم كبير ويحتاج إلى من يساعدها في تنظيفه.
انسحبت ندى من غرفة الجلوس دون أيّ تعليق، وتوجّهت إلى غرفة نومها. تبعها والدها.
لم يعجب منال موقف ندى، فرفعت صوتها معترضة:
– شعب نمرود.
لم يلتفت زوجها لكلامها، وواصل طريقه إلى غرفة ابنته، فوجدها تخفي دموعا تمسحها بكفّ يدها، تجلس على طرف سريرها، تضمّ إطار صورة المرحومة أمّها إلى صدرها، وقد بلّلته دمعة شوق لأمّ حنون، كانت الأمّ والأخت والصّديقة والحبيبة وبيت الأسرار.
فسألها متأثّرا:
– ما بك يا ابنتي؟
– لا أدري يا أبي.. لم أشعر بالرّاحة معه.
– وأنا أيضا يا ابنتي. لا تهتمّي، سأبلغه أنّك ترغبين في المضيّ بتعليمك الجامعيّ، وأنّك لا تفكرين بالارتباط حاليّا.
ارتمت ندى في حضن أبيها سعيدة، فأخذ يداعب خصلات شعرها الأسود النّاعم، وإذا بزوجة الأب تدخل الغرفة عنوة:
– ما الذي لم يعجبكما بالشّاب؟
قال الأب غاضبا:
– هذا شأن البنيّة يا منال. لم تشعر بالرّاحة معه، وهذا يكفي لأن نقول له لا. لن أجبرها على الزّواج من أيّ كان.
خرجت منال غاضبة تتمتم بكلمات لم يفهم منها شيئا.
في الصّباح الباكر ذهب والد ندى “صلاح” إلى عمله في الشّركة، فإذا بالمدير “ربحي” يطلبه على عجل.
توجّه من فوره إلى مكتب المدير، فوجد جميع رؤساء الأقسام يجلسون حول طاولة الاجتماعات المستديرة التي تتوسّط مكتبه، فقرأ في عيونهم توتّرا غير معهود، طرح السّلام، وأخذ مكانه يستفسر عن سبب هذا الاجتماع الطّارئ.
قال المدير:
غدا سيزور فرعنا رئيس مجلس الإدارة مع عدد من الأعضاء، أريد من جميع موظّفيكم أن يكونوا على رأس عملهم، لا أريد أيّ غياب من أيّ موظف، ثم وجّه الكلام لصلاح، وهو أمين صندوق فرع الشّركة:
علمت أيضا أنّه سيأتي معه محاسب الشّركة المركزيّ مع موظّفيه لجرد الصّندوق في فرعنا. هذا ما فعلوه في الفروع الأخرى التي تمّت زيارتها.
– يا مرحبا بهم.. لا تقلق، أنت تعلم كم أنا دقيق في هذه الأمور.
– بالتّأكيد فأنت الثّقة التي أعتز بها يا صلاح.
– أشكرك. هل من أمور أخرى؟
– لا، بالتّوفيق.
ويأتي اليوم التّالي، ويتمّ جرد الصّندوق، وإذا بعجز في الصّندوق يصل إلى عشرة آلاف دينار أردنيّ.
كانت صدمة كبيرة لصلاح، لم يصدّق عينيه، أعاد الجرد مرّتين وثلاث مرات، والنّتيجة ذاتها.
دخل صلاح في حالة ذهول أخرست لسانه، لم يحاول أن يدافع عن نفسه.
غضب رئيس مجلس الإدارة وأرغى وأزبد، واتّهم إدارة الفرع بالفساد.
استغرب ” ربحي” مدير الفرع، فهو يعلم مدى دقّة صلاح في عمله، ويعلم كم هو أمين. فمنذ أن استلم عمله أمينا للصّندوق، أي منذ سبع سنوات، لم يحصل أيّ خلل. وطلب من رئيس الشّركة أن يمنحوهم يومين ليعرفوا أين الخلل. وبعد جهد جهيد وافق الرّئيس، ولكنه أصرّ على أنّه سيبلغ الشّرطة إن لم يتمّ إعادة المبلغ.
استدعى ربحي صلاح ليفهم منه ما الذي حصل، ولماذا هذا النّقص في الصّندوق، ولكن صلاح لم يخرج عن صمته، ولم يدافع عن نفسه، كان يمسك رأسه بين يديه مذهولا.
أحضر له المدير كأسا من الماء، وطلب منه أن يهدأ، ويفكّر، فجَلّ من لا يسهو. قال صلاح:
– أنت صديقي قبل أن تكون مديري يا ربحي. وأنت تعرفني جيدا. لا يمكن أن أخرج قرشا واحدا من الصّندوق إلا في مكانه وبسند قبض.
– هل تعني أنّ الصّندوق تعرّض للسّرقة؟
– كيف؟ المفتاح معي يا ربحي، لم أعطه لأيّ أحد.
– إذن كيف نقص الصّندوق؟
– لا أدري، ليس عندي أيّ تفسير. أكاد أجنّ.
– علينا أن نعيد المبلغ إلى الخزنة خلال اليومين القادمين، مع تفسير مقنع، كي لا يتمّ تبليغ الشّرطة. اعصر دماغك يا صلاح، تذكّر. هل تركت المفتاح في الجارور مثلا وغادرت المكتب؟ تذكّر.
أخذ صلاح يحكّ دماغه يحاول أن يتذكّر، عادت به الذّاكرة إلى ظهر يوم أمس، حين دخلت مكتبه صبيّة تصرخ ملهوفة وهي تبكي، لقد سقط جدّي عن درج الشّركة، أرجوك ساعدني.
ترك صلاح مكتبه، وكان قد انتهى من جرد الخزنة ويهمّ بإقفالها، فأقفلها سريعا ورمى المفتاح في الجارور الأسفل لطاولته، وأسرع لإنقاذ الرّجل، فوجده فاقد الوعي، ممّا اضطره إلى طلب سيّارة الإسعاف لنقله إلى المشفى. وبعد أن عاد إلى مكتبه بعد حوالي نصف ساعة من الزّمن، وجد الجارور مفتوحا نصف فتحة. ولكنّه عزا ذلك إلى أنّه كان مسرعا، وربّما نسيه مفتوحا، فأعاد المفتاح إلى مكانه السّريّ الذي لا يعرفه أحدٌ غيره.
كان ربحي يتابع عيني صلاح، فقرأ فيهما شيئا قد يخدم القضيّة:
روى صلاح لربحي ما حصل يوم أمس.
شعر ربحي أنّه أمسك طرف خيط قد يساعدهم في حلّ اللغز. فقال له:
انتهى دوام الشّركة، فخرج صلاح مذهولا، وبينما كان يقطع الشّارع متوجّها إلى سيّارته، صدمته حافلة مسرعة، ورمت به بعيدا مسافة خمسة أمتار، فاصطدم رأسه بإحدى أعمدة الكهرباء ولفظ أنفاسه على الفور.
كان موت صلاح صدمة كبيرة على صديقه المدير ربحي، فقرّر أن يبحث عن الحقيقة، ويبرّىء ساحته، فهو يعرفه خير معرفة، ويثق بأمانته.
تواصل مع صديق له يعمل في قسم التّحقيقات في الشّرطة، واتّفقا على أن يتقدّم بشكوى رسميّة للشّرطة، كي يبحثوا عن سارق الخزنة، مستعينين بالكاميرا المثبتة في الممرّ الذي يفضي إلى مكاتب الموظّفين، ومن خلال البصمات على الجارور وعلى مفتاح الخزنة، والتّحقيقات المكثّفة مع موظّفي الشّركة، توصّلوا إلى السّارق. وكم كانت صدمة ربحي كبيرة حين علم أن خالد زميل صلاح هو السّارق.
جنّ جنون ربحي، فقد كان صلاح يثق بخالد كثيرا ويدعمه دائما، ويدافع عنه في كلّ مناسبة، وعندما صدمت صلاح الحافلة، أصابت خالد هستيريا من البكاء، وتم نقله إلى المشفى لإعطائه حقنة مهدّئة! إذن هذا هو السّبب، هو الضّمير الذي صحا بعد غفوة.
سأله المحقّق:
– لماذا أخذت العشرة آلاف دينار يا خالد؟ هل كنت بحاجة للمبلغ؟
كان يجيب خالد على أسئلة المحقق وهو شبه منهار، ودموعه تبلّل لحيته، فتخرج الكلمات متقطّعة على تنهيدة ندم يسحبها من عمق الضّمير:
– لا يا سيّدي. لم أكن بحاجة للمبلغ، فما قصّر صلاح معي يوما، كان يمدّني بما أحتاج من جيبه الخاصّ كلّما احتجت لأيّ مبلغ، وكنت أردّ له الدّين فور استلامي راتبي… كان نِعم الصّديق. لعنة الله على الشّيطان، كنت أحلم بأن آخذ منصبه، فأنا موظّف لم تتمّ ترقيتي مدّة سبع سنوات، منذ أن تقدّمنا أنا وصلاح إلى ذات الوظيفة، فحصل هو على رئاسة القسم، وأنا بقيت موظّفا بسيطا، براتب بسيط، وعندما علمت بأنّ رئيس مجلس الادارة سيزور فرعنا وسيتمّ جرد الخزنة، ظننت أنّها ستكون فرصة جيّدة، خاصّة أنّني المرشّح الأقوى لأخذ المنصب بعده. وقد انتهزت فرصة غيابه عن المكتب حين أسرع لإنقاذ الرّجل العجوز الذي سقط عن درج الشّركة، فدخلت مكتبه، وإذا بمفتاح الخزنة في الجارور على غير العادة، فهو حريص دوما على إخفاء المفتاح، ففتحت الخزنة وأخذت المبلغ، وأعدت المفتاح إلى الجارور. وكأنّ شيئا لم يكن.
صفّر المحقّق صفرة طويلة، لا يصدّق أنّ هناك طمعا وجشعا وحسدا إلى هذه الدّرجة، فقد كان له الصّديق المؤتمن، يضع أسراره في جعبته:
– يا إلهي كم أنت حقير! قاتلك الله، لقد قتلت الرّجل بطمعك وحسدك، وتركت عائلته دون معيل.
وصل خبر موت صلاح لزوجته منال ولابنته ندى، فأخذت منال تلطم وجهها بيديها وتندب حظّها، أمّا ندى فسقطت مغشيا عليها، فلا معيل ولا سند بعد اليوم، باتت بلا أمّ وبلا أب.
وفور أن سمعت أمّ العريس صخر بموت الأب لم تترك ندى طيلة أيّام العزاء الثّلاثة، دعمتها نفسيّا، وكانت لها بمثابة الأمّ.
وبعد شهرين على وفاة صلاح، أعطت زوجة أبيها الموافقة على زواج ندى من صخر.
حاولت ندى أن تعترض، وحاولت الاستعانة بعمّها صالح المغترب في السّويد، اتّصلت به تلفونيّا، وكانت سلطات الاحتلال قد رفضت السّماح له بدخول القدس لحضور جنازة أخيه التّوأم صلاح.
كما تواصلت ندى مع أخوالها الذين يعيشون في الأردنّ؛ ليتدخلوا ويمنعوا الزّواج، ولكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل.
وفي أقل من ستّة أشهر أصبحت ندى زوجة لصخر، بعد أن تقدّمت لامتحانات الثّانوية العامّة، وحصلت على معدل 77% رغم كلّ ظروفها الصّعبة.
انتقلت ندى إلى منزل الزّوجية بنفسيّة سيّئة. خاصّة وأنّ زوجها كان عصبيّا جدّا، فلم يصبّرها على عيشتها معه سوى حماتها التي كانت تحتضنها وتوبّخ ابنها كلّما ضرب زوجته أو أهانها. ولكن بعد خمس سنوات من زواجهما، انتقلت حماتها إلى الرّفيق الأعلى، فزاد زوجها من تعنيفها، خاصّة وأنّه علم أنّها لم تكن موافقة على الزّواج منه. فقد كان حقودا، لم يغفر لها رفضها الزّواج منه.
دخلت أمّ العارف إلى غرفة براء، وكانت ندى تعبث بشعر ابنتها الأسود الفاحم الطّويل بحنان، وهي شاردة الذّهن، تسترجع ذكريات ماض أليم محفور في قلبها المجروح، لم تنتبه لأمّ العارف ولا لطفليها عندما دخلا الغرفة.
لاحظت أمّ العارف شرود ندى، فهزّتها من كتفها بلطف تسحبها من شرودها:
صحت ندى من شرودها وابتسمت قائلة:
خرجوا جميعا مع الطفلين، فوجدوا صخرا ينفث دخان سيجارته بعصبيّة، ولا زال أبو العارف يحاول إقناعه بأنّ براء لم ترتكب جُرما؛ ليتعامل معها بهذا العنف.
15
صحا صخر من نومه متأخرا على غير عادته؛ ليجد أن السّاعة تجاوزت العاشرة صباحا، وكانت زوجته لا تزال غافية، فقد كانت ليلة البارحة عصيبة على الأسرة. جنّ جنونه، فهو معتاد أن يفتح كراجه في الثّامنة صباحا، هزّ زوجته من كتفها بعنف يلومها:
فتحت عينيها بصعوبة، نظرت إلى السّاعة النّحاسيّة الكبيرة التي تتصدّر حائط غرفة النّوم مقابل السّرير:
نهضت ندى بتثاقل، جهّزت فنجاني قهوة، وضعت الصّينيّة على طاولة الوسط الدّائريّة في غرفة المعيشة. جلست على الأريكة تنتظر زوجها ليجلس بجانبها، كي يشربا القهوة سويّا كما هي العادة، على أمل أن تليّن الجو، وتقنعه بأن يدخل غرفة براء، ويتعامل معها بحنان الأب الذي تهمّه مصلحة ابنته، ويقول لها بأنّه تصرّف معها بهذا الأسلوب مساء أمس رغما عنه، فقد خرج عن وعيه، وفقد أعصابه، وما فعل هذا إلا لأنّه يحبّها فهي ابنته الذّكيّة، وهو يخشى عليها وعلى سمعتها.
إلا أنّه تناول فنجانه من الصّينية، وصبّه في جوفه على عجل، وقبل أن يغادر البيت، توجّه إلى غرفة ابنته براء وقال لها:
– استعدّي يا عروستنا الجميلة، سأزوّجك لجارنا الأرمل السّتيني أبو الفضل. كان قد طلب يدك منذ شهرين ولم أعطه جوابا.
وغادر المنزل على الفور، دون أن يلتفت إلى زوجته.
جنّ جنون براء، وأجهشت بالبكاء.
طمأنتها أمّها قائلة:
– لا تخافي يا ابنتي. لن تتزوّجي أبا الفضل ولو على جثّتي.
لن أسمح لأحد أن يدمّر حياتك، فلا زال المستقبل أمامك.
وبيّتت الأمّ أمرا في نفسها.
*****
وصل صخر إلى كراجه، فوجد الصّبيّ الذي يعمل عنده يصلح سيّارة من موديل قديم جدّا، فأمسك به من أذنه يؤرجحه يمنة ويسرة، ثمّ صفعه صفعة على رأسه أفقدته توازنه وقال:
قال الصّبيّ متألّما يتحسّس أذنه، يتفقّدها، يتأكّد أنّها لا زالت في مكانها:
وأخذ يتمتم بشتائم كبيرة للصّبيّ وللمسنّ صاحب السّيّارة القديمة.
ترك الصّبيّ السّيارة القديمة على مضض، وأخذ يفحص السّيارة الجديدة.
وإذا بصديق قديم لصخر يدخل إلى الكراج، فأخذه بالأحضان. لم يصدّق صخر أنّ “عنان” وصل أرض الوطن. فقد هاجر إلى كندا منذ عشرين عاما، وحصل على الجنسيّة الكنديّة، فأخذا يستذكران أيّام الطفولة والمراهقة، وضحكتهما وصلت آخر الشّارع سعيدين.
سأل صخر:
صمت صخر وقال:
أوجعني موته يا عنان. مات قتيلا، وكنت أنا السّبب. كان هناك بعض الأشرار الذين حاولوا الاعتداء عليّ في الكراج بسبب مشكلة قديمة بيننا، وأثناء عراكنا، رفع أحدهم سكين ليطعنني به، فتدخل عميد ليحميني، فأخذ المسكين الضربة عنّي، وقضى على الفور، فقد توسطت السّكين القلب، ولكنّني لم أسكت، تناولت مفتاحا ثقيلا وضربت من طعنه ضربة قوية على رأسه، وغرست مفكّا كان على الأرض بخاصرة آخر؛ فهرب الباقون. ولكنني فقدت فلذة كبدي، ودخلت السّجن مدّة ثلاث سنوات. ولا زال الضّمير يعذّبني ليل نهار.
سآخذك إلى مشروع سكنيّ في بيت حنينا. اشتريت شقّة هناك في الطّابق الخامس، وعدني المقاول أنه سيسلّمني مفتاح الشّقة جاهزة خلال ستّة أشهر. هيّا بنا لنزور الموقع. يهمّني رأيك كثيرا.
ركبا سيارة صخر المرسيدس السّوداء الجديدة، وتوجّها سويّا إلى المشروع السّكني. وصلا إلى الموقع، أعجب صخر بتصميم البناية، فصعد إلى الطّوابق العليا من خلال سلالم مؤقتة معلّقة بحبال. حاول عنان منعه من الصّعود خوفا عليه، فهي غير مأمونة. إلا أنّه أبى كعادته مدّعيا أنّه خبير في هذه الأمور، وأثناء صعوده، قٌطع حبْل، فسقط صخر من علوّ الطّابق الرابع صريعا.
*****
لم تترك ندى ابنتها طيلة اليوم، بقيت في غرفتها تتحدّث إليها لتخفّف عنها صدمتها، إذ أصابتها حالة من الهستيريا، يصاحبها رجفة في جميع أنحاء جسدها، بعد أن علمت بنيّة والدها تزويجها من العمّ أبي الفضل، فقد أصبح ربّ الأسرة عدوّا بدلا من أن يكون سندا وداعما لأسرته، يهدّد سعادتها وأمنها، ويزيد من همّها، وإذا بجرس الهاتف يرنّ بإصرار، رفعت الأمّ سماعة الهاتف لتتفاجأ بالشّرطة تبلغها بمقتل زوجها.
تجمّدت الأمّ فور سماعها الخبر، وسقطت السّماعة من يدها، فتناولتها براء لتتلقى الخبر.
اختلطت مشاعر ندى، فلم تستطع تمييزها، أهي حزينة أم غير ذلك! لا تريد أن تقول أنّها فرحة بهذا الخبر، فهو ربّ الأسرة، على الرغم من أنّها كانت قد بيّتت في نفسها أمرا، إن أصرّ على تزويج براء من أبي الفضل. هل حقا كانت قادرة على أن تضع له السّمّ في طعامه إن أصرّ على رأيه!
لقد أنقذها الله وأبعد الأب عن الأسرة، دون أن تضطرّ لارتكاب جريمة. فلماذا لا تفرح! وهو عنيد، هي تعرف تماما أنّه ما كان سيتراجع عن رأيه أبدا.
إذا هي حرّة الآن! وابنتها لن تتزوّج أبا الفضل. ترى هل ستستطيع أن ترسم البسمة على شفاه أسرتها بعد عيشة النّكد التي فرضها ربّ الأسرة طيلة السّنين الماضية على كلّ من في البيت؟
كانت براء تنظر إلى وجه أمّها تقرأ ملامحه دون أيّ تعليق. وكأنّها شعرت بأمّها وما يجول بخاطرها.
ارتمت البنيّة بحضن أمّها وأجهشتا معا ببكاء مرّ، لم يعرفا تفسيره.
16
انتهت أيّام العزاء الثّلاثة. وقف الجيران والأصدقاء وقفة أصيلة مع الأسرة. لم يكن من عائلة الفقيد سوى عدد قليل جدا، فقد كان صخر قد أساء إلى معظم أفراد عائلته، وقطعوا جميعهم علاقتهم به وبأسرته من منطلق (ابعد عن الشّر وغنّي له).
وقف عنان مع أسرة الفقيد وقفة صديق مخلص، خاصّة وأنّه يشعر بعذاب الضّمير، فقد اعتبر نفسه أنّه هو من تسبّب بمقتل صديقه. على الرّغم من أنّه حذّره، وحاول منعه من الصّعود على سلالم المبنى.
كان عنان يزور الأسرة مع أمّه وشقيقتيه حنان وعبير بشكل يوميّ، يتفقّد احتياجات الأسرة، ولكنّه كان يتجنّب النّظر إلى ندى، أو التّعامل معها بشكل مباشر. كان يتعامل مع الطفلين كريم وكريمة بحبّ كبير، ويصطحبهما لشراء بعض الألعاب والحلويات، كما كان يجلس مع براء يتحدّث معها عن تخصصها الجامعي في علم النّفس، ورغبتها في إكمالها دراسات عليا في ذات المجال.
كان عنان يشعر بتسارع دقات قلبه عند دخوله بيت صخر ويصطبغ لون وجهه بالأحمر القاني فور رؤيته لأرملة صديقه ندى، ويشعر بارتباك ملحوظ رغم محاولته إخفاء توتّره.
شعرت به أخته حنان، فهي شقيقة الرّوح وبيت أسراره. وبعد عودتهم من بيت صخر، انتحت به جانبا:
- يا حنان، أوتظنّينأنّني سافرت إلى كندا بإرادتي؟ سافرت هروبا من حبّها. فقد تزوّجت صديق عمري.
كنّا نراها أثناء عودتها من المدرسة. كم كانت جميلة! كنت أحلم بها ليل نهار. وإذا بصخر يفاجئني بحبّه لها، وبأنّه يتمنّاها زوجة. فلم أستطع أن أعلمه بمشاعري تجاهها، فباركت له على مضض. وبعدها تقدّم لخطبتها، وكان ما كان.
كان حضور حفل زفافهما فوق احتمالي، فادّعيت أنّني مريض، وبعدها سافرت إلى كندا لأكمل دراستي. كان هروبا يا حنان.. هروبا.
ربتت حنان على كتفه وقالت:
- ما كنت تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك يا عنان. لا تجلد نفسك.
17
بعد مضيّ أربعة أشهر وعشرة أيام على موت صخر، انتهت فترة عدّة أرملته ندى، فشعرت أنّ الحياة قد عادت إليها من جديد، تفتح لها ذراعيها بحبّ. فلماذا لا تأخذ بنصيحة ابنتها براء وتكمل دراستها الجامعيّة، فقد كانت طالبة ذكيّة ومتفوقة؟ ورغم كلّ ظروفها الصّعبة استطاعت أن تسجّل معدل سبعة وسبعين في امتحانات الثّانويّة العامّة، وهو معدل جيّد.
كانت تحلم أن تدرس أيّ تخصص له علاقة بعلم النّفس والتّربية الاجتماعيّة. وقد كانت قارئة نهمة في هذا المجال، تحاول تثقيف نفسها باستمرار.
حاولت أن تقنع صخر بعد زواجهما بإكمال تعليمها، إلا أنّه رفض بإصرار، إذ أنّ الزوجة عنده لا يكون مكانها سوى بيت زوجها.
شجّعتها ابنتها براء، وذهبتا سويا إلى جامعة القدس المفتوحة في بلدة العيزريّة، فهي الجامعة التي تستطيع أن تدرس فيها عن بعد دون أن تضطرّ للالتزام بالدّوام اليوميّ النّظاميّ، فلا زال طفلاها كريم وكريمة يحتاجان لها.
وهما في طريقهما إلى البيت، عرّجتا على مدرسة تعلّم دروس السّياقة، وسجّلتا فيها. فلا زالت سيّارة صخر المرسيدس السّوداء الجديدة تصطفّ على الرّصيف مقابل العمارة، ولا تجد من يقودها.
*****
صباح اليوم التّالي، رنّ جرس ياب المنزل، فإذا بها جارتها أمّ العارف، وقد عادت من زيارة ابنها وأسرته في دبيّ، فهو يعمل هناك في مجال الإعلام منذ أكثر من سبع سنوات. وما أن فتحت ندى الباب حتى احتضنتها بشوق، فقد زادت فترة غيابها عن أسبوعين، وهي الجارة المخلصة الوفيّة، التي وقفت معها ودعمتها في عدة محطّات من حياتها.
أعلمتها ندى بأنّها سجّلت في الجامعة لإكمال تعليمها، ففرحت لها أمّ العارف، وأثنت على خطوتها التي اعتبرتها موفّقة وحكيمة.
واقترحت عليها أن تعمل في روضة بالقرب من العمارة التي يسكنان بها، فهي تحمل شهادة الثّانويّة العامّة، وقد رأت إعلانا يطلب مربّية أطفال.
فكّرت ندى لبعض ثوان قبل أن تجيب:
- اتركي الموضوع عليّ يا ندى. أنا أعرف صاحبة الرّوضة، وهي لن ترفض لي أيّ طلب. المهمّ أن تقتنعي.
خرجت براء من غرفتها، فقد كانت تستعد للخروج إلى الجامعة. فرحت كثيرا حين رأت أمّ العارف، شاركتهما في نقاشهما بخصوص عمل والدتها في الرّوضة، فشجعت أمّها:
اقتنعت الأمّ برأي ابنتها على الفور وقالت لأمّ العارف:
ابتسمت أمّ العارف سعيدة بمنطق براء وقالت:
ضحكوا جميعا، وقالت ندى ممتنّة لأمّ العارف:
18
قسّمت ندى وقتها بين أسرتها وعملها ودراستها. فاكتشفت طاقتها، وأخذت تعتني بنفسها، وتولي عناية بمظهرها الخارجيّ، فشعرت بإنسانيّتها، وازدادت جمالا.
اتّسعت دائرة علاقاتها، خاصّة مع أولياء أمور الأطفال الذين تعلّمهم وتعتني بهم. كانت مخلصة جدّا في عملها، دمجت معرفتها مع مشاعر الأمومة، فأحبّها الأطفال وأولياء أمورهم.
نجحت ندى وبراء بامتحان السّياقة من المرّة الأولى، فأخذت الأمّ سيّارة صخر “المرسيدس” السّوداء، فازدادت هيبة. واشترت لابنتها سيّارة من نوع مازدا اختارتها براء بنفسها.
ومضت الأيّام سعيدة، تطوي صفحة سوداء في حياتهما.
*****
في صباح يوم ماطر، نزلت ندى وطفلاها كالعادة لتوصلهما إلى المدرسة، ومن ثمّ تتوجه إلى مكان عملها في الرّوضة، وإذا بها تجد إطار سيّارتها معطوبا، فجنّ جنونها… من سيبدّل لها الإطار والمطر غزير والجوّ عاصف؟ وكانت براء قد سبقتهم إلى جامعة بيرزيت قبل أقلّ من ربع ساعة. التفتت حولها وإذا بأبي العارف يطلّ من بيت درج العمارة، رآها وطفليها في حالة ارتباك، فاقترح عليها أن يوصلهم بسيّارته، إذ كان الجوّ سيّئا جدّا، ومن الصّعب تبديل الإطار. وافقت على اقتراحه وهي محرجة:
- شكرا لك أيّها الجار الطّيّب، أرجو ألا نتسبّب لك بالتّأخير عن عملك.
- لا تقلقي يا أمّ عميد، لا زال الوقت مبكرا. وأعدك أنّني سأبدّل لك الإطار المعطوب بعد عودتي من العمل عصرا.
- أنت وأمّ العارف سندي وو..
ثم صمتت ندى وقالت:
- لا أدري ماذا أقول لك.
ضحك أبو العارف وقال:
- لا تقولي شيئا، النّاس لبعض البعض يا بنت الحلال. المهمّ أن تصلوا في الوقت المناسب.
أوصل الطّفلين للمدرسة ومن ثم أوصلها إلى الرّوضة حيث تعمل. وعرض عليها أن يصطحبهم في طريق العودة، فرفضت بشدّة، وقالت له أنّ براء ستعود بهم إلى البيت بسيّارتها، إذ أنّ دوامها اليوم في الجامعة قصير.
شعرت براحة، فهي تشعر أنّ أبا العارف وزوجته قدّما لأسرتها الكثير، وهي تؤمن بالمثل القائل: “إن كان حبيبك عسل تلحسوش كلّه”. فلا ضير من كذبة بيضاء، فلن تعود براء مبكرا اليوم من الجامعة.
عادت ندى وطفلاها إلى المنزل في سيّارة أجرة، فوجدت سيّارتها لا زالت بإطارها المعطوب تنتظرها بجانب الرّصيف. وإذا بطفلتها كريمة تتنهّد، وكأنّ روحها ارتدّت إليها. لكزت أمّها من خاصرتها، وقد كانت بسمتها تشير بأنّ الفرج :
– أمّي.. عمّي أبو العارف وصل.
التفتت ندى، وإذا بأبي العارف يركن سيّارته بجانب الرّصيف المقابل، نزل من سيّارته وتوجّه نحو سيّارة ندى. كانت السّماء صافية من حسن حظّهم. ركض الطفلان باتّجاه الجار، ضمّهما بحنان الأب، وقبّلهما على الجبين.
قالت كريمة: الحمدلله أنّك جئت يا عمّي، فإطار السّيارة لا زال معطوبا.
ضحك أبو العارف وقال:
– لا تقلقوا، أنا هنا.. سأغير الإطار على الفور.
وصل حيث تقف ندى، وقد كانت تشعر بالحرج:
– غلبناك يا أبا العارف.
– غلبتكم راحة يا أمّ عميد، لا تهتمّي، الجار للجار.
– أدامك الله لنا أنت وأمّ العارف يا ربّ، فأنتما من خيرة النّاس.
ضحك أبو العارف وقال:
– كفّي عن هذا الكلام يا أمّ عميد. الناس لبعضهم.
فكّ أبو العارف الإطار المعطوب، واستبدله بآخر يقبع في صندوق السّيّارة الخلفي.
كلّ هذا وأمّ العارف ترقب ما يجري خلف زجاج نافذة المطبخ التي تطلّ على الرّصيف حيث تقف سيّارة ندى.
تذكّرت أمّ العارف كلام جارتها أمّ العبد:
– لم أر أجهل منك يا أمّ العارف، أنت تضعين البنزين بجانب النّار. ندى لا زالت شابّة وجميلة، وكلّنا نلحظ اهتمام أبي العارف بها وبأبنائها. صدّقيني، لن يطول الأمر وسيأتي بها ضرّة لك.
– لا يا أمّ العبد، ندى مسكينة ومكسورة الجناح، وأبو العارف تزوّجني عن حبّ، لا يستغني عنّي أبدا، ولن يفعل.
ضحكت أمّ العبد، مطّت شفتها السّفلى بحركة مضحكة تشير إلى استهبالها لجارتها:
– ظننت أنّك أذكى من ذلك، يقول المثل: يا مْأمّن للرّجال يا مْأمّن للمي بالغربال.
رغم أنّ أمّ العارف حاولت ألا تتأثر بكلام جارتها، إلا أنّ القلق بدأ يساورها بعد محادثتها مع أمّ العبد، وأصبحت ترقب زوجها بشكل غير إراديّ، فقد رأت ندى وطفليها داخل سيّارة زوجها صباحا، وبعد العودة من العمل التقى بها أيضا. فهل هي الصّدفة؟ بدأ الفأر يلعب في عبّها، وزاد من قلقها.
وبينما كانت تحدّث نفسها وإذا بأبي العارف يدخل المنزل، ينادي عليها وهو يتوجه نحو الحمّام؛ ليغسل يديه اللتين اصطبغتا بالسّواد من إطار سيّارة ندى:
– أين أنت يا أمّ العارف؟ أين أنت يا رفيقة العمر؟
ركضت نحو الحمّام ترحّب بزوجها كما هي العادة دوما:
– أهلا بزوجي الحبيب، هل أجهز مائدة الطّعام؟
– نعم.. أنا ميّت من الجوع. أشمّ رائحة طعامك الشهيّ.
ضحكت ضحكة من القلب وقالت:
– ألف سلامة عليك يا حبيب القلب. لقد جهّزت لك الطّعام الذي تحبّه، الملوخيّة مع الدّجاج المشويّ.
اقترب منها، رفع يدها، وطبع قبلة على ظاهر كفّها:
– سلمت أيادي أجمل زوجة في الدّنيا.
توجّهت إلى المطبخ وهي تحدّث نفسها، فهو يتصرّف كعادته، هذا هو طبعه حين يدخل المنزل، لا يستوعب أن تبعد عنه دقيقة واحدة. كلامه الجميل يتدفّق عسلا من شفتيه مثل كلّ يوم. تصرّفاته تصرفات عاشق، فلم تتغيّر مشاعره تجاهها طيلة ثلاثة وثلاثين عاما من زواجهما. سألت نفسها:
ترى هل سيتغيّر يوما؟ وهل جميع الرّجال لا يؤمن جانبهم؟ هي ترى أن زوجها من طينة أخرى، فهو الحبيب المخلص.
جلسا سويّا على المائدة، وكعادته بدأ يروي لها ما حصل معه طيلة فترة غيابه عنها، وتطرّق لما حدث مع ندى وأطفالها صباحا، وكذلك حين عاد من عمله. كان يتكلّم عن هذه الأسرة المنكوبة مبديا شفقته على تلك الأرملة وأطفالها اليتامى.
سألت أمّ العارف نفسها: ترى، هل هذه المشاعر هي حقّا مشاعر شفقة؟ وهل من الممكن أن تتحوّل إلى مشاعر أخرى بعد حين؟ تذكّرت كلام أمّ العبد وقالت تحدّث نفسها: الحذر واجب. يقول المثل: “لا تنام بين القبور، ولا تحلم أحلام مزعجة”. وقرّرت أن تختصر من علاقتها بجارتها الأرملة كي ترتاح وتحافظ على زوجها.
18
دخلت ندى وطفلاها المنزل، وبعد عدّة دقائق وصلت براء بعد يوم شاق في الجامعة.
توجّهت من فورها إلى المطبخ؛ لتجهز الطعام مع أمّها، فلاحظت أنّ أمّها على غير عادتها حزينة مشتّتة الذّهن، ليست على طبيعتها، فسألتها:
- ما بك يا أمّي، أراك متكدّرة اليوم؟
أجابت ندى وهي تحاول أن تغلب دمعة:
- لا شيء يا حبيبتي أنا بخير. كيف كان يومك؟
غصّت الكلمة في حنجرتها فخرجت متقطّعة، لم تستطع ندى كبت دمعتها، حاولت أن تمسحها قبل أن تلحظها براء. أدارت وجهها عن ابنتها، ولكن براء تعرف أمّها جيّدا، فهي الأمّ والصّديقة. سحبت أمّها نحوها، ضمّتها إلى صدرها، فانفجرت الأمّ ببكاء مرّ وهي تضع رأسها على كتف ابنتها.
جنّ جنون براء، لم تحتمل أن ترى أمّها بهذا الضّعف، وهي القويّة التي وقفت أمام التّحديات التي واجهتها، وسألتها مرّة أخرى:
- ما بك يا أمّي؟ ما الذي تخفينه عن ابنتك حبيبتك وصديقتك؟ هيّا. أليس أنت من تقولين لي أنّ لكلّ شيء حلّ، وبأنّ الدّنيا كلّها لا تستحق منّا دمعة! ما الذي يكدّرك؟
مسحت ندى دموعها ووعدت ابنتها أن تعلمها بكلّ شيء بعد أن يتناولوا الطّعام، فقد حرصت على ألّا يلحظا طفلاها أيّ ضعف منها، فهي الأمّ والأب والسّند ومصدر الأمان لهما، لا تريد أن يشعرا بأيّ شيء يقلقهما.
قدّرت براء موقف أمّها وزاد من احترامها ومحبتها لها.
توجّه كريم وكريمة إلى غرفتهما لحلّ واجباتهما المدرسية. وجلست ندى وبراء في الصّالة يحتسيان القهوة.
نظرت ندى إلى أمها، وقبل أن تتفوّه بأيّ كلمة قالت الأمّ:
- لم أعد أحتمل يا براء، كلّ من أتعامل معه ويعرف أنّني أرملة، إمّا أن يتعامل معي بشفقة جارحة، أو إذا كان رجلا أشعر أنّه ينتظر فرصة لتجاوز حدوده معي. أمّا النّساء المتزوّجات فأشعر أنّهن يتجنّبنني ولا يتحمّسن إلى بناء علاقة صداقة معي.
ضحكت براء ضحكة أسى وقالت:
- هل يخفن على أزواجهن منك؟
- يبدو ذلك. تصوّري، لقد حصل معي موقف سيّء جدّا اليوم في الرّوضة. اتصلت بوليّ أمر طفل من أطفال الرّوضة يعاني من ارتفاع بالحرارة، وهي ليست المرّة الأولى التي ترتفع درجة حرارته، فقبل حوالي شهرين ارتفعت حرارته ارتفاعا شديدا تسبّب له بتشنج يشبه حالات الصّرع، أربك كلّ من كان في الرّوضة، فحملته بسيّارتي على مسؤوليّتي إلى أقرب مركز صحّيّ لأعالجه، واتّصلت إدارة الرّوضة بوالد الطّفل فحضر إلى المركز على الفور، فشكرني كثيرا، وزوّدني برقم هاتفه؛ لأتواصل معه مباشرة في حالة أيّ طارئ لطفله. وحذّر طبيب المركز من ارتفاع درجة حرارة الطّفل مرّة أخرى، وأكّد على ضرورة متابعته ومراقبته؛ كي لا تتكرّر حالة التّشنج، لأنّها قد تترك أثرا صحّيّا سيّئا على الطّفل.
بعد أن ارتفعت حرارته اليوم، اتّصلت بالرّقم الذي زوّدني به الأب، وإذا بصوت أنثوي يطلّ عليّ عبر الهاتف، فعرّفت بنفسي وطلبت والد الطّفل، فقالت لي أنّها أمّ الطفل، فأعلمتها أنّ ابنها يعاني من ارتفاع حرارته، ورجوتها بأن تحضر لاصطحاب ابنها إلى الطّبيب.
فتفاجأت بسؤال منها هزّ بدني:
لماذا لم تتّصلي على هاتفي أنا؟ هذا الرّقم هاتف زوجي.
أجبتها على الفور: هذا هو الرّقم المتوفّر عندي.
ردّت بنبرة حادّة:
بل يوجد في الإدارة رقمان: رقمي ورقم زوجي. كفّي عن أساليبك هذه، فأنا أعرفها جيّدا. اذهبي يا امرأة وابحثي لك عن رجل آخر غير زوجي.
وأغلقت الهاتف في وجهي. وبعد ربع ساعة حضرت إلى الرّوضة لتصطحب طفلها، نظرت نحوي نظرة غريبة يصاحبها ابتسامة ازدراء، حملت طفلها وغادرت دون أن تتفوّه بأيّ كلمة.
استمعت براء لحديث أمّها وابتسمت قائلة:
- أهذا ما أزعجك اليوم؟
تفاجأت الأمّ من ردّة فعل ابنتها وسألتها متعجّبة:
- ألا تعتبرين أنّ هذا الموقف مسيء لي؟
حاولت براء أن تجعل الأمر طبيعيّا، فتناولت ريموت التّلفزيون، وأخذت تتنقل بين القنوات المختلفة وهي تقول:
- بل هو مسيء لهذه المرأة المتخلّفة يا أمّي. لو كان عندها ثقة بنفسها وبزوجها لما تصرّفت بهذا الشّكل المشين.
- بالله عليك يا براء ألا تمارسي عليّ أساليبك. أدري أنك تودّين تخفيف وطأة الموقف عليّ. ولكن ما حصل اليوم مهين لي، ويعكس نظرتها تجاهي.
- أمّي، أنت جميلة، وهذا اعتراف منها بذلك. وهي تافهة وسخيفة. فكيف ترضى أن تضع نفسها في هذا الموقف المشين، المهين بحقّها قبل أن يكون بحقّك؟ يبدو أن علاقتها مع زوجها هشّة، وأنت من دفع الثّمن.
- لا يا براء. يبدو أن نظرة المجتمع للأرملة نظرة غير مريحة. تصوّري أنّ الجارات في العمارة أصبحن يتجنّبنني. وقد علمت أنّ جارتنا أمّ سمير دعت جميع الجارات مساء أوّل أمس إلى بيتها لمناسبة تخرّج ابنتها من الجامعة بامتياز واستثنتني. مع أنّ علاقتي بها كانت جيّدة قبل وفاة والدك، ودوما كنت أوّل المدعوّات إلى مناسباتها المختلفة.
- لا تأبهي بها يا أمّي. المهمّ أنّك مقتنعة بنفسك وراضية عنها.
- كفاك شعارات يا براء، الجنّة من غير ناس ما بتنداس كما يقولون يا ابنتي. أصبحت أشعر أنّني معزولة عن كلّ معارفي. وهذا شعور يؤذيني. أقسم بالله أنّني لم أتعامل مع أيّ رجل قبل وفاة والدك وبعدها إلا كأخ أو زميل. أنا لا أفكر بالارتباط من جديد بأيّ رجل كان. والدك تسبّب لي بعقدة من الرّجال لا يمحوها الزّمان. عشقت حرّيتي بعد موت والدك.
ثم أكملت حديثها لابنتها قائلة:
الآن فهمت لماذا تزوّجت صديقتي وفاء بعد أن ترمّلت. مع أنّ أهل زوجها المرحوم تصدّوا لها كثيرا وحاولوا منعها بشتّى الطّرق، واتّهموها بأنّها خائنة لم تحفظ العشرة، وبأنّها لا تستحقّ أن تحمل اسم وفاء، لأنّ الوفاء صفة بعيدة عنها. وحرموها من أطفالها الثلاثة. وعندما سألتها لماذا تزوّجت؟ ابتسمت وقالت: (ظلّ راجل ولا ظل حيطة) كما يقول المصريون يا ندى. لا أحد يشعر بي إلا من هنّ في وضعي. لم أعد أحتمل نظرة النّاس تجاهي. ضعت وأنا أتأرجح بين نظرات الشّفقة من جهة، وبين نظرات الرّجال من حولي الذين يطمعون بي، والتّقرب منّي بحجّة المساعدة والدّعم النّفسيّ لي ولأطفالي، وبين زوجاتهم اللواتي يعتبرنني مجرمة بحقهنّ وحق أسرهنّ وخرّابة بيوت. كرهت نفسي، وكرهت كلّ من حولي.
- أعتقد أنّ هناك مبالغة في هذه المشاعر يا أمّي. هناك العديد من الأرامل الّلواتي عشن حياتهن دون أن يشعرن بشعورك وشعور وفاء. وفاء إنسانة ضعيفة، استسلمت لكلام النّاس وقضت على نفسها وعلى أطفالها.
- لا يا براء. أتعرفين أنّ والدك كان ضحيّة نظرة المجتمع للأرملة. شعر أنّ كلّ رجال الحيّ يطمعون بأمّه، فتحوّل إلى وحش. أصبح جلّ همّه حماية والدته من طمع رجال الحيّ.
وبينما كانتا منشغلتان بنقاش نظرة المجتمع للأرملة، وإذا بمسلسل بعنوان (الأرملة) يطلّ عليهم عبر شاشة التّلفاز. ضحكت براء وقالت:
- يا سبحان الله! لو أننا ذكرنا مليون دينار.
نظرت الأمّ إلى التّلفاز وابتسمت:
- نعم، الدراما العربيّة تعكس واقع الأرملة من خلال أفلامها ومسلسلاتها، لأنّها تعي تماما وضع الأرامل الحرج في المجتمع.
- أتعرفين يا أمّي أنّ الدّراما العربيّة تسيء للمرأة بشكل عامّ، وللمطلقة والأرملة بشكل خاصّ. على سبيل المثال يطرح هذا المسلسل قصّة رجل أعمال سعوديّ يتزوّج من فتاة أردنيّة صغيرة في السّن، ثمّ يتوفّاه الله، فتواجه أرملته مشاكلها وحياتها وهي وحيدة دون معين، لا يقف أحد بجوارها، وتصبح مطمعا للجميع مع أنّها حامل، فتتعرّض إلى العديد من المشاكل الاجتماعيّة، خصوصا بعد ولادتها. ولا ينقذها سوى شقيقها الذي تصدّى لكلّ من حاول النّيل منها. مسلسل سخيف يا أمّي ومحبط. لماذا لم يجعل المخرج من الأرملة بطلة تتصدّى لكلّ العقبات وتتغلّب على جميع التّحديات وحدها؛ لتسجّل قصّة نجاح؟ هذه المسلسلات بهذا الطّرح السّاذج ترسّخ المعتقدات البالية عند المجتمع وتثبّتها في عقول المشاهدين بدلا من أن تغيّرها.
- نعم صحيح يا براء، للأسف. النّساء الأرامل والمطلّقات مظلومات في مجتمعاتنا العربيّة. وهذه المسلسلات تزيد من ظلمهنّ.
- أمّي، لا أحد يستطيع أن يحمي أيّ امرأة إن لم تكن قويّة من الدّاخل، لا أب ولا أخ، ولا ابن عمّ، عليها أن تؤمن بدورها وطاقتها، وتستمرّ في عطائها، وسيعترف بها المجتمع شاء أم أبى.
- اتركي نظريّات التّنمية البشريّة هذه، وكوني واقعيّة. من الصّعب تغيير نظرة المجتمع.
- أنا واقعيّة يا أمّي. الإنسان يمتلك طاقة رهيبة داخله، ولكن معظمنا لا يعي ذلك. أتعرفين أنني اكتشفت نفسي بعد موت أبي. كنت أظنّ أنّ أبي هو الحامي الوحيد لي. كان يكبّلني، ولا يدعني أتصرّف وحدي. في الآونة الأخيرة تعرّضت لأكثر من موقف صعب، فانطلق المارد الذي يسكنني.
صمتت براء لوهلة، ثم ضحكت وهي تسترجع نظرات زملائها وزميلاتها في الجامعة من ردات فعلها، ومن مبادراتها التي لم يتوقّعها أحد منهم، فقد كانت الفتاة الخجولة الهادئة التي تبتعد عن الأجواء الصّاخبة، لم تكن تشارك بأيّ فعالية اجتماعيّة أو ثقافيّة. سمعت زملاءها وهم يقولون: أهذه هي براء التي كنّا نعرفها.. غير معقول؟ وقد زاد هذا من ثقتها بنفسها. ثم أكملت حديثها مع أمّها:
- أشعر بقوّة غير عاديّة داخلي يا أمّي. أنا على استعداد أن أواجه العالم أجمع. أنا قويّة.. أنا قويّة يا أمّي.
حضنت الأمّ ابنتها سعيدة بها وبهذا التّغيير الذي طرأ على شخصيّتها، والتي ابتدأت فعلا تشعر به من خلال تعامل ابنتها مع الجيران والأصدقاء. ولكنّها شعرت بشيء من الخوف على ابنتها فقالت:
- يا ابنتي، انا سعيدة بك، ولكن عليك ألّا تغترّي بنفسك وتبالغي بهذه المشاعر. عليك ضبط هذا الانطلاق قليلا. “فالزّايد أخو النّاقص” كما يقولون.
- لا تخشي عليّ يا أمّي. أنا أزن نفسي جيّدا، وأعرف كيف أوظّف طاقتي بالشّكل الذي يخدمني ولا يضرّني.
أتعرفين يا أمّي، لقد انتهيت أوّل أمس من قراءة مذكّرات المهاتما غاندي، ولم أصدّق أن هذا الرّجل العملاق الذي حرّر الهند كان حيّيا جدّا لدرجة أنّه عندما سافر في الباخرة من الهند إلى بريطانيا لدراسة القانون، كان يستحي أن يطلب الماء من النّادل طيلة رحلته، كان ينتظر ممّن حوله التكرّم بما يجودون عليه، ولم يحصل أن طلب حاجته من طعام وشراب.
وقد شاهدت مقابلة تلفزيونيّة مع الممثّلة المصريّة القديرة سميحة أيوب صاحبة لقب ” سيّدة المسرح العربيّ”، والمعروفة بقوّتها، وتميّزها بشخصيّتها المانعة. سألها المذيع:
ما سرّ هذه الشخصية الحديدية؟
ضحكت وتحدثّت عن بداية شبابها، فقالت إنّها كانت ضعيفة وخجولة جدّا، استغلّها كلّ من حولها، فلم تكن تستطيع المواجهة، لدرجة أنّ بعضهم كان يشهّدها زورا على بعض الأمور، ولم تكن تجرؤ أن تقول له بأنّه كاذب، إلّا أنّ الحياة علّمتها بأنّها إن لم تكن ذئبا فستكون وجبة شهيّة للكلاب قبل الذّئاب. فاضطرّت أن تحرّر المارد الذي يختبىء داخلها، وانطلقت.
أمّي، أنت قويّة أيضا. واجهتِ العديد من الصّعاب ونجحتِ، حرّري المارد الذي يسكنك. فأنا أتعلّم منك، أنت مدرستي الأولى التي أعتزّ بها.
ضحكت الأمّ من قلبها وقالت:
- والله يا براء أنّني أخشى أن أطلق المارد الذي بداخلي فيأكلني ويأكل أسرتي، فأصبح على ما فعلت نادمة.
- لن تندمي. أطلقيه، فلن يأكل سوى من هم عقبة في طريقك.
واجعلي شعارك دوما: “طنّش تعش تنتعش”. أنا أؤمن بهذا القول، وأصبحت أعمل به. فلا يهمّني كلام النّاس. لن يرضى النّاس أبدا مهما فعلت. عيشي حياتك يا أمّي. من باعك يا أمّي اشطبيه من حياتك، ومن اشتراك تمسكي به دون تردّد. أنت فقط من سيقود حياتك إلى ما ترغبين.
- نعم، معك حقّ يا براء، أتذكر جملة نيلسون مانديلا الشّهيرة: ” أنا مدير حياتي، أنا ربّان روحي”.
- نعم، أنت مديرة حياتك يا أمّي، أنت ربّان روحك، قودي نفسك إلى حيث ترغبين.
هزّت ندى رأسها سعيدة بمنطق ابنتها، وحاولت أن تغيّر موضوع النقاش:
- ألم تقولي أنّك ستدرسين لامتحان غد؟
ضحكت براء وقد فهمت قصد أمها:
- نعم سأدخل غرفتي للدّراسة يا أجمل أمّ في الدّنيا، ولكن للحديث بقيّة.
قبّلت أمّها، وتوجّهت إلى غرفتها للدّراسة.
ارتاحت ندى لكلام ابنتها، شعرت أنّها تحتاج إلى الحديث مع جارتها الطّيبة أمّ العارف، فاتّصلت بها كي تدعوها لشرب فنجان قهوة. ولكنّ أمّ العارف لم تردّ حين ظهر رقم ندى على شاشة الهاتف، كرّرت ندى المحاولة، ولا مجيب.
وردة وندى
19
عادت براء مبكّرا من جامعتها إلى المنزل على غير عادتها، أخذت تنادي على أمّها ملهوفة تبحث عنها في المنزل:
- اّمّي، أمّي.
خرجت الأمّ من غرفة كريم وكريمة على صوت براء على عجل مستغربة، فقد علمت صباحا من براء أنّها ستعود في وقت متأخّر من المساء، فهي مدعوّة لحضور حفل عيد ميلاد زميلة لها في رام الله. فسألتها قلقة:
- خير يا براء! ما الذي جاء بك مبكّرا اليوم؟
- أتذكرين يا أمّي معلمتي وردة عبد الرحمن في المدرسة؟
- بالتّأكيد، فكيف أنساها؟ كانت معلمة اللغة الانجليزيّة، كم كنت أحترمها وأقدّر هذه المعلّمة. ما بها؟
- علمت اليوم أنّ والدتها توفّيت. وهناك بيت للعزاء في بيت أهلها في شعفاط لمدة ثلاثة أيام. يبدأ من اليوم.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله، رحمها الله وصبّر ابنتها. فكم كانت تحبّك، لن أنس فضلها عليك، فعلى الرّغم من ظروفها الصّعبة ووفاة زوجها وهي في عزّ شبابها، إلا أنّها وقفت معك وقفة أصيلة عندما تعرّضت لكسر في قدمك، وكانت تأتي إلى المنزل لتعطيك الدروس دون مقابل، كي لا تتخلّفي عن زميلاتك في الدّراسة. فلنذهب غدا للقيام بالواجب يا براء.
- بل اليوم يا أمّي، لنذهب اليوم، هي بحاجة لمن يدعمها، فأنا أعرف كم هي رقيقة وحسّاسة، على الرّغم من أنّها تبدو جبّارة أحيانا. أحبّ هذه المعلّمة جدّا، أذكر كم كانت طيّبة ومخلصة في عملها. وقد قامت بالواجب حين توفّي أبي، وجاءت إلى بيت العزاء، هاتفتني يوميّا لمدة تزيد عن الشّهر، وتواسيني وتدعمني نفسيّا.
- فليكن يا براء. أحتاج إلى ساعة من الزّمن أراجع فيها دروس كريم وكريمة معهما، تتناولين خلالها وجبة الغداء.
- تمام يا أمّي.
تذكّرت ندى وردة معلمة ابنتها براء في المرحلة الثاّنوية، وما واجهته من تحدّيات بعد وفاة زوجها. فقد كانت على علم بتفاصيل حياتها من صديقة جارتها أمّ سمير، إذ كانت صديقتها وتدرّس معها في ذات المدرسة.
لقد تعرّضت وردة بعد وفاة زوجها إلى العديد من المواقف الصّعبة، لكنّها كانت قويّة، واجهت الصّعاب وتحدّت كل من حاول استغلالها، واستطاعت أن تضع حدّا لزميلاتها المعلمات اللواتي كن يستغبنها ويتجنّبنها خوفا على أزواجهنّ منها.
*****
لم يكن صعبا إيجاد بيت عزاء آل عبد الرحمن في شعفاط، إذ أنّ الفقيدة كانت صاحبة أيادٍ بيضاء على كلّ من هو محتاج في الحيّ، فقد سلكت طريق زوجها أبي عبد الرحمن -رحمه الله- الذي كان ملجأ لكلّ ملهوف، كما كان العديد من طالبات الثّانويّة العامّة يلجأن لابنتهما وردة لمساعدتهنّ في اللغة الإنجليزيّة.
وصلت ندى إلى حيث تسكن وردة، وإذا بسيّارة إسعاف تابعة لجمعيّة الهلال الأحمر تقف عند باب العمارة.
خرج إثنان من المسعفين يحملان وردة على حمّالة المرضى وهي فاقدة وعيها. اندفعت براء بقلق نحوها، فأوقفها المسعف، وطلب منها الابتعاد. رافقت وردة في سيّارة الإسعاف جارتها عزيزة، فسألتها براء:
– إلى أيّ مستشفى أنتم ذاهبون؟
– إلى مستشفى جمعيّة المقاصد الخيريّة.
دوت صافرة سيّارة الإسعاف تعلن عن انطلاقها، اختلط صوتها بصوت آذان العصر من الجامع المقابل لمنزلهم، فدخل قلب براء خشوع أدمع عينيها.
تبعت ندى سيّارة الإسعاف بسيّارتها بمعيّة ابنتها، عند الوصول للمستشفى دخلتا غرفة الطّوارئ مع عزيزة لتطمئنّا على وردة.
كانت صدمة وردة كبيرة بموت أمّها، خاصّة أنّها لم تكن مريضة، فقد تعرّضت إلى ذبحة صدريّة لم تمهلها دقائق معدودة.
تمّ تقديم الإسعافات اللازمة لوردة، ومن ثمّ سمح لها الطبيب بمغادرة المستشفى.
قدّرت وردة وقفة ندى وبراء معها في أزمتها ودعمهما المستمرّ لها، على مدى شهرين متواصلين، فتوطّدت علاقة الأسرتين، وأصبحت ندى ووردة صديقتين تتشاركان في ذات الهمّ الذي يؤرّقهما.
20
افتقدت ندى أم العارف التي لم تسأل عنها وعن أحوال أسرتها فترة طويلة لم تعتدها، كما لم تعتد أيضا أن تهمل مكالماتها الهاتفيّة.
بعد أكثر من شهرين من آخر زيارة لها في منزلها، التقت ندى بها صدفة وهي تهمّ بدخول العمارة التي تسكن فيها، فسلّمت عليها بحرارة المشتاق، وعاتبتها:
- أين أنت يا أمّ العارف طيلة هذه الفترة؟ افتقدتك، لعلّه خير.
ارتبكت أمّ العارف، وحاولت إيجاد أعذار مقنعة، ولكنّها لم تستطع إقناع ندى.
دعتها ندى لتناول فنجان قهوة، إلا أنّها اعتذرت بحجّة أنّها تنتظر ضيوفا، وانسحبت سريعا إلى منزلها تختصر الحديث، أطبقت باب شقتها على الفور، دون أن تدعوها للدّخول كما كانت تفعل دائما!
تسمّرت ندى في مكانها مصدومة، لا تستوعب ما يجري. ابتسمت ابتسامة أسى وهي تقرأ الموقف، تحاول أن تجد تفسيرا لهذا التّغيير في سلوك أمّ العارف معها.
توجّهت إلى باب شقّتها وهي في حالة ذهول، أخذت تحدّث نفسها: معقول، حتى أنت يا صديقة العمر!
ألقت جسدها على الأريكة، وانفجرت بكاء. رنّ هاتفها المحمول، تساءلت: ربّما أمّ العارف تريد أن تعتذر لها، فتحت حقيبتها على عجل، تناولت الهاتف وإذا بها وردة، ردّت عليها بصوت مخنوق حاولت ضبطه، إلا أنّ خيبة أملها بأمّ العارف خذلتها ووشت بها:
- ما بك يا ندى؟ هل تبكين؟ هل حدث أيّ مكروه للأولاد لا سمح الله؟
غاب صوت ندى ولم تستطع أن تجيب.
- ندى.. ندى.. ما بك؟ أين أنت؟
ردّت ندى تحاول أن تسيطر على صوتها:
- أنا في البيت يا وردة، كلّنا بخير والحمد لله.
- إذن لماذا تبكين؟
- خيبة أمل أخرى. لا تقلقي يا عزيزتي. اعتدت على خيبات الأمل.
- انتظريني، سأكون عندك خلال عشر دقائق.
- بانتظارك.
*****
عادت براء من جامعة بيرزيت عصرا إلى القدس بعد انتهائها من محاضراتها. أوقفت سيّارتها في موقف باب العامود، ونزلت إلى أسواق البلدة القديمة لشراء هديّة عيد الأمّ، فلم يتبقّ على مناسبة يوم الأمّ سوى يومين. اعتذرت من صديقاتها اللواتي أردن شراء هدايا أمّهاتهن من مدينة رام الله، فهي في أمسّ الحاجة لكي تكون وحدها بين أسوار القدس. وأرادت أن تفاجىء أمّها بهديّة تليق بها تختارها بعناية.
هي تعرف المجهود الكبير الذي بذلته أمّها؛ كي تحافظ عليها وعلى أخويها وتحتضنهم وتشعرهم بالأمان، رغم كل الظّروف الصّعبة التي تعيشها، والحالة النّفسيّة السيّئة التي تمرّ بها.
وقفت براء على أعلى درجات باب العامود، وأخذت شهيقا عميقا عبّأت به رئتيها فهي تعشق البلدة القديمة هواءها وأسواقها وأزقّتها وحواريها. تعشق عبق حجارتها التي تنبعث من أصالة تاريخها.
تطرب على أنغام أصوات الباعة وهم يسوّقون ما عندهم من بضائع، يحاولون جذب المارّة، تشعر بخدر لذيذ يسري في جسدها حين تتسلّل روائح القهوة والتّوابل المختلفة إلى أنفها عند مدخل سوق العطّارين.
في باب خان الزيت لفت نظرها شال مطرّز يدويّا تطريزا فلسطينيّا يعكس حضارة وثقافة الشّعب الفلسطينيّ، تحسّست براء شالا أعجبتها ألوانه الزّاهية، معروضا على مدخل المحلّ التّجاريّ.
وإذا بيد تربّت على كتفها، التفتت بسرعة، لتجده عنان صديق والدها. ابتسمت سعيدة بلقائه:
- أهلا عمّي عنان، كيف حالك؟
- أنا بخير يا براء، طمئنيني عنك وعن الأسرة.
- الحمد لله، نحن بخير. أبحث عن هديّة لطيفة لأمّي بمناسبة عيد الأمّ.
مسكت طرف الشّال بطرف أصبعيها الابهام والشّاهد:
- ما رأيك بهذا الشّال؟
نظر عنان إلى براء نظرة حنان، لاحظ الشبه الكبير بينها وبين أمّها، ذات لون الشّعر ونعومته، وذات لون العيون العسليّة. تذكّر أمها قبل أكثر من عشرين عاما.
استغربت براء من صمته وقالت:
- ألا يعجبك الشّال؟
فأجاب على الفور وهو يصحو من ذكريات جميلة عاشها لا زالت تسكن ذاكرته:
- بل جميل جدّا، هيا ندخل إلى المحلّ. ستجدين ما يسرّك داخل المحلّ. مالك الدّكان صديقي، وهو يهتم كثيرا بانتقاء البضائع التي يجلبها إلى دكّانه.
دخلا معا، فعرّفها على عبّاس صاحب المتجر:
- أعرّفك على براء ابنة صديقي المرحوم صخر، هي بمثابة ابنتي، معزّتها لا تقلّ عن معزّة أولادي. توصّى بها يا عباس، وساعدها بالبحث عن هدية تليق بستّ الكلّ.
نظر عبّاس إليهما مرحّبا:
- أهلا بكما.
قادهما إلى زاوية في دكانه مليئة بالأثواب والشّالات المطرّزة النّادرة.
أعجبت ندى بالبضاعة المتنوّعة المنتقاة بذوق رفيع، قرّرت أن تشتري لأمّها ثوبا وشالا مع بعض الاكسسوارات المطرّزة يدويّا. ولكنّها احتارت بين ثوبين، فساعدها عنان على اختيار الثّوب ذي الألوان الزّاهية قائلا:
- أمّك تفضّل الألوان الزّاهية يا براء.
التفتت إليه باندهاش:
- كيف عرفت؟ هل تعرف أمّي جيّدا؟
ارتبك عنان قائلا:
- لا.. لا أعرف أمّك جيّدا. عرفت هذه المعلومة بالصّدفة من أبيك – رحمه الله-.
وإذا بصراخ في الخارج يصمّ الآذان. خرج عنان يستطلع الأمر، فوجد ثلاثة من جنود الاحتلال يضربون فتى مقدسيّا لا يزيد عمره عن ثلاثة عشر عاما، وأمّه تصرخ مستنجدة بمن حولها لإنقاذ ولدها. اندفع عنان محاولا تخليص الفتى من بين أيدي الجنود، دفع أحد الجنود بقوّة، وانتشل الفتى، فرفع الجنود السّلاح نحو عنان، كبّلوا يديه واقتادوه إلى خارج البلدة القديمة، وتركوا الفتى. فارتفعت يدا أمّ الفتى عاليا نحو السّماء، تدعو لعنان بالسّلامة وطول العمر، وتدعو على جنود الاحتلال بأن يذيقهم الله الذّل والهوان.
شاهدت براء مذهولة ما جرى… قال عبّاس:
- سامحه الله، لماذا تدخّل؟ الآن سيوجّهون له تهمة الاعتداء على جنديّ.
نظرت براء إليه نظرة عتاب وقالت:
- بل له كلّ الاحترام، تصرّف بضمير ومسؤولية.
وتبعت عنان تركض، تتعثر في طريقها، تحاول التّدخل وإنقاذ عنان بالحديث إلى الجنود:
- أرجوكم اتركوه. هو لم يفعل شيئا. رجاء.
التفت إليها عنان وقال لها بحزم:
- براء، اذهبي من هنا ولا تعرّضي نفسك للمساءلة. لا تقلقي عليّ.. رجاء اتّصلي بأختي حنان واعلميها بما جرى، فهي تنتظرني اليوم على الغداء، لا أريدها أن تقلق عليّ.
وصل الجنود بعنان إلى شارع السّلطان سليمان خارج البلدة القديمة، وزجّوه في سيارة حرس حدود كانت تنتظرهم هناك.
21
وصلت براء إلى المنزل منهكة، فوجدت وردة تجلس مع أمّها في غرفة المعيشة.
سلّمت على معلّمتها، روت لهما ما جرى مع عنان، وسألت أمّها إن كانت لا زالت تحتفظ برقم أخته حنان، فوجدته مخزّنا في ذاكرة هاتفها المحمول منذ مقتل زوجها، ومن فورها اتّصلت ندى مع أخته حنان تعلمها بما جرى، وبضرورة التّواصل مع محام، وطلبت منها أن تطمئنها عن وضع عنان.
صدمت حنان من الخبر، حاولت أن تعرف المزيد من المعلومات عمّا جرى، فناولت ندى الهاتف لابنتها كي تجيب على أسئلة حنان.
وتدخّلت وردة:
- قولي لها أنّني أعرف محاميا مختصّا بهذه القضايا، ممكن أن أزوّدها برقم هاتفه.
طلبت حنان اسم المحامي ورقم هاتفه، فهي ليست على دراية بهذه الأمور.
زوّدتها براء بما طلبت، ورجتها أن تطمئنها عن وضع عنان.
شكرتها حنان ووعدتها أن تخبرها بأيّ مستجدّات.
نسيت ندى همّها وصدمتها من أمّ العارف، فقد قضت وقتا مريحا مع وردة، أعاد لها ثقتها بنفسها، وبعدها انشغلت بقضيّة اعتقال عنان.
قرّرت ندى أن تمضي في طريقها الذي رسمته بعد موت زوجها، تعتني بأولادها، ولا تلتفت خلفها لأيّ أمر يزعجها وينكّد عليه، “فمن اشتراك اشتريه، ومن باعك بيعه”، -على رأي ابنتها براء-.
قرّرت ندى مع صديقتها وردة أثناء لقائهما الأخير أن يصنعا شبكة من العلاقات، بنيّة البدء بمشروع افتتاح روضة، وتوسيعها إلى مدرسة.
سعدت براء كثيرا بهذا القرار وقالت لأمّها:
- أنت قدوتي يا أمّي، كلّ يوم اتعلّم منك شيئا جديدا، تأكّدي أنّ قراركما حكيم جدا. ما أسعدني بكما! فما أحوج القدس إلى رياض أطفال ومدارس وطنيّة تلتزم بالمنهاج الفلسطيني الذي يحاربه الاحتلال الإسرائيلي، ويعمل جاهدا على فرض مناهجه المزوّرة للتّاريخ، والمروّجة لروايتهم الصّهيونية التي تخدم أهدافهم الاحتلالية!
أتعرفين يا أمّي، لا تتخيّلي هذا المنظر الشّنيع الذي رأيته اليوم، زادت كراهيّتي لهؤلاء الأوغاد. كادت أمّ الفتى تفقد عقلها وهي ترى الجنود يركلون ولدها كالكرة، ينقلونه من جنديّ إلى آخر. وقد سمعت من سيّدة كانت تقف بالقرب منها بأن شقيق الفتى التوأم استشهد قبل أقلّ من سنة بطلقة ناريّة أصابته في الرّأس.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله. الرحمة على روحه، والله يصبّرها. ما أصعب الفقد يا براء! أذكر عندما جاءني خبر موت أخيك عميد. عشت على المهدّئات لمدّة عام تقريبا، وكنت على وشك الإدمان.
- الرّحمة على روحه يا أمّي، لا أريد أن أعيد لك مواجعك.
المهمّ الآن، يجب أن نتواصل مع الخالة حنان وندعمها ونساعدها يا أمّي. لاحظت أن خبرتها قليلة في مجال المحامين والقضاء والمحاكم، وزوجها مسافر، ذهب ليحضر بضاعة من الصّين، وعلمت أنّ أخته عبير وزوجها في تركيّا الآن، ذهبا لزيارة ابنهما الذي يدرس هناك.
- نعم، معك حقّ. لا أنسى وقفته معنا فترة عزاء والدك.
علا صوت كريم وكريمة وهما يتراكضان نحو أمّهما. قال كريم:
- أففف يا أمّي، تعبت من نسخ الدّرس.
قالت كريمة معترضة:
- أنت بطيء يا كريم. أنا نسخت الدّرس مرّتين ولم أتعب. أنت لا تريد أن تدرس، همّك الوحيد الّلعب. أنت غبيّ.
هجم كريم على اخته يريد أن يضربها، فاختبأت خلف أمّها.
أمسكت به الأمّ وهي تحدجه بنظرة غضب:
- إيّاك أن تحاول ضرب أختك مرّة أخرى.
والتفتت إلى كريمة:
- أنت مستفزّة حقا يا كريمة، كفّي عن هذه الأساليب، ولتعلمي أنّ أخاك كريم ليس غبيّا، بل ذكيّ جدّا ومتفوّق في عدّة مجالات أنت تعرفينها جيّدا.
- لم أقصد أن أستفزّه يا أمّي، أنا قصدت أن “أحثّه” على الدّرس.
قهقهت براء تتندّر على كلمة “أحثّ”:
- ما شاء الله.. حثّيه يا اختي، حثيه يا أمّ لسان.
كتمت الأمّ ضحكتها كي لا تحرج كريم وقالت موجّهة الحديث إلى كريمة:
- يا حبيبتي، كلّ منّا له اهتماماته، كريم متفوّق بالرّياضة، وهو سبّاح ماهر، ودقيق جدّا بالألعاب التّركيبيّة (بازلز) وبالمسابقات المختلفة التي تحتاج إلى مهارة. هو أسرع منك في هذه الألعاب، لم ينتقدك يوما، ولم (يحثّك) على الإسراع، ولم يقل لك يوما أنّك غبيّة! لأنّه يدرك أنّ لكلّ شخص اهتماماته و..
قاطع كريم أمّه قائلا:
- نعم يا أمّي أنا أتفهّم ذلك، لم أقل لها يوما أنّها غبيّة، وقد كانت على وشك أن تغرق الأسبوع الماضي في بركة جمعية الشّبّان المسيحيّة، لأنها لم تتّبع إرشادات المدرّب، وأنا من أنقذتها.
صرخت كريمة معترضة:
- المدرّب الذي أنقذني وليس أنت.
- أنا الذي نبّهته والّا لكنت الآن في عداد الموتى يا غبيّة.
وارتفع صراخ كريم وكريمة، فحضنتهما الأمّ وقالت لكريم:
- عيب يا كريم. ألم تقل أنّك لم تقل لها يوما كلمة غبيّة؟
- أعتذر يا أمّي، ولكنّها مستفزّة جدّا.
اعترضت كريمة وهزّت برأسها مستاءة وقالت:
- لن يكبر يوما هذا الولد، سيبقى طفلا.
ضحكت الأمّ وقالت لكريمة:
- اعتذري الآن لأخيك كما اعتذر لك.
حاولت كريمة الاعتراض، إلا أن الأمّ حدجتها بنظرة حاسمة وقالت:
- اعتذري فورا يا كريمة.
فاستجابت كريمة على الفور، فهي تعرف حدود والدتها، وقالت:
- حسنا، أعتذر يا كريم.
طلبت منهما الأمّ أن يحضنا بعضهما البعض ويتصافيان، قبل أن يهيئا نفسيهما للنّوم. فقد تأخّر الوقت، وحان موعد نومهما.
22
عادت الشّمس من غيابها بنشاطها المعهود، أخذت ترتفع رويدا رويدا إلى أن وصلت أعلى الجبل، ارتكزت على قمّته وكأنها تلتقط أنفاسها، أرسلت بخيوطها الذّهبيّة إلى نافذة غرفة براء، تداعب جفونها.
فتحت براء عينيها بتثاقل، فقد كانت أحداث أمس قاسية عليها، سرقت منها النّوم حتى ساعة متأخرة من الليل، إلا أنّها مضطرّة للذّهاب إلى الجامعة، فهي تحضّر لامتحانات التّخرج، ومن الصّعب التغيّب عن محاضراتها.
توجّهت إلى المطبخ؛ لتجهّز فنجان قهوة ليزيل بقايا النّعاس من عينيها، فوجدت أمّها تجهّز السّاندويشات لأخويها.
- صباح الخير يا أمّي.
- صباح الفلّ والياسمين والخدّين الجميلين اللذين أخذا من الزّهور لونها الورديّ.
- أوووه، ما هذا الغزل يا أمّي!
قطبت الأمّ جبينها متظاهرة بالجديّة، وقالت:
- انت أدرى النّاس بي يا براء، فأنا لا أجامل.
ضحكت براء ضحكة خرجت من أعماق قلبها وقالت:
- وأنا لا أجامل يا أمّي، أنت أعظم سيّدة في الدّنيا، أحبّك كثيرا.
حضنت الأمّ ابنتها:
أنت وأخواك رأس مالي يا براء، خرجت بكم من هذه الدّنيا. حماكم الله ووفقكم وسدّد خطاكم، وسهّل طريقكم إلى ما فيه خير لكم، يا قادر يا كريم.
- آمين يا رب العالمين.
ثم سألت أمّها:
أمّي، ما برنامجك غدا؟
- وعدتُ كريم وكريمة أن أصطحبهما غدا لحضور مسرحيّة دمى في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في تمام السّاعة السّادسة مساء مع وردة وولديها سامي وفاطمة. لِمَ تسألين؟
- لأنّني سأدعوكم لتناول الغداء (على حسابي) في المطعم الوطنيّ غدا. فليكن السّاعة الرّابعة بعد الظّهر، أي قبل ذهابكم للمسرح. ما رأيك؟
ضحكت الأمّ سعيدة بابنتها:
إن كان على حسابك فلا مانع.
- ما رأيك أن أدعو معلّمتي وردة وولديها أيضا.
- فكرة ممتازة إن كانت موازنتك تسمح بذلك…وغمزت بعينها.
- لا تقلقي يا أمّي، من خيرك. سأتّصل بها اليوم.
*******
مضى اليوم ثقيلا على براء، فهي لا زالت قلقة على عنان، ولم تتواصل حنان معها ولا مع أمّها لتخبرها عن مصيره.
عادت إلى المنزل، وإذا بجرس الهاتف يرنّ، أجابت ندى، فجاء صوت حنان على الطّرف الآخر:
- مساء الخير ندى.
- أهلا حنان. طمئنيني عن عنان.
- طمأنني المحامي على وضعه، فهو يحمل الجنسيّة الكنديّة. سيتواصل مع السّفارة الكنديّة، ولن يتمّ التّعامل معه كمواطن فلسطينيّ… هذا ما أكّده المحامي.
- الله يقدّم اللي فيه الخير. سأبقى على تواصل معك. الفرج القريب إن شاء الله.
- يا ربّ يسمع منك. وشكرا على اهتمامك أنت وبراء.
- لا شكر على واجب.
23
خرج عنان من معتقل المسكوبيّة بعد خمسة أيام بكفالة ماليّة قدرها عشرة آلاف شاقل، على أن يخضع للحبس المنزليّ لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن يحين موعد محكمته التي سيتمّ خلالها النّطق بالحكم عليه.
استقبله الأهل والأصدقاء يهنّئونه بالسّلامة. وكان من بين المهنّئين براء وأمّها ندى.
مدّت ندى يدها تسلّم عليه، فشعر بسريان الدّم حارا في شرايينه، تدفّق إلى وجهه يفشي سرّه، ارتجفت يده، حاول ضبط نفسه، سحب يده سريعا، ورسم بسمة على شفتيه وهو ينظر إلى براء موجّها الكلام لزوّاره:
- كم هي أصيلة هذه البنيّة، كانت تركض خلفي وأنا مكبّل اليدين تحاول تخليصي من الجنود. لن أنسى لك هذا الموقف يا براء.
ضحكت براء وقالت:
- وأنا لن أنسى موقفك يا عمّي، فقد كنت شهما، أنقذت الفتى من براثن الأوغاد.
- هذا أقلّ واجب يا ابنتي.
بعدها تحوّلت الجلسة إلى أحاديث عامّة عن الوضع الاقتصاديّ الذي تعيشه القدس، واستهداف تجّار البلدة القديمة، من خلال فرض الضّرائب الباهظة عليهم، ومحاولة الاحتلال تفريغ القدس من مواطنيها الأصليّين و..إلخ من قضايا مقدسيّة.
شردت براء بذهنها، لم تنتبه لما يدور حولها من أحاديث، فقد لاحظت موقف عنان وارتباكه، حين سلّم على والدتها، فلم تخْفَ عليها مشاعره، تذكّرت حين اختار الثّوب المطرّز لأمّها وقال لها أنّها تفضّل الألوان الزّاهية. لاحظت ارتباكه حين سألته كيف عرف؟ بعدها استرجعت أيّام عزاء والدها، كانت تلاحظ أنّه يتجنّب أمّها، لكنّها عزت الأمر إلى احترامه بأنّها في فترة العدّة، ومن المفضل عدم رؤية الرّجال. إذن هناك أمر آخر.
تساءلت: ترى، لماذا يتصرّف هكذا مع أمّي؟ هل يحبّها؟
ثم أجابت على سؤالها لنفسها على الفور، ترفض الفكرة: لا.. لا، هذا كلام سخيف. كيف أسمح لنفسي أن أفكّر بهذا الأمر. ربّما هو يشعر بعذاب الضّمير لأن أبي سقط على سلالم المنزل الذي اصطحبه إليه. نعم.. أعتقد ذلك. بل هذا هو التّفسير.
لاحظ عنان شرود براء، حاول إشراكها بالحديث، فصحت من شرودها وابتسمت قائلة:
– نعم.. نعم.. بالتأكيد، أوافق على كلّ ما قلت يا عمّي.
أمّا ندى، فقد شعرت برعشة يد عنان حين لامست يدها، فسرى داخلها شعور غريب، خاصّة حينما احتضنت عيناه عينيها، وتلوّن وجهه بلون ورديّ.
إلا أنّها رفضت أن تعطي نفسها المجال للتّفكير بالأمر.
كانت حنان ترقب كل ما جرى بعينيّ صقر، وبقلب محبّ لأخيها الذي عانى من عشق ندى، ولم يستطع بعد أكثر من ثلاثة وعشرين عاما نسيانها…لم يخف عليها شرود براء، بل قرأت ما يجول داخل رأسها من نظرة عينيها. ولم يخف عليها أيضا إحساس ندى.
حاولت حنان أن تخطف الأنظار فأطلقت زغرودة فرح أنقذت بها أخاها، فلم يلحظ أحد ما جرى، سوى أصحاب الشّأن.
تعاونت براء مع حنان وأبناء وبنات العائلة في خدمة المهنّئين. فلا زال عنان يعيش وحده في المنزل دون شريكة.
في حدود السّاعة الثّامنة مساء غادرت ندى وابنتها منزل عنان، إذ أنّ كريم وكريمة وحدهما في المنزل، وعلى ندى تجهيزهما للنّوم كي يستيقظا مبكرّين، ليذهبا إلى مدرستهما.
جلست ندى خلف مقود السّيّارة، وجلست براء بجانبها، وعلى غير عادتها لم تنبس ببنت شفة. التفتت الأمّ لابنتها مستغربة:
- ما بك؟ هل أنت متعبة؟
- – لا.
- إذا لماذا هذا الصّمت؟
نظرت براء إلى أمّها وسألتها:
- ما رأيك بالعمّ عنان؟
فهمت الأمّ ما تقصده ابنتها، فهي تعرفها جيّدا، وتعرف كم هي دقيقة الملاحظة من صغرها، فقالت:
- لِمَ تسألين؟ وأيّ رأي هذا؟ فهذه هي المرّة الأولى التي ألتقيه وجها لوجه! ثمّ أنّنا لم نجلس لوحدنا، كان هناك العشرات من المهنّئين، وفد قادم ووفد مغادر، فلم يكن هناك فرصة لتكوين أيّ رأي عنه، ولكن بناء على ما سمعت منك يبدو أنّه رجل شهم.
- ألم تلاحظي شيئا يا أمّي؟
ارتبكت الأمّ وأجابت:
- ألاحظ ماذا؟
- اهتمامه بك؟
- براء، كفّي عن هذه التّفاهات، من أين يعرفني حتى يهتمّ بي؟ هو يشعر بعذاب الضّمير إذ يعتبر نفسه سببا بموت والدك، لا أكثر ولا أقلّ.
- هذا ما ظننته في البداية.
- أرجوك براء، لا أريد أن أخوض في نقاش سخيف مثل هذا… عودي لصمتك أفضل لي ولك.
********
غادر آخر المهنئين بعد السّاعة الواحدة صباحا.
ارتأت حنان أن تقضي ليلتها هي وابنتاها وابنها في بيت أخيها، إذ أنّ الوقت قد تأخّر، وزوجها لا زال مسافرا، فهو تاجر كبير، يستورد البضائع من الصّين، ويمتلك عدّة متاجر في رام الله ونابلس وبيت لحم.
كان عنان منهكا، رمى نفسه على الأريكة، وأغمض جفنيه يستذكر موقفه مع ندى.
هزّته حنان:
قم يا أخي، بدّل ملابسك واذهب إلى فراشك، فقد كان اليوم شاقّا عليك.
أجاب وهو مغمض العينين.
هل ستنامين الآن يا حنان؟
نظرت إلى وجهه تحاول أن تقرأ ما يجول بخاطره:
لا. لن أنام الآن. هل تريد أن نتحدّث؟
فتح عينيه وقال:
لقد أنقذتني زغرودتك… لا أدري كيف سرت هذه الرّعشة في جسدي أفقدتني توازني. هل لاحظتها؟
صمتت حنان وقالت:
- عنان، أعتقد أنّه عليك أن تتحدث معها وتعلمها بشعورك. لِمَ لا تتزوّجها؟ أنت مطلّق وهي أرملة!
- هل سترضى بي؟ أنا كنت السّبب بمقتل زوجها.
- كفّ عن جلد نفسك، لا أريد أن أسمع هذه الجملة منك مرّة أخرى. هو الذي قتل نفسه بعناده.
- نعم، كان عنيدا.
صمتت حنان برهة ثم قالت:
- عنان، سأتحدّث معها أنا في موضوع ارتباطك بها. فلِمَ ترفض! ثمّ إنّ براء تحبّك وتعتبرك مثل والدها، وكذلك كريم وكريمة!
- لا أدري يا حنان… لننتظر قليلا، فلا زلت أنتظر حكم المحكمة، ولا أدري إن كنت سأخضع للحبس الفعليّ أم لا. لم تنفعني كثيرا جنسيّتي الكنديّة، فأنا من أصل فلسطينيّ، اختلفت المعادلة بعد أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك. أصبح العالم يتعامل مع العرب والمسلمين على أنّهم مجرمون.
- قاتلهم الله… لا بأس يا أخي. الفرج قريب إن شاء الله.
- إن شاء الله.
نهض عنان وجلس بجانب حنان يرجوها:
- أرجوك يا حنان أن تمضي فترة غياب زوجك عندي في المنزل أنت وأولادك، فهو لن يعود قبل شهر.
وافقت حنان:
- فكرة جيّدة، سأذهب غدا أنا والأولاد لجلب مستلزماتنا من المنزل، وسنقضي معك فترة غياب زوجي. لا تقلق.
ضمّ عنان أخته قائلا:
- حبيبتي حنان، فعلا، لكل إنسان من اسمه نصيب.
*****
أمّا ندى، فقد قضت ليلة عصيبة لم ترَ النّوم فيها. فهل عنان معجب بها حقّا؟
رفضت الفكرة، وأخذت تلهي نفسها بالتّخطيط لمشروع الرّوضة التي ستتشارك بها مع صديقتها وردة.
24
جهّزت ندى نفسها لاجتماع مع بعض المختصّين في التّربية من أصدقاء ومعارف وردة، وذلك في مقرّ واسع تمّ استئجاره في بيت حنينا لإنشاء مشروعهما، بعد أن وضعتا موازنة تقديريّة.
بدأ العمل بتجهيز المقرّ ليتناسب وشروط وزارة التّربية والتّعليم، من أجل الحصول على شهادة التّرخيص اللازمة.
كان العمل جاريا على قدم وساق. فقد خطّطتا أن تفتتحا مشروعهما في العام الدّراسي القادم، أي في بداية شهر أيلول.
كانت سعادة ندى ووردة لا توصف.
مرّت ندى على وردة في منزلها في شعفاط وأخذتها في سّيّارتها، إذ أن سيّارة وردة في كراج لتصليح السّيّارات بسبب عطب طارىء.
وبينما هما في الطّريق إلى مقر مشروعهما الجديد، إذا بطفل يفلت من يد أبيه ويقطع الشّارع أمام سيّارة ندى، فاضطرّت ندى أن تضغط على الفرامل لتوقف السّيّارة بسرعة، فصدمتها السّيارة التي خلفها، وتسببت بضرر لسيّارتها.
خرج سائق السّيارة من فوره من سيّارته، وخرجت ندى ووردة من السّيارة، وإذا به سامر صديق المرحوم عودة زوج وردة، التقت عيناه بعينيّ وردة، فارتبكت هي، وزاد ذلك من اضطرابه.
قالت وردة على الفور:
- أهلا سامر.
بدأ سامر يعتذر، ويبرّر بأنّ ندى توقّفت على غفلة دون سابق إنذار، وأنّه ما كان من الممكن أن يتجنّب الحادث، وقال:
المهم أنّكما بخير، الحمد لله على سلامتكما وسلامة الطّفل. أليس كذلك يا وردة؟
نظرت إليهما ندى:
- هل تعرفان بعضكما؟
أجابت وردة على الفور:
- نعم سامر صديق قديم للمرحوم زوجي.
- – أهلا بك يا أخ سامر، لا تقلق، الحمدلله أنّ الجميع بخير.
أضاف سامر بعد أن أخرج أوراق التّأمين الخاصّة بسيّارته:
- سأتواصل مع تأميني؛ ليصلح لك كل الأضرار يا أختي، لا تقلقي.
وزوّدها برقم هاتفه وهاتف شركة التّأمين التي يتعامل معها.
ثم نظر إلى وردة وقال:
- طمئنيني عن طفليك سامي وفاطمة؟
ابتسمت وقالت:
- بخير الحمدلله، كبرا يا سامر. سامي الآن في الصّف الرّابع، وفاطمة في الصّف الثّاني.
- ما شاء الله. مضى أكثر من ست سنوات على زيارتي الأخيرة لمنزلكم.
- نعم، الأيّام تمضي بسرعة.
نظر إليها نظرة عتاب رقيق وقال:
- نعم. الأيّام والسّنون تمضي بسرعة دون أن نشعر بها يا وردة، تأكل من عمرنا ولا ندري.
ارتبكت وردة وحاولت أن تغيّر الموضوع:
- حدّثني عن أسرتك. كم عدد أطفالك؟
ابتسم ابتسامة صعُب عليها تفسيرها:
- ليس لديّ أطفال. لم أتزوّج بعد يا وردة.
استغربت وردة تسأل:
- ألم تخطب لك أمّك ابنة خالتك؟
احتضنت عيناه عينيها وأجاب:
- لا.. فالقلب وما يهوى. ولا زال ينتظر.
ازداد ارتباك وردة، ولم تعرف أين تذهب بنظرها، فتدخّلت ندى تنقذ صديقتها، وقد رأتها لأول مرة منذ أن عرفتها في لحظة ضعف، فوجّهت الحديث إلى سامر:
- كنت أتمنّى يا أخ سامر أن نلتقي بظروف أفضل من هذه، على أيّ حال، لعله خير، وشكرا على لطفك… أنت إنسان محترم جدّا. سأتواصل معك بخصوص تصليح السّيّارة إن شاء الله.
وسحبت وردة من يدها:
– لقد تأخّرنا على اجتماعنا يا وردة.
فأجابت وردة على الفور.
– نعم.. نعم تأخرنا. هيّا بنا.
لوّح سامر لوردة بيده.
– إلى اللقاء.
دخلت ندى ووردة السّيارة، فقالت ندى وهي تقهقه:
من هذا العاشق الولهان؟ لا زال ينتظر المسكين. ما قصّتك معه؟ هل طلبك للزّواج؟
ضحكت وردة وروت لها قصّتها معه.
أجابت ندى على الفور:
لماذا ترفضين؟
- لا أدري.
- هذا ليس جوابا مقنعا. مضى حوالي سبع سنوات على موت زوجك. ويبدو أنّ سامر فعلا يحبّك. فكّري بالأمر، ولا تضيعي مثل هذه الفرصة عليك.
صمتت وردة، وأغمضت عينيها. ولم تتفاعل مع اقتراح ندى، لا بالنّفي ولا بالإيجاب.
وصلت السّيّارة إلى مقرّ المشروع فنزلتا من السّيارة إلى الاجتماع.
24
مضت ثلاثة أشهر على اعتقال عنان، انتهت فترة الحبس المنزليّ، التي التزم خلالها في المنزل ولم يخرج من بابه على الإطلاق، وإلا كان سيخضع للمساءلة، ويدفع مبلغ الكفالة الماليّة.
جاء موعد المحكمة، فنطق القاضي حكمه بدفع غرامة ماليّة مقدارها سبعة ألاف شاقل، مع الحبس مدّة عام مع وقف التّنفيذ.
دفع عنان الغرامة الماليّة غير نادم على ما فعل. فقد شعر أنّه قام بواجبه وأراح ضميره، وأنقذ الفتى من موت محقّق.
هنأه الأهل والمعارف والأصدقاء، وسعدوا بهذا الحكم، فلولا خبرة محاميه وذكاؤه لما خرج دون اعتقال فعليّ.
توجّه من فوره إلى منزل أخته حنان ليتناول وجبة الغداء. فذكّرته بما اتفقا عليه سابقا… اقترحت بأن تتّصل قريبا بندى لتزورها في منزلها.
وإذا بهاتف المنزل يرنّ كانت براء على الطّرف الثّاني:
- مساء الخير خالة حنان… طمئنيني عن العمّ عنان… هل عقدت المحكمة اليوم؟
- أهلا براء، نعم، حكم القاضي بغرامة ماليّة مقدارها سبعة آلاف شاقل، وحبس مدّة عام مع وقف التنفيذ. وانتهى الأمر، الحمد لله.
- الحمد لله على سلامته. كنت أحاول الاتّصال به ولكنّ هاتفه مغلق.
- يبدو أنّه نسيه مغلقا بعد خروجه من المحكمة، لا بأس، هو عندي الآن. هل تودّين الحديث معه؟
- نعم لو سمحت.
ناولت حنان الهاتف لعنان وهمست بأذنه: إنّها براء.
تناول السّمّاعة على الفور وأجاب:
- أهلا بك حبيبتي وابنتي الأصيلة براء.
- أهلا بك عمّي… الحمدلله على سلامتك، طمئنّي عنك.
- شكرا لك… أنا بخير. طمئنيني أنت عن والدتك وأخويك.
- الحمدلله… أمّي مشغولة بمشروعها الجديد… وكريم وكريمة مشغولان بنشاطهما الرّياضيّ، وأنا انتهيت من امتحاناتي الجامعيّة، سأتخرج هذا الصّيف من الجامعة… وأفكر في أن أكمل دراسات عليا كما كنت قد اقترحت عليّ.
- أحسنت، وألف مبروك حبيبتي. تستحقّين كلّ خير.
- أمّي بجانبي تودّ الحديث معك.
ازداد خفقان قلب عنان وقال:
- بالتّأكيد.
هنّأته ندى على سلامته، وتمنّت له الخير على قدر نواياه. خاصّة بعد أن علمت بأنّه غير نادم على موقفه وإنقاذه للفتى.
انتهت المكالمة، فأغلق عنان الهاتف وأخته ترقبه وتضحك.
- أعتقد يا عنان أن علينا أن نزورهم في بيتهم بعد تخرّج براء من الجامعة، لنبارك لها، فهذه أفضل مناسبة.
- نعم، قد تكون مدخلا جيّدا.
25
تمّ افتتاح روضة وردة وندى في بداية العام الدّراسيّ الجديد. فقد جعلتا منها روضة نموذجيّة. أحبّها الأطفال، وارتاح لها أولياء الأمور.
تمّ توفير الزّوايا التّعليميّة والتّربويّة المختلفة الّتي تسهم بتطوير ذكاء الطّفل وتنمية مواهبه. كما تم التّعاون مع براء كمستشارة نفسيّة لمساعدة بعض الأطفال على تجاوز خجلهم، خاصّة الأطفال الّذين يأتون من عائلات تقمع أطفالها ولا تمنحهم الفرصة للتّعبير عن أنفسهم.
فذاع صيت الرّوضة، واكتمل عدد الأطفال فيها، ولم تعد تستوعب أطفالا آخرين.
******
جهّزت براء نفسها لحفل التخرّج مع زملائها وزميلاتها. كانت كالفراشة تتنقل بين الأصدقاء والزّملاء سعيدة، لفتت نظر كلّ من رآها، بجمالها وابتسامتها الهادئة التي تخلب الألباب.
عندما نادى رئيس الدّائرة اسمها عبر السّماعات لاستلام شهادتها:
براء صخر عبد القادر، حصلت على تقدير امتياز.
انطلق الصّفير من الحضور، وضج المدرّج بالتّصّفيق الحارّ؛ فقد كانت براء محبوبة ولطيفة مع الجميع.
انتهى حفل التّخريج، وطارت قبّعات الخرّيجين في الهواء يعلنون عن انتقالهم من حياتهم العلميّة إلى العمليّة.
انطلق الخرّيجون من مقاعدهم إلى السّاحة الكبيرة، كلّ يبحث عن أهله وأصدقائه ليلتقط الصّور التّذكاريّة معهم.
كانت ندى وكريم وكريمة ووردة بانتظار براء، يلوّحون لها من بعيد. وبينما كانت تركض تجاههم، وإذا بصوت خلفها ينادي عليها. التفتت، وإذا به زميلها ” أمير”، اندفع تجاهها يبارك لها تخرّجها، شكرته على لطفه، وأرادت أن تكمل طريقها إلى أسرتها، فاستوقفها راجيا أن تنتظر قليلا، فهناك ما يريد أن يقوله لها.
- براء، أرجوك اسمعيني، أنا لا زلت أريد أن أتقدّم لك بالزواج.
لقد فهمني والدك -رحمه الله- خطأ وطردني أنا وأبي من كراجه.
تنهّدت تنهيدة طويلة، تتذكّر ذاك اليوم الأغبر وقالت:
- نعم علمت.
- براء، أريدك زوجة على سنّة الله ورسوله.
- ولكنّني أريد أن أكمل تعليمي، سأسجّل للماجستير الفصل القادم.
- وأنا سأشجعك على ذلك، بل سأفخر بك.
ضحكت وقالت له:
- هيّا بنا أعرّفك على أمّي.
توجّها سويّا نحو أسرتها، فعرّفت أمير على أمّها وأخويها وعلى معلمتها وردة أيضا.
قال أمير موجّها الحديث لأمّ براء:
- مبارك تخرّج براء يا خالتي، أرجو أن تسمحي لي ولوالديّ بزيارتكم في البيت لنبارك لبراء.
ابتسمت الأمّ وقالت:
- أهلا بك يا أمير أنت وأسرتك. فرصة سعيدة با بنيّ.
وانطلق الخرّيجون والخرّيجات يلتقطون الصّور التّذكاريّة مع الأهل والأصدقاء والزّملاء، سعيدين بانتهاء مرحلة هامّة من حياتهم بنجاح.
وفي زاويا أخرى انطلقت أصوات ضرب الطّبول من فرق الزّفات للشّباب الخرّيجين، يحملهم أصدقاؤهم على الأكتاف ويرقصون بهم.
كان يوما سعيدا للجميع، وخاصّة لأسرة ندى، غسلوا بها الهموم التي تراكمت في القلوب عبر السّنين، تسبّبت بصدأ لم يكن من السّهل إزالته.
26
قرّرت حنان بأنّ الوقت قد حان لارتباط عنان بندى. هاتفت ندى واتّفقت معها على موعد لزيارتها وعنان وابنتيها بحجّة تهنئة براء بنجاحها وتفوّقها.
جاء موعد الزّيارة، استقبلتهم براء بابتسامة عريضة، إذ أن عنان له منزلة خاصّة داخلها، تشعر براحة غريبة عندما تتحدث معه، مع أنّ معرفتها به حديثة. كان أوّل تعارف بينهما في عزاء والدها منذ سنتين. ولم تلتق به سوى بضع مرّات، إلا أنّها وجدته متفهّما وعميقا، محاورا جيّدا، بلسما شافيا، لديه إحساس مرهف، يدخل القلوب دون استئذان.
بضع ثوان وكانت ندى معهم ترحّب بهم. شكرتهم على سلّة الورد الكبيرة التي كان يحملها عنان، مزيّنة بشَبر يحمل ألوان العلم الفلسطينيّ الأربعة. وفي يد حنان سلّة مليئة بالشّوكولاتة الفاخرة.
- أهلا بكم، شرّفتونا. ما أجمل هذه الورود، رائحتها عبّأت المكان. شكرا لكم.
والتفتت إلى حنان:
- غلّبت نفسك يا حنان. شكرا لك.
أجاب عنان على الفور، وقد حاول أن يسيطر على خفقان قلبه الذي شكّ للحظة أنّه سيخرج من صدره:
- هذا أقل واجب، أنا أعتبر براء بمثابة ابنة لي.
دخلت براء غرفة الصّالون تحمل صينيّة تصطف عليها أكواب مليئة بالعصير، فسمعت ما قال عنان، قالت على الفور:
- وأنا أعتبرك مثل أبي يا عمّي. أدامك الله لي سندا.
ارتاحت حنان لهذه العلاقة بين براء وعنان، واعتبرت أنّ مهمّتها ستكون أسهل في ظل هذه المشاعر الطيّبة مع أفراد الأسرة، خاصّة بعد أن انضمّ إليهم كريم وكريمة اللذان أدخلا البهجة والفرح على الجلسة، واندمجا مع عنان في أحاديث طفوليّة أضحكت الجميع.
مضت ساعتان من الزّمن، وهم يتحدّثون عن مستقبل براء، وعن زميلها أمير، إذ أن خال أمير كان زميلا لعنان، وهو يعرف العائلة معرفة جيّدة. فأثنى على العائلة وسمعتها، وأشاد بمواقفها الوطنيّة، وشجّع براء على الارتباط بأمير، فهو من عائلة مقدسيّة عريقة مناضلة تشرّف كل من يرتبط بها.
ارتاحت ندى لكلامه، وفرحت براء بهذه المعلومات التي لم تكن تعرفها عن عائلة أمير.
فأخبرت ندى عنان بأنّ عائلة أمير ستزورهم عصر بعد غد، وطلبت من حنان وعنان أن يتواجدا معهم؛ إذ أنّها تجربة جديدة لها، وتحتاج لمن يقف إلى جانبهم في هذه المناسبة، خاصّة أنّهم على معرفة جيّدة بالعائلة.
طار عنان من الفرح، ولكنه حاول أن يخفي مشاعره، فأجاب:
- يسعدنا ذلك، اليس كذلك يا حنان؟ أنا أعتبر أمير ابنا لي كما هي براء بالضّبط. سنكون معكم أنا وحنان، لا تقلقوا وإن احتجتم لأيّ أمر أرجوكم أن تتواصلوا معنا.
أجابت براء على الفور وهي تغمز بعينها:
- اطمئن، لن ندعك ترتاح، من المؤكّد أنّك ستندم على معرفتك بنا.
ضحك عنان وقال:
- اطمئني يا براء، فأنا لا أندم أبدا.
*****
جاء موعد زيارة أمير وأسرته، فكان أول المستقبلين لهم عنان وندى، وكانت وردة وحنان في المطبخ يحضّران صحون المكسّرات وأكواب العصير للضّيافة، أمّا براء فقد كانت بغرفتها مع كريمة تضع آخر لمسات المكياج.
دخلت وردة إلى غرفة براء تحثّها على أن تسرع لتسلّم على الضّيوف:
- يا حبيبتي أنت جميلة دون مكياج، هيّا أدخلي صينيّة العصير على الضّيوف، تأخّرنا عليهم.
- بضع ثوان وأنتهي يا خالة وردة.
وقفت أمام وردة تسألها عن تفاصيل مكياجها، وعن لون حمرة الشّفاه، وإن كان يتلاءم مع لون الفستان وووو…وأخذت تدور حول نفسها وهي تمسك بطرف فستانها سعيدة.
ضحكت وردة ضحكة من القلب سعيدة ببراء:
- قلت لك يا حبيبتي إنّك قمر. جمالك فتّان، وفستانك جميل، ومكياجك رائع…. هيّا.
- حاضر.. حاضر.
خرجت براء من غرفتها، دخلت على الضّيوف تحمل صينية العصير. وفور أن رأتها أمّ أمير حتى نهضت تأخذها بالأحضان وتقول:
- بسم الله ما شاء الله، حماك الله.
ونهض أمير ووالده، فسلّما عليها.
كانت ندى سعيدة بابنتها، أخذ عنان دور الأب الحريص على ابنته.
فتحدّثوا بتفاصيل المهر والزّواج وإكمال براء دراستها العليا في الجامعة.
قبلت أسرة أمير كلّ المطالب بسرور، واتّفقوا على أن تكون حفلة الخطوبة بعد أسبوع.
انتهت الزّيارة، بعد أن غادرت أسرة أمير، جلس عنان وحنان مع ندى وبراء ووردة يقيّمون الوضع، فأشاد الجميع بالعائلة وتجاوبهم وكرمهم.
شكرت ندى عنان على وقفته معهم ودعمهم في هذه المناسبة الهامّة جدّا في حياتهم.
- لا شكر على واجب يا ندى، المهمّ أنّ أرى براء سعيدة في حياتها الزّوجية، وأعتقد أنّ أمير نعم الزّوج الّذي سيحافظ على براء ويسعدها.
ابتسمت براء ممتنّة وقالت:
- لن أنسى وقفتك معنا يا عمي.
ونهضت من مكانها تضمّ عنان لأوّل مرة، وقد سقطت دمعتان من عينيها.
لم تستطع ندى أن تكبت دموعها، وقد تذكّرت قسوة زوجها، فلم يكن يوما عطوفا حنونا على أولاده، تأثّرت وردة فبكت هي الأخرى، وانتقلت العدوى إلى حنان.
ابتسم عنان وقال:
- ما هذه التّراجيديا؟ هل ستحوّلون هذه المناسبة السّعيدة إلى حزينة؟ ما بكم يا جماعة، فلنضحك ولنسعد في هذه المناسبة التي يجب أن تدخل الفرحة إلى قلوبنا جميعا.
اعتذرت براء، وكذلك ندى التي ضمّت ابنتها، تبارك لها سعيدة بها.
27
انشغل عنان وندى ووالدا أمير بالتّحضيرات لحفل خطوبة العروسين.
فكان حفلا مميّزا راقيا بشهادة كلّ من حضروه.
وعلى الرّغم من العلاقة المميّزة بين عنان وأسرة ندى، إلا أنّه لم يجرؤ على فتح موضوع الارتباط بها، فاقترحت عليه حنان أن يتحدّث مع براء حول الموضوع.
استظرف الفكرة، فهاتف براء على الفور وطلب منها أن تحضر إلى منزل أخته حنان بأسرع وقت ممكن، لأنّه يريد أن يتحدّث معها في موضوع خاصّ جدّا يهمّه.
استجابت براء، وأعلمته أنّها ستكون في منزل حنان بعد نصف ساعة، وبأنّها ستمضي معه ساعة من الوقت على الأكثر، لأنّها مرتبطة بموعد مع خطيبها أمير، فأعلمها عنان أنّ الأمر لن يحتاج أكثر من ساعة.
وصلت براء منزل حنان، فاستقبلها عنان استقبالا حارا.
- أقلقتني يا عمّي، خير إن شاء الله.
- لا تقلقي يا حنان، إن شاء الله خير. كنت أود أخذ مشورتك في موضوع يخصّني.
- تفضّل.
- أنت تعرفين أنّني أعيش لوحدي بعد طلاقي، وأنا أحتاج لشريكة أكمل حياتي معها.
ضحكت براء وقالت:
- هل تريدني أن أبحث لك عن عروس؟ بالتّأكيد محظوظة الّتي سترتبط بك.
ابتسم وشكرها على مديحها وقال:
- شهادتك أعتزّ بها يا براء، أنا لا أريدك أن تبحثي لي عن عروس؛ فقد وجدتها.
- من هي سعيدة الحظ؟
صمت عنان.
شعرت براء أنّها فهمت مراده، فقد تذكّرت موقفه حين ذهبت هي وأمّها يهنّئونه بالسّلامة بعد أن خرج من معتقل المسكوبيّة، إذن هو فعلا معجب بها، بل يحبّها، وعادت بها الذّاكرة حين اختار لها الثّوب المطرّز قائلا: أمّك تفضّل الألوان الزّاهية.
قرأ عنان ما يدور بخلدها، وقال:
- نعم يا براء. أنا أحبّ أمّك قبل أن تتعرّف على أبيك.
روى لها تفاصيل حكايته، وطلب منها أن تساعده على الارتباط بأمّها من خلال إقناعها.
تدخّلت حنان وقالت:
- صدّقيني يا براء، لن تجد أمّك أفضل من عمّك عنان للارتباط به، فهو السّند والحبيب.
- لا أدري يا خالتي إن كانت أمّي تتقبل فكرة الارتباط من جديد.
قالت حنان:
- هذا دورك يا براء، وأنا أعرف قوّة تأثيرك عليها، ولكن قبل ذلك، هل أنت مقتنعة؟
صمتت براء لوهلة ثم أجابت:
- لم أكن أتصوّر يوما أن ترتبط أمّي بزوج آخر، ولكن إن كان هذا الزّوج هو العمّ عنان، فبالتّأكيد سيكون الأمر مختلفا.
فقال عنان:
- أفهم من ذلك أنّك موافقة؟
- نعم.. وسأحاول إقناع أمّي.
شكرا لك يا براء، وأعدك أنّك لن تندمي.
غادرت براء منزل حنان، والتقت بأمير في مطعم فيلادلفيا في شارع الزّهراء، لاحظ أمير شرودها، فسألها عن السّبب، فأعلمته بالأمر، وبأنّها متردّدة أن تفتح الموضوع مع والدتها.
أخذ أمير الموضوع بجدّيّة، وأخذ يناقش معها الأمر، فتحدّث عن عنان وأصالته ومواقفه المشرّفة، وبأنّ انضمامه للعائلة مكسب لهم.
ارتاحت براء لحديث أمير، وانتهى لقاؤهما وهي مقتنعة بأنّ عنان سيكون أجمل هديّة لأسرتها.
28
زار سامر وردة في الرّوضة، وطلب منها أن تفكّر جدّيا بطلبه الارتباط بها، وبأنّ الحياة لا تقف بموت أيٍّ كان، فعليها أن تعيش حياتها هي وولداها، حياة أسريّة طبيعيّة بوجود أمّ وأب يرعيا الطّفلين. وبأنّه لو كان عودة هو الذي ترمّل لما انتظر سبع سنين دون زواج. فلماذا لا تعطي نفسها الحق بأن تكمل حياتها مع شريك يحبّها.
وأضاف بأنّه منح نفسه فرصة أخيرة للمحاولة، فقد انتظر كثيرا، وآن الأوان أن يُكوّن أسرة تشعره بالاستقرار.
تجاوبت معه وردة للمرّة الأولى، فقد اقتنعت بمنطقه، وكأنّها بدأت تتقبّل موضوع الارتباط من جديد، فطلبت منه أن يعطيها شهرا – على الأكثر- للتّفكير، فالأمر ليس سهلا عليها.
غادر سامر الرّوضة وكلّه أمل أن يحقّق حلمه بالارتباط بها.
*****
وصلت براء المنزل، واحتارت، كيف تفتح الموضوع مع والدتها. فسألتها والدتها عن لقائها مع أمير، وعن علاقتهما، وإن كانت مرتاحة له.أجابتها براء بأنّها سعيدة جدا معه، وأخذت تبحث عمن مدخل لفتح موضوع زواج العمّ عنان، فخطر ببالها فكرة، قد تكون مناسبة:
- هل تعرفين يا أمّي، أمير مريح جدّا، له شخصيّة شبيهة بشخصيّة العمّ عنان.
- حقّا، رائع.
- العمّ عنان مريح جدّا يا أمّي اتّصل بي اليوم، وتحدّث معي بموضوع يخصّه.
- وما هو هذا الموضوع؟
- يريد أن يتزوّج من جديد، فقد مضى على طلاقه فترة طويلة.
أجابت براء دون أن تنظر لندى التي كانت تثبّت زرّا في قميص لكريم بالخيط والإبرة.
- قرار سليم، وهل وجد العروس؟
صمتت براء لوهلة، فنظرت إليها الأمّ وسألت من جديد:
- هل وجد سعيدة الحظّ؟
- نعم يا أمّي، وجدها، ولكنّه محتار كيف سيفتح معها الموضوع.
- هل نعرفها؟
- نعم، وقد طلب منّي أن أفاتحها بالموضوع، فهو صديق لأسرتها، وكان صديقا لزوجها المرحوم.
شعرت ندى شعورا غريبا، وكأنّها فهمت المغزى.
- من هي هذه الأرملة؟
- أنت يا أمّي، أنت سعيدة الحظّ.
- كيف تجرؤين على فتح موضوع كهذا معي؟
- بل أفتحه لأنّني أحبّك، وأريد لكريم وكريمة أن يعيشا تحت جناحيكما سعيدين، فقد سبّب أبي لهما عقدا نفسيّة، علّ العمّ عنان يصلح ما أفسد أبي.
- كيف تجرؤين…؟
- بل لماذا ترفضين؟ عيشي حياتك يا أمّي، فأنت تستحقّين الأفضل.
- لن أكون عبدة لرجل، أنا حرّة الآن، أعشق حرّيّتي، لن أتخلّى عنها.
- بل أنت عبدة لمخاوفك، كنت عبدة لأبي في حياته، والآن أصبحت عبدة لمخاوفك وهواجسك بعد موته… تحرّري يا أمّي.
- وماذا سيقول عنّي النّاس؟
- بل، بماذا أفادك النّاس؟ تركوك وحدك في مشوار حياتك عند أوّل محطّة، عانيت منهم الأمرّين، هل نسيت؟
- أنا لن أكون “وفاء” أخرى.
- بل أنت “ندى” الأمّ التي لم ولن تتخلّى عن أولادها، دافعت عنهم كالّلبؤة، دعمتِهم، وأعدتِ لهم ثقتهم بأنفسهم، ووفّرتِ لهم الشّعور بالأمن والأمان.
انسحبت الأمّ من غرفة المعيشة وتوجّهت إلى غرفتها، أغلقت الباب على نفسها، تركتها براء تختلي مع نفسها، علّها تخرج بقرار حكيم يسعدها هي وأسرتها.
وبينما كانت تسترجع كلمات ابنتها، تتقبّلها حينا وترفضها حينا آخر، تذكّرت كلمات الكاتبة غادة السّمّان في نصوص عشقتها، آمنت بها، تكرّرها في كلّ مناسبة:
( أنا فراشة الحرّيّة، أنا عاشقة الحرّيّة، لا عاشقة الأزهار والمصابيح! الحبّ لا…
هل سمعتَ مرّة بفراشة عادت دودة طائعة إلى الشّرنقة؟
حبّ شهريار الشّرقيّ مرادف لامتلاك المحبوب
أو مرادف لقتله.. والفراشة طارت بعيدا،
وتعلّمت التّحليق كنسر، وانتهى الأمر.)
نعم، انتهى الأمر، لن أعود عبدة لشهريار، لن أتزوّج ولن أحبّ.
فسمعت صوتا داخلها يقول: شتان ما بي صخر وعنان، فهما شخصان مختلفان، عنان إنسان حسّاس وراقٍ في تعامله مع الجميع، لقد لمستِ ذلك يا ندى، فلماذا لا تعطي نفسك فرصة أخرى، قد تعوّضك عن كلّ عذابات حياتك.
فردّ الصوت الآخر يقول:
الرّجل الشّرقيّ يبقى شرقيّا. جميعهم وجهان لعملة واحدة.
فخرج صوت من القلب يقول: بل هناك فرق، كان أبي لطيفا، لم يجرح والدتي يوما بكلمة، ولم يقسُ على زوجته منال رغم أنّها كانت مشاكسة، كان إنسانا بمعنى الكلمة، عنان أشبه بشخصيّة أبي -رحمه الله-.
وبينما كانت تحاور نفسها إذا بوردة تتصّل بها:
- مرحبا ندى، أنا بحاجة للتّحدّث معك، يجب أن نلتقي حالا.
ردّت ندى:
- بل أنا بحاجة إليك يا وردة، فلنلتقي في الرّوضة، أريدك بحديث خاصّ جدّا.
واتّفقتا أن تلتقيا بعد نصف ساعة في الرّوضة.
بدّلت ندى ملابسها، وتوجّهت نحو باب المنزل، فسألتها براء:
- إلى أين يا أمّي؟
- إلى الرّوضة سألتقي مع وردة.
ارتاحت براء للأمر، فمعنى ذلك أنّها ستستشير صديقتها المخلصة وردة، فهي تثق برأيها، وتتأثّر به.
التقت الصّديقتان في مقرّ الرّوضة، وروت كلّ منهما روايتها مع العريس المنتظر.
قالت ندى:
- يبدو أنّ سامر يحبّك يا وردة، وقد انتظرك طيلة الفترة السّابقة؟ فلماذا ترفضين؟
فأجابت وردة:
- لا أدري، سأعطي نفسي شهرا للتّفكير مليّا قبل أن أخطو هذه الخطوة التي ستؤثر على حياتي وحياة أسرتي.
ثمّ وجّهت الحديث إلى ندى:
- وأنت يا ندى، لقد رأيت حبّ عنان يشعّ من عينيه، فلماذا ترفضين؟ لقد وقف معك وقفة أصيلة، كان أبا لبراء ولكريم وكريمة.
- كرهت كلّ جنس الرّجال يا وردة، لن أكون عبدة لأحد بعد أن تحرّرت.
- بل ستكونين حبيبة يا ندى، فكّري بالأمر.
أعطي نفسك فرصة، فهي تستحقّ منك أن تسعديها بقرار يدخل الفرحة إلى قلبك، علّ الله يعوضك عن كلّ ما مضى من أيّام لم تجفّ دمعتك فيها.
عادت ندى إلى المنزل، دخلت إلى غرفتها تسترجع حوارها مع براء ووردة، لم يغمض لها جفن طول الليل.
تركتها براء في حوار مع نفسها، فهي تعرف أمّها جيّدا، لا تحبّ الإلحاح من الآخرين، فهو يزيدها عنادا.
*****
طلّت الشّمس صباحا، تعلن عن مولد نهار جديد، دخلت براء إلى غرفة والدتها تصبّح عليها وتقدّم لها فنجان قهوتها على فراشها، فقرأت قلقا يسكن عينين جافاهما النّوم.
نظرت إليها والدتها وقالت:
قولي لعنان أنّني أحتاج شهرا -على الأكثر- لأردّ على طلبه.
اندفعت براء نحو أمّها تضمها وتقبّل وجنتيها، فقالت لها أمّها:
- لا تستعجلي يا براء، فلم أتّخذ قراري بعد.
- أدري يا أمّي، وأدري أيضا أنّك ستختارين الأفضل لك ولأسرتك، خذي وقتك يا أمّي. جميعنا ننتظر…
انتهى