لا خلاف بأنّ الإنتخابات الرّئاسيّة والتّشريعيّة الفلسطينيّة استحقاق دستوري ومطلب شعبيّ، لكنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يجب إجراء هذه الإنتخابات في الظّروف والأحوال كلّها؟ وما نشاهده من بيانات بعض النّاطقين أو القياديّين في تنظيمات فلسطينيّة أو في قوائم مستقلّة سجّلت لخوض هذه الإنتخابات بأنّ الجواب نعم يجب خوضها، والقائلون بهذه “النّعم” كما يبدو أنّ بعضهم لا يعرف تماما خصوصيّة القدس، وبعضهم لا يدرك مخاطر ترك القدس وحدها.
وقبل الخوض في الموضوع دعونا نستذكر خطيئة سيّء الذّكر دونالد ترامب الرّئيس الأمريكي السّابق الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل في السادس من ديسمبر 2017، ونقل سفارة بلاده إليها تلبية لإملاءات سيّده بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيليّة. وفي تصريح لاحق لخطيئة ترامب صرّح :”لقد أسقطتُ القدس عن طاولة المفاوضات!” وقد تمسّك نتنياهو وحكومته المتطرّفة بقرار تابعه ترامب، ساعده في ذلك تهافت “كنوز اسرائيل وأمريكا الإستراتيجيّة في أنظمة عربيّة” على تطبيع علاقاتها مع اسرائيل تنفيذا لأوامر ترامب، والخلل الهائل في موازين القوى الإقليميّة. ومنذ ذلك الوقت فإنّ سلطات الاحتلال الإسرائيليّ لا تسمح حتّى بإقامة معرض رسومات في القدس له أيّ علاقة بأيّ مؤسّسة رسميّة فلسطينيّة، وللتّذكير فإنّ الاحتلال شدّد الحصار على القدس منذ العام 2007 باكتمال بناء جدار التّوسّع الاحتلالي، وعزلها عن محيطها الفلسطينيّ وامتدادها العربيّ.
ومع التّأكيد على بطلان قرار ترامب وكلّ ممارسات الاحتلال في القدس وفي غيرها، والتي تتناقض مع القانون الدّوليّ ومع قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، إلّا أن الاحتلال يسيطر بقوّة السّلاح سيطرة مباشرة على القدس، وبطرق متفاوتة على بقيّة الأراضي المحتلّة، ويمارس فيها الموبقات كلّها.
والاحتلال لا يزال يرفض السّماح بإقامة الإنتخابات الفلسطينيّة في القدس، لكننا نجد بعض المغيّبين أو المتغيّبين عن واقع القدس ينادون بإجراء الإنتخابات رغم عدم سماح الاحتلال بإجرائها في القدس، أو على رأي المتهافتين على الإنتخابات تحت كلّ الظروف، و”ليترك الأمر للمقدسيّين للإشتباك مع الاحتلال وإجراء الإنتخابات رغما عن الاحتلال”! ويقدّمون “النّصائح” المبكية المضحكة بإجراء هذه الإنتخابات في المساجد والكنائس، أو في سفارات وقنصليّات دول أجنبيّة! فهل يعتقد أصحاب هذه الدّعوات أنّ الكنائس والمساجد لا تخضع لسلطة الاحتلال، وهل يعلمون أنّ شرطة الاحتلال تقيم حواجزها عند بوّابات المسجد الأقصى، وتتحكّم بالدّاخلين للصّلاة في المسجد وتمنع من تريد من دخوله، وهل يعلمون أنّ المسجد الأقصى مقسّم زمانيّا ويدخله المتزمّتون ودعاة بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه بشكل شبه يوميّ، ويقيمون صلوات تلموديّة فيه تحت حراسة قوى الأمن الاحتلاليّة، فكيف ستجري الإنتخابات في المساجد والكنائس، وليت أصحاب هذه الدّعوات يحاولون دخول القدس للصّلاة في الأقصى دون تصريح من سلطات الاحتلال، وعن أيّ سفارات وقنصليّات يتكلّمون؟ هل يقصدون السّفارة الأمريكيّة أم الإنجليزيّة أم الفرنسيّة؟
وهل هناك فلسطينيّ أو عربيّ أو مسلم لا يعرف أهمّيّة القدس، وما تمثّله بمسجدها الأقصى الذي هو جزء من عقيدة المسلمين، فهو القبلة الأولى وثاني الحرمين وثالث المسجدين ومعراج خاتم النّبيّين. والقدس العاصمة السّياسيّة والدينيّة والحضاريّة والعلميّة والإقتصاديّة لدولة فلسطين العتيدة.
وهل يعي المتهافتون على الإنتخابات أن إجراء الإنتخابات دون القدس ومواطنيها -لا سمح الله-يعني تنازلا رسميّا عن الحقّ الفلسطينيّ والعربيّ فيها، وهذه خطيئة كبرى وخيانة عظمى، لا يقدم عليها إلا من شكّلوا قوائم إنتخابيّة مموّلة من كنوز اسرائيل وأمريكا الإستراتيجيّة، ويطمحون بالفوز لتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ، وهذا ما لا يمكن تصوّره، وشعبنا يدرك الأمور جيّدا رغم طاحونة الإعلام الهائلة التي تسعى إلى تضليله وحرفه عن بوصلة التّحرّر والإستقلال وحق تقرير المصير وإقامة الدّولة المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف بعد كنس الاحتلال ومخلفاته كافّة.
من هنا تنبع أهمّيّة تأجيل الإنتخابات وتفعيل مؤسّسات منظّمة التّحرير، بمشاركة جميع الفصائل والأحزاب على اختلاف مشاربها، والعمل على تفعيل المقاومة الشّعبيّة لدحر الاحتلال. والتّاريخ لن يرحم أحدا.
29-4-2021