عندما انطلقت حركة التحرير الوطني الفلسطيني” فتح” بداية العام 1965، أثارت ردود فعل وتساؤلات كثيرة، خصوصا وأنّها حظيت بدعم زعيم الأمّة في حينه الرّئيس جمال عبدالناصر. وبانطلاقتها أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى صدارة القضايا العربيّة، وانتشلت القضيّة الفلسطينيّة من قضيّة لاجئين إلى قضيّة شعب له حقوق. وبعد نكبة حزيران 1967 حظيت فتح بدعم جماهيريّ واسع، بين صفوف الفلسطينيّين خاصّة وبين الشّعوب العربيّة بشكل عام. وذلك لأكثر من سبب، ففتح لم تنشأ كحزب سياسيّ له أيدولوجيته، وإنّما كحركة جماهيريّة واسعة، استوعبت اليساريين واليمينيين وما بينهما، وبهذا تفوّقت بجماهيريتها على الأحزاب التي سبقتها بعشرات السّنين، والحظوة الشّعبيّة الواسعة التي حظيت بها حركة فتح، جعلت لها سطوة محلّيّة وإقليميّة وإلى حدّ ما وسط حركات التّحرّر العالميّة، حتّى وصل عنفوانها درجة أنّ منشورا من حركة فتح، أو خطابا من أحد قادتها التّاريخيّين كان يثوّر الجماهير التي تخرج بمظاهرات في أيّ دولة عربيّة دعما للثّورة وللحقوق الفلسطينيّة، وهذه الحالة الشّعبيّة لم يسبق حركة فتح فيها إلا زعيم الأمّة جمال عبد النّاصر. غير أن هذا الرّصيد الهائل لفتح ولمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، والفصائل الفلسطينيّة المنضوية تحت لوائها، أربك كنوز أمريكا واسرائيل من الأنظمة العربيّة، فباتوا يدبّرون المكائد ويشترون الذّمم لتحجيم منظمة التحرير وحركة فتح وغيرها، ممّا تمخّض عن انشقاقات في صفوفها. وظهر هذا جليّا في العام 1982 عندما انشقّت مجموعة عن فركة فتح بعد صمودها هي وغيرها من قوى المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة في التّصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان واحتلّ العاصمة اللبنانيّة. لكنّ حنكة قيادة فتح وصمودها استطاعت السّيطرة على الأوضاع، واستطاعت تحجيم المنشقّين، رغم خروج المقاومة من قواعدها في لبنان، وتفرّقها بين دول عربيّة بعيدة عن خطّ المواجهة مثل:”تونس، اليمن الجنوبي وليبيا”.
الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى
عندما اشتعلت انتفاضة الشّعب الفلسطينيّ في ديسمبر 1987، قلبت الموازين في المنطقة، وأعادت لمنظّمة التّحرير هيبتها وسطوتها، لكنّه مع الأسف لم يتم استغلالها سياسيّا بطريقة صحيحة لأكثر من سبب؛ لكنس الاحتلال ومخلفاته لإقامة الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، وبذا أضاع الفلسطينيون والعرب فرصة ثمينة. استبدلها الفلسطينيّون بخطيئة اتّفاقات أوسلو في سبتمبر 1993.
اتّفاقات أوسلو والخديعة
وقع الفلسطينيّون في فخّ اتّفاقات أوسلو، واعترفت منظّمة التّحرير باسرائيل كدولة، في اعترفت اسرائيل بمنظّمة التّحرير، وارتضت المنظمة بتأجيل قضيّتي القدس والمستوطنات إلى ما سمّي”بالحلّ النّهائي”، وقبلت منظّمة التّحرير بإقامة السّلطة الفلسطينيّة، التي تعتبر سلطة إدارة مدنيّة على السّكّان وليس على الأرض، وقد نجحت اسرائيل من خلال هذه الإتّفاقات أن تفرّغ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من مضمونها المقاوم، كما نجحت اسرائيل في استغلال اتّفاقات أوسلو؛ لكسب الوقت لمواصلة الإستيطان الذي تضاعف عشرات المرّات، وفي تهويد مدينة القدس بشكل متسارع؛ لفرض حقائق على الأرض تمنع إقامة الدّولة الفلسطينيّة بعاصمتها القدس الشّريف.
فتح السّلطة
وقعت حركة فتح في خطأ فادح عندما تحوّلت من حركة مقاومة إلى حزب حاكم، واستوعبت كوادرها في مؤسّسات السّلطة، دون الأخذ بعين الإعتبار “وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب”. وتمّ تجاهل كفاءات كثيرة في الشّعب الفلسطيني، كان بإمكانها بناء مؤسّسات قويّة وقادرة على خدمة الشّعب وقضاياه المصيريّة. وهذا خلق فجوة بين قيادة فتح وبين كوادرها من جهة، وبينها وبين الشّعب من جهة أخرى، وهذا ما شهدناه في الإنتخابات التّشريعيّة عام 2006، عندما حظيت حماس بغالبيّة مقاعد المجلس التّشريعيّ، ولوحظ أن غالبية من انتخبوا حماس ومنهم كوادر فتحاوية “ليس حبّا في حماس، ولكن نكاية بفتح.”
استهداف حركة فتح
وهنا لا بدّ من التّذكير بأنّ أحد أسباب خسارة فتح في انتخابات العام 2006 التّشريعيّة، يعود إلى التّنافس غير الشّريف بين قيادات وكوادر فتحاويّة، عندما دخلوا الإنتخابات “كمستقلّين”، وشتّتوا بذلك أصوات ناخبي فتح.
ويجب الإنتباه أنّ القوى المعاديّة ومنها أنظمة عربيّة لم تترك فتح وشأنها، بل عملت بشكل متواصل على تدميرها، وعلى تدفيعها فاتورة نضالاتها وتاريخها السّابق، واستطاع مال البترول العربيّ خصوصا دولة الإمارات التي كشفت عن حقيقة علاقاتها التّطبيعيّة مع اسرائيل بشكل علني في الصّيف الماضي. حيث استطاعوا شراء ذمم بعض القيادات الفتحاويّة، وفتحوا لهم أبواب وسائلهم الإعلاميّة؛ لينشقّوا عن حركتهم الأمّ، وإمعانا في تطبيق ذلك فقد أكثروا من التّصريحات التي يزعمون فيها حرصهم على وحدة الحركة! ولم يقتصر تدمير حركة فتح على قيادات معروفة شكّلت قوائم انتخابيّة لانتخابات لن تتمّ في الغالب، بل تعدّت ذلك إلى أكّاديميّين وبعض “الوجاهات الإجتماعية” المحسوبة على الحركة؛ لتشكّل هي الأخرى قوائم انتخابيّة، علما أنّ غالبيّتها لن تصل إلى درجة الحسم، لكنّها بالتّأكيد ستنجح في تفتيت وإضاعة أصوات ناخبي فتح. وسينجحون في تحقيق أوامر داعميهم في تدمير حركة فتح من داخلها. فهل تدرك كوادر فتح وناخبوها مدى مشاركتهم في تدمير الحركة؟ أم أنّ فتح تعيش مرحلة انتحار ذاتيّ لن يستفيد منها إلأ أعداء الشّعب الفلسطينيّ؟ وهل يتساءل السّائرون في ركب تدمير حركة فتح حول الأهداف التي سيصلون إليها، وهل انتبه عامّة النّاخبين عمّا سيستطيع تحقيقه “المنشقّون والحردانون” فيما لو استلموا قيادة السّلطة، حتّى لو افترضنا حسن النّوايا فيهم، وخصوصا في ظلّ اختلال موازين القوى؟ ويبدو أنّنا لسنا أمام ثورة تأكل أبناءها، وإنّما أمام أبناء يأكلون ثورتهم. وهل الصّراع صراع مناصب أم صراع على “التّحرير”؟
18-4-2021