من قلب الألم إضطررّنا أن نُعانق الحلم .. نبحث عن التّحدّي والصّمود .. نبحث عن خُلد الرّاحة اللّامحدود .. نتعلّق بمخلوقات من خارج نطاق الوجود. دروس وعبر كبيرة يضعها الأديب المقدسيّ “جميل السلحوت” في صفحات مقتضبة أمام اليافعين من القرّاء في روايته الجديدة “البلاد العجيبة” التي صدرت أواخر العام 2015 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وصمّم غلافها ومنتجها “شربيل إلياس” في 83 صفحة من الحجم المتوسّط، وهي جزء من سلسلة “أغصان الزيتون” للمرحلتين الإعداديّة والثّانويّة.
أمّا أنا فجلستُ في حضرة الأرض المقدّسة والمباركة، لعلّي أسافر مع تلك الطّائرة الزّجاجيّة، وأمرح مع “عبد المعطي” وولديه “محمود” و “زينب” في رحاب البلاد العجيبة. إرتقى بنا الكاتب بأسلوب مُشوّق وبأفكار مُستجدّة، صوّر لنا حياة ثانية نابضة على كوكب آخر غير كوكب الأرض. يأتي شيخ طيّب ذو لحية وملابس بيضاء وشعر أشْيَب، لِيُحَلِّق مع هذه العائلة إلى الفضاء المجهول، ليجدوا بلادا متكاملة، راقية، هادئة، فيها من الأشياء ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خَطَر على بال بشر. يتجوّلون ويهيمون ويتعرّفون على علوم متقدّمة، حياة إجتماعيّة راقية وبلاد آمنة مستأمنة، لا حروب ولا دمار ولا جرائم فيها، تحكمها النّساء والأطفال. فيها مخلوقات بشريّة أكثر قناعة وحِكمة وثراء، رجالها أكثر وسامة ونساؤها أكثر جمالا.
عائلة “عبد المعطي” في ذهول وإستغراب، وكانت المفاجأة حين عرضت عليه سيّدة هذا الكوكب الزّواج والإنجاب منه، وقد تمّ ذلك دون أي تردّد ! العائلة الحاكمة أغدقت عليه وعلى ولديه بالهدايا القيّمة جدا والثّمينة، سبائك الذّهب والملابس الفاخرة، بحيث أنَّ حياتهم ستنقلب رأسا على عقب ويصبحون من الأثرياء على وجه الأرض.
إختار الكاتب “السلحوت” أسلوب السّرد الرّوائي والحوار بين الشّخصيّات في روايته، جعل هناك شخصيّات رئيسة وثانويّة. لم تتوقّف عنده عمليّة المقارنة بين هذه البلاد العجيبة وبلاد الكرة الأرضيّة، والهدف جليّ وواضح في إظهار الحياة المثاليّة التي يحلم بها سكان الأرض المغلوب على أمرهم، كذلك حمل همّهم وهمّ وطنه، وكأنَّ أديبنا يتبنّى آراء أفلاطونيّة إشتاق إليها. بدأ عنصر التّشويق مع بداية الرّحلة الفضائيّة، تارة نُوهِم أنفسنا أنَّ “محمود” وعائلته في حلم عميق، وتارة أخرى نُصارع تلك المجازات والبلاغات الأدبيّة. على كلّ لن يكون هناك فرق في كلتا الحالتين، فالمواعظ والحِكم بدأت تنهمر من بين السّطور، ومحور الكلام ينصبّ على توطيد المحبّة بين النّاس. المعاني إتّصفت بالبساطة والمباشرة، بسبب أنّها رواية مخصّصة لليافعين من القرّاء. قد يفشل العقل البشريّ في إختلاق حياة أخرى بكامل تفاصيلها، إلاّ أنّنا قطفنا الدّرة والفكرة الثّمينة من أعماق ذلك الخيال الواسع جدا.
الكاتب “السلحوت” وكالعادة يصف في رواياته المعالم التّاريخيّة للأماكن المقدّسة، وأسواق القدس القديمة، وباحات المسجد الأقصى، وقبّة الصّخرة وكنيسة القيامة. كذلك تكلّم عن الفراعنة وتاريخهم وعن الملك اليبوسيّ العربيّ “ملكي صادق” الّذي بنى مدينة “القدس” قبل ستّة آلاف سنة وسمّاها “يبوس”. إكتسبَ القارئ من خلالها معلومات كثيرة وحقائق أكيدة. إنّها رواية بطابع مختلف تماما، إستطاع الكاتب أن يوصل المغزى من وراء حكايته هذه، وهي ضرورة التّشبث بهذه الأرض المقدّسة، وأنَّ مَن يقطن فيها أو يطلّ عليها سيعيش في سعادة غامرة دائمة، فهي جنّة الأرض وبوّابة السّماء. يحدّثنا على التّجذّر بترابها، ويحثّ أولئك المقتدرين ماديّا أن يساعدوا ويساهموا في الإعمار والبناء على أرضها، ومعاونة أهلها في السّكن والصّمود على تراب وطنهم.
في هذه الرّواية أظهر الأديب تحيّزه الكامل إلى جانب الجنس الّلطيف ومناصرة حقوقهنّ. ولاّهنّ الحُكم والإدارة والقرار دون أن يتعارض ذلك في نظره مع الشّرع، فأحدث بذلك سابقة فريدة، لأنَّ في رأيه أنَّ الرجال هم مَن يفتعلون المشاكل. أمتعتنا يا أستاذنا في هذه الرّحلة الرّائعة، وأيضا في هذا العمل الأدبيّ الجميل.
2016/01/25