بداية يجب التّأكيد أنّ تراث المفكّر ادوارد سعيد يحتاج إلى دراسات عميقة؛ كي نستطيع إعطاء الرّجل حقّه، فهو مفكّر استثنائيّ يعزّ وجود أمثاله.
ولا بدّ هنا من التّأكيد على أنّنا نحن العرب عالة على الثّقافة، أي أنّنا مستهلكون للثّقافة من خلال المطالعة، ولا ننتج ثقافة وفكرا، وللتّذكير فقط أنّه لم يبرز في العالمين العربيّ والإسلامي مفكرّون ينتجون ثقافة من عهد مؤسّس علم الإجتماع ابن خلدون “1332م – 1406م” إلا ادوارد سعيد في القرن العشرين “1 نوفمبر 1935 القدس – 25 سبتمبر 2003 ” صاحب كتاب الإستشراق” Orientalism”.
فابن خلدون أحدث ولا يزال ثورة فكريّة في العالم حول علم الإجتماع الذي أسّسه في مقدّمته الشّهيرة، وادوارد سعيد أحدث ولا يزال زلزالا فكريّا عالميّا حول مفهوم الإستشراق، حيث عرّى الاستشراق وأهدافه من خلال كتابه الإستشراق،
وهذا بالطّبع لا ينفي وجود مثقّفين وأدباء عرب كبار، وحتّى وجود مفكرّين إصلاحيّين حاولوا إصلاح ما أفسدته عصور الجهل والتّخلّف، والفهم الخاطئ للدّين الإسلاميّ كونه دين غالبيّة المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. تماما كما أنّه لا ينفي وجود مفكّرين عرب ومسلمين سبقوا ابن خلدون كالفارابي وابن رشد. لكنّ ركود الفكر العربيّ والإسلاميّ خلال خمسمائة عام هي الفارق الزّمنيّ بين ابن خلدون وادوارد سعيد يثير التّساؤلات عن دورنا كعرب وكمسلمين في انتاج الفكر والعلوم، وما مدى مساهمتنا منذ خمسمائة عام في الحضارة الإنسانيّة؟ وإن كنّا نفخر بالمفكّر إدوارد سعيد كمفكّر عربيّ عاش وترعرع وتعلّم في أمريكا. فإنّني أتساءل: هل كان بإمكانه أن يصل إلى ما وصل إليه من علم وفكر وثقافة لو بقي في عالمنا العربيّ؟ خصوصا وأنّنا ورثة “ثقافة الصّحراء الوحشيّة” كما وصفها ابن خلدون في مقدّمته الشّهيرة، ونعيش حالة من الجهل وتغييب الحرّيات، حتّى بات كثيرون منّا لا يعرفون معنى الوطن، وصاروا يرون الوطن متمثّلا بشخص “وليّ الأمر” الذي يتربّع على كرسيّة بالحديد والنّار. وحتّى أنّ غالبيّة دويلاتنا لا يتعدّى كونها تحالفات عشائريّة حاكمة، ولا نزال بعيدين عن الدّولة المدنيّة التي يسود فيها القانون، وليتنا وقفنا عند حدود الجهل هذه، بل تعدّيناها إلى قتل بعضنا بعضنا، وإلى تدمير أوطاننا بأيدينا خدمة لأجندات أجنبيّة، وخير مثال على ذلك ما جرى ويجري في “سوريّا، ليبيا، العراق، اليمن، السّودان الصّومال” وما سمّيت بالعشرية السوداء بين 1992-2002م في الجزائر وغيرها” التي دمّرت بلدانا وقتلت وجرحت وشرّدت ملايين البشر.
ما علينا، سنعود إلى المفكّر ادوارد سعيد، الذي نفتقده في الملمّات: كونه وصل إلى العالميّة في فكره، فقد ولد في مدينة القدس، وهو أحد ضحايا نكبة الشّعب الفلسطيني في عام 1948، حيث وقعت النّكبة بينما كان هو وأسرته في القاهرة، ممّا اضطرّه إلى ترك مدرسته “المطران” في القدس؛ ليلتحق بكلية فكتوريا في الإسكندرية وهي مدرسة إنجليزية داخلية لأولاد الطبقة الثريّة”. وفصل منها في العام 1951؛ ليرسله بعدها والده إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة؛ ليكمل تعليمه المدرسيّ والجامعيّ هناك.
لمع نجم إدوارد سعيد بشكل كبير بفضل وصفه ونقده الاستشراق في كتبه “الاستشراق” الصّادر عام 1978م. فقد وصف “سعيد” الاستشراق بعدم الدّقة، والتّشكل على أساس التّصوّرات الغربيّة عن الشّرق. كما وصفه بأنه: “تحيّز مستمرّ وماكر من دول مركز أوروبا تجاه الشّعوب العربيّة الإسلاميّة.”
وفي كتابه “تغطية الإسلام” الصّادر عام 1981، انتقد ادوارد سعيد نظرة الغرب للعرب والمسلمين، ويرى أن ” التّغطية الإعلاميّة للإسلام مليئة بالمغالطات وبعيدة عن الموضوعيّة حيث يتمّ تصوير الإسلام كدين يتميّز بالعصبيّة العرقيّة والكراهية الثّقافيّة والجنسيّة، في حين تحظى المسيحيّة واليهوديّة باحترام كبير”. وهذا ما لمسناه ولا نزال نلمسه خصوصا بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة في بداية تسعينات القرن العشرين، حيث استبدلت الإمبرياليّة العالميّة بقيادة أمريكا عداءها للشّيوعيّة، بالعرب والمسلمين، وقد ظهر ذلك جليّا في كتاب
“صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، لصاموئيل هنتنجتون الذي صدر عام 1993. ومن الأهمّية بمكان هنا أن نذكر أنّ أمريكا والقوى الامبرياليّة قد استغلّت قوى الإسلام السّياسي زمن الإتّحاد السّوفييتي، وكانت تطلق عليهم “السّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”، وجنّدتهم لمحاربة الشّيوعيّة والدّول الإشتراكيّة، وهنا نشأت تنظيمات الإرهاب “كالقاعدة وغيرها” لمحاربة السّوفييت عند احتلالهم لأفغانستان، وجرى تدريبهم وتسليحهم وتمويلهم من دول عربيّة وإسلاميّة تخضع للسّياسة الأمريكيّة. ومع أنّ أمريكا وحلفاؤها بعد انهيار الدّول الإشتراكيّة رفعوا راية العداء للعرب وللإسلام والمسلمين، إلا أنّها استطاعت تجنيد قوى الإسلام السّياسيّ مرّة أخرى؛ لتمرير سياساتها في المنطقة العربيّة، ولتطبيق مشروعها “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متطاحنة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ، وقد استغلّتهم في القيام بحروبها بالنّيابة كما حصل ولا يزال يحصل في عدّة دول عربيّة كسوريا، ليبيا، العراق، اليمن، صحراء سيناء المصريّة، لبنان” وسبق ذلك احتلال العراق وهدم دولته، وتقسيم السّودان. وإمعانا في تشويه الإسلام والمسلمين، وتدمير العالم العربيّ جرى تأسيس تنظيمات الإسلام السّياسيّ الإرهابيّة، كداعش وجبهة النّصرة وغيرهما.
وقد تصدّى ادوارد للفكر الصّهيوني وللحركة الصّهيونيّة كحركة استعماريّة عملت ولا تزال تعمل على طرد الشّعب الفلسطينيّ من أرضه، يساندها في ذلك الدّول الإمبرياليّة، وإحلال مهاجرين يهود مكانه، في محاولة منهم لتزييف التّاريخ، وإنكار حتّى وجود الشّعب الفلسطينيّ، لذا فهو يعرّف الشعب الفلسطيني بأنّه” الشّعب المقيم على أرض فلسطين والذي هُجّرَ منها، وحتّى الآن لايُعترف بمشروعيّته في أرضه، وتاريخه يعدّ جزءا من تاريخ الشّعوب المهجّرة من أراضيها، ويقدّم الوثائق التي تنقض الدّعاية الصّهيونية بعدم وجود شعب في فلسطين.”
وإدوارد سعيد الذي شغل عضويّة المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ ما بين 1966-1991 كان من أبرز المدافعين عن حقّ شعبه الفلسطينيّ في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف، وقد ألّف عددا من الكتب في القضيّة الفلسطينية والصراع العربيّ الإسرائيلي مثل “القضية الفلسطينية” (1979) و”سياسة التجريد” (1994) و”نهاية عملية السلام” (2000) إضافة إلى كتابين يتناولان اتفاقية أوسلو هما “غزة أريحا: سلام أمريكي” سنة 1995 و”أوسلو: سلام بلا أرض” (1995).
وقد استقال من المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ احتجاجا على اتّفاقات أوسلو “لأنّها تجاهلت حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أراضي 1948 وتجاهلت تنامي الاستيطان.” ومن يقرأ ما كتبه ادوارد سعيد عن خطيئة أوسلو، فإنّه سيقف على مدى عمق تفكيره، ورؤاه بعيدة النّظر إلى ما ستتمخّض عنه هذه الإتّفاقات، وهذا ما حصل بالفعل على أرض الواقع خلال ربع القرن الماضي. فقد تمّ إضعاف منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، وإضعاف فصائلها أيضا، كما أن الإستيطان تضاعف أكثر من 1000%، واعترفت أمريكا في 5 ديسمبر 2017 بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها إليها، كما تعمل على تصفية منظّمة الأمم المتّحدة لغوث اللاجئين “الأونروا” في محاولة منها لتصفية قضيّة اللاجئين، وشطب حقّ العودة الذي نصّت عليه قرارات الأمم المتّحدة، وأغلقت مكتب منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في واشنطن، وجرّت غالبية الدّول العربيّة إلى تطبيع العلاقات مع اسرائيل، بل وجرّت بعضها إلى تحالفات أمنيّة وعسكريّة مع اسرائيل تمهيدا لحربها على إيران. وثبت أنّ السّلام الذي تريده اسرائيل يتمثّل باحتفاظها بالأراضي العربيّة المحتلّة في حرب عام 1967، وأنّ أقصى ما يمكن أن تعطيه اسرائيل للفلسطينيّين لا يتعدّى إدارة مدنيّة على السّكّان، وليس على الأرض التي ستبقى نهبا للإستيطان. أو كما قال نتنياهو في كتابه الذي صدر بداية تسعينات القرن الماضي بالإنجليزية تحت عنوان
وترجم إلى العربيّة تحت عنوان” مكان تحت A plase between nations”ا
الشّمس” حيث جاء فيه: أنّه إذا اجتمعت الانتلجينسيا الإسرائيليّة مع الأيدي العاملة العربيّة الرّخيصة، فإنّ الشّرق الأوسط سيزدهر” وهو بهذا يعني أنّ دور العرب- حسب السّلام الذي يريده نتنياهو- لن يتعدّى مجرّد كونهم “حطّابين وسقّائين” حسب التّعبير التّوراتيّ.
من هنا ولتلافي القادم الأسوأ فإنّنا نفتقد في عالمنا العربيّ مفكّرين كإدوارد سعيد.