ناهض زقوت:تجليات الذاكرة عند الأنا الساردة في كتاب “رسائل من القدس وإليها”

ن

يعد فن كتابة الرسائل هو أحد الفنون النثرية التقليدية في تراثنا العربي الأدبي إلى جانب الفنون النثرية الأخرى، كالخطابة والمقامات المناظرات. ازدهر في القرنين الثالث والرابع الهجريين، أواسط العصر العباسي، وأواخر العصر الأموي. وقد حفلت الكتب التراثية ودواوين الأدب العربي بضروب من الرسائل الإخوانية والعلمية والأدبية، مثل: رسائل ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، ورسائل الجاحظ، ورسائل أخوان الصفا، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، ورسائل أبي بكر الخوارزمي.

والرسالة الأدبية نص أدبي مكتوب نثراً، واتفق الباحثون على أنه “فن نثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية”، يبعث به صاحبه إلى شخص ما، يسمى المرسل إليه. تعتبر الرسالة الأدبية أحد أهم فنون السرديات القائمة على الإنشاء والمحادثة، حيث تخاطب الغائب (المرسل إليه) وتستدرجه عبر فنيتها ببلاغة الكلمة وقوتها.

كتب العديد من الكتاب والأدباء في القرن العشرين الرسائل الأدبية وتبادلوها مع كتاب وأدباء أخرين سواء في البلدان العربية أو الأجنبية، وثمة ما نشر، وثمة ما لم ينشر خوفاً من إثارة البلبلة والزوابع لذلك بقيت حبيسة الأدراج (غادة السمان تضع رسائلها في بنك سويسري). ولم يكن الأدب الفلسطيني بعيدا عن هذه التجربة، فقد عرف الأدب الفلسطيني فن الرسائل سواء بالطريقة التقليدية، وأقصد المخاطبة الورقية، أو المخاطبة الالكترونية، أي توظيف التكنولوجيا في خدمة الكتابة، وتطوير أدوات أدب الرسائل، ومن الرسائل الأدبية الفلسطينية: رسائل المعداوي وفدوى طوقان (الرياض 1976)، ورسائل محمود درويش وسميح القاسم (بيروت 1990)، ورسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان (بيروت 1992)، ورسائل محمود شقير وشيراز عناب (وقت آخر للفرح، حيفا 2020)، ورسائل محمود شقير وحزامة حبايب (أكثر من حب، بيروت 2021)، ورسائل ناصر عطاالله ونور الشمس النعيمي (شيليا وجبل الجرمق، حيفا 2022)، ورسائل عمر صبري كتمتو وروز اليوسف شعبان (وطن على شراع الذاكرة، عكا 2022).

في هذا الكتاب الذي بين أيدينا “رسائل من القدس وإليها” للكاتبين جميل السلحوت وصباح بشير يأتي معبراً عن رؤى ثقافية واجتماعية وسياسية من خلال رسائل تبادلاها الكاتبان على فترات طويلة متقطعة أحياناً. كانت البداية هي تعارف وسؤال، انطلاقاً من القاعدة التي يؤمن بها جميل السلحوت “أزعم أنني أشجع الكتاب الجدد حتى وإن كنت لا أعرفهم”، ثم تطورت إلى رسائل متبادلة، وذلك بعد أن شاركت الكاتبة صباح بشير في لقاءات ندوة اليوم السابع، وكانت غير معروفة للحضور، وخاصة مؤسسها الكاتب جميل السلحوت، فأثارت بحضورها هالة فضولية للكاتب للتعرف عليها، فكان هذا الكتاب ثمرة هذا التعارف، وقد صدر الكتاب عن مكتبة كل شيء في حيفا عام 2022، ويقع في 182 صفحة.

حينما يفكر إنسان ما في كتابة رسالة إلى إنسان آخر يكون لديه رؤية وهدف حول الدوافع التي دفعته لكتابة هذه الرسالة، فليس ثمة رسالة دون هدف يسعى إليه كاتبها.

 سواء في طرحه للمتلقي الخاص أو المتلقي العام. رسائل القدس كتبت عن وعي وبصيرة، وادراك للأهداف من ورائها، فهذه الرسائل في عمقها البسيط هي لمتلقي خاص، ولكن في عمقها المعرفي هي لمتلقي عام، لأن هدفها توصيل رسالة للقارئ من خلال القضايا التي تم طرحها بين المرسل والمتلقي، لذا كان نشرها لاستكمال الفائدة في تعميق الرسالة، وتعميق قيمتها الأدبية والتاريخية بوصفها وثيقة مهمة لاستكناه ملابسات زمانها ومكانها.

ولم تكن هذه الرسائل غاية كتابية، بقدر ما كانت رؤية للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في القدس خاصة وفلسطين عامة، وتساهم في دفع القارئ لاستبان ما استجد في هذا الواقع من ظواهر جديدة، وما يحمله هذا العمل من بعد إنساني، فإنه ينفتح على رؤى غير محدودة بقدر القراءات وبقدر المتلقين.

العنوان وبناء الرسائل

منذ غلاف الكتاب جنس الكاتبان كتابهما بأنه رسائل متبادلة بينهما (رسائل من القدس وإليها)، أي أن هذه الرسائل تنطلق من القدس وتعود إلى القدس، ورغم تعدد أماكن الكتابة، حيث نجد أن رسائل جميل السلحوت تكتب في القدس، ما عدا رسالة واحدة كتبها في أمريكا، أما الكاتبة صباح بشير فقد كتبت من أماكن متعددة؛ من القدس ودبي ولندن وتونس وجورجيا وحيفا. ولكن جميعها ترد إلى القدس، فالقدس تبقى هي المركز بحكم وجود منشئ الرسائل جميل السلحوت، نجده بعد عودته من زيارة أمريكا يصف “الوطن المحتل بالسجن الكبير”، ورغم شعوره بالغربة في الوطن إلا أنهم “محظوظين بالعيش في هذا الوطن المقدس، فهو عبارة عن متحف كبير، وفيه تنوع ثقافي”، ويشرح طبيعة التنوع في الوطن خاصة في الفصول الأربعة وجمال الوطن, ويؤكد أنهما مهما تغربا لن يستطيعا العيش بعيداً عن القدس.

إن جمالية القدس تنبع من قداستها وأبعادها الثقافية والحضارية، لذلك تبقى الثقافة هي حصن الدفاع الأخير أمام هزيمة الحاضر ومجهولية المستقبل. لذا يركز جميل السلحوت على مسألة الثقافة ودورها التفاعلي في المجتمع وقدرتها على التغير اذا أحسنا استخدامها في إعادة رواية الحكاية الفلسطينية، لذا يعتب وينتقد موقف وزارات الثقافة في الدول الاسلامية والعربية، وتسمية القدس عاصمة الثقافة العربية، والقرار بتسميتها العاصمة الدائمة للثقافة الإسلامية .. والمخجل هنا أن أيا من هذه الدول لم تقدم شيئاً للقدس .. بينما أثرياء اليهود تبرعوا بمليارات الدولارات لتهويدها.

وكانت القدس بالنسبة لصباح بشير هي الوطن الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما تغرب الإنسان وشاهد أماكن كثيرة، تبقى القدس هي مكان الميلاد والنشأة والتعليم والعمل والزواج، ودون القدس/ الوطن يشعر الإنسان دائماً بالنقص بعيداً عن العائلة والأحبة والاصدقاء.

لقد كان التركيز على القدس كثيراً في الرسائل، وهذا ما يجعل العنوان متسقاً مع السرد ومعبراً عن دلالاته، فالقدس هي المكان وهي الرمز الجمالي والتاريخي، الذي يسعى الكاتبان إلى التشبث به عن طريق اثبات وجوده الماضوي والمستقبلي، من خلال إبراز هويته المادية والمعنوية، فهو مكان عيش آبائهم وأجدادهم، ومكان ميلادهم ونشأتهم. لذا كانت القدس حاضرة بكل تجلياتها الروحية والحضارية والثقافية والسياسية في الرسائل.

وقد تواصل الكاتبان في كتابة رسائلهما طوال أحد عشرة سنة، إلكترونيا عبر الإميل، وكانت البداية في 11 ابريل 2010، والنهاية في 31 ديسمبر 2021، بواقع أربعين رسالة. ولكن لم تكن منتظمة بل ثمة فترات انقطاع، لا يشعر بها القارئ، إلا إذا نظر لتاريخ كتابة الرسالة. وراعى الكاتبان المنظور العام للرسالة من حيث ذكر اسم المرسل إليه في بداية الرسالة، بتوصيف (الأخ، والأخت)، واسم المرسل في تذييل الرسالة وتاريخ كتابتها.

حينما يشعر الإنسان أن ثمة ما يهدد وجوده وكيانه، يتوسل كل أسلوب وطريقة لكي يثبت هويته وتأكيدها، لذا يتخذ من ضمير الأنا المتكلم الأداة التي يسعى من خلالها للتعبير عن هويته، فهذا الضمير هو العقل الشعوري الذي يتكون من المدركات الحسية والذكريات والأفكار والوجدانيات، وينمو من خلال تفاعل الفرد مع المجتمع، فالرسائل الأدبية بما تحمله من انفعالات الأديب، وانعكاسها عن جميع الظروف والملابسات الخارجية المحيطة به،   تجعله يؤثر تأثيراً فاعلاً وكبيراً في توجيه الحياة العامة وتصويرها سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. وهذا ما نجده واضحاً في رسائل القدس في استخدام هذا الضمير في عملية التخاطب، وفي القدرة على تكوين صورة عن نفسهما، وعن رؤيتهما كل للآخر، وتقديم رؤية للمجتمع وقضاياه.

اعتمد بناء الرسائل على الحوار غير المباشر بينهما، فهذا الحوار أعطى الرسائل حيوية وديناميكية في التشويق والإخبار بنفس الوقت, وكان دافعاً لزيادة التشويق في النص، ويعطي القارئ إدراكاً سريعاً لمحتوي النص الموازي من قِبَل المتلقي لإيصال الحدث إليه بيسر واكتفاء. فقد تشكل البناء الحواري من خلال قيام أحدهما بطرح سؤالاً وينتظر من الآخر الإجابة عليه أو التعقيب على القضية التي طرحها، نجد منذ الرسالة الأولى التي أرسلها جميل السلحوت يطرح مجموعة من الاسئلة على صباح بشير لكي يفتح مجالاً للحوار فيما يتعلق بالغموض في شخصيتها، وفي طبيعة الكتابة لديها، ودفعها لكتابة رواية، مما يدفعها للرد على ما طرحه من أسئلة، وهي بالتالي تترك المجال مفتوحاً لمداومة المراسلة فتطرح عدة قضايا للنقاش أبرزها مشاكل المرأة في المجتمع والاعلام، وهكذا يتداخل الكاتبان في طرح قضايا للحوار والنقاش حولها.

لقد طرحت رسائل القدس العديد من القضايا في رؤى متبادلة بين الكاتبين: التعريف بندوة اليوم السابع ودورها في تعزيز الثقافة، وفي التعارف بين الكتاب والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، والحديث عن مركزية جبل المكبر بالقدس ونبوغ أكثر من عشرين كاتباً من بين سكانه، أبرزهم الكاتب محمود شقير، و(جميل السلحوت وصباح بشير من جبل المكبر)، وتناول دور العادات والتقاليد وأثرها على المرأة الكاتبة التي تدفعها أحياناً إلى الكتابة باسم مستعار (حليمة جوهر نموذجاً في الرسائل)، وتقديم ملامح من السيرة الذاتية والتجربة الابداعية، والخوض في قضايا المرأة في المجتمع والاعلام، وانتقاد المؤسسات النسوية (الممولة أجنبياً وخدمتها للجهات الممولة)، وسلوك هذه المؤسسات تجاه المرأة، وسيطرة الفكر الذكوري على المجتمع سواء عند الرجل أو المرأة، والتأكيد على دور الثقافة والمكتبة (والمكتبة المنزلية) وتأثير المطالعة والكتابة في صقل الشخصية، وتناول موضوع الغربة أو الاغتراب عن الوطن، وانتقاد المؤسسات الثقافية الرسمية في عدم دعم القدس وأدبائها ومؤسساتها، وطرح فكرة التعصب الديني وأثرها على المجتمع، وانتشار ثقافة الجهل والهبل ودور وسائل الاعلام في انتشارها، والهوة الثقافية بين المجتمع العربي والغربي، وحديث عن السفر والرحلات ووصف الأماكن وفوائد السفر في التعرف على مجتمعات وشعوب جديدة، وتبقى القدس محور النقاش من حيث جماليات المكان وأثر تغيرات الاحتلال للمكان بالتهويد والاستيطان ومصادرة الاراضي، والتطرق إلى ملامح من التاريخ الفلسطيني، والتعرض للظواهر الاجتماعية السلبية (حمل السلاح، وتعاطي المخدرات، وقتل النساء)، والتعرض أيضاً للظواهر السلبية في مجالي الثقافة والتربية والتعليم وأثرهما على المجتمع.

هذا العمل فيه دعوة لتلمس معالم الجمال والأخلاق والفضيلة والمعرفة في كل ما يحيط بالإنسان، ودعوة لقبول الآخر/ الإنسان وتقديره واحترامه على النحو الذي يليق به مهما كانت الاختلافات الشكلية والفكرية والطبائع، بما لا يتنافى مع تقدير واحترام الذات. لذلك أكد الكاتبان على أن الثقافة وحدها القادرة على تقريب المسافات، وأن الحوار هو الوسيلة الوحيدة القادرة على سبر الأغوار وردم الفجوات بين المتحاورين، وأن الإنسان قادر على العيش في أي مكان رغم تعدد الثقافات وتنوعها.

الأنا .. ورؤى الذات

ليس من السهولة الحديث عن كل القضايا التي طرحتها الرسائل، فكل قضية تحتاج إلى مقالة مستقلة لعمق الطرح والرؤية، لذا سأحاول التركيز على نقطة لم يتناولها الذين كتبوا عن رسائل القدس بشكل موسع، وهي مسألة الذاتية في الرسائل التي تقارب السيرة الذاتية لدى الكاتبين. تلك الذاتية لا نجدها في قالب منفرد بل تأتي في بعدها الجماعي.

تحمل رسائل القدس رؤى للذات بشكل بارز حتى يشعر القارئ أن هذه الرسائل هي سيرة ذاتية للكاتبين تعبر عن حياتهما وتجربتهما وأفكارهما ورؤيتها للحياة والمجتمع، لذا كانت دوافع الاستمرارية بينهما رغم الفارق الزمني في العمر بينهما، هو الشعور بأن ثمة ما هو مشترك بينهما من قضايا وهموم مشتركة يتفاعل بهما المجتمع ولكن مسكوت عنها من طرف المسؤولين، فأخذا في مناقشتها بصوت عالي ليس فقط للتعبير عن الذات في رؤيتها، بل لنقل الهموم والقضايا إلى القارئ والتأكيد على رؤيتهما وموقفهما منها، وهذا ما دفعهما لنشر الرسائل. لذا سنحاول الخوض في أغوار الذاتية وسبر رؤاها في الرسائل، فنكتشف أن تلك السيرة الذاتية لم تأتي مباشرة في الرسائل بل في سياق موضوعات مطروحة للنقاش.

يستعيد جميل السلحوت في تعريف الأنا لذاتها الماضي بكل جمالياته وآلامه وتعقيداته المجتمعية، ليرسم لوحة فنية عن عائلته، دون أن يتجاوز الحاضر في سيرته ومؤلفاته ورحلاته. ففي سياق الحديث عن ذكورية المجتمع يتذكر عمته نوارة التي لقيت حتفها في جوف بئر (بير السوق)، التي غادرت الدنيا قبل ميلاده بأربعين عاماً، تلك الفتاة التي عاشت اليتم والحرمان والفقر. ثم يتحدث عن معاناة والدته وبنات جيلها، وما كان يفرضه المجتمع عليهن من الزواج في سن صغيرة، وليس لها حق الرفض أو القبول، ويتذكر زواج شقيقته وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، وموقف والده الذي وافق على تزويجها دون أن يسألها رأيها، وتأثير المعاناة التي عاشها وقسوة الأب وحرمان شقيقاته من التعليم.

لقد تجاوز الكاتب أفكار عائلته ورؤاها المجتمعية، بعد أن تركت هذه المواقف المجتمعية في عائلته والعائلات الأخرى أثرها السلبي عليه، مما شكل لديه موقفاً مغايرا ومتجاوزا لكل هذه العادات، فعندما تزوج دفع زوجته لإكمال تعليمها الجامعي، رغم معارضة عائلته، وكذلك دفع ابنته للتعليم الجامعي.

وفي سياق الحديث عن العائلة نجده في كل رسالة من رسائله يشي بجزء من سيرته، فنجده يخبرنا/ أو يخبرها أن زوجته (الكاتبة حليمة جوهر) تعمل مدرسة، وكذلك ابنته الكبرى (أمينة) متزوجة وتعمل مدرسة أيضاً، ويعبر عن فرحته بأنه أصبح جدّاً للمرة الأولى بعد أن أنجبت ابنته أمينة ابنها البكر كنان. ثم يتحدث عن زواج ابنه قيس من فتاة تونسية. ويشير أيضاً إلى زواج ابنته لمى، وبعد عامين أنجبت ابنها البكر باسل، وبعد ساعة من فرحتهم توفيت والدته عن عمر ناهز 88 سنة. 

وعن دور الأسرة وتأثيرها في صقل الشخصية، يشير السلحوت إلى عائلته التي لم يكن لها دور في مسيرته الكتابية بل كان اعتماده على ذاته أكبر من الاعتماد على العائلة. فوالداه أميان، وأخيه الأكبر أنهى الثانوية وسافر للعمل في السعودية، والتحق لاحقاً بجامعة بريطانية لإكمال دراسته في إدارة الأعمال. أما هو فقد كان شغوفاً بالمطالعة، ومنذ الصف الرابع بدأ في شراء الكتب من مكتبة الأندلس في باب الزيت بالقدس لصاحبها المرحوم فوزي يوسف، ويذهب مشيا ويعود مشيا لأنه وفر مصروفه لشراء الكتاب.

ويتخذ من العودة الى عالم الطفولة مادة ينسج منها رؤيته للواقع وتغيراته، وذلك من خلال مناقشة دور المؤسسة التعليمية والخلل القائم فيها، مما يدفع الطلاب إلى التسرب من المدارس، رغم كل الامكانيات المتوفرة لهم، والتي لم تتوفر إلى أبناء جيله، مما شكل له دافعاً للكتابة عن طفولته في كتابين (طفولتي ـــ أشواك البراري) و(طفولتي ـــ سيرة ذاتية). ويشير أنه عند اندلاع حرب حزيران عام 1967 كان على مقاعد التوجيهية، ولديه رغبة في اكمال دراسته الجامعية، ولم يكن آنذاك أية جامعة في الأراضي المحتلة، فكان أمام خيارين إما ترك الوطن أو الصمود على أرضه، فآثر الخيار الثاني، وقد دفع ثمن الانتماء للوطن بمعاناة تجربة الاعتقال إذ اعتقل في مارس 1969 بسجن الدامون على جبل الكرمل في حيفا، ويسرد ذكرياته عن المعتقل وتاريخه، وبعد تحرره، وما تعرض له من تعذيب قاس أورثه انزلاقاً في غضروف الرقبة وأسفل العمود الفقري، وتقرحات في المعدة والقولون، وقد تحرر في ابريل 1970، ورغم ذلك لم يفقد حلمه بالدراسة الجامعية، فانتسب إلى جامعة بيروت العربية لدراسة اللغة العربية.

يذهب الكاتب بعيدا في رحلة الذاكرة لاستعادة ماضي الذات في تفاصيل مكان وزمان الغائبين/ الحاضرين، ليروي الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكايات الآخرين، فنجده دليلا سياحيا، كما يقول عن نفسه، في رحلة في ربوع براري بلدته السواحرة، التي كان والده فيها من كبار الملاكين، ويسرد ذكريات المكان برسم الخارطة التي يسعى لتأكيد وجودها لدى الأجيال القادمة: مررنا بمناطق مثل أم الرتم، وجوفة السوق، والدمنة، ووادي الدكاكين، وأم دسيس، ثم يقف على قمة جبل المنطار ليرى أبو ديس والعيزرية وجبل الزيتون، والقدس الشريف، ومنطقة الخان الاحمر، ومنطقة الزراعة، ومن بعيد يشاهد سلسلة جبال شرق النهر ومرتفعات السلط، ومنطقة ناعور، والبحر الميت، ويعود إلى منطقة جنجس التي يفصلها وادي قدرون عن بلدة العبيدية، ومن تلك المنطقة تطل على مدن بيت ساحور وبيت لحم وصور باهر والشيخ سعد، وصولاً إلى جبل المكبر الذي يعد أشهر جبال القدس، وقد ارتبط اسمع بالخليفة عمر بن الخطاب الذي حين رأى القدس هلل وكبر وخر ساجداً، فأطلقوا عليه هذا الاسم. وأثناء جولته يصف جمال الطبيعة الخضراء ومزروعاتها.

ان هذا المشهد الذي يطل عليه القارئ ليس ماضيا خالصا بل هو معجون بعناصر الحاضر وشروطه وجروحه وتمزقاته. فخارطة المكان منذ عام 1967 والاحتلال يجرى عليها تغيرات كبيرة بمصادرة الأراضي وإقامة المستعمرات، فنجد منطقة (الخلايل) من بلدة السواحرة امتدت عليها مستوطنة “معاليه أدوميم” وابتلعتها، ومنطقة (الصرارات) تقوم عليها مستوطنة “نيؤوت أدوميم”، ومنطقة الخان الأحمر التابعة لبلدة سلوان صادرها المحتلون وأقاموا عليها منطقة صناعية “ميشور أدوميم”، وكذلك سحب مياه البحر الميت للمصانع الاسرائيلية في منطقة سدوم. ويشير إلى الأراضي التي كان يمتلكها مع اخوته وراثة أبا عن جد، والتي صادرتها سلطات الاحتلال وأغلقتها تحت ذريعة “استعمالات الجيش”، وامتداد المستوطنات على الأراضي وابتلاع آلاف الدونمات، وتهجير عرب الجهالين.

وتأخذ الرحلة أبعادها في تشكيل ملامح من السيرة الذاتية، فهو يخبر صباح بشير أنه بصدد زيارة أمريكا لمدة ثلاثة شهور، وهي زيارة سنوية يقوم بها للالتقاء مع ابنه قيس الذي يدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، واخوته (داوود، وراتب، وأحمد)، و(وحسين ابن أخيه، ومحمد موسى ابن عمه) المتواجدين هناك، ويشير إلى أنها ليست المرة الأولى، فقد زارها حوالي خمسة عشر مرة منذ عام 1984.

ولشده اهتمامه بالثقافة، والعمل على تعزيزها في القدس في ظل الهجمة الشرسة التي تواجهها القدس من اجراءات احتلالية تحاول أن تنزع عنها صفتها العربية الاسلامية، سعى لتأسيس ندوة اليوم السابع في عام 1991، مع عدد من الكتاب والأدباء، ويتحدث عن نشاطاتها واهتمامها بمناقشة الكتابات الجديدة والتعريف بكتابها، واستضافتها لكبار الكتاب ليتحدثوا عن تجربتهم الأدبية، ودورها في رعاية المواهب الشابة، وكان لها الدور الكبير في ابراز عدد من الكتاب.

يؤكد أنه من أشد المناصرين والمدافعين عن المرأة، وأنه في أغلب كتاباته يتطرق إلى المرأة وقضاياها، فيشير إلى أول اصدار له بعنوان (الصراع الطبقي في الحكاية الشعبية – القدس 1978)، وفيه يتحدث فيه عن رؤية المجتمع والتراث للمرأة. نكتشف في حديثه عن مشروعه الروائي والأدبي، أنه غزير الانتاج، وصاحب ثقافة موسوعية، ولديه اطلاع كامل على المشهد الثقافي والاجتماعي. يبدأ برواية (ظلام النهار) التي تعتبر واحدة من سداسية روائية يعمل على كتابتها بعنوان (درب الآلام الفلسطيني)، وفي أمريكا يكتب الجزء الثاني من سداسيته رواية (جنة الجحيم)، وفي القدس ينتهي من الجزء الثالث رواية (هوان النعيم)، وأنه بصدد الانتهاء من الجزء الرابع (برد الصيف)، ويؤكد أنه خلال أربع سنوات صدرت له روايتان في عام 2014 وهما (العسف) وهي تحكي عن تجربة الاعتقال، و(أميرة) التي تحكي عن النكبة الأولى، وفي عام 2015 صدرت له رواية (زمن وضحة)، وفي العام 2016 رواية (رولا) وهي الجزء السادس من مسلسله الروائي، وفي عام 2017 صدرت روايته (عذاري في وجه العاصفة) التي تتحدث عن المآسي التي لحقت بآلاف النساء زمن النكبة. وفي عام 2018 صدرت روايته (نسيم الشوق) والتي يطرح فيها قضية الزواج المختلط بين اتباع الديانات السماوية. وفي عام 2019 صدرت روايته (عند بوابة السماء) وهي عن القدس وعن المصير المشترك للشعوب العربية والتحامها مع القضية الفلسطينية. وفي عام 2020 يؤكد صدور روايتين هما (الخاصرة الرخوة) والتي تتحدث عن معاناة المرأة وموقف الاسلام من المرأة، و(المطلقة) والتي تتحدث أيضا عن المرأة. وفي عام 2021 صدرت روايته (اليتيمة).

وفي مشروعه في الكتابة للفتيان والأطفال صدر له في عام 2014 روايتان للفتيان (الحصاد) و(البلاد العجيبة)، وقبلهما رواية (عش الدبابير)، وبعدهما رواية (لنوش) لليافعين كتبها لحفيدته لينا ابنة قيس. ثم ثلاث قصص للأطفال (زغرودة ودماء) و(النمل والبقرة)، و(ميرا تحب الطيور). وفي سياق انتقاده للثقافة التي تسوقها الفضائيات، يكتب كتاباً بعنوان (ثقافة الهبل وتقديس الجهل) في محاولة للتصدي لهذا الجهل ومحاربته. وفي أدب الرحلات يشير إلى صدور كتابه (كنت هناك) والذي تحدث فيه عن البلدان العربية والأجنبية التي زارها. وكتابه (في بلاد العم سام) الذي سجل فيه مشاهداته عن زياراته المتكررة للولايات المتحدة.

إن المكانة الأدبية والثقافية التي وصلها كانت حافزا لوزارة الثقافة الفلسطينية؛ كي تكرمه بشخصية القدس الثقافية للعام 2012، وإلى جانب الاحتفال صدر له كتاب حول أدب الرحلات عن الوزارة بعنوان (كنت هناك). ويتحدث عن زيارته ضمن وفد وزارة الثقافة إلى الجزائر عام 2015، وتكريمه مع الأديبة ديمة جمعة السمان في جامعة الأمير عبد القادر الجزائري.

****

نجد صباح بشير في حديثها عن ذاتها لم تكن بالجرأة وقوة الكلمة والمشاهدة والثقافة كما جميل السلحوت، ولكنها تمتلك أسلوباً راقياً في الكتابة والخبرة المجتمعية، والثروة المعرفية واللغوية، ولديها القدرة الكتابية على إبراز الصراع الاجتماعي المتفاعل داخل المجتمع، ولديها عين ثاقبة في وصف الأماكن التي زارتها، ولكنها لم تتحدث عن سيرتها الذاتية إلا قليلاً بما يبرز جزءاً من حياتها، فقد كان تركيزها على قضايا المرأة والقضايا المجتمعية أكثر من الحديث عن سيرتها، فقد يكون لبعض قيود المجتمع دور في تقييدها عن البوح الذاتي، أو هي لم تكن مستعدة للكشف عن ذاتها للقارئ بشكل موسع، ولكن من خلال حديثها في الرسائل نستطيع تكوين ملامح من حياتها وتجربتها.

تعرف الكاتبة عن ذاتها بشكل مباشر قائلة: “صباح بشير مقدسية الجذور، أتشرف بك (تقصد جميل السلحوت) وبأديبنا الكبير محمود شقير، فثلاثتنا من أبناء جبلنا الشامخ الأشم “جبل المكبر” الذي يطل ويشرف على مدينتنا المقدسة، تلك التي ولدت بين أحضانها وتنامت محبتها في روحي حتى غدت مبعث الالهام بالنسبة لي”. فهي من مواليد القدس وتسكن في حي واد الجوز المقدسي، وتعمل مديرة تنفيذية لمؤسسة المنار المقدسية، المختصة بقضايا المرأة الفلسطينية، وتصدر عنها مجلة المنارة التي تكتب فيها مقالات عن المرأة، بالإضافة إلى الكتابة في بعض المواقع الالكترونية الثقافية مثل: وكالة أخبار المرأة، ومجلة فرح، ومجلة أمجاد، كما تكتب أحيانا في جريدة القدس، وكل كتاباتها تتمحور حول الدفاع عن حقوق المرأة ومناقشة قضاياها الاجتماعية والإنسانية.

لقد قدمت الكاتبة بطاقة تعريف دون الغوص في التفاصيل، أمّا عن اهتماماتها الأدبية التي كانت دافعها لحضور ندوة اليوم السابع، تذكر أنها بدأت الكتابة في المرحلة الثانوية ونشرت حينها في صحيفة القدس، باسمها الحقيقي لأن والدها كان مشجعا لها على الكتابة.

تشير إلى دور الأسرة والمكتبة المنزلية في صقل شخصيتها وتعزيز الثقافة لديها، فقد عاشت في بيت محافظ جميل، وتربت على الثقافة والأدب والمفاهيم الإنسانية، وترجع الفضل في ذلك إلى والدها والمكتبة التي كونها والدها – الذي يعمل معلماً – في زاوية المنزل، والتي تحوى كتب متنوعة وفي شتى المعارف، وكان ثمة اهتمام كبير من الأب والأم بالمكتبة، وفي تعزيز الثقافة لدى أبنائهم، لذلك خصصوا قسماً من المكتبة لكتب الأطفال وقصصهم، وقد حولتها هذه المكتبة إلى قارئة نهمة، وغرست فيها حب المعرفة، وساعدتها على تكوين فكر مستقل.

لقد كانت بحكم عملها في مؤسسة مختصة بقضايا المرأة أن تشارك في مؤتمرات خارجية، فقد شاركت في مؤتمر إعلامي يناقش تأثيرات الإعلام التقليدي على الرأي العام، وكان هذا المؤتمر في مدينة انطاليا التركية. وبعد عودتها نشعر من حديثها أنها تواجه مشاكل في عملها، وشعورها بالاغتراب وعدم قدرتها على التفاعل مع الآخرين، لذلك استقالت من عملها، وبدأت في ترتب نفسها للسفر والعيش في دبي/ الامارات، وتصف نفسها قائلة: “أنا صلبة، أعشق الحياة وأعمل بجد واجتهاد، أتوق إلى المستقبل وأتطلع إليه بتفاؤل”. وفي دبي تعمل في صحيفة الكترونية، وفي كتابة المحتوى لبعض المواقع الالكترونية، وفي التسويق الإعلامي على مواقع التواصل الاجتماعي. ونكتشف في حديثها عن دبي أن ثمة ابنة لها (لارين) تعيش معها وتدرس الهندسة الالكترونية في إحدى الجامعات الأمريكية في دبي، دون أن تشير إلى مسألة زواجها أو حياتها الخاصة، وهو ما تؤكد عليه في إحدى رسائلها” لم أعتد الحديث عما يدور في نفسي ومكنوناتي المخبأة، تلك التي لا أفصح عنها، أتركها غير آبهة بها وبتأثيرها.”

إن تغير طبيعة المكان يقود بالتالي إلى تغيير في أحاسيس الإنسان ومشاعره، فليس المكان في هذه الحالة مساحة فقط بل إنه حالة نفسية، لذا تنعكس رؤية الذات على الأمكنة التي تواجد فيها، وحينذاك تفقد الأمكنة دلالاتها الحقيقية لتصبح لها دلالات جديدة معبرة ومرتبطة بحقيقة الواقع النفسي الفكري للذات. انطلاقاً من هذه الرؤية كانت تجربة السفر والرحلة عند صباح بشير صناعة للذات والقدرة على الاعتماد على النفس، لذا شكلت رحلاتها بعض ملامح من سيرتها وشخصيتها، فقد أغناها السفر برؤى وأفكار جديدة ساهمت في تشكيل شخصيتها، وتغيير أفكارها، وجعلها أكثر تقبلاً للأخر بمفاهيمه المختلفة، وادراكها للهوة الثقافية التي تفصل المجتمعات الغربية عن المجتمعات العربية، ورغم ذلك تؤكد على اعتزازها بالوطن، فالمكان/ الوطن بالنسبة لها “ليس حيزا جغرافيا فقط، بل هو شعور حي يعيش في الوجدان ويسكن شغاف القلب، وكلما تضاعفت المسافات وفصلتنا عنه، شعرنا بإحساس الفقد والخسران.”

حينما يغادر الإنسان الوطن يشعر بعدم الاستقرار، ويصبح دائم التنقل من مكان إلى آخر، بحثاً عن بيت يشعره بالدفء والأمان، فقد زارت أماكن كثيرة دون شعورها بأنها تنتمي إلى أيا منها، فقد كان انتماؤها الحقيقي للقدس. كانت بدايتها في دبي ورحلاتها السياحية واستكشافاتها لمعالم هذه البلدان: أبو ظبي، والشارقة، وعجمان، وأم القوين، وراس الخيمة. وفي عام 2013 تترك الامارات وتتوجه إلى لندن لتعمل في صحيفة رأي اليوم اللندنية التي يرأس تحريرها الصحفي عبد الباري عطوان. كما تزور تونس، والسعودية، والأردن، وتركيا، ودول المغرب العربي، ودول أوروبية، وقد تسلحت بكل فوائد السفر من معرفة ورؤى وأفكار، كما جمعت مخزوناً في الذاكرة من ذكريات وقصص وحكايات وأحداث من كل مدينة زارتها. بعد عشر سنوات من التنقل والترحال تعود إلى الوطن لتستقر في حيفا، وتواصل كتابتها والعمل على مشروعها الأدبي حيث تتحدث عن شروعها في كتابة رواية، بالإضافة إلى مجموعة قصصية للأطفال.

بعد الانتهاء من قراءة رسائل القدس يشعر القارئ بأن ثمة انسجاما كاملا بين الكاتبين في الرؤى والأهداف والأفكار، وثمة الكثير مما هو مشترك بينهما. لقد اتسمت رسائل القدس بالموضوعية والواقعية، وتحقيق التكامل بين الرسائل رغم طول فترة الكتابة، وجاءت الفاظها اللغوية شديدة الوضوح معتمدة على دقة العبارة والتعبير، وجاءت الألفاظ سهلة مألوفة, تم صياغتها في تراكيب وجمل تراوحت بين القصيرة والمتوسطة.

20 آب-اغسطس–2022

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات