سيذهل الزّائر لأمريكا للمرّة الأولى ممّا يرى، فأن تكون في الدّولة الأغنى في العالم ستصعب عليك المقارنة مع دول فقيرة وحتى غنيّة أخرى، وممّا أذهلني هو رؤيتي لغابة من ناطحات السّحاب تخترق الغيوم وتعتليها أثناء نزول الطّائرة التي كنت فيها في مطار “أوهير” في شيكاغو، وتكرّر المشهد أيضا في نيويورك. وكذلك رؤيتي لقطار يمرّ في شيكاغو حاجزا حركة السّيارات لأكثر من ربع ساعة، وكل عرباته تحمل نتاج المصانع. ولفت انتباهي الجسور التي تمتد لمئات الكيلومترات طبقات فوق طبقات لتحلّ مشكلة ازدحام حركة ملايين السّيّارات. وكذلك محلات الشّركات العملاقة التي تغطي فروعها مدن وقرى الولايات المتّحدة الأمريكية. وهناك الكثير الكثير الذي يذهل الزّائر لهذا البلد، لأنّه لا يرى ما يراه في أمريكا في بلدان أخرى.
وهذا الثّراء الفاحش لا ينفي وجود فقراء في أمريكا، لكن لهذا الفقر أسبابه، وان اختلفت عن مثيلاتها في الدّول الفقيرة. فضمان الدّخل في أمريكا يقدّم مساعدات مجزية لمواطنيها الفقراء. ويستطيع المرء مشاهدة المستفيدين من ضمان الدّخل في المحلّات التجارية عندما يشترون الموادّ الغذائيّة، ويدفعون ثمنها من بطاقة المساعدة، حيث تسحب ماكينة المحلّ ثمن البضاعة مباشرة من حساب الزّبون إلى حساب المحلّ. لكنّ بعض هؤلاء المستفيدين من هذه المساعدات ينفقونها على المخدّرات والكحول، ولهم طرقهم الخاصّة للالتفاف على القانون الذي يمنع انفاقها على ذلك. وفي حارات الفقر والمخدّرات يجد المرء بسهولة من يتسوّلون سيجارة أو ربع دولار! كما توجد الجريمة التي تصل درجة القتل في عملية “تقشيط”.
وأمريكا دولة القانون لا تتهاون مع مرتكبي الجرائم، بغضّ النّظر عن ماهيّة الجريمة، لذا فإنّ عدد السّجناء فيها يتراوح بين مليونين ونصف إلى ثلاثة ملايين شخص.
وامريكا بلد الثّراء والفرص ـ لمن يعرف كيف يستغلّها ـ فيها ملايين المهاجرين غير الشرعيّين، خصوصا من المكسيك الجارة الجنوبيّة، وهؤلاء لا تقدّم الحكومة الأمريكيّة المساعدة لهم لأنّهم ليسوا من رعاياها. بل إنّ وجودهم فيها غير شرعيّ، لكنّها تقبل أبناءهم في مدارسها وتقدّم لهم وجبات الطّعام مع طلابها، لأنّهم لا ذنب لهم كأطفال بدخول البلد بطريقة غير مشروعة، ويختلف الوضع مع أطفالهم الذين يولدون في أمريكا، فهؤلاء مواطنون أمريكيّون.
وقد شاهدت في ولاية نيو مكسيكو وهي ثاني أفقر ولاية في أمريكا بعد ولاية المسيسبّي بيوتا من ألواح الزّينكو، أمام كلّ منها حصان غير أصيل، وهذه البيوت يسكنها المهاجرون غير الشرعيّين القادمون من المكسيك المجاورة. وفي نفس الولاية شاهدت قرى للأمريكيّين الأصليّين “الهنود الحمر” تقع على جوانب السّيول التي تتغذّى بذوبان مياه الثّلوج على رؤوس الجبال، فبيوتهم طينيّة فقيرة، وبعضهم يزرع خضروات بسيطة كملفوف السّلطة. كما شاهدت في مدينة سانتافييه في نفس الولاية ساحة يبيع فيها الهنود الحمر صناعاتهم اليدوية البسيطة والرّخيصة والفقر ظاهر على وجوههم.
8 تمّوز 2015