عفيف قاووق-لبنان: قراءة في رواية ” الليلة الأولى”

ع

  في روايته ” الليلة الأولى” التي صدرت مؤخّراً عن مكتبة كل شيء في حيفا، ينطلق الأديب المقدسيّ جميل السلحوت من واقعة فشل العريس”موسى” من الدخول بعروسه “ليلى”، وكان من تداعيات ذلك (الفشل)، لجوء أهل العروسين إلى العرَّافين والمشعوذين لإعتقادهم بأنّ هناك من يسعى للتفريق بينهما.

وبغية التحذير من مغبّة الركون لمثل هذه التُرّهات والأكاذيب التي يقع ضحيتها ضِعاف العقول وقليلي الإيمان، تقدّم لنا هذه الرواية نماذجَ محسوسةً عن بعض الحالات التي يمكن أن تكون قد حصلت أو ما يشابهها في العديد من بيئاتنا ومجتمعاتنا سيّما الريفيَّة منها. نظراً لأنّ الطيبة وبساطة التفكير وسيطرة التقاليد والموروثات، وحتى الحكايات القديمة لا تزال تفعل فعلها في مثل هذه المجتمعات.

      ينطلق الكاتب في روايته من الليلة الأولى، وهي ليلة الزفاف أو ما يُسمى بليلة الدخلة، والإنعكاسات النفسية والسلبية على العروسين، التي تبيح التقاليد والعادات اقتحام خصوصيتهما بذريعة ضرورة إثبات عذريّة وبكارة العروس، وأيضا فحولة العريس ورجولته. لأن مسألة إنتظار أهل العروسين على الباب بإنتظار أن يخرج العريس عليهم بالدليل القاطع على إتمام المهمة المنتظرة، هي عادة قديمة ومتأصّلة : “عندما تنتهي من مهمّتك إفتح الباب لنطمئنّ عليك وعلى عروسك. وتكون والدة العروس بانتظار أن تزغرد فرحا بعذريّة إبنتها، ووالدة العريس ستزغرد هي الأخرى إحتفاءً بفحولة إبنها وفتوحاته. ولكن الليلة الأولى للعروسين موسى وليلى جاءت مخيّبة للآمال بعد أن فشل العريس في إنجاز الواجب؛ لتدخل عائلة العروسين في دوامّة البحث عن الأسباب المانعة. ويستقر الرأي على أنّ العريس مربوط بعملٍ سفليّ، ولا بدّ من فكّه لدى أحد الشيوخ او الفتّاحين.

    ولأنّ مهنة الشعوذة لا تقتصر على الرجل دون المرأة، فقد قدّم لنا الكاتب كلّا من  الفتّاح أبي ربيع، المُنتحل صفة العالم الروحاني، وأيضا الفتّاحة رسميّة والتي تُعرف بالحاجة مبروكة، كنماذج عن هؤلاء العرّافين، ويذكر لنا بعض النماذج من ألاعيبهما وتظهيرهما على أنّهما بعيدان كلّ البعد عن كلّ ما يمت إلى الأخلاق أو الدين بصلة. وهذا ما حدث مع عطاف المحمود التي بعد خمس عشرة سنة من الزواج  لم ينفع معها أيّ علاج، حتى جاءت الى أبي ربيع، الذي أوهم الجميع أنّه استخرج الجنّ الكافرمن رحمها فحملت، وصارعمرابنها عشر سنوات. لكنّ الهمس بقي يدور بين الجميع بأنّ هذا الإبن يشبه أبا ربيع ولا يشبه والده.

   ومن الممارسات الشاذّة التي درج عليها أبو ربيع، ما حصل مع سعديّة زوجة محجوب عبد السميع التي جاءت إليه متوهّمة أنّ الشفاء على يديه، فكان تشخيصه لحالتها وجود جنّي كافر داخلها وسيتغلّب عليه بمساعدة أتباعه. “رفع ثوبها وعاشرها معاشرة الأزواج وهو يردّد إدخل يا مؤمن أخرج يا كافر”.

حالة ثانية تذكرها الرواية للإضاءة على وضاعة أبي ربيع واستغلال ضحاياه، وهو ما حدث مع الفتاة غادة التي تورّطت بعلاقة جسدية مع سميح السّلمان على أمل الزواج ، وسبق لأهله أن تقدّموا لخطبتها. لكن المثل الذي يقول “جحا أولى بلحم ثوره” ولأن العادة أيضا جرت على أنّ “إبن العمّ بنزّل العروس عن الفرس”، فقد تظاهرت غادة بالجنون حتى لا تُرغَم على الزواج من إبن عمّها ويفتضح أمرها. فوجدها أبو ربيع لقمة سائغة ليراودها عن نفسها مقابل إقناع والديها بأنها لا تصلح للزواج من ابن عمها. وتظاهرت غادة بقبول هذه المساومة حتى تحقيق مرادها.

أمّا الحاجة مبروكة فلا تقلّ سفاهة ونذالة عن أبي ربيع، وهي المرأة المستترة بخرزات مسبحتها والتي تلوك بعض الآيات القرأنية لإيهام الزبائن بشأنيتها المباركة، ومن ألاعيبها أنّها “تبصق في فم كل إمرأة تتعسّر ولادتها وتضربها فيتيسّر كلّ شيء”.  وتجهد الحاجة مبروكة في تقديم وصفاتها العلاجيّة الغريبة، من أجل إيهام زبائنها بدقّة العلاج، وسنذكر على سبيل المثال الوصفة التي وصفتها لمريم المحمود حتى لا يتزوّج زوجها عليها، بعد أن رهنت مريم قلادتها الذهبية عندها لقاء العلاج المزعوم، الذي هو “قليل من دم النفاس، مع قليل من بول المرأة، وظفرين من أصابع يديها وقدميها، وملعقة صغيرة من الكبريت وأخيرا رماد قطعة من ملابس الزوج، وخلط المحتويات جميعها في كوب ماء ساخن بعد إضافة ملعقة شاي، وتقديم الكوب للزوج ليشربه”، ولكن النتيجة حصول مضاعفات صحيّة للزوج كادت تفقده الحياة.

 وتأكيدا على إنعدام الأخلاق والورع لدى الحاجّة مبروكة، وكي تنقل المعركة إلى طرفي القضيّة أوحت بأن مشكلة العروسين نتيجة عمل سحر بناء لرغبة إمرأة في خدّها شامة، وهي أوصاف تنطبق على أم العروس، ممّا تسبّب في إثارة الشكوك بين العائلتين، إنتهت بخراب البيوت والوصول إلى الطلاق بين العروسين.

  يسجَّل للأديب جميل السلحوت إبرازه لحال التناقض في المفاهيم بين جيلين، جيل الآباء وجيل الأبناء، فأظهرت الرواية الآباء بأنهم ينقادون بالفطرة  للموروثات والتقاليد والجري وراء العرّافين والمشعوذين، في حين أنّ الرواية قدّمت الأبناء أكثر وعياً وإدراكاً في رفضهم لهذه المعتقدات وانحيازهم للعلم والمنطق.  فنجد العروس ليلى تحاور العرّافة مبروكة قائلة: ” من أين لها كل هذه القدرات، وما دمتِ بهذه المقدرة لماذا لم تحمي زوجك من الموت وحتى لماذا لم تنجبي أطفالا كبقيّة النساء؟”. أمّا شقيقها عمر فلم يقبل أن تستغلّ مبروكة بساطة الأهل، وعندما واجهها إستطاع أن يستعيد كل ما نهبته من أموالهم، وكذلك  فراس ابن عم العريس موسى، فهو يؤمن بالعلم والطب ولا يعترف بما تقدّم عليه السحرة والمشعوذات. ودخل في نقاش مع عمّه وزوجته، محاولا إقناعهما بضرورة الركون للطب والعلم، وترك التعلّق بحبال الوهم المتأتّية من مبروكة وأبي ربيع وأمثالهما.  

     خِتاماً يبقى أن نقول أنّه غالباً ما يتوجّه الكثيرمن الناس إلى المشعوذين، نتيجة لتَحَكُّم موروثات وعادات قديمة وتأصّلها في بيئتهم، ممّا تجعلهم يبتعدون عن العلم والمنطق في معالجة أسباب ما يعانون، وهذا مردّه في الغالب إلى قلّة الوعي واستفحال الجهل والتخلّف، حيث نراهم مستعدّين لتصديق كلّ ما يُقال لهم والقيام بما يُطلب منهم. والمؤسف أنّ ظاهرة الشعوذة وتصدير الوهم، أصبحت من التجارات الرائجة التي تدرّ على مدّعيها أموالاً طائلة، سيّما وأنّ هؤلاء يتلبّسون لبوس الدين ويتستّرون بآيات قرآنيّة وتأويلها تبعا لمآربهم ومصالحهم.

وبالعودة إلى الليلة الأولى، فمن الواجب التوقف مليّاً عند هذا التقليد المتّبع من قِبل بعض الأهل وتعاملهم مع ليلة الدخلة لأولادهم، لنقول أن الكثير من الآثار السلبية تنتج عن هذه الممارسة، لا بل إنّ من بين الأسباب المباشرة لفشل العريس في ليلته الأولى، يمكن تلخيصها بالآتي:

  1. انطلاقاً من التقاليد والأعراف، نجد أنّ هناك نوعاً من الحصار أوالتضييق على علاقة الخطيب بخطيبته، بحيث يتمّ التضييق على الخاطب في فترة الخطوبة ومنعه من الإنفراد بخطيبته، ولا يُسمح لها بمرافقته في زيارات اجتماعيّة، وأيضا خلال تواجده في منزل خطيبته، تكون والدتها جالسة بينهما ولا يسمح لهما بالتحدّث أو التعبيرعن بعض المشاعر والعواطف ممّا يبقيهما في حالة اغتراب عن بعضهما البعض مهما طالت فترة الخطوبة أو قصرُت.
  2. إنّ إصرار الأهل على المرابطة أمام باب غرفة العروسين بانتظار تصاعد الدخان الأبيض، إيذانا بنجاح العروسين في إمتحانهما كلّ من زاويته، – العذريّة مقابل الفحولة -، تجعل العريس في وضعٍ نفسيٍّ ضاغط مع ارتفاع منسوب التوتّر لديه، لعلمه المسبق بأنّه مراقب – وإن كان من خلف الأبواب – وهذا ما يؤدّي إلى تردّده وفشله، ممّا ينعكس سلبا على نظرة عروسه إليه بشكلٍ خاصّ، وبعدها نظرة المجتمع بشكلٍ عام. ومن جهةٍ أخرى،  فإنّ مطالبة الأهل للعريس بإنجاز المطلوب قد تؤدّي مستقبلاً إلى تأسيس علاقة غير سويّة بين العروسين-الزوجين- سيّما إذا كان همّ العريس الأوحد هو إثبات رجولته، فنكون هنا أمام ما يشبه حالة الإغتصاب بإسم الشرع والقانون، وهذا من تداعياته تولّد نوع من النفور الدائم بينهما خاصّة من قبل الزوجة.

يبقى أن نشير إلى أنّ الرواية قُدّمت بلغة واضحة، وإن كانت جريئة، فإنها لا تخدش الحياء، لأنّها تعالج قضيّة بعينها، لا يمكن للكاتب إغفال أو تجاهل بعض العبارات اللازمة لإيصال الفكرة، ومع هذا فقد كان حريصاً على عدم خدش المشاعر، فجاءت لغة الرواية في هذه المفاصل لغة إيحائية غير مباشرة قدر الإمكان.

    وأخيراً مبارك للأديب جميل السلحوت مولوده الأدبي هذا، مع التمنيّات بمزيدٍ من التقدّم والنجاحات.  ّ

  14-1-2023

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات