مع ان حملة تهويد القدس الشرقية لم تتوقف يوما واحدا منذ وقوع المدينة تحت الاحتلال الاسرائيلي في حرب حزيران 1967 الا انه يلاحظ ان هناك نشاطا مكثفا متزايدا في هذه الحملة منذ مؤتمر انابوليس الذي عقد قبل حوالي الشهرين ، وبعد زيارة الرئيس الامريكي جورج بوش في بداية العام الحالي ، وما تمخض عنها من موافقة اسرائيلية ولو لفظية على بدء مفاوضات الحل النهائي ، وما ابداه الرئيس بوش من أمنيات بالتوصل الى اتفاقات سلام قبل انتخابات الرئاسة الامريكية في تشرين الثاني القادم ، في محاولة منه لانقاذ حزبه من هزيمة مؤكدة في هذه الانتخابات نتيجة اخفاقاته في العراق وافغانستان والصومال وغيرها .
وواضح ان اسرائيل تسابق الزمن في فرض حقائق ووقائع على الارض لوضع العالم امام سياسة الأمر الواقع لتحقيق مكاسب توسيعة في اي اتفاق سلام قادم ، تماما مثلما فعلت بعد اتفاقات اوسلو في ايلول 1993 ، عندما اشترطت تأجيل قضيتي القدس والمستوطنات الى مرحلة الحلول النهائية ، فقامت بتوسيع وتضخيم مستوطنات وزيادة عدد المستوطنين الى اكثر من ضعف ما كانت عليه غداة توقيع اوسلو .
لكن تكثيف الحملة الاستيطانية ، وتكثيف حملات التهويد هذه المرة تنصب على القدس الشرقية دون غيرها ، حتى ان اولمرت رئيس الحكومة الاسرائيلية وعدد من وزرائه صرحوا اكثر من مرة ، ان الاعمال الاستيطانية في القدس الشرقية خارجة عن التعهد الاسرائيلي بوقف الاستيطان ، كونهم يعتبرون القدس الشرقية المحتلة جزءا من عاصمتهم الموحدة قاموا ” بتحريرها ” في حرب حزيران 1967 ، ويعتمدون في ذلك على قرار الكنيست الاسرائيلي في 28-6-1967 بضم القدس الشرقية الى اسرائيل من جانب واحد ، متناسين قرارات مجلس الامن الدولي ، والقانون الدولي بشكل كلي .
ومع ان اكثر من مسؤول اسرائيلي رفيع أدلوا بتصريحات امام وسائل الاعلام بان اسرائيل ستتنازل عن الاحياء العربية في القدس الشرقية في اتفاقات السلام ، وسبق ان طرحوا ذلك على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد الثانية في تموز عام 2000 الا ان ممارساتهم وافعالهم على الارض تثبت عكس اقوالهم ، وتؤكد من جديد ان هذه التصريحات ما هي الا من باب العلاقات العامة لتسويق سياستهم وتضليل الرأي العام العالمي .
والا كيف يمكن تفسير مواصلة البناء الاستيطاني على السفوح الشرقية لجبل المكبر ، وفي مستوطنة جبل ابو غنيم ” هار حوماه ” والاسراع في عمل شارع الطوق الشرقي وما تصاحبه من انفاق ، وهدم لبيوت فلسطينية ، وتجريف لأكثر من 1250 دونما من الاراضي الفلسطينية ، والتخطيط لبناء مستوطنة على السفوح الغربية لقرية ابوديس في المنطقة المعروفة بدير السنّة ،ومواصلة توسيع مستوطنة معاليه ادوميم ، والعمل على ربطها بمدينة القدس، ومواصلة تمزيق احشاء القدس القديمة من خلال الانفاق الجديدة التي تمتد من الحائط الغربي للمسجد الاقصى ، ومن وادي حلوة في سلوان باتجاه القدس القديمة ؟؟ بينما يدخل شارع الطوق وسط الاحياء العربية، ويحاصرها مرة اخرى بعد حصار جدار التوسع الاسرائيلي ، ويُحوّل الاحياء العربية داخل حدود البلدية الى ” كنتونات ” معزولة عن بعضها البعض ، ومحاصرة من جميع الاتجاهات بالمستوطنات ، وبالجدار ، وبشارع الطوق والانفاق .
وسياسة تهويد القدس ليست عفوية ، بل هي مدروسة ومخططة ، وتنفذ على مراحل متواصلة ، ومعلنة على رؤوس الأشهاد ، مما يطرح التساؤل المشروع حول مدى استعداد وجاهزية اسرائيل للوصول الى سلام عادل تقبل به الاجيال القادمة ، ويحقن دماء شعوب المنطقة ، من خلال تمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره كبقية شعوب المنطقة ، واقامة دولته المستقلة على اقل من 22% من مساحة فلسطين التاريخية ، أيّ على اراضي الضفة الغربية – وفي مقدمتها القدس الشرقية – واراضي قطاع غزة المحتلة في حرب حزيران 1967.
وواضح ان قادة اسرائيل يتمترسون في نظرتهم للصراع في المنطقة خلف غيبيات دينية يؤمنون بها، ويعتبرونها حقا منحهم اياه الله – سبحانه وتعالى- ويتناسون ان هناك في الطرف الأخر من يتمترسون خلف عقيدة دينية تعتبر فلسطين التاريخية ارض وقف اسلامي من النهر الى البحر. وكلا الفهمين يقودان المنطقة الى حروب دينية لا تنتهي الى ان يقضي الله امرا كان مكتوبا .واذا كان الاسرائيليون يسعون الى هدم المسجد الاقصى ، واقامة الهيكل مكانه ، مع كل الاختلافات بين الطوائف اليهودية حول مكان وجود الهيكل المزعوم ، فإنهم يتناسون ايضا ان المسجد الاقصى قائم وثابت ، ويمثل جزءا من عقيدة المسلمين – الذين يبلغ عددهم حوالي مليار ونصف المليار شخص – كونه يشكل قبلتهم الاولى واحد المساجد الثلاثة التي تشد اليها الرحال بعد الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف ، وبالتالي فإنه لا يمكن الوصول الى اي اتفاقات سلام لا تضمن عودة الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وفي مقدمتها القدس الشريف الى السيادة الفلسطيمية ، فالقدس القديمة بالنسبة للمسلمين لا تشكل مساحة ارض تبلغ كيلو متر مربع واحد ، بل هي بمثابة العاصمة الروحية والثقافية والتاريخية لهم ، ويضاف اليها انها العاصمة السياسية ايضا للشعب الفلسطيني ولدولته العتيدة ، مع التاكيد على ان الشعب الفلسطيني ودولته العتيدة هما القادران والمؤهلان لحماية المقدسات في المدينة ، وهما القادران والمؤهلان لتوفير حرية العبادة لجميع المؤمنين في الارض مسلمين وغير مسلمين ، وقد اثبت التاريخ ذلك ، والمدينة تأبى ان تكون الا عربية اسلامية .