تبدأ رواية مايا للأديب جميل السلحوت برؤيا جميلة للوطن وتنتهي بحرمان من رؤية الوطن، ويعيش الوطن في كلّ صفحة من صفحات الرّواية وكأنّه هو الغائب عن العيون الحاضر في القلوب؛ فارتباط الفلسطينيّ بأرضه قويّ حتّى لا يكاد ينفصل عنها بوجدانه وإن ساقه القدر ليعيش بعيدا في بلاد الغربة. وهذا الحبّ والارتباط بالوطن ينتقل إلى الأبناء الذين ولدوا في بلاد الغربة، لكنّهم يرضعون حبّ الوطن مع لبن إمهاتهم، ومع حكايات آبائهم وأجدادهم، فيحبّونه وكأنّهم نشؤوا وترعرعوا فيه.
يختار الكاتب أن يحكي عن عائلته التي تعيش في أمريكا، وينقل يومياتهم، ليعطي لليافعين صورة مغايرة عن الغربة وعن الحياة خارج فلسطين، فوجود الاحتلال في فلسطين ينغّص حياة الفلسطينيّين ويضيّق عليهم ويشعرهم بالمرارة، لكنّه لا يقلّل في حال من الأحوال ارتباطهم بوطنهم وحبهم له وتشبّثهم في الحياة فيه مهما كانت الصّعوبات، أمّا من اضطرّ لمغادرة البلاد، وربما عاش في بحبوحة من الرزق في المهجر، لا يجد لذّة الحياة إلا بذكر وطنه، وتعيش روحه في أكناف الوطن وإن ابتعد الجسد عنه.
يتعرّض الكاتب إلى نظرة الأطفال الذين ولدوا خارج البلاد إلى وطنهم الأمّ وارتباطهم به. فهل فعلا يشعر هؤلاء بكلّ هذا الحبّ لوطن آبائهم؟ وهل ارتباطهم به يفوق ارتباطهم بالبلاد التي نشؤوا فيها وتقبلتهم وآوتهم؟ وما شعورهم حين يدركون أنّ الغرباء هم سادة بلادهم، يطاردونهم ويضيّقون عليهم سبل العودة أو العيش الكريم في بلاد آبائهم. قد تشكل هذه الازدواجيّة في الانتماء معضلة لدى بعض الأبناء، فينطلق بعضهم للعيش في البلاد التي لم يعرف غيرها دون أن يلقي بالا لحكايات الآباء عن وطن بعيد لا يعرف عنه شيئا، أما الآخرون فيرتبطون وجدانيا بوطنهم الأمّ ويرسمون صورة مثاليّة له في أذهانهم، ويدافعون عنه بكلّ قوة وكأنهم جزء أصيل منه.
اختار الكاتب أن يتحدّث عن الصّنف الثّاني فقط، وجعل القدس وبيت لحم وما فيهما من أماكن مقدّسة، محور حياة الأطفال العرب الذين يعيشون في شيكاغو، وأراد بذلك أن يرسل رسالة إلى الأطفال في فلسطين، بأنكم محظوظون بوجودكم في بلادكم مهما كانت صعوبة العيش في ظل الاحتلال، وأن يعزّز الانتماء للوطن لدى الأطفال أبناء المغتربين.
تظهر شخصيّة الكاتب بقوّة في أحداث الرواية، وتطغى مشاعر الحبّ للأبناء والأحفاد والشّوق للقائهم على الرّواية، وإن كانت الرّواية موجّهة لليافعين وتتحدّث بلسان الأطفال، إلّا أنّ لغة الجدّ وحكمة الكبار تطغى على أحداثها، وكأنّ القارئ اليافع يستمع لجدّه يكلّمه بكلّ حبّ وحنان وعاطفة جيّاشة عن وطنه البعيد. وكعادة الكاتب يعرّف قرّاءه ببعض الأمثال الشعبيّة وحكايات من طفولته، ثمّ يجعل الأطفال يستمعون لأغاني فيروز. وهنا لا نستطيع أن نفصل بين شخصية الكاتب وشخصيات الأحفاد في الرّواية. فهل فعلا يمكن أن تكون هذه الأمور هي محور اهتمام الأحفاد وأسلوب حياتهم؟
لغة الكاتب سهلة سلسة مناسبة لسن اليافعين، لكن الرّواية تفتقد للأحداث المثيرة والخيال الجامح الذي ينتظره اليافعون ويرفع عنصر التشويق لديهم، وتأتي رحلة العائلة إلى شلالات نياغارا في فصل الشتاء لتضيف نوعا من التشويق والتّرقب، وتعطي معلومات كثيرة عن جغرافيّة أمريكا، وهي امتداد لأدب الرّحلات التي برع فيه الكاتب، لكنّها لا تخرج الرّواية كثيرا عن رتابتها وتسلسل أحداثها. أما نهاية الرّواية فهي مفتوحة تمهّد لفصل آخر يزور فيه الأحفاد فلسطين، ويرون ما كانوا يسمعون عنه ويختبرون ما حُدّثوا به.
10-11-2022