القدس: 12-5-2016 من رنا القنبر- ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس سرديّة “أيلول الأسود” للكاتب شريف سمحان وتقع السّرديّة الصّادرة عام 2016 عن جمعيّة الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطفل في رام الله، وصمّمت غلافها الفنّانة ندى مصلح في 64 صفحة من الحجم الصّغير.
بدأت رنا القنبر التي أدارت الندوة الحديث فقالت:
لعلّ بعض الأسئلة في هذا الوقت لا تضيف إجابتها لنا شيئا، البقعة السّوداء في دفترالعروبة لا زالت تمتدّ وتمتدّ، يتساءل الكاتب فراس الحج محمد في تقديمه للكتاب عن موقفنا نحن أبناء الجيل الجديد، وهل ينقصنا “أياليل” سوداء فاضحة ومتراكمة؟ لعلّ الاجابة ستكون أكثر وجعا من سؤاله، فالسّهم الذي غرسه العرب في صدر العروبة مخلفا جثّة غطتها رمال الصّحراء ومازالت تبنى فوقها الخسائر والهزائم المتكررة ..لازالت الرائحة تملأ الأجواء وكما قال النّواب “أيلول مازال هنا يتربص بالأجواء” نحن لم نعش تلك التجربة القاسية، لكننا سمعناها على لسان من عايشوها، وسأذكر هنا جدّتي فاطمة التي شهدت على الحرب إبّان نزوحها إلى الأردن في العام 1967، وذاقت الأمرّين هي وأبناؤها في تلك الحرب الضّروس، جدّتي كانت محايدة آنذاك، كانت تدافع عن حقها بالعودة إلى بيتها ووطنها، لكنّها شهدت على حادثة بتر قدم ” احمد” الذي كان جنديا في الجيش الاردني من أصول فلسطينية، حيث أصيب برصاصة من الجانب الاردني حينها، فقط لأنّه فلسطيني، وفقد على أثرها ساقه، وما أن سألتها عن أيلول الأسود قالت: لم أشاهد عربًا آنذاك، لم أرَ انسانًا حتى يقاتلنا بتلك الشراسة زيعتبرنا أعداء، واقتتال الأخوة مرعب ومحزن، وكلاهما خاسر، والرّابح هو العدوّ فقط، فقلت لهم “رجعوني ولو لخيمة بهالوطن ولا أبقى هنا ذليلة ” لعلّ الحرب منذ بدايتها إلى يومنا هذا لم تكن إلا تحصيل حاصل لأوجاعنا نحن الفلسطينيين الذين فرض علينا التشريد والقهر “وظلم ذوي القربة” ولعلها لم تكن “أشدّ مضاضة” علينا بدءًا من تسليمنا أسلحة لا نفع لها، أسلحة تطلق نيرانها للخلف ومن “نص كيس رصاص” كهدية من أبناء العروبة؛ لندافع عن شرف الأمّة العربيّة المسلوبة في معركة القسطل، حتى خسرنا المعركة وسقطت القدس مثل باقي مدن فلسطين إلى “أياليل” أخرى.
لعل الاسئلة كثيرة ومتشعّبة، ولعلّ الأجوبة ستبقى عالقة هناك في أرض المعركة، وفي ضمائر من كانوا سببًا في ذلك الشّهر المشؤوم، الذي أزهقت فيه أرواح الأخوة فلسطينيّين وأردنيّين، ولكن استوقفني الاهداء” إلى كلّ الذين قتلوا في أحداث أيلول الأسود أقدّم اعتذاري لهم، لأنّني كنت طفلا ولم يكن بيدي أيّةة حيلة؟ وأتساءل ولو كنت كبيرًا آنذاك ما الذي كان سيتغيّر؟ وأنت الذي فضلت أن تكون محايدًا غير منتمٍ إلى حزب حسب ما ذكر بالكتاب إلى يومنا هذا؟ لن يتغيّر شيء، فالأسلحة هي التي تحكم وترسم وتخطط، والدّم العربيّ على العربيّ لا زال رخيصًا، ويقدّم بالمجان لصالح الدّول العظمى.
كيف يستطيع الانسان أن يكتب بحيادية متناسيًا الواقع والضحايا الذين سقطوا، والأطفال الذين قطعت أطرافهم.
من يذكر معركة الكرامة لا يستطيع أن ينسى دور الفدائيّين الفلسطينيّين والجيش العربيّ الأردنيّ في الدّفاع عن نهر الأردن دفاعا شرسا، وألحقا بالعدوّ خسائر فادحة، أجبرته على الاندحار والتراجع يجرّ أذيال الهزيمة.
لعلّ ذكر كلّ هذا لم يكن مجديا، وأنّه أي الكاتب فضّل الحيادية؟ ولكن ما كان سيقوله كشاهد على تلك المرحلة؟
الكاتب شريف سمحان الشّاهد على تلك الحرب كان محايدًا كباقي الفلسطينيّين، ولكن لم يسلم “الباقي” حتى من الظلم والاضهاد والشّتائم، أمّا عادل فقط اختار توجهه وانضم لتنظيم الحزب الاشتراكي الشّيوعيّ، ووفقاً للطبيعة البشرية فإنّ كلّ من يتعرّض للظلم والاضطهاد يصبح شرسًا نوعًا ويأخذ موقفًا، وعادل الذي تعرض للاهانة رغم أنّه لم يكن مع فدائيّا، فقد كان صغيرًا، ولم يشارك في المعركة قطّ ولكنه زجّ به في السجون، كباقي الفلسطينيّين في تلك المعادلة.
لعلّ الحيادية هنا غير ممكنة فنحن ضحيّة للهجمة الصهيونيّة، ولعلّ الضحية الذي حاول العالم تزوير حقيقته، ترفع صوتها للقاصي والدّاني، إنّنا أبناء شعب ووطن تكالبت عليه الامبرياليّة العالميّة…. ولا أجد مبرّرا واحدا لموقف “الفدائيين ” ولا لموقف “الجيش الأردني” في “ايلول العرب الاسود” وسأسمية أيلول العرب الأسود لأنّه وصمة عار في جبين الأمّة جميعها. وليت أبناء أمّتنا اتّعظوا، ولم يواصلوا الاقتتال فيما بينهم، فدمّروا أوطانا وقتلوا شعوبهم كما يحصل في سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، وغيرها.
وقال عبد الله دعيس:
يقدم شريف سمحان في إهداء كتابه “أيلول الأسود” اعتذاره للذين قتلوا في أحداث أيلول الأسود، دون أن يحدّد من أيّ طرف هم، لأنه كان طفلا ولم يكن بيده حيلة! ليجعل القارئ يتساءل منذ البداية، لو لم يكن الكاتب طفلا في ذاك الوقت، ماذا كان سيفعل؟ وهل في اليد حيلة أمام هذه الأحداث الجسيمة؟
إنّ دراسة هذه الحقبة الزمنيّة، وهذه الأحداث، وتعريف اليافعين بها ضروريّ جدّا؛ ليس من أجل جلد الذات، ولا من أجل إيغار الصّدور وبناء جدار من الكراهيّة بين أبناء الأمّة الواحدة، ولكن من أجل استخلاص العبر والدّروس، وفهم أساليب العدوّ التي تنجح في كلّ مرّة بالإيقاع بنا وقتلنا، إن لم يكن بأيديهم، فبأيدينا!
يكتب الأستاذ شريف سمحان عن حقائق عاشها في طفولته، نائيا بنفسه عن اتّخاذ أي موقف من الطرفين، وينأى بنفسه عن أيّ من التنظيمات الفلسطينيّة، موضّحا أنّه كان مواطنا أردنيّا من أصل فلسطينيّ يعيش في عمّان قبل عام 1967.
لا يسهب الكاتب كثيرا بالحديث عن أحداث أيلول الأسود، بل يكتفي بالإشارة إلى بعض الأسباب التي أدّت إليها، وإلى بعض تبعاتها على الفلسطينيّين في الأردن، وإلى جانب من الحياة الاجتماعية في تلك الفترة. ونلحظ أن الكاتب ورغم أنّه لم يلقِ اللوم على أيّ من الطرفين، إلا أنّه اجتهد في إيجاد المبررات للنظام الأردنيّ لتنكيله بالتنظيمات الفلسطينيّة، فأشار إلى وجود السلاح غير المنضبط بأيدي الفلسطينيين في عمّان، وإلى خطف الطائرات، وتغوّل الفلسطينيّين على رجال الأمن الأردنيّين، ونقل مشاكل الدّول العربية إلى الأردن، والانفلات الأمنيّ، والاقتتال بين التنظيمات الفلسطينية، وبينها وبين قوات الأمن الأردنية. وصوّر الجيش الأردني بأنّه “يدافع عن وطنه وحكومته ومليكه وكيانه ووجوده.” وتناسى أنّ هذا الجيش لم يدافع عن الأرض والمقدّسات والقدس التي كانت أمانة في عنقه أمام العدو عام 1967، واندحر سريعا تاركا كل شيء خلفه. أرى أنّ المؤلف بالغ جدا في تبرير موقف الأردن، وأغفل دور الاحتلال الصهيوني.
لا شكّ أن جميع الأطراف أخطأت حتى وصل الأمر إلى الاقتتال والمجازر البشعة التي حدثت عام 1970 في الأردن، لكن، ألم يكن هناك طرف ثالث وهو الاحتلال؟ فالعدو لم يكن غائبا، بل كان هو اللاعب الأبرز، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار إثخان المقاومة بالعدوّ، انطلاقا من الأردن، في الأعوام التي تلت حرب 1967. لكن الكاتب يتجاهل دور العدوّ ولا يعطي الصورة كاملة لليافعين الذين يكتب لهم!
وعرض المؤلف لأحداث أيلول الأسود لم يكن موفقا، بل كان سريعا مقتضبا غير واضح، يزيد من حيرة القارئ، وكأنّه يخشى أن يخوض غمار هذا الموضوع الشّائك، والذي هو اختار أن يناقشه. ثمّ ينتقل للحديث عن الفترة التي أعقبت أيلول الأسود، وملاحقة المخابرات الأردنية للمعارضين، وتحوّل الوجهة من تحرير الأرض إلى رأب الصّدع الاجتماعي، وتثبيت حكم ملك الأردن!
وأسرف الكاتب في ذكر عدم انتمائه للحزب الشيوعي أو غيره من الأحزاب، وكأنه يدفع تهمة عن نفسه. وتحوّلت رسالة الكاتب إلى اليافعين لرسالة تحذير من الانتساب للأحزاب أو الانخراط في أيّ عمل سياسيّ. وكأنه يريد من الشباب أن يبقوا على الحياد، ويراقبوا الأحداث عن بعد. فمن الذي سيتصدى للمقاومة إن هجرها الشباب؟ ومن الذي سيحمل أعباء النهوض بالأمة إن أمرنا اليافعين أن يبتعدوا عن أيّ تكتّل سياسيّ أو فكريّ سواء نتفق أو نختلف معه؟ فمن الذي سينهض بأعباء الوطن إذن؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل مطلوب منّا أن نركن إلى القدرات الخارقة للأنظمة المنهزمة وأجهزة مخابراتها؟!
ولم يكن الكاتب دقيقا في نقل المعلومات. فمثلا، يقول في صفحة 13: “وكانت هذه المعركة حدا فاصلا للملك الأردني الذي خرج لتوّه من هزيمة أدّت إلى فقدان نصف مملكته (الضفة الغربية) بالكامل، أضف إلى ذلك المقدّسات الإسلاميه فيها، ووجود قبر جده (الملك عبد الله ) الذي قتل في القدس.” فقبر الملك عبد الله كما نعلم في عمّان وليس في القدس كما ذكر الكاتب. وهل الغيرة على قبر جدّ الملك ستكون دافعا أكبر للجيش الأردني للقتال من الدّفاع عن البلاد والمقدّسات؟ ويستخدم الكاتب مصطلحات خاطئة وتعميمات دون دليل وبرهان. فيعلق مستنكرا عندما يرى سَحَر تلبس منديلا قائلا: “ولكن صرت أفكر كيف أنّ (الحزب الشيوعي) يتنكّر لأهالي أعضائه بينما رجال الدّعوة ومن خلفهم يقومون بهذا الواجب الاجتماعي.” فمن هم رجال الدّعوة الذين يقصدهم؟ ومن وراءهم؟ هذا تعريض لا طائل منه؟ ويقول في صفحة 50: ففي الكرك تجد المسلم والبعثي والإخونجي والتحريري والشيوعي والمسيحي، وتجد أيضا من يحب الملك ويقدّسه حدّ العبادة.” فما الاخونجي هذا الذي يذكره، أهو نوع من المهن حتى ينسب له ب(الجيم والياء) كعادة أهل الشّام، أمّ أنه دين مثل المسلم والمسيحيّ؟ وكيف سيفهم اليافعون الذين يتوجه إليهم سمحان بالكتابة هذه المصطلحات التي كانت دارجة بين جيل الهزيمة الذي تربّى على أكاذيب صوت العرب كما ذكر الكاتب في بداية كتابه!
فالكاتب شريف سمحان تصدى لموضوع شائك مهمّ، لكنّه وقف يسرد حكايات تتعلّق به من بعيد، وتحوّلت بوصلته بعيدا عن الاتجاه الصحيح، فلم يأت بجديد.
وكتب نمر القدومي:
مهما يحاول الفلسطينيّ إبعاد شبح المآسي، فإنَّ مأساة حرب أيلول عام 1970 تبقى مهيمنة، ففيه اختلطت الأوراق كما لم تُختلط من قبل، وحلّقت في السماء آمال لم تعمّر طويلًا، بأن تتّحد المقاومة مع أهلها وتبدأ طريق النّصر. كلّما حلَّ أيلول تنتاب الفلسطينيّ رعشة تهزّ بدنه، وتجمّد إحساسه وتدفعه في الغالب نحو محاولة طرد التّشاؤم من رأسه، إلاّ أنَّ الأستاذ “شريف سمحان” أصرَّ أن يخلّد ذكرى طفولته التي عاشها إبّان تلك الفترة العصيبة، فكتب بإيجاز شديد، عن ما شاهده، في كتابه “أيلول الأسود”. هذا الإيجاز التاريخيّ تتخلّله حكاية على درب المقاومة الوطنيّة مع أصدقاء الكاتب في الأردن. ومع أنَّ الحدث واحد، لكن الحكايات كانت كثيرة ومتفاوتة، وفيها من المتاهات الشائكة والخفيّة. هذا الكتاب الذي قدّمه لنا الأديب “فراس حج محمد” لم يعطِ تلك الصّورة الواضحة والعميقة في التكتيك السياسيّ والعسكريّ الحاصل آنذاك، بحيث يثير الكثير من التّساؤلات عن ماهيّة الأسباب التي أدت إلى نشوب هذا الاحتراب الذي بدأ ما بعد معركة الكرامة عام 1968، واستمر حتى أحداث جرش وتشتّت القوّات الفلسطينيّة وزعاماتها عام 1971 وخروجهم جميعًا من الأردن.
الكاتب “سمحان” توخّى الحذر والحياديّة منذ البداية، وتغيّب عن طرفي الميزان في قضيّة مصيريّة تخص وطنه، وضرورة الإقرار فيها. نجد أنَّ العاطفة ما زالت هي المسيطرة كما هو الحال المتوارث منذ النكبة والنكسة، والتي اقتلعتنا من جذورنا وآلت بنا أقدارنا إلى الحضيض. هذا ما شهدناه في شخصيّة “شريف” التي كانت أكثر شاعريّة منها عمليّة، ويبقى يصرُّ ويردّد أنه غير تابع، والمخاوف تعتليه من القتل أو الإعتقال. كان همّه الوحيد توفير المساعدة وظروف معيشيّة طيبة لعائلات أصدقائه، ناهيك عن مصير العشرة دنانير التي تلاشت آثارها تحت طبق الطعام؟ أمّا الوصف المفصّل لجسد “أم عادل” وكذلك “أم جريس” فلا يليق تحت عنوان “أيلول الاسود”، فهناك خلل في توازن قيم العبارات والرّسائل المرجوّة من وراء الكلمات وخاصة لليافعين.
الحكاية التي احتلت معظم صفحات الكتاب فيها من الافادة، لكن ليست بقدر لو تم تلخيص الواقع وتطوّره، بجلاء ووضوح، عبر عشرات السّنين الماضية، والاستعاضة عنها من طرف الكاتب “سمحان” بالكثير من الارشادات والمواعظ والدروس المستفادة من مسيرة القضية. لم يكن هناك جديد بين طيّات هذا الكتاب، بل كانت هناك محاولات لاستفزاز المشاعر والعواطف، لكنّها أبت إلاّ أن تكون متجمّدة لفداحة الموقف، والتّصرفات التي غطّت مجمل الأحداث السّياسيّة التي تلت ذلك التّمرد والعصيان المرفوض على أرض الغير. الصّورة قد تصل القارئ غير واضحة ومشوّشة ويكتنفها الغموض، كذلك التّضارب في نقل الأحداث آنذاك بسبب انعدام التوثيق والاعلام النزيه. زد إلى ذلك اقتناع الكاتب الشخصي بأنَّ رؤيته كانت دائماً أشمل وأدقّ وأصدق، لأنّه لم ينتمِ لأيّ حزب أو تنظيم. فالخلاصات هنا قليلة، منها ما هو مرغوب، ومنها ماهو مرفوض.
“وما نفع الانسانيّة إن كنت لا تشعر بآدميّة الآخرين وتلبّي احتياجاتهم” .. كانت خطوة جميلة من الكاتب باقحامه حقيقة تواجد الأخوة المسيحيين في مسيرة النّضال والتحرّر، سواء على أرض الوطن أو خارجه، والمتمثّلة بشخصيّة الدّكتور “جريس”. إنَّ صاحب القلم والفِكر الحرّ كالجنديّ المحارب في أرض المعركة، يتحتّم عليه أن يدافع عن أيدولوجيّة يحملها، ويقول الحقيقة ولا يخاف في الله لومة لائم. أمّا الكاتب هنا فقد استخدم اللغة البسيطة في طرح الوقائع والأحداث، فكانت أحيانًا عن طريق السّرد، وأحيانًا أخرى عن طريق الحوار بين الشّخصيات. لم نشهد للخيال حضورا، أو التشابيه البلاغيّة وذلك بسبب جديّة الموقف، كذلك غابت الجوانب العاطفيّة وعناصر التّشويق تبعًا لحساسيّة العلاقات المفروضة على الشّعبين الشقيقين.
وقال مهند الصباح:
لا زالت النّكبات تتساقط تباعا فوق رأس شعبنا الفلسطينيّ منذ أن شُرّد من أرضه عنوة، أصبح لاجئا ترمي الرّياح بخيّمته حيث شاءت، ويحاول هو إيجاد أرض صلبة علّه يستردّ توازنه المفقود من كثرة الوعود المُنبعثة من الأنظمة العربيّة بتحرير فلسطين. وعود تحجب خلفها التواطؤ والخذلان لنا.
سرديّة أيلول تلقي الضوء على فترة كئيبة من مراحل ثورة استرداد الوطن السليب، محاولاً تجنّب الميل نحو جانب على حساب آخر، إلا أنّني لا أرى ضرورة الحياديّة في مثل هكذا أعمال إلا إذا كان الهدف منها توثيق تاريخٍ، أو أنّها تهدف إلى تصويب المسار. أيلول الأسود تمّ تسويده بأيد عربية، أيد تنقّعت بدماء أطفالنا واغتالت أحلامهم بمستقبل أكثر إشراقا على أرض أجدادهم. إنّ المتصفح لسرديّة أيلول الأسود لكاتبنا يجد نفسه يُسقط سواد ذلك الأيلول على حاضرنا نحن الذين لم نعايش ” أيلول الأسود ” إلا من خلال ما رشح من أدبيات أو ذكريات من تلك الموقعة – هنا لا أريد التطرق لبعض التساؤلات حول تطور الأحداث السريعة والمُبهمة في مسيرة “شريف”، بل سأتناول الرسائل المبطّنة في سرديّته- على سبيل المثال:
أوّلا: دور رجال المخابرات الممثلة “بضرغام ” – الذي تحوّل فجأة الى رجل مخابرات – وما أكثر الضّراغم بيننا اليوم! وربّما لم يكن إطلاق هذا الاسم على رجل المخابرات عبثا من قبل الكاتب، وكأنّي بالكاتب يقول ” أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة.”
ثانيا: الحاضنة الشعبيّة للمقاومين ومتمثلّة باحتضان “عادل” من قبل العائلات أثناء تنقله بين المدن متخفيا عن أعيُن من يلاحقونه.
ثالثا: غياب الرّعاية لأهالي المنضويين تحت راية مقارعة الاحتلال، وبدا ذلك جليّا عندما رحل ” عادل ” تاركا وراءه أفواها تنشد الطعام.
رابعا: وهنا أتساءل كيف لشخصٍ مثل ” عادل ” والمُنتمي إلى الحزب الشيوعيّ أن تزداد علاقته بالله عزّ وجلّ أثناء اختبائه في الكرك؟ أم أنّ الكاتب يريد أن يُسلّط الضّوء على بعض الاشكاليات الحقيقيّة لبعض قواعد الأحزاب المصنّفة بأنها ذات توجه ماركسيّ لينينيّ؟” الانتماء للقالب وليس للقلب”
أصبحت أتمنى أن توقظني أُمّي لأكتشف أن واقعنا عبارة عن كابوس مزعج، تماما كما أيقظت أُم شريف شريفا.
وأختم بقول مظفر النوّاب ” في كل عواصم هذا الوطن العربيّ قتلتم فرحي … في كل زقاق أجد الأزلام أمامي..أصبحت أُحاذر حتى الهاتف.. حتى الحيطان.. وحتى الأطفال .. أقيئ لهذا الأسلوب الفجّ .. وفي بلدٍ عربيّ كان مجرّد مكتوبٍ من أُمي يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين.”
وقالت هدى خوجا:
ما هو اللّون المفضّل لديك ؟
نعم إنّه الأسود ، فأنا أرى جميع الألوان سوداء، لا تغضب أحيانا أحمر، انعكاسات لمداخل شتّى، دخان أسود وأيلول أسود، وأشهر وسنوات سوداء، وماذا بعد ألا يكفي كل الشّهور سوداء لِمّ أيلول أكثر سوادا؟
أهي نظرة سوداويّة للأحداث! لتجد الإجابات في سرديّة أيلول الأسود لليافعين الصّادرة 2016 من منشورات الزّيزفونة، للكاتب شريف سمحان؟
وفي خضّم السّردية سنجد الكاتب سمحان جزء لا يتجزا من تللك السّرديّة، هلوسات على مستوى اللاوعي واللاشعور، واقحام شخصيات ثانويّة ورئيسيّة في شخصّيّة الكاتب وأحلامه، ومنهم عادل، أمّ عادل، ضرغام، سحر جريس، وفتحيّة.
الكاتب فراس حج محمد في تقديم السّردية يشير إلى إلى أن الكاتب سمحان لا يريد أن يكون طرفا في معادلة غير متكافئة الأطراف ص5 ، يشير الكاتب سمحان إلىأن معظم من كتبوا عن أيلول شطحوا بخيالهم، وبعضهم لم يعش تفاصيل تللك المأساة ص7 ، ولكن الكاتب سمحان عرض ما سمعه وعايشه على أرض الواقع، وامتدت الذاكرة من عام 1963-1971 ونيف حيث غادرت أسرة سمحان مدينة الخليل في فلسطين، وسكن مدينة عمّان في الأردن ، سنة 1963، إذاعة صوت العرب والترقّب لخطاب من هنا وهناك، مع حالة الطوارئ لمدة أسبوع للتحدث عن ذلك خطاب قائد الأمّة.
وفي عام 67 كانت الوالدة ترحب بالعودة إلى أرض الوطن، مع رفض الوالد وسيطرة الرأي،وكان هذا العام محورًا مهما لدى العائلة الذّكوريّة، ومتابعة مستمرة للأحداث،وكان بعد هزيمة 1967.
أصبح غور الردن مليئاً بالنّازحين وأكثر من 15 مخيّماً متناثراً داخل الأردن
وفي فجر يوم الأمّ سنة 1968 حصلت معركة الكرامة، حيث اشترك بها الأردني والفلسطيني، ولكن في أيلول 1970 انقلبت بعض الموازين، واختلط الحابل بالنابل، وساد خلل سيادي بكافة المقاييس،وفي ذلك الشهر انحرفت البوصلة، واندلع اقتتال الشّقيقتين،حيث كانت طاحنة دون رحمة.
وفي عام 1971بدا تمرد سمحان بحرق حقيبته المدرسيّة، وكتبه، وكان عمره 16 عاماً حيث تعرف بعدها على صديقه عادل من مخيّم الوحدات حيث تكتمل الحكاية.
شخصية عادل جذبت شريف من ناحية القوة والثّقافة، وأصبح يلتقي بأصدقائه في مقهى الجامعة وسط العاصمة، حيث أثّرت شخصية عادل على شريف؛ لينهل من معين الثّقافة المتنوّعة من علم النّفس والقصص والروايات والمسرح.
السّردية متناسبة الكلمات وسلسة مناسبة لفئة اليافعين، وكان شريف مثال الصديق الوفيّ المهتم بعائلة صديقه عادل المطارد، ومن ضمن اهتماماته الناحيتين المادية والمعنوية. ولكن بعد احداث أيلول أصبحت الوجوه غير متجانسة، ولكن يبقى حسن الجوار بسبب النواحي الاجتماعية، وبدأت الرسائل تتطاير في سماء شريف من صديقه المطارد عادل، وتشتت عادل في عدة مناطق منها اربد والكرك وسوريا وروسيا.
وفي النّهاية روسيا بأمان والضّحك الهستيري ، حيث دخول شريف في متلازمة أنا مستقل أنا مستقل.
وشارك في النقاش عدد من الحضور منهم :جميل السلحوت، ديمة جمعة السّمان.طارق السّيد، سوسن عابدين الحشيم ود.وائل أبو عرفة.