د. عواد أبو زينة:قراءة تحليلية لرواية الخاصرة الرخوة

د

صدرت رواية “الخاصرة الرّخوة” للأديب المقدسي جميل السلحوت أواخر العام 2019 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي صمّمها ومنتتجها شربل الياس في 260 صفحة من الحجم المتوسّط.
عنوان الرواية لافت للانتباه، لن أتوقف عنده الآن، وسيكون لي عودة إليه فيما بعد، إذ أنني ألِفتُ هذا التعبير في ميدان الصّراعات العسكريّة ولم أقرأه في ميدان الأدب والسّرد والفنّ. فما/مَن الخاصرة الرّخوة؟ هل من علاقة مع صورة الغلاف؟ سأبحث عن الجواب في الرّواية.
ذلك هو عنوان رواية جديدة للكاتب المقدسي جميل السلحوت، وسبق له أن نشر عدّة روايات وقصصا للكبار والصّغار، بالإضافة إلى مقالات ودراسات نقديّة وأدبيّة واجتماعيّة، ونشاطه معروف في ندوة اليوم السّابع المقدسية ومواقع الأنترنت والأنشطة الثّقافيّة في القدس وغيرها.
أكرمني الكاتب في مبادرة لطيفة متوقعة منه بأن أرسل لي نسخة إلكترونية للرواية في مرحلة مونتاجها النهائي كما يبدو.
“نحن في انتظار الرّدّ على طلبنا منك” ص ١٢.
جملة قالها إمام المسجد لأبي جمانة بعد أن خطبها لأسامة، بعد نقاش قصير يشفّ عن فجوة في التّصوّر عن دور المرأة ومكانتها بين أبو أسامة، والد الخاطب، وبين أبو جمانة، المخطوبة، ويحاول إمام المسجد المتكلم في الخِطبة أن لا يخرج الحوار عن السيطرة، لأنّ والد أسامة كان يمثل فكرة عتيقة عن دور المرأة ومكانتها، ممّا دفع والد جمانة، أن يعترض عى ذلك الرأي بالقول إنّه لن يزوّجهم خادمة.
قبل الحديث عن الجملة التي اقتبستها سابقا أشير إلى أنّنا ومنذ الصّفحات الأولى يكشف لنا السّارد عن بعض الملامح لشخصيّاته بصورة تفضي إلى خلافات جوهريّة وأساسيّة في رؤيتها للحياة، وهذه الاختلافات في وجهات النّظر هي القاعدة للتّناقض الفكريّ الاجتماعيّ بين الشّخصيّات، وستكون مواقع الرّؤية هذه والمواقف المختلفة في وجهات النّظر هي مادّة الصّراع بالمعنى الفنّيّ في العمل السّرديّ.
ما زال من المبكر أن أتحدّث عن ذلك التّناقض الفكريّ وتداعياته، وكيف ستسير الأحداث، لكنّني أتوقّع أن يكون هناك مزج بين هموم اجتماعيّة وفكريّة وسياسيّة تتفاعل لتشكّل جوهر فضاءات الرّواية. ما زلت في الصفحات الأولى من الرّواية.
أعود إلى جملة الإمام الأخيرة حول ردّ والد جمانة على طلبه، وقد اختصر الإمام الجلسة، وأعتقد أنه عجّل بالمغادرة حتى لا يسمح بمزيد من النّقاش بين والد أسامة ووالد جمانه، فيفشل مشروع الزّواج، بل ربّما مشروع الرّواية كلّه، وتنتهي في صفحاتها الأولى.
أعتقد أن جملة الإمام حول انتظار الرّدّ جملة مفصليّة في تداعي أحداث الرّواية، فقد أبقى لنا السّارد هنا بابا مشرعا للأحداث الآتية، وأبقى خيطا نتعلّق به، فوالد جمانة لم يحسم الموقف قبولا أو رفضا، وترك الاحتمالين واردين، وربّما تكون موافقته محفوفة بمخاطر مستقبليّة، لا سيّما وأنّ تأجيل الرّدّ كان مبنيّا على رأي جمانة، وهو موقف بالتّأكيد لا يرضي عقليّة والد أسامة، الذي يعتقد أن لا رأي للبنت في هذا الأمر، وأنّ تعليمها مسألة لا قيمة لها ما دامت حصلت على زوج كفؤ ومقتدر، ومقياس الكفاءة والمقدرة الماليّة عنصر مهمّ في فهم شخصيّته، وكلماته حول تأجيل الزّواج وعدم رضاه عنه، وحديثه عن مقدرة ولده ماليّا تنطلق من موقفه الفكريّ التقليديّ الذي لا يقيم اعتبارا للمرأة في قرار مصيرها. وربّما من المناسب أن أسأل مسبقا: هل كان والد أسامة مدفوعا أو كارها لهذه الخطوة، ويفكّر في إفشالها؟ أعتقد أنّ الأمر يتعلق بالبنية الفكريّة للرّجل العربيّ التّقليديّ وفكره عن دور المرأة وتعليمها ورأيها.. إلخ.
وما دام أنّ الإمام ينتظر الرّدّ فعلينا أن ننتظر معه في متابعة الأحداث والاستمرار في رحلة الرّواية.
تمييز اجتماعي
يلامس جميل السلحوت في هذه الرّواية مسألة دقيقة وحسّاسة ومحرجة في المجتمع الفلسطينيّ، وأعتقد أنّ باعثها كان الجهل بالمخطّط الصّهيونيّ الشّامل، وبرزت على السّطح في مواقف تناقضيّة مؤثّرة لم تخل منها حتّى ثوراتنا على مرّ قرن من الزّمان، فقد وصفت ثورة ٣٦ بأنّها ثورة الفلاحين، أو ثورة المخيّمات… إلخ. تلك المسألة الحسّاسة المحرجة هي التّمييز بين اللاجئ الفلسطينيّ والمواطن الفلسطينيّ، الذي لم يقع تحت الاحتلال بعد، أو وقع تحت الاحتلال لكنّه لم يلجأ أو لم يُهجّر. ووجد هذا التّمييز الضّيّق الأفق في مدن الضّفّة الغربيّة وقراها كما وجد في قطاع غزّة أيضا، وأبرز ما كانت تثار هذه النّعرة التّمييزيّة عندما تكون في سياق الارتباط بالزّواج. وهذه واحدة فقط من سمات المجتمع الفلسطينيّ تقليديّا؛ فدائما كانت هناك نعرات تمييزيّة بين مدينة وأخرى، لسبب أو لآخر لا معنى له، ومثال بئر الماء بين اللد والرّملة أسهلها، بالاضافة إلى تمييز عنصريّ بين المدينة والقرية تحت عنوان مدني مقابل فلاح، وفلاح مقابل بدويّ، ومنحت صفات وخصال ومناقص تحت عناوين مختلفة.
سعيد والد أسامة يستعلي على عيسى الحماد كونه لاجئا بأنّه مقطوع من شجرة، وكان عليه أن يقبل بتزويج ابنته ويسكت: ” يكفيه أنّه وحيد لا قريب له، ولا عزوة عنده، فليستر بناته وينخرس” ص ١٢
هذا كلام جارح ومنقصة وفي غاية الأهانة ويحمل دلالات اجتماعيّة خطيرة، وفي مضمونه مطعن قاسٍ، ممّا أثار الإمام، موضّحا رأيه ومحتجّا بغضب على موقف سعيد: “وعيسى الحمّاد ليس مقطوعا من شجرة، لكنّ الزّمن جار عليه كما جار على غيره من أبناء شعبنا، الذين غادروا ديارهم مكرهين عام النّكبة بسبب ما تعرّضوا له من قتل وتدمير وتشريد، وتشتّتوا في بقاع الأرض، وهذا لا يعيبهم يا أبا أسامة. وأبو جمانة شاء حظّه أن يكون بيننا، بينما تشتّت عائلته في أرض اللجوء، وهو واحد منّا له ما لنا وعليه ما علينا.”ص١٣
موقف سعيد هذا لم يثر حفيظة الامام فقط، بل أثار حفيظة عزّالدين، أخ سعيد، كما أساء للعريس أسامة الذي احتجّ بأسلوب ناعم يدل على قمع والده له.
لا شكّ أنّ مثل هذا الموقف في مطلع الرّواية يقودنا قسرا إلى زمن الرّواية، ذلك العنصر الذي لم يُفصَح عنه بعد، فغالبا، وهذا توقّع من عندي، أن تكون هذه الأحداث قد جرت قبل عام 1967 حين وقع الجميع تحت الاحتلال، ولكنّ ذلك ليس شرطا، فلا أعتقد أن تلك العقلية انتهت باحتلال الضّفّة الغربيّة.
وعلى أيّة حال فإن كانت أحداث الرّواية قبل 1967 فيحب أن نجيب عن سؤال: في أيّ جامعة كانت تدرس جمانة؟ إذ أنّه لا توجد جامعة في الضّفّة الغربيّة آنذاك، وما كان في الأردنّ قبل احتلال الضّفّة الغربيّة سوى جامعة فتيّة واحدة هي الجامعة الأردنيّة، وكان من شبه المستحيل اجتماعيّا واقتصاديّا إرسال البنت أبعد من ذلك للدّراسة.
عيسى الحمّاد ديمقراطي فيّ الاستشارة سلطويّ في القرار
حاول سعيد الحمّاد أن يقنع جمانة، ابنته، لتتزوّج من أسامة، وكلّف والدتها لتعتني بذلك، وإقناعها لترضى به زوجا، بعد رفض جمانة لفكرة الزّواج مطلقا. لم تفلح محاولة الأمّ، ومع تحفّظاته على سلوك عائلة أسامة وبخاصّة أمّه الغيور المحاربة للتّعلم، غير أنّ حرص الوالد عيسى الميّال إلى العقل التقليديّ شيئا ما في هذه الخصوصيّة، أقصد زواج البنت، كلّ ذلك جعله يتّكئ على حالة أنّ أسامة سيعيش مع جمانة في السّعوديّة بعيدا عن تأثيرات العائلة، وأنّه كأب يعرف مصلحة ابنته أكثر منها، وأنّه أب يقلقه ستر بناته، بهذه المبرّرات أقنع عيسى الحمّاد نفسه بصوابيّة رأيه واتّخذ قراره نيابة عن جمانة، وضدّ إرادتها الرّافضة للزّواج كفكرة، بسبب غلبة رومانسيّة شابّة: “حسم أبو جمانة الأمر وقرّر أنّ نصيب جمانة سيكون مع أسامة، فهو رجل دين وعلم، ومع ذلك سيترك محاولة إقناع جمانة حتّى يوم الجمعة القادم، وإن بقيت على إصرارها فلن يوافقها على هذا الرّأي، وهي لا تستطيع الخروج عن رأيه، كما أنّه على قناعة بأنه يعرف مصلحتها أكثر ممّا تعرفها هي.” ص 21.
كلّما صادفت مثل هذا الموقف من أب (يعرف مصلحتها أكثر ممّا تعرفها هي) أضعُ يدي على قلبي، ذلك أنّ ظلما كبيرا يقع تحت يافطة حرص الأب والأهل وادّعاء المعرفة اليقينيّة إزاء معرفة مشوّشة أو لا معرفة لدى البنت، ومعرفة مصلحة الشّخص أكثر من الشّخص ذاته، ويُتّخذ القرار نيابة عن الفرد المعنيّ، ثم تقع التّبعات غير المُرضية على رأس هذا/ هذه.
مثل هذه الأمور في العادة تحمل مجازفات ومخاطر لا ينفع فيها “بعض الشّرّ أهون من بعض”، بل غالبا ما يكون كلّ الشر في اتخاذ القرار نيابة عن صاحب الشأن أو إكراهه على ما لا يريد.
هكذا تقول لنا دروس الواقع ووقائعه، فماذا سيقول لنا السّارد؟
المرأة الهشّة
يُحمّل جميل السلحوت المرأة/ البنت جزءا كبيرا من مسؤوليّة ما يقع عليها من ظلم في الحياة الاجتماعيّة في المجتمع الفلسطيتي، ذلك أنّها ليست قويّة بما يكفي لحماية نفسها، مع أنّها تعلّمت، ممّا يفرض عليها بالقوّة وخاصّة في مسألة الزّواج، الذي هو حياة مصيريّة كاملة. هذا ما أدركته جمانة، ولكن بعد فوات الأوان. لقد حاولت جمانة إنقاذ نفسها من شَرَك الزّواج المرتّب عائليّا، والذي نُصِب بسرعة وبمفاجآت، لكنّها لم تبذل مقاومة كافية؛ لتفلت من الشَّرَك. هذا في الحقيقة هو نتيجة لتربيتنا التّقليديّة، حيث على البنت (وحتّى الشّابّ أيضا) طاعة والديها، وإفهامها أنّهما يعرفان مصلحتها أكثر منها، وتلك لعمري قاعدة ليست سليمة بالمطلق.
بطرق التفافيّة فرض عيسى الحمّاد وزوجته لطيفة زواجا لم تكن جمانة مستعدّة له، وزوجا لا ترغب في الزّواج منه، بل نفرت منه لسلوكه الغريب في أوّل خلوة، وعائلة لم تكن ترتاح للعيش في كنفها، وبسرعة لفلفت العائلتان عقد القران، وكأنّهم يعملون على إخفاء سرّ، أو الفراغ من الموضوع قبل أن يستيقظ ضمير أحدهم فيفشل المشروع.
كلّ ذلك كان ضربات متلاحقة على رأس جمانة، وكأنّه مقصود؛ كي لا تعطى لها فرصة تقييم ما يجري، والاستعداد للتّعامل معه بهدوء. وممّا زاد الطين بلّة، وزاد من تأثير تلك الضّربات السّلوك الصّبيانيّ الشّبقيّ الذي سلكه أسامة حين اختلى بجمانة، سلوك يفتقد إلى الذّوق وإلى احترام الأنثى كإنسان ذي مشاعر، كما ينقصه احترام الذّات، وأقرب إلى سلوك همجيّ غريزيّ، تحت عنوان شرعيّ، هو أن جمانة أصبحت زوجة له، حجّة تتجاهل مشاعر فتاة صغيرة فوجئت بصعقات جعلتها تقوم بردود أفعال إزاء خاطبها، وإزاء نفسها وبدل أن يكون عقد قرانها فرحا لها، جلب لها المتاعب والضّغوط، وكشف لها عن مجموعة من الأخطاء في سلوك خاطبها، وفي سلوك العائلتين، وفي أعراف المجتمع المتعنصر للذّكورة، بل اكتشفت ضعف ذاتها.
هربت جمانة من غارة غريزيّة شنّها عليها خاطبها بحجّة أنّها ذاهبة لصلاة العشاء، بينما فقد الشّيخ أسامة طهارته، وفي غرفتها وجدت جمانة نفسها تراجع ذاتها، ولا شكّ أنّ لسان حالها ومقالها هو ما حمّلها السّارد الغائب الممسك بخيوط اللعبة كاملة، ولا تكاد تفرّ منه ولو حركة واحدة: ” لامت نفسها أكثر من مرّة لعدم وقوفها بصرامة ضدّ موقف أبيها بخصوص الزّواج من أسامة، وبّخت نفسها؛ لأنّها قبلت أن تبقى معه على انفراد في صالون البيت، لم تقتنع بحجج أبيها وحجج إمام المسجد بالاستعجال بعقد القران؛ كي يتمكنّ الخاطبان من مصافحة بعضهما، والجلوس على انفراد. رأت أنّ أسامة استغلّ عقد الزّواج؛ وتعامل معها كما يتعامل الزّوجان، بل إنّه تعامل معها كدمية يمتلكها، وهذا خلاف رغبتها وخلاف مبادئها والتّربية التي نشأت عليها. أمضت ليلتها تحلّق في فضاء تحلم به، بعد أن وجدت نفسها مغلوبة على أمرها في صحراء قاحلة، لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في بلاد لا تحترم إنسانيّتها، رأت قمرها يختبئ خلف غيوم سوداء متراكمة” ص 44.
إذن جمانة (فكر السّارد/الراوي) تلوم ضعفها وتلوم والديها وتلوم المجتمع كلّه على ما يلحق بالمرأة من ظلم فقط لأنّها أنثى. هكذا كان أقوى موقف اتّخذته جمانة (المرأة) حتى الآن لتحافظ على حقوقها، وهو أنّها لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى، وهذا موقف في غاية الضّعف في مقاومة حياة مفروضة ومرفوضة ومصير إنسان.
الرّاوي/ الكاتب يدين المرأة ذاتها لأنّها ليست قويّة بما يكفي لتغيّر مفاهيم المجتمع ولتحمي نفسها من مظالمه، وتكتفي بكلام صامت ذاتيّ وعلى انفراد.
هل ستنتقل جمانة من لوم الذّات والمجتمع إلى الرّفض القاطع والعلنيّ في وجه خاطبها وفي وجه والديها والمجتمع؟
أشكّ في ذلك إذ أنّ المقدّمات حتى الآن توحي بعكس ذلك تماما، ولكن علينا الانتظار والتّرقب.
موقف تحميل المرأة جزءا كبيرا ممّا يلحق بها من ظلم نتيجة ضعفها، موقف متكرّر في الرّواية الفلسطينيّة، وبصورة جليّة في روايات سحر خليفة التي أدانت ضعف المرأة وحمّلتها مسؤوليّة ما يلحق بها بسبب الجهل أو التّفريط والضّعف.
ولكن الكاتب السلحوت يدين المجتمع كلّه، فهو لم يتوقّف عند موقف جمانة فقط كمسؤول عما سيصيبها، بل هو يُخطّئ جميع المشتركين في هذه الزّيجات بتواطؤ مقصود أو بسبب جهل وعادات وأعراف وفكر عتيق. المجتمع كلّه خاطئ في هذه القضايا الاجتماعيّة، وهذا ما يتطابق تماما مع فكر جميل السلحوت الذي يعبّر عنه دائما في مقالاته. وهذا يطرح قضيّة المؤلّف والرّاوي، كما سيأتي فيما بعد.
مقاييس جمال المرأة
تغنّى الشّعراء العرب قديما وحديثا بجمال المرأة، ولم تختلف هذه المعايير كثيرا في البئية العربيّة منذ ما قبل الاسلام إلى اليوم، وباختصار كانت هذه المقاييس كلّها تنصبُّ على الشّكل، على المادّة، على ما يُلمس أو يُرى كالطّول واللون والشّعر، وعلى البدانة والنّحافة، وعلى طول العنق ولون العيون والشّفاه والصّدر وما إلى ذلك.
وبما أنّنا في شأن الحديث عن الشّيخ أسامة فأنّنا رأينا بعض ملامح شخصيّته من قبل فيما كتبت ونشرت، ولكنّنا كلما تقدمنا في القراءة تكشّفت لنا سمات أخرى وخصائص أخرى في شخصيّته.
بالتّأكيد أنّ أسامة لم يعجبه ترك جمانه له متذرعة بصلاة العشاء، وربّما فهم من ذلك أنّها غير راغبة فيه، وحاول أن يجد لها العذر من تدلّل وحياء وتمنُّع، وعاش ليلة خطبته في قلق وتوتّر، فلم ينم يعمل على إقناع نفسه بمسوغات شرعيّة بأنّ هجمته على شفتي جمانة وصدرها كانت مشروعة، بل اختار من آيات القرآن ما يبرّر له ما فوق ذلك “فأتوا حرثكم أنّى شئتم” ص45 مع أنّ سياق الآية ليس هو ما أخذها أسامة إليه ليرضي غرائزة المشتعلة.
أسامة شخصيّة لديها الاستعداد للبحث عن النّصوص الشّرعيّة التي تسوّغ له سلوكه، وكأنّ الاصل هو سلوك البشر ورغباتهم، وعلى النّصوص الشّرعيّة أن تلبي تلك الرّغبات، وليس على الرّغبات أن تنضبط بروح النّصوص الشّرعيّة ومعانيها. هذا لمس لقضيّة تتّسع مجالاتها ولا تتوقف عند العلاقة الزّوجيّة، فإنّها تحمل إسقاطات كثيرة في الحياة.
ومن جهة أخرى لم يخرج أسامة في إعجابه بجمانة عن مقاييس الجمال المادّيّة، بل لم يتطرّق حتّى الآن إلى أيّ صفة من صفاتها الأخلاقيّة؛ ولذلك كان جلّ تركيزه على الصّفات البدنيّة لجمانة: ” بقي يرسم صورة لجمانة في خياله، فخدودها بيضاء تعلوها حمرة كالتّفاح، عيناها فيها زرقة سماء صافية، شفتاها لذيذة كقطعة حلوى شهيّة، أسنانها كعقد اللؤلؤ الطّبيعيّ، أنفاسها تبعث الدّفء في القلب، غرّاء فرعاء، نحيلة الخصر بلا اعوجاج، تمشي بدلال كزهرة يهبّ عليها نسيم عليل، صوتها مغناج دون تصنّع. أنفها مستقيم كمنقار حمامة برّيّة.” ص 46. زيبدو عنصر آخر في شخصيّة أسامة، ففيه نزعة شكّيّة مريبة، إذ خطر بباله وجود رجل آخر في حياة جمانة، ولم يفكّر في أن تجافي جمانة عنه كان بسبب اندفاعه الشّبقي واغتصاب القبل منها رغما عنها. أسامة كان مستعدّا للتّخلي عن جمانة بسهولة أمام غيرة والدته منها، ومحاولتها توجيه الدّفّة، دفّة حياة أسامة وجمانة، كما تريد . ص 49.
وأسامة الغرائزيّ شيخ متشدّد، ففي حفلة الخطوبة أراد أن يمنع الغناء والرّقص لأنّه حرام كما قال. كلّ ما كان يهمّه هو امتلاك جمانة كونها أمرأة مادّة للمتعة، ولذلك لم نره يتحدّث عن أخلاقها أو عن صدقها، أو عن بساطتها، أو عن قناعتها وعدم طمعها في الماديّات. لم نر أسامة يحاول أن يفهم ما تفكّر به جمانة، لم يحاورها ليستكشف ما تفكّر به نحوه او نحو الحياة. كل ما لام أهله عليه أنّهم تأخّروا في الخطبة، فلن يتمكن من اصطحاب جمانة معه إلى السّعوديّة، ولم يفكّر ولو للحظة أنّ جمانة لم تكمل دراستها الجامعيّة، وأنّ ذلك كان شرطا للزّواج. لم يفكر أسامة بردود فعل جمانة على هجمات قُبَلِهِ التي اغتصبها إيّاها.
ذكّرني هذا المشهد بمقولة يكرّرها بعض النّاس حين يربطون بين الإيمان والاكل والنّوم والنّكاح، في حين أنّ الإيمان الحقيقي يسمو بروح الإنسان ويرتقي بها فوق المادّيّات ولا يتجاهلها، ويسمو به فوق الذّات الأنانية، ويقيم اعتبارا عاليا للقيم الإنسانيّة، ولا يلوي عنق النّصوص لتلبّي الرّغبات الذّاتيّة.
جعل الإسلام العلاقة الزّوجيّة علاقة سكن وأمان واطمئنان تكسوها المودّة والرّحمة، ولا تكون هذه إلا باللطف واللين وطيب المعشر، واحترام مشاعر الإنسان وأحاسيسه، وليس وقوع الرّجل على المرأة كوقوع البهيمة. لم نجد الشّيخ أسامة، حتى الآن على الأقلّ، يقيم اعتبارا لتلك المشاعر والأحاسيس في تعامله مع جمانة في البيت وفي السّيارة وفي السّوق.
هل هي مصادفة أن يكون أسامة دارسا للشّريعة ويعمل في السّعوديّة، وما علاقة ذلك بمنهج تفكيره؟
لعلنا نجد جوابا لهذا السؤال فيما بعد.
ممارسات الاحتلال
ذكرتُ من قبل إنني لا أستبعد أن يمزج الرّوائي جميل السلحوت في هذه الرّواية بين أبعاد الحياة الاجتماعيّة وأبعاد الحياة السّياسيّة، فالحياة واحدة ذات جوانب متداخلة، ولا يمكن أن يكتب أحد في الشّأن الفلسطينيّ ويغفل عن الجانب السّياسيّ لأنّه هو سبب لكلّ ما يعيشه الفلسطينيّون.
لقد سبق أن ذكرت أنّ عائلة جمانة كانت ضحيّة التّهجير من فلسطين عام 1948وقد انعكس هذا في بعد اجتماعيّ في كلام والد أسامة حين خطب له جمانة. الاحتلال للضّفّة الغربيّة وللقدس يبرز بروزا واضحا في الرّواية من خلال ممارسة جنود الاحتلال؛ لمنع المصلّين من الدّخول إلى الحرم القدسيّ، هذا من جهة، ومن جهة ثانية في ممارسات جنود الاحتلال وشرطته لسلوكيّات تعسّفيّة غير أخلاقيّة مع المواطنين الفلسطينيّين.
لقد وضع السلحوت صورة هذه الممارسات في لوحتين: الأولى حين تكلّم الشّرطيّ الإسرائيليّ بخشونة مع والد جمانة، ومنع والداها من الوقوف معها أثناء الحديث إليها، ومنعهما من الدّخول إلى كشك الشّرطة أثناء محاولة تفتيشها. واللوحة الثّانية حين أصرّ الشرطي على دخول جمانة إلى الكشك، واستفزازها لفظيّا، ثم التّحرش بها، ثم بسحبها من يدها، ثم الطّلب من الشّرطيّة نزع ملابس جمانة وتفتيش صدرها، في مشهد يخلو من التخلق، ثم منعها من دخول المسجد للصّلاة لأنّها امرأة دون الأربعين من عمرها.
هذا التّدبير الإداريّ الأخير، وهو التّضييق على الفلسطينيّين، وبخاصّة فيما يتعلق بالصّلاة في المسجد الأقصى، أراد الكاتب أن يشير من خلاله بصورة واقعيّة إلى التّعسّف الذي تمارسه سلطة الاحتلال ضدّ المقدّسات الإسلاميّة في القدس وضدّ المصلّين. وحين نتحدّث عن ذلك فإنّ ذلك مساس بمقدّسين عاليي القيمة والقدسية عند الفلسطيني: الدّين، وبخاصّة في مقدسات القدس، والعِرض. وقد تمّ المساس بقدسية الرّمزين. ولا شكّ أن الكاتب يعايش مثل هذه الوقائع عن قرب بحكم إقامته في المدينة نفسها، ومعايشته اليوميّة لممارسات شرطة الاحتلال، وقد اقتطع هذا المشهد لأنّه كما ذكرت فيه مساس بمقدّسين، فما بالك بممارسات أخرى؟
هل سيكون لذلك توظيف مستقبلي في أحداث الرّواية التّالية؟
أوّل توظيف سريع ظهر فورا في الأفكار التي طرقت رأس جمانة وهي تعود إلى البيت، وقد يكون لها توظيفات أُخر.
وفي هذا المشهد تبرز صورة الشّرطي الإسرائيليّ، والشّخصيّة اليهوديّة، فالشّرطيّان الرّجلان مستفزّان، متعجرفان، يخاطبان المواطنين الفلسطينيّين باستعلاء من جهة، وبقسوة من جهة أخرى، وبإهانة لمعتقداتهم ومشاعرهم الدّينية والخُلُقيّة بالتّغزل المبتذل والتّحرّش بجمانة.
أمّا الشّخصيّة الإسرائيليّة الثّالثة وهي الشّرطيّة اليهوديّة الأنثى، التي رفضت طلب زميلها الشّرطيّ أن تقوم بنزع ثياب جمانة وتفتيش صدرها، وسواء كان رفضها لاعتبارات إنسانيّة أخلاقيّة، أو لاعتبارات الغيرة والحسد، فإنّها لم تفعل ما طلب منها، لقولها: ” دخلت الشّرطيّة وسألت زميليها بالعبريّة:
ماذا تريدان منها؟
نريد أن تخلعي ملابسها؛ لتفتيش جسدها.
التفتت إليهما داليا وسألت بعصبيّة:
يكفي! ماذا تخبّئ النّساء في صدورهنّ؟
الشّرطيّ: إنّها جميلة جدّا.
داليا ساخرة: وبنات اليهود جميلات ولهنّ صدور بارزة أيضاً.” ص 83.
ثم أخذت الشّرطية هويّة جمانة وأعطتها إيّاها طالبة منها العودة إلى البيت؛ لأنها ممنوعة من دخول المسجد الاقصى. هل يريد الكاتب أن يميّز بين يهود شرّيرين ويهود طيّبين؟ وإن كان كذاك فهل هذه الطّيبة فطريّة عامّة أو ظرفيّة؟ لعلنا نجد سبيلا لذاك مستقبلا.
موقف الاحتلال الذي شهدته جمانة وممارساته معها ومع النّساء المجلببات جعلها تطرح أسئلة محرجة، وقد كان في ذاكرتها ووعيها موقف أسامة الذي أراد أن يفرض عليها النّقاب بالقوّة، وكأن جمانة/الرّاوي تسجّل تناقضا فكريّا وأخلاقيّا لدى بعض المتديّنين المسلمين، فهم يتشدّدون في مسائل شرعيّة ليست قطعيّة وفيها آراء تسمح للمرأة بكشف كفّيها وقدميها، ولا يعيرون انتباها لما هو أخطر، وهو ممارسة الاحتلال في الكشف عن عورات المسلمات، وهذا تفكير نقديّ عميق يصدر من فتاة تتقيّد بما هو متّفق عليه شرعا بين كبار علماء المذاهب الاسلاميّة. إذن نحن نستشرف هنا ميدان معركة فكريّة بين أسامة ممثِّلا لفكر متشدّد مغلق إقصائيّ ولا يقبل النّقاش، وجمانة ممثّلة لفكر إسلاميّ متفتّح ونقديّ. وقد تشكّل هذه القضيّة قاعدة مهمّة في حياة أسامة وجمانة وفي أحداث الرّواية الآتية.
فهل يصدر هذا الموقف عن الشّخصيّة أو هو توجيه من الرّاوي الغائب المراقب العليم؟ ولي عودة إلى هذه النّقطة فيما بعد.
مصيبة العذريّة:
كنّا نسرح مع جمانة وأفكارها بخصوص الأقصى، وبخصوص النّهج الفكريّ، والفرق بين نهجها ونهج خاطبها أسامة، ذلك أنّ أسامة ذو منهج فكريّ شرعيّ متحجّر وإقصائيّ وعنفيّ ومغلق، وضدّ الحوار وضدّ الاطّلاع على وجهات نظر غير ما لُقَنَهُ من منهج فقهيّ وفكريّ محدّد، في حين كانت جمانة تمثّل منهجا إسلاميّا فكريّا متفتّحا مطلعا على وجهات النّظر الشّرعيّة الإسلاميّة المتعدّدة وتأخذ منها ما هو مُجمَعٌ عليه من العلماء لتسيير حياتها، وفوق ذلك هي تطّلع على الفكر العالميّ والآداب العالميّة، وممّا اطّلعت عليه في هذا الصّعيد كان روايات كافكا بما هو معروف عن أدب كافكا من سوداويّة وغرائبيّة.
يغلق الكاتب النّصّ السّرديّ مع جمانة فجأة، لنجد أنفسنا أيضا فجأة أمام مختلف في مكان مختلف، وبشخصيّات مختلفة، وبقضيّة مختلفة، مشهد في قسم الولادة بمستشفى، مشهد هو مزيج من الصّراخ والفرح الهستيريّ اللافت للانتباه، والمثير للشّفقة والفضوليّة ممّن شاهده. وفي زحمة هذا الصّراخ والفرح الهستيري، نتابع الأحداث مع صبحة، التي تطلب بالهاتف على عجل من زوجها أن يأتي هو والمختار وإمام المسجد سريعا إلى المستشفى، بدون أن نعرف، أو يعرفوا السّرّ من وراء هذا الاستدعاء الطّارئ والسّريع والمُلحّ. وبعد وصولهم ينكشف الأمر عن أن عائشة، ابنة صبحة، في حالة ولادة متعسّرة بسبب أنّها ما زالت عذراء، وحتى يتيّسر أمر الولادة لا بد أن تقوم الطّبيبة بإزالة غشاء عذريّتها بالمشرط، فوجدتها صبحة فرصة للحصول على موافقة والد عائشة لعمل ذلك، هذا من جهة، ولنشر خبر براءة ابنتها من ارتكاب الخطيئة قبل زواجها من مازن زوجها السّابق.
لم يكن اختيار صبحة للمختار وإمام المسجد للشّهادة والاستماع إلى الرّأي الطّبّيّ مصادفة، فالمختار كان شاهدا على مجريات حياة عائشة مع مازن، كما كان شاهدا على طلاق مازن لها. أمّا إمام المسجد فشاهد على الزّواج ولا بدّ أن يكون شاهدا على البراءة، ولتبييض عرض عائشة لما له من كلمة مسموعة، بوصفه مرجعا دينيّا واجتماعيّا مسموعا.
تأخذنا الأحداث في استرجاع إلى الماضي، إلى تاريخ زواج مازن من عائشة، وفي هذا التّاريخ عدّة خطايا، هي خطايا اجتماعيّة شائة، ولها تبعاتها الخطيرة، أوّلها تزويج البنات القاصرات، والثّانية تزويجهنّ بدون استشارتهنّ أو الاستماع إلى آرائهنّ، وعلى قمّة تلك الخطايا ما يقع على البنت نتيجة الجهل بوضع حالة العذريّة وفقدها، فالعرف الشعبي لا يعترف بعذريّة البنت، وبصون شرفها وعرضها إلا عندما يثبت ذلك بالعين المجرّدة. ذلك ناتج عن جهل بالوضع الفسيولوجيّ للأنثى، حتّى من قبل النّساء المجرّبات، هذا من جهة، ونتيجة الفكرة الشكّي الاتّهاميّ الجاهز الذي أوّل ما يتبادر إلى أذهان العامّة، فلا يكفي جهلهم، بل يرفضون الاستماع، أو الاقتناع باحتمالات براءة عائشة (كرمز للمرأة عامّة) من تهمة ارتكاب الفاحشة، وخيانة الشّرف والعرض، والتثبّت من ذلك طبيا قبل إشاعة الاتّهامات التي تودي بحياة البشر وبسمعتهم.
حالة عائشة ومازن هي حالة نموذجيّة للأفكار التّقليديّة الجاهلة بتركيب جسم الأنثى، وبحالة من الاستعصاء في الفكر التقليديّ غير القابل للفهم والتّغيّر بحسب ما يقتضيه العلم والطّبّ والمنطق، ولذلك أصبحت عائشة ضحيّة على عدّة مستويات اجتماعيّة، وإذ لم تثبت براءتها لأنّ دم عذريّتها لم يشاهَد بالعين المجرّدة، فقد عانت معاناة شديدة هي وأهلها، وطلّقها مازن بشهادة المختار بعد ثلاثة أشهر من زواجه منها، وعانت عائشة خلال هذه الأشهر من النّبذ الاجتماعيّ والإهانة والضّرب والتّعيير، وعادت إلى بيت والدها بعد ثلاثة أشهر كسيرة الجناح والنّفس، ولم يستمع أحد إلى الأيمان التي كانت تغلظها في أنّه لم يمسسها أحد قبل مازن. رجعت إلى بيت والدها مهزومة، مدمّرة الشّخصيّة، مريضة بإسقاط الاعتبار الاجتماعيّ لها ولوالديها ولأسرتها، وعاشت كخادمة ذليلة مكسورة الخاطر محطّمة الشّخصيّة، حتّى أنّ الوالد والوالدة كانا قد ألحّا عليها لمعرفة الجاني، ولمّا لم يكن هناك جان، ظلّت تتعذّب عائشة سنتين وثلاثة أشهر إلى أن قيض الله فارس، الذي كان أسيرا، ومن قرية أخرى، وعمره أكثر من ضعف عمرها، ويتزوّجها، وبعد ثلاث سنوات نحن أمام هذا المشهد الهستيريّ من والدتها صبحة.
وهنا يتبارد للذّهن أسئلة: لماذا لم تُقتَل عائشة على يد والدها أو على يد أحد إخوتها كما هو شائع للأسف ظلما في البيئة العربيّة والإسلاميّة؟
لم يقتل الكاتب عائشة لأنّه يريد أن يدين المجتمع، ولا يردي أن يدين عائشة لذنب لم ترتكبه، ولذلك أبقاها حيّة إلى أن تثبت براءتها وهذه إدانة أكبر من أيّ إدانة أخرى.
لماذا لم يكن فارس، زوج عائشة الحاليّ، حاضرا في المستشفى يوم ولادتها لمولوده، ولماذا هو في العمل في ذلك اليوم، وهل كان غيابه لذلك السّبب؟
ما فعلته صبحة يشير ضمنا إلى أن مسألة العذريّة ما زالت تتفاعل بصورة أو أخرى، وتلاحق عائشة حتى لحظة إثبات براءتها طبّيّا في هذه اللحظة فقط، وقد تكون سببا في مشكلات لم ترد في القصّة لإدراك المؤلّف أنّ الاستطراد في ذلك سيخلّ ببنية السّرد، فقد يكون فارس قد طلّق عائشة، وقد يكون قد هجرها، وقد… وقد. لا نعرف بالضّبط ماذا حدث لعائشة بعد زفافها لفارس، ولكن صراخ الأمّ الهستيريّ والإفصاح أمام المختار وإمام المسجد، وإعلان براءة ابنتها المظلومة والمفضوحة، كلّ هذا يشير إلى أن قضيّة العذريّة ما زالت تلاحق عائشة وقد تكون هي السّبب في غياب فارس عن المستشفى، وكذلك عائلته، التي قال لنا الكاتب على خجل وبكلمات قليلة أنّها فرحت بالحفيد الجديد.
إقحام قصّة عائشة في رواية جمانة وإسامة كان هدفه إدانة المجتمع الجاهل العنيد، الجاهل علميّا وطبّيّا، والعنيد في رفض المفاهيم الجديدة القائمة على العلم، فوالد مازن يرفض أن يُجرى لعائشة فحص طبّيّ من البداية لمعرفة الحالة، ويصرّ على أن ذلك يثبت بالفعل لا بالفحص. والمجتمع مدان كذلك لأنّه يتسلّى بكوارث المرأة التي تلوكها الألسنة، وتلحق مصائب اجتماعيّة ونفسيّة، ولذلك عاشت عائشة وعائلتها الكوابيس والأمراض النّفسيّة والانطواء، وهذه حالة أهون منها الموت بالنّسبة لعائشة.
في هذه الجزئيّة، قصّة مازن وعائشة، وجدها الكاتب مناسبة للتّثقيف والتّعليم والإرشاد، فقد سرد معلومات طبّيّة مفصلة أراد منها توعية المجتمع وتثقيفه حتّى لا تقع نساء ضحايا نتيجة هذا الجهل. فهل التّثقيف والتّعليم والإرشاد من مهمّات الرّواية؟ وهل على الرّاوي أن يكون واعظا ومعلّما بطريقة مباشرة، وعليه أن يثبت هذا الدّور علميّا؟
لا أعتقد أن ذلك من مهمّات النّصّ السّرديّ، فقصّة عائشة ومازن وفارس بعثرت الأحداث، وقطعت الموضوع الأساسيّ للرّواية بقصّة أخرى، وأخذتها بعيدا عن سياق قضيّتها المحوريّة، وقد أضرّ هذا التّشتت بتماسك بناء الرّواية، فقضيّة عائشة مختلفة تماما عن قضيّة جمانة وإن كانت القصّة تؤرّقها، ولم تكن تفاصيل قصّة عائشة ضروريّة لإثارة قلق جمانة، ففي ذهن كل فتاة في مجتمعنا هذا القلق الضّمنيّ لسبب أو لآخر. أرى أنّه لم يكن من الضّرورة سرد هذه القصّة المطوّلة لعائشة من أجل أن نثير سؤال العذريّة في ذهن جمانة وصويحباتها، فهكذا سؤال هو تحصيل حاصل.
إرهاصات مقلقة
استمعت جمانة إلى قصّة عائشة تلوك عرضها نساء جاهلات، ممّا أثار في نفسها قرفا من تلك الأفكار والعقليّات، و قلقا على مستقبلها مع أسامة الذي ربّته والدة شرّيرة محترفة في حبك المشكلات، وهو الرّجل الذي لا يؤمن بالطّبّ ولا بالعلم. تلك نظرة تشاؤميّة سوداويّة لحياة جمانة في تلك البيئة مغلقة الآفاق.
في هذا السّياق، وفي جوّ البؤس هذا، وبعد لسعات من لسان والدة أسامة بالأمس عند زيارتها هي ووالدتها لعائلة أبي أسامة، وفي سياق التّفكير في هذه المقدّمات، تستذكر جمانة من ثقافتها كافكا الذي أمضى حياته دون زواج مع أنّه ارتبط بامرأة وخطبها مرّتين، ولكنّهما انفصلا دون زواج: “وباتت على قناعة بأنّ حياة العزوبيّة للإناث أفضل من الحياة الزّوجيّة، التي ربّما ستتمخّض عن كوارث لا علاقة للمرأة فيها، وقد تبدأ هذه الكوارث من الليلة الأولى للزّواج في مجتمعات لا تفهم الحياة إلا من خلال رحم المرأة. قرأتْ أنّ كافكا قد عاش واحدا وأربعين عاما ”1883-1924“، ومات بالسّل، فهل لو طال به العمر كان سيتزوّج أم أنّه أسقط هذا الخيار من حياته؟ ولماذا لم يفكّر بأن يكون أبا؟ وهل لحياة الفقر والحرمان التي عاشها علاقة بعزوفه عن الزّواج؟ لكنّها رجّحت أنّ عزوفه عن الزّواج كان عن قناعة، وهذا يظهر جليّا في رواياته وفلسفته في فهم الحياة.” ص 120.
مقدمات جمانة أفضت إلى استنتاج أن حياة العزوبيّة للإناث أفضل من كوارث لا علاقة للمرأة بها. هذا المخزون المركب من خبرة جمانة مع حماتها، وخبرتها بشخصيّة أسامة، ومعرفتها بما في المجتمع من جهل وتخلّف أخذ جمانة بعيدا إلى حدّ التّفكير في الإضراب عن الزّواج.. يفهم ذلك من خلال قناعتها ّنّ كافكا لم يتزوّج بسبب رؤيته للحياة، فلسفته، فهل هذا مقدمة لكي تتبنّى جمانة فلسفة كافكا وبخاصّة في مسألة الزّواج؟
قد تكون توصّلت إلى مقدّمات لمثل ذلك القرار بناء على رؤيتها وخبراتها في هذا المجتمع. ولكن إن كان هذا هو خيار دفع الكاتب/الرّاوي الشّخصيّة لتبنّيه فهل يشكّل هذا حلّا وعلاجا لتلك الظّواهر الاجتماعيّة المستعصية؟
بالتّأكيد لا، ولكنّه حلّ فردي قد يلجأ إليه بعض الأفراد، وتبقى الظّاهرة مستقرّة ومتحكّمة. وقد يشكّل ذلك، إن حصل، هروبا من مواجهة الظّواهر ومحاربتها، والعمل على تغيير الظّواهر السّلبيّة في المجتمع.
يوما بعد يوم تصطدم جمانة بموقف يبعدها عن أسامة، وبخاصّة عقليّة أسامة نفسه، فلا انسجام ولا توافق فكريّا بينها وبينه يمكن أن يخفّف من الضّغوط التي تواجهها وتفكّر فيها، بل على العكس، يمثّل هو الهمّ الأكبر من خلال محاولاته الحجر على فكر جمانة وعقلها المتفتّح. جمانة نبت غريب مجتهد مثقّف محلّل نقديّ في بيئة آسنة جامدة متحجّرة ومغلقة، وهذه قاعدة للصّراع والصّدام والتناقض بينها وبين المحيط حولها، فهل تنكسر جمانة أو تتمرّد؟
هل جمانة هي الخاصرة الرخوة؟
جمع وطرح وعنوان الرواية
أشرت في وقت سابق إلى زمن أحداث هذه الرّواية وظننت أنّ زمنها سبق نكسة عام 1967 اجتهادا منّي كان قائما على أساس تمييز أبي أسامة بين اللاجئ الفلسطينيّ، والفلسطينيّ غير اللاجئ في الضّفّة الغربيّة عندما قرّر خطبة جمانة لأسامة، وقلت إنّ هذه النّزعة وجدت بعد اللجوء عام 1948، ولم أكن أتصوّر أنّها مستمرّة وممتدّة حتّى اليوم.
ومن جهة أخرى تساءلت بناء على ما سبق عن الجامعة التي كانت جمانة تدرس فيها ومكانها، كما تساءلت عن ماهيّة الخاصرة الرّخوة التي حملت الرّواية عنوانها منها.
في منتصف الرّواية تقريبا يُحسم موضوع زمن الرّواية، كما يحسم أمر عنونتها؛ إذ تتخرج جمانة من الجامعة في الشّهر الذي يعود فيه أسامة من السّعوديّة مستعدّا للزّواج، ويذكر الرّاوي أنّ عودة أسامة كانت في السّادس من يونيو عام 2006، أي أنّ أحداث الرّواية محصورة حتى الآن بين 2005 و 2006، وهذا يفتح الباب للإجابة عن الجامعة التي درست فيها جمانة، إذ أنّ هناك عددا من الجامعات الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة في الزّمن المذكور، لا كما ذكرت سابقا متوهّما أنّ أحداث الرّواية تعود إلى أيّام لا تتوفّر فيها جامعات في الضّفّة الغربيّة، ومنها جامعة القدس التي ضمّت بعض فروع من دار الطفل العربي. لهذا اقتضى التّنويه، واستدراكا منّي وتصويبا لما اجتهدتُه سابقا.
أمّا عنوان الرّواية (الخاصرة الرّخوة) والذي تساءلتُ حوله في مطلع قراءتي للرّواية، فإنّنا نجده منطوقا على لسان جمانة، إذ قالت: “فالمرأة خاصرة المجتمع الرخوة” . ص125.
لماذا؟
في مراجعة قامت بها جمانة كانت قلقة من أنّ مشروع زواجها تحف به المخاطر لاعتبارات ومقدّمات ذكرتُها سابقا، ولكنّها قررت خوض تلك المغامرة ” وأصبحت على قناعة بأنّ زواجها من أسامة مغامرة غير مضمونة النّتائج، لكنّها في الوقت نفسه قرّرت أن تخوض هذه التّجربة نزولا عند رغبة والديها، وخوفا من الطّلاق قبل الزّواج، فطلاق المرأة في هذا المجتمع يبقى لعنة تطاردها، ولا أحد يرحم المطلّقة بغضّ النّظر عن أسباب طلاقها، وسواء كانت ظالمة أم مظلومة” ص 125.
ولأنّ المرأة في المجتمع هي نقطة الضّعف، نقطة الضّعف أمام ضغط الوالدين أو أمام رغبتهما، ونقطة الضّعف أمام الزّوج، ونقطة الضّعف المستهدفة من المجتمع كلّه سواء كانت ظالمة أو مظلومة، لذلك فهي الخاصرة الرّخوة في المجتمع، وهي المعرّضة للطّعنات، وإليها توجّه السّهام، ولذلك قالت جمانة أنّ المرأة هي خاصرة المجتمع الرّخوة. ولهذا السّبب جاء العنوان كما هو عليه تأكيدا لهذه الحالة الاجتماعيّة، ولهذا السّبب أيضا حمل الغلاف صورة وجه امرأة ورأسها وقد جللها البؤس والحزن والفزع.
نماذج بشرية
فيما كتبتُ سابقا بعض عناصر من شخصيّة أسامة قدّمها لنا الكاتب جميل السلحوت بالتّدريج، وهذه سمة فنّيّة سليمة وصحيحة في بناء الرّواية، فالرّاوي لم يقدم لنا الشّخصيّات كتلا واحدة، بل عرضها متطوّرة مع أحداث الرّواية، وكلما تقدّم القارئ في الرّواية سيكتشف عناصر جديدة في كلّ شخصيّة من الشخصيّات، وبخاصّة شخصيّة أسامة وجمانة، فهي شخصيّات نامية متطوّرة بتطوّر الأحداث، وكانت شخصّة أسامة وجمانة هي أكثر الشّخصيّات نموّا وتطوّرا في حين غلب على الشخصيّات الأخرى الثّبات، وفي النّهاية فإنّ تلك الشّخصيات تتدرّج في أهميّتها، فهي شخصيّات ثانويّة، ذات أدوار في الاحداث لكنّها ليست بأهمّيّة دور أسامة وجمانة.
وعود إلى أسامة، فقد سبق وأن أشرت ألى سمات في شخصيّته، سأعيد ذكرها باختصار، وأضيف إليها الصّفات والسّمات التي انكشفت مع تطوّر الأحداث، وها هي في نقاط.
شابّ فلسطينيّ يحمل فكرا إسلاميّا متطرّفا إقصائيّا مغلقا أحاديّ الرّؤية لا يقبل الحوار، أو وجهات النّظر المخالفة، ويأخذ الفكر الشّرعيّ من مصادر محدّدة ذات توجّه متشدّد ويعمل على فرض هذا الفكر على الآخرين، ومن ليس معه فهو عدوّه.
نظرته إلى المرأة نظرة جسديّة ماديّة ولا قيمة لعقلها وفكرها وثقافتها، فلا تعدو المرأة عنده إلا مادّة للاستمتاع وتفريغ الشّهوة.
لدى أسامة نزعة ريبة وشكّ واتّهام ضمنيَ للمرأة، فكونها مادّة للاستمتاع فلا يمنعها شيء من ممارسة هذه المتعة بدون ضوابط، وفي ذلك اتّهام للمرأة فقط لكونها امرأة، ولذلك كان يسهل عليه التّخلي عن جمانة إزاء أيّ شبهة موهومة، أو طعنة كاذبة مغرضة.
شخصيّة ضعيفة مسحوقة أمام أمّه بخاصّة، ولا يخالف لها أمرا، ويتركها تتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة في حياته، بل بسمح لها بالتّمادي في خصوصيّاته وخصوصيّات جمانة، وقد ظلّ كذلك بذريعة الحرص على رضا الوالدين، وليس الأمر كذلك، بل هو أفسح المجال لامرأة شرّيرة قادرة على تحطيم تلك الأسرة الفتيّة.
يقابل هذه الشّخصيّة المهزوزة فإنّه يحاول أن يفرض على جمانة شخصيّة قويّة من خلال إصدار الأوامر والنّواهي فيما هو شرعيّ، وما هو غير شرعيّ، فيما هو من حقوقه، وفيما هو سحق لشخصيّة جمانة، التي أخذت تجاريه في محاولة يائسة منها لإنجاح تجربة زواجها، وتجنيبها الفشل في بداياتها. يحاول أسامة فرض شخصيّة قويّة ظنّا منه أنّ الشخصية القويّة هي في الفرض والأوامر والنّواهي وتوجيه النصوص كبديل للحوار والتفاهم والمودّة والرّحمة التي ذكرها الله كأسس لبناء علاقة زوجيّة. وهذا نابع من فكر متخّلف لا ينظر للمرأة ككيان فكريّ وعاطفيّ وإنسانيّ وأخلاقيّ وثقافيّ لا يقلّ عن الرّجل، يتكامل معه ولا يتعارض أو يتناقض.
أسامة رجل بخيل في غاية البخل وما يهمّه هو جمع المال، فعلى مدى عام تقريبا لم يكلّم أسامة جمانة هاتفيّا إلا ثلاث مرّات لدقائق معدودة، والجميع يعرف أنّ الاتّصالات شبه مجّانيّة، وأسامة استعرض أمام جمانة بأن تطلب منه ما تريد من السّعوديّة، ثم نجده يبخل عليها بزجاجة عطر تحبّه لأنّ ثمنها مرتفع، ويأتي لها بزجاجة بخمسين ريالا. يا للرخص. ويشتري أسامة أثاثا لبيتهم في الرياض مستعملا من أحد أصدقائه، أثاث يشبه ما يتخلّى عنه النّاس، ويستأجر بيتا قذرا متهالكا عفنا في محيط بائس، يقيم فيه المخالفون والمشرّدون، كلّ هئا بذريعة الاقتصاد وتوفير المال لحياة في المستقبل. إنّ ذلك يشبه انفصاما في الشّخصيّة، فهو يظهر أنّه يحرص على كرامة زوجته، وفي الوقت ذاته يلقي بها في مستنقع موبوء، ويعرض عليها أن ياتي لها بما تحبّ وتهوى، ثم ياتي لها بما يوفّر عليه نقوده ورخيص الثّمن والإيجار، وله في كلّ حالة تخريج شرعيّ.
أسامة شخص مدّع مكابر مندفع فاشل، فأمام والده وأخيه فحل قادر على فضّ الكرة الأرضيّة، بينما هو في الواقع فاشل في الدّخول في عروسه، وتجد له والدته العذر باتّهام جمانة ووالدتها.
إذن أسامة شخصيّة نموذجيّة مركّبة من عدّة شخصيّات معا، شخصيّة تحمل الصّفات السّابقة ليس من المأمول والمتوقّع أن بكون ناجحا في حياته الزّوجية مع جمانة، الفتاة الطّموحة المتفتذحة المثقّفة المتطلّعة للنّجاح والإنتاج.
هل هي بادرة يقظة؟
بعض المواقف، وبعض الأشخاص يحتاجون إلى صدمة، لكي يتنبهوا ويراجعوا خطواتهم، ويلاحظوا من حولهم، ويقيموا خطواتهم، ويعيدوا النظر فيما حولهم، وفيمن حولهم، وفي مراجعة قرا اتهم، وتغيير مواقفهم، واتخاذ مواقف جديدة، والأفراد مختلفون في لزوم هذه الصدمة لهم أو عدمها، وهم مختلفون في درجة قوة الصّدمة التي يحتاجونها ليفتحوا عيونهم، ويقيموا الأشياء والأشخاص تقييما سليما.
رأينا أسامة من قبل الزّواج تابعا في رأيه لوالدته وعائلته، ولا يفكّر مطلقا في سلوكهم، أو تصرفاتهم، أو مواقفهم من جمانة وعائلتها، حتّى أنّه ألغى الموعد الأوّل لحفل زفافه بإشارة من والدته قبل الرّجوع إلى والده، ورأينا تدخّل والدته في كلّ صغيرة وكبيرة في خصوصيّاتهما، وأساءت تفسير مواقف جمانة في أكثر من موقف، وسمع أسامة أمّه تطعن في أنسبائه ولم يحتجّ بكلمة على سلوكها، ولم يحاول أن ينبّهها إلى ذلك ولو بملاحظة هيّنة ليّنة، بل عبّر أكثر من مرة لوالدته أنّه مستعد للتّضحية بجمانة وبهذا النسب دون أن يرفّ له رمش.
هل هي بادرة وعي على حياته وعلى مستقبله مع جمانة عندما أدرك نّ فرقا هائلا بين رؤية أسرته إزاء جمانة، وسلوك أسرة جمانة إزاءه، وما تحرص عليه أمّه في الطعن بجمانة، وما تحرص عليه جمانة في كيل المديح له، وما تثيره والدته في نفسه ضدّ جمانه، وما تطمئن به عائلة جمانة ابنتها في توثيق عرى محبّتها له، فماذا حدث ليصل أسامة إلى هذه النّتيجة: ” شعر أسامة بالرّضا من حديث جمانة مع والديها وشقيقتها، قارن بينهم وبين والدته، فحزن على نفسه.” 181.
في أوّل اتّصال هاتفيّ مرئيّ بين أسامة وعائلته جرى الحوار التالي: ” اتّصل بداية ببيت أهله على برنامج“سكايب“ حيث يكون
صوت وصورة، ردّ عليه أبوه، بعد تبادل التّحيّات سأله أبوه:
كيف جمانة يا أسامة؟
الحمد لله، إنّها بخير وتهديك السّلام.
الأجاويد.” لست بحاجة لأوصيك بها خيرا، ”فالنّساء وديعة
توكّل على الله يا أبي.
وهنا أمسكت والدته الهاتف وسألت:
كيفك حبيبي؟ طمئنّي عنك، كيف بنت لطيفة معك؟
الحمد لله ماما نحن بخير، ولا نريد إلا رضاكم وسلامتكم.
الحمد لله، سلِّط كاميرا الهاتف على غرف البيت، لأرى ما اشتريتموه من أثاث؟
حاضر يا أمّي…وقام يدور في البيت بدءا من الصّالون وقال:
هذا الصّالون، هل ترينه؟ ثمّ انتقل إلى غرفة النّوم، ثمّ المطبخ فالحمّام.
ضحكت أمّه وقالت:
من أين أتيت بهذا الأثاث يا أسامة؟ هل يوجد عندكم سوق للخردوات؟ وهل أعجب بنت لطيفة؟
لا يا أمّي هذا أثاث مستعمل، اشتريته من زميل غادر البلاد بعد أن ترك عمله. “وللي ما بغني بستر” يا ماما، وكما تعلمين فإقامتنا ليست دائمة في هذه البلاد، فلماذا نضيّع فلوسنا على أشياء تافهة؟
والله إنّك سبع يا ماما.
انفرطت جمانة ضاحكة عندما سمعت حديث حماتها، لكنّها انتبهت عندما سمعتها تسأله:
أين بنت لطيفة عنك؟
– هي قريبة منّي هل تريدين الحديث معها؟
– لا، لم أشتق لها بعد، لكن ابتعد عنها قليلا لأتحدث معك.
ابتعد عن جمانة وقال:
نعم…ماما أنا وحدي.
لم يعلم أنّ جمانة تبعته حافية القدمين دون أن يراها، فقالت له أمّه:
إيّاك أن تؤمّن لبنت لطيفة، والمثل يقول:”يا مؤمّن للنّسوان يا مؤمّن للميّة في الغربال”، حافظ على صحّتك، نوعيّة جمانة لا يشبعن ولا يقنعن.
انسحبت جمانة بعيدا وهي تبتسم على سخافة حماتها، قالت لنفسها:
“رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا” والله صدق من قال:” القرد في عين أمّه غزال.”
أنهى أسامة مكالمته مع والدته، عاد إلى جمانة غاضبا دون كلام، سألته:
خيرا يا أسامة، هل أخبرتك الوالدة شيئا خطيرا؟
ردّ عليها بهدوء: لا…كلّ شيء على ما يرام، الآن سأطلب لك والدتك لتتكلّمي معها، طلب لها رقم الهاتف، وأعطاها هاتفه المحمول:
عندما رأت لطيفة ابنتها جمانة ضحكت وقالت:
أهلا بالغالية، طمئنيني عنك يا ابنتي، من يوم سفرك وأنا قلقة عليك، ووالدك يستيقظ صباحا مذعورا يقول:
أرى في منامي أنّ جمانة في ضائقة.
نزلت دموع جمانة وهي تقول:
ماما لا تخافوا عليّ، أنا بخير، وأسامة رجل طيّب أكثر ممّا تتصوّرون.
الأمّ: الحمد لله، وربنا يوفقكم ويحفظكم. لكن لماذا تبكين يا بنيّتي؟
مسحت جمانة دموعها وقالت:
أنا لا أبكي يا أمّي هذه دموع الفرح برؤيتكم والشّوق لكم.
اقتربت تغريد من والدتها، أمسكت الهاتف من يدها وسألت ضاحكة:
يا إلهي كم هو حجم الفراغ الذي تركتِه في بيتنا يا جمانة، طمئنيني عنك.

جمانة: أنا بخير وأتمنّى لكم الخير.
تغريد: هل ستعملين مدرّسة في السّعوديّة؟
جمانة: لا…فأسامة لم يقبل.
– لِم َ لمْ يقبل فعملك في التّدريس يكون في مدرسة بنات.

– لا حاجة لنا بالعمل، فدخْل أسامة جيّد والحمد لله.
– وإذا أصبح عندكما دخلان فما المانع؟
– اتركينا من هذا الكلام، كيف دراستك؟
– الحمد لله.
– أين الوالد يا تغريد؟
ارتبكت تغريد هنيهة وقالت:
نائم.
– ليس من عادته أن ينام في مثل هذا الوقت، هل هو مريض؟ قولي الصّدق يا تغريد؟
– قلت لك الوالد بصحّة جيدة، لكنّه عندما يذكر اسمك تنهمر دموعه، الوالد أكثر شخص يفتقدك يا جمانة، ولا يقدر على الحديث معك، لأنّه لا يستطيع التّحكم بعواطفه الجيّاشة.
نزلت دموع جمانة وهي تقول:ّ اه بابا يا حبيبي، لا تخف عليّ، أنا بألف خير. أعطني إياه يا تغريد.
اقتربت تغريد من والدها، مدّت إليه الهاتف وهي تقول: جمانة تريد أن تتحدّث معك. أمسك الهاتف، رأى جمانة على شاشته، عندما رأته جمانة قالت بلهفة:حبيبي بابا، كيفك؟
ردّ عليها باكيا وبصوت متهدّج:

أ…أنا بـ..خي….ير.
– لا تقلق عليّ بابا حبيبي، أنا بألف خير وبمنتهى السّعادة.
أمسكت أمّ جمانة الهاتف من زوجها وقالت لجمانة. لا تقلقي يا جمانة، فأنت مميّزة عند أبيك، لأنّك بِكرُنا، والابن البكر غال يا بنيّتي.” ص 181.
بالتأكيد لاحظ أسامة بوضوحٍ الودَّ الذي تكنه أسرة جمانة لابنتهم وله، وبالتّأكيد أنّه لاحظ حكمة وحنكة جمانة، وما تتمتع به من ذوق رفيع ولباقة ولياقة وأدب، وهي تُطمئِن أهلها على نفسها وعلى حياتها، ولاحظ كذلك أنّها تحترم وجهة نظره وتتبناها، وتُقنِعُ بها في عدم سماح أسامة لها بالعمل مدرّسة ولا تسمح لأختها بأن تتحدث بما قد يضايق زوجها، “اتركينا من هذا الكلام” ممّا يعني عدم السّماح حتّى لأختها بالتّدخل في حياتهما، حتّى وإن كانت النّصيحة لصالحهما ” وإذا أصبح عندكم دخلان فما المانع؟”
لم ير أسامة من جمانة إلا عقلا راجحا وحكمة وصبرا، بل فوق ذلك سمع ثناء عليه وطمأنة لعائلتها عن حياتها معه، فلم تشكُ جمانة من أوامره ونواهيه وفروضه وحرمانه لها من أبسط مقوّمات الحياة (الرّاديو والتلفزيون والكتب والهاتف) والمنزل البائس والأثاث الخردة.
مرايا وثنائيات
قرأنا من قبل كيف أثارث قصّة عائشة وحملُها وهي عذراء، جمانةَ قبيل زفافها، وكيف أرّقتها قضيّة العذريّة، وكيف أصبحت قضيّة العذريّة قصّة النّسوة يتحدّثن بها، ويتبارين في سرد تجاربهنّ، وكيف أن لهذه المسألة المرتبطة بالعرض والشّرف والسّمعة قيمة كبيرة تصبح كالخيط الرّفيع بين الموت والحياة في المجتمعات الإسلاميّة، وترتبط هذه المسألة بالعقيدة الدّينيّة وبالأعراف الاجتماعيّة المرعيّة، والتي تحدّد قيم الفرد والعائلة ومكانتهما في المجتمع، كما أنّ التّفريط بها يقيّض ذلك كلّه.
في مقابل جمانة الفتاة المسلمة الملتزمة شرعيّا والمتفتّحة بذكاء وحكمة ووعي على كتب التّراث الدّيني الإسلاميّ، وعلى الأداب العربيّة والعالميّة نجد فتاة تصغرها قليلا هي صابرين، ابنة عم أسامة، ابنة عز الدين، يشكل سلوكها وصمة، وكان يمكن أن تؤدي إلى كارثة وفضيجة بجلاجل لولا أنّ كلّ الأطراف عملت عل لملمة الموضوع، وزوّجت صابرين ليونس سفيان الذّهبي بين عشية وضحاها حتى لا ينكشف حَمْلُها السفاح جليّا واضحا، مع أنّ جميع من حضر كان يقضم لسانه لئلا ينطق بالمستور.
يقول لنا المؤلف جميل السلحوت بلسان حاله ومقاله معا، إنّ المجتمع الفلسطينيّ متنوّع ومتعدّد الانتماءات والتّوجّهات، وفيه من الميول والأهواء والسلوكات كثير من المتناقضات، وفيه مثل غيره تناقضات لا تخلو من سلبيات تنخر في بنيته.
جمانة تقابلها في الجهة المعاكسة لها صابرين، صابرين عزّالدين التي درست اللغة الإنجليزيّة في جامعة بيرزيت، في حين درست جمانة اللغة العربيّة في جامعة القدس. جمانة رمز الأصالة والتّمسك بالشّرع الإسلاميّ المعتدل المتفتح، في حين أنّ صابرين رمز التّغريب والانفلات والعري إلى حدّ التّفريط بعرضها.
جمانة التي تتقيّد بضوابط الأسرة والعائلة وأعرافها، وتحسب خطواتها بدقّة وتقيم اعتبارا كبيرا لكلماتها ومواقفها، ومطيعة لوالديها حتّى أنّها تقبل بزوج لم تعرفه عن قرب، ولم تقتنع به ابتداء، وكان القبول به أشبه بفرض عليها وبمخاطرة، في حين نجد صابرين وقد وضعت المهندس الذّهبي، ووضعت والده ووالديها والجميع تحت الأمر الواقع، وفرضت رأيها وموقفها بالزّواج من المهندس التّغريبي، خرّيج الهندسة من جامعة بير زيت أيضا. فرضت ما تريد حبّا أو غصبا بالقول أمام يونس الذّهبي لأنّها حملت منه..
صابرين الفتاة التّغريبيّة المنطلقة بلا قيود شرعيّة أو اجتماعيّة تخلع زيّها الشّرعيّ، وتتابع الموضة الغربيّة والماركات، وتعيش مع يونس حياة المجتمع الغربيّ في سيّارته، وفي الفنادق، وفي الشّواطئ، بعيدا عن ضوابط المجتمع وأعرافه، إلى أن عاشرها معاشرة الأزواج، بحسب اعترافها لوالدتها بصفاقة، تحت عنوان الحبّ، فحملت منه ووضعت الجميع تحت الأمر الواقع، بالكذب والالتواء، وصارت قصّة تلوكها ألسنة الرّجال قبل النّساء.
مؤسّستان وطنيّتان أكاديميّتان تعكس كلّ منهما توجُّها مضادا لما تعكسه الأخرى، جامعة القدس التي تُخرِّج جمانة ترمز إلى أنذها ذات توجّه عربيّ إسلاميّ وأصيل وملتزم بالعرف والتّقاليد المرعيّة اجتماعيّا، تقابلها جامعة بيرزيت التي رمزت من خلال يونس وصابرين إلى منهج التّغريب والعلم والسّلوك المنفلت، والفكر التّغريبيّ الذي يخرق القواعد والأصول والأعراف، ولا يقيم وَزْنا لقيم سائدة وراسخة في المجتمع.
وفي مقابل شخصيّة أسامة الشّابّ الأزهريّ المتديّن بتشدد وتطرف وانغلاق على فكر مُوجَّه أحاديّ الرؤية والفكر، والملتزم بأعراف المجتمع إلى حدّ فرض النّقاب على جمانة وتقييد حركتها، واختيار الكتب التي تطلع عليها، ولا يسمح لأحد أن يرى زوجته، هناك يونس الذّهبي، ابن سفيان الذّهبي، رجل الأعمال الغنيّ الثّريّ الذي لايخجل من التّعبير عن انفلات ابنه، وهناك ولده المهندس يونس صاحب المال والثّراء والسّياحات مع صابرين في المنتجعات والفنادق، والذي يبعثر المال يمينا وشمالا دون حساب، فيقدّم مهر صابرين سيّارة فاخرة، بينما ترضى جمانة بأقل من مهرها البالغ ٢٥٠ غرام ذهب.
هاتان صورتان كبيرتان من النّماذج المتضادّة في المجتمع الفلسطينيّ، يسجّل المؤلّف سلوك نماذج من كلّ منهما؛ ليكشف ما ينخر في هذا المجتمع من اختلالات، وقد أمسك المؤلف بخيوط العمل الرّوائيّ، يحرّك شخوصه؛ ليمثلّ كلّ منهم نمطا وفكرا متمايزا عمّا يمثله الآخر.
لو دقّقنا في هذه الشّخصيّات لوجدنا أنّ بناء الرّواية قائم على الثّنائيّة المتقابلة بما يشبه المرايا المتعاكسة، فمرآة فاطمة الشّريرة أمّ أسامة، تقابلها مرآة لطيفة الطيّبة أمّ جمانة، وأسامة المتطرّف دينيا يقابله يونس المنحرف دينيّا وأخلاقيّا، وأسامة مقتدر الحال والشّحيح على نفسه وزوجه، يقابله يونس المسرف والمبذّر، ومقابل جمانة الملتزمة شرعيّا وأخلاقيّا هناك صابرين المنطلقة دون حدود، وفي مقابل حياة أقرب إلى البساطة والفقر، هناك حياة البذخ والفيلات والسّيارات والقصور والفنادق والسّياحات.
ما يقوله السلحوت في هذه المرايا إن المجتمع الفلسطيني، مثله مثل بقيّة المجتمعات، فيه من التّيّارات والانتماءات الاجتماعيّة والفكريّة ما في سائر المجتمعات، وأن لا علاقة للدّم بذلك، فصابرين المنطلقة ذات الميول الغربيّة هي ابنة عمّ أسامة الإسلاميّ المتطرّف، يجمعهما التّطرّف، ويفرّقهما الاتّجاه، فأسامة إسلاميّ متشدّد وصابرين منطلقة بفكر تحرّريّ غربيّ. كلاهما متطرّف على طريقته، وكلاهما يشكّل خللا وعدم توازن في المجتمع.
ما أريد قوله هنا إن سمة الثّنائيّة والتّقابليّة هي إحدى صور التّقنيّات التي وظّفها السلحوت في هذه الرّواية للكشف، بل لفضح ما يحضر في المجتمع الفلسطينيّ، في إدانة واستنكار للتّطرّف في أيّ لون من ألوان الحياة كان. أسلوب المرايا المتعاكسة أسلوب كاشف قادر على تقليب الصّور والصّفحات وكشف المستور لفضحه، ليس لمجرد الفضح بل لإصلاح الخلل. لسان حال الرواية يقول:
أيّها المجتمع هذه بعض حقائقك المكشوفة والمخفيّة فكيف ستعالجها؟ وهذه أمراضك فكيف ستداويها؟ وهذه عِلَلُكَ فكيف تشفى منها؟ وهذه الثّغرات المفتوحة عليك فكيف تَسدُّها؟ وهذه المهدّدات لحياتك وانسجامك وتناسق حركتك، فكيف تتعامل معها؟
ليس من الضّروري أن يجيب الرّوائيّ على ذلك، فهو يكشف ويضيء ويفضح ويترك القرار لصاحب القرار.
“أنت طالق” منهجان ونتيجة واحدة
سبق أن أشرتُ إلى منهج أسامة الإسلاميّ المتشدّد والمتسلّط والمنغلق الوهّابيّ، وإلى منهج يونس الذّهبي التّغريبيّ المتحرّر.
تزوّج يونس وصابرين في حفل باذخ وفاضح في جو ملبّد بالأقاويل والشّكوك، وسافرا لقضاء شهر العسل في أوروبا، وصبيحة زواجهما يموت والدها، عزّ الدّين، كمدا ممّا سمع ورأى، ولا يخبرها يونس عن ذلك إلا بعد نحو أسبوعين، ثم تنجب ابنة بعد ستّة أشهر من زواجهما… ويطلّقها يونس بعد أن اكتشفت أنّه يخونها في فراش الزّوجيّة مع امرأتين.
وفي الرّياض عاشت جمانة حياة القسوة والتّسلّط والقهر مع أسامة، وبعد عشرة أشهر من زواجها تنجب ابنها سعيدا في البيت الخرب على يد امرأة بعد معاناة مخاض عسير طويل، وبعد مضيّ سنتين في السّعوديّة يعود أسامة وجمانة إلى الضّفّة الغربيّة، وفي أوّل زيارة تقوم بها جمانة إلى عائلتها أخبرتهم أنّها قررت أن تخلع أسامة بسبب ما رأته منه، وما عانت معه. يطلق أسامة جمانة ” أنت طالق يا جمانة” ، وتنتهي الرّواية بشماتة فاطمة بكنّتها جمانة.
نتيجة الحكاية هي أنّ جمانة وصابرين ضحيّتان: الأولى ضحيّة تطرّف يلبس لبوس الشّرع والدّين، والثانية ضحيّة تطرّف يلبس لباس التّحرّر والتّغريب، الأوّل قاسٍ ومتسلّط وقامع وقاتل لمعاني الطّيبة والصّبر والتّفتح، ويتعامل مع المرأة كآلة لتفريغ شحنته الجنسيّة وماكينة للتّفريخ، وتعمل كروبوت بالرّيموت كونترول، والآخر مستهتر يعامل المرأة كدمية يستمتع بها ثم يتخلّى عنها، ويستر فواحشه بالمال.
كلا المنهجين فاشلان ذلك لأنهّما متطرفان، أي أنّ التّطرف مصيره الفشل والخيبة. وبوادر هذا الفشل ومقدّماته كانت تظهر تباعا منذ الصّفحات الأولى للرّواية، فلم يكن أسامة أو يونس يقيم اعتبارا للمرأة كإنسان، بل تعامل كلّ منهما مع المراة كمادة وسلعة للمتعة.
ولكن لماذا جعل الكاتب كلا المرأتين تنجبان، واحدة تنجب ولدا، والأخرى تنجب بنتا؟ جناية التّطرف لا تتوقّف عند جيل واحد، بل إنّ ضحايا التّطرّف ممتدّة ومتوالدة، وهذا تقبيح للتّطرّف يطال حتّى الأطفال الأبرياء. هل سوف يتزوّج سعيد الطفل من جورجيت الطفلة مستقبلا؟
سأحتفظ بهذا السؤال وانا أقرأ الروايات القادمة للسلحوت.
في كلا المنهجين هناك شكل وادّعاء للحبّ، فالتّطرّف لا يعرف الوفاء ولا يعرف الحبّ. المتطرف لا يهمه سوى ذاته، ولا يهمه الآخرون حتى لو كانوا فلذة كبده. أسامة متبجّح بفحولته، ويونس متبجّح بماله وبذخه، وكلاهما تخلّص من زوجته وكأنما كان ينتظر أن تحين تلك اللحظة.
انتهت الرّواية بجملة غريبة مريبة لوالدة أسامة ” أخبر أسامة والديه بما جرى بينه وبين جمانة، فقالت والدته:
لا ردّها الله، وقد فعلتَ خيرا بطلاقها، سنزوّجك صابرين ابنة عمّك، فلديها عشرات آلاف الدّنانير التي حصلت عليها من طليقها.”
هذه الجملة الغريبة ذات دلالات ومعاني، فأمّ أسامة تعرف كلّ شيء عن صابرين، وقالت في حقّها طعنا كثيرا، وتعرف منهج أسامة ومنهج صابرين، فهل أعماها شرّها وحقدها على جمانة وعلى صابرين معا؛ لتفكّر بتزويج ولدها من صابرين؟
هي نفسها، فاطمة، أم أسامة، فسّرت أنّ سبب هذا الزّواج، أو على الأدقّ اقتراحها الزّواج، هو الطّمع بالمال، مال صابرين، فهل غلبت قيمة المال على القيم الأخرى التي تتشدّق بها هذه المرأة الشّرّيرة، سليطة اللسان، الفضّاحة، كما رسمها لنا الرّاوي في مواقفها في الرّواية كاملة؟
وهل أنتظر أن يكون موضوع الرّواية القادمة لجميل السلحوت هو الإعلاء من شأن المال ونتائجه؟
شخصيّات ونماذج وواقع
تعتبر الشّخصية هي العنصر الأساسي في العمل الرّوائيّ؛ لأنّها هي المحرّك الرّئيس للاحداث ولعمليّة السّرد، وهي الفاعل في الصّراع، ولا تكتمل إلا عندما يضع الكاتب نقطة النّهاية في الكتابة، أو عندما ينتهي القارئ من قراءة الكلمة الأخيرة في الرّواية.
ولقد قيل وكتب الكثير الكثير عن الشّخصيّة الرّوائيّة وعن مصادرها وأنواعها وأدوارها وعن علاقتها بالواقع وبالمؤلّف. وما يهمني الآن هو الوقوف على علاقة الشّخصيّة بالواقع وبالمؤلّف من حيث الصّفات والفكر.
استهلّ جميل السلحوت روايته بهذا التّحفظ: “ملاحظة: الأسماء الواردة في هذا النّص متخيّلة، وإن وجد شبيه لها على أرض الواقع فهو محض صدفة.” ص 4.
هذه الملاحظة نهج متكرّر ليس في روايات السلحوت السّابقة فقط، بل في كثير من الأعمال الروائيّة العربيّة، فلماذا هذا التّحفظ؟
ينبعث هذا التّحفظ، وهذه الملاحظة من خشية المؤلّف من أن تتطابق شخصيّاته التي صنعها لفظيّا مع شخصيّات واقعيّة في الحياة، وهي تشير إلى أنّ تلك الشّخصيّات قد التقطها المؤلّف من الحياة الواقعيّة حوله، مضيفا إليها شيئا من الخيال، ومع ذلك ظلّ إحساسه أنّ ما أضافه خياله لم يخرجها من دائرة الواقع لشدّة التصاقها به وتمثيلها له، وبالتّالي فإنّ ذلك يشكّل قلقا أخلاقيّا وقانونيّا للمؤلّف، وهذا ما يدفعه لهذا الاحتراز والتّحفّظ.
هذا يقودني بالضّرورة إلى القول إن رواية الخاصرة الرّخوة، تصوّر الواقع، وتتمثل تفاصيله، وتنبش في خباياه وخفاياه، وتفضح أسراره، وتضع الإصبع على دمامله وجروحه، وتشير إلى ما في ذلك المجتمع من خلل، وما فيه من خصائص ذات طابع إيجابيّ وإن قلّ، وهذا بحدّ ذاته دليل على مدى اطّلاع الكاتب على واقع المجتمع، وما يملكه المؤلّف من قدرات تحليليّة، ومن عين ناقدة لسلوكات ذلك المجتمع وقيمه وأفكاره وتصوّراته، ثم قدرته عل تصنيفها في قوائم أو أطر، ثم قدرته على إلباس تلك المفاهيم والمواقف والقيم والافكار لشخصيّات استلهمها من الواقع، وأضاف إليها ما يجعلها شخصيّات روائيّة تستقلّ بذاتها عن أشخاص الواقع الحيّ. لكنّه قلق من مطابقتها للواقع كليّا.
تحفظ السلحوت ينطلق من الخشية أن تتطابق تلك الشّخصيات، مسمّيات، وصفات، وسلوكا مع أشخاص يعيشون بين ظهرانينا، وليس ذلك فقط، بل حتّى تصوّرا ولغة وعادات وأسلوب حياة.
صحيح أنّ السلحوت يدرك أنّ شخصيّاته هي شخصياّت روائيّة، وهي كائنات ورقية من صنع يديه كما يرى رولان بارت، ولكنّها لشدّة التصاقها بالواقع وتمثيله تكاد تلمسها في الواقع وتراها وتسمعها.
فهل فعلا كان الأمر كذلك في الخاصرة الرّخوة؟
لقد سبر السلحوت المجتمع حوله، وصنّفه، ووضعه في قوالب فكريّة وسرديّة تجعل القارئ يشعر فعلا، وهو يتابع حركة مسرحيّة، أنّه يشاهد حياة حقيقيّة تعيش فيها الشّخصيّات بهذه المفاهيم، وبهذه الأفكار، وبهذه القيم، ولا يكاد يخرج أفراد المجتمع الحقيقيّ عن الأطر والتّصنيفات التي وضعها المؤلّف فيها، بكلّ ما في تلك الأطر من صفات وخصائص. هذه الأطر المحكومة بتصوّرات المؤلف، والتي لا تفلت خيوطها من بين يديه، يتحرّك كلّ منها بحركة محسوبة ومضبوطة بقدر ما يسمح به المؤلف؛ لتؤدّي دورا أو أدوارا موضوعة ومحدّدة سلفا للوصول إلى نتيحة مرسومة مسبقا، بل كأنّ حوافّ كلّ شخصيّة من الشّخصيّات قد نحتت وقُدّت بحدّ السّيف، هو قلم المؤلف، لتمثّل فكرة، ولتجسّد موقفا، ولذلك تستطيع كقارئ أن تتكهنّ من الصّفحات الأولى بسيرورة الأحداث ونتائجها، لأنّ الشّخصيّات قد تقولبت، فالمقدّمات تؤدّي إلى النّتائج، ولن يحدث فرق إلا في التّفاصيل الصّغيرة، فتلك شخصيّات مسيّرة محكومة بقدريّة مخطّط مسبق لها.
اختلاف الثّقافة، واختلاف المفاهيم، واختلاف مصادر المعرفة والمرجعيّات، واختلاف التّوجّهات، واختلاف الطّبقات الاجتماعيّة، واختلاف الأعمار، واختلاف الآمال والطّموحات، واختلاف الأساليب في الوصول إلى الأهداف، واختلاف التّصوّرات عن الحياة والعالم والإنسان والذّات والآخر، تلك التي تحدثتُ عنها فيما سبق، كانت أساس الصّراع الحاد في المجتمع، وهي أسباب الشّروخ العميقة في بنيته، وهي عناصر الصّراع في العمل الرّوائيّ، وهي بمقدّماتها تفضي بالضّرورة إلى النّتائج التي قرأناها.
هذا التّطرف المتشنّج في كلا الاتّجاهين، وهذه الفوضى في المفهوميّة والسّلوك هي المسؤولة عمّا يعاني منه الأفراد في ذلك المجتمع، وبالتّالي المجتمع كلّه، من كوابيس تؤرّقه، وكلّ فرد فيه يأرق ويقلق، وكلّ منهم يعبّر عن أزمته بطريقته، وينهج في الحياة بأسلوبه، فكانت النّتيجة إمّا ان يكون جانيا أو أن يكون ضحية، لأنّ الموازين مختلّة، والعدالة مفقودة، ولا اعتراف بحقوق الآخرين، وتؤدّي السّلوكات إلى كوارث نتيحة تلك الفوضى الضّاربة العارمة، فطلاق صابرين وجمانة كارثة مزدوجة لهما ولطفليهما، وعزّالدّين يقضي منفجرا كمدا وقهرا ليلة زفاف ابنته بدل أن يكون فرحا سعيدا لفرح فلذة كبده، هكذا تحوّلت قرّة العين إلى قاتل من غير أن تدري؛ لأنها انطلقت في عالم ليس لها به جذور. وحياة أسامة رجعت إلى الصّفر، ويونس ضاع فوق ضياعه القديم، ولسان فاطمة يلوك الأعراض ويضرب يمينا وشمالا على غير هدى سوى هدى الشّرّ إن كان للشّرّ هدى، ويكظم الآخرون غيظهم وحسراتهم ويشدّون بمعاصمهم على جراح نازفة.
مرجعيّات هذا المجتمع ومصادر ثقافته وتربيته لا انسجام بينها، ممّا أدّى إلى تلك التّناقضات التي قادته إلى الفشل، إلى مقتله.
واحدة من هذه المرجعيّات هي المفاهيم العتيقة التى عفا عليها الزّمن والتي تنخر في بنية هذا المجتمع وتأكلة كالسّوس والصّدأ، ومثال ذلك التّمييز الاجتماعيّ والتّعامل بفوقيّة مقيتة.
ومرجعيّة أخرى تعود إلى التّراث (أسامة) فلا تستلهم منه إلا شكليّات لا تلائم هذا الزّمان وأهله، بل تقتل الإنسانيّة في الإنسان، وتجعل منه كائنا جبّارا متسلّطا يفرض ما يشبه الموت على من يفترض أن يرعاه ويحفظه ويرقيه، أو تحوّل الإنسان إلى تابع ذليل لا إرادة ولا رأي ولا شخصيّة له (جمانة). ومال فائض عن الحاجة لا نعرف من أين أتى يستغلّ في الحرام وفي انتهاك حرمات الله، وفي الفجور (يونس)، وآخر تائه ضائع على غير هدى سوى هدى الرّغبة (صابرين).
تناقض هذه المرجعيّات أرهق الجميع، وجلب الكوارث والظّلم، وليس ذلك فقط، بل أخذ هذا الظّلمُ، وهذا الفجورُ في سيله العرمرم بذور خير كان يمكن أن تنتج ثمارا طيّبة، فجمانة كانت بذرة خير قضى عليها تطرّف دينيّ، وصابرين كانت بذرة خير خلع فجور المال لباسها الشّرعيّ، وألبسها لباس العهر والفجور وانتهت ضحيّة هي وابنتها كما جمانة وولدها.
فهل فوق هذه الإدانة من إدانة؟ هل بعد هذا الكشف والفضح كشف وفضح؟
يبدو أنّ هذه الرّواية ما زالت تفتح الشّهيّة للحديث.
مصادر معرفية وفكرية
ذكر سابقا أنّ الشّخصيّات في العمل الرّوائيّ كائنات ورقيّة لفظيّة أضفى عليها المؤلّف صفات معيّنة؛ ليقول أشياء معيّنة، ويجعلها تنطق وتتحرّك وتتصرّف من أجل تخيّل مواقف؛ وليجري على يديها أحداثا ذات مغزى. ونتعرّف على تلك الشّخصيّات وصفاتها ممّا يقال عنها، أو ممّا تقوله عن ذاتها، وممّا يستخلص يُستَشفُّ من تصرّفاتها وسلوكها؛ ليعكس صفاتها.
والصّفات لا تلصق بالشّخصيّات الرّوائيّة اعتباطا، بل يؤتى بها لتؤدّي وظائف في العمل الرّوائيّ، ينتج عنها الصّراع الضّروريّ في المنجز الرّوائيّ.
وبالعودة إلى الخاصرة الرّخوة فإنّنا نجد أنّ تلك الشّخصيّات رئيسيّة وثانويّة شخصيّات مُسطّحة، ذلك أنّها كلّها بقيت ثابتة الصّفات طيلة الرّواية، ولم تنمُ ولم تتطوّر بتغيّر العلاقات البشريّة أو بنموّ الصّراع، فملامح تلك الشّخصيّات ظلّت كما هي منذ بداية الرّواية حتى نهايتها، وكان يسهل التّكهنّ بما ستسلكه تلك الرّوايات، وما ستكون مصائرها، فأسامة كان منذ البداية شيخا أزهريّا متشدّدا ومن المتوقّع إلى أين سينتهي في علاقته بجمانة، وكذلك بقية الشّخصيّات.
وعودة إلى مصادر المعرفة والفكر التي شكّلت عقليّة كلّ واحد وواحدة من الشّخصيّات، فهناك مجموعة من الشّخصيّات الثّانويّة والمتفاوتة في ثانويّتها، وتضمّ والد أسامه ووالدته وعمّه عزّالدين وزوجته وأمّ جمانة ووالدها وآخرين، وجميع هؤلاء من مجتمع فلسطينيّ تقليديّ ليس لهم حظّ كبير من العلم والثّقافة سوى الثّقافة الشّعبيّة الموروثة، واليوميّة التي ظهرت من خلال الأمثال والحكم والتّصرّفات الطّبيعيّة المألوفة وممارسة العادات الاجتماعيّة المستقرّة في المجتمع عبر الأجيال، ولا جديد أو مفاجآت في سلوك هؤلاء وتصرّفاتهم سوى ما وجدناه في حفل زواج يونس وصابرين من قيم وعادات دخيلة، تتناقض وما هو مألوف ممّا أثار أصحاب القيم المجتمعيّة التّقليديّة، وكانت تلك السّلوكات مدانة ومستهجنة ومنتقدة، وكان خروجها عن المألوف بسبب الثّراء والتّأثّر بالفكر الغربيّ المنطلق من عقال البيئة المحليّة.
المنظومات القيميّة والفكريّة التي تشكّلت لدى هذه الشّخصيّات عامّة كانت منظومات متوارثة، ومتعارف عليها، في اللفظ، والسّلوك وطريقة التّفكير، وهي تضمّ في داخلها تفاوتا يبعث على صدامات وتناقضات صغيرة ضمن التّناقضات الاجتماعيّة الكبرى، كالفرق بين لطيفة، أمّ جمانة، وفاطمة، أمّ أسامة، والاحتكاكات التي حصلت بينهما. ولكن هناك منظومات فكريّة جديدة، وطارئة، بفعل تفاعلات وعوامل جديدة. من ذلك شخصيّات جيل جديد تأثّر بمؤثّرات وبمنظومات قيم جديدة، وعلى رأس هؤلاء أسامة وجمانة، وصابرين، ويونس ووالده. ومن الشّخصيات البارزة ذات الدور في الرّواية شخصيّة صابرين، ونجد الإيحاء إلى مصادر فكرها التّغريبيّ المنطلق يأتي من معلومة صغيرة وهي دراستها اللغة الإنجليزيّة في جامعة بيرزيت، وكأنّ هذه العلاقة، مضافا إليها علاقتها بيونس ابن الثّراء المفرط، والمتخرّج من الجامعة ذاتها مهندسا، كان مصدرا لكي تتأثّر صابرين بهذا الفكر الغربيّ، فتخلع الحجاب، وتتبنى الفكر التّغريبي شكلا وسلوكا وفكرا. وفي الوقت ذاته أدّى الثّراء الفاحش إلى خروج والد يونس عن المألوف في مهر صابرين، وفي حفل زفافها على ولده يونس.
أمّا جمانة فقد درست اللغة العربيّة في جامعة القدس، وقرأت كتب الأدب العربيّ من القديم والحديث، واطّلعت على آداب عالميّة مشهورة ومؤثّرة، واطلعت على كتب شرعيّة متنوّعة المشارب والتّوجّهات من القديم في كتب الأصول، ومن مؤلّفين إسلاميّين محدثين، وكلّ ذلك أنتج شخصيّة مثقّفة ثقافة واسعة، وأنتج سعة أفق، وسعة في الصّدر، ورغبة في الحوار للوصول إلى القناعات، وأنتج رغبة في الاطّلاع الدّائم، والحرص على معرفة الجديد، بأسلوب راق أخلاقيّا، لا يؤمن بالصّدام بل بالحوار والمنطق والفكر النّاقد، مع رفعة في الحوار وسموّ في الأخلاق، ولكن مع شيء من نزعة سوداويّة حسّاسة (المسخ لكافكا). هذه الشّخصية هي نتاج ما قرأته وما اطّلعت عليه من آداب صنعت منها شخصيّة مؤدّبة بالمعنى الأخلاقيّ والفكريّ، واستشهاداتها أمام أسامة بما اطّلعت عليه من كتب يدلّ على ثقافة واسعة وعريضة ومتنوعة، صقلت شخصيّتها بتلك الصّفات وجعلتها تسلك ما سلكت بسموّ ورقيّ وتهذيب على غير ما فعلت صابرين.
وأمّا أسامة، الشّخصيّة الرّئيسة في الرّواية، فإنّنا نجد فكره يتكوّن من دراساته التي اطّلع عليها، وفي مصادر فكره التي ذكرها بنفسه في إيراد الحجج، وهذه المصادر أسّست على دراسة الشّريعة في الأزهر، ثم الاتّكاء كليّا على كتب السّلفيّة المتشدّدة قديما وحديثا، مثل كتب ابن تيميّة، وكتب المتشدّدين الوهّابيّين المعاصرين وأقوالهم وفتاواهم. كما أنّ أسامة كان يعتمد على نصوص القرآن الكريم والأحاديث النّبويّة الشّريفة بانتقائيّة وقصد، بمعنى أنّه ينتقي من نصوص والقرآن، أو الحديث، أو حتّى آراء العلماء، ما يؤيّد ويدعم فكرة يتبنّاها مسبقا، ثمّ يبحث في النّصوص والكتب والفتاوى عمّا يدعم رأيه المتشدّد المسبق.
أسامة نشّأته فاطمة، أمّه، الشّريرة، الحقود، الغيور، المتهوّرة، وسليطة اللسان، فكأنّما أورثته شبقها، وأوجدت فيه نزعة إلى الفوقيّة والاستعلاء وحبّ السّيطرة والتّسلط، وغرست فيه رغبة في الأنانيّة والتّفرد، ونزعة إلى القسوة، ونزعة إلى الانغلاق، وعزّز هذه النّزعات ما اكتسبه من قراءاته الانتقائيّة، وما وقع تحت تأثيره أثناء وجوده في السّعوديّة من التّأثّر بالفكر المتشدّد القديم والحديث.
كلّ تلك العوامل صنعت منه إنسانا قاسيا، وأكثر ما ظهر ذلك علاقته بجمانة، زوجته، فظهر متسلّطا يحبّ السّيطرة وفرض رأيه، بخيلا شحيحا لا يقبل الحوار ماديّا شبقا، لا يقيم للمرأة اعتبارات إنسانيّة، ولكي يمارس هذه الصّفات كان يقوم بانتقاء النّصوص الشّرعيّة وآراء العلماء والفقهاء الذين تلقن آراءهم المتشدّدة، ولا يتردّد في توجيهها لخدمة غرضه أو إخراجها من سياقها؛ ليدعم وجهة نظره وقمع وجهة النّظر الأخرى بسيف الشّرع وسلاحه.
إنّ إيراد مصادر المعرفة والفكر هذه في الرّواية يدلّ على مخزون اجتماعيّ تراثيّ، وعلى معارف موسوعيّة في الفكر والعلم والأدب لدى المؤلّف، وكان توظيف هذه المتناصّات من أمثال كثيرة جدّا وآراء علماء، ونصوص موفقّا وحققت الهدف الذي جيء بها من أجله في رسم الشّخصيّات وإحداث الصّراع المطلوب للعمل الرّوائيّ، ولم يكن هناك ما يسبّب الخلل الفنّيّ إلا نادرا جدّا حين الإطالة قليلا حول المعلومات الطبّيّة عن العذرية، إذ غلبت على تلك الفقرة نزعة التعليم والتّثقيف.
التصوير

من المتّفق عليه بين النّقاد أنّ الرّواية قادرة على استيعاب الفنون كلها، وصياغتها ضمن قالبها الحكائي، فهي تهضم فنون القول كلّها، بل أصبحت تهضم في أحشائها فنون الصّوت والتّصوير والتلوين… إلخ.
كما أنّه من المتّفق عليه أنّ عالم الرّواية وكينونتها عالم مصنوع باللغة، وتتفاوت هذه العوالم الرّوائيّة تبعا لعوامل كثيرة.
وعودة إلى الخاصرة الرّخوة التي مرّ معنا فيما سبق إشارة إلى بعض الملامح الفنّيّة فيها، وأتوقّف اليوم أمام أبرز ملامح هذه الرّواية، وهي الصّورة والتّصوير، وما يتّصل بذلك من تطوير للصّورة الثّابتة لكي تصبح مسرحا كامل العناصر والأركان.
يعمد جميل السلحوت كثيرا إلى رسم الصّور بالكلمات، ويدقّق في تفاصيل الصّورة وكأنّه رسّام محترف، وكلما قرأت أيّ عنصر في الصّورة تجد أنّه أتى بها لغرض أبعد كثيرا من معاني الكلمات، بل إلى ما ترمز إليه من معاني، ومواقف، وقد طاوعته اللغة بيسر وسهولة في رسم هاتيك الصّور والمشاهد المسرحيّة مكتملة الأركان، حتى ليسهل على القارئ أن يجد الأمثلة في كلّ صفحة من صفحات الرّواية.
يفتتح السلحوت الرّواية بصورة حيّة متحرّكة ولكل كلمة فيها مغزى ومعنى، قال عن عيسى الحماد:” عاد من عمله منهكا، رائحة زيت قلي الفلافل تفوح من ملابسه، ندوب بقايا حروق على ساعديه ووجهه غير الحليق من الزّيت الذي يتطاير من المقلى، حيث يبيع “ساندويشات“ الفلافل لطلاب مدرسة الذّكور التي تبعد عن بيته حوالي خمسمائة متر، جلس على كرسيّ خشبيّ أمام البيت المكوّن من غرفتي نوم، صالون ومطبخ وحمّام. لم يشعر بقدومه أحد من أهل بيته، ولم يسأل هو عن أحد، فقد اعتاد على الجلوس أمام البيت عندما يكون الجوّ ملائما، يمدّ نظره إلى الأفق البعيد، ينظر جمال الطّبيعة، وأحيانا يراقب الغيوم البيضاء المتناثرة في الفضاء والرّيح تدفعها شرقا، يحملق فيها، يرى أنّها ترسم لوحات جميلة لأماكن لا تنمحى من ذاكرته. في ذلك اليوم القائظ، رأى الغيوم تجسّد شكل البيت الذي ولد فيه على شاطئ يافا، رأى المرحوم والده يتشكّل غيمة أمام البيت، تنهّد عندما سمع أذان صلاة العصر ينطلق من المسجد الأقصى” ص٥
إنّها لوحة رسمت بعناية واهتمام، فكم من الأفكار الكامنة في هذه اللوحة؟
إنّها تضم حشدا كبيرا من المعاني نظرا للمفردات الموحية والمنتقاة بدقة؛ لتحمل تلك المعاني الاجتماعيّة والنّفسيّة التي عليها ذلك الرّجل، وذلك عبر مجموعة من لوحات صغيرة تتشكل منها اللوحة الكبيرة من خلال الكلمات. ماذا لو حذفنا كلمة منهكا من الجملة الأولى؟ ستفقد الصّورة رونقها وجمالها وتعبيرها عمّا بذله الرّجل من جهد في عمله طوال اليوم.
هذه الصّورة لا تعتمد على البصر، أو على ما يُبصَر فقط أو يُرى، بل تتشكل كذلك ممّا يرى، وممّا لا يرى من ألوان وأصوات وروائح، وحركة (ندوب، حروق، رائحة زيت، البيضاء، تدفعها شرقا، تنهّد). وهكذا لو اخترنا أيّ مشهد تصويريّ في الرّواية فإنّنا سنجد الألوان والرّوائح والحركة والأصوات تشكلّ عناصر تلك الصّورة فتمنحها الحياة والنّشاط..
وفوق توظيف فنّ التّصوير الفوتوغرافيّ للأمكنة وللشّخصيّات، فإنّ هناك تصويرا لتفاعلات نفسيّة في داخل الشّخصيّة، وهذا مثال على ما يكنّه والد أسامة في نفسه نحو عيسى الحمّاد، بعيد لحظات من خطبته لجمانة: “بعد أن ابتعدوا قليلا عن بيت أبي جمانة، قال أبو أسامة:
الدّنيا آخر وقت، سبحان الله، صدق المثل الذي يقول:“ بيجي للرّدي يوم يتشرّط ويتمظرط فيه، حتّى لو في يوم زواج بنته“، وهذا عيسى الحمّاد، بدل من أن يحمد الله على طلبتنا لابنته، طلب مهلة لاستشارة أهل بيته.” ص ١٢
فهذه صورة مرسومة بالكلمات، كلمات أبو أسامة، تكشف عمّا يدور في رأسه من غطرسة واستعلائيّة وعنصريّة، بل إنّ مفرداته التّصويريّة تعبّر عن مستوى أخلاقيّ واجتماعيّ تنقصة اللياقة والذّوق.
وهذه صورة لجمانة ليلة خطبتها وهي تحاول إقناع والديها بعدم رغبتها في الزواج: “اسودّت الدّنيا في وجه جمانة، استدارت على جانبها الأيسر في فراشها، غطّت جسدها كاملا بما في ذلك رأسها بلحاف خفيف، تركت ارتفاعا بسيطا أمام وجهها لتتنفّس منه، لم تعد ترى أمامها إلّا الحائط، انهارت دموعها رغما عنها، لم تعد تدري لماذا تبكي؟ هل تبكي حظّها العاثر أم ماذا؟ فالزّواج لم يخطر لها على بال”. ص ٢١.
فهذه الصّورة تجسّد معاني وصفات خارجيّة مرئيّة ومُدركة، كما تتضمّن تفاعلات سيكولوجيّة عبّرت عنها مظاهر الشّكل الحركيّ واللونيّ.
أمّا المشهديّة المسرحيّة المستفيدة من عناصر العمل المسرحيّ وتوظيفة فكثيرة جدّا في الرّواية، تلك العناصر التي تتضمّن الأشخاص الممثّلون، والحركة، والحوار والصّراع، كلها مستخدمة وبعناية وبراعة خدمت العمل الرّوائيّ، وحتّى الحوار الذي صيغ بالفصيحة فإنه يسهل تحويره أو قراءته بالعامية ليعبر عن المستوى الاجتماعيّ والثّقافيّ للشّخصيّات.
هذا مشهد مسرحيّ يكشف فيه المؤلف عن بعض جوانب الشّخصيّات، فيوم عقد قران أسامة على جمانة، فسح المجال لهما لكي يتعارفا، فكان ما يلي: “أغلقت أمّ أسامة باب الصّالون خلفها، التفت أسامة إلى جمانة وقال على استحياء:هل تعلمين أنّك الآن زوجتي؟
طأطأت رأسها حياء ولم تقل شيئا.
عاد يسألها: هل تعلمين أنّ الزّوج يقبّل زوجته؟
فطأطأت رأسها مرّة أخرى ولم تنبس ببنت شفة. وضع يده على رقبتها وطلب منها أن تقبّله، فلم تلتلفت إليه، أدار وجهها إليه وقال لها:
ما أجملك! سبحان الخالق الذي خلق فسوّى، ثم قال وهو يهوي بشفتيه على شفتيها:هاتان الشّفتان حان قطافهما.
شعرت باختناق وهو يطبق بشفتيه على شفتيها، شعر ذقنه الطويل يغطّي عنقها، يده اليمنى تحيط برقبتها، مدّ يده اليسرى إلى صدرها فردّته بيدها اليمنى وهي تلهث خائفة.
كان متوتّرا أطلق شفتيها للحظات وسألها وهو يلهث:
لماذا لا تقبّلينني كما أقبّلك، فالقبلة حقّ للزّوجين؟
لم يجد عندها جوابا، فعاد يطبق بشفتيه على شفتيها، نظرت إلى وجهه باستغراب، شعرت بقلق بالغ، حزنت على نفسها، ولم تستوعب طريقة تعامله معها، حاول أن ينزّل حجابها وهو يقول:
دعيني أرى شعرك.
لكنّها صدّته قائلة: لن ترى شعري قبل زفافنا.
فردّ عليها بصوت منخفض وغاضب:
أنت الآن زوجتي.
قالت مستاءة: لن أكون زوجتك قبل حفل الزّفاف، وإشهار هذا الزّواج.
وقفت في محاولة منها للهروب منه، لكنّه أمسكها من ذراعها وضمّها إلى صدره بقوّة، وعاد يطبق على شفتيها بشفتيه، وقال لها:
سأكون سعيدا جدا بك، فجمال وجهك يأسرني، وقامتك أقصر من قامتي ببضعة سنتيمترات، وهذا يعني أنّني سأحني رأسي قليلا عندما أقبّلك، وهنا سمعا طرقا خفيفا على باب الصّالون، فأسرع كلّ منهما إلى مقعده، وعندما تكرّر طرق الباب قام بفتحه قليلا وإذا بوالدته أمامه تقول باسمة:
جئتكما بفنجاني قهوة، أمسك الصّينيّة من يد أمّه التي قالت له ضاحكة:
إهنأ بعروسك فلن يطرق بابك أحد.
قدّم فنجان قهوة لجمانة وهو يقول:
تفضّلي يا سيّدة الجمال..
فردّت عليه عابسة:أنا لا أشرب القهوة.
فعاد يسألها: هل تشعرين بغربة وأنت معي وحيدة في غرفة مغلقة؟
فردّت عليه بجرأة: طبعا، فأنا لا أعرفك ولم أعتد عليكَ.
رشف قليلا من فنجان القهوة وسألها:
وهل تعرفين غيري ومعتادة عليه؟
نظرت إليه نظرة احتقار وسألت وهي تقف في محاولة منها للخروج:
هل تطعنني بشرفي من الآن يا….؟ ولم تكمل، بينما انهارت الدّموع من عينيها.
ابتسم وهو يقول: أعوذ بالله، لكنّني أستفزّك كي تجلسي في حضني!” ص39-41. هذه المشهديّة بلغتها البسيطة السّلسة تكثر وتتعدّد في الرّواية؛ لتكشف عمّا تفكر به كلّ شخصيّة من الشّخصيّات، دون أن يشغل الكاتب نفسه في الحديث عنها، بل يجعلها تكشف عن صفاتها وفكرها ومشاعرها بذاتها، وكأنّه، أي الرّاوي، ليس موجودا أبدا، فالشّخصيّات تتحرّك، وتفعل، وتتحدّث وتنفعل وتتفاعل بعيدا عن عين الرّاوي المختفي خلفها.

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات