رواية الليلة الأولى وهي الجزء الأول، للكاتب المقدسيّ الكبير جميل السلحوت، إصدار مكتبة كل شيء حيفا، 2023، تصميم شربل الياس، لوحة الغلاف للفنان التشكيلي الأديب محمود أحمد شاهين.
تصوّر هذه الرواية الواقعيّة التخلّف والجهل الذي يعيشه بعض الناس في مجتمعنا، وخاصة في ضواحي القدس، حيث يؤمن عامّة الناس بالسحر والشعوذة ويلجؤون الى الفتّاحات والفتّاحين لفك السحر وحلّ مشاكلهم.
وقد وقعت أسرة حمدان في شباك الفتّاحة مبروكة، وذلك بعد زواج ابنه موسى من فتاة أحلامه ليلى، لكنّه عجز عن معاشرتها في الليلة الأولى؛ وخجل من والدته وحماته حين قدما للاطمئنان على عذرية ليلى وفحولته؛ وذلك من خلال فحص ملابسها الداخلية.
وجد موسى نفسه في امتحان يوميّ، لكنه كان يفشل فيه؛ حتى بات حديث العائلة والبلدة؛ فاضطرت والدته للجوء الى الفتاحة مبروكة، وهي دجالة ونصّابة تحتال على الناس وتأخذ نقودهم وتوصيهم باتباع بعض الارشادات والوصفات التي تتسم بالقذارة والبعد عن العقل والمنطق، اضافة الى كتابة الحجاب الذي تدعي أنّ الجن يحضره لها.
أوصت مبروكة عائشة والدة العريس موسى، وربيحة والدة العروس، بتنفيذ وصفة غريبة للعروسين، كما أوصت بضرب ليلى ليخرج الجن من جسدها، وقد همّ والد ليلى وزوجته، بضرب ليلى؛ لولا اعتراض أخيها عمر الذي ثار على هذه الخزعبلات، وذهب بنفسه الى بيت مبروكة ليضربها، وهناك اكتشف أنّ في بيتها خليلًا لها، فكشف بذلك ألاعيبها وخزعبلاتها، وتسترها بالدين، وضربها بالخيزران هي وخليلها.
ورغم لجوء والد ليلى الى الشيخ واستفساره عن موضوع الشعوذة وجواب الشيخ القاطع بالحديث النبوي:” من أتى عرّافا أو كاهنا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد”. وبالآية القرآنية من سورة النحل:” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . إنما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون “، ورغم النصائح التي وُجّهت الى والد موسى بأخذ ابنه الى الطبيب، إلّا أنه رفض مدعيًّا أن ابنه ليس مريضا. أما ليلى فقد حاولت اقناع والدتها وحماتها بعدم تصديق مبروكة قائلة :” كيف تصدقون امرأة عاهرة محتالة كهذه”؟ ص 99. ثم قالت لأمها:” رزق النصابين على الهبايل والكل رزقه على الله”. ص 99. يعطي والد ليلى لموسى مهلة لمدة سنة وهي بوجب الشرع، فإذا لم يتمكن من معاشرتها يحلّ لها طلب الطلاق. يستمر موسى بالمحاولات مع زوجته دون جدوى. فيقرر الهرب و السفر خارج البلاد .
كذلك الفتاح أبو ربيع الذي كان يعاشر النساء؛ بحجة اخراج الجني الكافر من أرحامهنّ. وقد كشفت ألاعيبه الشابة غادة، وهي فتاة ساحرة الجمال، أحبت سميح وأقامت معه علاقات جنسية في الحقل، وحين كان يأتي لخطبتها، كان والدها يرفض بحجة صغر سنّها، لكنّه في الواقع كان يستغلّ ابنته في العمل في أرضه، لكن سميح لم ييأس وأرسل والديه لخطبة غادة، وحين عرفت زوجة عم غادة بطلب أهل سميح بخطبة غادة، سارعت هي وزوجها الى بيت غادة وطلباها لابنهما سعيد.
وافق والد غادة على تزويج ابنته من ابن أخيه دون أخذ موافقة غادة. فاضطرت للتظاهر بالجنون، فأحضروا لها أبا ربيع الذي ادعى أن جنيًّا مسكون فيها، وطلب الاختلاء بها لإخراجه من جسدها، وحين كشف لها أنها ليست مجنونة وانما تدعي ذلك؛ طلبت منه المساعدة ليخلّصها من سعيد، فطلب مقابل ذلك معاشرتها، وقد أقنع أبو ربيع أهل غادة أن الجني سيخرج من رحمها لذا لن تكون عذراء عند الزواج، وافق الأهل على ذلك فالمهم بالنسبة لهم سلامة ابنتهم. عندها طلب من الجميع مغادرة الغرفة؛ حتى يُخرج الجني من رحمها، لكن غادة رفضت أن يمسها، وطلبت منه مغادرة البيت قبل أن تفضح أمره.
السرد في الرواية:
اتّبع السلحوت أسلوب السرد الذي يُعرف بالرؤية من الخلف، وقد بدا لنا الراوي السارد كليّ العلم والمعرفة بشخصيات الرواية، فهو يعرف معتقداتهم، ما يجول بأفكارهم، نفسياتهم، وسلوكياتهم، وقد حرص أن يقدّم الأحداث كشاهد من منظور بعيد، دون أن يبدي رأيه فيها، أو يتدخّل في تغيير أحداثها، وقد حافظت الرواية على الخصائص الأساسيّة العامّة في بنيتها الفنّيّة، من حيث قبول الزمن التاريخيّ الذي يعتمد على تعاقب الأحداث بصورة متتالية ومنطقيّة.
اللغة في الرواية:” تشكّل اللغة في الرواية الجانب الأساسيّ في رسالة الإبلاغ، وتتفاوت مستويات اللغة في السرد بتنوُّع الشخصيّات فيه، وبهذا يكون على الكاتب الروائيّ استخدام جملة من المستويات اللغويّة التي تناسب أوضاع الشخصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فقد تتضمّن الرواية العالم والطبيب والسياسيّ والعامل والسائق ورجل الأعمال الخ…، وعلى الكاتب استخدام اللغة التي تليق بكلّ من هذه الشخصيّات. وقد اجتهد بعضٌ من الروائيّين في تطويع اللغة لجعلها لغة الحياة العامّة والحياة اليوميّة في أبسط مستوياتها وأدناها، وفي استخدام بعضٍ من الألفاظ من الحياة اليوميّة. ( مرتاض،1998، ص. 104.)
وقد أبدع الكاتب جميل السلحوت في تطويع اللغة، فتارةً نجدها فصيحة خالية من الاستعارات والتعابير المجازية، وتارةً نجدها عاميّة تمتزج بالتناص وآيات قرآنية وأحاديث نبويّة وأمثال شعبية؛ لتتماشى مع ثقافة الشخصيّة وتضفي المزيد من الواقعية عليها. من هذه العبارات مثلا:” بلوى أهون من بلوى، والكساح أهون من عمى”. ص 63. :” والله حسكة وسمكة عظمة اللي تطلع روحك”. ص 63. ” يلعن اليوم اللي شفتك فيه” ص 64. :” لكن المكتوب على الجبين بتشوفه العين” ص 72. كما تخلّت اللغة حوارات خارجية بين الشخصيات وحوارات داخلية، لكن الحوار الخارجي (ديالوج) طغى على الحوارات الداخلية(المونولوج).
ورغم واقعية الرواية إلّا أنّ بعض سمات الحداثة قد تواجدت فيها، مثل الحوارات الداخلية والاسترجاع. كما في الأمثلة التالية:” تذكّر موسى عندما خطب ليلى أنّه لم يعد لديه صبر لانتظار حفل الزفاف، الذي تقرّر بعد الخطبة بثلاثة أسابيع”. ص 24.
تسترجع أم موسى ليلة دخلتها، ابتسمت عندما تذكّرت حماتها وهي توصي ابنها:” عندما تنتهي من مهمتك افتح الباب؛ لنطمئنّ عليك وعلى عروسك”. ص 14.
وقد لفتني في هذه الرواية الدور الهامّ الذي ألقاه الكاتب على المرأة سلبًا وإيجابًا. وسأتعرّض في عجالة إلى الشخصيات النسائية في هذه الرواية.
يقسم إ. م. فورستر، المشار إليه في مرتاض (2002)،الشخصيّات الروائيّة إلى شخصيّة معقّدة متعدّدة الأبعاد، وهي الشخصيّة المدوّرة التي تشكّل عالمًا كلّيًّا ومعقّدًا، وتتمتّع بمظاهر كثيرًا ما تتّسم بالتناقض، فهي لا تستقرّ على حال لكثرة تقلُّبها، كما تتميّز بقدراتها العالية على تقبُّل العلاقات مع الشخصيّات الأخرى والتأثير فيها، إذ هي تملأ الحياة بوجودها؛ وإلى شخصيّة مسطّحة وهي البسيطة التي تمضي على حال واحد، فلا تتغيّر في مواقفها وأطوار حياتها.( مرتاض، عبد الملك (2002)، في نظريّة النقد، الجزائر: دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، ط. 2. ص. 88-89.).
الفتّاحة مبروكة: امرأة نصّابة؛ تدعي الايمان والتقوى في حين هي عاهرة وزانية، تمارس السحر والشعوذة، وتضحك على الناس، وتأخذ نقودهم. وهي في الرواية شخصيّة مدوّرة ؛ تمتلك قدرات عالية في التأثير على من حولها، والتأثير على أحداث وشخصيات الرواية.
ربيحة: والدة العريس موسى، ذات شخصيّة قويّة، تؤثر على زوجها وأولادها، بل إنّ ابنها موسى لا يجرؤ على مخالفتها، فكان يذعن دوما لتعليماتها وأوامرها. وهي تبدو ساذجة تؤمن بالخرافات والشعوذة. وكان دورها سلبيًّا إذ تعاملت مع كنّتها ليلى بجفاء واتّهمتها بأنّها هي المسؤولة عن تقصير زوجها، كما كانت تلزم ابنها بالانصياع لها. ويمكن اعتبارها شخصيّة مدوّرة بسبب تأثيرها الكبير على زوجها وابنها وعائلتها.
عائشة والدة العروس ليلى: امرأة ساذجة سطحيّة، تؤمن بالخرافات والسحر، بل إنّها حاولت إقناع زوجها بضرب ابنتهم ليلى ؛ لطرد الجن الذي يسكنها ويمنع زوجها من الاقتراب منها، وهي في الرواية شخصية مسطّحة.
سعديّة: تتصف بالسذاجة والجهل الكبير، فقد سمحت لأبي ربيع بمعاشرتها ؛ كي يطرد الجن من رحمها، وبعد ذلك قالت في نفسها:” والله لولا إنه علاج لقلت إنه زنا في وضح النهار”. وهذا يدلّ على مدى غبائها وسذاجتها، وهي أيضا شخصية مسطّحة.
ليلى العروس: اتصفت ليلى بالذكاء والحنكة وقوّة الشخصيّة، فهي لا تؤمن بالسحر والشعوذة، وحاولت نهي والدتها وحماتها بعدم الانصياع للفتاحة مبروكة؛ لأنها تراها دجّالة ونصّابة. كما تتصف ليلى بالصبر فقد احتملت وضع زوجها سنة كاملة، وكانت دائما تحاول التقرّب منه وتشجعه على الدخول بها؛ لكنه لم يفلح. ورغم ذلك كانت تبدي ليلى قوة وصلابة أمام الناس، فلم تكترث لكلامهم، وكانت تتصرف بشكل عادي معهم دون خجل أو توتّر. ورغم وعي ليلى إلّا أنها لم تبدُ في الرواية ذات شخصيّة مدوّرة؛ فهي لم تنجح في التأثير على زوجها ولا في إقناع حماتها ووالدتها بصدق وجهة نظرها في موضوع الشعوذة والسحر.
مريم: لا تقلّ سذاجة وجهل عن عائشة وربيحة وسعدية، وقد بدت شخصيتها مسطّحة، فقد توجّهت مريم الى مبروكة لتطلب النجدة بعد أن ساورتها الشكوك في زواج زوجها من ابنة خاله الأرملة، فطلبت مبروكة خمسين دينارا، لكن مريم لم تملك المبلغ؛ فوضعت عندها قلادة ذهبية(10 ليرات ذهبية) رهينة، وهي أكثر بكثير من المبلغ الذي طلبته مبروكة، وقد وصفت لها مبروكة وصفة غريبة مكوناتها مواد نجسة وطلبت أن تسقي زوجها من هذا الشراب؛ فشعر بغثيان صاحبه تقيّؤ ودخل المستشفى وتبين أنّ لديه تقرّحات في المعدة وتسمّم.
غادة: تتصف غادة بالقوّة والذكاء والحنكة، وهي ابنة مطيعة لوالدها، تساعده في الفلاحة حتى أنه اعتمد عليها أكثر من اعتماده على أولاده الذكور. تخلصت غادة من ابن عمها بالحيلة، حيث تظاهرت بالجنون، كما أنها تمكّنت بفضل دهائها من جعل الفتاح ابي ربيع، يحلّ مشكلة فقدانها لعذريتها بحجة إخراجه الجن من رحمها، وبذلك فإنّ الجنيّ يفضّ بكارتها حين يخرج. والأهم من ذلك، أن غادة كشفت نذالة وكذب أبي ربيع، وطردته من البيت، دون أن تسمح له بمسّها، وهي في الرواية تمثّل الشخصية المدوّرة المؤثرة التي ساهمت في تغيير أحداث الرواية لصالحها.
تمثل غادة وليلى جيل الشباب الواعي الذي يدحض الخرافات والسحر، و يؤمن بالعقل والمنطق، وبما أن المرأة هي من تربي الأجيال؛ لذا فإنّ الأمل موجود بتربية جيل واعٍ يميّز بين الشعوذة والمنطق، بين الايمان والدجل، وعليه فإنّ الكاتب يعوّل على المرأة الشابّة بإحداث تغيير جذري في الكثير من المتقدات السائدة في مجتمعنا و التي لا تمتّ إلى الواقع والمنطق بصلة.
مبارك للكاتب جميل السلحوت هذه الرواية الواقعيّة الشائقة، ونحن في انتظار الجزء الثاني من الرواية قريبًا.