ديوان”أشواق تشرين” لروز شعبان في ندوة اليوم السابع

د

القدس: 10-3-2-2022 ناقشت ندوة اليوم السابع المقدسيّة عبر تقنية “زووم”  ديوان “أشواق تشرين” للدكتورة روز اليوسف شعبان، الصادر عام 2021 عن دار “أ.دار الهدى ع. زحالقة“، ويقع الديوان الذي قدّم له الكاتب شاكر فريد حسن في 157 صفحة من الحجم المتوسّط.

افتتح الأمسية جميل السلحوت فقال:

الدّكتورة روز اليوسف شعبان أكاديميّة فلسطينيّة من بلدة طرعان في الجليل الفلسطيني، وهي أكّاديميّة تحمل شهادة “الأستاذيّة” في الأدب العربي، وتعمل مديرة مدرسة. وقد عرفتها ككاتبة قصص للأطفال، وهذه هي المرّة الأولى التي أقرأ لها ديوانا شعريّا، وهو ديوانها الثّاني، مع أنّني قرأت لها من قبل بعض القصائد على صفحات التّواصل الإجتماعي.

ومن خلال مواظبة شاعرتنا منذ عدّة أشهر على حضور أمسيات ندوة اليوم السابع المقدسيّة الأسبوعية عبر تقنيّة زووم، انتبهت لعمق ثقافتها، وسلامة لغتها، وعندما قرأت قصصها للأطفال تأكّد لي ذلك.

ومع أنّني أطالع الكثير من الشّعر لشعراء كثيرين، وأتذوّق الشّعر وأطرب له، إلا أنّي أتهيّب من نقده، فللشّعر مهابة لا أرتقي إلى درجة القفز عنها.

ومع ذلك فقد قرأت ديوان شاعرتنا مرّتين، مرّة للإطّلاع وحبّ المعرفة، والمرّة الثّانية للمتعة والتّمعن، وفي القراءة الثّانية شعرت بمتعة وكأنّي أقرأه للمرّة الأولى.

وقد وجدت في هذا الدّيوان أنّني أمام شاعرة موهوبة، تملك لغة شاعريّة سلسة، فصيحة سليمة، فقصائد الدّيوان تنضح بصدق العاطفة، بعيدة عن التّصنّع، وهذا يعني أنّني وجدت نفسي أمام مبدعة موهوبة، تعرف كيف تختار كلماتها الرّقيقة، فتعبّر بأريحيّة تامّة عمّا يجول في خاطرها، فتأتي قصائدها زاخرة بالموسيقى والإيقاع حتّى أنّ بعضها قصائدها راقصة غنائيّة مثل قصيدة “عزم وآمال” ص 63. ورموز قصائدها شفيفة لا تحتاج إلى كثير من العناء؛ ليفكّ القارئ الجادّ ما ترمي إليه الكاتبة.

وهذه العجالة لا تغني بأيّ شكل عن قراءة الدّيوان والتّمتّع بجمالياته.

وطتبت ديمة جمعة السمان:

ديوان “أشواق تشرين” بلسمٌ يرسم البسمة على شفاه العاشقين

ديوان يضم اثنين وأربعين قصيدة بعناوين متنوعة أحسنت اختيارها، تهف فيها رائحة أشواق الخريف، تنام على حروفها قطرات النّدى، تنعشها فتدب فيها الحياة، لتكون بلسما يرسم البسمة على شفاه العاشقين، ويزيل الصدى عن قلوب المحبين.. وتدفع الدم في شرايين يبّسها اليأس وشحّ عطاء العاطفة.. تطير بالقارىء في سماء الخيال، يحلّق سعيدا، لا تسعه الدّنيا.

نصوص تحمل عنوانين رئيسين: الحبيب والوطن، وزّعتها باعتدال.. وأعطت كل ذي حق حقّه.

تغزل كلماتها من مشاعر وأحاسيس متدفّقة، لا تعقيد فيها، تنساب كالماء ناعمة، تسمع هديرها فتعيش لحظات هدوء، تتفاعل مع الطّبيعة البكر الخالية من شرور الحاقدين.

كلمات صادقة لا تكلّف فيها. تنتقي شعبان مفرداتها انتقاء المتمرسين، وتحسن وضعها حيث يجب ان تكون لتعطي المعنى الأكثر تأثيرا.

ديوان قدّم له الكاتب شاكر فريد حسن، فأحسن تقديمه. وفي ختام كلمته تنبّأ للكاتبة شعبان مستقبلا شعريا وأدبيا بما تملكه من موهبة وثقافة وشاعرية وصفاء روحي وقيم إنسانيّة.

وقال محمود شقير:

حين نتأمّل قصيدة “أشواق تشرين” التي حمل هذا الديوان الشعري عنوانها، سنجد أنّ أبرز العناصر التي تضمّنتها القصيدة مبثوثةٌ في مجمل الديوان، وربّما لهذا السبب كان اختيار عنوان القصيدة ليكون عنوان الديوان.

أقصد هنا الاحتفاء بالطيبعة وبكل ما تجود به من خير وعطاء، حيث الفضاءُ المزهر والريح والمطر والنعناع والحبق والعنّاب والزهر، وأقصد كذلك علاقة الحب التي تربط المرأة بالرجل، حيث القلبُ المزهر والتوق والتراتيل والدمع والوجد والوله والأشواق.

غير أن هذه العلاقة وما تزخر به من تفاصيل لا تحدث في فراغ، فهي محكومة بمكان موصوف في القصيدة على نحو يبشر بالخصب والنماء، وبزمان هو زمان الخريف الذي يشي بنهاية ما لكي تفسح هذه النهاية في المجال لبداية جديدة أو لتجدّد مأمول برغم الصعوبات. نقرأ في القصيدة:

“وتلك الساعة تُنذرُني

مضى الزمان!! فهل تُقْبِل؟”ص21

ونقرأ:

“فهل تشرينُ

يحملُ لي

عطرَ فؤادِكَ الأندر؟” ص21، 22 .

وهكذا، فإن الشاعرة تنسج بلغة جميلة رؤيتها للوطن وللحبّ ولكل ما يجعل الحياة أكثر سموًّا ورفعة وجمالًا، وتوظّف موجودات الطبيعة وأشجارها وزهورها ونباتاتها لبلوغ غايتها النبيلة، وتجعل من الرومانسية التي تتعالى على الهموم اليوميّة المشخّصة سبيلها لتجنّب خشونة الحياة، ولبلوغ المرغوب فيه الجدير بالتأمل فيها، وتحرص أثناء ذلك على توفير الإيقاع الذي يعزّز الغنائيّة في الديوان، وإنْ كان في بعض الأحيان يوقع الشعر في ارتباك القافية المحشورة قسرًا في غير مكانها الصحيح، لنقرأ ما يلي على سبيل المثال:

“زرعنا في بوادينا

بذور الخير والكينا” ص64

(الخير مفردة عامة تلتها مفردة الكينا الدالة على شيء مشخّص، فلماذا الكينا وليس الزيتون مثلًا؟)

وكذلك:

“في الوادي ورودٌ وأقمارٌ سيّارة

وأطفالٌ يعبثون بجدائلِ أمهاتِهم

يرضعون الصَّبرَ بهمَّةٍ جبّارة” ص70

(مفردة جبّارة لا تتلاءم مع رقّة الأطفال وعبثهم بجدائل أمهاتهم.)

لكن ارتباك القافية في مواقع محدودة في الديوان لا يحجب عن الأنظار تلك اللوحات الجميلة العابقة بالجمال والشوق والأمل، وبحب الحياة وعيشها حتى الثمالة.

لنقرأ ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

“سأرسُمُكِ زهرةً من التُّوليب

تزهو على وشاحِ القمر

تُغدقينني بعطرٍ

يفوقُ كلَّ عطورِ البشر

تُعمّدينني بنورٍ

يُضيءُ ظلامي

إذا ما البدرُ ناجى

قلوبَ العاشقينَ

عند السّحر.” ص81

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

مجموعة نصوص وأُخرى قريبة للقصيدة النثرية، تمزج شعبان عاطفتها تجاه الوطن والحبيب بالطبيعة والأعشاب والنباتات،وتحفظ الذاكرة الفلسطينية، وتستحضر الماضي والتراث، فتنزف عاطفتها بين الحنين والانتظار وبين الأشواق والغياب. فنجد في “أشواق تشرين” أن الكاتبة توظف الأعشاب للتعبير عن مدى شوقها لغياب الحبيب، ‏تقول :” أجدلها بأشواق من النعناع والحبق”. ‏ومن ناحية أخرى توظف الأعشاب والنباتات في علاقة الفلسطيني وتثبيته بأرضه، تقول في”لم أرحل”: ‏ما زال أنفي عابقا ‏بشذى النعناع والزعتر… ‏ما زالت رائحة الهال ‏عابقة في أوردتي، ‏وفي علاقتها مع الحبيب تصور حالة العاطفة الجميلة التي تمتزج بالطبيعة بصورة رقيقة، ‏تقول في “شجرة العناب:” ‏يجعلني فراشة تغازل الغمام ‏تراقص النجوم… تعانق اليمام. ‏كما وتزخر مفردات الطبيعة في أغلب النصوص وتتكرر كثيرا خاصة الجداول، وهذا يشير إلى تعلّق وحب الكاتبة للطبيعة، وكيف لا والجليل يزهر بجمال فلسطين الخصب،(المطر، الورد، الغمام الغيث، السماء، الجداول، الأرض، وكروم العنب واللوز ،التفاح، البحر،البلابل الطائر؟) ‏ ‏وتوظف الكاتبة حفظ الذاكرة الفلسطينية في نصوصها من خلال استرجاع الزمان وذكريات الرّحيل والشتات، وتؤكد على مدى ارتباطه بالأرض وحق العودة بأسلوب تصويري ‏تقول في ” لم أرحل”: ‏ ‏ما زالت ذاكرتي تجوب الحقول… ‏تقبل السنابل… تقطف حبات التين. وتقول في “ميلاد وسفر:” هناك ضعت وضاع مني جواز السفر. كما نجد حضور الزمان بشكل فعّال وبكثافة، فالزمان ينتقل بين الحاضر والأمس بين لحظة النكبة وما بعدها ويحمل معه الأشواق،وهو الانتظار والقلق والوجع” الغروب، الشروق، الشمس، السحر المساء، الفجر) والقارىء لنصوص الكاتبة يلاحظ وجود مفردات الآلات الموسيقية، فهي تتناغم مع الطبيعة والعاطفة. مثل:الرّباب، قيثارة، عزف، كمان، مزامير، النايات، ولحن. ونجد المفردات التي تعبر عن الاشتياق مثل: حنين-شوق- يتوق،كما ونجد الألفاظ الدينية- تعمّد، توضأ. استخدمت الكاتبة أساليب النفي للتأكيد على حق الفلسطيني وعدم نسيان بلاده وأرضه، فتقول في”من قال إنني حلم- لم أكن قصة من قصص علاء الدّين… ولا طائرا مهاجرا فوق الفرات والنيل …ًإنما زنبقة أنا نبتت في أرض البرتقال الحزين”.  كما أكثرت في أسلوب الاستفهام والتساؤلات ومخاطبة الذات والغائبين المهجرين والجناة، والحكام. وكانت الأفعال المضارعة تتحرك بغزارة في النصوص؛ لتصف انفعالات الكاتبة وعاطفتها تجاه الوطن والحب، وقد ظهرت عاطفتها تجاه المكان(الأرض)بصورة جميلة خاصة في “جذوة المكان” حيث ظهرت صور التأنيس، فظهرت حبيبات الزيتون تهمس وتهلّل وتغني وتدثر الكاتبة، وتقول أيضا في تصوير عاطفتها الجياشة القوية تجاه المكان حيث برزت الأرض هي الأمّ والكاتبة هي الرضيع:” يجذبني المكان إليه أتثبت في جذوره أحضنه بلهفة رضيع” ورغم العاطفة الحزينة والحنين والأشواق نشمّ رائحة الأمل والحب والخير في بحثها عن قنديل زيت لمن يشعل وطنها، فنجد أنها أيضا تنتظر الأيائل التي تساندها وهي رمز للروح والقوة والأمل؛ لتبدد الحزن والقلق بالفرح.

وكتبت خولة سالم العواودة:

ديوان شعري رقيق ، يحمل في ثناياه وجع الوطن واشواق الحنين ، تكاد تقرأ في كل قصيدة تقريبا ألم المغترب قسرا وشوقه وحنينه ولوعة حرمانه وتشرده في الفيافي بعيدا عنه .

القصائد كلها وبلا استثناء تعبق برائحة الوطن فالزيتون والحبق والياسمين والزعتر وكل ما جادت به الطبيعة حاضر في خلد الشاعرة، فيكاد قلمها لا يغفل جزئية إلا وقد أتى بها في صورة شعرية تدغدغ الشعور وتبعث الأمل من جديد .

الحس القومي طاغ، فقد تكرر ذكر بغداد ودمشق واليمن ومكة والقدس بحيث ترتبط كل الأماكن معا في ذاكرة واحدة وكأن الشاعرة لا تريد أن تقرأ وطنا واحدا، وإنما أوطان متحدة في وطن يتسع الجميع .

لغة شاعرية راقية، سلسة، بعيدة عن التكلف، الصور الشعرية غاية في الرقة، عاطفة وطنية صادقة تكاد تطغى على معظم القائد إن لم تكن جميعها .

وقالت رفيقة عثمان أبو غوش:

يُعتبر هذا الدّيوان الثّاني للكاتبة، ويتراوح عدد القصائد النثريّة 42 قصيدة؛ وتضمّن الإهداء لروح والد الكاتبة.

 من قراءتي لهذا الدّيوان، شعرت بمتعة وسلاسة القراءة؛ نظرًا لسهولة اللّغة وجزالة الألفاظ، وتعتبر اللّغة من نوع السّهل الممتنع؛ وقصائد الدّيوان معظمها قصائد نثريّة بلغة شاعريّة منسابة. انسجمت الكاتبة (الشّاعرة) روز مع الطبيعة وتناغمت قصائدها مع الأزهار وعطرها، بكافّة أشكالها وألوانها؛ كما ورد بقصيدة “تسألينني في سهادي” صفحة 82، تمّ ذكر الأقحوان، والبيلسان، وزهر اللّوز، والسّوسن، والياسمين؛ كذلك في قصيدة “ياسمين بسطت بتلاتها برفق” صفحة 38.

  طغت على معظم القصائد النغمات الموسيقيّة، والمقامات، والتراتيل، وذكر أسماء بعض الآلات الموسيقيّة؛ ممّا يبعث على الفرح والانبساط في النّفس، وشحن الطّاقات الإيجابيّة بروح القارئ. “نهاوند ترتيلة”، “قيثارة تداعب أوتارها”. هذا الاندماج مع الموسيقى، وتغريد العصفير، وسحر الطّبيعة الخلّاب؛ ينمّ عن الرّوح الشفّافة والصفّاء الرّوحي الّذي تتمتّع بها شاعرتنا روزاليوسف. كيف لا ولاسمها نصيب من الأزهار. تعني الوردة باللّغة العربيّة.Rose

  ظهرت العاطفة جليّة وصادقة، عاطفة الفرح والانتماء للوطن، كما ورد صفحة 89 “سلام لك يا وطني” من الشّتات والمهجر، والقصيدة النثريّة “لم أرحل” صفحة 27. تغنّت كاتبتنا بالمكان، كما ورد صفحة 58 “أنا وأنت طائران في المدى”، على بساط الرّيح انتقلت ما بين بغداد، وصنعاء، ودمشق، وزهرة المدائن، وأسوار عكا. حلّقت الكاتبة عاليًا بين الدّول العربيّة؛ تقديرًا وانتماءً لعروبتها الصّادقة.

  لم تنسَ الكاتبة تقديم نصيحة لبنات جنسها، كما ورد صفحة111 “كوني كما شئتِ” “كوني كما شئتِ أن تكوني، قيثارة.. ديمة.. نسمة.. زنبقة.. صلاة؛  لكن لن تكوني أرجوحة لكل طائر أو عابرٍ فاتن”. هذه القصيدة أعجبتني جدّا، خاصّة بأنها تزامنت مع يوم المرأة العالمي، والّتي تساند المرأة بالحفاظ على كرامتها، وحريّتها، واستقلاليتها.

تغنّت الكاتبة بالسّلام، ونبذ العنف، كما ورد صفحة  143 بقصيدة “لا مكان”؛ لا مكان للقذائف.. لا مكان للصّواريخ والحجارة والغربان.. لا مكان للرّصاص والقتال.. لا مكان للقتل والتّدمير والإذلال… فلا مكان هنا سوى لتغريد الطّيور والعنادل.”

    اختارت الكاتبة عنوان الدّيوان “أشواق تشرين”؛ لماذا تشرين بالذّات؟ لو تأمّلنا بعض المناسبات والذكرى؛ لوجدنا بأنّ مناسبات عديدة وهامّة تتصادف ذكراها بشهر تشرين الثّاني؛ فمثلًا اليوم الخامس من شهر تشرين الثّاني، “وهو ما يُسمّى بالأسبوع الدّولي للعلم والسّلام، أمّا اليوم السّادس من الشّهر يُعرف باليوم الدّولي لمنع استخدام البيئة في الحروب والصّراعات العسكريّة، ويوافق اليوم العالمي للعلوم من أجل السّلام والتّنمية، واليوم الواحد والعشرون  من تشرين الثّاني، يُطلق عليه اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، واليوم الخامس والعشرون يُصادف اليوم الدّولي للتّضامن مع الشّعب الفلسطيني، واليوم التّاسع والعشرون، هو يوم إحياء ذكرى جميع ضحايا الحرب الكيميائيّة” منصور، 2021.

  لا شكّ بأنّ الكاتبة اختارت هذا العنوان، لرغبتها في التركيز على المناسبات الهامّة التي تصادف في تشرين، وتتوق أن تتحقق؛ لذا تشرين يحمل في طيّاته الأمل والتحرّر من الذكرى الأليمة، والتفاؤل نحو حياة أفضل، وبأشواق لتشرين في ذكراه يحل السلام والأمان والاطمئنان.

   خلاصة القول: تعتبر قصائد الكاتبة روز اليوسف، نصوصًا نثريّة، تحمل في طيّاتها مضامين مختلفة، مفعمة بالمشاعر الإنسانيّة الصّادقة، والّتي تحاكي المشاعر والعقول، وتدخل القلب بانسياب دون تكلّف يُذكر؛ بلغتها السلسة الشّاعريّة، ومن الممكن تناول بعض النثريّات، وتلحينها ومن ثمّ غنائها.

ومن المغرب كتب حسن المصلوحي:

روز الياسمين، بنت الشوق والحنين الموشوم على الجبين

“أشواق تشرين”، ديوان من الأشعار الممزوجة بأسلوب نثري فريد، وكأنها جدائل شعر ذهبيّة ضفّرتها يد من حرير، وأطلقتها لنسمات الريح العابرة من بعيد. لست أدري أي مدخل سأتخذه في قراءتي لهذا الديوان، لكني سأتّبع ما انطبع في نفسي وأنا أرى أزهار الحبّ تنبت في فؤادي بين قصيدة وأخرى. وإذا كان جبران خليل جبران قد اعتبر الشعراء أبناء الكآبة، فأنا رأٌيت فًي روز اليوسف في ديوانها هذا بنت الشوق الممشوق على طول الطريق، من ههنا إلى هنالك حيث المنفى وحيث الحنين. تيمة الحنين أضفت على الديوان سحرا كبيرا، حنين تارة للحبيب وتارة أخرى للوطن، وربما كانا حنينا واحدا يكون فيه الوطن هو الحبيب أو الحبيب هو الوطن، ليغدو الوطن حبا والحب وطنا بلا أشواك ولا أسلاك ولا أعداء، يحاربون شواهد الزمن بأفواه تفوح منها رائحة العفن! لله درّك يا روز كيف جعلت الحبّ صهوة جواد عطّاف وخنجرا في خاصرة البغاة!

وكم كانت شاعرتنا موفقة في الانطلاق من قصيدة “أتوق إليك”، ليفصح الحنين عن نفسه كحالة وجدانيّة تستدرّ المكنون ليفصح عن مخزون الذات الشاعريّة المرهفة من حبّ طافح،  كما تطفح أغداق الساهرين وقلوبهم بحكايات مضت وروايات طواها النسيان. إنه ديوان يشاكس الذاكرة ويرفض أن تلقى الأحداث والأشخاص بل وحتى الأشياء في فجوات النسيان، التقاط راق لكل ما يحفظ للذات حياتها وهًي تعيش حياة البعاد، فإن أرهقتنا المسافات، ماذا يتبقّى لنا غير الذكريات! والذكريات في الديوان ليست سوداء مدلهمة، لقد كانت شهيّة بهيّة فيها السنديان والزعتر والأقاحي و العنبر… ولكم عجبت من كمّ الجمال الذي يحويه هذا الديوان الجميل… نبدأ بالشوق لنتساءل عن أٌيائل تأتي في المساء، تحمل هدايا الحبيب كغيمة شاردة تهدي المطر لأرض كواها الهجر والعجز والسهر. وتحكي لنا قصة الحبيب الذي عرفته فأزهرت إذاك الحياة في قلبها، وكأنها تقيم كرنفالا تهدي فيه الأرض أبناءها للحب، فتتفتح الورود وتنشر عطرها، تبتسم السماء ويروق المزاج…

ليصبح الحب خليل المدامة، وكأنه سكر وارتقاء من المجسد الناقص إلى المجرد الكامل، فنرى أفروديت ورفٌيقتيها فينوس وعشتار يعلنّ أن الحب هو الكمال الذي لا ينقصك معه شيء. لتلوح لنا القصيدة التي تحمل عنوان الديوان “أشواق تشرين”، فنتساءل: لماذا لا يتأجّج الشوق إلا في تشرين، تشرين تشرين الخريف الذي يعصف بوريقات الأشجار مثلما يعصف بالأحاسيس والعواطف الكامنة، لتهيج وتصرخ في وجه الكون بأني “أشتاق إليه، أي والله أشتاق إليه،”حتى الفضاء يشتاق إليه، وتأبى الريح والغيم إلا أن يحملا أشواق ليلى المقفرة التي شاخت حنينا وصمتا إليه، لعل المطر يقطر حبا، في تشرين  تنتفض ليلى لتُسمع الكون بأن ثمة حبيب بعيد، وقلب أرهقه الشوق، وعين بعد الدمع العقيم تصر على أن تكتحل بألق الحب في مقلتي المحبوب، مثلما تثور الأرض على اليباس؛ لتطالب الله بجود يكسوها بحلة الربيع التي تليق بها. الحكايات في الديوان” خضراء” يصبح فيها الحبيب قمرا، ويصبح الوصول إليه ضرورة حتى وإن اضطرت ليلى؛ لتتسلق ضفائر شعرها إليه هناك حيث يطٌيب المقام… لذلك أعلنتها الشاعرة داخل الديوان مدوية “لن أرحل”، لن ترحل لأنها ترتبط بالأرض وبالحبيب، ومن غير امرأة تراقص الأرض وهي تتأمل صورة حبيبها تعلمنا بالإصرار على الحضور معنى الوفاء ومعنى الصمود.

ولأنها لا تمتلك حيلة تحاكم السفر والتيه والضياع وتقر بأن السفر ميلاد جديد، حياة لم تنسيها حواراتها مع قرة العين وهي تخبره بأنها تحبه أكثر. ومثلما تتذكر الحب تتذمر من أحباب هجروها، ورغم الهجر تعتد بنفسها فتلبس تاج ليلى؛ لتغدو قصيدة ترنو بعينيها للفجر القادم من بعيد، وتحلو الحكايات ليلا، في الليل حيث لقاء الأحبة وعناق الأشواق على أسرّة الذكريات… لتتذكر الحبيب وتتغزل فيه غزلا عذريا، وتحتفي بحبهما وكأن لحظات الذكريات تلك “عناقيد من حنين” وطوق من ياسمين. في الديوان تحضر تيمة الانتظار كتيمة محايثة للشوق، وكأن المشتاق منذور للانتظار ! فتعاتب الزمن المستعجل بأن يمهلها قليلا، تحاسب الأرض الزمن الأرعن،  فتنشد الشاعرة على نغم تميم البرغوثي

في خالدته “في القدس :””أتراها ضاقت علينا وحدنا، يا كاتب التاريخ ماذا جد فاستثنيتها”، وفي قصيدتها “أنا و أنت” نرى الشاعرة وكأنها طفلة صغيرة تلاعب فارس أحلامها وتسافر بنا إلى عالم من البراءة والصفاء. تبكي الشاعرة بونا شاسعا بين اليوم والأمس، تبكي الجفاء الذي استقر بالقلوب، وترُش الوصال بلسما من حب الوطن الذي يبدأ أولا بعشقها السرمدي الأبدي لهذا الوطن، المغروس في أعماق قلبها، كما استقرت رجة الحب العذريّ في فؤادها لمحبوبها البعيد بعد الوطن، فتحتفي بحجارة الوادي وأهله وقصصهم الملهمة وتخاف أن يحدث لها ما حدث لبراقش، ولأن القصيدة تنفيس عما تهتم وتغتم به النفس من أسى وتعب وتيه تلتقط الشاعرة صورة ورقة تلعب بها رياح الخريف من الفضاء، وتسقط ذاتها عليها، في المنفى نعم يا شاعرتنا نتحول إلى أوراق يابسة لا قرار لها، فنهمس بالحزن بيننا وبين أنفسنا ولا من مجيب ولا حتى الحبيب. ولأن من الحب ما يصبح تملكا تقرر أن ترسم خليل الروح بريشتها، وتشكله من بنات خيالها فارسا أو شاعرا أو قمرا، أكان واقعا أم خيالا…لا أعلم؟ هل من حبيب في القصيد؟ لا أعلم؟ لكن بين هذا وذاك يوجد قلب ينبض عشقا، تعلمنا الشاعرة من خلاله كيف يكون الحب في زمن البذاءة. الديوان كان تهذيبا لنفوس اخشوشنت وقلوب تحجرت ومشاعر تبلدت فينا، حتى صرنا محض آلات لا تحس ولا تحب ولا

تشتاق… ثورة على زمن تنكّر لكل ما هو انسانيّ وأفسح المجال للأنانيّة والنرجسيّة. وقد أفلحت في ذلك لا محالة، فهي التي اعتمدت لغة راقية ورنانة لها وقع هادئ على نفسيّة القارئ. تنوع جميل داخل الديوان من حيث تشكيل القصائد رغم أن بعضها افتقد للتركيز والتكثيف، لكن النثر عوض ذلك بعبارات مجازيّة لا تذهب بالمجازيّة بعيدا إلى حد اللاترابط، كما يحدث مع كثير من الشعراء الذين توقعهم الرمزيّة والمجاز أحيانا في اللامعنى.

القصائد في الديوان تراتيل وجد ووله بكلمات ساحرة للوطن والحب الأصيل والسلام، فالوطن هو سيّد الوقائع والمجاز، إليه تزف عبارات حبها، وعليه تتحسر من أٌ يام ضاعت في المهجر، وليس لها إلا أن ترفع يديها بالدعاء. وفي الديوان أٌيضا احتفاء بالقيم الإنسانيّة النبيلة كالصداقة والحب والسلام ولحظات العشق البسيطة الخجولة والحياء الأنثويّ البديع. وفي قصيدة “عودي” أتساءل: لماذا الشوق يا بنت الشوق وقد قررت الرحيل؟ أكان رحيلك اختيارا أم قدرا محتوما؟ ما أتعسنا حين نختار العذاب! ما أحرّ ما كانت دمعتك وأنت ترمقين يمامة ترابط في عشها محتضنة صغارها رغم البرد ورغم العدوّ وأنت تجمعين الحقائب! أكنت يا روز ليلى تهجر الحب تاركة خلفها الأطلال. من يشتاق يا ليلى، أنت؟ أم ذاك الحبيب؟

خاطبت الشاعرة المرأة قائلة كوني كما أنت، كوني  “كعبة” ولا تكوني لعبة، فليحجوا إليك راجين من كل فج عميق. ومن الحب ما يصبح استبدادا لذلك تحدثت الشاعرة عن عاشق يحترف اللعب بالعواطف… وتخبرنا أن القصيدة قد تصبح وجعا يقتلنا فيه البوح عن مأساة الوطن، لقد كانت هاته القصيدة “وجع الوطن” ضاربة في الرمزيّة البديعة. وتحلم في المنفى أنها تبحر نحو زيٌتون الوطن وكأنه المنى والمبتغى حيث الأرض مكان الحب

والسلام والعنادل… ولأن الشعر رسالة تكتب الشاعرة في القصيدة ما قبل الأخيرة “لم تغب الشمس” أن الأرض ههنا قائمة تحتفي بأصحابها كشمس لا تغيب في رسالة راقية تبعث الأمل في النفوس. أما نهاية الديوان فلم تكن إلا مع “يبوس” وهي القدس زهرة المدائن، قصيدة شاعريّة بامتياز، فيها جرس موسيقيّ تناغم مع موسيقى المكان ونفحاته التي تمتد من التاريخ إلى التاريخ، عبر الأزمنة، رأٌيتها تكسر سيف ديموقليدس وتقبض على اللحظة لتطبع قبلات من تهيام على جبين القدس والمقدسيّين، وكل من أدى طقوس الولاء لسيّدة المدن… ولم أستغرب حين قرأت “يبوس” ووجدتها تتقاطع مع اللفظ المغربيّ الدارج “بوسة” أي قبلة، و”يبوس” يقبّل؛ هاته القصيدة قبلة جميلة في جبين فلسطين الوطن الحبيب والقدس والتاريخ الشريف، وكل من لا زال يحتفظ بإنسانيّته في زمن السقوط والذئاب الجائعة والضباع الوضيعة التي تقتات على الجيف… هاته القصيدة نوح حمام يبكي في  كبد الليل، يبكي حبًّا دنّسه البغاة وقلبا أوجعته المأساة وحضنا صار باردا، وعيونا أرهقتها الدموع فأهدت أهدابها لوحشة الليل ووحدة القمر وبعاد النجوم …

ماذا أقول وماذا عساه يفيد القول حين تنأى العين عن العين وتغدو الدِّلاء بلا معين وتتكسر المجاذيف وتعوم علينا مياه الغدر ولا ميّاح في اليد، ولا يدا تصافح اليد لتذكرها بأن القلب قلبان والروح روحان وأن القسيم الذي أبعده سيف زيوس أعاده الحنين إلى حضن الحبيب…. لكن تبقى عيون “يبوس” كعبة تجمع حجّاجها، تحتضن كل من يؤمن بالإنسان، وبأن الحياة ليست ترفا و بأن الأرض و رائحة المكان ذاكرة راسخة تأبى النسيان والخرف.

وكتبت هناء عبيد:

أهدت الشاعرة مجموعتها الشعرية أشواق تشرين إلى روح والدها، وكان إهداءً شفيفا، يحمل في طياته حبّا عميقا وشوقا كبيرا إلى والدها، تمنت فيه أن تصل كلماتها إليه في أعالي السماء. تبدأ المجموعة بقصيدة ًأتوق إليك، قصيدة تفعم بالرومانسية الرقيقة والكلمات الشفافة التي تدخل القلب دون استئذان، فهي كلمات بسيطة على السمع لكنها عميقة في المعنى والشاعرية والأحاسيس، لا يحفها الغموض الذي يصرف المتلقي عن شاعرية المعنى وأحاسيسه الرهيفة.ثم تأتي قصيدتها الثانية كيف جاءتني الأيائل، لتوظف فيها الطبيعة وما فيها من مخلوقات جميلة ونباتات مبهجة لها وقعها على القلب، فلا أجمل من الأيائل لتكون منشودة بقصيدة أو فراشة تزهو بألوانها، ولا أبهج من النباتات كنبات زهر القندول، وثمرة الجميز والسنبلة وزهرة الياسمين. وللفرح مساحته الشاسعة في قصيدتها “عندما عرفتك”، لتصف تلك البهجة التي تدخل قلوب العاشقين، لتجعل لهم البحر والسماء والهضاب، فهي تتغنى لنا بينوع كروم العنب والتفاح ورقة الجداول في الصباح. أمّا قصيدتها “أشواق تشرين” والتي اختارت عنوانها ليكون عنوان المجموعة، ففيه يتجلى الشوق الرقيق الذي يزهر قلب الشاعرة كما تزهر فضاء حديقتها، ويجاري الريح والغيم، كي يعود بعطر فؤاد الحبيب الأخضر، كلمات رومانسية عاشقة تبدد الليل المقفر، وتجدل من خلالها حبال الوجد بأشواق النعناع والحبق، وتنمقها بألوان العناب والزهر، كم هي شفيفة هذه الروح العاشقة التي تنتظر حضور الحبيب على أجنحة الألوان وعطر تشرين المزهر، وليس للطوفان أن يغرق الشاعرة ففي حكاياها الخضراء نجاة تنبثق عن التحدي والنضال، ولعل قصيدتها “لم أرحل”، هي قصيدة كل فلسطيني انغرزت جذوره في الأرض، فلو رحل الجسد وامتدت المسافات لن تغيب رائحة التراب بعد المطر الأول، فالأنف سيظل عابقا بشذى خيرات الأرض، والذاكرة مشبعة بقصص البطولة المروية في الديوان والمحضر، والنسائم ستظل رفيقة كل مبعد ليشتمّ من خلالها رائحة اللوز والبرتقال والياسمين والجلنار. وللحب ركن خاص في قصيدتها “أحبك لعمري أكثر”، لتنقلنا برومانسية دافئة إلى مشاعر العاشق الذي يتلو أمامها عذب الكلام ليجاري فيه قيسًا وعنترة. أما الكوفية رمز الكفاح الفلسطيني فقد كان لها نصيب حين تغنت بها من خلال قصيدتها “أربع وردات” فكانت الكوفية إحدى ورداتها الأربع. وللتاريخ المجيد العريق قصائده، لتينع الشام بعطرها ولتروي ابنة النيل حكاية في أرض الحجاز، إنها الروح العاشقة التي تضم الحضارات بكلمات عاشقة. وبين حين وآخر تتذكر معاناة أهل الأرض المسلوبة لتطلب من الوقت أن يعطينا مهلة لتنفس الصعداء، لنبحث عن الإنسان فينا. ولم تنس في قصائدها حكايا الجدة تلك التي تسترجع الدفء كلما طرق الروح الحنين. وفي قصيدتها “لا مكان” تسترجع الأمل في الأماكن التي تتسع لأزهار الياسمين والبنفسج والزنابق والرياحين، فلا مكان هنا للقذائف والنيران ولا للصواريخ والحجارة والغربان. وتتابع ذلك الأمل في قصيدتها “لم تغب الشمس”، لتقول لنا ان جحافل الشمس لم تزحف نحو المغيب، فضياؤها يحزم أملا لكل حبيبة وحبيبة، وضياؤها سيشرق ويحضن الأرض ويهمس لها اصحي، ثوري! انتفضي! لملمي بذورك وانتصبي من جديد.

وللقدس مكانتها الرفيعة في فكر الشاعرة كما كل فلسطيني عاشق مخلص وفيّ، إذ تذكرها في قصيدتها الأخيرة في المجموعة والمعنونة “يبوس” التي هي القدس كما عرفتها في هامش الصفحة، ففي راحتيها تحملها الرياح أيقونة للميلاد، سبحة للصلاة وقمرا يضيء أنجم السهر. تظهر لنا من خلال هذه المجموعة الشعرية رقة الشاعرة وروحها الهادئة المتسامحة وانتمائها ووفائها للعروبة ولفلسطين، القصائد جاءت بلغة شاعرية رقيقة فصيحة متينة وموسيقا عذبة هادئة مريحة للنفس، وتبين مدى عمق ورهافة إحساس الدكتورة روز وشاعريتها، كما توضح مدى ثقافتها.

وقال الدّكتور عزالدين أبو ميزر:

الكتاب من نثر القصيد أو ما يحلو للبعض بتسميته تجاوزا قصائد النثر أو الشعر الحر، وهو في واقعه نثر وما هو بشعر، ولكن أخذ في كتابته شكل شعر التفعيلة. أتانا هذا الشكل من بعض الأدباء العرب الذين قاموا بترجمة أشعار شعراء أجانب من لغاتهم الأصلية إلى اللغة العربية، وحسب تمكن الكاتب وقدرته اللغوية وسعة اطلاعه في اللغتين، كان الشطر الأول يأتي بست كلمات والشطر الثاني بثلاث أو أربع كلمات، وهكذا إلى آخر القصيدة بزيادة أو نقصان يصل إلى كلمة واحدة أحيانا او كلمتين. بغير وزن ولا قافية مع أن الأصل على غير ذلك. وقد استهوى هذا الشكل بعض الكتاب فكتبوا على شاكلته وسمّوه شعرا. وخاصة عندما بدأت الحداثة عندنا، ورغبة البعض في التجديد، فخرج علينا ما يسمى بشعر التفعيلة، وهو شعر موزون، ولكنه تخلص من وحدة البيت من صدر وعجز، وتساوي التفعيلات في كليهما مع القافية الموحَّدة والموحِّدة للقصيدة الشعرية، إلى وحدة الصورة البيانية والفكرة مع الانفلات من القافية، وتسكين بعض أواخر الكلمات للحفاظ على الوزن، حتى بلغ بالشاعر محمود درويش أنه كان ينتقل من بحر لآخر في القصيدة الواحدة أحيانا بانسيابية رائعة لا تتاح للكل، ولا ينتبه لها إلا من حذق العروض الشعري وتفعيلاته. واستسهل البعض الأمر فتفلت من الوزن والقافية وإن أضافها فهو يقحمها إقحاما على شكل سجع لا طعم له ولا رائحة. وانتقل هذا الخلط في التسميات إلى كثير من الكتاب والأدباء ودور النشر، فسمّوا الأشياء بغير أسمائها. وللتأصيل فيجب علينا تسمية الأشياء بأسمائها وتعريف من هو الكاتب؟ ومن هو الأديب؟ ومن هو الشاعر؛ كي يسهل التفريق ولا يظل هذا التوهان وهذا الخلط

 . الكاتب: هو من يتقن اللغة كتابة وإملاء وإعرابا ويكتب بلغة سليمة، لذلك قد لا يكون له أيّ من الأعمال الإبداعية أو المميزة.

الأديب: هو الذي يكتب في الأدب وغيره بلغة أدبية راقية، ويحمل رسالة سامية، ويكون له هدف في كتابته للقصة أو الرواية أو الخاطرة، ويكون عمله عبارة عن دفقات من المشاعر النابضة يسمو معها البيان، ويتألق بحسن المباني والمعاني، وذلك باستعمال البلاغة من تشبيهات واستعارات وكنايات ومحسنات لغوية وبديعية من غير غلو ولا إسراف متكلف، ويحلق في سماء الخيال الجميل، ويوجد العقدة ويشوقنا لمعرفة الحلّ الذي لا يكون متوقعا في أغلب الأحيان. فيوجد الدهشة لدى القارىء والرغبة في عدم قطع القراءة والتوقف.

الشاعر: هو كل ما سبق، ولكنه يكتب الشعر وينظمه ويرسله عموديا كان أو ذا تفعيلة موزونا ومقفى في الأوّل، وموزونا في الثاني متخليا عن القافية إلا فيما يجب ويدل على معنى، ويحمل صفات العمل الأدبي السابق، ويزيد عليه أنه يجعله بقوالب محددة بأوزان وموسيقى وضغط شديد لا يتأتى إلا بوجود موهبة أصيلة، فلا يمكن لأيّ كاتب أو أديب أن يكون شاعرا إذا فقدت منه هذه الموهبة. والعكس صحيح إذ يمكن للشاعر أن يصبح أديبا بصقل الموهبة وخلق الإبداع. فالبيت الذي نسب لعلي بن أبي طالب :

وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

 إذا أردنا تحويله لنثر أدبي فإننا نضحي بالمعمار الموسيقي المتكون من تفعيلات البحر المتقارب الثماني فعولن فعولن فعولن فعولن، عدا عن أننا سنحتاج إلى صفحات في شرحه، وقد ننجح أو نفشل.

 وعودة إلى كاتبتنا الرائعة في كتابها فنجدها أديبة متمكنة لغة، وتكتب صورا بيانية جميلة تنمّ عن جمال نفسيتها وسعة أفقها وخيالها، وتختلف مقطوعاتها الواحدة عن الأخرى قوة وجمالا وجذبا للقارىء، ولا غرابة في ذلك، وقد وجدت في مقطوعة : ( أشواق تشرين )،والتي أصبح عنوانها عنوانا للكتاب بأجمله، ان فيها سطورا موزونة ومقفاة مثل : فضاء حديقتي مزهر يتوق إليك في شوق يجاري الريح، إذ تدبر بعطر فؤادك الأخضر يبدد ليلي المقفر… مفاعيلن مفاعيلن ثم يفلت الوزن منها ونفقد الرتم الموسيقي منها، ويعود الكلام نثرا عاديا. ثم تعود إليه : أمد إليك يا عمري حبال الوجد والولهِ أجدّلها بأشواق من النعناع والحبقِ، أنمّقها بألوان من العناب والزهر ……. ثم أخرى تحت عنوان : ( عزم وآمال )… بدأنا سيرنا عزما نروم البدر راجينا تركنا خلفنا سحبا تنوء برزء ماضينا تَقيّلنا السنا ظلا من الأغراب يحمينا، تضيء المجد في أمل وتكمل كسابقتها فيضيع الوزن والقافية. مما لا شك به أن لكاتبتنا الأديبة نفسا شعريا، ولكنه نثر وما هو بشعر، وكم تمنيت لبعض مقطوعاتها لو أنها شعر موزون فيزيد جمالها جمالا وألقا. فهي تكتب بلغة شاعرية ولكن بأسلوب نثري، وعباراتها شبيهة بعبارات الأديبة مستغانمي، وفاطمة نزال مع اختلاف المواضيع والأغراض الأدبية والمعاني.  والحديث يطول.

وكتبت فاطمة كيوان:

“أشواق تشرين” عنوان للمجموعه الشعرية الجديدة للدكتورة روز اليوسف  وهو يعتبر بوابة لها فيلامسك الحنين والأشواق معا عندما تقرأه من الوهلة الأولى، لتلتقي بالقصيدة المعنونة بذالك في ص 20 من المجموعه بما تحمله من أشواق وفضفضة وبوح، لهذا الغائب الراحل الذي يتوق قلب الشاعرة للقائه من جديد؛ ليبدد ليلها المقفر دونه. ففضاء حديقتها مزهر . أي في حالة من التجدد والهيام.

يستوقفك العنوان والقصيدة معا كقارئ، فالأشواق منبع الحب والحنين و”تشرين” عنوان للغياب والرحيل والألم والفقدان.

ففي المثل الشعبي :” في آخر تشرين ودع العنب والتين”،” برد تشرين بقطع المصارين “،كذالك ارتبط اسم تشرين بالحرب، ففي تشرين حدثت حرب أكتوبر عام 1973. وأيضا لتشرين ارتباط بالغناء، فغنى معين شريف ، ” شو بيشبهك تشرين” “من دون انذار عغفلي بيشتي، وبضيع حب سنين “.

أي هو عنوان للألم والفقدان تارة، وتارة  للبوح والفضفضة والاحساس المرهف بالتجدد والحياه .وهكذا كانت قصائد المجموعه، اختلفت في جمالياتها بالتعابير والتشابيه والمواضيع، وجاءت لتنسج لنا لوحات إبداعية خلاقه في الحس الإنساني الوجداني المرهف بصور فنية بسيطه لست في حاجة إلى شرحها .

اللون الأصفر لون الكتاب المزركش بالأبيض والأخضر، وهما من ألمع الألوان وأكثرها نشاطا ومرتبطة بالسعادة والدفء، لون الأرض المزروعة بالقمح، لون الرمال الشاسعة، لون النضج، لون الشمس لون الحيوية وبريق الذهب والفخامة.

في الإهداء ترفرف وتحلق حول الشاعرة روح الأب؛ لتملأها  بالشوق والأمل، تحرسها صباح مساء.

وهؤلاء فعلا هم الآباء فرغم فقدانهم نشعر أن أرواحهم بيننا، لا بل  تسكننا وتملأ أنفسنا بالضياء.

وتنتقل انت كقارئ من قصيدة لأخرى فتدهشك اللوحات التي تنثرها الشاعرة شذرات ذهبية على منصة التألق والابداع، فتأخذك معها وتلمس قلبك وداخلك بأبسط الأشياء وتشعر بالدفء والحب والأشواق.

اختصرت د. روز كل الفلسفات في ديوانها بكلمة من حرفين  ” الحب” .  حب العائلة – الأهل- الوطن- الجمال بجميع صوره للناس والطبيعة .

ففي قصيدة  ” أتوق اليك” ص 9

ها أنا خلف النافذه

أنتظر ايابك

أمد يدي لوردة بيضاء …..الخ

وكذالك قصيدة  ” مذ عرفتك” ص 16

عندما عرفتك ولد القمر

غردت النجوم

هللت أفروديت….الخ.

نلمس أناقة قلب الشاعرة وهي تمنحنا صور الحب ببساطة وانسيابية تجعل أنهار من الفرح تنساب جداول رقراقة في قلبك  .

أمّا عن الأرض والعطاء والطبيعة والبيئة، فتظهر جلية في قصيدة سيد الأهواء ص 95. لم تغب الشمس، فخلف الشمس شموس أخر، وخلف الغيوم غيوم تزخر بالمطر ، …..الخ.

هنا وترسم لنا الشاعرة حالة من التجدد الدائم وصورة من صور الصراع الخفي بين ما يوجد وما سيكون .

كما نلمس قدرة الشاعرة على احتضان الألفاظ والتراكيب وصياغتها في بناء فني شاعري جميل، يجسد خلايا النفس ويثير المشاعر الإنسانية الروحية للطبيعة في قصيدة  ” نداء” ص 122.

حيث تتنقل الكاتبة بندائها للريح ثم للديمة والطفل والليل، بصور شعرية مفعمة بالعطاء والحب للحياة، والتجدد لروح الطفل، التي تأبى المغادرة، وللصبح والفجر  المشرق والطبيعة الساحرة، وحب الخير والتغيير ولو بالكلمة الطيبة لتكون بوصلة نجاه وتضاء القناديل، وتنثر الحب أصائص فل وحبق.

” أيتها الديمة

أسكبي خيرك في الجداول!

اجعلي السواقي تراقص الهلال

تغازل البلابل

تعانق الكروم والسنابل!.

كل هذه الصور الشعرية الفنية تستحضرها الشاعرة ولا يغيب عن ذهنها  ” الوطن” ص 89. فترسل له قصيدة رشيقه في تعابيرها وسلسة في الوصول لقلب وذهن القارئ، فيها  تحية محبة  وسلام تفوح بالشذا والعنبر، وممزوجة بلوعة الأشواق للعودة من المنفى والشتات والمهجر، للكرمل الزاهي وللبيدر، ولتشتم في ثناياه رائحة الزيت والزعتر .

والحنين للعودة . حنين الغائب الى أرض الوطن .

سلام لك من المنفى

أبعث شوقي الأكبر

لذاك الكرمل الزاهي

لحقل القمح والبيدر.

سلام دعائك أمي بأن أعود من المهجر

وتشتعل بالصدر جذوة  الخوف والأمل، على المستقبل مما يعتري الوطن من آفات ومشكلات كالعنف والقتل والتدمير، فيتحرك الضمير للنداء والمطالبة

  بالحياة الكريمة البعيدة عن القتل وأزيز الرصاص والاضطهاد والحقد والضغينة . وللدعوة أن لا مكان هنا لكل ذلك، ولنحيا معا بوطننا  بسلام وأمان واطمئنان، فتنشد الشاعرة

“لا مكان ” ص 141

لا مكان للقذائف والنيران

لا مكان للصواريخ والحجارة والغربان

لا مكان للرصاص والقتال

لا مكان للقتل والتدمير والإذلال….الخ

ازرعوا  الأمل حقل سنابل.

واروه ماء صافيا عذبا من الجداول.

فلا مكان هنا سوى

لتغريد الطيور والعنادل.

وللقدس مكانتها المقدسة في قلب الشاعرة  فلا تنسى أن تتناولها بقصيدة باسمها “يبوس” في نهاية الديوان؛ لتحتضن معها الصخرة والميلاد، وهي تتمنى أن يتحقق الأمل ويكون هناك ميلاد جديد لكل البشر ولهذا المكان بالتحديد.

وكتبت دولت الجنيدي أبو ميزر:

نبع من المشاعر الجياشة المفعمة بالحب الصادق والمشاعر النبيلة والكلمة الجميلة السهلة، التي تدخل القلوب دون استئذان، وتحمل القارئ حيث تكون، تنتقل به برا وبحرا وجوا، جبلا وسهلا وواديا، وتتخطى الحدود من مدينة لأخرى، قيثارتها تصدح بألحان جميلة عذبة تغني للحبيب، وتتغنى بحب الوطن بما فيه، بره وجوه وبحره، أرضه وسمائه، سهوله وجباله وأوديته، ترابه وشجره، وثماره، وعبق أزاهيره، تمتزج رائحة الورد والزنابق وكل انواع الزهور والبيلسان، وتهمس سنابل القمح للزهور البرية، وتجود حبات الزيتون بزيتها، تحكي حكاية الوطن الجريح فلسطين الحبيبة، ومعاناة أهله، حكاية الصمود والتشبث بالأرض وحق العودة، تعبر عن الألم المكبوت من تشتّت الأهل. تنقلها بين المدن المختلفة يعبر عن مشاعرها القومية وتتمنى الوحدة، حيث تنتقل بين القدس والجليل ودمشق وبغداد وصنعاء وعكا.  تمزج الحب بالأمل حتى الأل،م تعبر عنه بكلمات نابعة من الوجدان، فتحت عنوانا بين اليوم والأمس ترسم صورة حزينة، ولكنها تعود وتشحذ الهمم وتزرع الأمل بتحقيق الحلم، حلمنا جميعا بتحرير الوطن، ولمّ الشمل بالعودة من الشتات والمهجر وصفاء النفوس.

وكتبت آمال أبو فارس:

يستقبلنا الدّيوان بثلاثة ألوان رئيسيّة: اللون الأصفر، اللون الأبيض، واللون الأخضر. الأصفر يرمز الى الدّفء والفرح، ويوحي أيضا بالإحباط والغضب.

أمّا الأبيض؛ فيرمز إلى البراءة والبساطة والطّهارة لأنّه مصدر جميع الألوان.

أمّا الأخضر؛ فيزيل التّوتّر لأنه متّصل بالطّبيعة، يدلّ على الرّاحة والابتهاج.

تستقبلنا العتبة الأولى بالعنوان ” أشواق تشرين” فكلمة أشواق تعني الشّوق والتّوق والتّلهّف لما قد ذهب ولم يعد. فقد نشتاق لمن نحبّ عندما يكون بعيدا عن العين، وقد يكون الحبيب شخصا غاليا أو وطنا.

 نحن نشتاق إلى المشاعر الّتي كنّا قد شعرنا بها ونحن في حالة وجدانية برفقة الحبيب. والمشاعر هي نبض كلّ إنسان، فمن لا يشعر لا يعرف معنى الحبّ، ولا معنىً للكراهية، ولا يعرف معنىً للفقدان!

أمّا تشرين فهو الخريف، خريف العمر. هو حالة من الكآبة والاكفهرار، هو الهجرة، هو اللّون الرّماديّ، هو البرد، هو الإنطواء على الذّات هو كلّ شيء يبشّر بالكآبة والحزن!

فتتجلّى لنا صورة “بردوكسيّة”، الورود البيضاء من جهة، واللّون الأصفر الكئيب من جهة أخرى،الشوق الذي هو أساس المشاعر الجيّاشة للحب، وتشرين الّذي هو فصل الحزن والكآبة.

لتأتي العتبة الثّانية وهي الإهداء لتؤكد الصّورة “البردوكسيّة”، فهذا الشّوق والحنين ليس لأيّ شخص؛ وانّما هو لروح والدها الّذي ترك شاعرتنا الغالية روز! فالموت بُعد، والشّوق يهيج في قلب الشّاعرة. شوقا للمشاعر الأبويّة، لحنان الأب، للمسة الأب، لقبلة الأب، وقوّة وروعة حضوره الّذي غاب معه.

أمّا اللّون الأخضر؛ فما هو إلّا الّرضا والتّسليم بقضاء الله وحكمه. فشاعرتنا متفائلة تحبّ الحياة وتنظر إليها بأمل وتقبّل ومحبة!

والعتبة الثّالثة وهي العناوين، جاءت معظمها شفّافة غير مربكة: “عندما عرفتك، أناشيد الهوى، اشواق تشرين، أربع وردات …”

لن أذكرها كلها لضيق الوقت.

والعناوين الشّفّافة تعكس شخصيّة الشّاعرة وأسلوبها في الكتابة، فتقدّم للقارئ كلّ ما هو سهل ممتنع، لا تعتمد الغريب في اللّفظ، وهذا أمر هام جدا، فلا يمكن للقارئ المتلقي أن يتجوّل ويحمل تحت إبطه معجما؛ ليفكّ رموز ما عجم عنه من مفردات.

وكتبت رائدة أبو الصوي:

اختيار الدكتورة روز لهذا العنوان القوي دليل على ذكائها، وصورة الغلاف مميزة جدا، وجود الأوراق على الجانب الأيسر من الكتاب جهة القلب وزهرات الأقحوان . زهرات السعادة وجدت في القصائد، تفاوت كأمواج البحر كل موجة أعلى من سابقتها، وهكذا حتى نهاية الديوان، فاجأتنا الشاعرة في قصيدة عودي في نهاية القصيدة بكلمة ( اهذي) يا الله ما أجمل قصيدة سرير الموجات، الخيال فيها ساحر عندما تعوم على وجهك يا بحر الذكريات اعتلي عبابك، أسابق الغمام، أخطف قبلة من وجنة الشفق، أغيب في سطوة الأحلام، امتطي صهوة حصانك، وأعوم في ألق، تراقصني عرائس البحر. ختامها مسك قصيدة “يبوس”. لم تنس الكاتبة أن تذكر بغداد ودمشق في قصائدها مع بداية شهر الربيع تفتحت زهرات الدكتورة

روز شعبان الزنبقة والياسمينة والأقحوانة والنرجسة، وانتشرت رائحة زهراتها في ندوة اليوم السابع .

التعليقات

جميل السلحوت

جميل حسين ابراهيم السلحوت
مولود في جبل المكبر – القدس بتاريخ 5 حزيران1949 ويقيم فيه.
حاصل على ليسانس أدب عربي من جامعة بيروت العربية.
عمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس من 1-9-1977 وحتى 28-2-1990

أحدث المقالات

التصنيفات